المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: -
فإن الدراسات المتعلقة بالإعجاز وإن تعددت ترجع إلى أساسين متكاملين، يتعلق أحدهما بالتأصيل لحقيقة الإعجاز، وبيان مفهومه، وأوجهه، ومجالاته، وبيان جهود العلماء المحققين في تقريره. بينما يتعلق الأساس الثاني بنقد الآراء المخالفة حول الإعجاز والمعجزة، سواء كانت تلك الآراء قديمة أو حديثة، وبيان خطر تلك الآراء على حقيقة الإعجاز، وما يترتّب عليه من الخلل في الدلالة على النبوة.
ولا بدّ من التكامل بين هذين الأساسين بحيث لا يكتفى بأحدهما دون الآخر، لأن التأصيل المطلوب لا يتحقق مقتضاه إلا مع نقد ما يخالفه، والنقد الصحيح لا يتم إلا وفق منهج منضبط له أصول وقواعد علمية محررة.
وإذا نظرنا إلى التراث الفلسفي والكلامي في هذه المسألة وجدنا أثر الأصول التي قامت عليها تلك الاتجاهات واضحًا في تفاصيل هذه المسألة، مع خطورة ذلك لتعلقه بدلائل النبوة ووجه الدلالة في الإعجاز، وما إلى ذلك.
وإن من أكثر الاتجاهات الكلامية تأثيرًا في هذا الجانب الاتجاه الأشعري، نظرًا لتأثر كثير من علماء التفسير والحديث وعلوم الحديث و اللغة بالمذهب الأشعري، حتى أصبح تعريفهم للمعجزة، والكلام عن حقيقتها وشروطها، وما يترتّب على ذلك من الكلام في دلائل النبوة هو المشهور في كثير من المراجع العلمية، والتبس الأمر على كثير من الباحثين في هذا الباب.(1/1)
وقد كان لموقف الأشاعرة من مسألة السببية، وإنكارهم للسنن الكونية وخصائص الأشياء الأثر البالغ في نظرتهم إلى حقيقة الإعجاز، وما يلزم عن ذلك من اللوازم، كقولهم في معنى العادة، وأن ذلك لا يرجع إلى حقيقة مطردة، وما التزموه من أن السحر من جملة الخوارق، وأنه لا فرق بين المعجزة والسحر بالنظر إلى حقيقة كل منهما، وأنه لابدّ للتفريق بينهما من تحدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة، وأن الساحر إذا ادعى النّبوة أو عارض نبيًا فلا بدّ أن يسلب القدرة على السحر، ونحو ذلك من اللوازم التي ترجع في جملتها إلى حقيقة واحدة وهي إنكارهم للسببية، مع أنه الأصل الذي يتميز به المعجز من غير المعجز.
ومع أن العلماء المحققين كابن حزم وابن تيمية وغيرهما قد نبّهوا على هذه الأخطاء، وحذروا منها، إلا أنه لا يوجد فيما أعلم دراسة علمية تفصل القول في الأصل الكلامي لهذه الأخطاء، ووجه التلازم بين أصل القول ولوازمه، وبيان جهود العلماء المحققين في نقد هذه الأخطاء، والأصل الذي بنيت عليه.
وتحقيقًا لهذه الغاية فقد اشتمل هذا البحث على ثلاثة مباحث، كان أولها عن مكانة دلالة المعجزة على النبوة عند الأشاعرة، وبيان خطأ ما ذهب إليه أكثرهم من القول بحصر دلالة النبوة في المعجزة، وبيان ما ذهب إليه بعضهم من اعتبار دلالات أخرى، وأن ذلك وإن كان صوابًا إلا أنهم قصروا حيث عدوا تلك الدلالات مكملة ومتمّمة لدلالة الإعجاز، مما يلزم منه التوهين لتلك الدلالات.
وأما المبحث الثاني فكان في بيان الأصل الكلامي الذي استند إليه الأشاعرة في موقفهم من دلالة المعجزة على النبوة، وهو إنكارهم للسببية وخصائص الأشياء، وما ترتّب على ذلك من الأخطاء في مفهوم العادة والخارق، وما تتميز به المعجزة، ووجه تميز الإعجاز، وما إلى ذلك.(1/2)
وأما المبحث الثالث فكان في بيان منهج الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزة واللوازم التي التزموا بها نتيجة خطئهم في مسألة السببية، وبيان أن كل ما اشترطوه للمعجزة فإنما يرجع إلى ذلك.
وبذا يتكامل تصور منهجهم، والأساس الذي قام عليه، واللوازم التي التزموا بها بناء على ذلك، والموقف الشرعي من هذه الأخطاء، وما قرره العلماء المحققون في ذلك كله.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
المبحث الأول:
مكانة دلالة المعجزة على النبوة عند الأشاعرة
للأشاعرة في مكانة دلالة المعجزة على النبوة قولان. حيث ذهب أكثرهم إلى القول بحصر دلالة النبوة في المعجزة، بينما ذهب بعضهم إلى أن الدلالة على النبوة ليست محصورة في دلالة المعجزة، وذكروا طرقًا أخرى، لكنهم جعلوها مكملة لدلالة المعجزة.
وممن صرح من أئمة الأشاعرة بحصر الدلالة على النبوة في المعجزة القاضي أبو بكر الباقلاني حيث يقول: « يجب أن يعلم أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه، وإنما يثبت بالمعجزات » (1)، ويقول في نفس المعنى أيضًا: « وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة » (2).
__________
(1) ... الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. للباقلاني: ص(54).
(2) ... البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات. للباقلاني: ص(38).(1/3)
وفي ذلك أيضًا يقول إمام الحرمين الجويني: « فصل: لا دليل على صدق النبي غير المعجزة. فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا: ذلك غير ممكن، فإن ما يقدر دليلًا على الصدق لا يخلو إما أن يكون معتادًا، وإما أن يكون خارقًا للعادة، فإن كان معتادًا، يستوي فيه البرّ والفاجر، فيستحيل كونه دليلًا، وإن كان خارقًا للعادة، يستحيل كونه دليلًا دون أن يتعلّق به دعوى النبي، إذ كل خارق للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى، فإذا لم يكن بد من تعلقه بالدعوى، فهو المعجزة بعينها » (1).
وفي نفس المعنى يقول التفتازاني: « طريق إثبات النبوة على الإطلاق على المنكرين هو المعجزة لا غير » (2).
وممن قال بذلك الأصفهاني في عقيدته حيث قال: « والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات، والدليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن المعجز نظمه ومعناه » (3).
والذي ذكره أصحاب هذا القول من حصر الدلالة على النبوة في المعجزة لاشكّ أنه باطل، بل طرق الدلالة على النبوة كثيرة متنوعة، وهي من مقتضى رحمة الله بعباده. ولا يلزم من أهمية دلالة المعجزة على النبوة ألا يكون في غيرها الدلالة.
__________
(1) ... الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الدين. للجويني: ص(331).
(2) ... شرح المقاصد. للتفتازاني: (5/19).
(3) ... شرح العقيدة الأصفهانية. لابن تيمية: ص(88).(1/4)
وفي نقد هذا القول وبيان موقف أهل السنة من هذه المسألة يقول شارح العقيدة الطحاوية: « الطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيرًا منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة … ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة »(1) إلى أن قال:
« ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم، علمنا يقينًا أنهم كانوا صادقين على الحق ومن وجوه متعدّدة:
منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وخذلان أولئك، وبقاء العاقبة لهم.
ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم، وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه، كغرق فرعون، وغرق قوم نوح، وبقية أحوالهم، عرف صدق الرسل.
ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير، ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرّهم، ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق » (2).
__________
(1) ... شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي العز: (1/140).
(2) ... شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي العز: (1/152-153). وانظر في تفصيل ذلك: شرح العقيدة الأصفهانية. لابن تيمية: ص(88-105).(1/5)
ومع ما تقدم من الإشارة إلى دلالة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحال أتباعه ومناوئيه -وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله- فإن مما يدل أيضًا على بطلان قول هؤلاء ما جاء من البشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتب السابقة، فإن أثبتوا ما دلّت عليه تلك البشارات، فقد نقضوا أصلهم في أن الدلالة على النبوة محصورة في المعجزة، وإن أنكروها فقد عرضوا أنفسهم لتكذيب الأنبياء.
وقد فطن التفتازاني لما يلزم من التناقض في هذا، وهو مع قوله بحصر دلالة النبوة في المعجزة فقد اعترف بأن النبوة تثبت « بخبر من ثبتت عصمته عن الكذب، كنصوص التوراة والإنجيل في نبوة نبينا - عليه السلام - ، وكإخبار موسى - عليه السلام - بنبوة هارون، وكالب ويوشع عليهم السلام » (1). لكنه عاد فأكّد حصر دلالة النبوة في المعجزة، وبين أن ذلك عنده « محمول على ما يصلح دليلًا على الإطلاق، وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي، حتى الذي لا نبي قبله ولا كتاب » (2).
والحقيقة أن ما ذكره من الاحتمال لا ينفي الاستدلال بالبشارات السابقة. وأنه يلزمه -مع التسليم بما ذكره من الاحتمال- أن يقول إن البشارات السابقة دليل على النبوة، لكن من لا نبي قبله بشر به لا يدخل في هذا العموم، فلا ينقض أصل الاستدلال بالبشارات السابقة على النبوة.
* * * * * *
وأما القول الثاني للأشاعرة في مكانة دلالة المعجزة على النبوة: فذهب أصحابه إلى إثبات دلائل أخرى على النبوة غير دلالة المعجزة، وذكروا من ذلك دلالة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودلالة البشارات السابقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... شرح المقاصد. للتفتازاني: (5/19).
(2) ... المرجع السابق، ونفس الجزء والصفحة.(1/6)
وقد لخص صاحب المواقف المسالك التي ذكرها الأشاعرة في الاستدلال على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر في المسلك الثاني « الاستدلال بأحواله قبل النبوة، وحال الدعوة، وبعد تمامها، وأخلاقه العظيمة، وأحكامه الحكيمة، وإقدامه حيث يحجم الأبطال … » (1).
وذكر في المسلك الثالث « إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته - عليه السلام - في التوراة والإنجيل » (2).
لكنه أكّد أن مسلك الاستدلال بالمعجزة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - « هو العمدة »(3). وقال بعدما ذكر المسلكين السابقين، وذكر بعض ما قد يعترض على بعضها من الشكوك « المعتمد ظهور المعجزة على يده، وهذه الوجوه الأخر للتكملة وزيادة التقرير » (4).
وأصحاب هذا القول وإن اعترفوا بهاتين الدلالتين على النبوة إلا أن ما ذكروه من كونهما لمجرد التكملة وزيادة التقرير توهين لدلالتهما، مع أن فيهما الدلالة الضرورية على النبوة.
ففيما يتعلق بدلالة البشارات السابقة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - نجد أنها من أظهر الدلالات وأوضحها، لأن تلك البشارات وحي من الله تعالى أنزله على الأنبياء السابقين، بأوصاف محددة، قاطعة الدلالة على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المقصود بها، وبلغ أولئك الأنبياء -عليهم السلام- أممهم تلك البشارات وما فيها من علامات وأوصاف لتكون حجة عليهم أن يتبعوه إذا بعث.
__________
(1) ... المواقف في علم الكلام. للإيجي: ص(356-357).
(2) ... المرجع السابق: ص(357).
(3) ... المرجع السابق: ص(349).
(4) ... المرجع السابق: ص(357). وانظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين. للرازي: ص(310).(1/7)
وقد ذكر الله تعالى علم أهل الكتاب بتلك البشارات وأنها حجة عليهم في آيات كثيرة كما في قوله تعالى: ( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( - ( { - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( تمت - صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة - عليه السلام - - - - ((- رضي الله عنه - - } - ( - ((- رضي الله عنهم - - فهرس - (( ((( - - رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { ( [الشعراء:197]، وقوله تعالى: ( ( - ( - - - - - - - ( - - - ( - - - - - ( - - { (( - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( تمهيد - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( فهرس - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( ( المحتويات ( - (( ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( [الرعد:43]، وقوله تعالى: ( - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - جل جلاله -( - - - - - عليه السلام -( - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - } - - رضي الله عنه - - ( تم بحمد الله صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ( } - - - ( - - { - رضي الله عنه -( - - - ( - } ( [الأنعام:114]، وقوله تعالى: ( - رضي الله عنه -((( - { - - - ( المحتويات ( - (- عليه السلام - - ( - - - - - عليه السلام -( - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - (( مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنه - تمت(1/8)
قرآن كريم ((( - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - } ( [البقرة:146]، وغير ذلك في آيات كثيرة، تدل على حجية هذه الدلالة وظهورها. فكيف يقال مع ذلك إنها لا تستقل بالدلالة، وإنها لمجرد تكميل دلالة المعجزة على النبوة؟.
وكذلك الأمر في دلالة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - على نبوته، فإنها من أوضح الدلالات، وحال الأنبياء لا يمكن أن يلتبس بحال غيرهم؛ لأن النبوة أشرف الفضائل، فمن ادعاها فلا بدّ أن يكون من أفضل الناس، وهذا إذا كان نبيًا صادقًا، أو يكون من أشر الناس، وهذا إذا كان مدعيًا كاذبًا، وحال النبي الصادق لا يمكن أن يشتبه بحال المتنبئ الكاذب، بل حال كل منهما فرقان واضح على الصدق والكذب.
ومن تأمل سؤال هرقل عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه إنما سأله عن أمور يتميز بها النبي الصادق عن المتنبئ الكاذب.(1/9)
وقد بينها هرقل لأبي سفيان، وذكر وجه دلالتها على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما قاله ذلك: (( سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه ملك؟ فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا. فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقضون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه )) (1).
وهذه الأسئلة من هرقل دليل على فطنته ورجاحة عقله، وأنه قد سأل عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحال أتباعه ودعوته بما أداه إلى العلم اليقيني بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف يقال مع ذلك إن هذه الدلالة ليست إلا مكملة لدلالة المعجزة، وأنها لا تدل على النبوة على جهة الاستقلال؟.
المبحث الثاني:
السببية والمعجزة عند الأشاعرة
__________
(1) ... أخرجه البخاري. كتاب بدء الوحي (7). ومسلم. كتاب الجهاد (1774).(1/10)
يرجع الإعجاز في حقيقته إلى عجز المخاطبين بالمعجزة عن الإتيان بمثلها، سواء قصد بها تعجيزهم وتحديهم كما حصل في التحدي عن الإتيان بمثل القرآن، أو لم يقصد ذلك كما هو الأصل في آيات الأنبياء، إذ ليس المقصود بها تعجيز المخاطبين عن الإتيان بمثلها، وإنما المقصود تأييد الأنبياء بها، على أنها آيات ودلائل على نبوتهم.
والمخاطبون بتلك المعجزات سواء شاهدوها أو بلغتهم بطريق تثبت به عندهم يعلمون أنه لا يمكنهم أن يأتوا بمثل المعجزات، لكونها خارقة للسنن الكونية المطردة، سواء كانت تلك المعجزات في الأمور العلمية المتعلقة بالأخبار الغيبية، التي يعجز البشر عن العلم بها وفق قدراتهم المعهودة، أو كانت متعلقة بالمحسوسات المشاهدة وما يقع فيها من الإعجاز مخالفًا للسنة المطردة للمخلوقات، بحسب ما لها من خصائص.
وبذا يعلم أن إثبات حقيقة الإعجاز متوقف على إثبات السنن الكونية، وأنه لا يمكن التمييز بين المعجزة وغيرها -مما قد يكون من العجائب، لكن لا يخرج عن السنة الكونية- إلا بالتمييز بين ما يكون تحققه وفق السنة الجارية، فلا يكون معجزة, وما يكون تحققه خارقا لتلك السنة.
ويرجع اضطراب الأشاعرة في هذا الباب إلى موقفهم من السببية والسنن الكونية، حيث أنكروها، وجعلوا إثباتها منافيا للاستدلال بالمعجزات على النبوة, ومنافيا أيضا لتوحيد الله تعالى وعموم قدرته.
ويبيّن الغزالي مستند إنكار السببية ولزوم تقرير ذلك فيقول: « لزم الخوض في هذه المسألة لإثبات المعجزات ولأمر آخر وهو نصرة ما أطبق عليه المسلمون من أن الله تعالى قادر على كل شيء فلنخض في المقصود » (1).
__________
(1) ... تهافت الفلاسفة. للغزالي: ص(238).(1/11)
ثم قال في تقرير موقف الأشاعرة من السببية: « الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا، وبين ما يعتقد مسببا، ليس ضروريا عندنا, بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنا لإثبات الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب, والشبع والأكل, والاحتراق ولقاء النار, والنور وطلوع الشمس, والموت وجز الرقبة, والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل, وهلم جرا إلى كل المشاهدات، من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه، غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات » (1).
ووجه التعارض عند الأشاعرة بين إثبات السببية وبين توحيد الله تعالى وإثبات المعجزات أن القول بالسببية لا يفهم منه عندهم إلا الجزم بضرورة التلازم بين السبب والمسبب، وأن ذلك التلازم يعود عند من يثبته إلى ذات السبب، فيلزم منه تقييد قدرة الله تعالى، لأن وجود السبب إذا كان مقتضيا لوجود المسبب لذات السبب لم يكن الله خالقا لذلك المسبب، لأن وجوده حينئذ إنما تحقق من جهة اقتضاء السبب له، وهذا مناقض لتوحيد الله تعالى، وأنه وحده الخالق للمخلوقات، وأن هذا المخلوق كان يمكن ألا يوجد، وأن وجوده إن تحقق فلا بد أن يتعلق بقدرة الله تعالى، وأن إرادة الله تعالى هي التي رجحت وجوده على عدمه.
__________
(1) ... المرجع السابق: ص(239).(1/12)
ويشرح الدكتور سليمان دنيا موقف الأشاعرة من هذه المسألة فيقول: « تتابع الأشياء لا دليل فيه عندهم على تبعية الثاني للأول, لأنهم يعتقدون أنهما معا ناشئان عن شيء واحد اقتضى وجودهما على هذا النحو من التتابع، فالتتابع نفسه معلول عند الغزالي والأشاعرة، لكن معلولية السابق واللاحق، ومعلولية تتابعهما ليس يعني الضرورة التي لا تتخلف، لأن كل ذلك معلول لإرادة حرة، وما يكون معلولا لإرادة حرة لا يكون حتمي الوقوع » (1).
وأما ما يتعلق بالمعجزات فيقولون إن إثبات السببية على المعنى السابق يستلزم نفي الخوارق، لأنه إذا كان لا وجود لموجود حادث إلا من جهة أن سببا معينا اقتضى وجوده، على الوجه الذي وجد عليه، فلا يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك، وإذا كانت خاصية المعجزات خرق العادات فإنه لا يمكن إثباتها مع القول بالسببية.
وقد ذكر الغزالي ما يخالف فيه الفلاسفة فيما يتعلق بالطبيعيات فقال: « وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربع مسائل:
الأولى: حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة، فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب » (2)، ثم ذكر مستند مخالفته لهم في هذه المسألة فقال: « وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينبني عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعبانا، وإحياء الموتى، وشق القمر، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزوما ضروريا أحال جميع ذلك » (3).
والحقيقة أن ما ذهب إليه الفلاسفة من القول بالتلازم الضروري بين السبب والمسبب، على الوجه الذي ذكروه، وحكاه عنهم الغزالي، وهو أن يكون المسبب متوقفا على السبب لذاته مناقض لتوحيد الله تعالى، ولا يمكن معه إثبات المعجزات.
__________
(1) ... التفكير الفلسفي الإسلامي. د. سليمان دنيا: ص(187- 188).
(2) ... تهافت الفلاسفة. للغزالي: ص(235- 236).
(3) ... المرجع السابق: ص(236).(1/13)
لكن لا يصح أيضا ما ذهبت إليه الأشاعرة من نفي العلاقة بين الأسباب والمسببات بإطلاق، بل إن ما ذهبوا إليه من ذلك مناقض لضرورة العقل والواقع، كما هو مناقض للحقائق والنصوص الشرعية.
وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق الأشياء وفاوت بين خصائصها, فلا يمكن وجود شيئين لهما نفس الخصائص، و إلا لزم أن تكون الأشياء على تفاوتها شيئا واحدا وهذا في غاية التناقض، وإنما يكون إثبات الأسباب للأشياء من جهة ما لها من خصائص.
ويوضح ابن رشد في ردّه على الغزالي هذه الحقيقة المهمّة، وأنه يلزم من
ينفي السببية أن ينفي وجود الأشياء، لأنها إنما تعرف وتتميز بخصائصها فيقول:
« الأسباب الذاتية لا يفهم الموجود إلا بفهمها، فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات، هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا ولا شيئًا واحدًا، لأن ذلك الواحد يسأل عنه، هل له فعل واحد يخصه أو انفعال يخصه أو ليس له ذلك، فإن كان له فعل يخصه فهنا أفعال خاصة، صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد فالواحد ليس بواحد، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم » (1).
ومعلوم أن إثبات تلك الخصائص وما يلزم عنها من تأثير وسببية لا يتعارض مع الاعتقاد بأن الله هو الذي خلق الأشياء، وجعل لكل منها ما يختص به من تأثير، يترتب عليه أن يكون سببا لأمر معين، حسب تقدير الله له، كالحرارة في النار، والبرودة في الثلج، وهكذا في كل مخلوق.
__________
(1) ... تهافت التهافت. لابن رشد: ص(505-506).(1/14)
ويترتب على ذلك أنه إذا كان الأصل إثبات ما للأشياء من خصائص وتأثير، وأن ذلك هو مقتضى السنة الجارية، إلا أن تلك السنة محكومة بإرادة الله تعالى, فإذا أراد سبحانه سلب تلك الأشياء خواصها لم يكن لها التأثير الذي كان لها قبل ذلك، كما جعل الله النار بردا وسلاما على إبراهيم - عليه السلام -، لكن هذا أمر خارق لا ينفي السنة الجارية.
وبهذا يمكن إثبات السببية، وما يقتضيه ذلك من إثبات التلازم بين الأسباب والمسببات، مع الاعتقاد أن ضرورة التلازم بين الأسباب والمسببات ليست مطلقة، أو راجعة للسبب ذاته، بحيث لا يمكن تخلف التلازم بينهما بحال، بل يمكن ألا يوجد المسبب وإن وجد السبب إذا أراد الله ذلك، وهذا إنما يكون إذا أراد الله خرق السنن الجارية، لأمر تقتضيه حكمته تعالى.
وبهذا الأصل تثبت المعجزات، ويعلم وجه دلالتها على النبوة, ويعلم أنه لا يمكن إثبات المعجزات إلا من جهة مخالفتها للسببية والسنن الكونية، لأن حقيقة الإعجاز خرق السنة الجارية، فمن لم يثبت السببية والسنن الكونية لم يكن له أصل يميز به بين المعجزة وغيرها، لأن دلالة المعجزة على النبوة إنما هو من جهة أن المعجزة تصديق وتأييد من الله لأنبيائه، فلا بد أن تكون على وجه تقوم به الحجة، ويعلم بالضرورة أن الله أراد بها تصديق نبيه، ولا يكون ذلك إلا إذا خالفت السنة الكونية بحيث لا يمكن تحققها إلا بقدرة الله وحده.
وبهذا يحصل التمييز بين آيات الأنبياء وما يؤيدهم الله به من المعجزات وبين ما يفعله السحرة، فإن السحر وإن كان من العجائب لا يخرج عن السنة الجارية ومقدور الثقلين، ولذلك يمكن تعلمه وتعليمه، وعلى هذا يكون الفرق بين المعجزة والسحر راجعا إلى اختلافهما في الحقيقة والجنس، بحيث لا يمكن أن يكون بينهما التباس، هذا فضلا عن الاختلاف بينهما بالنظر إلى حال النبي الصادق وما يدعو إليه، وحال المتنبي الكاذب وما يدعو إليه.(1/15)
وفي تقرير حقيقة المعجزة وبيان خاصيتها يقول الإمام ابن حزم: « إن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم، وعن بنية العالم، لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم، لكن قلب عين، وإحالة صفات ذاتية كشق القمر، وفلق البحر، واختراع طعام وماء، وقلب العصا حية، وإحياء ميت قد أرم، وإخراج ناقة من صخرة...وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق الأسماء، ومنها تقوم الحدود » (1).
والأشاعرة وإن قالوا إنهم إنما نفوا السببية حماية للمعجزة التي هي عند بعضهم أهم دلائل النبوة، وعند آخرين الدليل الوحيد على النبوة, إلا أن ما ذهبوا إليه يستلزم ألا يكون للمعجزة دلالة على النبوة، وذلك أنهم إذا نفوا السببية التي يميز بها بين ما يكون خارقا وما لا يكون، لم يمكنهم تمييز المعجزة عن غيرها، لأنهم قد نفوا الأصل الذي به تعرف حقيقة المعجزة.
وقد نقد الإمام ابن حزم الأشاعرة في ذلك، وبين أصل خطئهم في نفي السببية وخواص الأشياء, وربط ذلك بموقفهم من المعجزات وما التزموه فيها، وبين أنه لا يمكن على أصلهم الاستدلال بالمعجزة على النبوة, وفي ذلك يقول: « ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة، وقالوا ليس في النار حر, ولا في الثلج برد, ولا في العالم طبيعة أصلا، وقالوا إنما حدث حر النار جملة, وبرد الثلج عند الملامسة.....وهذا المذهب الفاسد حداهم إلى أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة، لأنهم جعلوا امتناع شق القمر، وشق البحر، وامتناع إحياء الموتى، وإخراج ناقة من صخرة، وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط.
__________
(1) ... الفصل في الملل والأهواء والنحل, ابن حزم: (5/5).(1/16)
قال أبو محمد: معاذ الله من هذا, ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلا، لأن العادة في لغة العرب: الدأب والدين والديدن والهجيرى، ألفاظ مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه إياه، ولا ينكر زواله عنه، بل هو ممكن وجود غيره ومثله، بخلاف الطبيعة، التي الخروج عنها ممتنع … وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة، خلقها الله - عز وجل - فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدًا، ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل، كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة، وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك، وكطبيعة البر ألا ينبت شعيرًا ولا جوزًا وهكذا كل ما في العالم.
والقوم مقرون بالصفات، وهي الطبيعة نفسها, لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به, لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله، وسقوط الاسم عنه، كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلا، وبطل اسم الخمر عنها، وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلا، وسقط اسم الخبز واللحم عنها، وهكذا كل شيء له صفة ذاتية » (1).
وهذا الذي ذكره الإمام ابن حزم لازم لهم، ولهذا لم يميزوا بين المعجزة والسحر بأمور ترجع إلى حقيقة كل منهما, ولا يمكنهم ذلك، بل عندهم أن المعجزة والسحر يشتركان في كونهما من خوارق العادات، ثم التمييز بينهما يرجع إلى أمور خارجة عن حقيقة كل منهما، ولا شك أن عدم التفريق بين حقيقة المعجزة وحقيقة السحر قدح في دلالة المعجزة، إذ كيف يمكن أن يسوى برهان النبوة بدجل السحرة وشعوذتهم، وينظر في التفريق بينهما إلى قرائن كل منهما, لا في تمايزهما في الجنس والحقيقة؟
المبحث الثالث: منهج الاستدلال
بالمعجزة عند الأشاعرة
يذكر الأشاعرة في تعريفهم للمعجزة وبيانهم لشروطها أنها لا بد أن تكون خارقة للعادة، مقرونة بالتحدي ودعوى النبوة، سالمة من المعارضة.
__________
(1) ... المرجع السابق: (5/14- 16).(1/17)
ومن جملة تعريفاتهم لها قول الباقلاني: « هي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء وتحديهم الأمم بالإتيان بمثل ذلك » (1)، وفي نفس المعنى يقول الجويني: « هي أفعال الله تعالى، الخارقة للعادة المستمرة الظاهرة، على حسب دعوى النبوة » (2)، وجاء في شرح المقاصد للتفتازاني في تعريف المعجزة أنها: « أمر خارق للعادة، مقرون التحدي، وعدم المعارضة… » (3).
والمقصود هنا بيان ما يقصدونه بلفظ العادة في تعريفهم للمعجزة, وصلة ذلك بما تقدم بيانه في موقفهم من السببية, ثم بيان الأصول التي يقوم عليها منهج الأشاعرة في تقرير دلالة المعجزة على النبوة, لتفهم بذلك الشروط التي يذكرونها في تعريفهم للمعجزة, ويتبين بالنقد والدراسة ما يصح منها وما لا يصح.
فأما لفظ العادة فالأصل فيه إذا أطلق أن يراد به السنة المعتادة المنتظمة للمخلوقات، وفق تدبير الله تعالى، وكل مخلوق فلله في خلقه وتدبيره سنة جارية قدرها له, وفق ضوابط ثابتة محددة لا يتجاوزها.
وفي بيان هذا المعنى ووجه الدلالة فيه يقول الإمام ابن تيمية: « وأما الاستدلال بسنته وعادته فهو أيضا طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق,...فإنه قد علم عادته سبحانه في طلوع الشمس والقمر والكواكب والشهور والأعوام، وعادته في خلق الإنسان وغيره من المخلوقات، وعادته فيما عرفه الناس من المطاعم والمشارب والأغذية والأدوية.... » (4)، والخارق للعادة على هذا المعنى هو المخالف للسنن الكونية التي قدرها الله للمخلوقات, وهي معلومة للناس علما ضروريا، فإذا جاءت آيات الأنبياء خارقة لها علم أن الله قد أراد بها تصديقهم وتأييدهم، لأن الله تعالى هو وحده القادر على خرق تلك السنن.
__________
(1) ... الإنصاف. للباقلاني: ص(54).
(2) ... لمع الأدلة. للجويني: ص(110).
(3) ... شرح المقاصد. للتفتازاني: (5/11).
(4) ... النبوات. لابن تيمية: (2/958- 959).(1/18)
والأشاعرة لا يمكنهم أن يثبتوا خرق العادة بهذا المعنى، لأنهم إذا أنكروا السببية والسنة الجارية التي هي العادة, فلا يمكنهم أن يقولوا في الخارق إنه خارق لتلك السنة، مع إنكارهم لها.
وإذا لم يكن الخارق للعادة خارقا لحقيقة ثابتة مطردة، وهي السنة الجارية في المخلوقات، بحيث يتميز ويعرف من جهة خرقه لتلك العادة، لم يمكن تمييز الخارق من غيره، بل يكون ذلك الوصف عائدا إلى مجرد ما يعتاده الناس في أزمان وأحوال خاصة، لا إلى أصل مطلق وحقيقة ثابتة، وحينئذ يكون الخارق للعادة وصفا نسبيا إضافيًا يمكن اختلاف الناس فيه، فيكون الخارق في زمن وعند بعض الناس غير خارق في زمن آخر وعند أناس آخرين.
وهذا المعنى هو الذي عناه الأشاعرة بوصف الخارق للعادة، حيث ذكروا أن المقصود بالعادة ما اعتاده الناس, وأنه لا يشترط له أن يكون مطلقًا عامًا، بل هو نسبي إضافي، وإذا كان هذا المعنى الثاني لازما للأشاعرة، بناء على إنكارهم للسببية فقد اعتمدوه والتزموا بلوازمه.
وقد ذكر الآمدي ما قد يعترض به من الشبهة على معنى الخارق عندهم، وأنه يلزمهم أن ما أتى به النبي « إنما يدل على صدقه لو كان مما لم تطرد به العادة في بعض أقطار الأرض, أو فيما تقدم من الأعصار، وإن لم يكن معتادا في ذلك الوقت، ولا في ذلك القطر » (1).
وفي جوابه عن هذه الشبهة يقول معترفا بنسبية الخارق عندهم: « لا يمنع أن يكون ما أتى به الرسول خارقا للعادة بالنسبة إلى عصره وبالنسبة إلى قطره مع الذي تحدى له عليهم، فإن طرد العادة بشيء بالنسبة إلى بعض المخلوقات لا يمتنع من كونه خارقا للعادة بالنسبة إلى بعض آخر » (2).
__________
(1) ... أبكار الأفكار. للآمدي : (4/41).
(2) ... نفس المصدر: (4/57).(1/19)
وفي نفس المعنى يقول الشهرستاني: « المعتبر في كون الآية حجة أن يكون ذلك نقضا لعادة من كانت الآية حجة عليه، والعادة عادة له » (1)، وعلى هذا يكون معنى العادة راجعا إلى مجرد ما اعتاده الناس، وهذا أمر يتعلق بهم وإلى تعودهم لتلك العادة وإن أمكن أن تتبدل، وفي هذا المعنى يقول شارح جوهرة التوحيد: « العادة ما درج عليه الناس واستمروا عليه مرة بعد أخرى » (2).
وعلى هذا فيلزم الأشاعرة عدم إمكان تمييز المعجزة، من جهة كونها خارقة للعادة، لأن ما يرجع إلى الناس وما يكون خارقا لتلك العادة لا يمكن تحديده، فيدخل في عموم الخوارق ما هو من قبيل أعمال السحرة، إذ هو غير معتاد عند كثير من الناس، فيلزم من هذا ألا يوجد فرق حقيقي بين آيات الأنبياء وما يأتي به السحرة من العجائب.
وإذا لم يكن خرق العادة لذاته مميزًا بين المعجزة والسحر لزمت التسوية بين المعجزة والسحر، وأن لا يوجد بينهما فرق يعود إلى حقيقة كل منهما، فيلزم أن يكون الفارق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب غير مجرد خرق العادة، لإمكان اشتراكهما فيها.
ومع شناعة هذا اللازم فقد التزم به الأشاعرة, ثم نظروا في أمور خارجة عن حقيقة الخارق تكون فارقة بين النبي ومدعي النبوة، حيث لم يمكنهم أن يكون الفارق راجعا إلى حقيقة الخارق، فلا بدّ من شروط تتميز بها المعجزة، وتتلخص شروطهم في أمرين:
أولهما: أن المعجزة من النبي لا بدّ أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، بخلاف الساحر فإنه لا يمكنه ذلك.
وثانيهما: استحالة معارضة معجزة النبي؛ بخلاف ما يأتي به الساحر، فإنه لا بد أن يعارض.
__________
(1) ... نهاية الأقدام في علم الكلام. للشهرستاني: ص(439).
(2) ... شرح جوهرة التوحيد. للباجوري: ص(398).(1/20)
وقد اهتموا بتقرير ذلك، وأطالوا القول في تفاصيله, لأهمية دلالة المعجزة على النبوة، ولأنه لا يمكن تقرير دلالتها إلا بتقرير أنه لا يلزم أن تكون دلالتها راجعة إلى أمر تختص به, وإنما إلى ما يقترن بها من الشروط.
وقد أفرد الباقلاني كتابا خاصا لهذه المسألة سماه: "البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات"، وأورد فيه الإشكال السابق ثم أجاب عنه بما يراه كافيا في دفع ذلك الإشكال، وكلامه في هذه المسألة هو أهم نص في الفكر الأشعري، ومما قاله في ذلك: « فإن قال قائل: فإذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله سبحانه عنده سقم الصحيح وموته، ويفعل أيضا عنده بغض المحب وحب المبغض، وبغض الوطء والعجز عن الوطء، بالربط والشد الذي يعمله السحرة، والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض الآلة، فما الفصل بين هذا وبين معجزات الرسل؟ وكيف تنفصل مع ذلك المعجزات من السحر، ويمكن الفرق بين النبي والساحر؟ أوليس لو قال نبي مبعوث: أنا أصعد على هذا الخيط نحو السماء, وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج، وإنني أفعل فعلا أفرق به بين المرء وزوجه، وأفعل فعلا أقتل به هذا الحي، وأسقم هذا الصحيح، فيسقم ويموت عند فعلي, كان يكون ذلك لو ظهر على يده آية له ودليلا على صدقه؟ فما الفصل إذًا على هذا بين السحر والمعجز؟(1/21)
يقال له: جواب هذا قريب, وذلك أننا قد بينا أن من حق المعجز ألا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله - سبحانه وتعالى - ، على حد خرق عادة البشر مع تحدي الرسول - عليه السلام - بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه، فمتى وجد الشيء الذي ينفرد الله سبحانه بالقدرة عليه، على حد العادة، على غير تحدي نبي به، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزا,… فإذا كان ذلك كذلك, خرج السحر عن أن يكون معجزا مشبها لآيات الرسل، وإن كان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله تعالى عند تحديهم » (1).
وكلامه هنا صريح في أن ما يكون خارقا للعادة إذا خلا عن دعوى النبوة لم يكن معجزة لذاته, وأنه لا فرق بين المعجزة والسحر في الحقيقة, أو بحسب تعبيره: « ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله عند تحديهم به » .
ثم يشرع الباقلاني في بيان ما يحصل للساحر إذا ادعى النبوة, وأنه إما ألا يتمكن من فعل السحر، حتى لا يكون فعله قدحا في دلالة النبوة, وإن فعله فلا يسلم عنده من المعارضة.
وفي ذلك يقول: « إن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله له تعالى بوجهين:
أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر، وأنه سيدعي النبوة، أنساه الله عمل السحر جملة، أو لم يفعل سبحانه عند قوله وما يفعله في نفسه من الأفعال شيئًا في المسحور، من موت أو سقم أو بغض، ولم يخلق فيه الصعود إلى جهة السماء، والقدرة على الدخول في بقرة، فإذا منعه هذه الأسباب بطل سحره، وبان الفرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه.
__________
(1) ... البيان. للباقلاني: ص(93- 94).(1/22)
والوجه الآخر: أن أبواب السحر معلومة عند السحرة، وعند أهل بابل، وهي أمور معروفة، فإذا تحدى ساحر من السحرة بشيء يفعل عند سحره، ويقع من مقدورات الله عز وجل من جنس بعض آيات الرسل وتحدى به, لم يلبث أن يوجد خلق من السحرة يفعلون مثل فعله, ويعارضونه بأدق وأبلغ مما أورده، فينتقض بذلك ما ادعاه ويبطل » (1).
ثم ينتقل إلى بيان ما يلزم إذا جاء النبي بالمعجزة، وأنها لا يمكن أن تعارض، كما يحصل لما يأتي به الساحر من الخوارق، بل كل من أراد معارضة النبي من السحرة فلابد أن يبطل الله معارضتهم، إما بأن ينسيهم السحر ويصرفهم عنه، وإما بأن يقدر ألا يكون ما أرادوه من السحر، وفي ذلك يقول: « والرسول - عليه السلام - إذا ظهر عليه مثل ذلك وادعاه آية له, قال لهم: هذه آيتي وحجتي, ودليل ذلك أنكم لا تقدرون على مثله, ولا يفعله الله سبحانه في وقتي هذا، ومع تحدي ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر وفعل كاهن... فإذا ظهر ذلك عليه، وامتنع ظهور مثله على يد ساحر أو كاهن, مع أنه قد كان يظهر ذلك من قبل, صار ذلك خرقا لعادة البشر، وعادة الكهنة والسحرة خاصة....
والمنع لهم عند هذا التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون من الله سبحانه بوجهين:
أحدهما: أنه ينسيهم السحر والكهانة, ويذهب بحفظ ذلك وعلمه من قلوبهم, وذلك آية عظيمة وخرق للعادة، لأنه ليس في العادة إنساءهم ذلك وصرفهم عنه.
__________
(1) ... البيان. للباقلاني: ص(94- 95).(1/23)
والوجه الآخر: أنه يبطله الله تعالى, لا بأن ينسيهم عمل السحر ويذهب به عن قلوبهم, ولكن بأن لا يفعل سبحانه عند كلامهم وما يفعلونه في أنفسهم سقم أحد ولا تفرقة بينه وبين زوجته، ولا عزل أحد عن الوطء, ولا القدرة فيهم على الصعود على خيط، والتصرف في الجو، فيكون هذا أيضا آية للناس عظيمة، وخرق عادة الكل ممن لا يعرف السحر، ولعادة السحرة خاصة.....وإذا كان ذلك كذلك بان بطلان شبه من ظن أن السحر بهذا الضرب إن صح, بطلت المعجزات وألبست بالسحر, وهذا واضح لا إشكال فيه » (1).
وحاصل ما ذكره الباقلاني فيما سبق, -ويتفق معه أئمة الأشاعرة- يقوم على ثلاثة أصول، لابد من بيانها ومناقشتها, وتتلخص تلك الأصول فيما يلي:
أن المعجزة لا تكفي لذاتها دليلا على النبوة,لدخولها في عموم خوارق العادات.
اشتراط التحدي بالمعجزة ودعوى النبوة لدلالة المعجزة على النبوة.
دعوى أن الساحر إذا ادعى النبوة، أو عارض نبيًا فلا يتمكن من السحر, لأن ظهور الخوارق على يديه قدح في دلالة النبوة.
* * * * * *
فأما الأصل الأول وهو قولهم:"إن المعجزة لا تدل لذاتها على النبوة"، فيرجع إلى ما سبق بيانه من أن المعجزة عندهم داخلة في عموم الخوارق, وذلك أنهم حين أنكروا السببية، ولم يكن لهم أصل يرجعون إليه في تمييز الخارق من غيره، التزموا أن الخارق ما خالف المعتاد، وإن أمكن أن يكون معتادا في وقت آخر، وعند قوم آخرين، وإذا كان السحر والكرامة عندهم من جملة الخوارق لم يكن تمييز المعجزة لمجرد كونها خارقة للعادة, فلا تكون دالة على النبوة لذاتها.
__________
(1) ... البيان. للباقلاني: ص(95- 98).(1/24)
ويصرح الجويني بعدم كفاية المعجزة في الدلالة على النبوة فيقول: « وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة فإن المعجزة لا تدل لعينها، وإنما تدل لتعلقها بدعوى النبي الرسالة ونزولها منزلة التصديق بالقول » (1).
ثم يذكر ما يتعلق بالسحر، وأنه يمكن أن يظهر على يد الساحر ما هو من جنس المعجزات فيقول: « لا يمتنع عقلا أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر الله بالاقتدار عليه، فإن كل ما هو مقدور للعبد فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا، والدليل على جواز ذلك كالدليل على جواز الكرامة، ووجه الميز هاهنا بين السحر والمعجزة كوجه الميز في الكرامة فلا حاجة إلى إعادته » (2).
ومقصوده أن ما تتميز به المعجزة عن السحر لا يرجع إلى حقيقة السحر, وإنما يرجع إلى دعوى النبوة من النبي مع المعجزة، بخلاف الساحر فإنه لا يدعيها، كما أن الكرامة لا تختلف عن المعجزة إلا بذلك، وبذا تكون المعجزة والكرامة والسحر عنده من جنس واحد، هو خوارق العادات.
ويذكر الشهرستاني أن الخارق قد يظهر على يد الساحر، مما يقتضي التسوية بينهما وفي ذلك يقول: « لا ننكر أن يظهر خارق للعادة على يد ساحر » (3).
وسبق ذكر قول الباقلاني في نفس المعنى: « ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله عند تحديهم به » (4).
__________
(1) ... الإرشاد. للجويني: ص(319)، وانظر: العقيدة النظامية. للجويني: ص(228).
(2) ... الإرشاد. للجويني: ص(322).
(3) ... نهاية الأقدام في علم الكلام. للشهرستاني: ص(422).
(4) ... البيان. للباقلاني: ص(94).(1/25)
ولا شك أن في هذا القول القدح في آيات الأنبياء، لأن آيات الأنبياء لابد أن تكون متميزة عن غيرها، فإن الله تعالى إذا أرسل الرسل وجعل لهم الآيات والبراهين على نبوتهم فلابد أن تكون تلك الآيات مختصة بهم، دالة على نبوتهم, بحيث لا يمكن أن تكون دليلا لغيرهم، وأن يكون ذلك راجعا إلى نفس تلك الآيات والمعجزات، لا إلى شروط خارجة عنها.
وفي تقرير هذه الحقيقة يقول الإمام ابن تيمية: « إن ما يدل على النبوة هو آية على النبوة وبرهان عليها, فلابد أن يكون مختصا بها, لا يكون مشتركا بين الأنبياء وغيرهم, فإن الدليل هو مستلزم لمدلوله, لا يجب أن يكون أعم وجودا منه، بل إما أن يكون مساويا له في العموم والخصوص، أو يكون أخص منه, وحينئذ فآية النبي لا تكون لغير الأنبياء » (1).
ولازم هذا أن تكون آيات الأنبياء غير معتادة لغيرهم، بل تكون خاصة بهم, لأن ما يؤيد الله به رسله من المعجزات خارج عن السنن الكونية ومقدور الثقلين، والسحر والكهانة لا تخرج عن كونها مقدورة لهم، لأنها لا تخرج عن السنن الكونية، فلا يمكن أن يكون المقدور عليه من جنس غير المقدور عليه.
وقد أفاض الإمام ابن تيمية في نقد هذه الدعوى وبيّن أن « آيات الأنبياء هي خارقة لغير الأنبياء، وإن كانت معتادة للأنبياء » (2)، وأن « آيات الأنبياء خارجة عن مقدور من أرسل الأنبياء إليه، وهم الجن والإنس، فلا تقدر الإنس والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء » (3) وأنه « لابد في آيات الأنبياء أن تكون مع كونها خارقة للعادة أمرا غير معتاد لغير الأنبياء, بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء, ليس مما يقدر عليه غير الأنبياء، لا بحيلة ولا عزيمة، ولا استعانة بشياطين، ولا غير ذلك.
__________
(1) ... النبوات. لابن تيمية: (1/163).
(2) ... المرجع السابق: (1/502).
(3) ... المرجع السابق، ونفس الجزء والصفحة.(1/26)
ومن خصائص معجزات الأنبياء أنه لا يمكن معارضتها, فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها فإن ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء، بخلاف ما كان موجودا لغيرها، فهذا لا يكون آية البتة، فأصل هذا أن يعرف وجود الأنبياء وخصائصهم كما يعلم وجود السحرة وخصائصهم » (1)، وهذا كما يبين الإمام ابن تيمية يرجع إلى تميز المعجزات في ذاتها, وأنها غير مقدورة للإنس والجن, بخلاف ما تأتي به السحرة والكهان, فإن « ما تأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورا للإنس والجن، وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها لا الإنس ولا الجن » (2)، ومما يبين ذلك كما ذكر الإمام ابن تيمية أيضا « أن الكهانة والسحر يناله الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه, وهذا مجرب عند الناس، بخلاف النبوة فإنه لا ينالها أحد باكتسابه » (3).
والحاصل أن لآيات الأنبياء خاصية لا يمكن أن توجد في السحر، وهي ظهورها ووضوح دلالتها، وما يحصل من اليقين عند من يشاهدها أو يعلم بها أنها لابدّ أن تكون تأييدًا من الله للنبي وآية له، بخلاف ما يفعله السحرة، فإنه يكون فيه من التلبيس والدجل والغش ما يوقع الريبة فيهم وفيما جاءوا به.
ومن تأمّل هذا وجده ظاهرًا في جميع آيات الأنبياء وما أيدهم الله به من المعجزات، كما كانت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم - عليه السلام - ، وكانفلاق البحر لموسى - عليه السلام - وكخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، كما حصل لعيسى - عليه السلام -، وكشقّ القمر ونبع الماء من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكثير الطعام القليل، ونحو ذلك من الآيات العظيمة للأنبياء -عليهم السلام- . فكيف يمكن أن يقال إن في سحر السحر ما يمكن أن يكون من قبيل هذه الآيات؟.
__________
(1) ... المرجع السابق: (1/195).
(2) ... المرجع السابق: (2/1081).
(3) ... المرجع السابق: (1/558).(1/27)
ولاستحالة التباس المعجزة بالسحر أيد الله تعالى نبيه موسى - عليه السلام - بالمعجزة لإبطال سحر سحرة فرعون، حين ادعى فرعون أن موسى - عليه السلام - ساحر, وأن ما أيده الله به من المعجزات إنما هو من جنس ما يفعله سحرته.
وحين جمع فرعون السحرة لإبطال ما جاء به موسى - عليه السلام - من المعجزات, واجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وجاءوا بسحر عظيم، أمر الله موسى - عليه السلام - أن يلقي عصاه، وهي الآية والمعجزة التي أيده الله بها في مقابل سحر السحرة، فإذا هي تلقف ما يأفكون، وعلم السحرة أن ما جاء به موسى - عليه السلام - ليس من جنس السحر، وأنه خارق لكل ما يعلم السحرة، وأن ما تحقق من التأييد لموسى - عليه السلام - لابد أن يكون آية على نبوته، فآمنوا بموسى - عليه السلام - واتبعوه مع جبروت فرعون وطغيانه، وهذا من أعظم الدلائل لمن عقل، وأن ما جاء به موسى - عليه السلام - لا يمكن أن يكون من جنس ما جاء به السحرة, وبه يعلم أن ما يدعيه الأشاعرة من التسوية بين المعجزة والسحر مناقض للضرورة الشرعية.
* * * * * *
وأما الأصل الثاني للأشاعرة في هذا الباب فهو اشتراطهم لدلالة المعجزة على النبوة التحدي بها ودعوى النبوة، وهو حاصل قولهم في تعريف المعجزة -كما سبق- أنها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي.(1/28)
وفي تقرير وجه اشتراط التحدي بالمعجزة لتكون دالة على النبوة يقول الباقلاني: « وأما ما يدل على أنه لا يكون معجزا إلا إذا فعل عند احتجاج الرسول به لصدقه وتحديه بمثله، فهو أنه قد ثبت أن ليس بمعجز لجنسه, وأن الله عز وجل لو ابتدأ بفعله- نحو أن يحي ميتا ويطلع الشمس من مغربها ويزلزل الأرض ويظلنا بالسحاب- لا عند دعوى أحد للرسالة، وكون ذلك آية له، لم يكن ما يفعله الله سبحانه من ذلك معجزا، وإن كان من جنس المعجز.....فهذا من أقوى الأدلة وأصحها على أن المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا لحدوثه، وإنما يصير معجزا للوجوه التي ذكرناها ومنها التحدي والاحتجاج » (1).
وهذا الشرط هو فرع التسوية بين الخوارق ولازم لها، فإن المعجزة إذا كانت من جملة الخوارق، والخوارق عندهم جنس واحد، لا تختلف آحاده بالنظر إلى حقيقة كل منها، فلابد إذا لم تتميز المعجزة لذاتها ألا تكون دليلا لذاتها، بل لابد أن تكون دلالتها مشروطة باعتبارات خارجة عن حقيقتها، ولأجل ذلك ذكروا التحدي بالمعجزة ودعوى النبوة، لكونها لازمة للمعجزة لأن المعجزة لا تكون إلا لنبي.
وفي تقرير هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية: « والذين قالوا إن شرط الآيات أن تقارن دعوى النبوة غلطوا غلطا عظيما، وسبب غلطهم أنهم لم يعرفوا ما يخص بالآيات, ولم يضبطوا خارق العادة بضابط يميز بينها وبين غيرها، بل جعلوا ما للسحرة والكهان هو أيضا من آيات الأنبياء، إذا اقترن بدعوى النبوة، ولم يعارضه معارض، وجعلوا عدم المعارض هو الفارق بين النبي وغيره، وجعلوا دعواه جزءًا من الآية, فقالوا: هذا الخارق إن وجد مع دعوى النبوة كان معجزة، وإن وجد بدون دعوى النبوة لم يكن معجزة، فاحتاجوا لذلك أن يجعلوه مقارنا للدعوى » (2).
__________
(1) ... البيان. للباقلاني: ص(47- 48).
(2) ... النبوات. لابن تيمية: (2/ 853- 854).(1/29)
والحقيقة أن ما ذكره الأشاعرة هنا من الاستدلال على النبوة بدعوى النبوة مناقض لمنهج الاستدلال، وغايته أن يكون الدليل هو المدلول، إذ كيف يكون الدليل الذي هو هنا دعوى النبوة المقارن للمعجزة دليلا على النبوة، وكما يقول الإمام ابن تيمية فإن « دعوى النبوة هو الذي تقام عليه البينة, والذي تقام عليه الحجة ليس هو جزءًا من الحجة » (1), « وهؤلاء قالوا: لا يكون دليل النبوة دليلا إلا إذا استدل به النبي حين ادعى النبوة، فجعل نفس دعواه، واستدلاله، والمطالبة بالمعارضة، وتقريعهم بالعجز عنها، كلها جزءًا من الدليل، وهذا غلط عظيم، بل السكوت عن هذه الأمور أبلغ في الدلالة، والنطق بها لا يقوي الدليل، والله تعالى لم يقل ( } - قرآن كريم ( - ( - - عليه السلام - - ( - - ( - { - ( - { - رضي الله عنه -( - ((( - ( - ( الله ( } تم بحمد الله ( [الطور:34] إلا حين قالوا افتراه, لم يجعل هذا القول شرطا في الدليل، بل نفس عجزهم عن المعارضة هو من تمام الدليل » (2).
ومع مخالفة ما اشترطه الأشاعرة من التحدي بالمعجزة لثبوت دلالتها لمنهج الاستدلال، فإن ما ذكروه مخالف لواقع الحال، وما هو معلوم بالضرورة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يكن يتحدى بالمعجزات ابتداء، فهذا الشرط إنما التزموا به لأن منهجهم يقتضيه، لا لأن الأمر كذلك, وليس لهم في إثباته وحصوله من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي اشترطوه دليل.
وفي تقرير هذا المعنى يقول الإمام ابن حزم: « إن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة، سخيفة، لا دليل على صحتها، لا من قرآن, ولا سنة صحيحة ولا سقيمة, ولا من إجماع, ولا من قول صاحب, ولا من حجة عقل, ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة » (3).
__________
(1) ... المرجع السابق : (1/ 542).
(2) ... النبوات. لابن تيمية : (1/ 605).
(3) ... الفصل في الملل والأهواء والنحل. لابن حزم : (5/7).(1/30)
وفي نفس المعنى يقول الإمام ابن تيمية: « إن عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها, ويقول ائتوا بمثلها, والقرآن إنما تحداهم لما قالوا إنه افتراه, ولم يتحداهم به ابتداء, وسائر المعجزات لم يتحد بها, وليس فيما نقل تحد إلا بالقرآن، لكن قد علم أنهم لا يأتون بمثل آيات الأنبياء, فهذا لازم لها, لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره » (1).
وإذا علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتحدى بالمعجزات ابتداء، بل أكثر المعجزات لا يشهدها إلا الصحابة, ولا يمكن في حقهم التحدي بتلك المعجزات, بل هم مؤمنون به وإن لم يشهدوها، فعلم أن ما شرطوه من اقتران التحدي ودعوى النبوة لا أصل له، بل يلزم القدح في تلك المعجزات، لعدم تحقق ما شرطوه فيها.
وفي بيان هذا اللازم يقول الإمام ابن حزم: « إنه لو كان ما قالوا لسقطت أكثر آيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كنبعان الماء من بين أصابعه, وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعناق، ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار، وكتفله في العين فجاشت بماء غزير، إلى اليوم، وحنين الجذع، وتكليم الذراع, وشكوى البعير والذئب والإخبار بالغيوب، وتمر جابر، وسائر معجزاته العظام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتحد بذلك كله أحدا، ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضي الله عنهم، ولم يبق له آية حاشا القرآن, ودعاء اليهود إلى تمني الموت, وشق القمر فقط، وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا، فإن ادعوا أنه - عليه السلام - تحدى بها من حضر وغاب كذبوا واخترعوا هذه الدعوى, لأنه لم يأت في شيء من تلك الأخبار أنه تحدى بها أحدا, وإن تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله » (2).
__________
(1) ... النبوات. لابن تيمية : (2/794).
(2) ... الفصل في الملل والأهواء والنحل. لابن حزم : (5/7).(1/31)
وفي نفس المعنى وإلزامهم بإبطال المعجزات يقول الإمام ابن تيمية: « ليس من شرط دلائل البنوة لا اقترانه بدعوى النبوة, ولا احتجاج به, ولا التحدي بالمثل, ولا تقريع من يخالفه، بل كل هذه الأمور قد تقع في بعض الآيات، لكن لا يجب أن ما لا يقع معه لا يكون آية، بل هذا إبطال لأكثر آيات الأنبياء لخلوها عن هذا الشرط » (1).
* * * * * *
وأما الأصل الثالث الذي عليه منهج الأشاعرة في تقرير دلالة المعجزة على النبوة فهو ما ادعوه من أن الساحر إذا ادعى النبوة أو عارض نبيا فلابد أن يسلب القدرة على السحر، لأن السحر عندهم خارق للعادة، واقترانه بدعوى النبوة يقتضي على أصولهم أن يكون من قبيل المعجزات, فيحصل اللبس بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب.
والحقيقة أن القول بأن معجزات الأنبياء لابد أن تسلم من المعارضة أصل صحيح في ذاته، بل لا تكون المعجزة معجزة إلا بذلك، إذ لابد أن يتميز الأنبياء عن غيرهم فيما يتعلق بأمر المعجزة، باستحالة حصولها لغيرهم.
ويستند هذا الأصل إلى ما سبق من أن من شرط المعجزة أن تكون خارقة للسنن الكونية الجارية، فالمعجزات لا تحصل من جهة قدرة الأنبياء عليها, لأن قدرتهم لا يمكن أن تجاوز السنن الجارية، وإنما هي محض تأييد من الله تعالى لهم.
لكن الأشاعرة لا يوافقون على هذا الأساس في وجه تميز المعجزة, ولا يفرقون بين ما يكون خارقا للسنن الكونية وما ليس بخارق لها، لأنهم ينفون السببية وخواص الأشياء، ويقولون تبعا لذلك إن الخوارق جنس واحد، لا اختلاف بين آحاده بالنظر إلى حقيقة كل منها, فيلزم أن تكون معجزة النبي عندهم مساوية لما يفعله الساحر, وهذا قد سبق بيانه.
وهنا حصل لهم الإشكال إذ كيف تسلم دلالة المعجزة من المعارضة مع كون ما يساويها في الحقيقة وهو السحر يمكن أن يفعله الساحر؟
__________
(1) ... النبوات. لابن تيمية : (1/604).(1/32)
ولحل هذا الإشكال قالوا: إن ظهور الخارق على يد الساحر محال إذا ادعى النبوة، وإن كان ممكنا إذا لم يدع النبوة، لأنه يلزم من ذلك التباس المعجزة التي هي دلالة النبوة بما يناقضها مما يفعله السحرة, والله لا يمكن أن يؤيد الساحر في دعواه النبوة، فلا يمكن أن يظهر الخارق على يديه حينئذ .
وتقدم ما ذكره الباقلاني في هذا المعنى، وقوله إن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى النبوة، فإما أن ينسيه الله عمل السحر، وإما أن يعارض فينتقض بذلك ما ادعاه ويبطل.
ولهم في مستند استحالة ظهور المعجزة على يد الكاذب أقوال:
فذهب إمام المذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهورها على يديه يفضي إلى تعجيز الله عن إقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة(1).
وذهب كثير منهم إلى أن ظهور الخارق على يد الكاذب من قبيل المحال, والمحال لا تتعلق به القدرة(2).
يقول الشهرستاني: « ولو قدر الداعي كاذبا في نفسه على الله أقبح كذب وهو الرسالة عنه بما لم يرسل انقلب دليل الصدق دليلا على الكذب، وهو متناقض ... وإذا قدر كونه كاذبا انقلبت الدلالة على الصدق دلالة على الكذب وهو محال لتناقضه » (3).
__________
(1) ... انظر: شرح المقاصد. للتفتازاني: (5/18).
(2) ... المرجع السابق، ونفس الجزء والصفحة.
(3) ... نهاية الأقدام في علم الكلام. للشهرستاني: ص(422- 423).(1/33)
وفي نفس المعنى يقول إمام الحرمين الجويني: « لا تظهر المعجزة على يدي الكاذب, لأنها لو ظهرت لدلت على صدقه، وتصديق الكاذب مستحيل في قضيات العقول، فإن قيل: هل تجوزون في المقدور وقوع المعجزة على حسب دعوى الكاذب، أم تقولون ليس ذلك من المقدور؟ قلنا: ما نرتضيه في ذلك أن المعجزة يستحيل وقوعها على حسب دعوى الكاذب لأنها تتضمن تصديقا، والمستحيل خارج عن قبيل المقدورات, ووجوب اختصاص المعجزة بدعوى الصادق كوجوب اقتران الألم بالعلم به في بعض الأحوال، وجنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب » (1).
ومذهب الباقلاني في ذلك كما يلخصه التفتازاني « أن ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا, بناء على شمول قدرة الله فهو ممتنع عادة معلوم الانتفاء قطعا » (2).
والحاصل أن ظهور المعجزة على يد الكاذب ممتنع عند الأشاعرة, سواء قيل إن ذلك يستند إلى أن ظهورها على يديه يقتضي تعجيز الله تعالى عن إقامة الدليل على النبوة, أو قيل بأن امتناع ذلك يرجع إلى كونه محالا لذاته, أو قيل بالامتناع العادي.
والحقيقة أنه وإن كانت سلامة المعجزة من المعارض هي مقتضى كونها معجزة, بحيث لا يمكن تصور أن تكون المعجزة آية للنبي مع تصور إمكان معارضتها, إلا أن ما ذكره الأشاعرة من ذلك لا وجه له، بل هو أقرب إلى أن يكون قدحا في دلالة المعجزة، لا في إثبات دلالتها، وذلك أن دلالة المعجزة على النبوة متوقفة على كونها خارقة للسنن الكونية، وما هو مقدور للثقلين، وهذا أمر يعود إلى حقيقة المعجزة، وما تمتاز به، لا إلى أمور خارجة عنها.
__________
(1) ... الإرشاد. للجويني: ص(275- 276).
(2) ... شرح المقاصد. للتفتازاني: (5/18).(1/34)
والأشاعرة خالفوا ذلك من أصله، حيث سووا بين المعجزة والسحر، بالنظر إلى حقيقة كل منهما, فألجأهم ذلك إلى أن ينظروا في قيود تميز المعجزة عن السحر، فكان مما شرطوه فيها أن تسلم المعجزة من المعارضة، لأنها إذا لم تسلم لم تبق للمعجزة دلالة, وأسندوا ذلك إلى دلائل خارجة عن حقيقة المعجزة وحقيقة السحر.
ومن لم يسو بين المعجزة والسحر, وجعل الفرق بينهما معلوما، وراجعا إليهما لذاتهما, لم يحتج إلى كل هذه القيود والشروط ولا إلى شيء منها، وكما يقول الإمام ابن تيمية فإن « آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم، ليست مما تكون لغيرهم, فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء » (1).
وإذا علم أن آيات الأنبياء مختصة بهم, وأنه لا أحد يمكنه أن يأتي بمثلها، سواء كان مدعيا للنبوة أم غير مدع لها, علم أن سلامة آيات الأنبياء من المعارضة يرجع إلى هذا, وأنه لا يقدح في ذلك ما قد يقع من المعارضات التي يعلم العقلاء أنها من جنس غير جنس آيات الأنبياء, فلا تقع بها الشبهة على آيات الأنبياء وإن وجدت .
يبين هذا أنه قد حصلت معارضات كثيرة لنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأتى بعضهم بما هو عند هؤلاء الأشاعرة من الخوارق, ولم يسلبوا القدرة على فعل السحر,ولم يعارضهم أحد من جنس فعلهم ليبطل دعواهم على أصل هؤلاء, لكن علم بطلان دعواهم من طرق أخرى غير الطريق الذي سلكه الأشاعرة لتثبيت دلالة المعجزة على النبوة, منها ما يرجع إلى حقيقة المعجزة، وأنها مما لا يمكن لغير الأنبياء أن يأتوا به, ومنها ما يرجع إلى كون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء، فلا يكون بعده نبي, ومنها ما يرجع إلى حال أولئك المفترين وأن مسلكهم وطريقتهم غير مسلك الأنبياء وطريقهم، ونحو ذلك مما لا يحتاج معه إلى الجزم بأمر قد خالفه الواقع .
__________
(1) ... النبوات. لابن تيمية : (1/508).(1/35)
وفي بيان شهادة الواقع على خلاف ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة يقول الإمام ابن تيمية مخاطبا لهم: « من أين لكم ذلك,ومن أين يعلم الناس ذلك ويعلمون أن كل كاذب فلا بد أن يمنع من فعل الأمر الذي اعتاده هو وغيره قبل ذلك أو أن يعارض, والواقع خلاف ذلك,فما أكثر من ادعى النبوة أو الاستغناء عن الأنبياء, وأن طريقه فوق طريق الأنبياء, وأن الرب يخاطبه بلا رسالة, وأتى بخوارق من جنس ما تأتي السحرة والكهان, ولم يكن فيمن دعاه من يعارضه » (1).
__________
(1) ... المرجع السابق: (1/602) .(1/36)
ويذكر بعض ما حصل من ذلك في مقام آخر فيقول: « إنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة, وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة, ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان، وكانوا كذابين,فبطل قولهم إن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق, أو يقيض له من يعارض, وهذا كالأسود العنسي، الذي ادعى النبوة باليمن، في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستولى على اليمن, وكان معه شيطان سحيق ومحيق, وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان, وما عارضه أحد, وعرف كذبه بوجوه متعددة, وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله: ( ( - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - ( } ( مقدمة - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - - فهرس - - رضي الله عنه -( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - } - - رضي الله عنه - - - - ((((((- عليه السلام - - } ( - - - ((((( ( - } - - رضي الله عنه - - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - { (- صلى الله عليه وسلم - - - بسم الله الرحمن الرحيم - ( بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - ((((( ( [الشعراء:221-222]. وكذلك مسيلمة الكذاب, وكذلك الحارث الدمشقي, ومكحول الحلبي, وبابا الرومي لعنة الله عليهم, وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان » (1).
__________
(1) ... المرجع السابق: (1/496-498) .(1/37)
وختاما, فإنه يتبين من خلال دراسة موقف الأشاعرة من السببية وتعريفهم للمعجزة وشروطها عندهم, أن الخطأ المنهجي الأساس الذي وقعوا فيه أنهم لم يميزوا المعجزة بما هو المميز الحق لها, وهو اعتبار مخالفتها للسنن الكونية المطردة, وكل ما حصل منهم من اضطراب فإنه يرجع إلى هذا الخطأ, وما ذكروه من التقريرات لشروط المعجزة فإنه هو في الحقيقة محاولة لحل موقفهم من هذا الخطأ الأساس, وعلى هذا فلا يمكن أن يكون الحل لإشكالاتهم الكثيرة إلا باعتبار السببية، وفهم العلاقة الصحيحة بين الأسباب والمسببات, وأن إثبات السنن الكونية لا يناقض توحيد الله تعالى في أفعاله, كما لا يناقض دلالة المعجزة على النبوة كما ظنوا, بل إنه لا يمكن اعتبار دلالة المعجزة على النبوة على الوجه المعتبر شرعا وعقلا إلا بإثبات السببية، لا بإنكارها.
أهم نتائج البحث
إن أكثر الأشاعرة يبالغون في الاستدلال بالمعجزة على النبوة، حيث يحصرون الدلالة على النبوة في المعجزة، مع أن دلائل النبوة كثيرة، ولا يلزم من اعتبار دلالة المعجزة على النبوة، وأنها ظاهرة الدلالة في ذلك عدم اعتبار غيرها من الدلائل.
إن الأشاعرة الذين يعتبرون دلالات أخرى -غير دلالة المعجزة- لا يوفون تلك الدلالات حقها من الدلالة، فهم يستدلون بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبشارات السابقة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنهم يجعلونها في مقام التكملة والتتمة لدلالة المعجزة. مع أن هذه الدلائل ظاهرة الدلالة على النبوة، ويمكن الاستدلال بها دون أن تقيد بدلالة المعجزة، كما حصل من هرقل في سؤاله عن أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليمه بنبوته.(1/38)
إن موقف الأشاعرة من السببية، وإنكارهم لخصائص الأشياء والتلازم بين الأسباب والمسببات قد أثر على منهجهم في تقرير النبوة تأثيرًا بالغًا، لأن الاستدلال بالمعجزة إنما يتم بالنظر إلى كونها خارقة للسنة الجارية، والأشاعرة لما ألغوا هذا الأصل لم يعد لهم ما يميزون به بين المعجز وغير المعجز.
إنه تفرّع على موقف الأشاعرة من السببية عدم انضباط الخارق للعادة عندهم، لأنه لا يمكن أن يتميز الخارق إلا من جهة خرقه للسنن الكونية الجارية، وهم قد أنكروها. فبقي الخارق عندهم هو ما يخالف المعتاد، والمعتاد ليس له حقيقة ثابتة، بل هو نسبي إضافي، يمكن تغيره بحسب الأحوال والأزمنة والأمكنة.
إنه تفرّع على موقفهم من السببية أيضًا التسوية بين المعجزة والسحر، لدخولهما عندهم في جنس الخوارق، لأن المعتبر عندهم في مفهوم الخارق ما يخالف المعتاد مطلقًا. وبناء على ذلك فقد اشترطوا للتمييز بين المعجزة وغيرها -مما هو عندهم من الخوارق- شروطًا خارجة عن حقيقة المعجزة.
اشترط الأشاعرة لتمييز المعجزة التحدي بها ودعوى النبوة، وهذا مما لا دليل عليه، ثم هو مخالف للواقع، والمعلوم من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاله في الدعوة.
اشترط الأشاعرة لتمييز المعجزة أيضًا سلامتها من المعارضة، وهو أصل صحيح من حيث المبدأ، وهو متحقق للمعجزة من حيث هي خارقة للسنة الجارية، لكن الأشاعرة لما سووا بين المعجزة والسحر، وجعلوهما من جملة الخوارق، التزموا أن الساحر إذا ادعى النبوة أو عارض نبيًا فلا بدّ أن يسلب القدرة على السحر، أو لا يحصل مع سحره ما كان يحصل قبل ذلك، تحقيقًا لسلامة دليل النبوة من المعارضة. وهذا مما لا دليل عليه أيضًا، وهو مخالف للواقع، وما حصل من معارضات كثيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن علم الناس بطلان معارضتهم بالنظر إلى دلائل كثيرة ليس منها شرط عدم قدرتهم على السحر، إذ قد حصل.
التوصيات(1/39)
التأكيد على ضرورة تأصيل مفهوم الإعجاز ومجالاته، وتحديد الضوابط العلمية الدقيقة لذلك، تجنبًا لما حصل من الاضطراب الملحوظ في هذا الباب، وخصوصًا فيما يتعلّق بالإعجاز العلمي، نتيجة عدم التفريق بين النظريات العلمية القابلة للخطأ والقوانين العلمية، مما شكل خطرًا على فهم نصوص الشرعية، وتحميلها ما لا تحتمل.
دعم المراكز التي تتبنى الدراسات المتعلقة بالإعجاز، وترشيدها والمساعدة في وضع الخطط المستقبلية لها، وإنشاء مراكز أخرى وفتح قنوات مع الأقسام المتخصصة في الجامعات، والحرص على التنسيق والتشاور المستمر للنهوض بواقع الدراسات المتعلقة بالإعجاز.
تصفية الفكر الإسلامي مما شابه من آراء منحرفة، أثرت على مفهوم المعجزة والإعجاز، سواء كانت تلك الانحرافات قديمة أو حديثة، لما لتلك الانحرافات من الأثر الخطير على دلائل النبوة. وإعداد مشروع متكامل لذلك تتبناه الأقسام المتخصصة في المجالات المتعلقة بالإعجاز، سواء ما يتعلق منها بالجانب العقدي أو اللغوي أو العلمي أو النفسي وغيرها من الجوانب، والتنسيق بين تلك الجهود.
ضرورة الاهتمام الإعلامي بكل ما يتعلّق بالإعجاز، ونشر الوعي به داخل العالم الإسلامي وخارجه، عبر الإذاعات والمحطات التلفزيونية والمجلات والصحف، وإصدار دوريات متخصصة في ذلك، ودعم الموجود منها، وترجمة تلك الجهود على نطاق واسع، وإيجاد قنوات لمخاطبة ومكاتبة ما قد يرد من نقاشات حول هذه المسائل، والتنسيق مع المهتمين بهذا الشأن.
مراجع البحث
أبكار الأفكار في أصول الدين: للآمدي، تحقيق: د. أحمد المهدي، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، 1423هـ-2002م.
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الدين: لإمام الحرمين الجويني، تحقيق: د. محمد يوسف موسى، د. علي عبدالمنعم، مكتبة الخانجي، 1369هـ- 1950م.(1/40)
الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به: للقاضي أبي بكر الباقلاني، تعليق: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث.
البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات: للقاضي أبي بكر الباقلاني، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشرفية، بيروت، 1958م.
التفكير الفلسفي الإسلامي: د. سليمان دنيا، مكتبة الخانجي، ط الأولى، 1387هـ- 1967م.
تهافت التهافت: لابن رشد، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية بإشراف د. محمد عابد الجابري، ط الأولى، 1998م.
تهافت الفلاسفة: للغزالي: تحقيق: د. سليمان دينا، دار المعارف، مصر، ط السابعة.
شرح جوهرة التوحيد: للباجوري، ط 1392هـ - 1972م.
شرح العقيدة الأصفهانية: لابن تيمية، تقديم الشيخ: حسنين مخلوف، دار الكتب الحديثة.
شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي، تحقيق: د. عبدالله التركي، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثالثة، 1412هـ- 1991م.
شرح المقاصد: للتفتازاني، تحقيق: د. عبدالرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، ط الأولى، 1409هـ- 1989م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر، تعليق الشيخ: عبدالعزيز بن باز، وترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
صحيح مسلم: تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي، 1400هـ- 1980م.
العقيدة النظامية: للجويني، تحقيق: د. محمد الزبيدي، دار سبيل الرشاد، دار النفائس، ط الأولى، 1424هـ- 2003م.
الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم، دار المعرفة، بيروت، ط الثانية، 1395هـ.
لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة: للجويني، تحقيق: د. فوقية حسين، عالم الكتب، ط الثانية، 1407هـ- 1987م.
محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين: للرازي، راجعه: طه عبدالرؤوف، دار الكتاب العربي، ط الأولى، 1404هـ- 1984م.
المواقف في علم الكلام: للإيجي، عالم الكتب، بيروت.(1/41)
النبوات: لابن تيمية، تحقيق: د. عبدالعزيز الطويان، أضواء السلف، الرياض، ط الأولى، 1420هـ- 2000م.
نهاية الأقدام في علم الكلام: للشهرستاني، صححه: الفرد جيوم، ليدن.
الفهرس
المقدمة ... 1
المبحث الأول: مكانة دلالة المعجزة على النبوة عند الأشاعرة ... 3
المبحث الثاني: السببية والمعجزة عند الأشاعرة ... 8
المبحث الثالث: منهج الاستدلال بالمعجزة عند الأشاعرة ... 14
أهم نتائج البحث ... 31
التوصيات ... 33
مراجع البحث ... 34
الفهرس ... 36(1/42)