إنتفاخ الودجين
عند مناظرة علماء حاجين في الرؤية بزجاج العينين
جمعه خويدم اللجنة الرمزية لروضة المشاورة
الحاج محمد أحمد سهل بن
محفوظ الحاجيني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قرت برؤيته عيون كل ناظر وأزهق الأباطيل بلا منازع ولا مدافع ولا مناظر. والصلاة والسلام على نبيه الذي هو معدن الأسرار ومنبع الأنوار. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأفاضل الأبرار.
أما بعد فهذه رسالة قليلة تشتمل على فوائد جليلة، جمعن فيها أقوال علماء حاجين في مدافعتهم ومناظرتهم في رؤية نحو المبيع بالمنظرة المعروفة بزجاج العين، وسميتها "إنتفاخ الودجين عند مناظرة علماء حاجين في رؤية المبيع بزجاج العنين"، ورتبتها على مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة. والله أسأل وعليه أتوكل وبنبيه أتوسل أن ينفع بها وأعاد علينا من بركاتهم آمين.
المقدمة
اعلم أنه قد اختلف الأئمة الأربعة في رؤية المعقود عليه في البيع، فالثلاثة منهم على عدم اشتراطها اكتفاءً بذكر جنسه. وأما إمامنا الشافعي فله فيها قولان، أظهرهما اشتراطها حذرا من وقوع الغرر المنهي عنه، وعليه نشأت المسألة الآتية، وثار فيها اختلاف علماء حاجين، ما بين مصحح ومبطل لما قام عندهم من المدارك.
المقصد الأول: في التعريف بالروضة وحدوث المسألة
قد تأسست في حاجين منذ عام 1958 م جمعية المشاورة في المسائل الفقهية الملقبة بروضة المشاورة وتعضت هذه الجمعية بمشيخة حاجين وما حواليها وأساتذتها ومتخرجى المدارس الثانوية بها وخريجها. ولا تزال منذ تأسيسها اتخذت جلسات واجتماعات وصادقت على قرارات ومسائل فقهية مقدمة فمن بينها ما قدمه بعض الأعضاء من أن رؤية نحو المبيع بالمنظرة (زجاج العين) على الأظهر من قولي الإمام الشافعي هل تكفي أولا ؟. وعليهما فهل مختص بضعفاء البصر أو بأقويائه أو لا ؟. وهذه هي المسألة التي تشعبت فيها آرائهم كما سيأتي في المقصد الثالث.(1/1)
المقصد الثاني: في قرار الروضة وجوابها عن تلك المسألة
لم يأل الأعضاء كلهم جهودهم في تحرير المسألة وشحذوا أفكارهم في تحقيقها بالغين ما بلغوا فصادقوا بعدما جرى بينهم شيئ من المناظرات على قرار واحد، وهو أن تلك الرؤية لا تكفي مطلقا أي سواء كانت لضعفاء البصر أم لأقويائه تمسكا بنصوص معظم الفقهاء أرباب الشروح والحواشي، فمنها قول الجمال الرملي في فتاويه لما سئل هل يكفي رؤية المبيع بمرآة زجاج لضعف البصر أو نحوه أم لا ؟. إنه لا يكفي رؤية المبيع من وراء مرآة الزجاج لانتفاء تمام معرفته بها هـ. ومنها قول الشرقاوي في حاشيته على شرح التحرير: وتكفي رؤية بعض المبيع أي وإن رأى من كوة لا من وراء زجاج كالآلات المسماة بالعيون إلخ هـ. ومنها قول العلامة الشيخ محمد محفوظ الترمسي المكي في حاشيته على تكملة المنهج القويم المسماة بالمنهل العميم: قوله ولا تكفي الرؤية من وراء نحو زجاج أي فلا يصح بيع ما رؤي من وراء قارورة مثلا لانتفاء تمام المعرفة وصلاح إبقائه فيها وظاهر إطلاقه هنا أنه لا فرق بين كون الزجاجة صافية أولا، وهو واضح ويعلم منه أن الرؤية بالمنظرة لا تكفي هنا. فإن قلت إنها قد تزيد المرئي بها وضوحا فالجواب أن ذلك نادر لا يكون إلا من ضعفاء البصر كالأعمش والأمور النادرة غير معتبرة فإن العبرة هنا كما نقل عن ابن الصلاح الرؤية العرفية أي وظاهر أن المراد بها العرفية العامة لا الخاصة. ثم رأيت في التحفة أن المراد بالرؤية العرفية هي ما يظهر للناظر من غير مزيد تأمل انتهى. فالمتبادر أن مراده بالناظر الكامل في النظر لا نحو الأعمش ومن به أثر رمد ممن يحتاج إلى المنظرة تدبر هـ.
المقصد الثالث في اختلاف علماء حاجين في المسألة ومناكرتهم
على هذا القرار واحتجاجتهم عليه(1/2)
ثم لما انعقد لروضة المشاورة الإجتماع الإمتيازي (وهو أول نوع من الإجتماعات في تاريخ الروضة عقدته في صورة ممتازة حيث حضر فيه سوى الأعضاء علماء منطقة فاطي من شتى النواحى) عرضت الروضة ذلك القرار على المجلس فجعلوا يمدون أعناقهم في رده وإنكاره وأخذوا ينفخون الودجين في مناظتهم ومطارحتهم في القرار المذكور حتى صارت المسألة منحلة فوضى من عقدها وقرارها وعروتها الوثقى وعادت كما أتت قبل انعقاد القرار وقالوا بأن الرؤية بالمنظرة تكفي بالنسبة لضعفاء البصر ولم يسلموا أقوال هؤلاء الأئمة الثلاثة الرملي والشرقاوي والترمسي بل تكلفوا في الإحتجاج عليهم بالدعاوى والشبهات والتأويلات، فمن بينها ما كتبه بعض أعيانهم في رسالة قال فيها : إن الشيخ الرملي أفتى في فتاويه عند ما سئل هل يكفي رؤية المبيع بمرآة زجاج لضعف البصر أو نحوه أم لا ؟ فأجاب رحمه الله بأنه لا يكفي رؤية المبيع من وراء مرآة الزجاج لانتفاء تمام معرفته بها أي الذي يستلزم الغرر المنهي عنه في حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر" وفهم منه أنه إن لم ينتف تمام معرفته بها فكفت لأن العلة هي الجالبة للحكم، فمتى انتفت انتفى أو لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإنما أجاب رحمه الله بلا يكفي إلخ كأنه قطع بعدم الكفاية مطلقا وعلل بانتفاء تمام المعرفة لأن كل الزجاج الموجود في زمنه ينتفي به تمام المعرفة وهكذا الشرقاوي فكل أخبر بما رآه.(1/3)
ووجه ذلك أنه رحمه الله قد علم بأنا منهيون عن بيع الغرر والنهي عن الشيء أمر بضده فنحن مامورون بمعرفة المبيع بلا قيد آلة ولا بغيرها فلماذا أفتى بذلك (كأنه قطع) لوكان في زمنه زجاج متمم المعرفة كالمنظرة فلم يفت بذلك ألا لأن الزجاج في زمنه ينتفي به تمام المعرفة أي وإن كان يزيد وضوحا لضعيف البصر ولكن لا يرتقى إلى درجة الرؤية العرفية ثم إن الزجاج في هذا الزمان أنواع كثيرة منها ما يعمل بالمنظرة وتفصيلها كثير أيضا فمنها ما ينتفى به تمام المعرفة فحكمه لا يكفى الرؤية به ومنها ما لا ينتفى به تمام المعرفة فحكمه خلاف ومنها ما هو متمم المعرفة لضعيف البصر أو نحوه فحكمه واجب عليه أن يرى المبيع به لأنه مأمور بمعرفة المبيع ولا يتم المعرفة إلا به فكان من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أو وسيلة للمعرفة المأمورة فللوسائل حكم المقاصد فعلم مما ذكر أن أخذ الحكم من مقابلة ثلاثة أقوال الفقهاء غير صائب لأن الحكم الحاصل منها يخالف دليله ولا يكون في الفقه حكم إلا مأخوذا من أحد أربعة الدلائل الكتاب والسنة والإجماع والقياس ومن أجل ذلك استشكل صاحب المنهل في منهله (بعد وجود المنظرة المتممة للمعرفة) على ظاهر إطلاق المتن، لأن الحكم المأخوذ منه يخالف دليله فقال: وظاهر إطلاقه إلى آخرما فرعه ولكن أجاب إشكاله بنفسه في قوله فإن العبرة هنا كما نقل عن ابن الصلاح إلى أن قال والمتبادر أن مراده بالناظر الكامل في النظر لا نحو الأعمش إلى أن قال تدبر.(1/4)
فإن تدبر فيه إشكال وفيه جواب خفي كما قرره بعض مشايخي عن شيخه فكان حاصل الجواب أن إطلاق الزجاج مخصوص بالناظر الكامل في النظر وزيادة وضوح المنظرة مخصوص بضعفاء البصر نادر للناظر الكامل فكان خلاصة الحكم عنده: ولا تكفى الرؤية من وراء نحو زجاج مطلقا بالنسبة للناظر الكامل وإن زاده وضوح المرئي لأنه نادر والأمور النادرة غير معتبرة إلى أن قال ليس كل الحمراء لحمة ولا كل البيضاء شحمة ولكن الله يختص برحمته من يشاء إنتهى. ومنها ما قاله بعضهم من أن تعليل الشرقاوي بالإحتياط غير مسلم لأنه غير مطابق للواقع إذ المطابق له أن الإحتياط الرؤية بالمنظرة بالنسبة لضعيف البصر. ومنها ما سرده بعضهم مشافهة وغالبه مخترع من العقل لا مأخوذ بالنقل ولم يسمح بكتابته الكتاب لما فيه من الإظطراب.
المقصد الرابع: في الرد على تلك الدعاوى والشبهات
والتأويلات من طرف الروضة(1/5)
ليس بمجهول أنه لأغروا أن أهل الروضة ومن معهم لما قارعهم هؤلاء بتلك الإحتجاجات شمروا سواعدهم وسيقانهم للدفاع عن قرارهم المذكور في المقصد الثاني وجعلوا يخطفون ما ذكر من الإحتجاجات بالردود والمنوعات ما بين نقلي وعقلي وقالوا: قول صاحب الرسالة أي الذي يستلزم الغرر إلخ تفسير مصرح بأن الغرر المنهي عنه لازم وانتفاء تمام المعرفة بها ملزوم له لا يلزم منه نفي اللازم كما لا يخفى، لجواز أن يكون اللازم أعم فلا يلزم من نفي الإنتفاء نفي الغرر الذي هو مقتضى قوله فكفت فالغرر موجود في الجملة. وقوله: وإنما أجاب رحمه الله إلى قوله لأن كل الزجاج الموجود في زمنه ينتفى به تمام المعرفة دليل احتمالي محتمل لكن كما أنه يحتمل أن يكون كل الزجاج في زمنه ينتفى به تمام المعرفة كذلك يحتمل أن يكون بعضها ينتفى به تمام المعرفة وبعضها تتم به المعرفة إلا أنه أي الرملي يلحق الثاني لندرته حيث كان مقصورا على ضعيف البصر بالأول من باب الحاق النادر بالأغلب ويصير تقدير قوله رحمه الله لانتفاء تمام معرفته بها أي غالبا أو في الجملة وهذا التقدير أقرب وأسلم من تقديره بقوله أي الذي يستلزم إلخ وتقريره بقوله لأن كل الزجاج إلخ والدليل إذا تطرق إليه الإحتمال لا يتجه إليه الإستدلال. وقوله وهكذا الشرقاوي تشبيه مع الفارق لأن تعليل الشرقاوي بالإحتياط يدل لزوما بل صريحا على أن زجاج زمنه بعضها ينتفى به تمام المعرفة وبعضها لا ينتفى، فمقتضى التشبيه الذي هو دعوى أن كل زجاج في زمنه أي الشرقاوي ينتفى به تمام المعرفة غير مسلم أيضا، وذلك لأنه أي الشرقاوي لما علم أن زجاج زمنه بعضها ينتفى به التمام وبعضها لا ينتفى احتاط بالحكم بعدم الكفاية مطلقا دفعا لوقوع الغرر بكل حال، بخلاف ما إذا حكم بالكفاية في بعض وبعدمها في بعض فإنه لا يندفع به وقوع الغرر بكل حال بل قد وقد.(1/6)
وهذا معنى تعليله بالإحتياط الذي هو طلب الأحظ والأخذ بأوثق الوجوه لا ما هو زعمه من أن الإحتياط هو الإحتراز عن الغرر حيث قال في رد تعليل الشرقاوي بالإحتياط: أن المنظرة يحترز بها عن الغرر وقوله والنهي عن الشيئ إلى قوله فنحن مأمورون بمعرفة المبيع بلا قيد آلة ولا بغيرها، قد يقال فيه إن المعرفة حقيقة فيما ليس بآلة وهو الذي انصرف إليه لفظ المعرفة حيث أطلق لأنه المتبادر، والمتبادر علامة الحقيقة ومجاز فيما عداه والحقيقة أولى بالعمل بها ولا يصار إلى المجاز إلا لدليل ولا دليل هنا متجه على أن الأصح من أقوال الأصوليين أن النهي عن الشيئ ليس بأمر بضده ولا يستلزمه. وقوله ومنها ما هو متمم المعرفة إلى قوله فكان من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيه أنا لا نسلم انحصار تمام المعرفة في الزجاج لأن تمام المعرفة غير مقصور على الزجاج بل لو ثبت أن الزجاج يتم به تمام المعرفة فهو فرد من أفراد ما به التمام فإنه قد حصل به التمام بغير الزجاج بأن يوكل في المعرفة مثلا وكيلا كاملا في النظر فلا يتوقف التمام حينئذ على الزجاج فقط فلا يصح الحصر المذكور. وعلى تقدير تسليمه لا نسلم صحته أيضا لأن ما لا يتم الواجب إلا به مشروط بكونه مقدورا للمكلف حسا وشرعا واستعمال المنظرة في معرفة المبيع وإن كان مقدورا حسا لكنه غير مقدور شرعا لما تقدم من أن الغرر موجود في الجملة حتى كان العلماء أرباب الشروح والحواشى يحكمون بعدم كفاية الرؤية من وراء نحو زجاج على سبيل الإطلاق لا على التقييد والتفصيل، وأيضا المراد بالمعرفة المأمور بها كما قال المعرفة الصحيحة المعتبرة كما هو ظاهر، إذ الفاسد غير مأمور به فالأمر حينئذ لا يتناول من لا معرفة له أصلاً ولا من له معرفة غير معتبرة كالضعفاء بدليل أن الأعمى لا يؤمر بالمعرفة بل حقه أن يوكل فيما اشترطت فيه المعرفة.(1/7)
ومثله ضعيف البصر إذ وجود معرفته الغير المعتبرة كالعدم فكان كالأعمى فلا يتناوله الأمر بالمعرفة فلا تجب عليه.
ومعلوم أن وجوب ما لايتم الواجب إلا به تابع لوجوب ذلك الواجب، وإذا سقط وجوب المتبوع سقط وجوب التابع كما هو مقتضى قاعدة "التابع ينسحب عليه حكم المتبوع". وقوله فعلم مما ذكر أن أخذ الحكم من مقابلة ثلاثة أقوال الفقهاء غير صائب لأن الحكم إلخ تغليط وتخطئة لأقوالهم لأن غير صائبية أخذ الحكم منها يستلزم غير صائبية المأخوذ منها التي هي أقوالهم فحاشا وكلا، بل يتعين للمقلد مثلنا الأخذ بأقوالهم، فقد قال في الفوائد المكية في بيان مراتب العلماء: الخامسة نظار في ترجيح ما اختلف فيه الشيخان كالأسنوي وأضرابه. السادسة حملة فقه إلى أن قال وقد نصوا على أن المراتب الأربعة الأُول يجوز تقليدهم، وأما الأخيرتان (الخامسة والسادسة) فالإجماع الفعلي من زمنهم إلى الآن الأخذ بقولهم وترجيحاتهم في المنقول حسب المعروف في كتبهم هـ. فالقطع بغير الصائب فيما ذكر خرق لهذا الإجماع. وقال في البغية فإن كتب الأئمة الأربعة ومقلديهم جل مأخذها من الكتاب والسنة هـ. فدعوى أن الحاصل منها يخالف دليله دعوى بلا بينة بل بشبهة. وقوله ولا يكون في الفقه حكم إلا مأخوذا إلخ مسلم لكن في حق المجتهد المطلق، وأما في حق المقلد فلا، بل الدليل في حقه قول المجتهدين فهو الذي يتعين عليه أخذه. ومعلوم لدى أهل السنة والجماعة أنه لن يوجد الآن مجتهد بأنواعه لانقضاء القدرة على الإجتهاد كائنة ما كانت وبالغة ما بلغت بل كل مقلد صرف. وقوله من أجل ذلك استشكل إلى قوله فقال وظاهر إطلاقه إلخ يقال فيه من أين وجه الإستشكال ؟.(1/8)
فإن كان من قوله وظاهر إطلاقه إلخ فغير صحيح إذ ذكر الظهور لا يشعر بالإستشكال فضلا عن أن يدل عليه بالصراحة بل إنما هو دليل في اصطلاح الفقهاء على أن المأتي بذكر الظهور بحث وتفقه من عند القائل لا نقل من غيره وهو نوع من التوجيهات، فقد قال في الفوائد المكية: إذا قالوا والذي يظهر مثلا أي بذكر الظهور فهو بحث لهم هـ. كما قلت وأنا جامع هذه الرسالة في منظومتي الثمرات الحاجينية:
وظاهر كذا أو الذي ظهر # كذا فبحث القائل الذي نظر.(1/9)
وإن كان من قوله فإن قلت إنها قد تزيد إلخ فذاك، ومع ذلك هو إشارة إلى الإستشكال الضعيف كما قال في الفوائد: وإذا كان ضعيفا يقال فإن قلت وجوابه قلنا أو قلت هـ. فالجواب حينئذ قوي. وقوله ولكن أجاب إلى قوله فإن العبرة إلخ فيه أنه لما قدر الإستشكال في قوله وظاهر إطلاقه إلخ (وقد مر أن هذا التقدير غير صحيح) قدر جوابه في قوله فإن العبرة إلخ لكن تقدير الجواب فيه لا يساعده السياق الذي هو سابق الكلام ولاحقه، والذي يساعده السياق أن الفاء في قوله فإن العبرة تعليلية لما قبله من قوله والأمور النادرة غير معتبرة أي لأن العبرة هنا إلخ. وقولهفإن تدبر فيه إشكال إلخ مخالف لما في الإصطلاح، لأن الأمر بالتدبر كما في الفوائد المكية إن كان بفاء يكون بمعنى التحقيق وإن كان بدونها فللسؤال لكن السؤال بنحو تدبر الذي ختم به المبحث لا يلزم منه الإستشكال الذي هو نوع من الإعتراض بل إنما قصد به تزكية النفس من دعوى الحقية في بحثه تأدبا، إذ الحق كله لله تعالى بل ربما يقصد به تقرير بحثه وتحقيقه، وذلك لأن الشخص لا يعترض على نفسه ما بحثه هو واعتقده إلا على سبيل الفرض. قوله فكان خلاصة الحكم عنده ولا تكفي إلخ هذه الخلاصة لا يساعدها السياق أيضا كما لا يخفى بأدنى تأمل، إذ السياق يقتضى أن الرؤية بالمنظرة لا تكفى مطلقا، سواء كان لضعيف البصر أم لقويّه وسواء زاد بها وضوح المرئي أم لا، إذ ليس المراد أن الزيادة نادرة لكامل النظر فلا تكفى رؤيته بها غير نادرة للضعفاء فتكفى رؤيتهم بها للقطع بازدياد رؤيتهم بها وضوحا بل المراد أن الزيادة نادرة حيث كانت مقصورة على الضعفاء فلا عبرة بها لا في الضعفاء ولا في الأقوياء، لأنها وإن كانت مقطوعة في الضعفاء نادرة بالنسبة لغيرهم فلا عبرة فيهم أيضا إذ الأمور النادرة غير معتبرة لأن العبرة هنا كما نقل إلى آخر قول الترمسي.(1/10)
وقوله في أوائل رسالته لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما غير مسلم لأن هذه القائدة مشروطة بواحدية العلة، وإلا فلا تصح إذ لا يلزم من انتفاء علة انتفاء حكم ثبت بعلل كوجوب القتل فإنه معلل بردة وترك صلاة وقتل محرم فلا يلزم من انتفاء واحدة من الثلاث انتفاء الوجوب. وهذا أعنى عدم كفاية الرؤية بها فيه علتان انتفاء تمام المعرفة والإحتياط فلا يلزم من انتفاء الأولى انتفاء عدم الكفاية لثبوته بالإحتياط الذي هو أعم منها إذ الإحتياط شامل لما فيه تمام المعرفة وما لا إلا أنه مما يخفى على العوام ويقصر فهمهم عنه ويكفى في خفائه كونه أعم لأن الأعم بما فيه من الإحتمالات خفي بالنسبة للخاص لعدم الإحتمالات فيه. فمن ثم يحتمل أن للرملي هذه العلة (الإحتياط) أيضا غير أنه لم يبينها لخفائها بل آثر بالعلة الأولى الخاصة لوضوحها، وذلك لأن المفتي لايجوز له بيان مدرك الحكم الذي أفتى به لمستفتيه إذا كان خفيا صونا لنفسه عن التعب بخلاف ما إذا كان جليا فإنه يندب له ذكره تحصيلا للإرشاد. فإن قيل إنما للرملي علة واحدة وهي التي ذكرها وإنما الإحتياط للشرقاوي فالجواب عنه ما مر آنفا من الإحتمال مع أن ذكر شيئ لا يستلزم نفي غيره من الذاكر كما أن شخصا إذا قال عندى قلم لا يستلزم نفي غير القلم عنه من كتاب ومحبرة وغيرهما من سائر ما يملكه، ويمكن أن يجاب أيضا بأن العلتين لا تتنافيان بل هما متفقتان على إثبات حكم واحد فتعتبران جميعا لجواز أن يكون للحكم علتان فأكثر.(1/11)
ولا فرق بين صدورهما من شخص واحد وصدور أحدهما من شخص والأخرى من آخر، لأنهما وإن اختلفا في العلة متفقان في حكم واحد وأصل واحد ومذهب واحد ولأن الحكم بعد ثبوته لا فرق فيه بين أن يكون معللا وأن لا، إذ الحكم في نفسه ثابت، علل أولم يعلل، والمثبت هو الله تعالى وإنما العلة علامة لثبوته استنبطها الفقهاء، فلا يلزم من انتفاء علامة انتفاء الحكم المعلم ثبوته بتلك العلة وبغيرها على أن الأوصاف المستنبطة كما هنا الصالح كل منها للعلية يجوز أن يكون مجموعها علة عند الشارع كما في شرح اللب.(1/12)
وأما قول بعضهم أن تعليل الشرقاوي بالإحتياط غير مطابق للواقع إلخ فسهو من قائله وغفلة عن معنى الإحتياط وقد مر. وأما قول صاحب الرسالة في بعض مناظراته أيضا: يفهم من قول الرملي لانتفاء تمام معرفته بها أنه إن لم ينتف التمام كفت فغير مسلم لأن الأخذ بالمفهوم والعمل به من شروطه أن لايظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم المسكوت، فإذا ظهرت انتفى العمل بالمفهوم كأن خرج المنطوق لجواب سؤال، ومعلوم أن ذلك المنطوق وهو قول الرملي لانتفاء تمام معرفته بها خرج لجواب سؤال سائل استفتى منه بقوله هل يكفى رؤية إلخ. ثم من القواعد الفقهية أن السؤال معاد في الجواب المطلق كما هنا عموما وخصوصا وقد كان معلوما أن ذلك السؤال عام في ضعيف البصر وغيره فكذلك الجواب عام في ذلك جريا على هذه القاعدة بل يعلم ضرورة أن تعليله بتلك العلة يقتضى عدم الفرق بين ضعيف البصر وغيره في انتفاء تمام المعرفة إذ لولم ينتف في حق الضعيف مثلا لما أجاب بهذا الجواب ولَما علله بهذه العلة بل لابد له أي الرملي من تفصيل، ولكنه لم يفصل.(1/13)
وأيضا فتوى الرملي هذه قد أقرها معاصروه ومماثلوه وسكتوا عليها فإن ابن حجر مثلا مع أنه لم يزل يخالفه في معظم فروع الفقه هو ساكت عليها ولو فرض أن له وجها مخالفا لذكر أو فصل، لكنه لم يذكر ولم يفصل وكذلك من بعده من أصحاب المتون والشروح والحواشي كالشيخ المجدد الشرقاوي والعلامة شيخ مشيخة جاوه (إندونيسيا) الترمسي فإنهما على أكبر الظن بل على يقين قد اطلعا على تلك الفتوى ومع ذلك هما ساكتان عليها ولم يذكرا لها تفصيلا فضلا عن الإعتراض بل جزما بها مع زيادة تحقيق قامت عندهما ولو فرض أن الأخذ بالمفهوم له مدخل في تلك العلة لخرجا عليها تفصيلا أو وجها على حسب ما يقتضيه المفهوم ولكنهما لم يخرجا شيئا بل أيداها وأظهرا لها مدارك بحسب ما أدى إليه علمهما الصائب وفهمهما الثاقب فلله درهما وكفى بهما اعتمادا وإلى كلامهما استنادا ولمن بعدهما فيهما أسوة حسنة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب هـ
خاتمة
نسأل الله حسنها. فيما اتفق عليه الفريقان وصادقوا عليه من البلاغ النهائي في موعد ذكرى حول ولي الله الشيخ أحمد متمكن الحاجيني عقدت الروضة اجتماعها الإمتيازي في جامع حاجين، شهد فيه جم غفير من المدعوين وغيرهم فبفضل الله وكرامة وليه الذي والاه قد اتفق الفريقان في هذا الإجتماع المبارك بعد ما جرى بينهما مناظرات في نحو خمس جلسات على أن المسألة خلافية بين الوجهين كفاية الرؤية بالمنظرة لضعيف البصر وغيره وعدمها كذلك ومما تمسك به الأول ما نص عليه في شرح عمدة السالك: وقد يقال بصحة البيع بشيء يراه بمرآة زجاج لضعف البصر ونحوه إلخ وقد مر كثيرا ما تمسك به الثاني مستوفى فالحمد لله وكفى.
تذنيب
ذكر في الفوائد المكية أن قولهم قد يقال كذا من صيغ التمريض وهو إنما يقال لما فيه ضعف شديد، فبذلك وبما صرح به الأئمة الثلاثة المذكورون يعلم أن الراجح وعليه الجمهور الثاني وهو عدم الكفاية وأن ما عليه صاحب شرح العمدة ضعيف شديد.(1/14)
هذا ما تيسر للفقير جمعه ورجي له وللأمثاله نفعه فالحمد لله على كل حال. والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى جميع الصحب والآل من هذه الدار إلى يوم لا بيع فيه ولا خلال. جمعه وكتبه خويدم الإدارةالرمزية لروضة المشاورة أحمد سهل بن أبي هاشم محمد محفوظ سلام الحاجيني بتمامه في ليلة الخميس الخامس والعشرينشعبان سنة 1381 هجرية(1/15)