سلسلة أعمال القلوب
الورع
للشيخ : خالد بن عثمان السبت
الورع
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين أما بعد ،،
فحديثنا في هذا اليوم أيها الإخوان عن الورع و هو موضوع جدير بالعناية و الاهتمام لأن الورع قد ترحل في هذا الزمان من قلوب الكثيرين.. نحن بحاجة إلى الورع في تعاملنا مع أنفسنا و في تعاملنا مع الله جل جلاله و في تعاملنا مع الآخرين سواء ذلك في الأمور العبادية أو كان في الأمور المالية أو كان في غير ذلك من شؤوننا، أيها الإخوان لقد صار المتورع في هذا العصر عند كثير من الناس متشدداً و متكلفاً و لربما نظروا إليه على أنه ولج أبواباً من التنطع و الغلو في الدين ليس له أن يلج فيها و لربما ظن ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم أو التدين و ما ذلك إلا لقلة بصرهم في هذا الباب و لقلة أيضاً نصيبهم من العمل فيه
حديثنا عن هذا الموضوع ينتظم سبع عشرة مسألة ..
الأولى: في معنى الورع و حقيقته
الثانية: في الفرق بينه و بين الزهد
و الثالثة: الورع هل هو أمر سلبي أم أنه عمل ايجابي في الواقع
الرابعة: في بيان منزلة الورع
الخامسة: الورع في الكتاب و السنة
السادسة: الأمور التي عليها مدار الورع أي ما يخله الورع و يتعلق به
السابعة: ما لا مدخل للورع فيه
الثامنة: في مراتب الورع
التاسعة: في مراتب الناس في الورع و مقاماتهم
العاشرة: في فقه الورع
و الحادية عشرة: في الورع الفاسد و توصيفه
و الثانية عشرة: كيف نربي أنفسنا على الورع و كيف نصل إليه
و الثالثة عشرة: في علامة أهل الورع و سمتهم
و الرابعة عشرة: في ثمراته و آثاره السلوكية
و الخامسة عشرة: في مفسداته و الأمور المنافية له
و السادسة عشرة: في أبواب الورع
و السابعة عشرة و الأخيرة: السلف و الورع(1/1)
الورع أيها الإخوان و هذه هي القضية الأولى و هي بيان معنى الورع و حقيقته.. الورع هو الكف و الانقباض في أصل معناه اللغوي و يمكن أن يقال إنه الكف عما لا ينبغي و نحن نقول تورع فلان عن كذا أي تحرج عنه و أما في معناه الشرعي فيمكن أن يقال هو ترك ما يريبك و نفي ما يعيبك و الأخذ بالأوثق و حمل النفس على الأحوط، و يقول يونس ابن عبيد' هو الخروج من كل شبهة و محاسبة النفس في كل طرفة عين' و بعضهم يقول'هو اجتناب الشبهات و مراقبة الخطرات' و يقول إبراهيم ابن أدهم ' هو ترك كل شبهة و ترك ما لا يعنيك' و يقول بعضهم هو 'التوقي المستقصى على حذر و التحرج على التعظيم' و يقول يحيى ابن معاذ ' هو الوقوف على حد العلم من غير تأويل' أي من غير أن تتأول لنفسك فتبحث عن المخارج و يقول 'الورع على وجهين ورع في الظاهر و ورع في الباطن فورع الظاهر أن لا تتحرك إلا لله و أما ورع الباطن فهو أن لا تشغل قلبك بغير الله عز و جل' و أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد عبر عنه بقوله' إنه الإمساك عما قد يضر فتدخل فيه المحرمات و الشبهات لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه' و الورع المشهور عنده رحمه الله هو الورع عما قد تُخاف عاقبته و هو ما يُعلم تحريمه و ما يشك في تحريمه أي أنه في موضع الاشتباه.. مع ضابط في غاية الأهمية نبه عليه رحمه الله و هو أن لا يكون في تركه مفسدة أعظم من فعله و سيأتي بيان هذا الضابط و الخلاصة يمكن أن نقول إن معنى الورع هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى فكل ما يخشى ضرره في الآخرة فإن تركه يكون مطلوباً على جهة التورع و هذا الذي يُخشى ضرره في الآخرة قد يكون شيئاً محرماً ظاهر التحريم و قد يكون شيئاً مشتبهاً و قد يكون من باب التوسع في المباح -كما سيأتي- الذي يجر صاحبه للوقوع في المكروه(1/2)
أو الوقوع في الشيء المحرم
ثانياً: ما الفرق بين الورع و بين الزهد .. كثيراً ما يشتبه و يلتبس الورع بالزهد و يمكن أن أذكر فرقين بينهما أما الأول فإن الزهد المشروع هو ترك الرغبة عما لا ينفع في الآخرة فيعرض عنه الإنسان لأنه لا ينفعه في الآخرة و المقصود به فضول المباح الذي لا يستعان به على طاعة الله عز و جل و أما الورع المشروع فهو ترك ما قد يضر في الآخرة و هو ترك المحرمات و الشبهات و المباحات التي يُخشى أن تجر صاحبها إلى المكروهات أو المحرمات. هذا فرق تركه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى و قد قال تلميذه ابن القيم في التفريق بينهما بأن الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة و الورع هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة و ذكر كلاماً نحو كلام شيخه رحمهما الله تعالى و بهذا الاعتبار يمكن أن نقول بأن الورع كما قال بعض أهل العلم هو أول الزهد كما أن القناعة هي أول الرضا فأول الزهد هو الورع و عليه يقال إن المرء قد يكون ورعاً و لا يكون زاهداً و أما الزاهد فلابد فيه أن يكون ورعاً و ذلك أن الزهد أبلغ من الورع لأن الزاهد يترك المحرمات و يترك المكروهات و المشتبهات كما أنه يترك المباحات التي يُخشى أن تجر إلى المحرمات كما أنه يترك التوسع في المباحات فيكتفي بالقليل من الدنيا و لا يتعلق بها و لا يتوسع في حطامها فمن ترك هذه المباحات و تقلل منها فهو زاهد فهذا من باب أولى يكون قد ترك المكروهات و المشتبهات فضلاً عن المحرمات فما ترك المباح - أعني التوسع فيه- إلا و قد ترك الحرام كما ترك المشتبه و المكروه ، هذا هو الفرق الأول ..(1/3)
و الفرق الثاني هو أن الزهد من باب الترك المجرد و عدم الرغبة فقط لكن ليس له موقف يوجب النفرة من هذا المزهود فيه فهو لا يتوسع في المباحات يأخذ ما يكفيه من الدنيا دون توسع و دون تعلق في حطامها لكن دون نفرة و معاداة لها و أما الورع فإنه يعني الترك كما أنه يعني المنافرة لأن هذا الأمر قد يضره في الآخرة فهو يجافيه و ينفر منه غاية النفور فصار الورع أبلغ من هذه الجهة من الزهد، الزهد ترك مجرد و الورع ترك مع النفور..هذان فرقان بين الزهد و الورع .
ثالثاً: هل الورع أمر سلبي أو أنه أمر ايجابي لعله يتبين من خلال ما سبق من قولنا إن الورع يوجب نفرة فهذه النفرة هي عمل قلبي أي أن الورع قلبه ينفر و ينقبض من هذا الشيء المشتبه أو من هذا الشيء المحرم و لا يحبه بل يكرهه كراهة تليق بمثله إن كان محرماً فإنه يكرهه كراهة المحرم و إن كان مكروهاً فإنه يكرهه كراهة المكروه و إن كان مشتبهاً كرهه الكراهة اللائقة بذلك و لهذا نجد أن بعض العلماء رحمهم الله يقول هذا أكرهه.. أكره كذا و ذلك على سبيل التورع من هذا الشيء إذن الورع ليس أمراً سلبياً و هو أن يترك الشيء و يتجنبه و إنما هو أمر ايجابي يوجب نفرة في القلب فضلاً عن مجانبة لهذا الأمر الذي يتورع منه الإنسان و قد صرح بهذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه إذن الورع هو اجتناب الفعل و اتقائه و الكف و الإمساك عنه و الحذر منه و هذا يرجع إلى كراهة هذا الشيء و النفرة منه و البغض له، هذا أمر وجودي و ليس أمراً سلبياً فحسب فلا يسمى الشخص ورعاً و لا متورعاً و لا متقياً إلا إذا وجد منه الامتناع و الإمساك الذي هو ضد المنهي عنه إضافة إلى نفرة القلب من هذا الشيء(1/4)
رابعاً: ما هي منزلة الورع من الدين .. صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:( فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة و خير دينكم الورع ) هذا حديث أخرجه البزّار و الطبراني في الأوسط و الحاكم في المستدرك عن حذيفة ابن اليمام رضي الله عنه كما أخرجه الحاكم من حديث سعد ابن أبي وقاص و قد صححه الشيخ ناصر الألباني رحمه الله (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة) يعني أن الاشتغال بالعلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات قال (و خير دينكم الورع ) فهو من أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله جل جلاله و قد قال صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه (يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس) و هذا أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح و جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت 'إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة' و هو الورع قال الحسن البصري في قول الله تعالى ( يؤتي الحكمة من يشاء ) قال الورع . ففسر الحكمة بالورع و الله يقول (و من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) و يقول - أعني الحسن- 'ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه' و يقول 'أفضل العلم الورع و التوكل' و أما طاووس ابن كيسان فكان يقول' مثل الإسلام كمثل شجرة فأصلها الشهادة إلى أن قال و ثمرها الورع لا خير في شجرة لا ثمر لها و لا خير في إنسان لا ورع له' و يقول خالد ابن معدان 'من لم يكن له حلم يضبط به جهله و ورع يحجزه عما حرم الله عليه و حسن صحابة - أي الصحبة - عمن يصحبه فلا حاجة لله فيه' و هذا جميعاً يدل على أن الورع له شأن و منزلة عند الله تبارك و تعالى و سيتضح هذا المعنى اتضاحاً أكثر عند الكلام على ثمرات الورع و آثاره.(1/5)
و أما خامساً: فالورع في الكتاب و السنة يقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المشهور الذي رواه النعمان ابن بشير رضي الله تعالى عنه ( الحلال بين و الحرام بين و بينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه و عرضه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب ) و هو حديث مخرج في الصحيحين فالنبي صلى الله عليه و سلم جعل القسمة ثلاثية الأول و هو الحلال البين الذي لا خفاء فيه, و الثاني و هو الحرام البين الذي لا شبهة فيه, و الثالث هو المشتبه الذي يخفى على كثير من الناس فيترددون في حكمه و هذا معرفته و معرفة الموقف منه هو الفقه و لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ' ليس الفقيه هو الذي يعرف الحلال من الحرام إنما الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين و شر الشرين' الفقيه هو الذي يعرف الأمور التي تدور بين هذا و بين هذا فلها شابهة من الحلال و لها شابهة من الحرام فمن كان حاذقاً في الفقه فإنه يوفق بإذن الله عز و جل إلى الوقوف على أحكامها و حقيقة الورع إنما هو مجانبة القسم الذي هو من قبيل الحرام و مجانبة القسم الآخر الذي هو من قبيل المشتبهات و هذا المشتبه كالسياج على الحرام و الحرام من وراءه و البعد عن هذا المشتبه طريق للخلاص من الحرام و الوقوع في هذه المشتبهات و الخوض فيها و اقتحامها سبب أكيد في الوقوع في المحرم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه أو يوشك أن يواقعه و قد أوضحت هذا المعنى إحدى روايات البخاري لهذا الحديث و فيها ' فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك و من اجترأ على ما يُشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان و المعاصي حمى الله و من يُراتع حول(1/6)
الحمى يوشك أن يواقعه' و مما يؤكد هذا المعنى أيها الإخوة و الأخوات قول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الآخر المشهور:( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) و قد أخرجه الترمذي و النسائي و الدارمي و هو حديث صحيح و قد سأل النواس ابن سمعان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البر و الإثم فقال:( البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك ) أي أنه أورث تردداً و ريبة و انقباضاً ( الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس ) فلو كان حلالاً صرفاً فإنه لا يحيك و لا يتلجلج فيه و لا يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره و هو يقارف ذلك و يواقعه إنما يتردد في النفس ما كان مشتبهاً و الذي يكره الإنسان أن يطلع الناس عليه و هو مقارِف له هو ما كان من الأمور المشتبهة التي تردد فيها الأنظار هل هي حلال أو حرام فينبغي أن تُزم النفوس بهذا الزمام و أن تُضبط بهذا الضابط ما حاك في النفس فهو من الإثم كما صرح النبي صلى الله عليه و سلم فالورع اجتنابه و تركه و التباعد عنه و هذان الحديثان يجعلان من فطرة الإنسان في معرفة الخير و الشر مقياساً عندما يكون الإنسان في دائرة الاشتباه.. يكون ذلك مقياساً و ميزاناً ليتجنب الإنسان مواطن الخطر و مواقع حدود الله عز و جل فهذا له علامتان أخذاً من هذين الحديثين الأول عدم الارتياح النفسي، الانقباض، التردد الثاني كراهية اطلاع الناس فيخفي ذلك و يتحاشى أنظارهم فلا يفعل ذلك أمامهم أو حيث يطلعون عليه و قد جاء عن وابصة ابن معبد رضي الله تعالى عنه أنه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأسأله عن البر و الإثم فقال: جئت تسأل عن البر و الإثم فقلت: و الذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيرهم - يعني ما جئت إلا لهذا- فقال: ( البر ما انشرح له صدرك و الإثم ما حاك في صدرك و إن أفتاك عنه الناس ) أخرجه أحمد و اللفظ له و هو حديث صحيح و من صححه من المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه(1/7)
الله البر ما انشرح له صدرك لا تجد غضاضة فيه و لا انقباضاً و لا تردداً و لا تحرجاً و الإثم ما حاك في صدرك و إن أفتاك عنه الناس، كثير من العوام يبحثون عن فتوى تبح لهم هذا المكسب أو هذه المساهمة أو هذا العمل أو هذا المشروع أو هذا النوع من التجارة يبحثون عن فتوى ثم يقفون عند ذلك و يقولون قد أفتانا به فلان و هذا في الواقع لا يبيح محرماً و لا يحرم حلالاً فإن الحلال ما أحله الله و الحرام ما حرمه الله و الفُتية لا تقلب الحكم في نفس الأمر فتنبهوا لهذا الفُتية أيها الإخوة و الأخوات لا تغير حقيقة الأمر مهما أفتاك الناس فإن الحكم عند الله ثابت لا تغيره فتيا المفتين فيجب على العبد أن يحتاط لدينه و أن يبحث عند السؤال عن الأعلم و الأورع.. من كان متصفاً بالعلم و الدين و الورع من المفتين لا أنه يبحث في القضايا المالية عمن يرخص له و في قضايا الشهوات الأخرى عمن يبيح له ما تشتهيه نفسه من المعازف أو من التبرج الذي يتساهل فيه من يتساهل من المفتين فتجد بعض النساء فتوى تبيح لها لوناً من ألوانه فالحكم لا يتغير فمتى يعرف الناس؟؟ متى يعرف عامة المسلمين هذه الحقيقة؟! فإذن مهما وجدت من الفتية فإن ذلك لا يقلب حقيقة الحكم و لا تبرأ بذلك إلا إذا بذلت الوسع و تحريت و سألت من تعتقد فيه الديانة مع توفر العلم و المكنة من الفُتية بشرطها أما أن يسأل الإنسان كيفما اتفق و يبحث عمن يحلل له ذلك إن كان في باب الطلاق أو في باب البيع و المكاسب و الشراء أو غير ذلك مما يتعاطاه الإنسان فإن هذا أمر لا يخرجه من العهدة و لا يسلم معه من التبعة و أما طائفة أخرى من العامة فهؤلاء لهم شأن أخر هؤلاء يتورعون تورعاً فاسداً يتورعون من السؤال لئلا يتورطوا بجواب يوقعهم في الحرج فيقول لا تسأل.. لا تبحث.. لا تراجع.. لا تنقّر فتسمع ما تكره يريدون من الإنسان أن ينساق مع عماه و مع جهله و يظنون بهذا أنهم يسلمون من التبعة و هم لا يسلمون(1/8)
بذلك بحال من الأحوال يجب على الإنسان أن يسأل و أن يبحث عن العلم في مظانه فالنبي صلى الله عليه و سلم يقول:(البر ما انشرح له صدرك و الإثم ما حاك في صدرك و إن أفتاك عنه الناس) وهذا عطية السعدي رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً لما به البأس) أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد الحسن (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً لما به البأس) وجاء في حديث أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم في صحيحه (أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال ( يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) فأمرهم بأكل الطيبات ثم ذكر الرجل يطيل السفر
أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له هؤلاء الذين لا يأكلون الطيبات الذين لا يتورعون في المكاسب الذين يعدون الحلال ما حل في اليد يأخذون هذا الحطام كيف ما اتفق من أي وجه جاء دون أن يفتشوا وينظروا في وجوهه مكاسبهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) وجاء في حديث آخر أخرجه الإمام البخاري في صحيحة ( ليأتين على الناس زمان لا يبال المرء بم أخذ المال أمن حلال أم من حرام) وزماننا هذا شاهد بما أخبر النبي صلى الله علي وسلم وهذا من دلال نبوته(1/9)
أما سادساً : فالأمر التي يدور عليها الورع وأعني بذلك ما للورع فيه مدخل صحيح أي أن من توقاه فإنه قد أتى باباً من أبواب الورع المشروع فأقول ذلك يدور على أربعة أمور لا خامس لها.. الأمور التي يدخلها الورع الصحيح الورع الذي شرعه الله عز و جل و أحبه .
أولها ترك المحرمات و هذا أمر لا يحتاج إلى شرح و بيان ترك الحرام من الورع يجب على كل إنسان أن يتقي ما حرم الله عز و جل
و أما الثاني فهو ترك المكروهات, معلوم أن المكروه ما نهى الشارع عنه نهياً غير جازم أي أن الإنسان لا يعقب على فعله لكنه يثاب إذا تركه تورعاً لأن الله لم يُسَوِّ بينه و بين المباح فالمكروه مرتبة بين الحرام و بين المباح و هذه المرتبة أعلى من المرتبة التي قبلها يعني من توقى الحرام فقط و فعل الواجبات و تورع من تركها فهذا قد فعل الواجب و المرتبة التي فوقه هي أن يتوقى المكروهات مع توقي المحرمات فهذه درجة أعلى من درجات العبودية و مراتبها
المرتبة الثالثة و هي أعلى من هذين و هو أن يفعل ما يُشك في وجوبه و أن يترك ما يُشك في تحريمه فهذا لم يثبت الدليل فيه أنه من المكروهات و لكنه تردد فيه.. حصل عنده فيه شيء من التردد.. انقبضت نفسه منه.. حاك في نفسه فإن الورع أن يُجانبه و يتباعد عنه و هذه المرتبة الثالثة و هي أعلى.
و المرتبة الأعلى من ذلك و هي رأس هذا السلم أن يترك فضول المباح متى؟؟ إذا كانت تجره إلى المحرمات بهذا القيد و الضابط و هنا أذكر بما أشرت إليه من الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ما يُترك و ما يُفعل فالواجبات يجب أن تُفعل و المحرمات يجب أن تُترك و هذا ورع واجب و أما الورع المستحب فهو على ثلاث مراتب ( ترك المكروهات , فعل المستحبات ) هذه مرتبة
و مرتبة فوقها (أن تفعل ما يُشك في وجوبه احتياطاً و أن تترك ما يُشك في تحريمه احتياطاً و تورعاً) فهذا ورع مستحب(1/10)
و الثالثة ( أن تترك فضول المباح التي يُخشى أن تجر إلى الحرام ) و ذلك جميعاً مضبوط بذلك الضابط و هو أن لا يكون في الفعل أو الترك مفسدة أعظم أو تفويت مصلحة أكبر و سيأتي بيان ذلك و قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه و سلم يقول 'هو اتقاء ما يُخاف أن يكون سبباً للذم و العذاب عند عدم المعارض الراجح' بهذا القيد.. و يدخل في ذلك أداء الواجبات و المشتبهات التي تشبه الواجب و ترك المحرمات و المشتبهات التي تشبه الحرام و إن أدخلت فيها المكروهات قلت: نخاف أن تكون سبباً للنقص و العذاب و أما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم و العذاب و هو فعل الواجب و ترك المحرم و الفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؟ و ما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه؟ إذن صار الورع عندنا من حيث الوجوب ينقسم إلى قسمين ورع واجب (و هو ترك الحرام و فعل الواجبات) و ورع مستحب (و هو ثلاث درجات و مراتب) و قد أوضح هذا شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر حيث قال في الورع عما قد تُخاف عاقبته و هو ما يُعلم تحريمه و ما يُشك في تحريمه و ليس في تركه مفسدة أعظم من فعله يقول 'و كذلك الاحتياط بفعل ما يُشك في وجوبه لكن على هذا الوجه' و قال في موضع آخر 'أما الورع فإنه الإمساك عما قد يضر فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه ' و قال في موضع آخر 'و إنما ذلك عائد إلى ترك المحرمات و المكروهات و فضول المباحات'(1/11)
سابعاً: ما لا مدخل للورع فيه.. ما لا يدخله الورع و ذلك في التورع عما لا مضرة فيه أو كان فيه مضرة قليلة مرجوحة و يقترن به منافع عظيمة تهدر في جانبها تلك المضرات اليسيرة و نحن نعلم كما يقول الشاطبي رحمه الله 'أنه في هذه الحياة الدنيا لا توجد مصلحة خالصة مائة بالمائة و لا توجد مفسدة خالصة مائة بالمائة و إنما العبرة بما غلب' العبرة بما غلب.. لحوم الأبقار فيها ضرر يقول النبي صلى الله عليه و سلم: (لحومها داء و ألبانها شفاء) و مع ذلك النفع الذي فيها أعظم من هذا الضرر فصارت من الطيبات فيباح أكلها و امتن الله عز و جل بذلك بقوله:( و من البقر اثنين ) و كذلك أيضاً ما أخبر عنه ربنا جل جلالة فيما غلب ضرره و فساده على المنافع التي فيه و هو الخمر قال:( و إثمهما أكبر من نفعهما ) فالخمر فيها منافع و قد صرح بجملة منها طائفة من العلماء فالجبان يتشجع في الحرب.. كانوا يشربونها في الحروب فلا يبالي في خوض غمارها و مواجهة الأبطال فهو يعيش في عالم آخر و يشعر أنه فوق هؤلاء جميعاً فيضربه بسيفه ضرب من لا يخاف الموت و كذلك أيضاً البخيل يجود بماله إذا شرب الخمر فإذا صار في حال السكر فإنه يبذل الأموال و يفرقها و يعطي ما كان يمنع فإذا أفاق ندم فهذه بعض منافع الخمر و لكن المفاسد التي فيها أعظم يكفي أنها تذهب العقول و يكفي أنها تجعل الإنسان في حال المجانين في حال قد ألغى عقله فيها و من اللطائف التي يذكرها العلماء في بطون الكتب أحياناً مما يحضرني هذه الساعة ذكروا في مفاسد الخمر بأن مجنوناً قد أخذ برأس سكران يهوه هكذا و يقول له *نونو نونو* يلعب به المجنون يلعب بالسكران و ذكر عن آخر أنه سكر فجعل يتوضأ ببوله -أعزكم الله- يتمضمض و يستنشق و يغسل وجهه فلما فرغ من ذلك قال الحمد لله الذي جعل الصلاة نورا و الماء طهورا و قد تاب بعضهم ممن كان يتعاطى السكر لما صورت له زوجته حاله حينما يسكر غالباً من يسكرون يتقيؤن -(1/12)
أكرمكم الله عز و جل و من يسمع - يتقيؤن فكان يلعق قيأه فصورت له زوجته بكاميرا من الفديو صورت له حالته المتكررة فلما أفاق عرضت عليه فاشمأز و اقشعر جلده و استحى من النظر إليها فكان ذلك سبباً لتوبته فالمقصود أن مفاسد الخمر أعظم و لهذا حرمه الله عز و جل زراعة العنب فيها مصالح كثير جداً و فيها مفسدة يسيرة و هي أن هذه العنب قد تعصر خمراً و لكن هذا قليل بالنسبة لعظم مصالح العنب و منافعها كما قال في المراقي:
و انظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب(1/13)
يعني العلماء ما حرموها.. ما حرمها الشارع تُزرع بلا غضاضة و لا حرج و لا إثم فهذه الأعناب التي تزرع فيها مصالح كبيرة فلم تحرم لأن بعض الناس قد يعصرها خمراً و هكذا اجتماع الرجال و النساء في المجتمع الواحد يتعاونون على قيام الدين و الدنيا المرأة في البيت تهيؤ الدار و ترضع الصغير و تقوم على المريض و تهيؤ لزوجها ما يحتاج إليه من ملبس و مأكل و ما إلى ذلك فإذا جاء شريكها الآخر إلى بيته وجد البيت مهيئاً و الصغير مُرضَعاً و المريض قد قامت عليه بما يحتاج إليه فتقوم مصالح الناس بهذا الاجتماع مع أنه قد يحصل مفاسد بوجود النساء في المجتمع قد يكون هذا سبباً لأن يلقي هذا على هذه ورقةً فيواعدها أو أن يخلو بها أو غير ذلك.. هذه مفسدة موجودة لكن المصالح من اجتماع الجنسين أعظم بكثير من هذه المفسدة فأهدرها الشارع فلم يوجب أن يوجد حصن من حديد في ناحية أخرى من البلد أو في بلد آخر يوجد فيه النساء و عليه شيخ كبير كما قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عليه شيخ كبير ذو شيبة يحرس هذا الباب و قد وضع عليه الأقفال لئلا يأتي أحد من الرجال إلى هؤلاء النساء..ما يقول أحد بهذا مع أن اجتماع الجنسين فيه مفسدة لكنها مغتفرة و يسيرة بالنسبة للمصالح العظيمة من اجتماعهما فالشارع يعتبر الغالب فإذن الورع إنما يكون في الأمور التي فيها مضرة أما الأمور التي لا مضرة لها أو فيها مضرة يسيرة مغتفرة و منفعة في المقابل عظيمة أو كان فعلها يُدفع به مفاسد عظيمة جداً فإن التورع من ذلك جهل و عدوان و ظلم يقول شيخ الإسلام 'و ذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتورع منها بل نتعاطاها بلا حرج و من تورع فهو مخطأ و ظالم الأول المنافع المكافئة و ذلك في المباحات الصرفة و الثاني في المنافع الراجحة و هي المستحبات و الثالث في المنافع الخالصة و هي الواجبات و قد قال في موضع آخر 'أما ما لا ريب في حلّه فليس تركه من الورع و ما لا ريب في سقوطه(1/14)
فليس فعله من الورع' يعني بعض الناس قد يفعل أشياء يقول من باب الاحتياط أخشى أن يكون هذا من الواجب مع أن ذلك يُعلم قطعاً أنه ليس من الواجب أو ليس مما أمر الشارع به فالحديث مثلاً موضوع فيأتي إنسان و يقول من باب الورع أريد أن أفعل هذه العبادة التي ورد فيها هذا الحديث و هو من الموضوعات.. من رواية الكذابين فنقول لا يجوز لك أن تفعل ذلك و ليس الورع في فعله و هنا قاعدة جميلة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله يحسن أن تحفظ يقول 'الواجبات و المستحبات لا يصلح فيها زهد و لا ورع' يجب أن تُفعل الواجبات و يحسن أن تُفعل المستحبات أما أن يتورع الإنسان عن فعل الواجب أو فعل المستحب فليس هذا من الورع و لا من الزهد و أما المكروهات و المحرمات فيصلح فيها الزهد و الورع .(1/15)
ثامناً: مراتب الورع.. بعضهم كالراغب الأصفهاني يقسم الورع إلى ثلاث مراتب الأول (الورع الواجب و هو اجتناب المحرم و هذا يجب على جميع الناس) الثاني (المندوب و هو الوقوف عند المشتبه و هذا لأواسط الناس من كان بين بين في العبودية) و الثالث (و هو درجة السابق في الخيرات الذي قد بلغ أعلى الكمالات و هو الكف عن كثير من المباحات التي يُخشى أن تجره إلى المحرمات أو إلى المكروهات و هذا ورع المتقين) جاء عن قزعة قال: رأيت على ابن عمر ثياباً خشنة فقلت له إني قد أتيتك بثوب لين مما يُصنع بخرسان -كانوا يأتون بالثياب اللينة من خرسان- و تقر عيناي أن أراه عليك -أحب أن أرى هذا الثوب عليك- قال أرنيه فلمسه و قال أحرير هذا؟ لشدة لينه قلت لا إنه من القطن قال -و هذا هو الشاهد ترك المباح الذي يُخشى أن يُوقع في المكروه أو المحرم ليس كل مباح و إنما نوع خاص من المباحات- فقال ابن عمر: إني أخاف أن ألبسه أخاف أن أكون مختالاً فخوراً يعني الملابس و المراكب التي يجد الإنسان من نفسه إذا ركبها أو لبسها زهواً و غروراً و تعاظماً على الناس الورع أن يتجنبها لأن الغرور و الزهو و الإعجاب بالنفس أمر محرم فالورع أن يجتنب ذلك مع أنه مباح هذا الثوب الين مباح هذا المركب الجيد مباح الحاصل أنه قال أخاف أن أكون مختالاً فخوراً و الله لا يحب كل مختال فخور و يقول بعض السلف 'ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال' يعني أن يأكل أكلاً يستفرغ فيه جميع المحال في جوفه فلا يبقى فيه مسلك لا يجد له مسلكاً و مساغاً يأكل حتى التخمة يقول بعض السلف 'ما ينبغي للرجل أن شبع اليوم من الحلال لأنه إذا شبع من الحلال دعت نفسه إلى الحرام فكيف إلى هذه الأقذار اليوم' و من لطيف ما حدث به ابن القيم رحمه الله عن شيخه شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه أنه قال: قال لي يوماً شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح (هذا ينافي المراتب العالية) هو(1/16)
مباح لكنه ينافي المراتب العالية و إن لم يكن تركه شرطاً في النجاة.. ينافي المراتب العالية على سبيل المثال من كان معروفاً بالعبادة و الزهد و الورع أو من كان من علماء الآخرة و ليس من علماء الدنيا.. من علماء الآخرة فهل يصلح له في باب الورع الذي يُخشى أن يجر إلى الحرام أن يسكن قصراً فخماً مزيناً غاية الزينة و يحتل مساحة واسعة من الأرض؟ هل يليق به ذلك؟ و هو من أهل الآخرة و من يمر بهذا القصر استشرفه و لفت نظره و قال لمن هذا القصر فيقال لفلان ابن فلان.. هل يصلح هذا لعلماء الآخرة؟ الجواب لا مع أن هذا الفعل ليس من الحرام لو رأيت عالماً أو عابداً يركب أفخم المراكب و أغلى المراكب و يتقصد ذلك فهل ذلك يليق بمرتبته؟؟ الجواب لا لأن ذلك قد يورثه زهواً و عجباً و الإنسان أيها الإخوان ليس بناقص أن يزيد على نفسه أسباب الشر و الفتنة الإنسان يجانب أسباب الشر و الفتنة و يجاهد غاية المجاهدة و عساه يسلم فكيف إذا وضع نفسه في محال يصعب عليه التخلص من جرائرها و آثارها فكل إنسان له ما يصلح له اللباس الفاخر أمر مباح ما لم يصل إلى حد الإسراف و التبذير لكن من ترك رفيع اللباس و هو يقدر عليه كساه الله من حلل الإيمان ما شاء يخيره الله من حلل الإيمان كما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم فهل يليق بإنسان عرف بالعبادة و الزهد أو بعالم من علماء الآخرة أن يلبس أغلى الأثمان في الثياب.. أغلى الأقمشة! و يهتم بالتفصيل عند أبرع الخياطين.. هل يليق به ذلك أو يكون نقصاً في حقه؟.. يكون نقصاً في حقه فحليته هذا الإنسان الزاهد أو العابد أو العالم حليته البذاذة و البذاذة هي خلاف الرفعة في الهيئة و المظهر و اللباس و ليس معناها أن يكون الثوب متسخاً..لا يكون في غاية النظافة و النقاء و لا يكون رثاً بحيث إنه يكون ثوب شهرة.. لا و إنما يلبس لباساً لائقاً مناسباً نظيفاً لكن يصلح لمثله.. البذاذة من الإيمان يعني ترك رفيع اللباس من(1/17)
الإيمان مع أن الإنسان إذا لبس رفيع الثياب فهذا أمر مباح لا إشكال فيه فالحاصل أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عن بعض الأشياء بأنها لا تصلح لأصحاب المراتب العالية و إن لم يكن تركها من شروط النجاة أما الورع عن الحرام فقد جعله بعضهم على درجات.. بعضهم جعل ذلك على ثلاثة أقسام ..الورع عن الحرام.. سمى الأولى ورع العدول ( و هو ما يوجب فعله فسق صاحبه إذا فعله يعتبر فاسق و إذا تركه ثبتت عدالته يعني ما يقع في الأمور المحرمة التي توجب سقوط العدالة و الحكم بالفسق فهذا ورع العدول و من واقعه فهو متوعد بالعقوبة يُحكم عليه بالعصيان إن لم يكن له عذر في ذلك ) و القسم الثاني و هو ورع الصالحين كما سماه بعضهم ( و هو الورع عما يشتبه أو يحتمل أن يكون محرماً ) و الثالث و هو ورع المتقين ( و هو ترك بعض الأمور المباحة التي يخشى أن تجره إلى الحرام ) إذن عندنا ورع عن الحرام الصرف ، عندنا ورع ما يُشك في أنه حرام ، و عندنا ورع عن مباح يُخشى من تبعته و أنه يقود صاحبه إلى ما حرم الله عز و جل .(1/18)
تاسعاً: مراتب الناس في الورع.. إذا كان الورع على مراتب فكذلك الناس هم على مراتب في الورع فمنهم من انخرم ورعه و صار مواقعاً لما حرم الله عز و جل فترك الورع الواجب فهذا يجب عليه أن يراجع نفسه.. يفعل المحرمات.. يأكل الربا.. يترك الواجبات.. ينام عن الصلاة.. لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس.. يترك صلاة الجماعة فهذا يحتاج إلى ورع واجب بفعل الواجب و ترك المحرم فمن الناس من فرط في هذا الورع الواجب و منهم من لزم الورع فجاء بالواجب و ترك المحرم و لكن إذا اشتبه عليه أمر لم يتوقف بل يسأل و يدقق أحرام هو؟ فالمفتي لا يستطيع أن يقول حرام يقول دعوه.. أكره لك هذا.. لا يعجبني كذا.. أنصحك أن لا تفعل.. الأحوط أن تفعل هذا الشيء لأنه قد يكون واجباً لكنه يقف و يسأل هل هو واجب؟؟ هل الشيء الفلاني محرم فلا أريد أن أفعل ما زاد على الواجب و لا أترك سوى المحرم؟ فمثل هذا يكون من المقتصدين الله يقول:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) هذه الأمة على طوائفها الثلاث ( فمنهم ظالم لنفسه ) و هو من وقع في الحرام و ترك بعض الواجب ( و منهم مقتصد ) و هو من لزم الواجب و ترك المحرم و ما فعل المستحب و لا احتاط بترك المشتبهات و المكروهات ( و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ) فهذا هو الذي ترك الحرام و فعل الواجب و فعل المستحب و ترك المكروه و المشتبه فهذه مراتب الناس في هذا الباب و لهذا يقال إن أحكامهم تتفاوت بناءً على ذلك.. تتفاوت غاية التفاوت و هذه مسألة مفيدة نحتاج إلى معرفتها الإنسان الذي يفعل المحرم و يترك بعض الواجب يفطر بعض الأيام من رمضان من غير عذر يترك الصلوات المكتوبة ثم هو يسأل عن صيام الست امرأة تكسل في قضاء رمضان و يأتيها رمضان الآخر و ما صامت و تصر تريد أن تصوم الست و يسأل هل يصلح لها ذلك و هي لم تتم قضاء رمضان.. تجد أن بعضهم لربما ما يخرج الزكاة و مع ذلك يتصدق.. يتصدق..! يقترف المحرمات الواضحة ثم(1/19)
يتورع عن بعض الأمور المشتبهة هذا تناقض.. هذا تناقض.! إنسان يعمل من الساعة السابعة إلى الساعة الواحدة ظهراً أو إلى الثانية ظهراً و لا يحضر إلا الساعة التاسعة أو العاشرة ثم يسرق نفسه و طبيعة العمل فيها حضور و انصراف لا يصلح له أن يخرج إلا بإذن فيخرج من غير أن يشعر به أحد ثم يرجع و لربما غاب أو غابت المعلمة و احتسبت لها المديرة هذه الأيام كأنها حضرتها أو تواطأت معها و قالت و قعي الحضور و الانصرف ثم اذهبي فهذا يفعل الآن أموراً لا يحل له أن يفعلها ثم في المقابل قد تجد هذه المعلمة أو هذا المعلم أو هذا الموظف يتحرج أن يكتب بقلم المكتب أن يكتب فيه قضية خاصة رقم هاتف نساء أو يتحرج أن يأخذ ورقة من المكتب و لو صغيرة أن يكتب فيها رقم إنسان لمصلحة لا تتعلق بطبيعة العمل يتحرج، يتورع، يتنزه، ما هذا الورع البارد في بيت الله الحرام ينثر الأمور التي تقذره بل رأيت بعيني رجلاً يتبول أعزكم الله في سطح الحرم.. يتبول بسطح الحرم..! ترون في رمضان كثير من الناس يفرطون تفريطاً قد لا يسلمون من المؤاخذة فيه الفرش يقع عليه ما يقع من الأمور التي تلوثه و أرض الحرم تصبح بعد الإفطار في حالة لا تسر الناظر بسبب هؤلاء الذين لم يرعوا حرمة هذا الحرم و تجد هذا الإنسان صاحب الورع البارد لربما يتورع أن يربط هاتفه الجوال بكهرباء الحرم لأن هذا الصرف اليسير في نظره أنه لا يحل له.. أنت تدنس أرض الحرم و تلقي المصاحف هنا و هناك تكون عرضة للمطر و الشمس و عرضة أيضاً لعبث الأطفال أو لوطء الناس من غير أن يشعروا و مع ذلك يتورع أن يصل هاتفه الجوال بالكهرباء..! هذا تناقض.. هذا تناقض أيها الإخوان.! و لهذا جاء رجل لما كان الإمام أحمد في مجلس التحديث *في مجلس يسمعون الحديث* فكان الإمام أحمد أمامه المحبرة و طبيعة الكتابة قديماً القلم مثل العود المبري.. هو عود مبري يغط الإنسان في هذه المحبرة ثم يكتب ثم يغط فبعض الناس صار يستأذن(1/20)
الإمام أحمد يقول: أتأذن لي؟ قال الإمام أحمد خذ فهذا ورع بارد لا يصلح لمثلي و مثلك. الإمام أحمد طبعاً يقول هذا تواضعاً فالإنسان الذي يفعل المحرمات أو يترك الواجبات ما يصلح له أن يتورع عن المكروهات و المشتبهات أو يترك الواجب ثم يتورع و يقول و الله هذا ما دام فيه خلاف أنه واجب أو غير واجب أريد أن أفعله من باب التورع و الاحتياط أو أريد أن أفعل المستحبات الصدقة مستحبة و الزكاة واجبة.. زكاة الحلي فيها خلاف مشهور بين العلماء ( الحلي المستعمل عند النساء ) هل تُزكى أو لا تُزكى؟ فنقول أقل الأحوال فيمن اشتبه عليه الأمر أن يتورع فيخرج الزكاة الناس كثير منهم إذا أخبروا بهذا لربما امتعضوا و قالوا نحن سمعنا فلاناً و فلاناً و فلاناً يقولون لا يجب فيها الزكاة فمن نتبع.. و نأخذ بقول من؟ و هم في نفس الوقت السؤال الثاني عندهم عن الصدقة.. يريدون أن يتصدقوا.! هذه الصدقة أخرجها بنية الزكاة في هذا الأمر المشتبه لتسلم ذمتك و الزكاة أعلى عند الله عز و جل و أجل و أرفع في الميزان.. أثقل من الصدقة ، ما تقرب المتقربون إلى الله عز و جل بشيء أحب مما افترض عليهم ، فنجد أن الإنسان يتورع من هذه الأمور و يفعل أشياء يجب عليه أن يتورع منها فهذا ورع بارد و لذلك يقول ابن رجب رحمه الله 'إن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامة أحواله كلها و تشابهت أعماله في التقوى و الورع أما من يقع في المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يُحتمل له ذلك بل يُنكر عليه' و قد قال الأوزاعي مصوراً هذا المعنى في بيان مراتب الناس و أنه قد يصلح لهذا ما لا يصلح للآخر يقول'كنا نمزح و نضحك فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعني التبسم' طبعاً هذا رأي الأوزاعي رحمه الله النبي صلى الله عليه و سلم كان يتبسم و يضحك مع أصحابه لكن أراد الأوزاعي أن يبين لنا معنى أن المفاكهة و الضحك قد يفعلها الإنسان و لكنه قد(1/21)
يصل إلى مرتبة يترك بعض ذلك حفظاً و صيانةً لمرتبته فلا ينبسط في هذه الأمور انبساط من لم يبلغ هذه المرتبة فيكون فيه شيء من الحشمة و الوقار و يطالب بشيء من ذلك مطالبةً لا تكون لغيره و لهذا الشاطبي رحمه الله تكلم في الموافقات عن بعض المسائل المهمة الإغراق في المباحات يقول 'كثرة التنزه و الذهاب إلى البساتين و الحدائق و أماكن اللهو و الترفيه - طبعاً هذه من عندي أماكن اللهو و الترفيه لكن هو يتكلم عن هذا المعنى- يقول من أكثر منه و أدمنه سقطت مروءته و ردت شهادته -انخرمت مروءته و ردت شهادته- و سقطت عدالته' ما عمل شيء حرام لكنه أكثر من اللعب أكثر من التنزه في البساتين أدمن من ذلك إكثاراً مبالغاً فيه فهذا الإكثار لا يصلح له و من لطائف هذا المعنى أن رجلاً جاء للإمام أحمد رحمه الله و قال له إن أمي تأمرني أن أطلق امرأتي هل أطيعها في ذلك؟ فانظر إلى هذا الجواب المبني على قاعدة الورع و مراعاة أحوال الناس في ذلك فقال إن كان بر أمه في كل شيء و لم يبقى عليه من برها إلا طلاق زوجته فليفعل.. هذا إنسان بار بأمه في كل شيء أما إنسان تقول له أمه هذه الليلة يا بني لا تسهر مع أصحابك تبقى عندنا فيقول لا أنا واعدتهم و يخرج ثم يأتي و يسأل يقول أمي تأمرني أن أطلق زوجتي..الطلاق أصعب فهو يسأل عن هذه و الأمور الأخرى لا يبالي بها يعق أباه و يبر صديقه كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم في أشراط الساعة الصغرى فهو لا يبالي و يرفع صوته ثم يسأل هل يطلق امرأته إذا أمره أبوه أو أمه فالإمام أحمد يقول إن كان ما بقي عليه إلا هذا من البر فليطلق سُئل الإمام أحمد عن لون من ألوان الورع البارد سُئل عن رجل يشتري بقلاً - تعرفون البقل؟ صرة بقل..الأشياء الخضراء..البقول- يشتري بقلاً و يشترط الخوصة ، الخوصة ما يُكشط من عسيب النخل فيربط به البقل و هذا ما زال معمول به إلى اليوم يربط به الكراث أو الجرير أو ما إلى ذلك فهذا الإنسان(1/22)
متورع هو اشترى البقل لم يشتري الخوصة فيقول للبائع: أشتري منك هذا البقل مثلاً بريال و أشترط الخوصة يعني أن تكون لي على سبيل التبع.. الخوصة لا قيمة لها فهذا ورع بارد فسُئل الإمام أحمد عن هذا فقال: إيش هذه المسائل؟ استنكر الإمام أحمد هذا السؤال المتكلف و الورع المتكلف إيش هذه المسائل؟ أحد يشتري بقل و يقول أشترط الخوصة..! الخوصة ما لها قيمة أو أن يشتري مثلاً صندوقاً من الفاكهة و يقول أشترط الصندوق إذا كان جرت العادة أن يعطى مع الثمر أو الخضروات فالحاصل أن الإمام أحمد قال إيش هذه المسائل؟ قالوا له إنه إبراهيم ابن أبي نُعيم ذكروا له رجلاً غاية في الورع ترك المحرمات.. يفعل الواجبات.. يحتاط غاية الاحتياط فقالوا له إنه إبراهيم ابن أبي نُعيم قال: 'إن كان إبراهيم ابن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذلك' إبراهيم ابن أبي نعيم وصل إلى مرتبة عالية ما بقي عليه إلا أن يسأل عن الخوصة أما إنسان يسرق و يأخذ أموال الناس بالباطل و يلعب بها كيفما اتفق ثم يسأل عن الخوصة يتورع منها فهذا أمر قبيح فهو ورع كالجدري في الوجه الورع كما أنه حلية و زينة و له المنزلة التي سمعتم إلا أنه أحياناً يكون أقبح من الجدري في الوجه و ذلك في مثل هذه الصور التي يكون فيها من قبيل النشاز و من هذا ما جاء عن أهل العراق الذين جاءوا في الحج لابن عمر رضي الله عنه يسألون عن حكم دم البعوضة هل فيه الجزاء و إلا لا..؟ هل تعتبر البعوضة من الصيد؟ إنسان قتل بعوضة فهل عليه جزاء و ما هو الجزاء؟ الله عز وجل نهى عن قتل الصيد في حال الإحرام فهؤلاء جاءوا ليسألوا عبد الله ابن عمر رضي الله عنه من قتل بعوضة فما الحكم؟ فقال 'يسألوني عن دم البعوضة و قد قتلوا الحسين' قتلوا الحسين ما تورعوا في ذلك و جاءوا يسألون عن دم البعوضة ما حكمه..! كذلك خبر الخوارج لما قتلوا بعض من يحرم عليهم قتله و بقروا بطن امرأته و مع ذلك لما وصلوا إلى حائط لأحد أهل الذمة قالوا:(1/23)
هؤلاء أوصى بهم النبي صلى الله عليه و سلم فتورعوا أن يأخذوا من ذلك البستان ثمراً أو شيئاً و نهوا أصحابهم عن دخوله أو مقاربته..! ( ألحين يقتلون هؤلاء و يبقرون بطن المرأة و هي حامل و يتورعون من ثمر في بستان لأحد أهل الذمة )
عاشراً: فقه الورع.. و هو متعلق بما ذكرت الورع يحتاج إلى فقه قد يريد الإنسان أن يتورع في هذه الأمور فيورثه ذلك سماجة بل قد يوقعه في أمور لا يحل له أن يقع فيها و هو في زعمه يريد التورع و تحصيل هذه المراتب و لذلك أقول إن فقه الورع ينبني على أمور
أولها التوسط و الاعتدال و الحق وسط بين الغالي فيه و الجافي عنه و النبي صلى الله عليه و سلم كان في غاية الاعتدال و لهذا فإن من تكلم عن الورع و شدد فيه وأمر فيه و حث عليه فإنه يستشهد بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم * كما سيأتي تورع عن أكل التمرة التي خشي أن تكون من تمر الصدقة * و من لم يرى بعض الأشياء من قبيل الورع فإنه يستشهد بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه فعلها فالذي يتورع مثلاً عن بعض المباحات التي لا غضاضة فيها و لا تورثه محرماً كالتزوج أو أكل اللحم أو أكل الفاكهة أو نحو ذلك يحتج عليه بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحب الحلوى.. يحب الحلو البارد و كان يأكل اللحم و قد تزوج صلى الله عليه و سلم و هو أكثر هذه الأمة نساءً و قال ( حبب إلي من دنياكم الطيب و النساء ) فلم يتورع النبي صلى الله عليه و سلم و يتحرج عن هذا فكانت حاله صلى الله عليه و سلم في غاية التوسط و هذا نبه عليه ابن القيم رحمه الله في عدَة الصابرين . هذا الأمر الأول(1/24)
الأمر الثاني في هذا الميزان أو في هذا الباب في فقه الورع هو أن تعرف خير الخيرين و شر الشرين و قد قال شيخ الإسلام 'تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين و شر الشرين و يعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل و الترك من المصلحة الشرعية و المفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات و يفعل المحرمات و يظن أن ذلك من الورع ' ثم ذكر أمثلة كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة و يرى ذلك ورعاً.. من عقيدة أهل السنة أنه يجاهد مع الأمراء سواءً كانوا فجاراً أو أتقياء يقول: و يدع الجمعة و الجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور و يرى ذلك من الورع.. يصلي في بيته و يترك الجمعة و الجماعات و هو بزعمه متورع و يمتنع عن قبول شهادة العباد و أخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية و يرى ترك سماع ذلك من الورع لو كان قاضياً من القضاة فجاءه إنسان صاحب حق و جاء معه بشاهد فيه بدعة خفية فقال أنا لا أقبل من هذا شهادة فهذا ورع لا يصلح هذا ورع محرم تضيع الحقوق و كذلك أيضاً لو كان له حق و الشاهد الذي يشهد له بهذا الحق عنده بدعة خفية فقال أنا أتورع و لا ألابس أهل البدع و لا أطلب منهم شيئاً و لا أكلمهم فنقول هذا ورع تضيع فيه الحقوق و مثّل لذلك أيضاً في موضع آخر بمن يترك أخذ الشبهة ورعاً مع حاجته إليها و يأخذ بدل ذلك محرماً بيناً تحريمه في مال مشتبه يتركه و يأخذ المحرم الواضح أو يترك واجباً تركه أعظم فساداً من فعله مع الشبهة كمن يكون على أبيه أو عليه ديون و هو مطالب بها و ليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها و يدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة بحجة أن هذا المال فيه شبهة أنا لا أقضي به الدين نقول كيف ترضى أن ترتهن ذمتك بهذا الدين و النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر قبل أن يوسع الله عليه في الفتوح و الغنائم و الفيء كان لا يصلي على الرجل إذا كان عليه(1/25)
شيء من الدين فهذا ورع لا يصلح و ذكر شيخ الإسلام في كتاب منهاج السنة نموذجاً لهذا الورع الفاسد عن شيخ من شيوخ أهل البدع و هم الرافضة قيل له إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم قال لا المذهب أنا لا نغزوا إلى مع المعصوم فقال له المستفتي وهو عامي والله إن هذا لمذهب نجس فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين و الدنيا يقول شيخ الإسلام وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه ظلماً فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار بل من استيلاء من هو أظلم منهم فالأقل ظلماً ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلماً فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يُقدم عند التزاحم خير الخيرين ويُدفع شر الشرين ومعلوم أن شر الكفار المرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم وهذا له أيها الإخوان أمثلة كثيرة جداً الآن لو فرضنا أن أحد من هؤلاء المتورعين سافر فصادفه في طريقه حادث فوجد امرأة تتشحّط بدمائها في وسط الطريق فطلب منه أن يحملها إلى المستشفى.. أن ينقذها فقال: لا لابد لها من محرم هذا ورع..! تزهق نفسها من أجل هذا الورع البارد و كذلك لو أنه قيل له احملها.. أرادوا أن يحملوها فقال لهم: لا يحل لكم ذلك لئن يطعن رأس أحدكم بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له.. هذا ورع بارد المرأة تموت و يتورع من أجل لا يمسها و كذلك أيضاً لو أنه أشرف على الهلكة و وجد مالاً لغيره فقال لا آكل من هذا المال و لا أشرب من هذا الشراب لأنه مال محترم له مالك و لا يحل لي فتركه حتى مات فإنه آثم و قد تسبب في قتل نفسه.. هذا ورع بارد فليس في كل الحالات يحسن الورع و عندنا أمثلة واقعية كثيرة جداً في بعض البلاد تجرى انتخابات و المرشحون رجل من أقلهم ضرراً و متعاطف مع المسلمين لكنه سيحكم بالقانون و الآخر(1/26)
شيوعي و الثالث صربي.. هؤلاء الثلاثة مرشحون و بينهم منافسة و كانت أصوات هؤلاء الطيبين تؤثر في الكفة فبعضهم قد يتوقف و يقول لا كيف أرشح رجلاً أعلم أنه سيحكم بغير ما أنزل الله إذن أكون بهذا الاعتبار قد أثبت و أقررت فعله و هو الحكم بغير ما أنزل الله و هو كفر نقول هذا ورع لا يصلح هنا أنت لم تثبت حكمه بغير ما أنزل الله لكنك ارتكبت أخف الضررين في سبيل دفع أعلاهما و هذه قاعدة شرعية معروفة يقول شيخ الإسلام 'و انتفاء الإرادة إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة.. إلى أن قال.. و أما وجود الكراهة فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة فأما إذا فُرض ما لا منفعة فيه و لا مضرة أو منفعته و مضرته سواء من كل وجه فهذا لا يصلح أن يراد و لا يصلح أن يكره فيصلح فيه الزهد و لا يصلح فيه الورع' فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد من غير عكس و هذا بين فإنما صلح أن يُكره و يُنفر عنه صلح ألاّ يُراد و لا يُرغب فيه فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة و وجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس و ليس كل ما صلح ألاّ يراد يصلح أن يُكره بل قد يعرض من الأمور ما لا تصلح إرادته و لا كراهته و لا حبه و لا بغضه و لا الأمر به و لا النهي عنه و بهذا يتبين أن الواجبات و المستحبات لا يصلح فيها زهد و لا ورع و أما المحرمات و المكروهات فيصلح فيها الزهد و الورع و أما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع و هذا القدر واضح تعرفه بأدنى تأمل و إنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل هل هو مأمور به أو منهي عنه أو مباح و فيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأموراً به أو منهياً عنه أو اقترن بالمأمور به ما يجعله منهياً عنه و بالعكس فعند اجتماع المصالح و المفاسد و المنافع و المضار و تعارضها يُحتاج إلى الفرقان ثم يقول شارحاً للضابط الذي أشرت إليه سابقاً يقول 'و قولي عند عدم المعارض الراجح *يعني أنه يُترك المحرم و(1/27)
يفعل الواجب أو ما يُشتبه أنه واجب و يُترك ما يشتبه أنه حرام بشرط عدم المعارض الراجح يقول:* فإنه قد لا يُترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة' مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة و الجماعة و الحج و الغزو و كذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من المفاسد أمر أعظم من فساد ظلم ذلك السلطان يقول: 'و الأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه و سلم ( الحلال بين و الحرام بين و بين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.. الحديث ) و في الصحيحين ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) و قوله ( البر ما اطمئنت إليه النفس و سكن إليه القلب ) و قوله في صحيح مسلم في رواية ( البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في نفسك و إن أفتاك الناس ) ثم ذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى على فراشه تمرة فقال لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ..إلى أن قال *أعني شيخ الإسلام* لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات أحدها اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب و هذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة و عن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم و معاملة فاسد و يتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين و ذوي الفجور في الدنيا و مع ذلك يترك أموراً واجبة عليه إما عيناً و إما كفايةً و قد تعينت عليه من صلة الرحم و حق الجار و المسكين و الصاحب و اليتيم و ابن السبيل و حق المسلم و ذي السلطان و ذي العلم و يترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو يتحرج و يتورع من درهم حرام و يتورع من كلمة هل هي من الكذب الصريح أو من التورية فهذا أمر(1/28)
يغفل عنه كثير من الناس إذن لابد من النظر في المصالح و المفاسد فنفعل الشيء الذي غلبة مصلحته و نترك الشيء الذي رجحت مفسدته هذا هو الفقه في هذا الباب
و الأمر الثالث هو أن نراعي مراتب الناس و قد أشرت إلى هذا المعنى سابقاً إذا جاك إنسان يسأل يقول ما الحكم في ما لو استخدمت ورقة من المكتب أو يقول إذا كلمت مكالمة داخلية من غير الصفر في هاتف المكتب كلمت مكالمة خاصة للبيت أو غير ذلك ما الحكم؟ فماذا نقول لهذا الإنسان..؟ ننظر في حاله فإذا كان هذا الإنسان قد بلغ في الورع غاية و كمل نفسه فنقول: لا تفعل و أما إذا كان هذا الإنسان لا يأتي إلى عمله إلا متأخراً و يخرج قبل الوقت الذي يحل له الخروج فيه ثم يأتي و يسأل عن مكالمة هاتفية من غير صفر أو يسأل عن وصل الجوال بكهرباء المكتب و يتورع من ذلك فمثل هذا نقول له: هذا ورع بارد لا يصلح لمثلك.
الحادي عشر: و هو الورع الفاسد و قد قادنا إليه الكلام السابق حيث إنا عرفنا أن من الورع ما ليس بورع و إنما هو غلط أو إثم و هذا أنواع و ألوان و صور..(1/29)
أولها ( ما التبس فيه الورع بغيره مما يذم ) الأخ متورع متحرج متحرز من هذا الشيء و الواقع أن هذا من قبيل الخوف و الجبن ، نقول له أن هناك منكر في السوق و يجب عليك أن تنكره لأن لا أحد يستطيع أن يغير هذا المنكر إلا من كان في مرتبتك أنت فيقول الأسواق فيها فتنة و يغرز الشيطان فيها رايته و لا أحب أن أذهب إلى سوق لما فيه من الاختلاط و ما إلى ذلك.. نقول هذا ورع بارد.. هذا ورع فاسد يجب عليك أن تذهب ، إذا جاء إنسان و قال هذا الكلام الذي تقولونه عن الأنترنت غير معقول و لا صحيح إطلاقاً الأنترنت أشياء مفيدة و الإخوان ينقلون لنا منه أشياء مفيدة من المعارف و العلوم و الأخبار و الفتاوى و غير ذلك و هذه الأشياء التي تقولونها كذب و مبالغات و كلام ناس لا يدققون و يتثبتون في النقل فنقول له تفضل هذه نماذج من الأنترنت صور.. أفلام.. يقول لا لا أنا لا أنظر إلى شيء أو يقول لك الصور حرام و بالتالي فإن النظر إليها نوع من الرضا بها أحياناً يقول أنا لا أنظر إلى الصور.. نقول ما شاء الله إذن متى تعرف؟ فهذا ورع فاسد بل هو من أفسد الورع أو تأتي إلى إنسان لتبلغه عن منكر من المنكرات تأتي إليه مثلاً العشاء ثم يقول لك: يا أخي نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الحديث بعد العشاء فهلاّ أتيت في غير هذا الوقت تقول له المنكر الآن.. يجب الإنكار و لا يستطيع أن ينكره أحد إلا من كان في مرتبتك فيقول أقول لك نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الحديث بعد العشاء و أنت طالب علم ينبغي أن تكون أول من يفهم هذا فهنا التبس الورع بإيش ..؟ بالخور و الجبن و الخوف و الضعف و هذا للأسف الشديد يقع و هذه الأشياء التي أحدث بها أحدث عن وقائع و ليست افتراضات هذه أمثلة واقعية التي ذكرتها لكم ، و قد ذكر شيخ الإسلام في أكثر من موقع كلاماً في هذا المعنى ذكر مثلاً صفة الخوارج الذين أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتالهم يقول 'لأن معهم ديناً فاسداً لا(1/30)
يصلح به دنيا و لا آخرة' يقول 'و كثيراً ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن و البخل فإن كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يُأمر به من الجهاد و النفقة جبناً و بخلاً و كذلك قد يترك الإنسان العمل ظناً أو إظهاراً أنه ورع و إنما هو كبر و إرادة للعلو' و له أمثلة غير ما ذكر مثلاً الأحناف يرون أنه لا يجوز التصدق على الفقير في المسجد و إن ذلك أمر لربما يسبب للمتصدق إشكالاً في رد العدالة و سقوط الشهادة بالغ بعضهم إلى هذا الحد.. فلو جاء إنسان و ليس ممن يعتقد هذا و رأى إنساناً فقيراً فلم يتصدق إليه و قال: و الله إن بعض الحنفيين يقولون لا يجوز التصدق عليه و بالتالي أنا أتورع من الصدقة ففسر بخله و شحه بهذا التفسير و خرجه بهذا التخريج و الله عز و جل لا ينطلي عليه ذلك و لا يروج عليه و الله يعلم المفسد من المصلح.
الثاني من الورع الفاسد ( التورع من أمور فعلها النبي صلى الله عليه و سلم ) الذي يتورع عن أكل الحلوى مثلاً عن الزواج يقول مشغلة و الأولاد فتنة كما قال شيخ الإسلام 'الاعتداء في العبادات و في الورع كالذين يتحرجون من أشياء ترخص فيها النبي صلى الله عليه و سلم يعني أن فعلهم ذلك أمر محرم لا يجوز يتحرج، يتورع، يتنزه عن أشياء فعلها أفضل الخلق و أتقى الخلق عليه الصلاة و السلام.(1/31)
الثالث من أنواع الورع الفاسد و صوره و لا أقصد بذلك الحصر ( ما بُني على أصل فاسد ) و قد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الفقهاء وضع قاعدة فاسدة و هي أن الحلال في تلك الأزمان التي قرروا فيها قاعدتهم أن الحلال متعذر و أن الحرام قد طبق الدنيا فلا سبيل إلى الكسب الحلال إذن ما الحل؟ قالوا لا يأخذ إلا بقدر الضرورة.. طبعاً بقدر الضرورة هذا الذي أخذه ما حكمه ؟؟ هو حرام على قولهم و قاعدتهم الفاسدة فهو أخذ من الحرام فجرّ ذلك أقواماً إلى أخذ الحرام كيفما اتفق و قالوا القضية متساوية الحرام قد طبق الدنيا و الحلال متعذر إذن نحن نأخذ من هذه الدنيا ما وقع في اليد فالحلال عندهم ما حل في اليد فانتهكوا حدود الله عز و جل و محارمه و جانبوا الورع مجانبة فاسدة و الواقع أن الحرام لم يطبق الدنيا و إن قال من قال من الفقهاء و كان بعض أهل العلم يحض على كسب الحلال و يحذر من الوسوسة فيه و كثرة البحث و يرد من قال إنه قد انقطع و يستدل على بقاء الحلال بقول النبي صلى الله عليه و سلم:( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ) و يقول لو لم يأكلوا الحلال ما كانوا على الحق فقرر بعض أهل العلم أن أسواق المسلمين محمولة على الحل و أن معاملاتهم على الحل إلا ما دل الدليل على منعه و تحريمه.(1/32)
الرابع من أنواع الورع الفاسد ( ما كان على سبيل المبالغة و الغلو و التنطع و الوسوسة ) و قد نبه على هذا ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب و ذكر بعض أمثلته المعيبة كمن يتورع أن يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه و ذكر أن بعض العباد الذين لم يكن لهم حظ من العلم امتنع أن يأكل شيئاً من بلاد المسلمين فكان يوصي أن يُجلب له الطعام من بلاد غير المسلمين من النصارى يقول ابن القيم 'فأوقعه الجهل المفرط و الغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين و حسن الظن بالنصارى' نعوذ بالله من الخذلان ثم عقب ذلك بقوله 'فحقيقة التعظيم للأمر و النهي أن لا يعارض بترخص جاف و لا يعرّض لتشديد غالٍ فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز و جل بسالكه و ما أمر الله عز و جل بأمر إلا و للشيطان فيه نزغتان إما تقصير و تفريط و إما إفراط و غلو فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فيأتي إلى قلب العبد و يشم هذا القلب فإن وجد فيه فتوراً و توانياً و تراخياً أخذه من هذه الناحية فثبطه عن الطاعة و أقعده و ضربه بالكسل و التواني و الفتور و فتح له باب التأويلات و المخارج و الرجاء و أن الله غفور رحيم و غير ذلك حتى لربما ترك العبد المأمور جملة و إن وجد عنده حذراً و ترقباً و ميلاً إلى التعبد فإنه يأخذه من جهة الغلو فيفسد عليه دينه بتحريم الحلال و التنطع في ذلك و المبالغة في التعبد فيأمر هذا الإنسان أن لا يرقد إذا رقد الناس فيقوم الليل أجمع و أن لا يصوم إذا أفطروا فيصوم الدهر و إذا غسل يديه و وجهه ثلاثاً قال له هذا لا يكفيك و إنما هذا لعامة الناس و إنما تغسلها أنت و أمثالك سبعاً فيغريه بهذه المبالغات حتى يُخرجه عن الصراط المستقيم إما بهذا و إما بهذا' و قد قال الحافظ في الفتح عن ورع الموسوسين يقول 'كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه و كمن يمتنع من شراء ما يحتاج إليه من(1/33)
مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام' هو ما يدري هذا الإنسان الذي اشترى منه هذه السلعة هل عنده مكاسب حرام و إلا لا يقول أتحرز منه..! النبي صلى الله عليه و سلم كان يبيع و يشتري مع اليهود ليست مسؤولاً عن مكاسبه أنت وصل إليك هذا المال بطريق مباح و هو البيع.. وصلت إليك السلعة بطريق مباح و هو الشراء.. ما لم تعلم أن هذه السلعة أو أن هذا المال بعينه من قبيل المسروق و يقول أسعد ابن زياد عن شيخه الداودي المتوفى سنة 467 هـ يقول بقي أربعين سنة لا يأكل لحماً وقت تشويش التركمان و اختلاط النهب *يعني أن حصل فوضى في البلد و حصل نهب و سلب فاختلطت الأملاك فصار لا يدري عن هذه الجلائب التي تجلب إلى الأسواق من هذه البهائم.. بهيمة الأنعام و ما نتج عنها من اللحوم فصار لا يأكل إلا السمك* يقول فأضر به فكان يأكل السمك و يُصطاد له من نهر كبير فحكي له أن بعض الأمراء أكل على حافة ذلك النهر و نُفضت سفرته و ما فَضَل في النهر فما أكل السمك بعد' يعني إذا السمك أكل من بقيت السفرة و معنى ذلك أن هذا السمك صار لا يحل أكله فهذا من الورع المتنطع فيه المتكلف.
الثاني عشر: كيف نربي أنفسنا على الورع أقول يكون ذلك بأمور..(1/34)
الأول ( أن تجعل بينك و بين الحرام سترةً من الحلال ) تضع حاجزاً من الحلال كما قال بعض السلف 'ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام' كما سبق و جاء عن ميمون ابن مهران رحمه الله أنه قال 'لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه و بين الحرام حاجزاً من الحلال' و قال سفيان ابن عيينة 'لا يصيب العبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه و بين الحرام حاجزا من الحلال و حتى يدع الإثم و ما تشابه' و يكفي قول النبي صلى الله عليه و سلم :( لا يبلغ للعبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس' و قد سبق و هذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول 'إن إتمام التقوى أن يتقي العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً فيكون حجاباً بينه و بين الحرام فإن الله عز و جل قد بين للعباد الذي مصيرهم إليه و لهذا كان ابن عمر رضي الله عنه يقول 'إني لأحب أن أدع بيني و بين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها' و كان بعضهم يقول 'كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام' و قد قال الحافظ رحمه الله ' إن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه' بهذا الضابط ليس كل الحلال و إنما ما خُشي منه الإفضاء إلى هذا المعنى يقول 'كالإكثار من الطيبات فإنه يُحوج إلى كثرة الاحتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضي إلى بطر النفس و أقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية و هذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان' انتهى كلامه رحمه الله و يقول بعضهم 'المكروه عقبة بين العبد و الحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام و المباح عقبة بينه و بين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى مكروه'(1/35)
و أمر أخر يوصلنا إلى هذه المراتب من الورع ( إذا رابك شيء فدعه ) و هذا أمر في غاية السهولة و لهذا قال حسان ابن أبي سنان رحمه الله 'ما زاولت شيئاً أهون من الورع قيل له لأي شيء قال: إذا رابني شيء تركته' و هكذا قال سفيان الثوري 'ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه' و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم :( البر ما سكنت إليه النفس و اطمئن إليه القلب و الإثم ما لم تسكن إليه النفس و لم يطمئن إليه القلب ) كما سبق يقول ابن مسعود 'إياكم و حزائز القلوب و ما حز في قلبك من شيء فدعه' عرفنا أن حزائز القلوب هي الأمور التي تتردد ( الإثم ما حاك في نفسك ) هذه حزائز القلوب.
الأمر الثالث مما يوصلنا إلى الورع ( محاسبة النفس ) حاسب نفسك كيف اكتسبت و حاسب نفسك إذا تكلمت أو إذا أردت أن تتكلم و حاسب نفسك إذا أردت أن تفعل فعلاً أو أن تترك شيئاً.. حاسب نفسك هذا أبو جعفر العباداني يقول 'ينبغي للرجل أن ينظر رغيفه من أين هو و درهمه من أين هو'يقول بشر الحافي 'ينبغي للرجل أن ينظر خبزه من أين هو و مسكنه الذي سكنه أصله من إيش ثم يتكلم' و يقول الحسن 'إن أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله في الدنيا فوقفوا عند همومهم و أعمالهم فإن كان الذي هموا به لله مضوا فيه و إن كان عليهم أمسكوا و إنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا أخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر ثم قرأ:( يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها)'(1/36)
رابعاً ( إحياء الشعور بأهمية هذا الأمر ) كطرح هذا الموضوع.. الناس يكونون في غفلة في كثير من الأحيان فإذا طُرحت هذه القضايا تحركت في النفوس و وجدت الدواعي إلى تحقيقها و الوصول إلى تلك المرتب هذا أبو حازم رحمه الله يقول 'لوددت أن أحدكم يتقي على دينه كما يتقي على نعله' الدين أهم من النعل و مع ذلك يحتاط الإنسان لنعله و ثوبه ما لا يحتاط إلى دينه في كثير من الأحيان و هذا الضحاك ابن عثمان يقول ' أدركت الناس و هم يتعلمون الورع و هم اليوم يتعلمون الكلام' يعني العلوم الكلامية و الجدل الذي لا قيمة له و لا يوصل إلى مطلوب.
خامساً ( تحقيق اليقين ) و قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:( أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حلّ و دعوا ما حَرُم ) إذا أيقن العبد أن رزقه قد كُتب و أن الله عز و جل قد كَتب ذلك في اللوح المحفوظ و قدره قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة كما أن الله أرسل إليه الملَك بعدما تم له أربعة أشهر فأُمر بأربع كلمات و منها رزقه فالرزق مكتوب فلماذا يجترأ العبد على الأمور المحرمة أو الأمور المشتبهة.. ما كتب الله لك فسيأتي قطعاً لا محالة فإن استعجلت أخذته بالحرام و إن صبرت جاءك عن طريق الحلال فلماذا التهافت على الدنيا..؟! و لهذا يقول النبي صلى الله عليه و سلم :( فاتقوا الله ) يعني دعوا ما حرم و ما اشتبه ( و أجملوا في الطلب ) أي لا تتهافتوا عليها و تذهب أنفسكم على الدنيا حسرات فليس لكم إلا ما كُتب و ما لم يُكتب فإنه لا يمكن أن تحصلوا عليه.(1/37)
سادساً ( تنمية الخوف من الله و خشيته و تعظيمه في النفوس ) فمن عرف الله و عرف عظمته و قدْره و قدَّره و عظّمه و عظم حرمات الله عز و جل فإن ذلك يصل به إلى الاحتياط فيترك ما لا يليق و يجانب ما فيه اشتباه فضلاً عن المحرمات و هذا أمر لا خفاء فيه.
سابعاً و أخيراً ( العمل على تحقيق التقوى في النفوس ) التقوى إذا وجدت استقامت أحوال الإنسان و ترك الحرام و ترك المشتبه و إذا ضعفت التقوى فإن الإنسان لا يترك ما حرم الله عليه تأتي لإنسان يعمل في البنك تقول له كسبك حرام و عملك حرام و غُذيت بالحرام و تطعم أولادك الحرام فهو سحت في سحت و أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به فيقول لك هذا عيش العيال وين أحصل وظيفة أو يقول *إذا كنا في حفرته يفعل فينا قدرته* كما عبّر أحدهم ( إذا وقعنا في حفرته يفعل فينا قدرته ) فهذا إنسان ما عنده تقوى بينما إنسان يأتيك و هو يضطرب يرتعش و يقولك: أنا دخل علي المكسب الفلاني.. المال الفلاني لا أدري هل هذا يحل لي أو أتركه؟ فتقول له أتركه هذا فيدعو لك و يفرح بهذه النصيحة و الآخر يغضب و يقول أنت موكول بي..؟ من طلب منك أن تحاسبني و أن تنكر علي و أن تتجرأ علي بما اجترأت به ؟. لماذا يتفاوت الناس في هذا.. بسبب التقوى التي تتفاوت في قلوبهم أيها الإخوان ، الآن الإنسان التقي إذا عرف أن هذا من الواجبات أو هذا من الأمور المشروعة فعله و الآخر تقول له يا أخي هذا واجب.. هذا حرام و يضحك و يسخر منك لماذا..؟ هذا إنسان و هذا إنسان لكن هذا وجدت عنده التقوى و الآخر ما وجدت عنده التقوى و لهذا يقول الحسن ' ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام' و يقول الثوري 'إنما سموا بالمتقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى' يعني من غيرهم هذه بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع و بقي طائفة منه سأتحدث عنها بإذن الله عز و جل في مجلسين آخرين..(1/38)
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين أما بعد ،، فقد تحدثنا أيها الإخوان في أول الكلام على الورع عن جملة أمور أولها عن معناه و حقيقته و الثاني: عن الفرق بينه و بين الزهد
و أما الثالث: فهو جواب على سؤال هل الورع أمر سلبي أو ايجابي؟
و الرابع: في بيان منزلة الورع
و الخامس: الورع في الكتاب و السنة
و أما السادس: ففي ذكر الأمور التي عليها مدار الورع
و أما السابع: ففيما لا يدخله الورع
و الثامن: في مراتب الورع
و التاسع: في مراتب الناس فيه
و العاشر: في فقه الورع
و أما الحادي عشر: ففي الورع الفاسد
و الثاني عشر: كيف نربي أنفسنا على الورع و اليوم نتحدث بإذن الله عز و جل عن خمس نقاط و هي الثالث عشر إلى السابع عشر.
فالثالث عشر: في علامة أهل الورع و يمكن أن أختصر القول في ذلك فأقول إن صاحب الورع يمكن أن يعرف بأمر واحد و هو قدرته على ترك ما فيه مجرد الشبهة أو على فعل ما يمكن أن يكون لازماً لمثله يقول الخطابي رحمه الله 'كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه' و الورعون يكثر حذرهم من الحرام و تضعف جرأتهم على الإقدام إلى ما قد يجر إليه و في هذا يقول النبي صلى الله عليه و سلم:( الحلال بين و الحرام بين ) إلى أن قال كما في بعض الروايات ( فمن ترك ما شُبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك و من اجترأ على ما يُشك فيه من الإثم أوشك أن يوقع ما استبان ) و هو في صحيح الإمام البخاري رحمه الله
و أما الرابع عشر: ففي بيان ثمرات الورع و آثاره السلوكية التي تحصل للعبد(1/39)
و أول ذلك أن القليل معه كثير لأن صاحبه نقي الثوب لا تثقله الأوزار و لا تدنسه المشتبهات فهو طيب خفيف الحمل من الذنوب فهو يترك ما اشتبه عليه فضلاً عما تُحُقق تحريمه و بهذا يكون العمل بالنسبة لمثل هذا و إن قل يكون عمله الصالح كثيراً لأن العبرة بالموازنة فمن غلبت حسناته سيئاته فقد نجا و من غلبت سيئاته حسناته فقد هلك ولهذا قيل ويل لمن غلبت آحاده عشراته أي أن الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بسيئة فمن غلبت آحاده وهي السيئات عشراته فلاشك أنه مفلس و أنه خاسر وهذا يدل على أن الحسنات عنده قليلة أما إذا كان الرجل لا توجد عنده هذه الذنوب والسيئات والاجتراء على الحرام بل إنه يتجنب الأمور المشتبهة و لا يفرط في أمر الله عز وجل فيمتثل أمره وإذا شك في أمر هل هو مستحب أو واجب فإنه يفعل ذلك و يأتي به إبراءً لذمته و قد قال يوسف ابن أسباط رحمه الله ' يُجزأ قليل الورع عن كثير العمل و يجزأ قليل التواضع عن كثير الاجتهاد ' و قد جاء عن الحسن البصري رحمه الله نحو ذلك حيث قال 'قليل الورع خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة' و جاء رجل إلى العمري العابد فقال له عظني فأخذ حصاة من الأرض فقال: زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض قال زدني قال:كما تحب أن يكون الله لك غدا فكن له اليوم، جاء عن محمد ابن واسع رحمه الله قوله 'يكفي من الدعاء مع الورع اليسير منه' و يقول صالح المري 'المتورع في الفتن كعبادة النبيين في الرخاء'فهذه الآثار جميعاً تدل على أن الورع سبيل إلى تكثير الأعمال و تثقيل موازن الحسنات لأن كفة السيئات تكون متلاشية أو خاوية.(1/40)
و من ثمراته أيضاً و هو الثاني أن ذلك يكون أيسر في حساب العبد إذا تخفف العبد من الأمور المشتبهة و الأمور المحرمة فإن ذلك يكون أيسر في حسابه لأنه إنما يكثر الحساب و يطول بسبب كثرة ما يُقارف العبد من الأمور التي لا ينبغي له أن يقع فيها أو أن يقارفها و قد قال مجاهد رحمه الله 'من لم يستكثر من الحلال خفت مؤونته و أراح نفسه و قل كبره و يقول سفيان الثوري رحمه الله 'عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا و عليك بالورع يخفف الله حسابك و دع ما يريبك إلى ما لا يريبك و ادفع الشك باليقين يسلم لك دينك'
و من ثمراته أيضاً الرفعة و علو المنزلة يقول المروذي: سمعت أبا عبد الله *يعني أحمد ابن حنبل رحمه الله* و ذكر ورع ابن المبارك فقال: 'إنما رفعه الله بمثل هذا' يعني بالورع و يقول أبو نعيم في الحلية 'يا شقيق *يعني البلخي* لم ينبل عندنا من نبل بالحج و لا بالجهاد و إنما نبل عندنا من نبل من كان يعقل ما يدخل في جوفه *يعني الرغيفين* من حله'' من كان يعقل ما يدخل في جوفه من حله' و قد قيل 'من دق في الدنيا ورعه جل في القيامة خطره' و الله عز و جل قد رفع أقواماً بهذا الورع فطرح الله عز و جل لهم القبول و أحبهم الخلق بخلاف من تدنسوا بأوضار المحرمات و قارفوا المشتبهات فإن ذلك يكون حطاً في مرتبتهم.(1/41)
و من ثمراته و هو الرابع ما نعلمه جميعاً أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه فمن تورع عن بعض ما لا يليق رجاء ما عند الله أو خوفاً منه جل جلاله فإن الله عز و جل يعوضه و يفيض عليه من ألوان النعم و الأرزاق و البركات ما لا يقادر قدره و قد قال بعض أهل العلم 'لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال' فإذا تركت الشيء لله فإن الله عز و جل يعوضك و إبراهيم صلى الله عليه و سلم لما ترك الأهل و الوطن و العشيرة و اعتزل قومه و هجرهم في الله و لله قال الله عز و جل:( فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب ) فعوضه الله عز و جل بالذرية الطيبة الصالحة الذين ينسونه الوطن و الأهل و العشيرة الذين لم يكونوا على دينه.
و الخامس مما يورثه الورع أنه يكون حاجزاً و حائلاً دون الوقوع في الحرام فهو يعصم صاحبه بإذن الله عز و جل عن الاستدراج لذلك نجد أن من تعاطى ما نهي عنه فإنه يكون مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام و لو لم يقصد الوقوع فيه ابتداءً.
و أمر سادس مما يورثه الورع أنه يصون عرض صاحبه فإن من تنزه عن المحرمات و الشبهات كان عرضه نقياً فيسلم من الأذى و لا يكون لقائل فيه مقال و لا يكون في موضع ريبة و لا تهمة فيكون سالماً بإذن الله عز و جل مستبرءً لدينه و عرضه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم:( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه ) أما الدين فالسلامة و أما العرض فإنه يحفظ بسبب هذا الورع من تهمة الناس و من مقالة السوء و من الوقيعة فيه.(1/42)
و أما السابع من ثمراته فذلك أنه يبلغ بصاحبه المراتب العليا في سلم العبودية يكون في أعلى مراتب العابدين كما قال النظر ابن محمد 'نسك الرجل على قدر ورعه' العبادة على قدر الورع و يقول إبراهيم ابن أدهم 'ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه' و يقول الفضيل 'من عرف ما يدخل جوفه كتب عند الله صديقاً فانظر عند من تفطر يا مسكين' و يقول يحيى ابن أبي كثير 'يقول الناس فلان ناسك*يعني عابد* إنما الناسك الورع' و دخل معاوية ابن قرة على الحسن البصري رحمه الله و هو متكأ على سريره فقال يا أبا سعيد أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال الصلاة في جوف الليل و الناس نيام فقال له فأي الصوم أفضل؟ قال في يوم صائف قال فأي الرقاب أفضل؟ قال؟ أنفسها عند أهلها و أغلاها ثمنا قال فما تقول في الورع؟ *و هو الشاهد* قال ذلك رأس الأمر كله، و يقول آخر'لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال أداء الفرائض بالسنة و أكل الحلال بالورع و اجتناب النهي من الظاهر و الباطن و الصبر على ذلك إلى الموت'
و الأمر الثامن مما يورثه الورع أن صاحبه يوفق للأعمال الصالحة لأنه كما قيل 'من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى' فإن أكل الحرام يؤثر في سلوك العبد فيحصل له تمرد على العبودية و خروج عن طوره و استشراف لما لا يليق و ما لا ينبغي له أن يواقعه و من تورع عن الحرام فإن ذلك يكون ضبطاً لجوارحه و أعماله يقول بعضهم 'من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أو لم يعلم و من كان طعمته حلالاً أطاعته جوارحه و وفقت للخيرات'(1/43)
و أمر تاسع مما يورثه الورع أيها الإخوة و الأخوات أن صاحبه يحصل الأجور العظيمة عند الله عز و جل و قد قيل 'من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء' فالله يعطي هؤلاء و يثيبهم الثواب الجزيل لأنهم تركوا مشتهياتهم و شهواتهم و ما تطمح إليه نفوسهم.. تركوا ذلك لله عز و جل فعوضهم الله تبارك و تعالى خيراً و جزاهم الجزاء الأوفى.
و أما العاشر من ثمراته و هو الأخير فهو له تأثير في تطهير دنس القلب كما قال ابن القيم رحمه الله بأن الورع يطهر دنس القلب و نجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب و نجاسته و بين الثياب و القلوب مناسبة ظاهرة و باطنه و لذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه و حاله إذا رأى الإنسان الرؤيا رأى ثيابه ملطخة ملوثة فإن هذا له مدلول عند أصحاب التعبير يتعلق بقلب هذا الإنسان و عمله يقول ابن القيم رحمه الله 'و لذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه و حاله و يؤثر كل منهما في الآخر و لهذا نُهي عن لباس الحرير و الذهب و جلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية و الخشوع و تأثير القلب و النفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها و دنستها و رائحتها و بهجتها و كسفتها حتى إن ثوب البر ليُعرف من ثوب الفاجر و ليسا عليهما' يعني لم تره على صاحبه تعرف إن هذا ثوب بر و أن هذا ثوب فاجر من الفجار و هو معلق يقول 'و قد جمع النبي صلى الله عليه و سلم الورع كله في كلمة واحدة فقال:( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام و النظر و الاستماع و البطش و المشي و الفكر و سائر الحركات الظاهرة و الباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع و نقل عن إبراهيم ابن أدهم قوله' الورع ترك كل شبهة و ترك ما لا يعنيك و هو ترك الفضلات' على كل حال الورع له آثار كثيرة مما ذكرت و مما لم أذكر من راحة البال و طمأنينة النفس و استراحة الضمير و القلب و نظافة(1/44)
المجتمع و فضلاً عن إجابة دعاء صاحبه و نحن نعرف ذلك الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم عنه يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه يقول: يا رب.. يا رب مع أن دعاء المسافر مستجاب و لكن مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غُذي بالحرام فأنى يستجاب له أو كما قال عليه الصلاة و السلام.
الخامس عشر: في ذكر مفسداته و الأمور التي تضاده و هذا أمر ينبغي أن يعرفه العبد لأن الإنسان قد يجتهد و يجد في تحصيل مطلوب من المطلوبات فيجمع شروطه.. شروط تحصيل هذا الأمر و لكنه في نفس الوقت لا يدفع الموانع التي تمنع من تحقيقه فلا يحصل له فلابد لتحصيل الورع من الأمرين من تحقيق الشرط و انتفاء المانع و هكذا في كل الأشياء من أراد مالاً فعليه أن يحقق شرط ذلك بالسعي و الجد و الاكتساب و أن يدفع الموانع و هي المتلفات للأموال من التبذير و الإسراف و لهذا كان رأس الاقتصاد كما هو معلوم مجموع في أمرين حسن اكتساب المال ( أن يُكتسب بالطرق الصحيحة ) و الأمر الثاني أن يصرف بالطرق الصحيحة فمن اكتسبه بطرق صحيحة لكنه صرفه بطرق غير صحيحة فهو مضياع للمال مهدار له لا يجتمع عنده منه شيء أخرق و كذلك من كان عنده حسن تصريف و لكنه لم يرزق حسن اكتساب فإنه لا يحصل له شيء من ذلك إلا ما شاء الله عز و جل فلابد من اجتماع الأمرين و هكذا في الورع أيها الإخوة لابد من مجاهدة النفس و تحقيق الأمر التي ذكرناها عند الكلام على الطريق إلى الورع و الأمور الموصلة إليه هذا مع دفع الأضداد و الأمور المكدرة له التي لا تجتمع معه بحال من الأحوال و رأس ذلك حب الدنيا و حب الشهوات فإن الورع يناقض ذلك إذ إن الإنسان إذا امتلئ قلبه من محبة الدنيا و من محبة شهواتها فإنه يتهافت عليها و يقبل على تحصيلها و جمعها كيفما اتفق كيف يحصل له الورع و هو بهذه المثابة و قلبه بهذه الحال لأن الورع يحتاج معه إلى ترك الحرام و إلى ترك الأمور المشتبهة التي قد تكون محرمة فإذا كان(1/45)
القلب مشغوفاً بحب الدنيا فإن ذلك لا يتأتى لصاحبه أن يحصل الورع
و من ذلك أيها الإخوان و هو أمر نقع فيه كثيراً التأويلات الفاسدة يريد الإنسان أحياناً أن يتورع و لكنه إذا حضر الطمع تأول لنفسه و بحث عن المخارج إذا حصلت له صفقة.. إذا حصل له شيء من هذا الحطام أو غير ذلك من الأمور التي تحصل له و تعرض له حتى في الأمور التي يفعلها العبد مما يقال إنه واجب أو مستحب أو الأمور التي يقال إنها محرمة إذا أراد العبد أحياناً أن يتورع في ذلك أو في شيء منه تبدت له التأويلات و المخارج و المحامل فقال هذا يخرج بكذا و كذا و كذا ثم قافه و فعله فمثل هذا من أين له الورع.. من أين له الورع..؟! سواء تأول لنفسه أو تأول له غيره كأن يأخذ المال المشتبه و هو يعلم أنه مشتبه و لكنه يقول سألنا هؤلاء فأخبرونا عن هذا الكسب أنه من الحلال الطيب و هو يعلم أنه مشتبه ثم يقول دع ذلك في رقابهم يعرض على الإنسان أحياناً ألوان من المكاسب التي فيها ما فيها ثم يبدأ يوصف ذلك توصيفاً فقهياً لا يتأتى مع الورع فالفتوى شيء أيها الإخوان و الورع شيء آخر فالعالم يفتي ببيان الحلال و الحرام و لا يستطيع أن يلزم الناس بالأحوط و لا أن يلزمهم بالورع و إنما يرشدهم إليه فإذا جاء إنسان و سأل عن لون من المكاسب وصله عن طريق غيره مثلاً فإن التوصيف الفقهي قد يقال فيه في بعض الحالات إن المال إما أن يكون محرماً لوصفه أو أن يكون محرماً لكسبه أو أن يكون محرماً لذاته فما حُرم لذاته كالخنزير و الخمر فإنه يحرم بكل حال من الأحوال سواءً اكتسبته بالشراء أو اكتسبته عن طريق الهبة أو الميراث فإن ذلك لا يحله.. هذا التوصيف الفقهي الآن و القسم الثاني و هو ما حُرم لوصفه كالربا فإنه يحرم و لكنه يحرم على من أخذه و أما من وصل إليه بطريق من الطرق الصحيحة كالهبة و الإرث و البيع و الشراء و ما إلى ذلك فإنه يحل له.. هذا التوصيف الفقهي للمسألة فلو جاءنا إنسان و قال هل(1/46)
آكل مع إنسان أمواله مشتبهة أمواله مختلطة نقول يحل لك ذلك من الناحية الفقهية لأن الكسب الخبيث إنما يتحمل وزره من اكتسبه و أنت لست محاسباً عنه و لكن مقام الورع أرقع من ذلك و هو أن تتنزه عن الأكل معه فأقول قد يتأول الإنسان في كثير من الأمور فيجد لنفسه ألف مخرج و هل هذا هو المقصود..؟ من كان يطلب الورع فإنه لا يبحث عن المخارج و إنما يبحث عن طريق السلامة فالسلامة في المباعدة.
و من ذلك أيضاً مما يفسد الورع الجرأة و الإقدام على فعل المعاصي و ترك الواجبات فإن ذلك يدمر الورع.. فأي ورع يبقى عند هذا الإنسان الذي يجترأ على ترك الواجب و فعل المحرم هل يمكن لهذا أن يترك الشبهة أو أن يفعل أموراً تحتمل الوجوب و عدمه و هو يترك الواجب الواضح الصريح و يفعل المحرم الواضح الصريح.(1/47)
و أمر رابع مما يضاد ذلك الغفلة.. يكون الإنسان في غفلة لا يتفطن لهذه الأمور و لا يتأمل فيها و لا يدقق و إنما يلهو في دنياه و في تجارته و في معائشه فلا يتلبث و يحقق في طرق المكاسب هذه الموضوعات.. فإنها تحيي أموراً في نفوس الناس و قد يظن بعضهم أن ذلك فيه شيء من المبالغة لغلبة الغفلة عليهم و ليس فيها شيء من ذلك فأقول إذا سمع العبد مثل هذه الأمور فإنه يفيق و يبدأ ينظر في تصرفاته و أعماله و لو ترك مع نفسه من غير تذكير فإن الغفلة قد تغلب عليه و يجمع ما شاء الله أن يجمع ثم إذا مات جاء أولاده إذا كانوا من المتورعين يسألون عن مكاسبه كيف يتخلصون مما لا يحل له أخذه منها.. الآن يسألون..! أو يسأل هو بعد أن أخذ هذا بعشرات السنين.. أخذ مالاً لا يحل.. اكتسب مكاسب لا تحل.. كيف السبيل إلى الخلاص و هو لا يعرف أصحابها لطول العهد فأقول إنما فعلوا ذلك لغلبة الغفلة عليهم كما قال ابن القيم رحمه الله 'و الزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين و ذهاب الورع و فساد المروءة و قلة الغيرة فلا تجد زانياً معه ورع و لا وفاء بعهد و لا صدق في حديث و لا محافظة على صديق و لا غيرة تامة على أهله فالغدر و الكذب و الخيانة و قلة الحياء و عدم المراقبة و عدم الأنفة للحرم و ذهاب الغيرة من القلب من شعبه و موجباته' يعني الزنا فالمعاصي لاسيما ما عَظُم قبحه منها تسبب و تؤثر ذهاب الورع و تلاشيه من القلب و هذا هو السر أيها الإخوان في أن كثيراً من الناس إذا حدثته عن هذا الباب رأى أن ما تتحدث به إنما هو نوع من أنواع الغفلة و لا يحب أن يسمع منك إطلاقاً و يرى أن المهارة و أن الحذق إنما هو في جمع المال من أي طريق كان.. يحتال و يكذب و يغش و يظن أن ذلك من المهارة و إذا وجد إنساناً ليس له بصر و لا خبرة بهذا النوع من البيوع و السلع رأى أن تلك من الفرص التي لا تُستَعاض فغشه و خدعه و أوقعه في شراكه.. لماذا.؟ لأنه مجترأ على الله غافل عما(1/48)
هو بصدده يقول عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه للأحنف ابن قيس: 'يا أحنف من كثر ضحك قلّت هيبته و من مزح استخف به و من أكثر من سيء عرف به و من كثر كلامه كثر سقطه و من كثر سقطه قل حياءه و من قل حيائه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه'من قل حيائه قل ورعه.. الحياء لا يأتي إلا بخير فالذي لا يستحي لا يتنزه من التهافت على ما يليق و ما لا يليق كما قال الله عز و جل عن المنافقين و وصفهم في حال الخوف قال:( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم و كان ذلك على الله يسيرا ) هؤلاء من أحط الناس ليس لهم هم إلا الدنيا يتلونون في كل يوم على مذهب و دين هم مع من غلب من أجل حقن دمائهم و إحراز أموالهم فمثل هؤلاء إذا جاء الخوف كانوا في غاية الهلع و الجبن.. إذا جاء الجيش جاء الكفار رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت.. يحرك عينه يمنة و يسرة ببطء شديد لأنه لا يستطيع أن يحرك رأسه مخافة أن يؤتى من الناحية الأخرى (فإذا ذهب الخوف سلقوكم) يعني بسطوا إليكم ألسنةً.. بسطوا إليكم تلك الألسنة الحداد و ذلك بالقول القبيح الشنيع فهم لا يتورعون من القول الجارح و القول العنيف و لو كان موجهاً لرسول الله صلى الله عليه و سلم كما قال قائلهم قبحه الله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل و يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.. حاصروهم محاصرة اقتصادية حتى يتفرقوا عن بلدكم عن مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، هكذا تكون حال المنافق ليس له حياء فهو دنيء لا يستحي من التهافت و المهاترة على حطام الدنيا و على أقل القليل منها عبد الله ابن أبي ابن سلول رئيس المنافقين كان يجلد جاريتين عنده قد أسلمتا يجبرهما على الزنا من أجل أن يكسب من ورائهما و لهذا قال الله عز و جل:( لا(1/49)
تكرهوا فتياتكم على البغاء ) و هو الزنا بأجرة ( إن أردن تحصناً ) فكان يفعل ذلك مثل هذا المنافق.
السادس عشر: في أبواب الورع.. الورع أيها الإخوة و الأخوات لا يقتصر على جانب معين كالورع في الكسب المالي و لا يقتصر أيضاً على الأمور الفعلية كما لا يقتصر على قضايا الترك و التخلي بل يشمل أموراً كثيرة يجمعها قول النبي صلى الله عليه و سلم كما قال ابن القيم رحمه الله ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) فيترك ما لا يعنيه من الأمور المالية و الأمور المتعلقة باللسان و الأمور المتعلقة بغيره من الجوارح و يفعل أيضاً ما هو بصدده و يشتغل بما يعنيه مما أمره الله عز و جل به من الواجبات و المستحبات و يفعل ما يخشى أنه واجب عليه و لهذا نقول أيها الإخوان إن الورع يكون في ناحيتيه في باب الترك و في باب الفعل و يدخل تحت ذلك أبواب كثيرة جداً أذكر عشرة منها و هي:
الورع في المنطق في بااب اللسان و الكلام
و الثاني في المأكل و المشرب
و الثالث في المكاسب
و الرابع في المخالطة و المجالسة
و الخامس في الفتية و الأحكام و الكلام في التفسير
و السادس في النظر
و السابع في السمع
و الثامن في الشم
و التاسع في المنطق
و العاشر أدخل فيه باباً كنت جعلته في الآخر و هو ورع السلف ففيه نماذج من تورعهم في أبواب كثيرة رأيت إفرادها في آخر الكلام على هذا الموضوع(1/50)
أما الورع في المنطق و هو الأول فلا يخفى أن الإنسان محاسب على لسانه و هل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم غي النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم و النبي صلى الله عليه و سلم ضمن لمن يضمن له ما بين لحييه و ما بين رجليه الجنة لأن أكثر ما يؤتى الناس من قيلهم و من شهواتهم *شهوة الفرج* كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله ' إنما أهلك الناس فضول الكلام و فضول المال' و يقول الحسن ابن حي 'فتشت الورع فلم أجده في شيء أقل منه في اللسان' يتورع الإنسان في مأكله و مشربه.. يتورع الإنسان في تجارته.. يتورع الإنسان في فعل بعض الأمور التي يخشى أن تكون من الواجب عليه و لكنه إذا جلس يتكلم أطلق لسانه فصار يقطع أعراض المسلمين و ولغ في لحومهم و هذا شيء مشاهد تجد الرجل يكون فيه إقبال على الله عز و جل و دين و عبادة و لكنك إذا رأيت إلى لسانه وجدت أن لسانه لا يتعفف من الغيبة و النميمة و عيب الناس و لمزهم و همزهم و انتقاصهم.. فتشت الورع فلم أجده في شيء أقل منه في اللسان و سئل ابن المبارك أي الورع أشد قال: اللسان و قال أبو حيان التيمي:كان يقال ينبغي للعاقل أن يكون أحفظ للسانه منه لموضع قدمه و يقول عبد الكريم الجزري 'ما خاصم ورع قط' يعني في الدين.. الجدل و الخصومات في الأنترنت و في غيره بلا طائل في أمور قد لا يجوز له أن يخاصم و أن يجادل فيها مع قلة الأهلية و العلم فهو لا يتورع من ذلك المهم أن يرد و أن يكتب و أن يسجل موقفاً في الرد على هؤلاء يقول إسحاق ابن خلف 'الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة و الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب و الفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة' و ذكوا عند الربيع ابن خثيم رحمه الله رجلاً *ذكروه بسوء* فقال: ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب العباد *يتكلمون فلان فاسق و فلان فاجر و فلان فعل و فلان ترك* و(1/51)
أمنوه على ذنوبهم' يعني أنهم اشتغلوا في توصيف جرائر العباد و جناياتهم.. فلان فعل و ترك.. و أمنوه على ذنوبهم و كان الحري بهم أن يشتغلوا بذنوبهم و بإصلاح نفوسهم عن الاشتغال في الآخرين ففي النفس أيها الإخوة و الأخوات شغل عن ذكر الناس و عن الوقيعة في أعراضهم و لكن من ذا الذي يستطيع أن يطهر لسانه..طهر لسانك تفلح و تنجو فإن أكثر ما نؤتى أيها الإخوان من هذا اللسان و كثيراً ما نتأول يتوب الرجل من الغيبة و النميمة ثم بعد ذلك يقع فيها على رأسه و لربما كان ذلك بالتأويلات الفاسدة يقول: هذه المرة هذا يجب أن يذكر ليحذر.. يجب أن ينبه عليه.. فلان لا حرمة له.. فلان أقول فيه ذلك ديانةً.. و يذكر في هذا المقام يقول أنا مستحضر أمر الغيبة و لكني أقول فيه ذلك تقرباً إلى الله عز و جل فأقول أنت في غناً عن هذه التأويلات و من فتح لنفسه هذا الباب *باب التأويل* فإن ورعه يتلاشى كما ذكرت يقول إبراهيم ابن بشار: سئل إبراهيم ابن أدهم بم يتم الورع.؟ قال 'بتسوية كل الخلق من قلبك' لا تشتغل بهم و اشتغالك عن عيوبهم بذنبك و عليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل.. فكر في ذنبك و تب إلى ربك يثبت الورع في قلبك و أحسم الطمع إلا من ربك، استسقى إنسان من منزل أبي السوّار رجل من الصالحين العابدين المتعففين من أعراض المسلمين فقالت امرأته: ما في الجب قطرة، رجل طلب مالاً فقالت زوجة أبي السوّار ما في الجب *يعني البئر* قطرة. انظر إلى ورع أبي السوار و دقته فقال: ذهب أبو السوّار إلى عَكَر الجب أو ما في أسفله.. هي تقصد أن الجب أن البئر ليس فيه ماء يصلح للشرب إنما فيه ماء ملوث مختلط بالطين و الوحل لكنه يوجد فيه ما يصدق عليه أنه ماء و ذاك إنما أراد أن يشرب فلما قالت ما في الماء قطرة و لاشك أن فيه أكثر من قطرة ذهب أبو السوّار فأخذ في الدلو من هذا العكر يعني المخلوط مع الطين و الوحل فصبه على رأسها و قال يا أم السوّار كم هاهنا من(1/52)
قطرة؟ كم هاهنا من قطرة..؟ و كان قد أقبل عليه رجل فذمّه و أسمعه ما يكره فسكت و انتظر حتى إذا بلغ منزله أو دخل قال حسبك إن شئت الآن افعل ما تشاء.. فهذا من الورع في المنطق ما رد عليه مشى و سكت فلما دخل في بيته قال الآن قل ما تشاء. و هذا أبو فروه يزيد بن محمد المهاوي لقي أحمد بن حنبل رحمه الله في بغداد فسأله الإمام أحمد عن رجل فقال له: الذي عندكم بحران الجوهري عنده علم..؟ يقول فقلت ما أعرف بحران جوهرياً يكتب عنه الحديث فقال: بلى صاحب أبي معبد حفص بن غيلان *يعني صاحب حفص بن غيلان* قلت: ما أعرفه قال: يغفر الله لك له بنون يقول فقلت: لعلك تريد البومة.. رجل يلقب بالبومة لا يعرف إلا بالبومة و الإمام أحمد لا يعرف اسمه و كان يمكن أن يقول الإمام أحمد البومة لأنه لا يعرف إلا بذلك فيقول له الذي عندكم بحران.. الذي يكتب عنه الحديث.. الذي له بنون.. كل الناس له بنون إلا ما شاء الله فقال له البومة فقال نعم.. نعم هو، فالإمام أحمد يتورع أن يذكر هذا بهذا اللقب مع أنه لم يعرف إلا به فهذا ورع صحيح. و جاءت ابنة الربيع بن خثيم الإمام العابد الكبير و عنده أصحابه فأشغلته و أقلقته تستأذنه في الخروج للعب.. بنت صغيرة تريد أن تلعب فتقول ألعب؟ و هو لا يرد عليها ثم تكرر ذلك عليه كثيراً حتى ضجر من بجانبه و قالوا له ائذن لها فلتخرج و لتلعب فماذا قال؟؟ قال لا يُكتب علي اليوم أني أمرتها باللعب.. هذا أمر مباح جارية صغيرة تلعب و هذا أمر لا بأس به لكنه أراد أن ينزه صحيفته من أن يُكتب فيها مثل هذه اللفظة ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) فكم في صحائفنا أيها الإخوة من العبث و القيل و القال..؟ و الأمور التي لا ترجع علينا بطائل و لا تعود علينا بنائل و إنما أقصد من إيراد هذه الأمور أيها الإخوان إحياء القلوب و تحريك النفوس بها لعل الإنسان أن يتبصر بحاله و يفيق من غفلته.(1/53)
و أما الباب الثاني من أبواب الورع فهو الورع في المأكل و المشرب يقول النبي صلى الله عليه و سلم كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه:( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً و إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ) و قال ( يا أيها الذين ءآمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب.. يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و غُذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك و أخرج أبو داود أن امرأة دعت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطعام فجاء و جيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم فأكلوا فنظروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يلوك لقمة في فمه ثم قال:( أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها ) فقالت المرأة: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع ليشترى لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها *يعني بالثمن* فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:( أطعميه الأسارى ) لأن مالكه الحقيقي لم يستأذن و هو زوج هذه المرأة التي بعثت بها و جاء في حديث أنس بن مالك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه عليه الصلاة و السلام مرَّ بتمرة في الطريق فقال:( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه، و جاء من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم:( إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لأكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها ) متفق عليه، و أخذ الحسن رضي الله تعالى عنه و هو صغير تمرة من الصدقة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم:( كخ.. كخ ) أي ألقها و هذه كلمة تقال للصغير من أجل أن يلقي ما في فمه و قد علق ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان على ترك النبي صلى الله عليه و سلم لتلك التمرة فقال 'و أما التمرة(1/54)
التي ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم أكلها و قال أخشى أن تكون من الصدقة فذلك من باب اتقاء الشبهات و ترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته و كان يؤتى بتمر الصدقة يقسمه على من تحل له الصدقة و يدخل بيته تمر يقتات منه أهله فكان في بيته النوعان فلما وجد تلك التمرة لم يدري عليه الصلاة و السلام من أي النوعين هي..؟ فأمسك عن أكلها فهذا الحديث أصل في الورع و اتقاء الشبهات' انتهى كلامه رحمه الله مع أن هذه المسألة يمكن أن توصف من الناحية الفقهية أن يقال إن الأصل هو الحل و أن الأصل في هذه التمرة التي وجدت في بيت النبي صلى الله عليه و سلم أنها مما يملك عليه الصلاة والسلام فله أن يأكلها و لكنه تورع صلى الله عليه و سلم و لذلك قلت لكم إن التوصيف الفقهي للمسالة يختلف عن حكم الورع فليس الشأن أن تفتى في مسألة من المسائل أنها حلال و إنما الشأن أن تتقي ما اشتبه عليك, كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يجلب له خراجاً و كان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من كسب هذا الغلام و من خراجه - يعني أنه رقيق لأبي بكر - فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا.؟ قال أبو بكر و ما هو..؟ قال كنت تكهنت يوماً لإنسان في الجاهلية و ما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني لذلك فهذا الذي أكلت.. هذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.. أخرجه البخاري يقول يعقوب ابن المغيرة ' إني لأتفقه في مطعمي من ستين سنة' و لما قدم شعيب ابن حرب على يوسف ابن أسباط رأى عنده شاباً يكلم يوسف و يغتاظ له يكلمه بشيء من الجرأة و يرفع صوته فقال شعيب: ترفع صوتك..؟ فقال له يوسف ابن أسباط: يا أبا صالح إنه محمد ابن إدريس إنه يدري من أين يأكل.. قال أبو عبد الله كان ابن إدريس رجلاً من الثغر *يعني من المرابطين في الثغور* يقول شعيب: بعد ذلك قلت بأبي أنت و أمي و إني نذرت إذا رأيتك(1/55)
أن أحدثك لماذا احتملوا منه رفع الصوت على هذا العالم.؟ و لماذا نذر هذا الآخر أن يحدثه إذا لقيه..؟ لأنه كان يتورع في مأكله و مشربه كان يدري ما يدخل جوفه.. يقول المعافى بن عمران كان عشرة فيمن مضى من أهل العلم ينظرون في الحلال النظر الشديد لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال و إلا استفوا التراب ثم عد بشر الحافي و إبراهيم بن أدهم و سليمان الخوّاص و علي بن الفضيل بن عياض و أبا معاوية الأسود و يوسف بن أسباط و وهيب بن الورد و حذيفة و شيخاً من حرّان و داود الطائي' و قد قيل لبشر الحافي من أين تأكل..؟ فقال 'من حيث تأكلون و لكن لبس من يأكل و هو يبكي كمن يأكل و هو يضحك' و قال 'يد أقصر من يد و لقمة أصغر من لقمة' و هكذا كانوا يتحرزون من الشبهات أيها الإخوان و كان يقول'ينبغي للرجل أن ينظر خبزه من أين هو و مسكنه الذي سكنه أصله من إيش ثم يتكلم' و هذه امرأة من الصالحات العابدات أتاها نعي زوجها و هي تعجن العجين فرفعت يدها من العجين و قالت 'هذا طعام قد صار لنا فيه شريك' يعني أن هذا العجين صار من أمر الميراث و صار لهم مشاركون فرفعت يدها من هذا العجين و كفت عن عجنه و خبزه فهذا باب دقيق من الورع يقول المرغوذي: سمعت أبا عبد الله *يعني أحمد بن حنبل* يقول 'أكره الشرب من هذه الآبار التي في الطرقات' الطريق هي ممر للسابلة و ليست محلاً لحفر البئر فقد يأتي.. في السابق ليس عندهم بلدية فقد يأتي الرجل و يحفر بئر في وسط الطريق بزعمه أنه محسن إلى الناس و ليس من حقه أن بحفر البئر في الطريق فيقع أحد فيها أو يضيق على الناس طريقهم فهذه الطريق حق للجميع فكان الإمام أحمد رحمه الله يكره الشرب من الآبار التي في الطرقات و إذا نظرنا إلى هذا اللون من الورع فيمكن للإنسان أن يقول إن البرادة التي توضع في الطريق لها هذا الحكم إن كانت خارجه.. إذا كانت خارج البيت لا أعني أن الصنبور يكون خارج البيت و إنما أعني إذا كانت(1/56)
بكاملها في خارج البيت تأخذ حيزاً من الطريق أو من الرصيف فهذا نوع من أنواع الورع ذلك ليس بحرام و لكنه ورع يصلح لأهله و قد قيل للإمام أحمد بئر احتفرت و قد أوصى مخنث أن يعانى فيها.. ترى الشرب منها.؟ و المقصود بهذا المغني فإن المغني يسمى بذلك ( بئر احتفرت و قد أوصى مخنث أن يعانى فيها ) يعني مغني من المغنين حفرها يريد أن يتصدق هذا المغني على الناس بالماء فقيل للإمام أحمد ترى الشرب فيها.. ترى الشرب منها..؟ قال: لا كسب المخنث خبيث يكسبه بالطبل قلت: فإن رش منها المسجد ترى أن يتوقى.؟ فتبسم الإمام أحمد رحمه الله يعني الآن هذه البئر لا يشرب منها طيب لو أن أحداً أخذ منها دلواً فرش المسجد في السابق كانوا يرشون المساجد لأنها من الطين و ليست مبلطة كما هو الآن و إنما يكثر فيها التراب و لربما الحصباء فيرشونها ليتلبد و أيضاً للتبريد فيقول إذا رش من هذه البئر بدلو فهل لنا أن نصلي في هذا المكان الذي أصابه هذا الماء أو لا ؟ فتبسم الإمام أحمد رحمه الله و هذا نور الدين زنكي رحمه الله القائد الفاتح المعروف يقول ابن الأثير'طالعت السير فلم أرى فيها بعد الخلفاء الراشدين و عمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته و لا أكثر تحرياً للعدل منه و كان لا يأكل و لا يلبس و لا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة' لاحظ و هو ملك و سلطان و طلبت منه زوجته مرّة فأعطاها ثلاثة دكاكين فكأنها تقالت ذلك فقال: ليس لي إلا هذا.. هذا ما أملك و جميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين و أبى أن يعطيها شيئاً، خرج علقمة و مسروق و عمرو بن عتبة في الغزو فبلغوا مكان يقال له ( ماسندان ) و كان الأمير آن ذاك على هذه الناحية عتبة بن فرقد فقال ابنه عمرو بن عتبة إنكم إن نزلتم عليه صنع لكم نزلاً يعني ما يعطى للضيف ما يصنع للضيف من الطعام و لعله يظلم فيه أحداً يعني لعله يأخذ من بعض الناس من أجل أن يقريكم أو لعله يمنع بعض المستحقات من أجل(1/57)
أن يصرف في ضيافتكم 'لعله يظلم فيه أحداً' هذا ابنه يقول ذلك يقول و لكن إن شئتم قلنا في ظل هذه الشجرة فأكلنا كسرنا من خبز ثم رجعنا يقول ففعلنا ما نزلوا خافوا أن يطعمهم شيئاً يكون فيه مظلمة لأحد من الناس و بعث أمير البصرة إلى عامر ابن عبد القيس قال له: مالك لا تأكل الجبن..؟! قال 'إنا بأرض فيها مجوس فما شهد مسلمان أن ليس فيها ميتة أكلته' و أما عبيدة السلماني فلما كان بأرض قد كثر القول فيها في الأشربة من النبيذ الذي كان يشربه أهل الكوفة ترك ذلك جميعاً و تورع منه يقول'مالي شراب منذ ثلاثين سنة إلا العسل و اللبن و الماء' ترك تلك الأشربة التي يشتبه فيها هل هي من الأمور المسكرة أو ليست من الأمور المسكرة و زامل يحيى بن سعيد أبا بكر بن عياش إلى مكة يقول: ما رأيت أورع منه لقد أهدى له رجل رطباً فبلغه أنه من بستان أُخذ من خالد بن سلمة المخزومي - يعني من غير إذن - فأتى آل خالد فاستحلهم و تصدق بثمنه' ما قال التبعة على الذي اكتسبه أولاً و قد قدم لنا على سبيل الهدية، و يقول الحسين الجرثي: ربما عطش حمزة فلا يستسقي كراهية أن يصادف من قرأ عليه.. حمزة القارئ الإمام المعروف يعطش أثناء الإقراء فلا يطلب من أحد أن يأتيه بالماء لأنه يريد أن يكون الإقراء لله و لا يأخذ على ذلك عوضاً و لو خدمة يسيرة و هو أن يأمر إنساناً أن يأتيه بشربة ماء.. إلى هذا الحد و لما احتضر ابن المبارك في السفر قال أشتهي سويقاً فلم يجدوه إلا عند رجل كان يعمل لبعض الظلمة فقالوا له: إنه عند فلان فقال: دعوه فمات و لم يشربه.. ما قال عليه إثمه و قد وصل إلي بطريق مباح و قد قيل للإمام أحمد هل للوالدين طاعة في الشبهة..؟ فقال في مثل الأكل.؟ قيل له: نعم قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها و ما أحب أن يعصيهما يداريهما و لا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال:( من ترك الشبهة فقد استبرأ لدينه و عرضه )(1/58)
الثالث من أبواب الورع: و هو الورع في المكاسب قدم على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مسك و عنبر من البحرين و البحرين هي هذه الناحية هذا الساحل كله يقال له البحرين في السابق فقال عمر و الله لوددت أني و جدت امرأة حسنت الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين فقالت له امرأته - طبعاً بالمناسبة دارين هذه كانت معروفة منذ الجاهلية بالطيب يجلب إليها الطيب من أرض الهند و غيرها ثم بعد ذلك ينتشر في أنحاء جزيرة العرب فجلب للنبي صلى الله عليه و سلم من البحرين و دارين هذه من جملة البحرين - فالحاصل أن عمر رضي الله عنه تمنى امرأة حسنت الوزن تزن له هذا الطيب ليقسمه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك.. قال : لا قالت: لم ؟! قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا ثم أدخل أصبعه في صدغيك و تمسحين به عنقك فأصيب فضلاً على المسلمين خشي أن تمس شيئاً من هذا الطيب و تمسح به صدغها فيكون قد اقتطع حقاً من حقوق المسلمين و أعجب من هذا أنه في بعض المرّات دفع لامرأته طيباً من طيب المسلمين من أجل أن تبيعه فباعته امرأته على امرأة تبيع العطور و تشتري العطور فجعلت امرأة عمر تقوم و تزيد و تنقص و تكسر بأسنانها من هذا الطيب فيعلق بأصبعها شيء منه فقالت به هكذا هذا الآن هي تصلح هذا الطيب و تبيع و تكسر من هذه من أجل أن تزن فعلق شيء بأصبع زوجة عمر فقالت به هكذا و مسحت على خمارها و هو غطاء الرأس قالت: فدخل عمر فقال: ما هذه الريح.؟؟ لما رجعت إليه قال ما هذه الرائحة.؟ فأخبرته فقال: طيب المسلمين تأخذينه أنت تتطيبين به قالت فانتزع الخمار من رأسها و أخذ جزءً من الماء فجعل يصب الماء على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ثم يصب عليه الماء ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ففعل ذلك ما شاء الله حتى ذهبت الرائحة هذا عمر فقالت العطارة *المرأة التي تشتري منها الطيب* ثم أتيتها مرة أخرى(1/59)
فلما وزنت لي علق بأصبعها منه شيء فعمدت فأدخلت أصبعها في فيها ثم مسحت بأصبعها التراب فمسحت في خمارها قالت: فقلت ما هكذا صنعت أول مرة قالت: أو ما علمت ما لقيت منه لقيت منه كذا و كذا و كذا و قد أحسن من قال:
فمن يجاري أبا حفص و سيرته أمن يحاول للفاروق تشبيها
إذا اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمين به أولى فقومي لبيت المال رديها
زوجة الخليفة تريد قطعة من الحلوى فيقول من أين لي ذلك.. من أين لي ذلك.؟! هذه أموال المسلمين و أنا خازن لها.. و مرّ رجل يحمل حشيشاً فتناول رجل منه طاقة.. أخذ منه قبضة شيئاً يسيراً فقال له عبد الله بن عمر لما رأه أرأيت لو أن أهل منى أخذوا منه طاقة طاقة يعني كل واحد مرّ به أخذ منه قليلاً هل يبقى منه شيء قال:لا قال: فلم فعلت.؟ الرجل يرى أن ذلك من الشيء اليسير الذي لا قيمة له.. فابن عمر يقول له لو أن أهل منى و هم كثير كل أحد أخذ منه هذا اليسير ما بقي منه شيء فبأي حق أخذته ؟؟ و هذا حماد بن زيد الإمام المعروف يقول كنت مع أبي فأخذت تبنة من حائط البيوت كانت من الطين و معلوم أن بيوت الطين تصنع من اللبِن و يمسح على ذلك الطين المخلوط أعزكم الله و من يسمع بالتبن من أجل أن يتماسك الطين فتجد أن جدار الطين ممسوح بالطين و التبن عالق به يقول كنت مع أبي فأخذت تبنة من حائط فقال لي: لم أخذت؟؟ قال: قلت إنما هي تبنة قال: لو أن الناس أخذوا تبنة تبنة كان بقي في الحائط تبن.؟؟ يعني حتى لو كان ذلك يسيراً و كان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه خمسة ألاف و كان أميراً على زهات ثلاثين ألفاً من المسلمين و كان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها و يلبس بعضها و هو الأمير فإن خرج عطاؤه راتبه أمضاه و يأكل من شغل يده حتى الراتب ما كان يأكل شيئاً منه كان يأكل من صنعة يده.. من عمل يده و مرّ عبادة بن الصامت بقرية يقال لها دمر فأمر غلامه أن يقطع له سواكاً(1/60)
على ضفاف نهر عليه زروع للناس فمضى هذا الغلام ليفعل ثم دعاه ثانية و قال له: ارجع فإنه إلا يكن بثمن و هو رطب الآن يعني لا قيمة له فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن فيبيعونه و هذا المسور بن المخرمة رحمه الله احتكر طعاماً كثيراً من أجل أن يبيعه في الشتاء إذا قل الطعام فرأى سحاباً في الخريف معنى ذلك أن الشتاء قد يكون فيه شيء من الحطة لأن الناس يزرعون على المطر عادة فلما رأى سحاباً في الخريف ضاق صدره و كره ذلك لأن هذا سيفسد عليه هذه الصفقة ثم نظر في حاله و في نفسه ثم قال 'لا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين من جاءني أوليته كما أخذته' يقول من جاء إلي أبيعه برأس المال فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: من لي بالمسور فجاء المسور إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إني احتكرت طعاماً كثيراً فرأيت سحاباً قد نشأ فكرهتها فتأليت *يعني حلفت* أن لا أربح فيها شيئاً فقال عمر: جزاك الله خيراً و كان المسور لا يشرب من الماء الذي يستقى في المسجد و يرى أنه من قبيل الصدقة فكان يتورع عن الصدقة لأنه غني.. إلى هذا الحد مع أنه يجوز له أن يشرب منه و هو ماء مبذول للجميع لكن من كان في منزلة المسور ين مخرمة فلا يشرب و من كان يقع في الحرام جهاراً فهذا الورع لا يليق به و لا يصلح لمثله فهو ورع بارد إن صدر منه و كان محمد بن سيرين يكره أن يشتري بالدراهم أو الدنانير التي أحدثت و قد كتب عليها اسم الله تعالى يكره ذلك تعظيماً و تنزيهاً لله لئلا يمتهن اسمه و هذا ابن عون كان في غاية الورع حتى إنه كان يتورع من تأجير بيته للمسلمين و لما سئل عن ذلك قال' أخشى أن أروعهم إذا جئت لأخذ الأجرة' و يقول الذهبي رحمه الله عن يزيد بن زريع المتوفى سنة اثنتين و ثمانين و مائة كان أورع أهل زمانه مات أبوه و كان والياً على الأبله فخلف خمسمائة ألف فما أخذ منها حبة و كذلك البربهاني رحمه الله صاحب كتاب شرح السنة فإنه تورع عن مال أبيه و كان سبعون ألفاً و يقول(1/61)
يونس بن عبيد 'ما السارق عندي بأسوأ سرقة من التاجر يشتري المتاع إلى أجل ثم يضرب فيه إلى البلدان لا يكتسب درهماً بعد الأجل إلا كان حراماً' ما معنى هذا الكلام.؟؟ هذا التاجر اشترى هذه البضاعة على أن يوفي في مدة شهر ثم جعل يسافر في هذه البضاعة و يبيعها في البلدان و زادت المدة على الشهر فيرى أن كسبه بعد الشهر حرام لأنه لم يوفي صاحبه قيمته و قد اشترط عليه شهراً و قل مثل ذلك فيمن يأخذ من الناس أموالهم من أجل أن يشغلها لهم ثم بعد ذلك تنقضي مدة العقد و لا تزال هذه الأموال بيده و الناس يطالبونه بأموالهم و هو يتصرف فيها فهو لا يكتسب درهماً واحداً بعد تمام مدة العقد إلا كان سحتاً حراماً في حقه و أين هذا أيها الإخوان ممن يقترض من الناس لمدة معينة لمدة شهر أو سنة ثم تنتهي هذه المدة و يتعمد التأخير من أجل أن ينمي هذه الأموال و يكتسب من أموال الناس أين هذا من هذا..! يقول شعيب بن حرب رحمه الله 'لا تحقرن فلساً تطيع الله في كسبه ليس الفلس يراد إنما الطاعة تراد عسى أن تشتري به بقلاً فلا يستقر في جوفك حتى يُغفر لك' يقول لا تتهاون في هذه الأمور فإن أكل الحلال قد يكون سبباً لمغفرة الله عز و جل ذنوب العبد و كُلم بعض السلاطين أن يولي رجلاً من الصالحين يقال له زكريا بن عدي أن يوليه على قرية و يعطيه راتباً.. يعطيه ثلاثين في الشهر ثلاثين درهماً و هو شيء يسير فولاه على هذه القرية فلما كان الشهر رجع و قال ليس أجدني أعمل بقدر الأجرة.. الأجرة كانت ثلاثين درهماً فبعد الشهر قال: إن العمل الذي أعمله لا يكافئ الأجرة الأجرة أكبر من ذلك أنا مقصر في العمل و سلم لهم عملهم فماذا يقول الذي يتولى أعمال و وظائف ثم بعد ذلك يضيع هذا العمل الذي أميط به و يقصر فيه و لا يأتي به على الوجه المطلوب و هكذا حينما يتنافس الناس أصحاب المقاولات على مناقصة فيطرح أقل الأسعار و يضع أعلى المزايا ثم إذا استقر ذلك في حقه فرط و ضيع و(1/62)
أخل بالشروط إذا وجد منهم غفلة أو استطاع أن يحتال عليهم و ما علم أن الله عز و جل حسيبه و أن الله يعلم تلك الخيانة التي خانها زكريا بن عدي هذا اشتكت عينه فأتاه رجل بكحل فقال أنت ممن يسمع مني الحديث أليس كذلك.؟ قال نعم فأبى أن يأخذه منه لئلا يكون ذلك في مقابل بذل حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و تعليم العلم و هذا محمد بن واسع الإمام العابد المعروف خرج إلى السوق ليبع حماراً فقال له رجل أترضاه لي.؟؟ هل ترضى لي هذا الحمار يعني هل هو جيد أشتريه فقال: لو رضيته لم أبعه؟ ما قال أبيعك كوم حديد كما يقول كثير من باعة السيارات و يظن بذلك أنه يتخلص من أكل الحرام ثم إذا اشتراها هذا المسكين و اكتشف بعد ذلك فيها من العلل ما شاء الله أن يكتشف و عاد إليه قال إنما بعتك كوماً من الحديد هذا لا يبرأ ذمته، يقول: أترضاه لي قال: لو رضيته ما بعته و هذا أبو شعيب أيوب بن راشد كان من أورع الناس كان يكنس بيته و يحمل ما تساقط من حيطان الجيران من التبن فيحمل ذلك و يدفعه إليهم من شدة ورعه يقول بن المبارك استعرت قلماً بأرض الشام و ذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو ..لاحظ في المشرق.. نظرت فإذا هو معي رجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه لو أخذ بفتوى فقهية كان قال هذا شيء يسير لا يُكترث به و لا يُبحث عنه عادة و يمكن أن يُتصدق به عن صاحبه و التبعة و المشقة و النفقة من مرو إلى الشام أعظم بكثير من قيمة هذا القلم و لكنه رجع و رده إليه و هذا أبو إسحاق الشيرازي صاحب التبصرة و هو من أجل علماء الشافعية دخل المسجد ليتغدى فنسي ديناراً في المسجد ثم ذكر فرجع فلما وجده ما قال هذه بغيتي و هذا المال الذي قد أضعت فكر و قال لعله وقع من غيري لعل هذا الدينار ليس هو الدينار الذي وقع مني فتركه و قد علق عليه بعض من ذكر ذلك في ترجمته فقال'هذا هو الزهد.. هكذا.. هكذا و إلا فلا و هذا هو الورع و إن لم يكن المرء هكذا و إلا فلا يؤمل من(1/63)
الجنة أماله و هذا هو خلاصة الناس و هذا هو الحلي و ما يظن أنه نظيره فذاك هو الوسواس و إن كان تقاً فهذا هو العمل الأتقى و إن كانت همة فمثل هذه الهمم التي لا يتجنبها إلا الأشقى' انتهى و هذا كُهْمُس رحمه الله سقط منه دينار ففتش فلقيه فلم يأخذه قال لعله سقط من غيري لعله غير الدينار الذي سقط مني يقول الإمام أحمد و قد ذكر ورع عطاء بن محمد الحرّاني قال: كان إذا قدم مكة حمل معه أحمال الطعام و قال لا أنافس أهل مكة في سعرهم يعني هو الآن طارئ على مكة ليس من أهل مكة فإذا زاد الطلب ارتفعت الأسعار فيقول لا أريد أن أكون ممن ينافس أهل مكة في سوقهم و سعرهم فيكثر الطلب على البضائع فترتفع الأسعار على أهل مكة كان يحمل طعامه من بلده و يقول لا أنافس أهل مكة في سعرهم و كان يتأول هذه الآية ( و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) هذا ذكره عنه الإمام أحمد رحمه الله و يقول يونس بن عبيد 'إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم' و قال 'ما أهم رجلاً كسبه حتى أهمه أن يضع درهمه' الرجل الذي يتورع في المكاسب يتحير المساهمة الفلانية فيها شبهة و المشروع الفلاني فيه شبهة و العمل الفلاني لا يخلو من محظور و فتح الحلاق سيحلق الناس فيه لحاهم و يحلقون القصات المحرمة و فتح الخياط تخيط به النساء بعض ما لا ينبغي من اللباس و بعض المضاربات و المساهمات فيها أجزاء من الربا أو القمار و الشقق المفروشة قد تستغل في أمور لا تليق و هكذا.. فيبحث عن شيء يضع فيه درهمه ليتجر فيتحير هذا هو المتورع 'ما أهم رجلاً كسبه حتى أهمه أن يضع درهمه' و انظر إلى هذا المثال العجيب "غلا الخز لون من الحرير في موضع إذا غلا في ذلك البلد غلا في البصرة" فجاء يونس بن عبيد إلى خزاز *إلى رجل يبيع الخز* فاشترى منه يونس بن عبيد و كان يونس بن عبيد قد وصله معلومة أن الخز قد ارتفع في ذلك البلد فمعناه أنه سيرتفع في البصرة فاشتراه يونس بن عبيد من هذا الرجل(1/64)
بالبصرة و هذا الرجل لم يعلم فاشتراه بثلاثين ألفاً فلما كان بعد ذلك جاء إليه و قال له: هل كنت علمت أن المتاع غلا بأرض كذا و كذا حينما بعتني؟ قال: لا و لو علمت لم أبع قال: فهلم إلي بالمال و خذ أنت الخز ما قال فرصة و حصل البيع و الشراء و هذه شطارة و عندي مهارات في الاتصال استطعت فيها أن أعرف أن السعر قد ارتفع هناك فهذا رزق ساقه الله إلي و التجارة شطارة.. لا.. رجع إليه قال كنت تعلم أو لا تعلم أن السعر قد ارتفع في البلد الفلاني قال ما كنت أعلم قال فخذ الخز مع أنه يحل له أن يكتسب من وراء هذه التجارة و أن يتملك هذا الخز لكن لشدة ورعه تركه و هذا فرات بن مسلم كان يعرض على عمر بن عبد العزيز كتبه في كل جمعة فعرض عليه ذات يوم فاحتاج عمر رضي الله عنه أن يقطع ورقة من هذه الكتب فكتب فيها عرشيها ثم سئل عمر ثم دعا هذا الرجل و قال له هات الكتب فوضعها عنده يقول هذا الرجل فلما انصرفت وجدت بداخلها ورقة بقدر تلك الورقة التي أخذها عمر بن عبد العزيز قطع ورقة من كتاب من كتبه.. قطعة من ورقة فردها إليه تورع مع أن هذا شيء تافه و اشتهى رحمه الله أعني عمر بن عبد العزيز اشتهى يوماً عسلاً و لم يكن عندهم عسل فوجهت زوجته فاطمة بنت عبد الملك وجهت رجلاً على دابة من دواب البريد إلى بعلبك بدينار من دمشق إلى بعلبك على دابة من دواب البريد التي ينقل فيها الرسائل و ما إلى ذلك فجاء هذا الرجل بالعسل فقالت امرأته *امرأة عمر بن عبد العزيز* إنك ذكرت عسلاً و عندنا عسل فهل لك فيه..؟ قالت فأتيناه به فشرب ثم قال: من أين لكم هذا العسل.؟؟ قالت وجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد بدينار إلى بعلبك فاشترى لنا عسلاً فأرسل إلى الرجل فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه و اردد إلينا رأس مالنا و انظر إلى الفضل *الزيادة* منه فاجعله في علف دواب البريد لأنه جاء به على دابة من دواب البريد 'فاجعله في علف دواب البريد و لو كان ينفع(1/65)
المسلمين قي لتقيأت' ما قال أنا أقوم على مصالح المسلمين و أقضي الليل و النهار عملاً في مصالحهم و سعياً في حقوقهم فماذا تعني هذه القضية أن يذهب رجل على دابة من دواب البريد على سيارة من سيارات البريد أو من سيارات المسلمين أو من سيارات الدولة من أجل أن يأتي لي بهذا الغرض الشخصي.. هذا باب نحتاج إليه.. الإنسان قد يتساهل.. قد يعمل الإنسان في جهة من الجهات فيأخذ سيارة من سيارات هذه الجهة سواء كانت شركة أو دائرة من الدوائر أو كان ذلك لمؤسسة خيرية و هذا أشد ثم يذهب في مشاويره الخاصة فيوصل أبنائه.. يخرج فيها للنزهة بل لربما أخذ بعضهم سيارة في يومين أو ثلاثة و جاء و قد مشى فيها مئات الكيلو مترات في أمور خاصة و هذا أمر لا يليق و هو مناف تمام المنافاة للورع.. هذه أموال المسلمين و هكذا إذا أراد أن يسافر في هذه المؤسسة الخيرية إذا كان مثله لا يركب إلا الدرجة السياحية في الطائرة فلماذا إذا ذهب على حساب هذه الجمعية الخيرية يأخذ تذاكر على الدرجة الأولى..؟ لماذا.؟ أين الورع؟! الورع يقتضي أن يسافر كما كان يسافر إذا دفع من جيبه أما إذا سافر في أموال المسلمين و في التبرعات ذهب في الدرجة الأولى و إذا سافر على حسابه ذهب في الدرجة السياحية أو في النقل الجماعي فهذا أمر لا يحسن يقول مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه فلا يدخل عليه أحد فجاءته جارية بطبق عليه تمر صيحاني و كان يعجبه التمر فرفع بكفه منه فقال: يا مسلمة أترى لو أن رجلاً أكل هذا ثم شرب عليه من الماء أكان يجزئه إلى الليل يقول: قلت لا أدري فرفع أكثر قال هذا؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين كان كافي دون هذا حتى لا يبالي ألا يذوق طعاماً غيره فقال فعلام يدخل النار يقول مسلمة: فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه يقول إذا كان الإنسان يكفيه كف من تمر ويسكت جوعه و يغنيه فما حاجته إلى دخول النار لماذا بتهافت على الحطام(1/66)
الكثير من الحلال والحرام والمشتبهات لماذا بتهافت على ذلك مع أنه يكفيه هذا القليل بل من الأبواب الدقيقة أيها الإخوة والأخوات من الأمور الدقيقة في الورع في المكاسب ما ذكره ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد وهي فائدة لطيفة حسنة يقول صحة الرأي باعتدال المزاج يعني أن لا يكون الإنسان بفرح شديد ولا في غم وحزن شديد ولا في خوف شديد وإنما يكون معتدل الطبع فيكون رأيه صواباً في الغالب إما إذا كان في شدة الخوف أو في شدة الجوع أو في شدة الفرح فإنه قد يصدر عنه كلاماً لم يضبطه و يندم على التفوه به ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي وهو غضبان ويقاس على ذلك إذا كان حاقناً أو حاقباً أو كان في شدة الجوع لأن صحة الرأي باعتدال المزاج يقول ابن القيم من دقيق الورع أن لا يقبل المبذول حال هيجان الطبع من حزن أو سرور فذلك كمثل السكران و معلوم أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج و متى بذل باذل في تلك الحال يعقبه ندم و من هنا لا يقضي القاضي و هو غضبان و إذا أردت اختبار ذلك فاختبر نفسك في كل مواردك من الخير و الشر فالبدار بالانتقام حال الغضب يُعقب ندماً و طالما ندم المسرور على مجازفته في العطاء و ود أن لو كان اقتصد و قد ندم الحسن على تمثيله بابن ملجم يعني الحسن من شدة الغضب و من شدة الحزن لما قتل ابن ملجم علياً رضي الله عنه أخذه الحسن بن علي رضي الله عنه فمثل به فندم بعد ذلك فالمقصود أن الإنسان في حال الفرح الشديد قد يعطي العطايا و الهبات الجزلة و هو في غمرة الفرح فهو كالسكران فابن القيم يقول: الورع أن لا يؤخذ منه في هذه الحالة دعه حتى يرجع إلى حاله و طبيعته ثم بعد ذلك قل له هل الآن تعطيني.؟ فيقول لا الآن غيرت.. غيرت رأيي في ذلك و الحمد لله أنك ما أخذتها لأنه كان في سكرة فأقول أيها الإخوان الورع في المكاسب أمر تشتد الحاجة إليه في عصرنا هذا.. المساهمات التي تطرح و يكثر سؤال الناس(1/67)
عنها و كثير لا يسألون و يكون فيها ألوان من المحرمات من قمار و ربا و ما إلى ذلك هذه ينبغي للناس أن يتورعوا عنها و بعض الناس مُصر هل هي حلال أو حرام.؟ و تحاول صرفهم أن يشتغلوا في أمر لا شبهة فيه و مع ذلك هم لا يريدون ترك إلا المحرم الصرف و أما المشتبه فلا يريدون الورع منه و هكذا تأجير المحلات و الشقق و الدكاكين و المتاجر على من يقومون بأعمال محرمة كالبنوك و تأجير المساحة أو الأرض على صرافة البنك الربوي و كذلك أيضاً تأجير ذلك على الحلاق أو من يبيع الأغاني أو الأفلام المحرمة أو غير ذلك كل هذا لا يجوز و قبل أن أجاوز هذه النقطة أعرض نماذج من فتاوى الإمام أحمد رحمه الله و هو من هو في الفقه و العلم و الورع في سؤالات وجهت إليه فأجاب عنها بأجوبة يستغربها أهل زماننا..
سأله المرغوذي ما تقول في طيرةٍ أنثى * طائر حمامة مثلاً * جاءت إلى قوم فأزوجت عندهم وفرخت لمن الفرخ قال يتبعون الأم.. الفراخ تتبع الأم يقول: و أظن أني سمعته يقول في الحمام الذي يرعى في الصحراء يعني لا يحبس.. لا يحبسه أهله فيطعمونه مما عندهم و إنما يذهب لزروع الناس و غراسهم يقول: سمعته يقول في الحمام الذي يرعى في الصحراء أكره أكل فراخها و كره أن يرعى في الصحراء و قال تأكل طعام الناس..!
يقول المرغوذي و سألته إني أدعى أغسل الميت في يوم بارد فيفضل من الماء الحار * كانوا يسخنونه بأجرة أو يشترون الحطب من أجل تسخين الماء * فيقول: فيفضل من الماء الحار ترى أن أتوضأ منه.. شتاء.. مغسل هو الميت و هذا ماؤهم ترى أن أتوضأ منه قال:لا ذلك قد أسخن بكلفة يعني كأنه ذهب إلى أمر الورثة يعني أن هذا من حق الورثة.(1/68)
و جاءه رجل رأى عليه أثراً في جلده * يعني في جلد الإمام أحمد * كأنه شيء من التقرحات أو نحو ذلك فجاءه بدواء فقال ضع هذا عليه فأخذه ثم رده عليه فسأله قال: لم رددته؟! فقال: أنتم تسمعون مني * يعني تسمعون مني الحديث و العلم * فلا يكون ذلك عوضاً عنه مع أنه يجوز له أن يأخذ.
و أرسل محمد بن عياش فاشترى له سمناً بقطعة فجاء به على ورقة بقل فأخذ الإمام أحمد السمن و أعطاه الورقة و قال ردها إلى البائع إلى صاحبها هذا يصلح للإمام أحمد لكن من فعله غير الإمام أحمد فيقال في حقه هذا ورع بارد و قيل له: إن عيسى الفتاح قال: سألت بشر بن الحارث هل للوالدين طاعة في الشبهة قال: لا فقال أبو عبد الله: هذا سديد.(1/69)
و سئل عن رجل يكون في المسجد يحمل مجمرة لبعض الظلمة و يبخر المسجد بالعود فقال: ينبغي أن يخرج من المسجد فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته و سئل عن من سقطت منه ورقة فيها أحاديث فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ قال:لا حتى يستأذن صاحب الورقة.. أنت وجدت دفتر زميلك في المدرسة أو الأخت في التحفيظ وجدت دفتر زميلتها في هذه الدورة مثلاً أو في غيرها فهل لها أن تكتب و تنقل منها من غير استئذان الجواب: لا حتى تستأذن مع أن تلك لا تتضرر بهذا العمل و قد قيل للإمام أحمد ما تقول فيمن بنى سوقاً و حشر الناس إليها غصباً ليكون البيع فيها و الشراء الناس لهم سوق فجاء رجل له نفوذ فبنى سوقاً و اضطر الناس إلى التوجه إلى السوق الجديدة ليأجرهم المحلات و المساحات فسئل الإمام أحمد ترى أن يشترى منها.؟؟ فقال: هل تجد موضعاً غيره.؟ يعني إذا وجدت لا تشتري منها وكره الشراء منها فقيل له من اشترى منها وجاء به هل نشتري منه هل نشتري ممن أشتري منها فقال: إذا كان بينك و بينهم رجل فهو أسهل وقيل له: إن قوماً يتوقدون أن يوقد بخفي الجواميس أعزكم الله ومن يسمع بروث الجواميس فقال: نعم يقال إن أصلها ليس بصحيح يعني أن الجواميس في تلك الناحية بطرسوس كانت لبني أمية فلما جاء بنو العباس أخذوها غصباً فكان بعض المتورعين يتورعون من الإيقاد بروثها كانوا يستخدمون الروث ليقاط به وقال له المرغوذي بعت ثوباً من رجل أعني أن أكره كلامه مبايعته يعني رجل من الجهمية مثلاً كانوا يكرهون البيع والشراء من هؤلاء أصحاب البدع الغليظة بعت ثوباً من رجل أكره مبايعته فقال: دع حتى أنظر فيها فلما كان بعد سألته قال: توقَ أن تبيعه قلت: فإني بعته و أنا لا أعلم قال: إن قدرت أن تسترد البيع فافعل *وين الصفقات التي قد تكون بالملايين مع بعض أصحاب البدع الشنيعة* قال: إن قدرت أن تسترد البيع فافعل قلت: فإنه لا يمكنني أفأتصدق بالثمن؟ قال: أكره أن أحمل الناس على(1/70)
هذا فتذهب أموالهم قلت: فكيف أصنع قال: ما أدري أكره أن أتكلم فيها بشيء و لكن أقل ما هاهنا أن تتصدق بالربح و تتوقى مبايعتهم في المستقبل في مثل الجهمية.
و قيل له اختلف يوسف بن أسباط و الثوري في رجل خلف متاعه عند غلامه فباع ثوبه ممن يكره مبايعته قال الثوري: يخرج قيمته و قال ابن المبارك: يتصدق بالربح فقال الرجل: ما أجد قلبي يسكن إلا أن أتصدق بالكيس و كان قد ألقى الدراهم في الكيس التي كانت قيمة الثوب فقال أحمد بارك الله فيه.
و قيل للإمام أحمد رجل له والدة مريضة و كان أبوه قد اشترى طوابيق من مكان يُكره يعني من مكان فيه غصب طوابيق يعني البلاط فبلط فناء الدار بهذا البلاط الذي اشتُري من ناحية مغصوبة و قد فرش بها الدار ترى للابن أن يدخل إلى أمه؟؟ قال: لا كيف يدخل أليس يريد أن يطأها.. يطأ هذه البلاط و الطوابيق و قال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه إن كان المال كثيراً أخرج منه قدر الحرام و تصرف في الباقي و إن كان المال قليلاً اجتنبه كله و هذا كما قال الزهري: لا بأس أن يأكل منه ما لا يُعرف أنه حرام بعينه و أما سفيان الثوري فكان يرى أن تركه أفضل و كان الثوري رحمه الله يقول في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم أحب إلي أن يتنزه عنها إذا لم يدري من أين هي.. في بيته و لا يدري ممن سقطت يقول أحب إلي أن يتنزه عنها.(1/71)
و قيل للإمام أحمد بئر احتفرت و قد أوصى هذا المغني أو المخنث أن يعانى فيها ترى الشرب منها ؟ قال: لا كسبه خبيث يكسبه بالطبل و قد مضى ذلك و قال مرّة هؤلاء الذين يجلسون على الطريق يبيعون و يشترون ما ينبغي لنا أن نشتري منهم لأنهم جلسوا في مكان لا يحل لهم البيع و الشراء فيه لم يعد لذلك الطريق ممر و هؤلاء يضيقون على الناس فكان الإمام أحمد يرى ألا يشترى منهم و بالتالي تكون مكاسب هؤلاء الذين يبيعون في طريق الناس فيها شائبة و سئل عن رجل أخذ من الطريق شيئاً هل يكون مقبول الشهادة..؟ قال: ما هذا بعدل انظر إلى حالنا الآن الدرج يأخذ نصف الرصيف بأي حق يضيق طريق المسلمين و أحياناً تجد الجدار زائد و أحياناً يضع مظلة السيارة على الرصيف فتحتل الرصيف أجمع بأي حق يفعل ذلك..؟!(1/72)
و سئل عن الصلاة في مسجد بني على ساباط يعني سقيفة بين دارين بُني عليها مسجد يعني أن الطريق تحتها فالهواء للطريق فقال: لا هذا طريق المسلمين لا يصلى فيه و يقول كان جعفر بن محمد بن علي نهى أن يصلى في هذه المساجد التي في الطرق يعني لو أن أحداً بنى مسجداً أو مصلى في وسط الطريق يقول لا يصلى فيه لأنه بناه في غير الموضع الذي ينبغي أن يبنى به بناه في طريق المسلمين فضيق ذلك عليهم و كان ابن مسعود يكره أن يصلى في المسجد الذي بني على القنطرة يقول الإمام أحمد: خرجت البارحة لأصلي فانتهيت إلى مسجد فإذا هو في الطريق فرجعت إلى البيت فصليت وحدي و قال عن المساجد التي في الطريق إن حكمها أن تهدم و قال المساجد أعظم حرمة و سئل عن بواري المسجد الحصر و السجاد سجاد المسجد ترى أن يقعد عليها خارج المسجد لجنازة مثلاً؟ قال: لا يُقعد عليها خارج المسجد لأنها وقف للمسجد انظر إلى حالنا في المسجد الحرام و الصراع مع العمال الذين يفرشون تجد كل إنسان أو كثير من الناس بأخذ فرشاً من هذا الفرش و يضعه لنفسه في آخر المسجد وسادة و فراشاً و متكأً و الناس لا يجدون مكاناً يصلون فيه فهذا لا يخلو من حرج و قد جاء الإمام أحمد أيضاً يعزي رجلاً و بارية على الباب يعني حصير من حصر المسجد على الباب فلم يقعد مع الناس و قعد على التراب.(1/73)
لما قُبض عم موسى بن عبد الرحمن بن مهدي أغمي على عبد الرحمن بن المهدي فلما أفاق قال البساط نحوه يعني كأنه صار للورثة و سئل الإمام أحمد عن الذي يتعامل بالربا هل يؤكل عنده..؟ فقال: لا و قد روي ذلك عن ابن مسعود و سئل عن الرجل له والدان يسألانه أن يأكل معهما من مال شبهة فقال: يداريهما فقيل له فإن لم يقبلا ذلك.؟ فقال: ما أحب أن يعصيهما لكن عليه بالمداراة و أدخل عليه رجل حطّاب فقال: لي إخوة و كسبهم من الشبهة فربما طبخت أمنا و تسألنا أن نجتمع و نأكل معاً فقال الإمام أحمد على سبيل التواضع: هذا موضع بشر *يعني موضع بشر الحافي بقول أنا ليست بأهل أن أتكلم في هذه الدقائق* هذا موضع بشر لو كان حياً كان موضعاً أن تسأله أسأل الله ألا يبقتنا و لكن تأتي أبا الحسن يعني عبد الوهاب فتسأله فقال له الرجل: فتخبرني عما في العلم.. أخبرني عن الفتية الفقهية فقال: قد روي عن الحسن إذا استأذن والدته في الجهاد فأذنت له و علم أن هواها في المقام فليقم لا يخرج للجهاد ما لم يكن فرض عين فالإمام عظم أمر الوالدة و طاعتها و لم يجب عن المسألة بعينها.
و سئل عن الدراهم تدفع إلى رجل يشتري بها الحاجة فيرى المسكين في الطريق و يتبرع يتصدق من الدراهم التي ليست له على أنه يملك في بيته مثلها فيريد أن يتبرع بذلك ثم يعوض من ماله فقال: لا يعطي الناس منها.. لا ينبغي له أن يفعل و هذا يقال في الذين يأخذون التبرعات سواءً كانوا مؤسسات أو أفراد لا يجوز لهم أن يضعوها في مساهمات فتضيع و لا يجوز لهم أن يتصرفوا فيها هنا و هناك فيضيعون شيئاً منها بغير الوجه الذي جمعت له جمعت إفطار صائم إفطار صائم ما تصرف في شيء آخر جمعت في بناء مسجد هي في بناء مسجد ما تصرف في كفالة الأيتام جمعت في كفالة الأيتام ما تصرف في شيء آخر و هكذا فهذا أمر يجب و هو من مقتضيات الورع.(1/74)
و سئل عن رجل يكتب في المسجد أجرة فقال أما الخياط و أشباهه فما يعجبني يعني أن يجلس في المسجد يخيط في أجرة إنما بني المسجد ليذكر اسم الله فيه و كره البيع و الشراء فيه و نقل عن عطاء بن يسار أنه رأى رجلاً يبيع في المسجد فدعاه فقال: هذه سوق الآخرة فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا و هذا أبسط ما نراه اليوم أحياناً من يبيع المساويك يجلس في فناء المسجد و فناء المسجد منه لا يجوز البيع و الشراء فيه و لا يجوز لأحد أن يشتري منه و ذكر أيضاً عن أبي الدرداء أنه رأى رجلاً يقول لصاحبه في المسجد اشتريت وسق حطب بكذا و كذا فقال أبو الدرداء: إن المساجد لا تعمر بهذا.
و أخيراً قيل للإمام أحمد أترى للرجل أن يعمل المغازل و يأتي المقابر فربما أصابه المطر فيدخل في بعض القباب.. قبة على قبر فيعمل فيها فقال: المقابر إنما هي من أمر الآخرة كره ذلك أن ينتفع بهذه القبة مع أن بناء القباب على المساجد من الأمور المحرمة الشنيعة و هو من ذرائع الشرك.
هذه فتاوى للإمام أحمد رحمه الله في أبواب الورع و بقي في الموضوع بقايا سأذكرها إن شاء الله في مجلس واحد نسأل الله أن ينفعنا و إياكم بما سمعنا و يجعلنا و إياكم هداة مهتدين و صلى الله على محمد و آله و صحبه.
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين أما بعد أيها الإخوة و الأخوات السلام عليكم و رحمة الله و بركاته كنا نتحدث عن أبواب الورع و ذكرت ثلاثةً من أبوابه الأول: وهو الورع في المنطق و الثاني: و هو الورع في المأكل و المشرب و الثالث: و هو الورع في المكاسب..(1/75)
و اليوم نبدأ في الرابع من أنواعه و هو الورع في المجالسة أن تتورع في مجالستك و مخالطتك فقد كان السلف رضي الله تعالى عنهم يتورعون في ذلك و يتخيرون المجالس و يتنزهون عن المجالس التي تشغلهم عن طاعة الله عز و جل و تتغير فيها قلوبهم يقول يوسف بن أسباط لسفيان الثوري: من أجيب و من لا أجيب يعني في الدعوة إذا دعيت أستجيب لمن قال 'لا تدخل على رجل إذا دخلت عليه أفسد عليك قلبك' أفسد عليك قلبك إما في وجود أمور محرمة كالشبه أو الأفعال المحرمة و الأقوال المحرمة في باب الشهوات أو غير ذلك فالمجالس التي يُتحدث فيها بالغيبة و النميمة و القيل و القال ينبغي للإنسان أن يتورع منها و المناسبات و الأعراس التي يتكشف فيها النساء و تتعرى الواحدة و تبدي جسدها و مفاتنها.. ينبغي للمرأة المسلمة أن تتورع من حضور ذلك و هكذا إذا كانت تلك المجالس يحصل فيها فتنة للعبد بسبب ما يرى من الأبهة و البطر و مظاهر الترف الكثيرة التي لا يتمالك معها قلب العبد فإذا عرف من نفسه أن ذلك يشغله فإن الورع في حقه أن يتجنب ذلك و لهذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يكرهون الدخول على أهل البسطة و الواقع أن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً بيناً لا سيما النساء فالمرأة قد تكون في حال لا تملك فيها كثيراً من الأمور التي يملكها هؤلاء من أهل البسطة و السعة فإذا دخلت عليهم و رأت ما عندهم و قارنت بحالهم و بأثاثها و بطعامها و مشربها و مسكنها من ضيقه و سعته و ما إلى ذلك.. لربما أفسد ذلك قلبها و غيره على زوجها و لربما رجعت إلى نفسها بالتحسر و اللوم كيف أنها تعيش في هذه الحال و هؤلاء يعيشون في هذه السعة و في هذا البذخ بل لربما اضطرت إلى الكذب و التصنع و التشبع بما لم تعط فتكون كلابسة ثوبي زور و لربما اضطرت إلى بعض ما لا يليق من أجل تحصيل المال بأي لون من الألوان عن طريق الاحتيال.. عن طريق السرقة.. عن طريق أخذ الزكوات و هي لا تحل لها أو عن طريق(1/76)
إظهار الكوارث و المصائب التي وقعت لها أو وقعت لأهلها أو نحو ذلك من أجل أن تكسب المال فتتوسع مثل هؤلاء و لذلك يقال للإنسان الأحسن في حقه سواءً كان رجلاً أو امرأةً أن يخالط من يقربونه إلى الله عز و جل و من يذكرونه به و من لا يتحرك قلبه و لا يتغير إذا زارهم و جلس معهم و دخل بيوتهم فهذا أروح للقلب و خير للعبد و أبعد عن اشتغال القلب بما يرى و يشاهد.
و أما الخامس من أبواب الورع فهو الورع في الفتيا و الكلام في العلم و التفسير و ما إلى ذلك من القول في الأحكام و هو باب واسع و كلام السلف رضي الله تعالى عنهم فيه كثير و هو أمر ينبغي للعبد أن يتفطن له و أن يجعله نصب عينيه لأن القائل على الله عز و جل بلا علم متوعد بالعقوبة و الله عز و جل حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق كما حرم الإشراك و حرم القول عليه بغير علم ذكر ذلك في سياق واحد ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) فالسلف رضي الله تعالى عنهم إذا نظرت إلى أحوالهم و أخبارهم رأيت عجباً من الاحتياط و الورع في هذه الأبواب ففي التفسير مثلاً هذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كما ورد بإسناد حسن أنه سئل عن شيء من القرآن فقال 'أي سماء تظلني و أي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم' و قد سئل ابن عباس كما روى ابن أبي مليكة رحمه الله سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول و هذا ثابت عنه رضي الله تعالى عنه و ثبت أيضاً أن رجلاً سأله عن يوم كان مقداره ألف سنة فقال له ابن عباس فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة جاء بالآية التي في المعارج و قد سأله الرجل عن الآية التي في السجدة فقال له الرجل إنما سألتك لتحدثني فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما كره أن يقول في(1/77)
كتاب الله ما لا يعلم و هو حبر الأمة لم يستح و لم ينحرج من سائله أن يقول على الله عز وجل ما لا يعلم و جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن فقال 'أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قلتَ عني' و هذا سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى إمام كبير من أئمة التابعين كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال 'إنا لا نقول في القرآن شيئا' و كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن و سأله رجل عن آية من القرآن فقال 'لا تسألني عن القرآن و سل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء' يعني عكرمة و كانوا إذا سألوه عن الحلال و الحرام وجدوه أعلم الناس و إذا سألوه عن آية في كتاب الله عز و جل سكت كأن لم يسمع و قال عبيد الله بن عمر رحمه الله 'لقد أدركت فقهاء المدينة و إنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله و القاسم بن محمد و سعيد بن المسيب و نافع' و يقول هشام بن عروة: ما سمعت أبي - يعني عروة بن الزبير- يؤول آية من كتاب الله قط. و هذا عبيدة السلماني سأله محمد بن سيرين عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل القرآن فاتق الله و عليك بالسداد و كان مسلم بن يسار يقول 'إذا حدثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله و ما بعده' و ذكر عنه إبراهيم النخعي ذكر عن أصحاب ابن مسعود رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يتوقون التفسير و يهابونه و هذا الحافظ الكبير الشعبي الذي كان يقول أقل ما أحفظه الشعر و لو شئتم لحدثتكم شهراً لا أعيد بيتاً كان يقول و الله ما من آية إلا و قد سالت عنها و لكنها الرواية عن الله عز و جل و لهذا قال مسروق بن الأجدع اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله و أما الأصمعي إمام اللغة فهو من أشد الناس ورعاً في هذا الباب كان لا يفسر شيئاً من غريب القرآن من جهة اللغة و حكي عنه أنه سئل عن قوله تعالى:( شغفها حباً ) فسكت و قال 'هذا في القرآن' ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جارية لقوم(1/78)
أرادوا بيعها 'أتبيعونها و هي لكم شغاف' لم يتكلم في معناها من جهة اللغة لأنها وردت في القرآن فذكر هذه الجملة فقط و اكتفى بها و أبى أن يتكلم في أن سرى و أسرى بمعنىً واحد لأن أسرى ذكرت في القرآن كما أنه أبى أن يتكلم في عصفت الريح و أعصفت أي أنهما بمعنىً واحد لأنها في القرآن و قال الذي سمعته في معنى الخليل يعني معنى الخلة أنه أصفى المودة و أصمها و لا أزيد فيه شيئاً لأنه في القرآن هذه نماذج من تورعهم في الكلام في التفسير و أما ورعهم في الكلام في الفتيا و الأحكام فقد نقل عنهم في الكثير فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه يقول 'إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن قالوا و من يعلم ما نسخ من القرآن؟؟ قال: عمر أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف' يقول ابن سيرين و هو الذي روى عن حذيفة هذا القول قال ابن سيرين: فليس بواحد من هذين و ما أحب أن أكون الثالث و هذا ثابت عنه بإسناد صحيح و يقول ابن عباس 'إن من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون' قال مالك و بلغني عن ابن مسعود مثل ذلك و قال شيخ من أهل المدينة يكنى بأبي إسحاق 'كنت أرى الرجل في ذلك الزمان و إنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس' أي أن الناس يتدافعون الفتيا فكل أحد يقول له اذهب إلى غيري سل عن هذا غيري سل عنه فلان ثم ينتقل إلى الآخر و هكذا و قد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى 'أدركت عشرين و مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث و لا مفتٍ و هذا ثابت بإسناد صحيح و سئل الشعبي رحمه الله كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم.؟ قال 'على الخمير وقعت' كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول و يقول محمد بن المنكدر 'إن العالم يدخل فيما بين الله و بين عباده فليطلب لنفسه المخرج' و سئل ابن مسعود عن شيء فقال إني لأكره أن أحل شيئاً حرمه الله عليك أو أحرم(1/79)
ما أحله الله لك' ولم يجبه وقال مرّة من علم منكم علماً فليقل به و من لم يعلم فليقل لما لا يعلم الله أعلم فإن العالم إذا سئل عن ما لا يعلم قال الله أعلم و قد قال الله لرسوله:( قل ما أسألكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين ) يقول أبو موسى الأشعري في خطبة خطبها 'من علم علماً فليعلمه الناس و إياه أن يقول ما لا علم له به فيمرق من الدين و يكون من المتكلفين' و قال ابن عيينة 'أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما' و قال سحنون بن سعيد من المالكية 'أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه' و قال عن نفسه 'إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال عن ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير فلم أُلام على حبس الجواب' و قال يوماً إنا لله ما أشقى المفتي و الحاكم ثم قال:ها أنا ذا يُتعلم مني ما تضرب به الرقاب و توطؤ به الفروج و تؤخذ به الحقوق أما كنت عن هذا غنياً..؟' لهذا قال أبو عثمان الحداد 'القاضي أيسر مأثماً و أقرب إلى السلامة من الفقيه مع خطورة القضاء لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول و القاضي شأنه الأناة و التثبت و من تأنى و تثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيؤ لصاحب البديهة' يقول إن الفقيه و المفتي يجيب عن المسألة مباشرة و أما القاضي فيعقد المجالس و يتأنى في المسألة و يراجع الكتب و يستشير ثم بعد ذلك يحكم و جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه و هو وعاء من أوعية العلم فسأله عن مسألة فقال: لا أعلم فلما انصرف الرجل مسح علي رضي الله عنه على بطنه و قال: وا بردها على الكبد إذا سئلت عن ما لا أعلم أن أقول 'الله أعلم' هذا يقولها العالم الذي يخاف الله عز و جل و أما من قل علمه و قل ورعه فإن ذلك يكون أعظم و أشد حرقة للكبد إذا سئل عن شيء لا يعلم فقال الله أعلم و جاء عنه أنه قال إذا سئلتم عن ما لا تعلمون(1/80)
فاهربوا قالوا: و كيف الهرب يا أمير المؤمنين قال: أن يُسأل الرجل عن ما لا يعلم فيقول الله أعلم.. هذا هو المخرج و سأل رجل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن مسألة فقال: لا علم لي بها فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر يقوله معجباً بقوله رضي الله تعالى عنه سئل عن ما لا يعلم فقال لا علم لي به و هذا عبيد بن جريج يقول: كنت أجلس بمكة إلى ابن عمر يوماً و إلى ابن عباس يوماً فما يقول ابن عمر فيما يُسأل لا علم لي أكثر مما يفتي به يعني أكثر المسائل التي تعرض على ابن عمر يقول فيها لا أعرف و لا أدري لا علم لي بذلك و هذا أكثر من المسائل التي يجيب عنها و جلس ابن مسعود و حذيفة رضي الله تعالى عنهما فجاء رجل فسألهما عن شيء فقال ابن مسعود لحذيفة لأي شيء ترى يسألوني عن هذا قال: يعلمونه ثم يتركونه فأقبل إليه ابن مسعود فقال: 'ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به أو سنة من نبي الله صلى الله عليه و سلم أخبرناكم به و لا طاقة لنا بما أحدثتم' و خطب خطبة بالكوفة - أعني ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - فسئل و هو على المنبر عن رجل طلق امرأته ثمان طلقات فقال: .... هو كما قال ثم قال إن الله أنزل كتابه و بيّن بيانه فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بُيّن له و من خالف فو الله ما نطيق خلافكم و جاءه رجل فأخبره أنه طلق امرأته في الليلة الماضية ثمان طلقات بكلام واحد فقال ابن مسعود بكلام واحد..؟ قال: نعم، قال: فيريدون أن يبينوا منك امرأتك..؟ قال: نعم ثم جاءه رجل فقال إنه طلق امرأته مائة طلقة و بكلام واحد فقال ابن مسعود: بكلام واحد.؟؟ - أي بكلمة واحدة قال أنت طالق مائة ما قال أنت طالق..أنت طالق.. أنت طالق و عدد مائة - فقال له ابن مسعود رضي الله عنه و يريدوا أن يبينوا منك امرأتك..؟ قال: نعم، قال: من طلق كما أمره الله فقد بيّن الله الطلاق و من لبّس على نفسه وكلنا به لبسه و الله لا(1/81)
تلبسون على أنفسكم و نتحمله نحن هو كما تقولون و قال القاسم بن محمد لأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعلم حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم و جلس معاوية بن أبي عياش إلى عبد الله بن الزبير و عاصم بن عمر فجاءهم محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلاً من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها فماذا تريان.؟؟ فقال عبد الله بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس و أبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فسلهما ثم ائتنا فأخبرنا.. المرأة إذا طلقت طلقة واحدة قبل الدخول فإن ذلك يجعلها تبين من زوجها و ليس عليها العدة بمجرد الطلاق فكيف إذا طلق ثلاثاً.؟ فابن الزبير رضي الله تعالى عنه ما أجابه و حوله إلى ابن عباس و أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقال سلهما ثم ارجع إلي و أخبرني لم يترفع عن ذلك و يأنف من أن يُحيل السائل إلى بعض أقرانه فذهب الرجل فسأل فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة لم يجب عليه ابن عباس و هو من هو في العلم فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الواحدة تُبينها و الثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره و هذا ثابت بإسناد جيد و جاء عن موسى بن علي أنه سأل ابن شهاب الزهري عن شيء فقال ابن شهاب: ما سمعت فيه بشيء و ما نزل بنا و ما أنا بقائل فيه شيئاً امتنع عن الجواب و جاء عن أبي المنهال: سألتُ زيد بن أرقم و البراء بن عازب عن الصرف فجعلا كلما سألت أحدهما قال سل الآخر فإنه خير مني و أعلم مني و هذا ثابت بإسناد صحيح و يقول الأعمش: ما سمعت إبراهيم يعني النخعي يقول برأيه في شيء قط و يقول قتادة: ما قلت برأيي منذ ثلاثين سنة و قال بعضهم منذ أربعين سنة و سئل عطاء عن شيء فقال: لا أدري فقيل له قل برأيك قال 'إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي' و جاء رجل إلى الشعبي فسأله عن شيء فقال كان ابن مسعود يقول فيه كذا و كذا(1/82)
فقال الرجل أخبرني أنت برأيك فقال الشعبي: ألا تعجبون من هذا أخبرته عن ابن مسعود و يسألني عن رأيي و ديني عندي آثر من ذلك و الله لأن أتغنى أغنية أحب إلي من أن أخبرك برأيي و سئل القاسم بن محمد عن مسألة فقال: إنا و الله ما نعلم كل ما تسألون عنه و لو علمنا ما كتمناكم و لا حل لنا أن نكتمه و سئل عن مسألة فقال 'ما أضطر إلى مشورة و ما أنا من ذي في شيء' يقول ما أحتاج أني أراجع فيها العلماء و أتشاور معهم ثم أعطيك الجواب أنا في سعة و في حل لا أعرف هذه المسألة و لا أعرف جوابها و قال له قائل ما أشد علي أن تُسأل عن الشيء لا يكون عندك.. يعني يقول له هذا القائل نحن نحرج إذا سُئلت و أنت إمام كبير عن مسألة ثم لا يجدون عندك الجواب فماذا قال..؟ قال 'إن أشد من ذلك عند الله و عند من عقل عن الله أن أفتي بغير علم أو أن أروي عن غير ثقة' و قال أيضاً: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها و تنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها و تسألون عن أشياء ما أدري ما هي و لو علمناها ما حل لنا أن نكتمكموها ويقول سل ابن جنادة حدثنا إدريس عن عمه قال: خرجت من عند إبراهيم فاستقبلني حمّاد يعني إبراهيم النخعي فحملني ثمانية أبواب من المسائل يعني ليسأل عنها إبراهيم النخعي يقول فسألته فأجابني عن أربع و ترك أربعاً و يقول بعض من عرف إبراهيم النخعي رحمه الله: ما سألته عن مسألة إلا عرفت الكراهية في وجهه كان يظهر ذلك على وجهه لأنه يستثقل الإجابة لأنه مبلغ عن الله عز و جل و يقول عمر بن أبي زائدة: ما رأيت أحداً أكثر أن يقول إذا سُئل عن شيء لا علم لي به من الشعبي و يقول جعفر بن إياس لسعيد بن جُبير: ما لك لا تقول في الطلاق شيئاً..؟ قال 'ما منه شيء إلا قد سألت عنه و لكني أكره أن أحل حراماً أو أحرم حلالاً و يقول حميد بن عبد الرحمن: لأن أرده بعيه أحب إلي من أن أتكلف ما لا أعلم و هذا محمد بن سيرين رحمه الله كان لا يفتي في الفروج شيئاً كان(1/83)
لا يفتي فيها بشيء فيه اختلاف تورعاً و تحرزاً لأنه باب شديد من أبواب العلم فهو إما أن يحل شيئاً حراما أو أن يحرم شيئاً حلالاً و هذا الشعبي يقول: لا أدري نصف العلم و كان إذا سئل عن شيء قال لا أدري فإن روجع في ذلك فقال.. قال للسائل: إن شئت حلفت لك بالله أني لا أدري و يقول ابن سيرين: 'ما أبالي سئلت عن ما أعلم أو ما لا أعلم لأني إذا سئلت عن ما أعلم قلت ما أعلم و إذا سئلت عن ما لا أعلم قلت لا أعلم' يقول إذا سئلت عن ما أعلم قلت ما أعلم يعني أجيب بما أعلم و إذا سئلت عن ما لا أعلم قلت لا أعلم يقول الأعمش: ما سمعت إبراهيم - يعني النخعي - يقول قط حلال و لا حرام إنما كان يقول كانوا يكرهون و كانوا يستحبون يتحرج من إطلاق هذه اللفظة و لذلك تجد في كثير من أجوبة الأئمة رحمهم الله تعالى يقول أكره كذا.. لا يعجبني كذا مع أن المعروف في مذهبه التحريم في هذه المسألة و لكنه كان يتحرز و يتحرج من ذلك و هذا المرغوذي يسأل الإمام أحمد رحمه الله أسئلة كثيرة و يقول: لا أحصي الأشياء و المسائل التي كان يقول فيها لا أدري و نفس الإمام أحمد رحمه الله كان يقول 'ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً' و أما الإمام مالك رحمه الله فالأخبار عنه في هذا كثيرة مستفيضة و هو من أشد الناس تحرزاً و تورعاً في هذا الباب كان يقول 'إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن' و كان يقول 'ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها الليالي' لا يجيب من ساعته و كان إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها.. حتى يفكر و يراجع و يبحث فينصرف و يردد فيها النظر فقيل له في ذلك يعني لماذا تصنع هذا فبكى و قال إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم و أي يوم و كان إذا جلس في مجلس العلم نكس رأسه و حرك شفتيه يذكر الله و لم يلتفت يميناً و لا شمالاً فإذا سئل عن مسألة تغير لونه و كان أحمر فيصفر و ينكس رأسه و(1/84)
يحرك شفتيه ثم يقول ما شاء الله لا حول و لا قوة إلا بالله فربما سئل عن خمسين فلا يجيب منها في واحدة.. يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب عن واحدة و هذا لو أن أحداً في هذه الأيام سئل عن خمسين مسألة فقال في الجميع لا أدري لقال الناس هذا لا فقه له و لا علم و كان يقول 'من أحب أن يجيب عن مسألة فليعلم نفسه قبل أن يجيب عن الجنة و النار و كيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب' و قال بعضهم في صفة الإمام مالك رحمه الله: لكأنما مالك و الله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة و النار و كان يقول ' ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال و الحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله و لقد أدركت أهل العلم و الفقه ببلدنا و إن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه - كأن الموت هجم عليه - و رأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه و الفتيا ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا و إن عمر بن الخطاب و علياً و عامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل و هم خير القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه و سلم و كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و يسألونهم ثم حينئذ يفتون فيها و أهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم' فكيف لو رأى زماننا هذا و كان يقول لم يكن من أمر الناس و لا من أمر من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم و معول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال و هذا حرام و لكن يقولوا أنا أكره كذا و أرى كذا و أما حلال و حرام فهذا الافتراء على الله يعني فيما ليس فيه نص قاطع يقول أما سمعت قول الله تعالى :( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً و حلالاً ) يقول لأن الحلال ما حلله الله و رسوله و الحرام ما حرماه و قال موسى بن داود: ما رأيت أحداً من العلماء أكثر من أن يقول لا أحسن من مالك و ربما سمعته يقول 'ليس نبتلى بهذا الأمر ليس هذا ببلدنا' يعني تطرح عليه المسألة فيقول هذه(1/85)
لم تقع عندنا لا أحفظ فيها شيئاً و كان يقول للرجل السائل اذهب حتى أنظر في أمرك فقيل له: إن الفقه من بالك يعني هذا شيء حاضر عندك لماذا لا تجيب..؟ كانوا يقولون ما رفعه الله إلا بالتقوى سأله رجل عن مسألة و ذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من بلاد المغرب فقال له مالك رحمه الله: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها فقال و من يعلمها..؟ قال: من علمه الله و سأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة (....نقص في الشريط...) أن أتكلم فيها و لكن تعود يقول ارجع إلي في وقت آخر فلما جاء من الغد جاء الرجل و قد حمل أحماله يريد الاحتمال و جاء على بغله يقوده فقال: مسألتي..! يعني أفتني فقال: ما أدري ما هي فقال الرجل: يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك فقال مالك غير مستوحش - يعني من غير مهابة - : إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن.. إذا رجعت إليهم فارجع إليهم و قل مالك لا يعرف..! و سأله آخر فلم يجبه فقال له: يا أبا عبد الله أجبني فقال: ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك و بين الله فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك و هذا هو الواجب على المفتي قبل أن يجعل من نفسه حاجزاً بين الناس و بين النار أن يبحث عن المخرج و أن يجيب بجواب يكون فيه المخرج عند الله عز و جل و سئل مرة عن ثمان و أربعين مسألة فقال في اثنتين و ثلاثين منها لا أدري يعني أنه أجاب عن عشر فقط و قال في الباقي لا أدري و سئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس.. أجاب في خمس.. و قال ابن عجلان إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله و قد جاء ذلك أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول مالك: سمعت ابن هرمز يقول ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري يعني أن يدربهم عملياً على قول لا أدري و كان الإمام مالك يقول في أكثر المسائل لا أدري قال عمر بن يزيد فقلت لمالك في ذلك -(1/86)
يعني لماذا تقول للناس لا أدري - فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم و أهل العراق إلى عراقهم و أهل مصر إلى مصرهم ثم لعلي أرجع عما أفتيهم به قال فأخبرت الليث بذلك - يعني الليث بن سعد - فبكى و قال مالك..! و الله أقوى من الليث و سئل مالك رحمه الله مرة عن نيف و عشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة و ربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر و يقول في الباقي لا أدري يقول أبو مصعب قال لنا المغيرة: تعالوا نجتمع هؤلاء أصحاب الأمام مالك أرادوا أن يجتمعوا فيجمعوا المسائل التي يحتاجون إلى جواب الإمام مالك رحمه الله فيها خافوا أن يموت و لم يعرفوا قوله فيها فجلسوا على المسائل و جمعوا طائفة منها و كتبوها فجاء المغيرة إلى الإمام مالك و سأله عنها فأجابه عن بعضها و كتب في أكثرها لا أدري فقال المغيرة: يا قوم و الله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى من كان منكم يُسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري و الروايات عن الإمام مالك رحمه الله في قوله لا ادري و لا أحسن كثيرة حتى قيل 'لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول الإمام مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة' يعني أنه يُسأل عن أشياء كثيرة و يقول لا أدري..لا أدري فتستطيع أن تملأ الصحيفة من هذا القول الذي يردده ثم يعد ذلك يأتيك جواب مسألة و قيل له مرة إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري قال: ويحك أعرفتني و من أنا..؟ و إيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر و قال هذا ابن عمر يقول لا أدري فمن أنا و إنما أهلك الناس العجب و طلب الرياسة و هذا يضمحل عن قليل و قال مرة قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها و قال ابن الزبير لا أدري و ابن عمر لا أدري و سئل الإمام مالك رحمه الله عن مسألة فقال لا أدري فقال السائل و كان من ذوي الوجاهة فقال إنها مسألة خفيفة سهلة و إنما أردت أن أعلم بها الأمير فقط أريد أن أنقل قولك فيها و إلا(1/87)
فهي مسألة سهلة معروفة فقال الإمام مالك: مسألة خفيفة سهلة..! ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول الله تعالى:( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا ) فالعلم كله ثقيل و بخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة قال بعضهم ما سمعت قط أكثر قولاً من مالك لا حول و لا قوة إلا بالله و لو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري...إن نظن إلا ظناً و ما نحن بمستيقنين لفعلنا قال له ابن القاسم مرة ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال الإمام مالك رحمه الله: و من أين علموها.؟ قال منك فقال الإمام مالك ما أعلمها أنا فكيف علموها..! و سئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال: لا ادري إنما هو الرأي و أنا أُخطأ و أرجع و كل ما أقول يكتب يعني أجاب ثم قال نحن لا نعلم تكلمنا فيها باجتهاد و نظر و قد نرجع عنه و رأى مرة أشهب و هو من أصحابه يكتب جوابه في مسألة فقال لا تكتبها... فإني لا أدري أثبت عليها أم لا. يقول ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يُسأل و قال مرة عندما أكثر عليه الناس المسائل: حسبكم من أكثر أخطأ و كان يعيب كثرة ذلك و قال يتكلم يعني في الجواب كأنه جمل مغتلم أي هائج يقول هو كذا..هو كذا يهدر في كل شيء و سأله رجل عراقي عن رجل وطأ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ هذه مسألة من المسائل الفرضية.. هل يأكل هذا الفرخ؟؟ فقال الإمام مالك: سل عن ما يكون و دع ما لا يكون وسأله آخر عن مسألة تشبه هذه فلم يجبه فقال الرجل: أجبني فقال: لو سألت عن ما تنتفع به أجبتك قال ابن القاسم كان مالك لا يكاد يجيب و كان أصحابه يحتالون أي يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب كانوا يهابونه و يتحرجون من سؤاله لكراهيته لذلك و قال مرة لابن وهب اتق هذا الإكثار و هذا السماع الذي لا يستقيم أن يُحدث به فقال: إنما أسمعه لأعرفه لا لأحدث به فقال له: ما يسمع إنسان شيئاً إلا يحدث به و على ذلك لقد(1/88)
سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها و أرجو أن لا أفعل ما عشت و قد ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت يقول ابن شهاب رأيت في النوم قائلاً يقول: لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها و ذلك قوله ما شاء الله لا قوة إلا بالله و أما تحرجهم عند التحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد جاءت عنهم أخبار كثيرة في ذلك سئل الشعبي عن حديث فحدث به فقيل له: إنه يرفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: لا على من دون النبي صلى الله عليه و سلم أحب إلينا فإن كان فيه زيادة أو نقصان كان على من دون النبي صلى الله عليه و سلم و يقول إبراهيم النخعي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المحاقلة و المزابنة فقيل له: أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثاً غير هذا..؟ قال 'بلى و لكني أقول قال عبد الله يعني ابن مسعود..قال علقمة يعني النخعي أحب إلي' من باب الاحتراز و الاحتياط و كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا حدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: هذا و نحوه أو شبهه أو شكله يعني أنه لا يقطع باللفظ و إنما يتردد فيه و يحتاط في ذلك و هذا عمرو بن ميمون يقول: كنت لا تفوتني عشية خميس إلا آتي فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فما سمعته يقول لشيء قط قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كانت ذات عشية فقال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اغرورقت عيناه و انتفخت أوداجه يقول: فأنا رأيته محلولة أزراره و قال: أو مثله أو نحوه أو شبيه به و كان ابن مسعود إذا حدث عن النبي صلى الله عليه و سلم تربّد وجهه و قال: هكذا أو نحوه.. هكذا أو نحوه يقول توبة العنبري قال لي الشعبي: أرأيت فلاناً الذي يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم..قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني أنه يكثر من المسائل يقول: قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة و نصفاً فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه(1/89)
و سلم شيئاً إلا هذا الحديث و حدث بحديث واحد و كان أنس قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان إذا حدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول السائب بن يزيد: خرجت مع سعد بن أبي وقاص إلى مكة فما سمعته يحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رجعنا إلى المدينة و قال ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ارتعد ثم قال: أو نحو ذلك أو فوق ذلك يعني بعدما حدث بالحديث و هذا مجاهد يقول: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بحديث إلا أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم فأُتي بجُمّار - و هو ما في أصل النخلة - فقال: إن من الشجر شجراً مثل الرجل المسلم يقول ابن عمر يعني النبي صلى الله عليه و سلم طرح عليهم مسألة ليجيبوا عنها يقول ابن عمر: فأردت أن أقول (هي النخلة) فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فسكت فقال عمر: وددت أنك قلت الحديث و هذا صالح الدهان يقول: ما سمعت جابر بن زيد يقول قط: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إعظاماً و اتقاءً أن يكذب عليه .(1/90)
هذه بعض النماذج أيها الإخوان فيما يتعلق بالورع في العلم و الفتيا و التفسير و التحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كلما ازداد دين العبد و كلما ازداد علمه كلما كان أقرب إلى قول لا أدري و إلى الاعتذار عن المسائل.. كلما كان أقرب في ذلك من غيره فإذا قل العلم قل بصر العبد و ظن أنه قد أحاط و عرف بكثير من العلم و لربما يستغرب من العالم إذا سُئل عن المسألة و قال لا أدري فإذا ازداد علمه ازداد بصره بجهله و تراءى أمامه ألوان من الاحتمالات عند تفسير الآية أو عند الكلام في الأحكام لأن ذلك يتنازعه في نظره ألوان من القواعد و الأدلة التي لربما يصعب معها الترجيح أو القطع بشيء فغاية ما يقول الأقرب الذي أظنه أصوب و إذا قلَّت بضاعته بدأ يقول و عندي كذا و الذي أراه كذا و التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه هو كذا و كذا و هو فرخ في العلم لم يحصل كثيراً منه و لربما دعا إلى المباهلة في العلم و هو لم يجمع أطرافها و لم يحط بجوانبها فأقول أيها الإخوان هذا أمر يقع كثيراً لطلبة العلم و يقع كثيراً أيضاً للعامة و الواجب أن الناس يتبصرون في ذلك و أنهم يوقعون عن الله عز و جل و قد سمّى ابن القيم رحمه الله كتابه المعروف المشهور بإعلام الموقعين عن رب العالمين و يمكن أن يقال أعلام الموقعين عن رب العالمين فهذا الذي يفتي الناس و يجيب الناس كأنه يقول هذا حكم الله و أنا أوقع عنه و من يستطيع ذلك.؟؟ و كثير من العامة إذا طُرحت المسألة على أحد من أهل العلم في مجلس ابتدروا بالجواب و لم يُسألوا عنها و لربما أفتى بعضهم بعضاً في كثير من الأشياء من غير بصر و لا رجوع إلى أهل العلم و لو عقلوا عن الله عز و جل و عرفوا ما يَقدُمون عليه و عرفوا حال السلف رضي الله تعالى عنهم في هذه الأبواب لما أقدموا على ذلك هؤلاء جبال كبار كعلي بن أبي طالب و أبي بكر الصديق و ابن عباس و ابن عمر و الإمام أحمد و مالك و إبراهيم النخعي و غير هؤلاء(1/91)
كثير ممن سمعتم يقولون لا أدري و لا يتحرجون من ذلك فأكثر من قولك لا أدري تُلقي التبعة عن كاهلك و تكون في سلامة في دينك و عافية فالله عز و جل لم يحملك ذلك و اليوم عبر الوسائل الجديدة التي ظهرت للناس عبر الشبكة.. تصدى كثير من الناس للإفتاء في كثير من المواقع و لا أعني بذلك من يحسن و من كان من أهل العلم فإن هؤلاء يجب عليهم أن يجيبوا الناس و لكن ظهر كثير ممن لا يحسنون يفتون و يجيبون بأجوبة عجيبة متهافتة تدل على ضحالة في العلم و الله ما كلفهم ذلك و كان يسعهم أن ينأوا بأنفسهم عن هذا الذي قد يواقع أيها الإخوان المعاصي الظاهرة المعروفة قد يسرق و قد يفعل أشياء من الكذب و غيره من الذنوب فهذا قد يكون أسهل بكثير من هذا الذي يتكلم بالأحكام و يفتي الناس و يقول هذا حلال و هذا حرام من غير علم و الله عز و جل قد قرن بين القول عليه بلا علم و بين الإشراك به فينبغي التحرز في هذا الباب و الاحتياط و أن لا يوقع الإنسان نفسه في مضائق هو في غنىً عنها.(1/92)
و أما السادس من أبواب الورع فهو الورع في النظر.. قد ذكرت فيما سبق أن من الأمور التي تفسد القلب الفضول من كل شيء و من ذلك فضول النظر فإذا أطلق الإنسان بصره و صار ينظر هاهنا و هاهنا في ما يحل له و ما يحرم عليه لا يخرج من ذلك بالسلامة يخرج بتبعة و ذنوب كما أنه يخرج بقلب ملوث متدنس لأن البصر بريد للقلب و الله عز و جل يقول:( و لا تقف ما ليس لك به علم إنا لسمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) فالسمع و البصر ميزابان يصبان في القلب فالمشاهد التي يراها الإنسان تؤثر في قلبه حتماً لا محالة يقول وكيع بن الجراح رحمه الله مررت مع سفيان على دار مشيدة دار عظيمة البناء رفيعة عالية فرفعت رأسي إليها أنظر فقال: لا ترفع رأسك تنظر إليها إنما بنوها لهذا أي بنوها لأجل لفت الأنظار و شدها ليعجب الناس بها كأنهم يفتخرون بذلك و يتباهون به مع أن النظر إليها ليس بالأمر المحرم لكن سفيان نهاه عن هذا النظر فهذا من كمالات الورع في باب إطلاق البصر و يقول داود الطائي: كانوا يكرهون فضول النظر و قد كان السلف رضي الله تعالى عنهم يبالغون في الاحتراز في هذا الباب هذا مجاهد كان في داره عُلّية يعني غرفة في الأعلى في الدور الثاني فبقي ثلاثين سنة لم يشعر بها و كان أحمد بن حنبل إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه فقيل له في ذلك..؟ فقال: لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله و كذب عليه و ذكرت لكم من قبل ما وقع لجريج الراهب حينما دعت عليه أمه أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات فهذا الإمام أحمد يتحرز و يغمض إذا رأى نصرانياً و يقول لا أستطيع أن أنظر إليه و هكذا النظر إلى وجوه أصحاب الفجور و النظر إلى وجوه أصحاب البدع فإن ذلك يؤثر في قلب الإنسان كان سفيان الثوري رحمه الله قاعداً بالبصرة فقيل له هذا مساور بن سوار يمر و كان هذا الرجل من الظلمة أو من أعوان الظلمة فقام سفيان سريعاً فدخل في داره و قال: أكره أن أرى من يعصي الله(1/93)
و لا أستطيع أن أغير عليه ما جلس يتفرج يقول فضيل بن عياض 'لا تنظروا إلى مراكبهم فإن النظر إليها يطفؤ نور الإنكار عليهم' و يقول سفيان 'لا تنظروا إلى دورهم و لا إليهم إذا مروا على المراكب لأن ذلك يؤثر في القلب و أقل ذلك أن يورث مهابةً و تعظيماً فيجبن الإنسان عن الإنكار و عن التغيير على أصحاب المعاصي و أما من أطلق بصره في الأمور المحرمة الواضحة فهذا لا شك أنه قد اقتحم باباً من حدود الله عز و جل و أدخل نفسه في تبعات الله عز و جل يحاسبه عليها إن لم يُغفر له فإذا كان السلف يتحرزون من هذه الأمور اليسيرة في نظرنا فكيف بالنظر أيها الإخوان إلى الأمور المحرمة قد يُخفي العبد ذلك و قد يجلس بين أربعة جدران ينظر إلى شاشة يرى فيها أموراً لا تقربه إلى الله عز و جل و تفسد عليه قلبه و قد جعل الله عز و جل أهون الناظرين إليه فأين الورع من هؤلاء في باب النظر..؟ و لذلك نقول إن الورع في باب النظر ينقسم إلى الأقسام السابقة منه ما هو ورع واجب و هو النظر إلى الحرام و منه ما هو ورع مستحب.(1/94)
و أما السابع فهو الورع في السمع أن يحترز في سمعه فلا يسمع شيئاً يؤثر على قلبه تأثيراً سيئاً من المحرمات أو من غيرها مما يورث غفلة في القلب فإذا سمع شيئاً حراماً ابتعد عنه أو وضع أصبعه في أذنه و فارقه هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت مزمار يزمر به راع من الرعاة فوضع أصبعيه في أذنيه و عدل راحلته عن الطريق و هو يقول يا نافع و نافع مولاه أتسمع..؟ و نافع يقول نعم فيمضي حتى بلغ مكاناً بعيداً فقال: أتسمع..؟ قال: لا ثم رجع إلى الطريق و هذا ثابت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه بل أبلغ من ذلك أيها الإخوان و هو الثامن و هو الورع في الشم.. و الشم حاسة من الحواس يحاسب عليها الإنسان هذا عبد الله بن راشد صاحب الطيب يقول: أتيت عمر بن عبد العزيز بالطيب الذي كان يُصنع للخلفاء من بيت المال فأمسك على أنفه و قال: إنما ينتفع بريحه.. عمر بن عبد العزيز رحمه الله تحرز من أمور كثيرة مما كان يصنعه الخلفاء قبله و من ذلك صرف العطور من بيت مال المسلمين فعمر بن عبد العزيز كان يترك ذلك و لا يأخذ من بيت المال شيئاً من هذه الأطياب فلما جاء به هذا الرجل على عادته حينما يأتي بالطيب للخلفاء.. عمر بن عبد العزيز وضع أصبعه على أنفه لئلا يشم من ذلك شيئاً و جيء مرة بغنائم من مسك فأخذ بأنفه فقالوا: يا أمير المؤمنين تأخذ بأنفك لهذا؟! فقال: إنما يُنتفع من هذا بريحه فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين مع أنها غنيمة جيء بها و لم تدفع إليه على أنه يتملك ذلك و إنما ليطلع عليه و ينظر إليه و الطيب فوّاح فلابد أن يجد ريحه فكان يضع يده أو أصبعه على أنفه لئلا يجد ذلك الريح لئلا يختص به عن غيره من المسلمين.(1/95)
و أخيراً أبواب الورع كثيرة جداً و ما ذكرته إنما هو نماذج و أختم هذا الدرس بذكر نماذج أخرى متفرقة متنوعة في ورع السلف رضي الله تعالى عنهم في شتى الأمور هذا أبو الدرداء كان له جمل يقال له الدمون كانوا يسمون الدواب بأسماء كما هو هدي النبي صلى الله عليه و سلم فكان إذا استعاره منه رجل قال: لا تحمل عليه إلا طاقته فلما حضرته الوفاة.. حضرت أبا الدرداء قال لجمله: يا دمون لا تخاصمني عند ربي فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما كنت تطيق.. هذا تعامل مع جمل مع حيوان و هو على استحضار لذلك عند الموت فكيف بالذي يظلم الناس..؟ و كيف بمن يسترعيه الله عز و جل رعية من موظفين أو من طلاب أو غيرهم ثم بعد ذلك يظلمهم بناءً على حظوظ نفس..؟! هذا الطالب استدرك عليه ملحوظة و هذه الطالبة استدركت على معلمتها قضية و كأن هذه المعلمة قد حازت علوم الأولين و الآخرين فحقدت عليها و وقع بسبب ذلك ظلم على هذه الطالبة أو هذا الطالب كثير من الطلاب لربما وجدتُ أوراقهم من تحت المكتب يذكرون بعض الملحوظات على بعض أساتذتهم و أتعجب من هذا و إذا عرفت أحياناً من كتب هذه الملحوظة أسأله لماذا لا تذهب إلى هذا الأستاذ فتبيّن له خطأه صراحة يقول أخاف أن يظلمني و أن يحقد علي و أن يقف لي في الاختبار فهذا لا يخلو إما أن يكون هذا الظن في محله فهو رأى بوادر هذا الظلم و رأى قلة الدين و الورع و هذه مشكلة و إما أن يكون هذا الإنسان قد أساء الظن لكثرة ما رأى من المظالم من الناس فقاس الجميع على ما شاهد أقول هكذا أيها الإخوان عندما تكون مديراً في مدرسة أو حينما تكون مديراً لشركة أو غير ذلك الظلم ظلمات يوم القيامة أبو الدرداء يتحرز من دابة أحل الله له الانتفاع بها و كان يعتذر إليه عند الموت.. يعتذر لجمل فكيف بمن ظلم إخوانه المسلمين و أكل حقوقهم و أموالهم و توسع فيها و عبث و اشترى فيها ألوان المراكب و ماطلهم في الوفاء و القضاء و أداء الحقوق.. كيف يكون(1/96)
حال هذا الإنسان عند الله عز و جل.؟؟ هذا أبو العباس الخطاب جاء يعزي رجلاً ماتت امرأته و في البيت بساط فوقف على الباب و قال للمعزَى: أيها الرجل معك وارث غيرك؟ قال: نعم قال فما قعودك على ما لا تملك؟ يعني أن هذا البساط صار من حقوق الورثة تعلق بالورثة فكيف تجلس عليه فتنحى الرجل عن البساط.. إلى هذا الحد.. نحن لا نقول للناس هذا الآن لكن أذكر هذه النماذج الدقيقة ليعرف الإنسان الجليل و الطوام التي يقع فيها.. أنا لا أطالب الناس الآن إذا ذهبوا إلى أحد في العزاء أنهم يقولون لا تجلس على الكنب لأنه من حقوق الورثة و اجلس على الأرض..! لا نقول لهم هذا لكن هذا يصلح لمن كمل ورعهم لا يصلح لأمثالنا من المفاليس و إنما أقصد بذلك أن أنبه به على غيره فقط، و هذا رجل قد جلب خشباً كانوا يسقفون بالأخشاب البيوت فطلبه الأمير زياد الأمير المعروف الظالم زياد بن أبيه فأبى أن يبيعه فأخذه غصباً و بنى به صفة مسجد البصرة فكان أبو بكرة الثقفي رضي الله تعالى عنه لا يصلي فيه.. في هذا المسجد حتى قلعت هذه الأخشاب منه طبعاً يمكن أن يقول قائل الإثم على من غصبه و الصلاة فيه صحيحة و هذا سقف هو لا يصلي عليه و إنما يصلي تحته فكان هذا يتحرز و يتورع من الصلاة فيه و يذهب إلى مسجد آخر يقول ابن القيم و هذا من العجائب و الدقائق و اللطائف في هذا الباب 'كان أهل الورع من أهل العلم - و اسمعوا هذا جيداً - كانوا يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات و تهنئة الجهّال بمنصب القضاء و التدريس و الإفتاء تجنباً لمقت الله و سقوطهم من عينه' يخشى أن يهنئ ظالماً بولاية أو يهنئ جاهلاً بمنصب إفتاء أو بمنصب قضاء أو بمنصب تدريس و هو ليس بأهل فيسقط من عين الله عز و جل يقول: 'و إن بُلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم و لم يقل إلا خيراً' ما قال أنتم أهل... و إنما قال: مثلاً يقول لهم نسأل الله أن يعينك على ذلك و أن يبارك لك في الوقت و أن(1/97)
ينفع بك و أن يُجري الخير على يدك يقول له كلام حق.. يقول 'و إن بُلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم (....نقص في الشريط....) التوفيق و التسديد فلا بأس بذلك و بالله التوفيق' و من النماذج أيضاً ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه و هذا يصور دقة هذه الأبواب و تساهل الناس و تفريطهم في ذلك منذ زمن بعيد يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه للتابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إنْ كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الموبقات فكيف لو رأى كثيراً من أعمالنا اليوم.؟؟ قيل لأبي قتادة فكيف لو أدرك زماننا هذا.؟؟ - في زمن من؟ في زمن أبي قتادة - قال: كان لذلك أقول يعني يقوله من باب أولى و قد ذكر ذلك لابن سيرين فقال 'صدق و أرى جرّ الإزار منها' الإسبال يقول هذه من الأمور التي يتساهل فيها الناس و قد لا تجد من ينكر ذلك و هي في أعينهم أدق من الشعر و كانوا يرونها في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم من الموبقات و قد جاء نحوه عن أنس و أبي سعيد رضي الله تعالى عنهم و ما الغرابة في ذلك و الله عز و جل يقول:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره ) فالأمر شديد و الحساب عسير و الله عز و جل لا يضل و لا ينسى ( و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضراً و لا يظلم ربك أحدا ) ( أحصاه الله و نسوه ) لم ينس شيء من ذلك على تطاول الأزمان و على كثرة الأعمال و الذنوب و المعاصي و على كثرة الخلائق جيلاً بعد جيل فكل ذلك مضبوط عند الله عز و جل ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) بل من تتبع أخبار القوم في هذه الأبواب رأى أموراً أعجب من ذلك من منكم فكر في قوله تبارك و تعالى:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره ) كانوا يفكرون فيها بل لربما فعلوا(1/98)
ما هو أبلغ من ذلك هذا رجل يقال له أبو العباس الحطّاب يقول: وزنتُ عشرين و مائة ذرة - الذرة هي صغار النمل - بحذاء خردلة أو قال شعيرة و أكثر ظني أنه قال خردلة ( فمن يعمل مثقال ذرة ) يعني يقول أن مائة و عشرين ذرة قد لا تكافئ خردلة واحدة و الله يقول:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره ) و هذا رجل آخر كما قال معاوية بن قرة رحمه الله أخذ خمساً و عشرين ذرة فوضعها في كفة الميزان فما مالت بها عين الميزان يعني أنها خفيفة ميزان دقيق تضع فيه خمس و عشرين ذرة ما يتحرك كأنه لم يوضع فيه شيء و الله يقول:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره ) هل فكرنا في هذا.؟؟ هل فكرنا فيه يوماً من الأيام..؟ يقول معاوية بن قرة: بعث إلي رجل بطعام فأكلت منه ما أكلت و فضلت منه فضلة فأصبحت و قد اسود من الذر فوزنته بذره ثم نقيته من الذر فوزنته فلم يزد و لم ينقص يعني هذا الذر الذي غطاه يقول: لم يغير في وزنه شيئاً مع كثرة هذا الذر فكيف بالذرة الواحدة..؟ أما يحق لنا يا أيها الإخوان أن نطرح مثل هذا الموضوع (موضوع الورع).؟؟ إذا كنا نحن لا نزن الجذع و لا نبالي به فكيف نلقى الله جل جلاله..؟! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض للمهاجرين الأولين أربعة ألاف و فرض لابن عمر ثلاثة ألاف و خمسمائة.. هذا ولد الخليفة الآن أقل من البقية ثلاث ألاف و خمسمائة نقص خمسمائة يا ترى ما هو السر في الخمسمائة؟ و ما هو المغزى و الحكمة من خصمها على ابن عمر.؟ فقيل له: هذا من المهاجرين يعني عبد الله بن عمر و هو من علماء الصحابة هو من المهاجرين فلماذا نقصته عنهم.؟فقال: 'إنما هاجر به أبواه' ما هاجر لوحده هاجر مع أبويه.. أخرجه البخاري فنقص خمسمائة لأنه ما جاء مهاجراً وحده كغيره من الناس فخمسمائة من أجل صحبة الأبوين في راتبه و قسم مروطاً بين نساء من نساء المدينة - يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فبقي(1/99)
مرط جيد فقيل له: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي عندك - كان تزوج ابنة علي أم كلثوم - فقال عمر: أم سليط أحق فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد أخرجه البخاري يقول أم سليط أحق من زوجتي لأنها كانت تملأ لنا القرب و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم أحد يقول العلاء بن زياد 'لو كنت متمنياً لتمنيت فقه الحسن و ورع ابن سيرين و صواب مطرّف و صلاة مسلم بن يسار' و ابن سيرين سمعتم ورعه يُسأل عن مسائل و يمتنع عن الجواب و كان بكر بن عبد الله يقول 'من سره أن ينظر إلى أعلم رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلم منه و من سره أن ينظر إلى أورع رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدع بعض الحلال تاثماً' و يقول مورق 'ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه و لا أورع في فقهه من محمد' جمع بين الورع و بين الفقه في الورع و يقول يوسف بن أسباط مرّ طاووس بنهر قد كري أجر فأرادت بغلته أن تشرب من هذا النهر فأبى أن يدعها احتياطاً و تورعاً و هذا طاووس بن كيسان كان يفعل أشياء من هذا القبيل ذكر عنه الإمام أحمد رحمه الله أن ابنه افتعل كتاباً على لسانه كتب رسالة و وقع باسم أبيه إلى عمر بن عبد العزيز و طاووس عالم من العلماء الكبار في زمان التابعين فعمر بن عبد العزيز أعطاه ثلاثمائة دينار فعلم بذلك طاووس أن ابنه احتال بهذه الحيلة فباع طاووس ضيعة له و بعث بالثمن إلى عمر و لم يدخل على ابنه حتى مات و يقول محمد بن عبد الله رأيت قد بنوا درجة لمسجد شعيب في الطريق فقال: لا وضعت رجلي عليها حتى تهدم يعني أن درجة المسجد صارت زائدة في الشارع فلم يضع رجله عليها حتى هدمت و قد أشرت إلى هذا المعنى فيما سبق بالدرس الماضي كانوا يتحرزون من أن يأخذوا من طريق المسلمين شيئاً باعتبار أنه إذا بنى بيتاً و أو مسجداً لا يأخذ من الرصيف للدرج أو لخزان أو لمضلة السيارة أو غير ذلك كانوا(1/100)
يتحرزون من ذلك فشعيب بن حرب لم يضع رجله على هذه العتبة عتبة المسجد حتى أُزيلت بل كان أكثر من هذا كما نقل عنه الإمام أحمد كان يقول لا تطين الجدار من الخارج فتأخذ شيئاً من طريق المسلمين.. إلى هذا الحد و كان يقول 'لك أن تطيّن الحائط من الخارج و ليس لك أن تجصصه لعله يخرج في الطريق' يقول إذا وضعت.. طينته على الَلبن ثم وضعت الجُص فهذا يحتل مساحة زائدة من السماكة فيضيق أو يأخذ شيئاً من طريق الناس فكيف بالذي يأخذ الأراضي و المساحات الشاسعة.؟ و هذا يتحرز من تطيين الجدار أنا لا أقول أيها الإخوان لا نمسح على جدراننا في الخارج بالإسمنت أو الصبغ أو غير ذلك أو الحجر هذا أمر سهل و من تحرز من مثل هذا التطيين أو التجصيص فهو ورع بارد في حقه لكن أقول أين الذي يأخذ الأراضي بالحيل أو بغير حيل يأخذها جهاراً نهاراً فيرفع الناس أبصارهم لهذه النُهبة ..؟! لما جيء بسعيد بن جبير و طلق بن حبيب و أصحابهما لما كان زمن الحجاج خرج عليه جماعة من الفقهاء و العلماء و من تابعهم و لكنهم كُسروا و هُزموا فتفرقوا و اختفوا فصار الحجاج يبحث عنهم في كل مكان فاختفى بعضهم في مكة و اختفى بعضهم في البصرة و تفرقوا منهم سعيد بن جبير و الحسن البصري و طلق بي حبيب و جماعة فعثر على سعيد بن جبير و طلق بن حبيب في مكة فجاء بهم رجل من الشرط خفارة.. مقبوض عليهم في مكة و أين يقدمون..؟ للقتل الحجاج يقتل الواحد منهم و كأنه يشرب الماء الزلال و بالفعل قتل سعيد بن جبير فيقول الأعمش فدخلت عليهم في الحبس فقلت لهم: هذا رجل جاء بكم من مكة - يعني الشرطي - جاء بكم من مكة للقتل فلماذا لم تقوموا بتكتيفه و إلقائه في البرية و تنطلقون..! فماذا كان الجواب.؟ كان الجواب أن قال سعيد بن جبير: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟؟ إذا ربطناه و رميناه في البر و رحنا و تركناه من يسقيه الماء إذا عطش.؟ و هذا محمد بن سيرين الذي كان من أورع الناس دخل السجن بسبب دَين(1/101)
لحقه طالب به صاحب المال فحُبس في هذا الدين فكان أنس بن مالك رضي الله عنه قد أوصى أن يغسله محمد بن سيرين فلما مات أنس كان ابن سيرين في الحبس فجاءوا إليه و قالوا هذه وصية أنس و قد مات فاخرج إليه فغسله و قد استأذنا الأمير فأذن بخروجك لتغسله فقال: إن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له الحق صاحب المال و أبى أن يخرج، شرب يحيى بن يحيى شربة.. شرب شيئاً لبناً أو غير ذلك فقالت له امرأته لو قمت فترددت في الدار يعني لماذا لا تمشي حتى تهضم الطعام أو الشراب الذي شربته مثلنا الآن و هو أمر مباح و لربما افتخر الواحد منا أنه يمشي في اليوم خمسة كيلومترات أو لمدة ساعتين و قد يكون لا يمشي إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة فالمقصود أنه شرب شربة فقالت امرأته قم فتردد في الدار تذهب و تجيء لتهضم هذا الشراب فقال: ما أدري ما هذه المشية أنا أحاسب نفسي منذ أربعين سنة يقول هذه بأي اعتبار؟ بأي نية أخطو هذه الخطوات.؟ طبعاً لو قاله أحد اليوم لقلنا له هذا ورع بارد لكن المقصود هو فقط لفت النظر إلى أمور أخرى الذي يمشي إلى الحرام.. الذي يمشي إلى الأماكن المختلطة.. الذي يمشي إلى أماكن اللهو و العبث و الغفلة ينبغي عليه أن يفكر و يحتاط لنفسه.. كيف يحاسبون نفسهم على هذه الأمور اليسيرة.؟! يقول سفيان بن عيينه: لو أن رجلاً لعب بغلام بين أصبعين من أصابع رجله يريد بذلك الشهوة لكان لواطاً يعني لو كان يمازح غلام برجله.. يمس جلد هذا الغلام برجله بأصبعين من أصابع رجله يقول لكان ذلك إذا كان بشهوة لكان ذلك لوطاً و كان ابن المبارك لا يصلي بمرو في المسجد الجامع إلا الجمعة و لا يرى أن يتطوع فيه فقيل للإمام أحمد لماذا.؟؟ قال: لأن أبا مسلم اغتصب منه شيئاً يعني قد بنى جزءً من هذا المسجد بأرض غصب فكان يتورع من ذلك و هذا رجل من العلماء يقال له تاج الدين المراكشي نُصب في التدريس في مدرسة يقال لها المسرورية فلما نظر في شرط الواقف و هو(1/102)
أن يكون المتولي للتعليم في هذه المدرسة الوقفية أن يكون عالماً بالخلاف فقال أنا لست من العلماء بالخلاف.. خلاف العلماء و كانوا يرون أن الرجل لا يفتي حتى يكون عالماً بالخلاف و أنه لا يتأهل في العلم إلا إذا عرف مواقع الخلاف و مواقع الإجماع فكان يقول لست كذلك فترك التدريس فيها لأنه ليس بأهل فهل فكر الإنسان بهذا حينما يسابق و ينافس على مسجد مرموق أو غير مرموق من أجل بيت في المسجد أو من أجل راتب أو من أجل وجاهة أن هذا المسجد في موقع في البلد و هو لا يحسن و ليس بأهل و هو رويبضة و يموت هذا المسجد إذا تولاه و لربما فعل كل مستطاع من أجل أن يحصل هذا المسجد يأتي بالشفاعات يأتي بالوسطاء و يأتي بكل ما يستطيع من جهد من أجل أن يتولى إمامة هذا المسجد و هكذا تولي التدريس في مدرسة من المدارس يدرس القرآن و هو لا يحسن أن يقرأ كل هذا من أجل هذا الراتب و لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها و أجلها فلو اتقى الله عز و جل لجاءه رزقه في أي عمل كان فيكون كسبه في هذه الحال أيها الإخوة و الأخوات غير سالم له المفروض أن يتورع يقول أنا لست بأهل أن أدرس هذه العلوم أو أدرس هذا الفن من الفنون و لا يجوز لي أن أتقاضى عنه مالاً لأني لا أحسنه و الواقع أنه يتعلم الحلاقة كما يقال على رؤوس الأيتام و المساكين.. يتعلم على هؤلاء و يحدثهم بالعجائب و الغرائب و يفسر لهم الكلام معكوساً مقلوباً و هذه مصيبة.. هؤلاء سيتخرجون جهلة و ضعفاء بل إن جهلهم سيكون مركباً لأنهم يفهمون الأمور على غير وجهها أين نحن من هؤلاء..؟ و هذا ابن عساكر و هذا من أعجب الأشياء في الورع كان عنده رحمه الله بعض الشيء في أمور الصفات و الاعتقاد فكان الحنابلة يشنون عليه حرباً شعواء لما رموه به من الأشعرية فماذا كان يصنع و حديثي إنما هو عن ورعه.. كان لا يمر بممر الحنابلة و درب الحنابلة في حيهم.. لا يمر في طريق الحنابلة حيث يسكنون يقول أخشى أن يغتابني بعضهم فأكون(1/103)
سبباً في معصية الله عز و جل يخشى أن يتسبب في المعصية أن يُغتاب ما قال هؤلاء يعادونني و أكسب الحسنات إذا اغتابوني و هم يكسبون السيئات.. لا يقول أخشى أن يُعصى الله بسببي و أبواب الورع و ألوان الورع أيها الإخوان كثيرة جداً و لو فكر الإنسان لرأى من ذلك شيئاً كثيراً أمثلة بسيطة جداً يذكرها العلماء في الفقه الرجل الذي يزحم غيره في الصف حتى لا يجد ذلك الرجل المزحوم مكاناً فيرجع و يصلي في مكان آخر أو يقول لأحد من الناس قم و يصلي مكانه.. يقول لرجل من العمالة أو لأحد أحق منه بهذا المكان سبقه إليه فيقول له قم عن هذا المكان و يصلي في مكانه أو عن طريق المزاحمة بعض الفقهاء قالوا: إن صلاته لا تصح لأنه صلى في مكان في حكم المغصوب قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: و هو قوي يعني هذا القول مع أن الراجح أن الصلاة في المكان المغصوب أنها صحيحة مع الإثم لكن بعض الفقهاء أبطلوها و رأوا أن ذلك منه و خذ أمثلة أخرى كثيرة.. الآن الناس حينما يصطفون طوابير ليتوضئوا في سطح المسجد الحرام من المغاسل كما تشاهدون لا سيما في العشر الأواخر يقف عشرة.. أكثر.. و يأتي بعض الشباب أو بعض الناس يتلصصون فيأتون من الخلف و يختلسون الماء خلسة و يقطعون عليهم وضوئهم و الناس لا تطيب نفوسهم بذلك و لا يرضون فمثل هذا الماء الذي أخذه و توضأ به فيه شائبة الغصب و هو قصد العبادة فالمفترض أنه يتحرز و يتورع من هذا الفعل و من الأمثلة على هذا التي تقع كثيراً تحجر المصاحف يأتي لمصحف وقف في المسجد مثلاً و يضع هذا المصحف في كيس ثم يربط عليه رباطاً بأي حق هذا المصحف وقف للجميع لماذا حجرته و هكذا أن يتخذ مكاناً في المسجد يصلي فيه و لا يسمح لأحد أن يصلي بهذا و لو سُبق..! بأي حق يتحجر هذا المكان و يحبسه؟ و هكذا من فرش سجادة في مكان ثم يذهب إلى بيته و يجلس عند أهله أو يخرج إلى سوق أو غير ذلك و هذا يقع كثيراً في المسجد الحرام و من هذا أيضاً(1/104)
أيها الإخوان استعمال الأجهزة.. الفاكس.. و آلة التصوير.. و غير ذلك مما يوجد في محل عمل الإنسان في مكتبه الذي لا يخصه و لا يملك الأشياء التي فيه يستعملها لأغراضه الشخصية يصور أوراقه الخاصة و يرسل فاكسات خاصة و إذا كان في الهاتف صفر يستعمله في المكالمات الخاصة به فهذا فعل محرم و الورع فيه في محله تماماً أما الأشياء الأخرى اليسيرة فهذه يتفاوت فيها الناس كما قلت فيما سبق إذا كان الرجل يتورع من كتابة بالقلم كتابة يسيرة أو في ورقة من المكتب أو في استعمال الهاتف في مكالمات داخلية فأقول هذا يختلف من شخص إلى أخر فمن كمل ورعه فيناسبه هذا الورع و الاحتياط و من كان واقعاً في المحرمات الواضحة فيقال له هذا ورع بارد و هكذا في الأمور التي يشك الإنسان في وجوبها أو في تحريمها فالأحوط له أن يترك هذا الشيء الذي يقال أنه حرام إذا لم يتيقن و كذلك أيضاً ما شك في وجوبه فبعض العلماء يقولون أنه واجب فيفعله احتياطاً و إن كان هذا لا يتجه في كل الأبواب فأحياناً لا يستطيع أن يفعل هذا إلا أن يكون مؤاخذاً عن الآخر و العكس مثلاً الفاتحة من العلماء من يقول إنها ركن حتى إن كان خلف الإمام و بعضهم يقول إذا قرأ الإمام في الجهرية لا يجوز له أن يقرأ لأن الله يقول:( و إذا قُرأ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا ) فهو مخالف لهذا فماذا يقال في حق هذا..؟ إن قلنا له الأحوط أن تقرأ فإنه عند الآخر مؤاخذ و إن قلنا الأحوط ألا تقرأ فهو عند الآخر مؤاخذ فهنا يلجأ إلى ما يترجح و كذلك أيضاً بعض الصور لا يجري فيها الاحتياط مثل إذا كان الخلاف شاذاً ساقطاً فمثل هذه الحال لا يقول الأحوط أن تفعل أو الأحوط أن تترك و هكذا في أمثلة كثيرة.. هذا آخر الكلام عن موضوع الورع نسأل الله أن ينفعنا و إياكم بما سمعنا و يجعلنا و إياكم هداة مهتدين و صلى الله على محمد و آله و صحبه.(1/105)