الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن (الوجودية) مذهب إلحادي، وتيار فلسفي إباحي، يقوم على فكرة خادعة ، تتمثل في إعلاء قيمة الفرد، وأن عليه أن يبرز نفسه، ويثبت وجوده.
على أن الوجوديين مختلفون في كيفية ذلك؛ فَمِنْ قائل منهم: إن الفرد يثبت وجوده من خلال إطلاق العنان للشهوات دون مبالاة بعرف، أو دين، أو خلق.
ومن قائل: إن ذلك يتم بمواجهة المخاوف والأخطار، والتعرض للمحن والقلاقل، إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه.
وبما أن الوجودية مذهب قائم، وله آراؤه، ودعاته ومفكروه، وبما أن الكتابة فيه بشكل ميسر قليلة جداً _ رغبت في تقديم هذه النبذة عن الوجودية، والتي تتمثل في الوقفات التالية:
_ تعريف الوجودية.
_ سبب التسمية.
_ أسماء الوجودية وأوصافها الأخرى.
_ أنواع الوجودية.
_ نشأة الوجودية.
_ أبرز الشخصيات الوجودية.
_ أهداف الوجودية.
_ الأسباب التي دعت إلى ظهور الوجودية.
_ الوجودية في بلاد الإسلام.
_ أفكار الوجودية واعتقاداتها وآراؤها.
_ بطلان الوجودية.
_ حكم الوجودية والانتماء إليها.
هذا ما تيسر تقييده حول هذا المذهب الإلحادي الإباحي، فعسى أن يكون في ذلك تعريف بالوجودية ولو على سبيل الإجمال.
والله المسؤول أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عُرِّفت الوجودية بعدة تعريفات، وتلك التعريفات متقاربة، ونعني بالوجودية في هذا المقام الوجودية عند سارتر.
ومن تلك التعريفات ما يلي:
1_ هي =مذهب فلسفي يقوم على دعوة خادعة، وهي أن يجد الإنسان نفسه، ومعنى ذلك عندهم أن يتحلل من القيم وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد+(1).
2_ وقال عنها العقاد: =إباحية سافرة لا فرق بين من يتعاطونها وبين سائر الإباحيين في كل زمن+(2).
__________
(1) _ 2 _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة _ العقل والقفاري ص116.(1/1)
3_ ومن تعريفاتها أنها: =تيار فلسفي يعلي من قيمة الإنسان، ويؤكد على تفرده، وأنه صاحب تفكير، وحرية وإرادة، واختيار، و لا يحتاج إلى موجِّه.
وهو جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة، وليس نظرية فلسفية واضحة المعالم+(1).
4_ ويقول الدكتور عبدالرحمن عميرة: =الوجودية عند سارتر هي طاعة النفس، والوجودي في مذهبه هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج+.(2)
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أنها دعوة إلى إبراز قيمة الوجود الفردي، وإلى أن يهتدي الإنسان إلى وجوده بنفسه، فهي تدعو الإنسان إلى التفرد بسلوكه، وحياته بعيداً عن الصلة بالله _ سبحانه وتعالى _ بل إنها لا تعترف بإله يدبر الكون.
اختلف في سبب تسمية الوجودية بهذا الاسم؛ فقيل أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنهم يعدون وجود الإنسان مقدماً على ماهيته فهم =يقولون بأن الوجود مقدم على الماهية، وهذا اصطلاح فلسفي عندهم معناه: =أن الوجود الحقيقي هو وجود الأفراد، أما النوع فهو اسم لا وجود له في الخارج+(3).
=فمثلاً زيد، وإبراهيم، وخالد، وفلان، وعلان، هؤلاء موجودون حقيقيون لاشك في وجودهم، ولكن الإنسان أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقة لها في الخارج كما يزعمون+(4).
=وهذا لم يقل به أحد قبل هؤلاء+(5).
وقيل: =لأنهم يرون أن وجود الكائن لذاته أهم من كونه واحداً من نوع متعدد الآحاد+(6).
__________
(1) _ الموسوعة الميسرة ص543.
(2) _ المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها د. عبدالرحمن عميرة ص 211.
(3) _ في الخارج: أي خارج الذهن.
(4) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للعقل والقفاري ص116.
(5) _ 4 _ المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص 407.(1/2)
ويقول الدكتور عبدالرحمن عميرة عن ذلك: =إن كلا الاحتمالين وارد في التسمية؛ فهي وجودية؛ لاهتمامها بوجود الإنسان، وهي دعوة إلى التفرد: تفرد الإنسان في سلوكه، وفي حياته؛ حتى لا يصبح _ في نظرهم _ كَمَّاً مهملاً لا يُعبأ به، كما حدث في النظرية الشيوعية التي تهمل الفرد في سبيل المجموع، ولاتنظر إليه إلا كما تنظر إلى قطع غيار من ماكينة من الماكينات، كلما أصابه عطب أو تلف ألقت به، واستبدلت به آخر+(1).
أسماء الوجودية وأوصافها الأخرى:
للوجودية أسماء كثيرة، وأشهرها هو:
1_ الوجودية. ... ... ... 2_ وتسمى _ أيضاً _ بفلسفة العدم.
3_ وفلسفة التفرد. ... ... ... 4_ والفلسفة الانحلالية.
وأما أوصافها فقد وصفت بأنها:
1_ مرض العصر
2_ ومرض الإنسان في منتصف القرن العشرين.
ليست الوجودية وجوديةً واحدةً، بل هي وجوديات متعددة كثيرة متباينة.
=وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد، والبلد الواحد؛ فلكل فيلسوف صياغة معينة لفلسفة الوجودية، ويتفق الجميع في الاهتمام بأن يجد الفرد نفسه، ويختلفون في الطريقة التي يقرر بها الفرد وجوده+(2).
فبعضهم يرى أن الوجودية لا تتحقق إلا عن طريق اليقظة العاطفية، وصحوة الضمير، أو بضربات التجارب، وهذه هي وجهة نظر (كير كجورد)(3).
__________
(1) _ المرجع السابق.
(2) _ الموجز في الأديان والمذاهب، للعقل والقفاري ص 118.
(3) _ هو سورين كير كجورد أو كجارر، عاش ما بين 1813_1855م فيلسوف دانماركي نصراني، كتب بحوثاً خرج بها عن المألوف، فاختلف مع الكنيسة، كان يعتقد أنه ينبغي للإنسان أن يلتمس المعرفة الحقة من داخل نفسه، وأن المثقف إنما يعاني بسبب التعارض بين الوجود الفردي المؤقت من جهة والحقيقة الأبدية من جهة أخرى، وهو من رواد المذهب المعاصر. من أشهر كتبه =إما أو+، و=مراحل طريق الحياة+. انظر كواشف زيوف، عبدالرحمن الميداني ص 361.(1/3)
أما (سارتر) فيرى أنها لاتتحقق إلا إذا أطلق الإنسان لنفسه الرغبات والشهوات بحيث يفعل ما يشاء ويترك ولا يبالي بعرف أو دين(1).
وأما (كاموس) فيرى أن تحقق وجود الفرد يكون بمواجهة المخاوف والأخطار، والتعرض للقلق والمحن.
وعند آخر(2) من الوجوديين: يتحقق وجود الفرد إذا اتصل بالوجود الأعظم _ وجود الإله _ أو وجود الكارما في عرف البراهميين (3).
الوجودية(4) رأى فلسفي قديم، والتفكير فيها كان قديماً عبر العصور الغابرة الممتدة في رحاب الزمن، فكانت في حياة البشرية يقظات وجودية، تهتف بأن الإنسان هو المشكلة الأساسية التى يجب أن يكون له أولوية الصدارة في الفكر الإنساني، وأن هذا الفكر يخطىء خطأً كبيراً عندما يمنح الأولوية في بحثه للفكرة المجردة، أو لبيان وجود العالم وتعليله، كما حدث في دولة اليونان قديماً، وفي إبان عصر النهضة في أوربا حديثاً.
__________
(1) _ انظر تهافت العلمانية د. عماد الدين خليل ص87. وانظر مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب ص 492.
(2) _ انظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص210.
(3) _ البراهميون أو البرهميون: هم الذين ينتسبون إلى البرهمية، وهي ديانة الهندوس في الهند، وهي تنسب إلى براهما الذين يزعمون أنه الروح العليا الخالدة للكون، وأنه موجد العالم، وبراهما هو أكبر الألهة الثلاثة التي يعبدونها، والآخران هما: سيفا الإله المخرب، ويشنو: الذي حل بالمخلوقات. انظر مقارنات الأديان: الديانات القديمة للشيخ محمد أبو زهرة ص23_29، والديانات والعقائد لأحمد عبدالغفور عطار ص331_333.
(4) _ انظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص215_220، وانظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية لأنور الجندي ص 253_259.(1/4)
ومن أول هذه اليقظات الوجودية ما ينسب إلى سقراط؛ وذلك بمعارضته فلاسفة اليونان ممن كانوا يوجهون جُل اهتمامهم في البحث عن أصل المادة، أوفي طبيعة الكون؛ حيث قعَّد لهم قاعدته المشهورة عندما قال: اعرف نفسك بنفسك.
ومن بعد سقراط كان (الرواقيون )(1) الذين فرضوا سيادة النفس، ومواجهة المصير على الإنسان الإغريقي الذي تجلد لتلاعب (السوفسطائيين)(2) ولن يتراجع عن ما وطَّن نفسه عليه من البحث عن طبيعة النفس أمام المجادلات العقلية التي لاتكاد تكل أوتمل.
__________
(1) _ الرواقيون أو الرواقية: من الفلاسفة اليونانيين، الذين جاءوا على طور جديد من أطوار الفلسفة اليونانية، وسُموا بذلك لأنهم يسكنون الأروقة، ومؤسس مذهب الرواقية هو زينون الرواقي (عاش بين 336_264 ق م) وله اتباع يونانيون، ورومانيون، وأهم مبادىء الرواقية: أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العلمية، وقالوا: ليس في الوجود غير المادة، ولذلك قالوا بوحدة الوجود، وكل شىء عندهم مادي حتى المعرفة والعقل والإله. انظر خريف _ الفكر اليوناني ص10_15 لعبدالرحمن بدوي، وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص223_233، وانظر القضاء والقدر د. عبدالرحمن المحمود ص 76.
(2) _ السفسطة: هي قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم، وإسكاته، ويراد بالسفسطة التمويه، والخداع، والمغالطة في الكلام، وهي لفظ معرَّب مركب في اليونانية من =سوفيا+ وهي الحكمة ومن =أسطس+ وهي المموه؛ فمعناه: حكمة مموهة، ومؤرخو الفلسفة اليونانية يكتبون عن السوفسطائيين، وهم أناس عرفوا بهذه المهنة التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. انظر تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/322_324، والتدمرية لابن تيمية ص19، والتعريفات للجرجاني ص124، وإحصاء العلوم للفارابي ص81، وتاريخ الفلسفة ليوسف كرم ص 45.(1/5)
ولقد جاءت الرسالات السماوية التي كرمت الإنسان، ووضعت له منهج حياته، وأوقفتهُ على حقيقة ذاته، فانصرفت البشرية إلى شرع الله، تهذب به سلوكها، وتنظم به حياتها، إلا من صُد عن ذلك السبيل.
ولما جاء الإسلام وجدت البشرية في كتابه (القرآن) منهجاً متكاملاً عن النفس وطبائعها، والنفس وخصائصها، والنفس المطمئنة، والنفس المؤمنة، والنفس اللوامة، والنفس الأوابة، والنفس الأمارة بالسوء، ولم يهمل الإسلام العلاج إذا مرضت.
قال الله _ عز وجل _:[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)] (الشمس).
وقال: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)] (الفجر).
وقال: [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)](القيامة).
وقال _ على لسان امرأة العزيز _: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] (يوسف: 53).
والنفس _ كما يقرر الإمام ابن القيم × _: =قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة.
بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب من أحوالها؛ فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونُها أمارةً بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه+(1).
ويقرر ×: =أن النفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه _ فهي مطمئنة+(2).
__________
(1) _ إغاثة اللهفان لابن القيم ص86.
(2) _ إغاثة اللهفان ص84.(1/6)
ولكن هذا لا يمنع من ضلال بعض البشر، ونفورهم من هدي الشرائع؛ حيث تظهر بين الفينة والأخرى دعواتٌ إلى التفلت والانحلال؛ فمرة تحمل اسم المانوية(1) وتدعو الناس إلى الرهبنة والخلاص من هذه الدنيا، وتدين بالولاء لإلهين، وتصدق ببعض الرسل وتكفر ببعضهم الآخر، ومرة باسم المزدكية(2)، ومرة باسم الباطنية (3)، إلى غيرها من الدعاوى الهدامة.
__________
(1) _ المانوية: إحدى فرق الثنوية، وهم أصحاب ماني بن فاتك، الذي ظهر زمن سابور ابن أردشير، وقال: إن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين النور والظلمة وأنهما أزليان، وأنكر وجود شيء إلامن أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا بين قويين، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين، وهما _ مع ذلك _ في النفس والصورة، والفعل والتدبير متضادان متحاذيان تحاذي الشخص والظل. انظر الملل والنحل للشهرستاني1/244، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص24_26 تحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(2) _ المزدكية: هي حركة ظهرت عام487م في بلاد فارس على يد رجل اسمه مُزدك حيث دعا إلى الشيوعية، واشتراك الناس في الأموال والنساء وتسمى حركته بالمزدكية. انظر الملل والنحل 1/249_250
(3) _ الباطنية: هم الذين جعلوا لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً ويذكر المؤرخون لهم ألقاباً كثيرة تدل على أنهم يدرجون تحت وصف الباطنية، ومن الفرق التي قالت بالتأويل الباطني الرافضة، والنصيرية والقرامطة، وغيرهم. انظر التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق د. محمد بن عودة السعودي ص14.(1/7)
حتى أتى عصر النهضة وتخلص فيه رجال الفكر من سلطان الكنيسة، وتحرروا من ربقة الدين _ أيضاً _ وجاء بعض المفكرين كديكارت(1)حيث جاء ليرفع قيمة العقل، ويقوض سلطان الكنيسة، ويطالب بتحكيم المنطق، ويرفض زيف المزيفين.
ثم جاء (بسكال) ورفض أصول المذهب الديكارتي الذي عني فيه بالعلم، ولم يهتم بمصير الإنسان وحياته وموته إلا قليلاً.
ويمكن الجزم بأن (بسكال) هو الذي رسم طريق الوجودية الحديثة، وخطط معالمها، ووضع الخطوط العريضة لهياكل نماذجها.
ثم جاء (سورين كيركجورد)الذي يعده رجال الفكر في الغرب الأب الرسمي لمدرسة الوجودية.
وقد كان متأثراً بالمبادىء النصرانية وعلى الأخص البروتستانتية، ولكنه مع هذا ظل مجهولاً نحو مائة سنة؛ إذ لم تُتَرْجَمْ آراؤه إلى الألمانية إلا في أوائل القرن العشرين، ولم يعرف في فرنسا إلا في عصر الاضطراب الذي حدث في الحربين العالميتين، ومن ثم تضافرت آراؤه مع كوارث الحرب، وآثارها في النفوس على ترعرع الوجودية وتفتيحها، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا.
وفي روسيا ظهر (بيرديائيف) و(شيستوف) و(سولوفييف) حيث ارتموا في أحضان الوجودية لأسباب منها: تَحَكُّمُ البابويةِ، وفَرْضُ الآراءِ التي لاتتفق مع العقل، إلى غير ذلك.
ثم جاء بعد ذلك (جان بول سارتر) الذي يعد زعيم الوجودية في العصر الحديث، وهو أكثر الوجوديين شهرة ودعاية، فهو القدوة للمخدوعين بهذا الاتجاه.
ولو استعرضنا حياة بعض رجال الوجودية لو جدنا أن العامل الأساسي لاندفاعهم في هذا الطريق هو تحكم رجال الكنيسة وطغيانهم.
مر بنا ذكر لبعض الشخصيات الوجودية البارزة، إلا أن أبرز هؤلاء هو ذلك الرجل الذي سيلقى الضوء على سيرته فيما يلى وهو:
__________
(1) _ رينيه ديكارت من فلاسفة القرن السابع عشر =1556_1650+ فرنسي وعالم رياضي، وابتكر الهندسة التحليلية ثم حاول تطبيق المنهج الرياضي على الفلسفة، وأقام فلسفته على الشك المنهجي. انظر كواشف زيوف ص365.(1/8)
جان بول سارتر(1): هذا الرجل يعد أكثر الوجوديين شهرة، وهو يهودي فرنسي، فيلسوف وأديب، من فلاسفة القرن العشرين، ولد سنه1905م بباريس.
ولما نشأ بدأ دراسته في مدينة (لاردشيل) ثم أتمها في باريس، وقد أخذ شهادة في الفلسفة في سنة 1929، ثم عين أستاذاً للفلسفة في مدينة (لان) في (ليهافر).
وقد اجتذبته الفلسفة الألمانية، فسافر إلى (برلين)، ومكث فيها سنة على نفقة المعهد الفرنسي.
وقام سنة 1938م بنشر مؤلفه الأول، أو روايته الأولى (الغثيان) التى تشتمل على كثير من معالم النظريات الوجودية، التي أعلنها فيما بعد واضحة صريحة.
وفي سنة 1939 نشر مجموعة قصص عنوانها (الحائط).
وعندما اشتعل لهيب الحرب العالمية الثانية جُنِّد في التعبئة العامة، ثم أسر في سنة 1940م من قبل الألمان، وبعد أن أطلق سراحه اشترك في حركة المقاومة، وأنشأ سنة 1950مجلة (العصور الحديثة) التي تتضمن أبحاثاً وجودية في الأدب والسياسة.
وقد أطلق كلمة (وجودية) على فلسفته فقط دون فلسفات الوجودية.
هذا وقد كتب عدداً من المؤلفات مثل:
1_ الغثيان 1938م.
2_ المتخيل 1942م.
3_ مسرحية الذباب 1943م.
4_ مسرحية الباب المغلق 1943م.
5_ الكينونة والعدم 1943م.
6_ مسرحية الأيدي القذرة 1948م.
وقد لقيت مؤلفاته رواجاً جعله الممثل الأول للوجودية، وقد ترجمت إلى لغات عديدة.
أما حياته الشخصية فإنها تحمل طابعاً شاذاً.
وقد نشرت الصحف أنه اشترك في مظاهرات يهودية صهيونية في فرنسا، وحملات تبرع لإسرائيل في الستينيات كان شعارها: ادفع فرنكاً فرنسياً تقتل عربياً (أي مسلماً).
وحين حضره الموت 1979م سأله من كان عنده: ترى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: إلى هزيمة كاملة.
__________
(1) _ انظر كواشف زيوف ص359_360، والمذاهب المعاصرة ص 221_223، ومذاهب معاصرة ص491.(1/9)
أهداف الوجودية (1)
الوجودية دعوة قديمة، تظهر في صور براقة، ويستعمل في الدعاية لها كافة الوسائل.
وحيث وجَدْتَ فكراً يهدف إلى هدم الدين، أو الأخلاق، أو النظم الاجتماعية أو السياسية الصالحة _ فابحث عن الأصابع اليهودية تجدْها وراءه.
وسارتر واحد من قافلة اليهود، الذين حملوا على عواتقهم رسالة تضليل الناس، وإغوائهم على منهج إبليس؛ لتحقيق أهداف اليهود العالمية، التي رسمتها بروتوكولات أحبارهم الذين مردوا على كل إثم وشر وتضليل.
وأهداف سارتر لا تخرج عن أهداف فرويد(2)، ودوركايم(3)وبرجسون(4).
ومن الأهداف التي قامت لأجلها الوجودية ما يلي:
1_ تحطيم القيم والأخلاق، والخروج على المبادىء والتمرد على المسلمات والثوابت.
2_ إشاعة الرذيلة والإباحية بين الشباب والشابات.
3_ رد الناس عن أديانهم أوتشكيكهم في عقائدهم.
4_ السخرية من دعوة الرسل.
هناك أسباب كثيرة أدت إلى قيام الوجودية، وتلك الأسباب _في الأغلب_ هي التي أدت إلى قيام كثير من الحركات والمذاهب الفكرية.
وفيما يلى إجمال لتلك الأسباب التي أدت إلى قيام الوجودية:
1_ أنها ردة فعل للماركسية: التي ترى أن الإنسان ليس إلا قطعة في الآلة الكبيرة التي هي المجتمع؛ فليس للفرد عندها أي قيمة.
__________
(1) _ انظر: على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم لأنور الجندي ص12_20. وانظر: المذاهب المعاصرة، عميرة ص224، وكواشف زيوف ص 360.
(2) _ فرويد: هو سيجموند فرويد عاش ما بين =1856_1939م+ يهودي من أبوين نمساويين، وهو مؤسس مدرسة التحليل النفسي، انظر كواشف زيوف 289_315.
(3) _ دور كايم: هو إميل دوكايم يهودي فرنسي عاش ما بين =1858_1917م+ تخصص في علم الاجتماع. قالوا: وقد صار رائد علم الاجتماع بعد أوجست كونت. انظر كواشف زيوف ص335_348.
(4) _ برجسون: هو هنري برجسون، فيلسوف يهودي فرنسي عاش ما بين =185_1941+ انظر كواشف زيوف ص 349_348.(1/10)
2_ الطغيان الكنسي: وتحكم البابوات في شؤون الناس، وفرض الآراء التي لا تتفق مع العقل والفطرة، وادعاؤهم أن تلك الآراء هي الدين.
3_ حدوث الحروب المدمرة: وخصوصاً الحرب العالمية الثانية، التي ذاقت البشرية ويلاتها، حيث دَمَّرت المدن، ومَزَّقت الأسر، وألقت بالآلاف في لهيب الدمار، والموت.
4_ الخواء الروحي: الموجود في كثير من بلدان العالم، مما يجعل الناس يقبلون أي نحلة، فهم كلما خرجوا من نفق مظلم دخلوا في نفق أشدَّ حلوكةً وظلمة منه.
5_ غياب المنهج الصحيح: الذي يُعنى بجميع جوانب الحياة سواء كانت اجتماعية أو فردية أو غير ذلك، وهو الإسلام الذي أَفَلَتْ شمسه في أوربا، مما جعل الناس يتخبطون، ويبحثون عن الحل، فلا يجدونه.
6_ تقصير أمة الإسلام في أداء رسالتها: فهي الأمة القوامة، وهي الأمة الشاهدة على الناس، فلمَّا قصرت في أداء واجبها تجاه البشرية تاهت البشرية في دياجيرالظلمة.
7_ المكر اليهودي: الحاقد على البشرية، والذي كان له دور في قيام الوجودية؛ فاليهود إما أن يتبنوا كل مذهب خبيث، أو يعملوا على إنشائه.
ومن هذه المذاهبِ الوجوديةُ حيث دعمتها الصهيونية دعماً كاملاً، والدليل على ذلك أن الصفحات التى كتبها (كيركجورد) ظلت مغمورة لمدة مائة سنة حتى أخرجتها الصهيونية التلمودية، وأذاعتها، وترجمتها.
الوجودية في بلاد الإسلام (1)
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص118، وانظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية لأنور الجندي ص258_259.(1/11)
عندما نسي المسلمون حظاً مما ذكروا به، وقصروا في تبليغ دينهم، وزهد كثير منهم في الأخذ به ودعوة الناس إليه _ أصبحوا عُرْضَةً لكل عدو، وغرضاً لكل دخيل، فهوجموا في عقائدهم، وأخلاقهم، حتى ضعف قدر الإسلام في قلوب كثير من أبنائه، مما جعل كثيراً من الببغاوات والمنهزمين يأخذون بهذه الفكرة الخبيثة، وذلك ناتج عن الولع بالغرب، والتقليد الأعمى، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، حتى إن المذاهب في الغرب تموت ولها في الشرق دعاة يهتفون لها؛ فقد تخلى سارتر عن وجوديته، ولازال بعض أولئك بوجوديته متعلقاً.
أفكار الوجودية واعتقاداتها وآراؤها (1)
قامت الوجودية على أفكار باطلة, واعتقادات مضطربة، وآراء متناقضة ومما يعتقده الوجوديون ويقولون به ما يلى:
1_ الإلحاد: فهم يكفرون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويرون أن الأديان عوائق أمام الإنسان تقف في طريقه نحو المستقبل.
فهم قد اتخذوا الإلحاد مبدأ وعقيدة، ودانوا بما يتبع ذلك من نتائج مدمرة.
بل إن سارتر ذهب إلى أبعد من ذلك؛ فإلحاده لم يكن كإلحاد غيره من الملاحدة، بل إنه يضع الإنسان في مواجهة الخالق _ سبحانه _ فيعلن تجاهله لوجود الله _ عز وجل _ على حد قوله: =الإله موجود، والإنسان عدم+.
أي أن الإنسان هو الله _ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً _.
2_ الدعوة إلى التفرد: فالوجودية تدعو إلى التفرد، والانطواء، والعزلة الاجتماعية.
__________
(1) _ انظر: كواشف زيوف ص 365 فما بعدها، والمذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص211، والموسوعة الميسرة ص 543_544 والموجز في المذاهب والأديان ص117_118.(1/12)
يقول سارتر: =إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنساناً ينظر إلينا إنما نشعر _أيضاً_ بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء لهذا العالم الذي نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة+(1).
ويقول: =إنني ابتداء من الآونة التي أشعر فيها أن أحداً ينظر إلي أشعر أنني سُلبتُ عن طريق النظر الموجه إلي وإلى العالم.
إن العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا+(2).
ويقول: =إن الآخرين هُم الجحيم+(3).
3_ إلغاء حقيقة الخير والشر، وإبطال القيم الثابتة: فهم لايومنون بقيم ثابتة توجه سلوك الناس، وتضبطه، وإنما لكل إنسان أن يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قِيَماً وأخلاقاً مُعينة على الآخرين.
وجعلوا الشعور الإنساني التابع للهوى ونوازع النفس هو الذي يخلق الخير والشر، والحق، والجمال.
يقول سارتر: =إنك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة مَنْ له الحقُ في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شر وخير إلا إذا خلقتهما+(4).
إذاً فليفعل الإنسان أية جريمة، وليرتكب أي عمل قبيح، وله بعد ذلك أن يعد ما فعله خيراً لا شر فيه، وليس من حق أحد أن يحاكمه أو يؤاخذه؛ طالما أنه هو الذي يضع مقاييس الحق والخير ونحوها!
4_ الدعوة إلى الانفلات والحرية المطلقة: فهم يقولون بحرية الإنسان المطلقة، وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد، دون أن يقيده شيء.
ويرون أن على الإنسان أن يطرح الماضي، وينكر كل القيود، دينية كانت، أم اجتماعية، أم فلسفية، أم منطقية.
ويقولون: إن الوجودية هي طاعة النفس.
والوجودي _ حقيقة في مذهبهم _ هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج، بل هو الذي يكب على شهواته غير مبال بشيء.
__________
(1) _ انظر كواشف زيوف ص 386 عن كتاب الفلسفة الوجودية،تأليف جال فال. تعريب تيسير شيخ الأرض ص 176.
(2) _ 2 _ انظر كواشف زيوف ص 386 عن كتاب الفلسفة الوجودية ص 176.
(4) _ كواشف زيوف ص 367.(1/13)
يقول سارتر: =إن من لايستمع إلينا، ولايقبل حرية إطلاق النفس من قيودها إنما هو جبان+.
ويقول: =إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي _ تلبيةُ كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان، ثم تطليق الماضي، وسلخ المرء نفسه منه متجهاً إلى الأمام، إلى المستقبل، قفزاً إلى المصير المحتوم، إلى الهاوية، إلى الموت، والعدم الأبدي+.
5_ يعتقدون أن الإنسان أقدم شيء في الوجود: وأن ما قبله كان عدماً، وأن وجود الإنسان سابق لماهيته، وأنه بحريته الاختيارية هو الذي يخلق ماهيته.
6_ يعتقدون بأن الأديان، والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة _ لم تحل مشكلة الإنسان، وأن الحل إنما هو الوجودية التي قرروها، ودعوا إليها.
7_ وبالجملة فهي تدعو إلى كل رذيلة، وتحارب كل فضيلة.
بيان بطلان الوجودية لا يحتاج إلى كبير جهد؛ ففسادها يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها.
يقول الأستاذ عبدالرحمن الميداني: =لا تحتاج آراء سارتر، وكذلك كل آراء الوجودية الملحدة إلى جهد كبير لتفنيدها، وكشف زيوفها؛ فهي أقل من أن توضع بين الفلسفات التى تستحق المناقشة، والاعتراض، والنقد.
ولولا أنها كتبت بأيدي رجال متخصصين في دراسة الفلسفة، ثم قامت منظمات ذات مخططات سياسية عالمية هدامة بترويجها في أسواق الفارغين من العقول لنشر الإلحاد بالله، وتدمير الأخلاق، وسائر القيم الصحيحة عن طريقها _ لما كان لها شأن يذكر، ولما رفعها أحد من مجمع قمامات الآراء لينظر إليها، ويفحص ماهيتها، ولما شُغل بقراءة كتبها مشغولون حريصون على أوقاتهم أن تضيع سدى في قراءة كلام هراء متهافت سخيف لا قيمة له لدى أهل الفكر و النظر +(1).
وفيما يلي ذكر لبعض الأمور التي يتبين من خلالها بطلان الوجودية وزيفها:
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 368_369.(1/14)
1_ بطلان قولها بإنكار الخالق: فالوجودية أنكرت وجود الخالق _ عز وجل _ وهذا الأمر منقوض بالشرع، والعقل، والفطرة، والحس.
فهذه كلها تدل على وجود الله _ عز وجل _.
أما دلالة الشرع على وجود الله فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، فما جاءت به من العقائد الصحيحة، والأخلاق القويمة، والأحكام العادلة _ دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح عباده.
وأما دلالة العقل فلأن المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق؛ إذ لا يمكن أن تُوجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن الشيء لايخلق نفسه، ولأن كل حادث لا بد له من مُحدِث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض _ يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة.
إذا تقرر ذلك تَعَيَّن أن يكون لها مُوجد وهو الله رب العالمين، وبطل القول بإنكاره _ عز وجل _(1).
وأما دلالة الفطرة على وجود الله فلأن كل مولود قد فُطر وجُبل على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكيرٍ أو تعليم.
ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها(2).
قال النبي ": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أويمجسانه+(3).
أما دلالة الحس على وجود الله فلأن كل ما في الكون شاهد ودليل على وجود الله _ عز وجل _.
فكيف يأتي جاهل سفيه موتور كفور فينكر وجود الله _ عز وجل _ بجرة قلم؟!
ومن أدلة الحس إجابة الدعوات، ومعجزات الأنبياء، ودلالة الأنفس، والآفاق ونحو ذلك.(4)
2_ بطلان دعواهم إلى الحرية المطلقة: فلقد دعا الوجوديون إلى الحرية المطلقة زعماً منهم بأن هذا هو الطريق الوحيد لأن يثبت الإنسان وجوده.
__________
(1) _ 2 _ انظر نبذة في العقيدة الإسلامية للشيخ محمد بن عثيمين ص13_ 18.
(3) _ رواه البخاري 2/97، ومسلم (2658).
(4) _ انظر: الإيمان بالله للكاتب.(1/15)
ويقال لهؤلاء: ما مفهوم الحرية عندكم؟ أهي على حساب حريات الآخرين؟ أم على حساب القيم والمبادىء؟ وهل الإنسان إذا أطلق العنان لنفسه وشهواته يكون حراً فيثبُت وجوده من خلال ذلك؟
الجواب أن هذا فهم خاطىء للحرية؛ فهي لا تكون بإطلاق الشهوات، ولا تكون على حساب الآخرين، فإذا لم تضبط بالشرع أصبحت البشرية كقطيع من البهائم السائبة، لايردعها دين، ولا يزُمُّها حياء، ولا يحكمها عقل.
=وإذا كانت الغاية من الوجودية هي أن تحقق للإنسان وجوده فإن ذلك مقرر في الإسلام في إطاره الطبيعي، وضوابطه الأصلية، التي تحمي وجوده وكيانه، وليس للإنسان أن يطلق العنان لتحقيق شهواته فيدمر نفسه و يدمر الآخرين+(1).
ثم إن الإنسان _ أي إنسان _ عبد، لا ينفك عن هذه العبودية طرفة عين.
فإذا رضي بعبودية الله _ تحرر مما سواه، وإلا تناوشته سائر العبوديات، فصار عبداً للشهوة، أو عبداً للشهرة، أو عبداً للمال أو المنصب، أو عبداً للطواغيت، ونحو ذلك.
ثم إن الحرية المطلقة سبب للشقاء، والدمار، والتفكك، والانهيار.
ولا أدل على ذلك من حال الدول التي يشيع فيها هذا النوع من الحرية؛ فهي تعاني الأمرَّين من السرقة، والشذوذ، والأمراض الجنسية، والانتحار، وما جرى مجرى ذلك مما يطول ذكْرُه.
3_ قيامها على التناقض والجهل، ومخالفتها للثوابت: فمما يكشف زيف الوجودية أنها قامت على التناقض، والجهل، ومخالفة العلم والعقل، والحقائق الثابتة.
فلقد قدم سارتر وسائر الوجوديين آراءهم على أنها أحكام تقريرية، دون أن تُؤيد بدليل علمي، أو حسي، أو واقعي.
فما قيمة آراء وأفكار من هذا القبيل؟ !
إن أي صاحب خيال يستطيع أن يقول أيَّةَ فكرةٍ تخطر في وهمه، فيزينها بصبغة كلامية، ويزوقها بزخرف من القول، ثم يطرحها في ميادين الفكر، ويجعلها مذهباً فكرياً.
ولكن عند النظر فيها لايثبت لها قدم، ولايستوي لها ساق.
__________
(1) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 118.(1/16)
وكما قدم الوجوديون أحكاماً تقريرية بدون أي دليل _ أنكروا حقائق يشعر بها الناس جميعاً بدون أي دليل(1).
ونظراً لهذا الاضطراب والتذبذب لم تستطع الوجودية إلى الآن أن تأخذ مكانها بين العقائد والأفكار(2).
4_ شذوذ روادها وانحرافهم: فلقد قامت الوجودية على أيدي دعاة كانوا جميعاً من الشذاذ، وكانت حياتهم مليئة بالاضطرابات والقلق.
وهذا مما يدل على بطلانها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
ثم إن كتابات أربابها كانت متسمة بالانحراف والسقوط؛ فهم يُعَنْوِنُونها دائماً بعنوانات ساقطة، ينفر منها الذوق السليم، وتأباها الفطرة القويمة.
ومن مقالاتهم في ذلك: القلق، الحائط، الذباب، الغثيان، التمزق، اللامعقولية(3).
ولا غرو في ذلك؛ فكل إناء بما فيه ينضح.
5_ آثارها ونتائجها المدمرة: وهذا يدل بجلاء على فساد تلك الفكرة وزيفها؛ ذلك أنها قامت _ فيما تزعم _ من أجل إسعاد الفرد، ورد اعتباره.
فما النتيجة التي حصلت بالدعوة إليها؟ وماذا حدث من جراء اعتناقها؟ النتيجة كما قيل: تلك آثارنا تدل علينا.
فلقد انتشر التشاؤم والقلق، والحيوانية، والضياع، والخوف الرهيب،والانتحار والتمرد، والأنانية المفرطة.
أضف إلى ذلك ضياع المشاعر الإنسانية، كالمحبة، والرحمة، والإيثار، ونحو ذلك كلها ضاعت في مستنقع الوجودية الآسن.
يقول (بوخينسكي) أستاذ الفلسفة بجامعة (فريبورج) بسويسرا بعد عرضه آراء سارتر في الوجودية: =وليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي ترتبت على هذه الفلسفة، والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعة، وهي ادعاء عدمية واستحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية.
بل إن الوجودية قد أفرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يد سارتر.
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 376_377.
(2) _ انظر الموسوعة الميسرة ص 543.
(3) _ انظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية ص 254.(1/17)
ومن نتائج الوجودية _ أيضاً _ دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تماماً+(1).
6_ وبالجملة: فليست الوجودية كما حددها سارتر سوى صورة من صور الضياع؛ فهي ليست إلا ثورة سلبية يائسة، لم تستطع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء.
وكل ما تستطيع أن تقول بصدق: إن ما قدمته الوجودية للإنسانية هو عرض بعض جوانب المأساة البشرية، تلك المأساة التي تعبر عنها جملة واحدة هي: (البحث عن الإله).
فهي ترفض الإيمان بالله كما يبينه الدين، ولكنها لا تجد البدليل.
والإنسان الذي تحاول تأليهه محصورٌ مقهور أمام القدر الكوني، وأمام وضعه التاريخي المحدد.
وحول إيجاد مخرج من هذا التناقض تأتي الفلسفات الوجودية بشعارات شتى كالحرية عند سارتر، والعبث عند البيركامو، وهكذا ضلوا وأضلوا، وشقُوا وأشقوا.
وصدق الله إذ يقول: [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)] (طه).
حكم الوجودية والانتماء إليها (2)
عُرض موضوع الوجودية على مجلس المجمع الفقهي في دورته المنعقدة في 26/4/1399هـ _ 4/5/1399هـ، وأصدر بذلك قراراً حول الوجودية وهذا نصه: الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 377.
(2) _ انظر قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي.(1/18)
فقد درس مجلس المجمع الفقهي البحث الذي قدمه الدكتور محمد رشيدي عن (الوجودية) بعنوان (كيف يفهم المسلم فكرة الوجودية)، وما جاء فيه من شرح لفكرتها، ولمراحلها الثلاث التي تطور فيها هذا المذهب الأجنبي إلى ثلاثة فروع تميز كل منها عن الآخر تميزاً أساسياً جذرياً، حتى يكاد لا يبقى بين كل فرع منها والآخر صلة أو جذور مشتركة.
وتبين أن المرحلة الثالثة رجعت بفكرة الوجودية إلى إلحاد انحلالي يستباح فيه تحت شعار الحرية كل ما ينكره الإسلام والعقول السليمة.
وفي ضوء ما تقدم بيانه يتبين أنه حتى فيما يتعلق بالمرحلة الثانية المتوسطة من هذه الفكرة، وهي التي يتسم أصحابها بالإيمان بوجود الخالق، والغيبيات الدينية، وإن كان يقال إنها رد فعل للمادية والتكنولوجيا والعقلانية المطلقة.
وكل ما يمكن أن يقوله المسلم عنها في ضوء الإسلام هو أن هذه المرحلة الثانية منها، أوعقيدة الفرع الثاني من الوجودية _ رأي أصحابها في الدين على أساس العاطفة دون العقل _ لا يتفق مع الأسس الإسلامية في العقيدة الصحيحة، المبنية على النقل الصحيح، والعقل السليم في إثبات وجود الله _ تعالى _ وماله من الأسماء الصفات، وفي إثبات الرسالات على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد ".
وبناء على ذلك يقرر مجلس المجمع بالإجماع: إن فكرة الوجودية في جميع مراحلها وتطوراتها وفروعها لاتتفق مع الإسلام؛ لأن الإسلام إيمان يعتمد النقل الصحيح، والعقل السليم معاً في وقت واحد.
فلذا لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن ينتمي إلى هذا المذهب متوهماً أنه لايتنافى مع الإسلام، كما أنه لا يجوز بطريق الأولوية أن يدعو إليه أو ينشر أفكاره الضالة.
الرئيس/ عبدالله بن حميد
نائب الرئيس/ محمد علي الحركان
الأعضاء:
1_ عبد العزيز بن باز. ... ... ... 2_ محمد السبيل.
3_ صالح بن عثيمين. ... ... ... ... 4_ محمد عبد الودود.
5_ حسين مخلوف. ... ... ... ... 6_ عبد المحسن العباد.
7_ مصطفى الزرقاء. ... ... ... ... 8_ محمد قباني.(1/19)
9_ اللواء محمود شيت خطاب. ... ... 10_ محمد رشيدي
11_ محمد الشاذلي. ... ... ... ... 12_ محمد الصواف. ...
13_ عبد القدوس الهاشمي.(1/20)