النَّقد والخطاب
محاولة قراءةٍ في
مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
تصميم الغلاف للفنان: اسماعيل نصرة
((
مصطفى خضر
النَّقد والخطاب
محاولة قراءةٍ في
مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
الإهداء :
إلى ميلاد وعمّار
مدخل
في لحظة نقديّة عابرة حاول الخطاب العربيّ إعادة النظر في الفكر القوميّ واليوتوبيا القوميّة، وكأنّه يمارس شكلاً من أشكال النقد الذاتيّ الذي لم يكن بعضه أكثر من احتجاج على هزيمة مّا، أو على حدث أعاق وحدة العمل القوميّ، وأخّر حلم ثورة عربيّة ...
وفي لحظة نقديّة أخرى توقّف عند ماركسيّات عربيّة شائعة انتظرت تطورّاً مادياً واجتماعيّاً يدفع بالطبّقة العاملة إلى أن تكون طبقة "وازنة" تمثل الأمّة، وتصنع "الثورة" التي هي جزء من الثورة في العالم ورأى "زيف" الفكرة التي لم تستطع أن تكون "قوة"، ولم تنضج بعد!
وبين هذه اللحظة النقديّة وتلك اللحظة النقديّة تأمّل الخطاب العربيّ مفهومات "سلفيّة"، قد تكون "أصولية"، بمعنى مّا، وقد لا تكون. ولاحظ إجاباتها الجاهزة والناجزة التي تقي إنسانها من انحطاط وشكّ وإلحاد، وتعمل من أجل أن تكون بديلاً لفشل نخبات قوميّة حديثة أو شبه حديثة ونخبات أمميّة حديثة أو شبه حديثة.. ورأى (قوّة) الفكرة التي لم تستطع أن تتحوّل إلى سلوك "حديث" حقاً ...
ويستمرّ خطابنا في إعادة النظر!
وقد تكون إعادة النظر دليل حيويّة بمعنى مّا، ولكنها علامة قلق أيضاً، فالصراع بين اتجاهات الخطاب العربيّ وتياراته وميوله لم تنته، ولن تنتهي، على الرغم من أجواء الركود التي تشيع في النظام الثقافيّ العربي بعامّة!(1/1)
ولكن! كيف تتحوّل إعادة النظر إلى مراجعة نقديّة شاملة ومستمرة تعلن الحوار العقلاني بديلاً لصراعٍ يلغي الآخر، ولا يعترف بحضوره!
ومتى تكون المراجعة النقديّة جزءاً من مشروع ثقافيّ عربيّ، يهدف إلى إعادة بناء الخطاب العربيّ من داخله، وإن اختلفت تياراته، وتنوّعت اتجاهاته، وتباعدت ميوله، أو تقاربت!
إن إعادة النظر مهمّة دائمة يستطيع أن يمارسها الخطاب العربي بعامة، إذا ما تحرّك في أفق ينفتح على أهداف الجماعة القوميّة الكبرى في التوحيد والتحرير والتغيير والتقدّم ...
وينبغي لهذه المهمة أن تكون هادفةً وواعيةً ومخططة كي تستطيع إنجاز ما يُتوقع منها.
يستأنف الخطاب العربيّ إعادة نظر تلو إعادة نظر ويدعو إلى هذه المراجعة النقديّة أو تلك استجابة لظواهر جديدة، أو لأحداث مفاجئة، وتبقى دعوة إعادة النظر مؤقتة أو طارئة، لا يلبث رجعها أن يتلاشى، ويخفت صداها، وتتحوّل إلى جزء من ذاكرة بعيدة تبعثرها وقائع الحياة العربيّة اليوميّة، بدلاً من أن تكون مدخلاً إلى مراجعة نقديّة شاملة ومستمرّة، أو محاولة في نقد الذات تتفاعل مع العالم والآخر في العالم، وتعمل على افتتاح فضاء للخطاب النقديّ يتسع للحوار، وبالحوار، بين تيارات الخطاب العربيّ واتجاهاته وميوله. وتجتهد في تحريك منظومة وعي نقديّ حديث، يتقدّم بتقدّم الأمّة، وتتقدَّم الأمّة بتقدّمه!
قد تعبّر هذه الدعوات المتكرّرة والمتقطّعة عن خصوبة وحيويّة وإلهام. ولكنّها قد تفصح عن قلقٍ واضطراب وارتباك أيضاً، إذاً ...
وقد يشكّل مفهوم إعادة النظر أو المراجعة النقديّة أحد المفهومات التي يستلهمها خطابنا العربيّ من الفكر الغربي، كما استلهم خطابُ نهضة عربيّة أولى مفهومات التنوير والتحرير والنهضة وغيرها من قبل، وكما استلهم خطابُ نهضة عربيّة ثانية مفهومات الطبقة والثورة والتقدّم فيما بعد ...(1/2)
مراجعات تلي مراجعات، تسبقها مراجعات. وكأنَّها تعلن أن المراجعة النقديّة هي استراتيجية مرحلةٍ راهنة!
ولكن! ماذا يُتوقّع من هذه المراجعة النقديّة؟ وأيّة أهداف ستحقّقها؟
((
النَّقد والخطاب النقديّ
في الفكر العربي المعاصر
الفرضيّة التي يحاولها الخطاب العربيّ المعاصر تتوقّع منه أن يكون خطاباً نقدياً، أي خطاباً حديثاً؛ فهو خطاب يتدرّب على النقد، إن لم يكن قد تحوّل في مرحلته الأخيرة، إلى خطاب نقديّ يؤسس في المختلف، وللمختلف وللمغاير، كما يتأمّل أصوله، أعني: هويتّه!..
وهو خطاب هادف يوجهه وضع أمّة أمام مستقبلها، وشروط مجتمع، قياساً إلى تاريخ الغرب والأمّة والمجتمع في الغرب الذي هو تاريخ حداثة العالم وتكوين عقله الحديث، وقياساً إلى تاريخ "ذاتي" هو تاريخ "فتح" و"علم" لم يبق منهما إلاّ "ذاكرة" معطّلة!..
وكأنّه يستعيد "فرضيّات" مشروع النهضة الأولى، بأنموذجاتها المختلفة والمتعدّدة، شيوخ إصلاح ودعاة تقنية وعلم وممثلي تنوير وتغيير، اقترحوا أفكاراً وأحلاماً وأشواقاً تعبّر عن رغبةٍ قويّة بالنهضة وبإمكانيّة النهضة، لم تلبث أن تحوّلت فيما بعد إلى حلم بانفجار "ثورة" عربية ...(1/3)
ولم تكن "البذور" الفكريّة العلميّة والعلمانية تابعةً لصدمة حضارية وفّرتها مواجهةٌ مع غرب "استعماريّ" أو "إمبريالي" و"صهيوني" فيما بعد، ويفسّرها "لقاء" مع غربٍ وشرقٍ اشتراكيين، في مرحلة تالية، فقد كان ثمّة "عالمٌ" يتغير دائماً ... تتداخل أمكنته، وتتواصل، وتتفاعل، وقوى تنمو في الداخل، وقوى تذبل، وعلاقات إنتاج تتهشّم، ومعاناة بشرٍ تتقدّم بتقدّم الحياة والواقع ... بل إن عالماً قديماً يتآكل بسرعة، ويتشكّل من داخله عالمٌ آخر مختلف قليلاً أو كثيراً، وإذا كانت "سياساتٌ" ما قبل قومية، ضعيفة، ومتأخرّة قد أخفقت في إنتاج مجتمعاتها عبر مشروع "نهضة" أو مشروع "ثورة"، وهُزمت بفعل علاقةٍ خاصة بين "الداخل" و"الخارج"؛ فإن للأفكار أن تعيد النظر في ذاتها، وللأحلام أن تسائل يوتوبياها، وللأشواق أن تتخلّى عن وساوسها، بفعل الحياة والواقع ...
ولذلك كان الخطاب العربي المعاصر خطاب "إعادة نظر" دائماً!
هل كان هذا الخطاب من إفراز "الرضّة" الحزيرانية كما كان الخطاب الحديث والنهضويّ من إفراز "الصدمة" النابوليونيّة، وكانت العلاقة بينهما علاقة قطع ونكوص، فورث عنه استعداداتٍ مرضيّة، واتسم بازدواجية مستعصية على الحل بين روح المنافحة وروح النقد، كما يفترض جورج طرابيشي؟(1).
ألم يكن ثمة "رضّة" و"صدمة" دائماً؟ ألم تتكاثر، وتتكاثر، "رضّات" و"صدمات" مفاجئة ومتوقّعة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر الذي هو تاريخ من صنع الآخر بمعنى ما، أقحموا فيه، وألحقوا، كما أقحموا، وألحقوا، في تاريخ العالم؟(1/4)
وكان على الخطاب العربي أن يتأمّل ذاته، وأن يتفاعل، أو يتواصل مع خطاب تنوير وحداثة، دون أن ينفذ إلى شبه قوى وشبه طبقات أو إلى بشر واقعيّين، فهو لم تنتجه نخبةٌ حديثةٌ أو شبه نخبة تمتلك مجتمعات حديثة قادرةً على إنتاجها، تحاصره أصولٌ يفترض انتماءه إليها، ويتناقض معها، كما تحاصره "تطوّرات" حداثةٍ في خطاب غربي يمتلك القدرة على تجاوز ذاته وتخطّيها دائماً، أيّ يمتلك احتمالاتٍ دائمة ومفتوحة على النقد بعامّة، وعلى نقد الذات بخاصّة!
ولكن الخطاب العربي المعاصر يتقدّم بمعنى ما، وتقدّمه نسبيّ طبعاً، والتقدّم نسبيّ أيضاً، وممكن أيضاً، كلّما كانت الثقافة نقدية.
وهو، على أية حال، مشروع خطابٍ يشتمل على ما هو أصوليّ وإصلاحيّ، وعلى ما هو سلفيّ وتوفيقيّ، وعلى ما هو شبه حديثٍ ومُستعار، وعلى ما هو حديث ومستورد، وعلى ما هو متصالح وضدّي ... يعلن تناقضه مع ذاته ومع الآخر، ويعيد النظر فيهما ... يخفق وينجح في بحثه عن ذاته من داخل أصوله، ومن داخل حداثةٍ تهجم عليه. ويفتتح أكثر من أفق للاختلاف والمغايرة بحثاً عن هويته، عبر علاقة قلقةٍ ومرتبكةٍ بين الذات والآخر!
إنه يتدرّب على النقد حقاً! وما زال أكثر من اتجاه فيه يستكشف عوامل فشله أيديولوجيةً وفلسفةً وسياسةً وإبداعاً، كما أن أكثر من اتجاه ينبّه إلى أنّه بديل، أو إلى أنه هو أوّل الطريق، وفي كلّ مرحلة عاصفة أو شبه عاصفة كان ثمة اتجاه يريد أن يكون هو أوّل، أو الأوّل، ويرغب في أن يؤّسس لمشروع فكر عربيّ معاصر وثقافةٍ معاصرةٍ، وكانت اختياراته تتداخل مع اختياراتٍ أخرى بموادها ومراجعها وشعاراتها، تبعاً لعلاقة كلٍّ منها بذاكرة مرجعيةً بعيدة أو قريبة، وتبعاً لأحوال قوى وشبه قوى واقعيّة.(1/5)
ولعلّه يحاول أن يبني ذاتيّته، وبخاصة عندما يعيد النظر في مراجعه ومصادره ودلالاته الأبستمولوجية والأيديولوجية التي غلّفت وتغلّف شبه مشروع حداثةٍ عربيّةٍ راهن، ويبرز فيه أثرُ أكثر من اتجاهٍ أوربيّ غربيّ أشاعه تفاعل وتثاقف وتجاور وتناقض، كما عكسته ظواهرُ اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة، ارتبطت بصراعات وتحوّلات، كما ارتبطت بتطوّرات العالم وتغيّراته التي أنجزت دون مشاركة العرب حقاً، بل عبر تهميشهم!.
ولكن! ألا يختبر حداثته، ويتأمّل علاقته بها، ويقوّمها من داخل موقف نقديّ، يتحوّل فيه النقد إلى جزءٍ من بنيته، ويتحوّل ببنيته نحو تحرير الإنتاج المعرفي والنقدي والإبداعي من كلّ سلطة خارجية تؤجّل خلخلة مفهومات وتشكيل مفهومات واستراتيجيات هي مضادة بمعنى ما: مؤقتة أو بديلةً!
النقد أوّلاً! هل هو شعاره مضمراً أو معلناً؟
ولذلك فكلّ ما لا يدخل على نحو مباشر أو غير مباشر تحت "نقد الأمة" أو "نقد الذات" يجب أن يدان، كما يقول الياس مرقص(2)، ولكن! لماذا يدان؟ وكيف يدان؟ الناس –كما يرى بحقّ- تريد المعرفة، والفكر، ولا سيّما الثوري، ينتهي حين لا يخضع مقولاته للنقد، وحين لا يفحص مفاهيمه!
الخطاب العربي المعاصر يعبّر عن مشروع ثقافة عربيةٍ معاصرةٍ فكراً ونقداً وفلسفة وإبداعاً. وقد تحرّك، كمثل الخطاب النهضويّ من قبل، ويتحرّك الآن في داخل أفضيةٍ متعدّدة ومختلفة، تهدف إلى استعادة التراث وإحيائه أو بعثه واستلهامه وتمثّله أو تبنيّه على نحو نقدي. وتحرّك، كمثل الخطاب النهضوي مستعيناً بخطاب تنوير، وبخطاب حداثة، غربيّين، حاول تمثّلهما وتعريبهما أو تقليدهما، وربما تبيئتهما في بعض تجاربه.(1/6)
وقد استعان كلّ اتجاهٍ من اتجاهاته بجزء من التراث الذي هو تراثات. كما استعان كلّ اتجاه بجزء من حداثة الغرب التي هي حداثات أيضاً. وكان استهواء هذا الاتجاه أو ذاك بجزءٍ من التراث، أو بجزء من الحداثة وما بعد الحداثة، فيما بعد، يعكس وضعاً تاريخياً يشرطه تأخّر، تضاعفه تبعيّة؛ قد يستورد "ألفاظاً" حديثة كما يستورد "الأشياء" الحديثة، وقد "يحدث" أدوات دولةٍ هي سلطة فحسب؛ ولكنه لم "يحدث" الأمّة ... لم يحدث الواقع والحياة من الداخل ومن الخارج في آن معاً!
فأين مشكلته إذاً؟
يرى بعضهم أن مشكلة المثقّف لم تعد مع الواقع ولا مع الدول والأنظمة، بل هي مع أفكاره بالدرجة الأولى ... وهذا يتطلّب مراجعة العقل لنتاجاته ونقده لأنظمته..(3)
وعندما تكون مشكلة المثّقف مع عقله ألا يعني أنها مشكلة مع واقع، ومع ما ينتجه هذا الواقع؟ وهل تنتمي أفكاره إلى واقعٍ هو واقع الواقع والدول والأنظمة، بل السلطة ولأن عقل المثقف ليس هو عقل المثقف فحسب، بل عقل "الواقع" الذي يرغب في أن يكون مستقلاً، ويحاول أن يكون مستقلاً، وألا يكون تابعاً في عالم هو عالم الآخر حتى الآن، فقد كان إنتاج الخطاب العربي المعاصر فلسفة وفكراً ونقداً تتوزّعه ميولٌ مادية وروحيّة وعقلية وتكاملية وشخصانية ووجودية وروحية تبعاً لتصنيف جميل صليبا للاتجاهات الفلسفية العربية(4) كما برزت فيه ميول ماركسية ووضعية وبراجماتية، وتبرز فيه الآن ميول بنيويّة وما بعد بنيويّة وتفكيكيّة وغيرها. واجتهد أكثر من محاولة في التأصيل الفلسفي والنقدي والإبداعي؛ ربّما كان في مقدمتها تجربة د. عبد الرحمن بدوي في التأصيل الفلسفي التي اتجهت نحو البحث عن وجودية عربية إسلامية تحاور "شطحات الصوفية" و"تاريخ الإلحاد في الإسلام" و"شخصيات قلقة في الإسلام" وتدرس "الزمان الوجوديّ" وتناقش "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي" وتتساءل عن إمكانية قيام أخلاق وجودية.(1/7)
وستلي تجربته محاولاتٌ فلسفية ونقدية وإبداعية استهوتها الوجودية في مرحلة أشاعت أفكار هيدغر وكيركيغارد وهوسرل وميرلوبنتي وكامو وغيرهم وسارتر بشكل خاص. وسيبشّر زكي نجيب محمود بالفلسفة الوضعيّة كاستجابةٍ حارة للعلم والعلوم، كان تأثيرها ضعيفاً على الفكر وعلى الواقع، وأخذت صاحبها في أعوامه الأخيرة صحوة، ردّته إلى التراث في كتابه "تجديد الفكر العربي". وستواصل ميولٌ فلسفية ونقدية بنيوية وتفكيكية عملها هادفة إلى تكوين وعي فلسفي ونقدي ضدّيّ، كما في دراسات "مطاع صفدي" الذي ابتدأ حياته الإبداعية والنقدية قومياً وجودياً وكما في أعمال "علي حرب" و "عبد الكبير الخطيبي" و "كمال أبو ديب" وسواهم.
وبالقدر الذي شاعت فيه "فكريّات" قوميّة انحازت إلى تراثها القومي وتأثرت بأعمال فخته ونيتشه وبرغسون وغيرهم، حاولت "فكرّيات" ماركسية مختلفة أن تؤثّر في تكوين نخبة وشبه نخبة، ونقلت أشكالاً من الماركسية الرسمية وشبه الرسمية والشائعة، ودعا بعض ممثّليها إلى "تعريب" الماركسية وتبيئتها.
وظهرت أعمال جادة لحسين مروة ومهدي عامل وصادق جلال العظم وسمير أمين وأنور عبد الملك ولطفي الخولي وطيّب تيزيني ومحمود أمين العالم، وغيرهم. وقد تطورت فرضياتها تبعاً لاستجابتها للواقع وللوقائع. كما قدّمت أعمال إلياس مرقص وعبد الله العروي وياسين الحافظ أمثلة على نقد الأيديولوجية العربية المعاصرة والأيديولوجية القومية والأيديولوجية الماركسية الشائعة.
ولكن خطاب الأصول كان حاضراً دائماً أيضاً، وتبعاً لعلاقته مع الواقع المختلف اختلف خطاب الأصول من محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا ومصطفى السباعي وسيّد قطب وغيرهم كثير ...(1/8)
وكان قد شاع فيه من قبل، كما يشيع فيه الآن، شكلٌ من أشكال النقد؛ بعضه يغلب عليه اضطهاد الذات، وعلى بعضه امتداحها، وعلى بعضه الآخر تدرّبٌ على النقد. فمنذ مطالع الستينات تأخذ انطباعاتٌ نقديّة على الفكر العربي أو التفكير العربي عجزه عن التفوّق على ظروفه، وأنه لا يستطيع أن يكون حراً، ولا يتصوّر السعادة أو المثالية في هذه الحياة أو في الإنسان، ولا يدرك كمال الإنسان أو كمال الأشياء، وينزع إلى توحيد القوى في قوّة واحدة، وينكر التعدّد، فيراه ضدّ الطبيعة والفضيلة، وكما وحّد الإله وحدّ السلطان.. يترقّب قيام الساعة وفناء العالم كوسيلةٍ لتقويم الأخلاق ... إنه فكر اتكاليّ، هارب من نفسه، يرفض أن يكون مسؤولاً عنها! الخ ... (6).
ويشطب أدونيس تجربةً فكرية وفلسفة ونقديّة حديثة ومعاصرة، بعد أن يتساءل بدهشة عمّا قدمه النتاج الفلسفي العربي الراهن والنتاج الفكري النقدي الراهن ضمن إشكاليات الفكر العربي وخصوصيتها.
ويجيب بدهشة أيضاً:
تقريباً لا شيء! فبعضه وصفيّ، وبعضه تعريب وتثاقف، وكلّه يتحاشى البنية الدينية والمعنى المسبّق، حيث تكمن أسس الثقافة في المجتمع العربيّ. وكأنّ معياره هو مواجهة البنية الدينية والمعنى المسبّق، فالفكر العربي –فلسفةً أو نقداً- إذا أراد أن يتأسّس أولاً، وأن يكون من ثمّ جديداً، لا بدّ أن يبدأ بتحرير النّص الأوّل من مسبقات النصّ الثاني ... (7)، ولم لا يبدأ بتحرير وعي البشر الواقعيّ وبتحرير حياة البشر الواقعية من شروطهما غير العادلة التي تدفع بشكل من الانتماء إلى البنية الدينية في بعض الأحيان، أو في أحيان كثيرة، كما تدفع إلى تقبّل أشكال من الحداثة الساذجة أو الرثّة في أحيان كثيرة، أو في بعض الأحيان ...(1/9)
إن تحرير النصّ الأول، أو التحرّر من النصّ الثاني يتطلّب تحرير الواقع بما هو تحرير للوعي.. واستيعاب ما ينتجه العقل الحديث من عقلانية، كما يفترض تحرير المجتمع. ولا يكفي أن نرى في الماركسية النظرية النقدية للغرب الحديث، والنظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه، كما يرى العروي، إذ حكم على السلفيّة والليبرالية والتكنوقراطية بالسطحية والفشل ... (8). ولا بد من تأمّل علاقة هذه النظرية المعقولة الواضحة النافعة بحياة عربية غير معقولة وغير واضحة وغير نافعة!
ويؤكّد د. محمد عابد الجابري ارتباط الخطاب الفلسفي العربي المعاصر الصريح بالتيارات اللاعقلانية في الفكر الأوروبي المعاصر، بل بأكثر الجوانب لا عقلانية منه، بالإضافة إلى تجاهله القطاع الفلسفي العقلاني في التراث ... بل إنه يحكم على هذا الخطاب، كلّه، بالفشل ... (9) وكأنّه يتجاهل علاقة هذا الخطاب بخطاب عصر التنوير وعصر العقل والحداثة الغربي، بل علاقته بالخطاب الماركسي الأوربي بشكل خاص، كما يتجاهل علاقة الخطاب الماركسي العربي بجزء من التراث، هو جزء عقلاني وماديّ بمعنى ما!
هذه أمثلة، وغيرها كثير، تدلّ على أن خطابنا النقدي العربي ما زال يتدرّب على وعي ذاته، أي على نقد ذاته ... فهل نحكم عليه بالإخفاق أو العطالة؟(1/10)
إن بعضه يدعو إلى نقد جذري، وبعضه يدعو إلى نقد مزدوج على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي وسواه، وبعضه الآخر يدعو إلى نقد حضاري شامل على حد تعبير د. هشام شرابي. وكلّه يشعر بالحاجة إلى عون النقد والوعي النقدي، بالقدر الذي نحتاج فيه إلى العلوم المختلفة وتطبيقاتها. ولكن شعار النقد الذي يطلقه خطابٌ ينتمي إلى حداثة ما، أو يريد أن ينتمي إلى الحداثة لا يعني أن هذا الخطاب يعبّر حقاً عن "اهتمامات" الجماعة، أو الكتلة الاجتماعيّة التي تطمئن إلى "يقين" يقدّمه تصوّرها التقليدي للعالم، وتتصالح مع "فكرّيات" و"تقاليد" سلفيّة يوفّرها "تديّن"، شعبي أو شبه شعبيّ، تغذّية مللٌ ونحل وطوائف وفرق، وتخرج منها دائماً نخبة إسلامية وشبه نخبة، رسميّة وغير رسميّة وشبه رسميّة، بالحلول التي تصلح بها دنيا الناس، مرجعها مطلقات النصّ الدينيّ الأوّل وشروحه وهوامش شروحه، وهو مرجع لا يتعارض مع تفاعل هادف، مباشر وغير مباشر، مع ما ينتجه الغرب، وتقابل النخبة، وشبه النخبة الأصولية نخبةٌ وشبه نخبة حديثة وشبه حديثة مرجعها نصوص حداثةٍ غربيّة لم تنفذ آثارها إلى وجدانات كتلة اجتماعيّة؛ تنظر إلى الحداثة، وبخاصة فيما يتّصل بإنتاجاتها الماديّة، كمحض فرجة!
وبين نخبة وشبه نخبة تنتمي إلى أصول هي جزء من الأصول "ونخبة شبه نخبة تنتمي إلى حداثةٍ هي بعض الحداثة نتكلم على صراع، يتقدّم أو يتراجع، يتسارع أو يؤجّل، ينفجر أو يهمّش، تبعاً لآليات سلطةٍ تستبعد التعدِّد والحوار، والإصغاء للذات وللآخر، وتنمية الذات كجزء من تنمية الآخر، وتنمية النقد الذاتي، بقدر تنمية النقد، بدلاً من أن يبقى النقد مجرّد شعار!(1/11)
يحدّد د. أنور عبد الملك، وغيره أيضاً، وجود تيارين فكريين رئيسين وكبيرين في الحياة الثقافية العربية: الأصولية الإسلامية والعصريّة الليبرالية. وتتمثّل نقطة انطلاق التيّار الأوّل في الفكر الإسلامي الذي يستوحي الإسلام بالعودة إلى مصادره الخالصة التي تسمح بإقامة حوار مع العصر يستخدم العقل السليم، مهما اختلفت تنويعاته. والتيّار الثاني نقطة انطلاقه في جوهرها الحضارة الغربية، ويهدف إلى خلق مجتمع عصريّ، ينفتح على التقدّم، ويضمّ أيضاً اتجاهات مختلفة ... (10).
وقد يضمر العنوان الفرعيّ لكتاب د. برهان غليون (اغتيال العقل) فرضيّة ترى أن محنة الثقافة العربية تحددها علاقةٌ ما، أو يعبر عنها صراع مّا، بين السلفيّة والتبعيّة، وكان قد استخلص أن حركتي البحث عن الهويّة واكتشافها والاندفاع وراء الحضارة وتأهيلها حركتان أصيلتان تكمّلان الواحدة منهما الأخرى واستمرار تعارضهما هو مظهر من مظاهر عجز كلّ منهما عن تحقيق الذاتيّة ... وفي صراعهما، ومنه، تنبع إمكانيّات تحوّل الحضارة إلى مدنيّة ... ولكن ما معيار "أصالة" كل منهما؟ وهل يتطابق البحث عن الهويّة واكتشافها مع ثقافة موادها أجوبة جاهزة ومغلفة، أم ينفتح على مشروع ثقافةٍ، تدمّر أجوبتها، وتنتج أسئلتها المختلفة، ما دامت الذات هي الوعي، والثقافة هي وعي الذات بالنسبة للجماعة، على حد تعبيره! ومتى تتحول الجماعة إلى متّحدٍ اجتماعي يستمرّ في إنتاج هويّته ووعي ذاته، بالمقارنة مع جماعةٍ تكتفي بتداول ثقافة مُنتجة ترى فيها هويتها، وتعيد إنتاج ذاتها على صورتها؟(1/12)
يطرح د. برهان غليون شعاراً مفاده: لا، لتدمير الهويّة، لا، لفصل العرب عن العالم، وكأن الشعار ينظر إلى الهويّة كمعطى مطلقٍ ونهائي، مع أنّه يلاحظ، كما يفعل غيره، أنّ الحداثة عمليّة مستمرّة عندنا منذ قرنين، وعلى الرغم منّا، ولا يمكن الاختيار بينها وبين غيرها. ويقرّر أن الجدال بين التراثيين والتحدثيين هو الميدان الذي برزت فيه خصوصية الثقافة العربية. وخلاصة قوله في الحداثة: إن أصل التخلّف لا ينبع من استمرار وجود التراث وعزله لنا عن غيرنا، وإنما من بقاء هذه الحداثة غريبة ومغرّبة أي أداة تفكيك وتقسيم ونفي للذات ... (11). ولكن هذا التراث، الذي هو تراثات عزّزتها أكثر من سلطة، واستعانت بها، بين مرحلة وأخرى، كان أداة تقسيمٍ وعزلٍ وضياع حتى الآن.
وما شبه الحداثات التي اقترحت علينا من خارج، منذ قرنين، إلا الوجه الآخر والمختلف لشبه التراثات التي تؤجّل عمل الحداثة فينا من داخل!
قد تكون التراثات عامل تعدّد وتنوّع من داخل "هوية" ينجزها الاشتغال على الذات، أو النقد، على أن تتحوّل حداثات وشبه حداثات إلى موضوع للنقد أيضاً، بدلاً من أن يكون كلّ منهما مصدر تقسيم وانقسام أو مصدر صراع زائف، يقنِّع سلطة تأخّرٍ وتأخر سلطة، فتحتمي بالتراث قوى وأشباه قوى كمرجع "مقدّس" وهو الإنتاج الدنيوي، كما تحتمي بالحداثة وشبه الحداثة، التي هي دنيويّة أيضاً، وتحوّلت إلى وثن أو شبه وثن يخدم مصالح هذه الفئة أو تلك!.(1/13)
في كتابه (الخطاب العربي المعاصر) يرى د. الجابري أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى تدشين عصر "تدوين جديد"، تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح، أي نقد العقل العربي ... وأنه لا بدّ من حضور "الأنا" العربيّ حضوراً واعياً، حضوره كذات لها تاريخ، ذات لها فردّيتها وتناقضاتها وسيرورتها الخاصة.. بل إن "نقد الآخر، عنده، شرط لوعي الذات الذي هو شرط لاكتساب القدرة على التعامل النقديّ مع الآخر. وكان قد أشار إلى ما يجب البدء به، وهو معرفة الذات أولاً وفكّ إسارها من قبضة النموذج السلف حتى نستطيع التعامل مع كلّ النماذج تعاملاً نقدياً ...
وتدشين عصر "تدوين جديد" شعار يبدو جميلاً، ومتفائلاً وغامضاً أيضاً، فمنذ مشروع النهضة الأوّل ثمة تدوين وتدوين بمعنى ما، يضمر محاولة لوعي الذات أو يفصح عنها، وثمة نقد بعامة، وثمة تعامل نقديّ مع الآخر من وجهة نظرٍ إصلاحية، وترغب في أن تكون جديدة.
قد يشبه عصر تدوين جديد تلك الثورة التي آن أوانها –كما يفترض مطاع صفدي- هذه الثورة المولّدة لعصر التنوير الحقيقيّ والمعبّرة عن كون الأمّة تعيش مناخ الانبعاث الحقيقي. والتي تدفعه للتساؤل عن السبب الذي جعل النهضة العربية الجديدة تعجز عن توليد ثورة رشديّة ثانية، أو عن تحقيق عصر تنوير عربي، لم يعرفه جلّ العرب حتى وهم يلجون عصر الثورات السياسية اللاهبة ... النهضة الحديثة لم تمرّ إذاً بمرحلة عصر التنوير، كما أن وعي النهضة ينتكس، ويلجأ بعد كل هزيمة إلى نظام أنظمته القمعية على حدّ تعبيره، أي اللاعقلانية الغيبيّة وتجسيدها السياسي في التسلّط الأبويّ القمعيّ ... (13).
هل هناك علاقة بين تدشين عصر تدوين جديد عند الجابري وتحقيق عصر تنوير عربي عند مطاع صفدي؟ وإلى أي مدى يمكن أن يشتمل الأنموذج السلفي على اللاعقلانية الغيبية؟
يتساءل صفدي في موضع آخر إن كان ثمة مفرّ حقاً من أن يأتي العقل العربي نفسه عبر ما يأتي به العقل الغربي نفسه كذلك.(1/14)
ولكنه يعتبر قصّة العقل الغربي مع ذاته ليست أمثولة للآخرين أو نموذجاً للتقليد أو بضاعة للاستيراد والتبادل، وإن اعتبرها قابلة لأن تكتب بغير حروفيّتها الأصليّة، كما أن نقد العقل الغربي هو نقد للعقل العربي، لأننا نقرأ فيه ما كان ينبغي لنا أن نكتبه.. الخ وفقاً لأسلوبه الخاص في التعبير.
ويشير إلى أن السؤال الفلسفي هو المركزي، هو المركز في عصر الحداثوية البعديّة، ويخرج السؤال من كونه سؤالاً فلسفياً، إلى أن يكون سؤال الفلسفة، ولكن السؤال العربيّ عنده ليس بعدُ سؤالاً في السؤال ... ليس هو بعد لماذا؟ وغياب السؤال العربي، على هذا النحو، يعني أن يستمرّ في الإصغاء إلى سؤال الفلسفة الذي هو سؤال العقل الغربي!
ويعيد فشل المشروع التنويري في الغرب أو عدم اكتماله في الغرب إلى انفصالٍ في استراتيجيّة المعرفيّة، إذ لم يبق فيه إلا طوبائيته التي قد تحرك بعض القلق من حين إلى آخر لدى نخبة ثقافوية منعزلة ...
بالإضافة إلى استيعاب كلّ يوتوبيا ثقافويّة تلمع في بعض خلايا التمرّد الاجتماعي من قبل أيديولوجيا التقنية!
أمّا التنوير العربي المعاصر فقد سقط –كما يرى- في أسطرة التنمية كإجهاض منظّم لمولد النهضة، إذ ارتبطت عضوياً بالثروة النفطية، وطمست حقيقة التحدّي التاريخي الذي كان على المشروع الثقافي العربي أن يتصدّى
له ... الخ(14).
وكأنّ نقد العقل الغربيّ هو شعار كمثل نقد العقل العربي، يفترض على نحو ميتافيزيقي عقولاً كليّة ومجرّدة ومطلقة ونهائية تتمايز بأنظمة يمكن أن تستكشف، فنفاضل بينها من خارج علاقتها بالواقع وتطوّراتها وبالقوى الواقعيّة وصعودها وهبوطها ... وكيف يتوقّع من فرضيّة كفرضيّة العقل الغربي أو العقل العربي أن تخدم نقد الآخر أو نقد الذات، وبخاصة عندما نسلّم بأن كلاً منهما إنتاج عصر مختلف وقيم مختلفة، وعالم مختلف في عالم هو حتى الآن عالم الغرب أولاً!(1/15)
يتفاءل بعض أنصار الحداثة وما بعد الحداثة أيضاً، فيقرّر أن الحضارة السلفيّة أصبحت شظايا، فتفتّت، وتهشّمت أمام العقل الغربي المتحفّز ... بل إن اللغة السلفيّة شاخت، وشمس الشاعريّة القديمة أفلتْ –على حد تعبير د. سامي أدهم- وأصبح الجديد يدقّ أبواب الشرق بأسره منذراً متوعّداً ومشفقاً على أمجاد غابرة وحضارة سالفة ... وكأنه يكفي أن تتغيّر الكائنات الذهنية بتغيّر المعاني على المستوى الأنطولوجي –كما يرى- لتعكس منظورات جديدة في الإبداع والتجديد، ولنهجم على الحداثة وما بعد الحداثة، مع أن الوعي الشرقيّ المبهور يحاول لملمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حضارة انتفخت وانفجرت غداة الثورة الفرنسية، على حد تعبيره أيضاً(15). ومع ذلك فالعقل العربي لم يعثر على ذاته من خلال الحداثة، وما بعد الحداثة! ...
في مناقشة فرضية د. الجابري التي تدعو إلى تدشين عصر تدوين جديد يجد جورج طرابيشي أن الحاجة تدعو إلى استئناف جديد لعصر النهضة. ويتعيّن على العقل العربي في طور تكوين جديد له أن يعمل في اتجاه انفتاح نقدي مزدوج على الماضي، كما يتمثّل بالتراث، وعلى المستقبل، كما يتمثّل بالعصر.
وما من شيء هو برسم التدوين، بل كلّ شيء برسم إعادة الإنتاج وإعادة الاختراع ... والسبيل إلى إيجاد صلة نسبٍ بين العقل العربي والحداثة يراها في موضعة العقل العربي في سياقه المعرفي، وإخضاعه في بنيته الماضية والحاضرة لعمليّة نقدٍ ذاتي مماثلة لتلك التي أخضعت أوروبا الحديثة نفسها لها ... الخ (16).(1/16)
ألا يستدعي هذا النقد الذاتيّ أن نتأمّل الشروط والعوامل التي أهلّت أوروبا الحديثة وأهبّتها لنقد الذات، وأن نناقش أوضاع النخب وأشباه النخب والقوى وأشباه القوى التي هي قادرة على إعادة النظر في ذاتها وتقويمها ونقدها. وهل تختلف فرضيّة استئناف جديد لعصر النهضة، عن فرضيّة تدشين عصر تدوين جديد أو فرضية عصر أنوار عربي، ما دامت هذه الفرضية أو تلك تدعو إلى نقد مزدوج، قوامه الرئيس نقد الذات ونقد الآخر؟
يقترح د. هشام شرابي مفهوم النقد الحضاريّ، كفكر يناهض أيديولوجية الفكر "الثوري" القديم وغيبيّات الفكر الأصولي النامي. وتتمثّل بداياته في الفكر النقدي الديمقراطي. وتكمن مهمّة هذا النقد الحديث وقدرته على تغيير الفكر، وفقاً لتعبيره، برفع مستوى الوعي الفردي والجماعي إلى مستوى النصّ النقدي الجديد وخطابه العلماني الجديد. ويتطلّب مشروع النقد الجذريّ إجراء تغيير أساسي في الفكر المسيطر والموضوعات والأشكال التي يتناولها، ويركّز عليها، وليس نقده فحسب، ويتوقّف عند ثلاث ظواهر تكمن في صميم ما يرمي هذا النقد الحضاري إلى كشفه: الحداثة وقضيّة المرأة والحركات الاجتماعية.(1/17)
هكذا تختار نخبةٌ أو شبه نخبة شعار النقد الذاتي، إذ اختارت أن تنتمي إلى الحداثة ونصّها الغربي وأنموذجها الثقافي الغربي، ويبقى انتماؤها من الخارج، وفي مستوى الكلام، لا الفعل، ما دام ثمة واقع تاريخي وتاريخ واقعي يعبّران عن علاقة الكتلة الاجتماعية بالأصول، التي هي أصول "مذاهب" و "فرق" قبل أن تكون أصولاً تنتمي إلى النصّ الأول. ويعيد إنتاج وعي سلفي بالأصول يمثّل "أزمة" عقل اصطلح على تسميته عربياً –إسلامياً أو إسلامياً عربياً. وإسلامياً وعربياً. وكأن قطيعة أبستمولوجية أو أنطولوجية غير ممكنتين بعد بضعة قرون من الفوات والتأخّر. وسرعان ما يتحول كلام "الأصول" إلى مستوى الفعل، تجسّده جيوبٌ وحركاتٌ اجتماعية تهدف إلى الانتقال بالأصول من رموز إلى مؤسسة وقوّة وسلطة، سواء ألجأت إلى الحكمة والموعظة الحسنة أم اندفعت إلى آليات قمعيّة؛ وسواء أكانت سلفية محافظة أو إصلاحية أم كانت قمعية أو جهادية!
ولنتأمل شجرة الأصول بفروعها جيّداً، فإنّها نامية حقاً في بيت ومدرسة ومؤسسة شبه قديمة وشبه حديثة ... ولنلاحظ أيضاً أنّ حداثاتٍ وشبه حداثات تشيع، بلبابها وقشورها، في المكان العربيّ، تقتحمه، وتقتحم حياة البشر الواقعيّة.
وكي لا يبقى النقد أو النقد المضاد في مستوى الكلام يفترض الجميع أن الواقع هو الواقع أولاً، وأن النيّة الطيّبة أو الرغبة المشروعة قد تزّينان لنا واقعاً ما وتاريخاً ما ومستقبلاً ما، ولكنهما لا تصنعان واقعاً مختلفاً وتاريخاً مختلفاً ومستقبلاً مختلفاً. وقد كانت الأصول حاضرة دائماً، وستحضر أيضاً، على نحو غير عادل، بالقدر الذي تُفرض فيه أنموذجات حداثةٍ وشبه حداثة، صُنعت من خارجنا، ودون مشاركتنا.
وإذا لم تتحوّل الأصول إلى تراث، أي محض تراث، وإذا لم نمتلك تراثنا كلّه، فكيف ننجز حداثتنا التي هي جزء من حداثة العالم.(1/18)
قد يتكلّم بعضنا على إخفاق هذا الخطاب أو ذاك، وعلى إخفاق هذه الأيديولوجية أو تلك؛ وكأن الإخفاق موضوع ثقافةٍ أو موضوع وعي فحسب، أو كأن الإخفاق في مستوى الكلام.. وهل يكفي أن نعلن عن إخفاق هذا الفكر "العربي" أو ذاك "الوعي" العربي حتى نؤسّس لهويّة أو ننخرط في حداثة، ما دام الفكر والوعي "موضوع" إنتاج وعلاقات إنتاج وقوى وسلطات، ولم يتحوّل إلى "ذات" تجسّد الأمّة، التي هي موضوع "نقد" و "نقد الذات" أيضاً!
أيكون وعي الذات بالاندماج مع الآخر، الذي هو الغرب والحداثة، أم يكون بالقطيعة على نحو ما معه؟ وكيف يقيم النقد علاقته مع الواقع على نحو يمتلك فيه التراث كلّه بقدر ما يمتلك حداثته؟
يتجاور النقد الذي ينتمي إلى الأصول مع النقد الذي ينتمي إلى الحداثة في فضاء خطابنا العربي، ويقترح كلٌّ منهما ظواهره وأشكاله وتظاهراته وأقنعته، ويعيد إنتاجها بين مرحلة وأخرى.
وقد يكون للأصولية خطابها المعلن الرسميّ وشبه الرسمي والشعبي الذي يتوقّع أن يجابه هجمات حداثة طاغية، ويعدّ لها، ويكيّفها.
كما كان لها أنموذجها النقديّ في هذه المواجهة!
*(1/19)
في كتاب صغير الحجم، وعنوانه (منهج النقد عند المحدّثين مقارناً بالمنهج النقدي الغربيّ!)(18) يرى الكاتب أن منهج البحث الغربي في العلوم الإنسانية تبلور منذ القرن الثامن عشر في وسط بعيد كلّ البعد عن الوسط الإسلاميّ!، وإن كانت جذوره ترجع إلى اتصال الغرب بالشرق عن طريق الأندلس وصقلية والشام ومصر، وبخاصة في أثناء الحروب الصليبية، إذا أخذ الغربُ المنهج العلميّ التجريبي ومنهج الحديث ومنهج أصول الفقه عن المسلمين. ولكن منهج البحث الغربي الحديث نبت، على حد تعبيره، في أحضان النزعة اللا دينية العلمانية، ولذلك فهو لا يعترف بما وراء الطبيعة لعجز الحضارة الغربية عن تصور الإنسان بشموليّته. ويفسّر هذا العجز نظرياتٌ ذات تفسير أحادي كالاقتصاد عند ماركس والجنس عند فرويد والتفسير القومي الاستعلائي ... الخ.
منهج الغرب قائم على الإلحاد، ولا يسمح بالكلام على الإرادة الإلهيّة أما منهج البحث الإسلاميّ فيرتكز على الإيمان بالله وعالم الغيب وعالم الشهادة، ويقرّ بالمشيئة الإلهية، ويعترف بالجوانب الروحيّة، ويراعي الفطرة، ويقرّ بالغرائز، ويتّسم بالموضوعيّة، ويبتعد عن الاستعلاء القومي ... وهي ضوابط وسمات تميّزه من المنهج الغربي برأيه. ولكن استيعاب المنهج الإسلاميّ أصعب لأنّ المسلمين قصرّوا في الكشف عن مناهج النقد عند السلف، فلم يستقرئوا مناهج المحدِّثين بصورة تفصيلية، علماً بأن منهج المسلمين النقدي لا يقتصر على منهج المحدثين، وإنما يضاف إليه منهج الأصوليّين ... الخ.(1/20)
المدرسة التاريخية أو الاجتماعية في تفسير النص تقترب في رأيه ممّا كان عليه الأحناف في فقههم، مع مراعاة للعرف وأخذ بالاستحسان، وتقترب من مدارس فقهية تأخذ بالمصالح المرسلة التي توسّع فيها ابن تيمية وابن القيّم، وأخذ بها المالكيّة ... وقد سبق المنهج الإسلامي إلى تحليل شخصيّة الرواة ودوافعهم، كما استخدم المحدّثون منهج الشك منذ القرون الأولى للهجرة بالإضافة إلى اشتراط الملاحظة العلميّة والمقصودة والمباشرة مع سلامة الحواس وقوّة الذاكرة ... بل إن المنهج الإسلامي في التعامل مع النصّ يحقّق تفوقاً على منهج البحث الغربي في الدراسات التاريخية، حيث لا يمكن الحصول على شهود عيان فيلجأ إلى التخييل ... الخ.
وفي مقدّمة ابن الصلاح الشهرزوري (تـ643) اكتسب المنهج النقدي ثباتاً في عناصره، ساعده على القول بإغلاق باب الاجتهاد، وفي الحكم على الأحاديث والاكتفاء بقول المتقدّمين لعجز المتأخرين. وقد حظّيت مقدّمته بشروح ومختصرات وتعقيبات!
وقد استقرّ منهج البحث الإسلامي قبل منهج البحث الغربي متمثّلاً بمؤلفات دقيقة في مصطلح الحديث وعلوم أصول الفقه وفي كتب المنهج التجريبي، كما وضعها علماء الطبيعة المسلمون ...
ولذلك، كلّه، يستغرب د. العمري أن يشيع في معظم الجامعات الإسلامية مناهج النقد الغربي بدلاً من المناهج النقدية الإسلامية! وهي المناهج القائمة على الإيمان بالله، والتي استقرت منذ عشرة قرون محققة السبق على حضارة غربية نظرياتها ذات تفسيرٍ أحادي، ولا تعترف بالجوانب الروحيّة؟
ألا يكفي أن تستعاد تلك المناهج، ويدرك تفوّقها على مدارس الغرب الحديثة والمعاصرة، ولا علاقة، عندئذٍ، للفكر أو النقد بالحياة وبالتاريخ وبالواقع ما دام قد أغلق باب الاجتهاد، وتمّ الاكتفاء بقول المتقدّمين لعجز المتأخّرين!
الأصول أوّلاً! هذا هو شعار الخطاب الذي ينتمي إلى الأصول! ولكلّ أصوله في داخل الأصول!(1/21)
ثمة أصوليّ يستعيد منهج المحدّثين النقديّ. وثمة أصوليّ يدعو لاستعادة العقلانية الرشديّة متقنّعاً بحداثة ما.
وثمة أصوليّ من نوع آخر يستكشف في وثيقة الموادعة هاجساً علمانياً. وثمة أصوليّ يبني حداثته الإبداعية على إنتاج الصوفيّة. وثمة من يكتشف في التراث يميناً ويساراً، ومن يجد فيه بواكير اشتراكية أو نزعات ماديّة، أو يلاحظ تكيّفه مع الرأسماليّة ...
وهي طريقة في التفكير يمتلكها جزءٌ من التراث، أو تهدف إلى أن تمتلك جزءاً منه. والتراث هو تلك التراثات كلها تنفتح على التعدد والاختلاف، وتؤسّس لهويّة قوامها التنوّع والتمايز والمشاركة من داخل الوحدة، أو باتجاهها!.
***
عنوان آخر يثير الانتباه والاهتمام أيضاً هو كتاب (العقل العربيّ ومناهج التفكير الإسلامي) يستخلص، كمثل دراسات كثيرة مشابهة، أن نجاة الأمة العربية يتطلّب أن تستمسك بدينها ولسانها ومنهج تفكيرها العلميّ، لتحقيق تقدّمها في مجالين: الأوّل تطبيق الشريعة بحيث تعود الوحدة القانونية حول الدين ولسانه وأخلاقه وأهدافه فتجمع بين أفراد المجتمع، وتؤلّف بين قلوبهم. والثاني إحياء اللغة العربية الفصيحة بالعودة إلى تحفيظ القرآن الكريم من أوّل تباشير الوعي والنطق عند الأطفال حتى آخر مراحل التعلّم في الجامعات والأزهر، وهو الطريق الوحيد لاستعادتها وإحيائها ...
ويجد كاتبه أحمد موسى سالم في علم الأصول، الذي أعاد الشافعي صياغته وتقنينه، الموقف الذي يتجاوز عتبة الرفض للباطل الفلسفيّ اليونانيّ إلى الرحبة الواسعة التي تقوم عليها قواعد المنهج القرآني العلميّ في التفكير، وهو المنهج الذي تعلّمت منه أوربا نفسها في فجر خروجها من عصور جاهليّتها الفلسفيّة التجريديّة الميتافيزيقية، على حدّ تعبيره!(1/22)
ولذلك يجزم بأن "العقل العربي" المؤمن لا يقبل أن يتفلسف بأيّ وجهٍ من وجوه الفلسفة القديمة الحديثة، سواء أكانت هنديّة شخوصيّة عدميّة حلوليّة أم كانت أوربيّة ظنيّة عدوانيّة، مهما ألمت به الغفلات، وألحّت عليه الضلالات. وما نسبة الفلسفة إلى الإسلام إلاّ افتراء على الله وتناقضاً مع الإسلام. وقد تمّت في غيبة التدبّر لكتاب الله وتدهور النطق باللسان الذي نزل به كلام الله!
ويمكن التوقف، برأيه، عند أدّلة علميّة ومقارنات لغويّة ولمحات تاريخيّة، تؤكّد أن "العقل العربي" علميّ في برهانه، وكونيّ في رؤيته، وفطريّ في بصيرته، ويقيني في دعوته، واجتماعي في حكمته، وسلميّ في غاياته ... الخ!..
العقل العربيّ إذاً –كما يرى سالم- هو العقل الإسلامي المؤمن لسانه عربي نزل به كلام الله، ومنهجه قواعد المنهج القرآني العلمي الذي تعلّمت منه أوروبا في فجر نهضتها. ويكفي تطبيق الشريعة وإحياء اللغة العربية الفصيحة لتحقيق الذات العربية المؤمنة التي لا بدّ أن ترفض الغرب حضارة وعقلاً، فلا يجوز نقل سلوك الإباحيّين بحجّة ما عندهم من العلم والتكنولوجيا إلى أرض الأخلاقيّين المسلمين المتطهّرين ... وبخاصة بعد أن تسارع الانهيار إلى الحضارة الأوروبيّة المعاصرة بمجتمعها الإلحادي الشيوعيّ أو بمجتمعها العلماني الغربيّ!(19).(1/23)
هكذا يكرّر الأنموذج الأصوليّ فرضيّاته، وإن اختلفت ميوله ونزعاته واتجاهاته التي تلتقي على مفهومي العودة إلى الإسلام القويم ورفض الحضارة الغربية. وسيشكّل هذان المفهومان محور تفكير الأصولية الحديثة والمعاصرة ومحور عملها أيضاً. وستكون مرجعيّتها الحقيقية أصولاً تالية للنصّ الأوّل وهوامش على الأصول، وهي جزء من التراث، لا التراث كلّه، تمثّل إسلاماً هو جزء من الإسلام الذي يشتمل على إسلامات أنتجها، وينتجها، تاريخ واقعي مشخّص، هو تاريخ بشرٍ وصراع قوى. وما الأصول وهوامشها، ذاكرةً ومرجعاً، بعامل تقبّل للتطورّات الكبرى التي تعصف بالعرب وبالمسلمين وبغيرهم في العالم، وليست بعامل تكيّفٍ وتكييف، وإن كانت مصدر قلقٍ وجاذبية لجيوب اجتماعية مختلفة، شعبيّة وغير شعبيّة، تمنحها بعض اليقين وبعض الأمل في برهة تفتقر إلى يقين وأمل!
*
إذا كان فكر "الأصول" يعنى بخطاب الأجوبة منذ مشروع النهضة الأوّل وحتى الآن فإنّ خطاباً نقدياً أو مشروع خطابٍ نقديّ، يحاول منذ بضعة عقود، أن يتناول أيديولوجية النهضة بالدراسة والنقد، ويحاول أيضاً أن يفكّك "فكّر" الثورة أو "التقدّم" بالإضافة إلى تحليل الأيديولوجيا القوميّة والأيديولوجيا الدينيّة، وسينتهي هذا النقد الإيجابي والفعّال إلى نقد العقل الإسلاميّ أو العقل العربيّ أو العقل العربيّ الإسلامي.
ويمثّل عمل الياس مرقص في كتابه (نقد الفكر القومي) مدخلاً إلى وعي الذات ونقدها، أو إلى (نقد الأمّة)(20) بالقدر الذي يشكّل نقده الماركسيّة في نسختها الستالينية والسوفياتية والعربية مدخلاً إلى تبيئة الماركسيّة وتعريبها.(1/24)
وفي كتابه يعني بالفكر القومي الفكر العربي المعاصر الذي هو امتداد لأفكار روّاد النهضة العربية، من حيث قوله بالعرب أمة واحدة، والدعوة إلى إقامة وحدة عربية شاملة، واعتبار القومية العربية وجوداً جوهرياً ... وينطلق من مفكّر هو فيلسوف الفكرة القومية العربية، وأكثر المؤلّفين القوميّين رواجاً، فيتناول النظريّة العامّة للحصري، كنظرية قوميّة في الإنسان والمجتمع، تؤكّد بعكس الماركسية، أن القوميّة العامل الأقوى في علاقات البشر وتسيير المجتمع، وتحدّد الأمة وعوامل تكوينّها باعتمادها عاملي اللغة والتاريخ، لأن الوطنيّة والقوميّة لا تنشأ من منفعةٍ، فالمصالح الاقتصادية نسبيّة برأيه. وفي كتابيه (ما هي القومية 1959)، و(حول القومية العربية 1961)، تحلّق القومية فوق التاريخ، فالعقل ينتج عن اللغة والمجتمع أيضاً ... اللغة عامل أوّل، والتاريخ عامل ثانٍ.
ويرى مرقص أن نظرية تعادل القومية واللغة عاجزة عن طرح مسألة اللغة القومية؛ كلغةٍ لها تاريخ، وليست خارج الاقتصاد والدين والدولة ... وعبر مناقشة أمثلةٍ تاريخية خاصة بدور اللغة يستخلص أن هناك عوامل أخرى لها دورها الخطير في تكوين الأمم وقيام الدولة العصرية، أوّلها الأرض التي هي العامل الأوّل في الإنتاج الاقتصادي والإطار الطبيعيّ للإنتاج وعلاقات الإنتاج. واعتراض الحصري على فكرة المصالح الاقتصادية لا تمنعه من ذكر المصلحة القومية أو العامة، وإن كانت المنفعة أو المصلحة، برأيه، نسبيّة توحّد وتفرّق. بل قد يعطي مفهوم الحياة الاقتصادية المشتركة ما لا يقصده خصومه، كمفهوم السوق التي لا تنفصل عن نمّو الصناعة وتقسيم العمل بين المناطق والمراكز الاقتصادية المشتركة والتكامل في الاقتصاد، ولا تنفصل عن الإنتاج وعلاقات الإنتاج ...(1/25)
وقد عني مرقص بمناقشة وقائع اتحاد ألمانيا ووقائع اتحاد إيطاليا وتناول أمثلة الانفصال وعلاقة كلّ منها بنظريّة لينين ... وتوقّف عند تعريف ستالين للأمّة في أثناء مناقشة النظرية الماركسيّة في القومية التي وجدها لا تقول: إن الأمة حقيقة عارضة كما ينسب إليها خصومها الذين لا يقبلون بغير قومية أزليّة، والأزليّ عكس التاريخيّ. وما نظرية ستالين وأفكار الماركسية اللينينية إلا خلاصة تجربة أوروبا، فالحركة القومية وليدة البورجوازية، وتهدف إلى إقامة الدولة القومية، أفضل الأشكال لنموّ الرأسمالية. أمّا خطأ الحصري فيكمن في اعترافه بمضمون هذه المعادلة الواقعيّ بالنسبة لأوروبا الغربية والوسطى، تحت اسم تزامن الرأسمالية، واشتداد النزعة القومية، ونفيه بالنسبة لأوروبا الشرقية. أمّا خطأ الماركسيين العرب الذين اكتفوا بالخلاصة الستالينية، فهو أنّهم قطعوا هذا القانون عن أصوله الواقعيّة، واستخلصوا منه محاربة القومية البورجوازية ... وما تاريخ أوروبا، بالدرجة الأولى، إلا تاريخ تقدّم الإنتاج وصراع علاقات الإنتاج والطبقات، فيما يتعلّق بالظاهرة القومية وهو تاريخ ظهور ونشوء ونمو وتبلور وتمايز وتكوّن القوميّات والدول القومية.
وقد تعاظم دور العامل اللغوي تدريجياً مع نمو الاقتصاد البضاعي والبورجوازية الرأسمالية. واللغة عند مرقص، ظاهرة إنسانية تاريخية. والإنسان ليس اللغة فهو عملٌ وتاريخٌ حقيقيان. ومن لا يجد في القوميّة سوى اللغة فلن يستطيع رؤية اللغة القومية!(1/26)
وفي تحليله مفهوم القومية وعلاقة القومية العربية بالقوميات الأوروبية يلاحظ مرقص ارتباط الظاهرة القومية والظاهرة الاستعمارية بالظاهرة الرأسمالية؛ ففي القرن التاسع عشر استفحل الاستعمار الأوروبي، الذي هو من نتائج مبدأ القوميات وقيام الثورة الصناعيّة. والحصري يتفّق مع باحثين ومؤرّخين على تسميته بعصر القوميات، ويقيّده مرقص بأوروبا، فهو عصر الثورة البورجوازية الديمقراطية وتقدّمها السريع ونهوض الحركات القومية والدول القومية واقتحامها المتزايد للمجتمعات الآسيوية العتيقة!
يتوقّف مرقص أيضاً عند تطوّر الفكر البورجوازي وعلاقته بمفهوم الحريّة (تجارة، عمل، مدن، ضمير، فكر، شعب، أمّة)، وما قدّمته أيديولوجيّات الهرطقات الدينية والفلسفات الصاعدة والاكتشافات العلمية، بالإضافة إلى تدمير علاقات عصر الإقطاع وأيديولوجيا الإقطاع على أساس علاقات الإنتاج الجديدة. ويجد الاختلاف واضحاً بين التاريخ العربيّ والتاريخ الأوروبي، بينما ينفي الحصري أيّ اختلاف بين تاريخ الشرق وتاريخ الغرب، لأنّ الأمم عنده، فوق التاريخ وخارج الاعتبارات الاقتصادية، فالأمّة لا تتكوّن، وإنّما هي "الإطار الطبيعي" لأحداث التاريخ، والعرب أمّة واحدة، والتجزؤ غير طبيعي. وهو جوابٌ صاغه الفكر القومي، برأي مرقص، وأعلنه الإحساس الشعبي، ولا يزال له قيمة معنوية كبيرة.
ولكن قضيّة الوحدة القومية لا يلخصها أن الاستعمار المتعدّد خلّف دولاً متعددة، وأوجد نزعاتٍ وطنيّة وإقليميّة مرتبطة بها، كما يرى الحصري، بل هي قضيّة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لعصر الإمبريالية، بالإضافة إلى علاقة الحركة القومية والفكرة القومية بالاقتصاد، والاقتصاد العالميّ بخاصة. وهذا لا يعني أن القومية العربية وليدة السوق القومية أو السوق العالمية ...(1/27)
وليس الشعب عند الحصري سوى مقدّمة فكريّة محضة مهدّت لظهور الوعي المطلق؛ وعي الفكرة القومية في حوارٍ مع المعرفة الحقّة والموضوع الحقّ. ولا مكان عنده، للتاريخ ... وليس للأمم الأوروبية، أو سواها، تاريخ موضوعيّ مادي ومستقلّ عن الفكرة، يصنع الوعي قبل أن يصنعه الوعي!
ويلاحظ مرقص أن الحصري قد اقتصر بشكل خاص، على نشوء الفكرة القومية في سوريا ولبنان، ولم يلتفت إلى أن نقطة القوّة في أيديولوجيا المناضلين المصريّين تكمن في إدراكهم خطر الاستعمار الغربيّ، وإن تجلّت نقطة الضعف عندهم في تمّسكهم بفكرة الخلافة؛ بينما أتاحت ظروف سوريا تلمّس المفهوم القوميّ المستقلّ عن الدين.
وعلى أيّة حال، فالوحدة، والوحدة فوراً، هي غاية الحصري.
والسبيل إلى تحقيقها يتلخّص في بثّ الإيمان القومي ونشر الوعي القومي والفكر القومي. ورابطة العروبة هي رابطة اللغة والتاريخ والثقافة ولا أهمية تذكر للرابطة الأفريقية والمتوسّطية والإسلاميّة، وإن كانت الإسلاميّة أهمّ وأقوى ...
وقد طرأ تحوّل هام في تاريخ الحصري تقدّم فيه –بلغة مرقص-نحو الموضوع بعد أن سار في إطار (الذات) أو الوعي، وبخاصة بعد أن اصطدم بمواقف الأمميّين والإقليميّين والقوميّين الوحدويّين تجاه الوحدة السورية المصرية، وانفصل عنده الواقع عن الفكر، وعبر الوقائع اكتشف موضوع الاقتصاد! ...
وينتهي مرقص إلى أن نظرية القومية العربية لا يمكن أن تنسخ النظرية الألمانية والحصري لا يمكن أن يأخذ (فخته) حتى النهاية بعد أن نفى وحدة الأصل، وأخرج عامل الدين لاستيعاب المسيحيّين والأقليّات المذهبية في الشرق العربي، ونفى عامل المشيئة ليمدّ الفكرة القومية إلى لبنان ومصر وبلدان المغرب، وتشدّد ضدّ الأرض والبيئة الجغرافية لصدّ هجوم الأقليّات القوميّة، وأخرج عامل الاقتصاد لتصادم مصالح الجماعات والأقطار العربية!(1/28)
وإذا كان (فخته) الفيلسوف الألماني المثاليّ الذاتيّ الجدليّ –وبخاصة في خطبه إلى الأمة- هو الأب الروحي للحصري وللمفكرين القوميّين العرب، فإن فكره فقد آخر عناصره التقدميّة مع تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطالية، إذ انتقلت البورجوازية من أيديولوجيا الحرية والمساواة والإخاء، ومن فلسفة العقل والتقدّم والجدل إلى أيديولوجيا الفاشيّة وفلسفة الحدس والغريزة والأسطورة.
والحصري لا يأخذ من فخته إلا اللغة، فتتحوّل الأمّة إلى جماعة اللغة. فالتاريخ يصنع اللغة نظرياً فحسب، وتصنعه اللغة نظرياً وعلمياً. أما القومية فهي الحقيقة الثابتة وما عداها متغيّر ومصطنع، وليس من مصالح اقتصادية أو طبقات أو إنتاج وعلاقات إنتاج ...
تتحوّل اللغة إلى مرتبة خالق للتاريخ. أما الفكر فهو خالق الواقع، والشعب مقدّمة فكريّة محضة مهدّت لظهور الوعي المطلق. وما الفكر الخالص، كما يرى مرقص، إلا أحد مخلّفات البورجوازية الأوروبية، وليس أفضلها، إذ أصرّ على إنقاذ مبدأ استقلال الفكرة القومية عن الرأسمالية والاستعمار!
نظرية الحصري في استنتاجات مرقص، مثاليّة وانتقائيّة، فوعي البشر عنده هو الذي يقرّر وجودهم؛ تطوّره مستقلّ عن الممارسة، وليس انعكاساً للواقع، ومفهومه للتاريخ ضدّ المفهوم الجدليّ، يتحوّل عبره صراع القوى والطبقات وعلاقات الإنتاج إلى صراع نزعات وأفكار. أمّا منهجه فهو منهج ميتافيزيقي في حدود المنطق الصوريّ والسوسيولوجيا الشكليّة.(1/29)
ولكن الوجه الإيجابي الكبير –برأي مرقص- للفكر القوميّ العربي هو إدراكه خطر التجزئة القومية، وإن تهرّب من مفهوم الصراع، صراع الطبقات والنّظم والدول ... والقومية عند مرقص جزء طبيعي وأساسي من الثورة البورجوازية وأيديولوجيا عصرها التاريخي، غير أن الضلال يبدأ مع الانتقال من الواقع والتمايز إلى التفوّق والعرقية ... أمّا الوحدة العربية فهي المسألة المركزيّة في الثورة العربية المعاصرة التي تهدف إلى إنشاء دولة العرب القومية ... بل إن الوحدة هي شرط التقدّم!
ويستخلص من تجربة الوحدة السورية المصرية دور العامل الذاتي، فالوحدة التي تفتقر إلى قسط من شروطها الموضوعية (الاقتصاد، التكامل الاقتصادي، وجود مراكز صناعيّة وافية ... وربّما الاتصال الجغرافيّ) تحتاج إلى أقصى ما يمكن من الوعي ... الوعي والتنظيم!
وترتقي المسألة النقديّة عند مرقص إلى مسألة نقد الذات، أي نقد الأمة، الذي يؤسّس على مفهوم الديمقراطية، فدون الديمقراطية لا مكان لأمّة حديثة أو لوحدة قوميّة، ولا بد أن يؤسِّس مفهوم الديمقراطية على مفهومي العقلانية والتقدّم!
ولذلك استطاع أن يقترح خطاباً قوميّاً مختلفاً من داخل نقد مختلف!(21).
*
بعد بضعة عشر عاماً من كتاب (نقد الفكر القوميّ) ينشر ياسين الحافظ مؤلّفه (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة) الذي كتبت موضوعاته في فترة زمنيّة غير قصيرة، ويحدّد موضوعه الأول، وهو الهزيمة الكبرى التي عانتها، وتعانيها الأمّة العربيّة منذ وعد بلفور حتى اليوم. أما موضوعه الثاني فهو نقد الهزيمة نقداً معمّقاً ينطلق من نقد السياسة إلى نقد المجتمع(22).
ويؤكّد في أكثر من موضع على إطلاق عمليّة نقد ذاتي تخترق المجتمع العربيّ، لا السطح السياسيّ فقط، طولاً وعرضاً وعمقاً، بلا خوفٍ، وبلا مراعاة، وبلا تشفٍّ أيضاً.(1/30)
وفي أثناء تحليله هزيمة حزيران، جذورها وأسبابها ونتائجها، يلاحظ أنّها كانت عاملاً في ولادة أدب سياسي نقديّ يتحدّث عن النتائج كأسباب فقد كان للواقع العربيّ فكره الذي أثبت "جدارة" في طمس الهزيمة وإظهارها كحدث استثنائي لا عقلانيّ، وإعادة الاعتبار للواقع العربي المفوّت، ولا بدّ أن ينظر إليها كنتيجة متوقعة وكحصيلة عقلانيّة بين جماعات مفوّتة ومجتمع حديث!
ويوجّه نقده إلى اتجاهات فكريّة ثلاثة: القوماوي العربيّ التقليدي وشبه التقليدي والماركسيّ العربيّ المسفيت والمستحدث الفدائيّ، والتعابير من نحت "الحافظ"!
وكان قد علّل تنامي "سلطة الأيديولوجيا التقليدويّة بتهافت وإخفاق الأيديولوجيا والحركة القوميّتين العربيّتين، بالإضافة إلى تهافت وإخفاق الأيديولوجيا الماركسيّة والمؤسّسية العربية والمُسفيتة. ولا بدّ للنخبة السياسية العربية بخاصة، وللأنتلجنتسيا العربية بعامّة، أن تفهم، وأن تعترف، بأن ليس وعيها التقليدي هو المهزوم فحسب ... بل المجتمع العربيّ؛ برمّته، في بناه القائمة هو المهزوم ... .
وكان قد أشار في كتابه (اللاعقلانية في السياسة) إلى أن التأخر العربي جعل العقل العربي وكأنّه برميل بلا قعر، لا يجمع، ولا يراكم، ومع كلّ صباح نبدأ تجربةً جديدة، وننسى تجربة البارحة، ولا نفكّر باحتمالات الغد.(1/31)
وهو يرى أن طريق شعبنا العربي ليس تكراراً لطريق التطوّر البورجوازي الغربي، بل إن البورجوازية الوطنية بقيت إلى حدٍّ كبير جزءاً من المجتمع التقليدي، فلم نحطّم بناه أو هياكله، كما أن البورجوازية الصغيرة القوماوية المتأخرة لم تكن أوفر حظاً منها، مما يستدعي الحداثة الأيديولوجية، لا الحداثة التكنولوجيّة التي تقبل بها، وتعجز عنها، البدواة البتروليّة والشرائح البورجوازية الصغيرة التقليدويّة! نقطة البداية، إذاً، هي تحديث وعقلنة وكوننة وعي الأنتلجنتسيا كمقدّمة لا بدّ منها في تعميق وتجذير نقدنا، انطلاقاً من نقد الأنظمة إلى نقد المجتمع بعمارته كاملةً. والوعي النقدي هو وحده القادر على التغلغل إلى جذور الأيديولوجية العربية، بفرعيها التقليدويّ والتقليدويّ الجديد، ودحضها، وتفنيدها، على حدّ تعبيره.
وكان قد تساءل في سيرته الذاتية عمّا يبقى من الأنتجلنتسيا في بلد متأخّر إذا تخلّت عن وظيفتها النقديّة، وعمّا يمكن لشعب، كالشعب العربيّ أن يفعله في هذه الحالة. وكان قد أشار، بكلّ تواضع أيضاً، إلى أن عبد الله العروي ساعده في وعي البعد التاريخي للواقع، وشدّ نظره إلى دور الأيديولوجية السلفيّة في عرقلة التقدّم، وطرح التاريخانيّة كمنظور وحيدٍ للتقدّم، وبخاصة في مواجهة فكر عربي سائد، معتقديّ، إيمانيّ، ينطلق من عقليّة إيمانويّة، بينما العقلانية تتطلّب المطابقة. والوعي المطابق عنده هو وعيّ كوني في مستواه الأوّل وحديث في مستواه الثاني وتاريخيّ في مستواه الثالث. وهو البديل للوعي الماضويّ الامتثالي المعتقديّ في مواجهة التأخر والفوات، الذي يمكن أن يطلق عملية الانصهار القوميّ من داخل قوى جذرية حقّة ...(1/32)
إن مفهومات مثل الوعي المطابق والتاريخانية والعلمية والديمقراطية والحداثة والأيديولوجية الحديثة مفاتيح رئيسة في تجربة الحافظ النقدية، يفكّك بوساطتها الأيديولوجيا السلفيّة السائدة: سلفيّةً قوميةً أو سلفيّةً دينية ... ويستكشف مهمّة أنتلجنتسيا قابلة للتكوين! ويمارس نقداً علمياً علمانياً للوعي القوميّ في مواجهة خطاب حداثوي مُترثن لم ينتج سوى وظيفة واحدة هي شرعنة الفوات الحضاري، وتحديث التأخّر، إذا استعرنا عبارة د. عبدا لرزاق عيد في خاتمة كتابه (نقد حداثة التأخّر)(23).
قد يستدعي عنوان (الهزيمة، والأيديولوجيا المهزومة) عنوان كتاب آخر هو كتاب (النقد الذاتيّ بعد الهزيمة) أصدره د. صادق جلال العظم بعد عامين منها. وفي مقدّمته يرجو أن يكون التفكير العربي قد وصل إلى مرحلةٍ تجاوز فيها اعتبار النقد عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب لا تنتهي، أي أن يكون قد حقّق مستوى يعتبر على أساسه النقد هو التحليل الدقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرّات المؤدّية إلى وجوه العيوب والنقائص. وكلّ نقدٍ يلتزم بهذا المفهوم الذي أشار إليه هو نقد هادف في تدرّجه، إيجابيّ في حصيلته، على حدّ تعبيره، مهما بدا سلبياً وقاسياً ... (24).(1/33)
إنه لا ينتظر إذاً من النقد أن يكون مختلفاً ومضاداً، يفتح أفضيّة محرّمة، أو يدمّر أجوبة جاهزة، أو ينتج أسئلة تؤسِّس لتفكير وعملٍ مختلفين، ولذلك كانت مناقشته الشيّقة للهزيمة جزءاً من مناقشة شائعة في تلك الفترة، والتي تضمنت تفسيرات متعددة كالأنموذج الذي يستعين بوهم السيطرة الصهيونية على الاقتصاد الأمريكي أو يتصوّر أن الحركة الصهيونية تابعة لأمريكا، أو مسيطرة عليها، أو الأنموذج الذي يتصوّر أن دعم الدول الاستعمارية الجديدة لإسرائيل يتناسب طرداً مع حجم المصالح الاستعمارية في الوطن العربي، وهي تفصح عن تفسير يزيح المسؤولية عن النفس ويسقطها على الغير، كما يرتبط بعوامل تدخل في بنيان المجتمع العربي، وتمثّلها خصائص الشخصية الاجتماعية التي تربيّها البيئة العربية المتوارثة. ولذلك يربط ظاهرة المنطق التبريري بما يطلق عليه د. حامد عمار الشخصيّة الفهلوية التي تبرز على صورة أنماط من السلوك يغلب عليها الاستخفاف بالغير وتأكيد الذات والشعور الحقيقي بالنقص ونزعة التقليد ...
ولا ينسى د. العظم سلبيّات الإتباع والتقليد ودور التخلّف العربي وأهميّة إنتاج العنصر البشريّ الذي يتفاعل مع مقوّمات الحضارة الصناعية الحديثة، بعد أن يعلّق على ما قيل حول أهميّة العلم الحديث والبحث العلمي والتطبيق التكنولوجيّ بالنسبة للدول العربية الأكثر تقدّماً وتقدميّة!
وينبّه إلى عامل، قد يكون مهمّاً برأيه في تلك المرحلة، هو أن الثورة العربيّة لم تعلن بعد بصورةٍ صريحة ورسمية وواضحة عن علميّة اشتراكيّتها وعلمانيّتها، فالتردّد يسود أوساطها حول هذا الموضوع بخلاف الثورات الاشتراكية!
وما الذي قد يفعله إعلانٌ عن علميّة اشتراكيّة وعلمانيّتها، أو الإعلان عن علميّة أيّ شعار وعلمانيته من قبل، أو من بعد، أو الآن!(1/34)
إن نقد الأيديولوجيا العربية بتظاهراتها المختلفة دينيّةً وقوميّةً، وماركسيةً سيكون موضوع خطاب عربيّ معاصر بعد هزيمة قومية لم تتأخّر كثيراً، وبعد ثورةٍ عربية لم تتأخّر كثيراً فحسب، وإنما صاحب تأخرّها تآكل الثورة وقواها، وانفجار الحداثة، في عالم يشرط التفاؤل التاريخيّ بمراجعةٍ نقدية ونقدية ذاتية أكثر!
وقد سبق نقدُ الفكر القومي الهزيمة، وتزامن معها، وتلاها، أمّا نقد الفكر الديني على نحو أكثر وضوحاً فسيحفزه نقد الفكر القومي، وسيتجاوز نقد السياسة مع نقد الدين ويتفاعلان ويترابطان إلى هذا الحدّ أو ذاك ...
في كتابه (نقد الفكر الدينيّ) يقدّم د. صادق جلال العظم مجموعة أبحاثٍ تتصدّى على ما يرجو، بالنقد العلميّ والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني(25) ويصدّرها بعبارة لياسين الحافظ حول وجوب نقد جميع جوانب المجتمع العربي الراهن وتقاليده نقداً علمياً علمانياً كواجبٍ أساسيّ من واجبات الطليعة الاشتراكية الثورية في الوطن العربي، ومنهجه هو التوجّه المباشر إلى الإنتاج الفكريّ الذي يشرح الأيديولوجية الغيبيّة، وينظّر لها، ويدافع عنها، بعد أن انحصر معظم النقد في هذا المجال، إثر هزيمة حزيران بتعميمات تندّد بالذهنيّة الغيبيّة الاتكاليّة التي أحيط تفكيرها بالقداسة، ووضع خارج النقد العلمي للظواهر، كما يقول.
لا يقصد د.العظم بالدّين ظاهرةً روحيّة ونقيّة وخالصة، ولا ظاهرة التسليم البسيط الساذج، وإنّما مجموعة معتقداتٍ وتشريعاتٍ وشعائر وطقوس تحيط بالإنسان. ولكنّه يعتبر الأيديولوجية الدينية بمستوييها الواعي والمعنويّ سلاحاً من أسلحة الرجعيّة وتعبيراً عن بنياتٍ طبقيّة خاضعة للتحوّل الاجتماعي.(1/35)
وفي سياق إشارته إلى بحث وليم جيمس (حريّة الاعتقاد) يناقش مشكلّة عامّة فكريّة وثقافيّة هي النزاع بين العلم والدين، فيجد أن فترة تتجاوز القرنين ونصف القرن قد مرّت على أوروبا قبل أن يتمكن العلم من الانتصار على العقلية الدينية السائدة، ومعركة العلم في البلدان النامية، ومنها الوطن العربي، تماثل معركة العلم مع الدين في أوروبا....
ويرى أن النظرة الدينية تعتبر الحقائق، كلّها، كُشفت في نقطة معيّنة وحاسمةٍ من التاريخ، فتوجّه أنظار المؤمنين إلى الماضي، بينما الروح العلميّة تجعل من الاكتشاف نشاطاً حركيّاً يتخطّى دائماً منجزاته.... وقد تراجع الدين، كبديلٍ خياليٍ عن العلم في تفسير الأحداث، أمام الضعف المتزايد للثقافة العلميّة وضرورة التكيّف مع موجات العلمنة والتقدّم! وإذا كان الإله قد مات في أوروبا تحت تأثير المعرفة العلميّة، فإن احتضاره في المجتمعات المتخلّفة تمثيلٌ رمزيّ لحالة الثورة وفقدان الجذور التي تعانيها، فتصطنع نوعاً من التعايش بين الفكر العلمي وتطبيقاته مع التراث الدينيّ السحيق.
ويؤكد إخفاق الموقف التوفيقيّ بين العقل والإيمان، لأن المعتقدات الدينية نظام متماسك، إمّا أن يُقبَل كلّه، أو يتم التنازل عنه لمصلحة العلم. ولابدّ أن يتميّز موقف المثقف ثقافةً علمية من الدين من موقف المثقف ثقافة دينية من العلم.
ويتناول مواقف توفيقية يقيمها رجال الدين الإسلامي بين العلم بمناهجه والدين، بعضها تبريريّ وبعضها الآخر تعسّفيّ، وبعضها مجامل وبعضها الآخر منغلق، وبعضها تقليدي وبعضها الآخر منفتح...(1/36)
وكان قد وجد في اقتراح وليم جيمس في بحثه (حرية الاعتقاد) حداً ملائماً، المبدأ العام فيه مفاده أنه لا يجوز أن نتقبّل أو أن نرفض رأياً من الآراء مالم تتوافر الأدلّة والشواهد الكافية على صدقه أو كذبه، أمّا في الحالات الشاذة فيحق للإنسان أن يعتقد بصدق قضيّة على الرغم من نقص الأدلّة، ومنها الاعتقاد الديني أو الإيمان بوجود الله...
ويصرّح د.العظم برغبته في تحرير الشعور الدينيّ، لا نَسْخَه، ليزدهر، ويعبّر عن نفسه، بطريقةٍ تناسب أوضاع حضارة القرن العشرين، فقد يتمثّل الشعور الديني بموقف الفنّان من الجمال، والعالم من البحث عن الحقيقة، والمناضل من الغايات التي يعمل لتحقيقها. ولكنّه يلاحظ موقف رجال الدين الإسلامي الذي يضفي الشرعيّة على النظام السياسي والاجتماعي الذي يرتبط به سواء أأعلنت الدولة سياسة ثوريّة تحريرية أم سياسةً رجعيةً متخلفة. والإسلام، برأيه، هو الأيديولوجية الرسميّة للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي، والمرتبطة بالاستعمار، كما هو حليف التنظيم الإقطاعي للعلاقات الاجتماعية....(26).
يغلب على هذا البحث الذي توقّفنا معه: (الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني) حماسٌ علميّ وعلمانيّ، يتجاهل أن الإسلام التاريخي هو أكثر من إسلامٍ، تجاور فيه إيمانٌ وإلحادٌ وكلامٌ وتصوّف وفلسفة وفقة وظاهر وباطن وفرق وملل وتعصّب وتسامح... ويعكس الآن مستويات شعبية ورسميّة وشبه رسميّة وجمعيّة وفرديّة. ولم يكن من حيث بنيته الفكرية رجعياً أو تقدمياً، عقلانياً أو غير عقلاني، اشتراكياً أو رأسمالياً... كما أن العقل العلمي الحديث والثقافة العلمية الحديثة لا يدعوان إلى إيمان أو إلحاد وقد يفترض شرطهما الاجتماعي مصالحةً بين العلم وإيمان مّا، على المستوى الشخصيّ... وقد تتطلّب روحُ كفاحٍ ما تحالفاً مشتركاً بينهما......
*(1/37)
بعد أكثر من عقدين من صدور (نقد الفكر الديني) يدعو كتاب (يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة) إلى حوار علمانيّ ـ إسلامي يتخطّى الفهمين "العلمانوي" و"التكفيري" للعلمانيّة، باتجاه علمنةٍ جديدةٍ، يعتبرها المخرج من التناقض الراهن بين الدولة المستبدة’ والتيّارات الفقهية الجديدة، ويفترض أن علمانية جديدة لا يمكن أن تتمّ إلا من ذاتيّة الأمة ونفي الوصاية "العلمانويّة"، أو "الإسلامانويّة"، النخبويّة، ما دامت الحداثة قضيّة من قضايا الهويّة......الخ. ويتساءل محمد جمال باروت عن إمكانية فهم علماني للإسلام يخدم إنتاج ما تصحّ تسميته بنظريّة علمانية إسلامية وعن نوعيّة العلاقة في هذه الحالة بين الإسلام والمجتمع المدنيّ، وينظر إلى الصراع في إطار المجتمع المدني الديمقراطيّ كمهمّة ملحّة وراهنة يُنْتَظر تحقيقها.
ويميّز في الإسلام السياسي ثلاثة مستوياتً: الشعبيّ والرسميّ والسياسيّ: كما يميز خطابين أحدهما (إخواني) معتدل والآخر (جهاديّ) مفترض. ويرى من منظور سوسيولوجي أن ظاهرة الإخوان المسلمين من أبرز الظواهر الأيديولوجيّة السياسيّة المعقّدة للفئات المدينيّة الوسطى بشرائحها المختلفة؛ فهي ظاهرة "مدينيّة" في جوهرها، أنتجتها مدنٌ تقليديّة، اهتزّت توازناتها الاجتماعية، بل هي نتاج "كارثي" لمجتمع أخفقت أيديولوجيّته التقدميّة في علمنةٍ وعقلنة وعيه. ويرصد تحوّل جماعة الإخوان المسلمين من نظرية (تطبيق الشريعة) إلى (نظرية الحاكميّة لله)، كخطابين علاقتهما مقطوعة، بعد أن كان الخطاب الإخواني في تجربة كتجربة (مصطفى السباعي) لايفصل بين الدين والدنيا، فلسفته القوميّة هي الإسلام بمفهومه الواسع وفلسفته الشاملة للحياة، وطبيعة التشريع فيه لا تختلف عن الطبيعة العلمانية للتشريع المدنيّ، تضع مبادئه القوانين على أساس مصلحة الناس وكرامتهم، لتحقيق المصلحة والعدالة الاجتماعية.(1/38)
وينتبه باروت إلى تداخل طبقيّ اجتماعي بين الإخوانية والناصرية، إذ انقلبت الناصرية ساداتيةً والإخوانية جهاديةً. وانتهت مدرسةً كمدرسة السباعي الإخوانيّة الشعبويّة التعدّدية، والمنتمية للفئات الوسطى، والتي قالت باشتراكية إسلامية تعادل الاشتراكية العربية، انتهت إلى إنتاج أكثر الإسلاميين تعصّباً وإلى فهم موحد عند الجهاديّة...
وكان قد لاحظ الانتقال من تكفير الدولة إلى تكفير الأمّة عند (سيّد قطب) وتحوّل دار الإسلام إلى دار حرب بعكس (الهضيبي) الذي يرى أن (الحاكمية) لا ترد في أيّة آيّةٍ من الذكر الحكيم. كما لاحظ أن الحركة الدينيّة الإخوانيّة في تونس ستتحوّل إلى حركةٍ نهضويّة مندمجة في المجتمع التونسي، وتستعير خطابها الإخواني من المشرق في مواجهة نموذج شعبوي تحديثي كاريزمي مضادّ للهويّة الثقافية العربية الإسلامية، وعلى نحو يدفع (الغنوشي) إلى تبنّي حوارٍ علماني إسلامي.
سيتم التراجع إذاً من نظام إصلاحيّ إلى نظام إخوانيّ إلى نظام جهاديّ ويرى الخطاب الأصوليّ علاقة الإسلام بالمجتمع عبر الدولة في حين يراها الخطاب الإسلامي عبر الفرد. (28).
ولكن! إلى أي مدى يؤهل الواقع القوى المختلفة ويؤهبّها لحوارٍ علمانيٍ إسلامي؟ وأيّة علمنةٍ "جديدة" يمكن أن يقترحها هذا الحوار؟
أهو النظر إلى المشكلات المتعلّقة بالدين ـ كما يرى د.فؤادزكريا ـ كما لو كانت خارج نطاق الزمن... ومخاطبة إنسان القرن الحادي والعشرين الذي يتقرّب منّا بأسرع مما نتصوّر، بأسلوب القرن السابع أو الثامن، ولن تكون هي أفضل السبل إلى عقل ذلك الإنسان....
إن فكرة الحاكميّة، بصيغها المتعدّدة، هي النقيض المباشر للنزعة الإنسانيّة في التراث الفلسفي.... ولذلك يصل موقف الحركات الدينيّة المعاصرة من كلّ نزعة إنسانيّة إلى حدّ العداء الصريح....(29).(1/39)
أمّا د.نصر حامد أبو زيد فيفكّك الخطاب الديني على نحو يرى فيه أن النّصوص الثانوية في تاريخ الثقافة العربية تحوّلت إلى نصوصٍ أصليّة؛ أي تحوّلت، بفعل عوامل ومحدّدات اجتماعيّة تاريخيّة إلى نصوص تمثّل إطاراً مرجعياً في ذاتها....
وينبّه إلى أن الخطاب الديني يحتمي بالتراث، ويحوّله إلى "ساتر" للدفاع عن أفكاره هو ذات الطابع التقليدي، الذي يميل إلى إبقاء الوضع على ماهو عليه، وذلك في تعارض تام مع ادعاءاته السياسية. وسيلاحظ أن سيطرة اتجاه فكري بعينه على باقي التيّارات الفكريّة الأخرى لا يعني أن هذا التيار قد امتلك "الحقيقة" وسيطر بها....
وكان قد أشار إلى أنّه في مجال علم "تحليل الخطاب" الذي هو مجال انشغال بحثه ثمّة تفرقة بين "النصّ الأصليّ" و"النص الثانويّ"، فالنص الأصلي في حالة التراث الإسلامي هو القرآن الكريم، باعتباره النصّ الذي يمثل الواقعة الأولى في منظومةٍ نمت، وتراكمت حوله. والنصوص الثانوية تبدأ بالنصّ الثاني، وهو نصّ السنة النبويّة الشريفة، وإن كانت السنّة نصاً ثانياً ثانوياً، فإن اتجاهات الأجيال المتعاقبة من العلماء والفقهاء، والمفسّرين، تُعدَّ نصوصاً
ثانوية أخرى، من حيث هي شروح وتعليقات على النصّ الأوّل أو النصّ الثاني.....(30).
وكيف يتقبّل فكرٌ "أصوليٌّ" علماً ذا مرجعيّة غربيّةٍ، أداة التحليل فيه أداة دنيويّة مستعارة تواجه بالتحليل نصّاً مقدسّاً هو كتاب الله، ونصوصاً تاليةً اكتسبت صفة القداسة في المستوى الإسلامي الرسميّ وغير الرسميّ؟(1/40)
يميّز د.محمد أركون أيضاً الخطاب النبويّ من الخطاب التنويريّ كخطابين تدشينيّين ولدّا تاريخاً جديداً، ولكنّهما متقطّعان من حيث الزمن، ومتنافسان ومتداخلان. ويربط بين فتح العمليات العقليّة المغلقة منذ زمن طويل وفَتْحٍ ورشةٍ كبيرةٍ عن الدراسات القرآنيّة. ولكنّه يعلن دهشته من وضع نصر حامد أبو زيد الذي نشر دراسةً متواضعةً عن القراءة الألسنيّة للقرآن، فراحوا يلاحقونه في المحاكم. ويخلص إلى أنّ هذا الأمر لا يشجّع إطلاقاً على الانخراط في هذه البحوث المرغوبة من قبل المفكرّين الأحرار!
وسيفترض أن ظاهرة العولمة أخذت تقلب جميع التراثات الثقافية والدينيّة والفلسفيّة والقانونيّة التي عرفتها البشرية حتى الآن، بما فيها تراث الحداثة المتولّدة، من قبل التنوير، فهذه الحداثة، على الرغم من تفوّقها وأهمّيتها، لن تنجو من عملية القلب والتغيير... الخ.
وهل الأصولية إذاً، مدعوة لمراجعة نفسها، ونقدها، لتتأقلم، مع العولمة؟ وهل تحرّضنا العولمة على حوار مختلف، فيستبعد آليّات قمعية، ويُعْتَرف بحق الحرية والبحث عن الحقيقة؟ وهل ننتظر "رضّة" أخرى أو "صدمة" ثانية؟
من جهة أخرى يفترض د.طيّب تيزيني أنه يصحّ النظر إلى كلّ نصّ على أنّه نصّ أصيل كائناً ماكانت صيغه ومستوياته وآفاقه. فالأصالة، برأيه،هي ضبط منطقيّ اصطلاحي في حدود انتماءاته الضروريّة لعصره داخلاً وخارجاً، ولتاريخه ولتراثه... أي أنه لا سبيل للتشكيك في أنّه ـ أي النصّ ـ ينتمي لوضعيّة اجتماعيّة مشخّصة. وإذا كان كلّ نصٌّ "أصيلٌ" فما مدى "أصالة" تلك الشروح والشروح الفرعيّة وشروح الشروح التي اقترحتها مذاهبٌ وفرقٌ وملل عبر تطوّرات تاريخية مختلفة، وتمثّل وضعيّات اجتماعية مشخّصة؟..(1/41)
وإذا كان الفكر الإسلامي قد توضّع بأشكال وصيغٍ متعدّدة ومطردّة في التنوّع والتباين، فهل يكفي تواصله مع النصّ الأصليّ وتأصّله لتعترف فرقٌ ومذاهب كثيرة بحقّ كل منها في اختياراته وبحثها، وإن اكتفى د.تيزيني بالإشارة إلى خمسة مستويات ذات علاقة بهذه الأشكال والصيغ هي المستوى الشعبيّ والمستوى الرسميّ (السلطوي) والمستوى النظري والمستوى الفردي والمستوى الإثنيّ.....
النصّ القرآني الحديثي، عنده، أصل، والفكر الإسلاميّ فرع، والقرآن والحديث نصٌ مفتوحٌ، في وحدته يكمن الاختلاف. ويعتبر أن الفكرة المحوريّة والناظمة التي يقف الفكر السلفويّ الأصوليّ دهشاً وقلقاً وحائراً أمامها تبرز في الفكر الإسلاميّ يقوم على علاقةٍ مع الوضعيّات الاجتماعية المشخّصة له، والمخترقة لعلميّة تكوّنه ولاتجاهاته ولآفاقه ولمصائره قبل أن يكون على علاقة مع النصّ الإسلاميّ الأصليّ: القرآن والحديث والسّنة عموماً!(32).
إنّ أيّ فكرٍ، إسلامي أو غير إسلامي، تنتجه وضعيّة اجتماعية مشخّصة، بتعبير د.تيزيني، ولكن الفكر الأصوليّ ينظر إلى القرآن الكريم ككتابٍ منزل، أحكمت آياته، ولكلّ زمان، ولكل مكان، فهو خارج أية وضعيّة اجتماعيّة مشخصة في تحوّلاتها وتطوّراتها التي أنتجت نصوصاً ثانوية كثيرة، وتنتجها وقُدّست، وتُقدّس من قبل هذه الجماعة أو تلك التي تشرطها وضعيّة اجتماعيّة مشخّصة...
إن للأصوليّة مطلقاتها ومقدّساتها التي تتعالى على الواقع والتاريخ والاجتماع والشعوب والأمم!
يقرّر د.عزيز العظمة أن صعود الخطاب الديني في الحياة أمر لم يحدث إلا مؤخّراً، وبصورة انقلابٍ على مسار التاريخ الذي كانت سمته الفكرية والثقافية الأساسية هي التحديث خارج الهاجس الديني.(1/42)
ويعلّق على قضية نصر حامد أبو زيد فيرى أن المدافعين عنه بدعوى أنّه مسلم، وليس بكافرٍ، إنّما يسندون عضد مخالفيه وخصومه. فالدفاع ينبغي أن يكون موجّهاً نحو الحريّات العامة والتعبير الديمقراطي عن الرأي والتأكيد على حريّة الإيمان، بما يمنع الإنسان من تحديد ماهو مسموح وماهو غير مشروع من الكلام....
المشروع الاجتماعي للإسلاميّين ـ على حدّ تعبيره ـ يقوم على محاولة إنتاج علاقة اجتماعيّة وأسريّة يكمن فيها سرّ هزائمنا، ومشروعهم الثقافيّ يقوم على التجهيل باسم ماض أصيل يمهّد إلى إخلاء المجتمع من الفكر الجديّ، وجعله مفتوحاً للاستباحة السياسيّة من قبل الإسلام السياسي...
أمّا أسلّمة المعرفة فتقوم على نَبْذْ فكرة الحداثة واستثناء الخطاب العلمانيّ بأشكالهِ من معرفة دنيا المسلمين.
وسيختار د. العظمة ـ كغيره ـ ومع غيره من دعاة الحداثة ـ العلمانيّة عنواناً واحداً للوعي الذاتيّ الذي ينتمي إلى النهضة. ولا خيار عداها إلا الدولة الدينية. وصنوها المخلص ـ وفقاً لتعبيره ـ أي الطائفيّة والسياسات الأخرى القائمة على العصبيّة التي تزيل آخر عناصر المناعة السياسية. وإن كان بعض دعاة الحداثة ينظر إلى قضية العلمانية في الحياة العربية كقضيّة زائفة!
وهو يتساءل عن معنى المصالحة التاريخيّة مع الإسلاميّيين كرافعةٍ سياسية واجتماعية في إطار مشروع حضاري شامل!
هل يحقّق المصالحة حوار علماني إسلامي أو أسلامي علماني؟
وكيف يكون الانتقال من موقف تكفير الآخر إلى الاعتراف بحقِّه في التفكير والتعبير أيضاً؟
قبل ثلاثة عقود كان قد أشار د.نديم البيطار في كتابه (من النكسة إلى الثورة) إلى أن الفكر الاجتماعي والسيكولوجي الحديث يقدّم التفاسير الاجتماعية والسيكولوجية والاقتصادية والعلمية منذ ثلاثة قرون في تفسير ظهور الدين. ولكنّ عندما يقوم كاتبٌ عربيّ فيقدّم تفسيراً معيّناً من هذه التفاسير تقوم عليه القيامة....(1/43)
ولذلك فإن إزالة التصوّر الأيديولوجي التقليدي أصعب ما يواجهه الفكر الثوري، بلغة تلك الأيّام!(34).
ويلفت د.محمد أركون الانتباه إلى مسألة التأخّر الذي يعاني منه الفكر الإسلامي بسبب ضغط الرقابة الأيديولوجية الصارمة والمعمّمة على كافّة الفئات الاجتماعيّة وعلى مستويات الثقافة في البلدان العربية الإسلامية... وينبغي، برأيه، تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقليّة المرتبطة به، عن طريق النقد والنقد الحديث للعقل...(35).
وينتبه جورج طرابيشي إلى معالجة مختلفة لموضوع الدين في الحياة العربية، فيعتبر أن مهمّة ثورةٍ لاهوتية لا تزال مطروحة على جدول أعمال العقل العربي، ويزيد ضرورتها إلحاحاً ما يشهده العالم العربيّ من صحوةٍ أو رّدّةٍ أصوليّة لما يسمّى بالأصوليّة التي يراها محض مرادفٍ لتسييس العقيدة القويمة. ويستنتج أنه إذا امتنع العقل الدينيّ، وطال امتناعه عن الاشتغال، فلا مناص أن يقوم العقل الفلسفي مقامه، فيمارس فعاليّته، أوّل ما يمارس كعقلٍ لاهوتي. بل يذهب إلى أكثر من ذلك، فيرى أنه في ظل غياب لاهوتٍ إسلاميّ لن ترى النور فلسفة عربية، وبخاصة في سياقٍ ثقافيٍّ لا يزال الدين يمثّل عقل كلّ المجتمع فيه.....(36).
الخطاب النقدي، بميوله المختلفة والمتعدّدة، يتوقّف عند موضوع الفكر الديني أو العقل الديني أو العقلية الدينية، ويتأمّل ظاهرة "الأصول" كجزء من ذاكرةٍ جماعة يغلب على حاضرها حضور الماضي الذي يرتبط بالدين، ويعبّر عن مستويات من التدّين معلنةً ومضمرةً، تشرطها أوضاعٌ تاريخيّة واجتماعية لمذاهب وفرق وملل توفّق بين ماضيها وحاضرها، إذ اصطدمت بحداثةٍ لا تنتجها، ولا تشارك في إنتاجها، ولا تستطيع أن تحيا خارجها، كما لا تستطيع أن تنجز مشروع "ذاتها" من داخلها حتى الآن!(1/44)
ويستمرّ صراعُ نخبةٍ وشبه نخبة، ينتجها شبه مجتمع، في مستوى الكلام، ويعلن "الأصوليّ" وغيرُ الأصولي انتماء تفكيره وطريقة تفكيره إلى العقل، أو إلى "عقل" ما، وما يراه الخطاب النقديّ ضغوطاً ميتافيزيقية ينظر إليه خطابُ الأصول كمطلقات مقدّسة أو شبه مقدّسة بمعنى ما...
والواقع والتاريخ لا يُعْنى بصراع في مستوى الكلام، ولا يتحول إلى فعل، بل يبقى في حدود اللّغو، والتغيّر الكبير الذي تتفجر به حداثة تاريخ هي حداثة الواقع ستدفع إلى الانتحار أو الموت تلك القوى التي لم تستطع أن تكيِّف الواقع، ولم تتكيّف معه، ولم تستطع أن تنجز تاريخها الخاص بالقدر الذي ينجزها تاريخها.
*
كيف يتدرّب الخطاب على النقد، وينتج ذاته، ويؤسس لمشروع مجتمع ومشروع أمّة؟ يرفع شعار النقد، ويتصالح مع "اللانقد" أم يتحوّل بالنقد إلى فعل؟ يلاحظ د.هشام شرابي أن أنماط الفكر الأبويّ المستحدث، إصلاحيّة وعلمانية وقومية ويسارية، وصلت في أواخر الستينات إلى طريق مسدود. ولم يعد هذا الفكر قادراً أيضاً على حلّ التناقض الناتج عن التصادم بين الحداثة والأصالة أو على مواجهة الصراع الداخلي، أو الضغوط الدولية السياسية الخارجية. وقد ارتدّ إلى الدين للدفاع عن نفسه، فالعقائد العلمانية إصلاحية وليبرالية واشتراكية لم تتمكّن من مدّ جذورها عميقاً في تربة الأبويّة المُسْتَحدثة!
ويتساءل عن إمكانيّة قيام نقدٍ أصيل، وعن جدوى نقدٍ، على غرار النقد التفكيكي، لغته النقديّة غريبةً بالمعنى الحرفي وبالمدلول المجازيّ، ونمط خطابها يستمدّ روحه من إحدى اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية. ولكنه يتفاءل به كخطاب يهدّد بنسف تصوّرات الخطاب السلفيّ، وبتغيير الخطاب الأبويّ المستحدث....(37).(1/45)
يفترض خطابنا النقدي، الذي يهدف إلى أن يكون حديثاً، امتلاكه القدرة على أن يكون نقداً جذرياً ومزدوجاً، يستهدف الذات والآخر ويتوقّع أن يكون حديثاً في مواجهة تلك "الأصوليّة" أو "السلفية" التي تفصح عنها الأيديولوجية الإسلامية الإيمانية والوثوقية والغيبيّة، أو تكمن في أيديولوجيات عربيّة ثورية، قومية وماركسية، أو شبه قومية، وشبه ماركسيةٍ، مهما اختلفت مراجعها القريبة والبعيدة. وربما يفصح الاختلاف في مستوى الكلام عن تشابه في مستوى الفعل بين نخبة وشبه نخبة حديثة وشبه حديثة ونخبة وشبه نخبة قديمة وشبه قديمة، مادامت الجماعة، التي هي الكتلة الاجتماعية الكبرى، لم تتحوّل إلى مجتمع، أو إلى أمّة، تتصالح مع مزاجها الديني والبسيط كما تستهويها دنيويّة حداثةٍ لم تنخرط فيها، بل أقحمتْ فيها على نحو بائس... وأيّ نقد يدعوها إلى التفكير؟ ومتى تدوّن عصرها الذي تنتمي فيه إلى التاريخ، وإلى الواقع في آن معاً؟ وهل يتكلّم النقد على عصر أنوار هو غير عصر أنوارها بالفعل حتى الآن؟..(1/46)
نقد الذات، أو نقد الأمّة ـ وفقاً لتعبير مرقص ـ قد يكون من مدخلاته نقد الأيديولوجيات القومية العربية والأيديولجيات الماركسية الشائعة، بالإضافة إلى نقد الأيديولوجيات الدينية، أو بالارتباط معها. وهو نقد ينتمي إلى نقد المجتمع ونقد الواقع على هذا النحو أو ذاك. وقد يكون نقد العقل العربيّ أو الإسلاميّ أو العربي الإسلاميّ مدخلاً إلى نقد الذات أو نقد الأمّة أيضاً. وهو نقد يصاحبه نموّ واقعيّ لآليّات تأخّر وتسلّطٍ تمارسها "أصوليّات" و"سلفيّات" متجدّدة دائماً. كما تمارس أنظمة وسلطاتٌ تشيع رؤيتها الأحاديّة وقراءتها الأحاديّة مواقفها ضدّ العقل وضدّ حقّه في التفكير والتعبير على نحو مباشر أو غير مباشر، ينحاز عبرها "الأصوليُّ" إلى تطبيق الشريعة، وفق علاقته الخاصة التي يقيمها معها، ويندفع من خلالها "غير الأصولي" مع شكل من أشكال الحداثة المؤقّتة أو الطارئة التي تعزز سلطته الطارئة أو المؤقتة أيضاً.
*
تبرز محاولة (نقد العقل العربي) بأجزائه الثلاثة وجزئه الرابع المتوقّع، عند د.الجابري، كمشروع نقديّ يلبيّ حاجة راهنة هي إعادة النظر في "الذات" بعامة، وفي التراث بخاصة، وإن تعدّدت ردود الفعل والاستجابات تجاهها، أو تنوّعت المواقف منها، وقد سبقها، وصاحبها، وتلاها أكثر من محاولة معاصرة قد تتشابه في أهدافها، وقد تختلف في طرائق تفكيرها وإنتاجها، وتعبّر عنها، على نحوٍ ما أعمالُ حسين مروّة والياس مرقص وعبد الله العروي وسمير أمين وطيب تيزيني ومحمد أركون وياسين الحافظ وصادق جلال العظم وحسن حنفي ومهدي عامل، وغيرهم ممّن يشغلهم موضوع الهويّة كجزء من موضوع الحداثة، على الرغم من تباين الفرضيّات والاستراتيجيات!(1/47)
وقد أراد الجابري لكتابه (الخطاب العربي المعاصر) أن يكون بمثابة تمهيد لمشروعه: مشروع نقد العقل العربي، فانصرف إلى تحليل الخطاب النهضويّ العربيّ الحديث والمعاصر، من أجل إبراز ضعفه وتشخيص عيوبه استجلاء لصورته، وليس من أجل إعادة بنائه. وفيه يشخّص إشكاليّة مشروع النهضة من قبل ومشروع الثورة فيما بعد بغياب نقد العقل فيهما. وكأنه لا يرى فيما أنتجه مشروع "تنوير" عربيّ أوّل ومشروعُ "تثوير" عربيّ تالٍ إلا غياب "النقد"، وما حضور النقد، بمستوياته المختلفة، إن لم يكن حضوراً مضمراً أو معلناً لنقد العقل؟
وهل المواد التي يشتغل عليها كتاب الخطاب العربي إلا تلك المواد النقديّة التي اشتغل عليها مشروع خطاب "النهضة" من قبل، ومشروع خطاب "الثورة" فيما بعد؟
يتوقّف د.الجابري عند أشكال من الخطاب، هي الخطاب النهضوي والخطاب السياسيّ والخطاب القوميّ والخطاب الفلسفيّ، ويجد في قضيّة الأصالة والمعاصرة صلب إشكالية الخطاب العربي الحديث والمعاصر.(1/48)
وما يهمّه من النماذج التي يعرضها هو العقل الذي يتحدّث فيها لا بوصفه عقل شخصٍ أو فئة أو جيل، بل بوصفه "العقل العربي" الذي أنتج الخطاب موضوع دراسته. ويجد أن منطق الليبرالي الذي تستهويه المبادئ الأوروبية لا يختلف عن منطلق السلفي، أمّا المنطق التوفيقي فيحاول أن يجمع بين أحسن مافي النموذج العربي الإسلامي وأحسن مافي النموذج الأوروبي... و الخطاب النهضوي، برأيه، خطاب توفيقيّ، متناقض، محكوم بسلفٍ، خطاب وعي مستلب... أما الخطاب القوميّ فهو خطابٌ في الممكنات الذهنيّة، ما ورائي... والفكر العربي قبل حرب حزيران لم يكن يعبّر عن متطلبّات الواقع بل عن واقع آخر يعيشه العرب في الحلم، فهو خطاب وجدان، لا خطاب عقّل، وإن نجح في بثّ ونشر الشعور القوميّ، وقد أخفق الخطاب السياسيّ العربي، على مدى قرن من الزمن، في تحقيق أيّ تقدّم في قضيّة العلاقة بين الدين والدولة... الخ. ولا ينجو الخطاب الفلسفيّ، عنده من تهمة الإخفاق أيضاً، فهو خطاب يتجاهل ـ كما أشرنا من قبل ـ القطاع العقلاني في التراث، ويستنجد بما فيه من قطاع لا عقلانيّ، كما يرتبط بأكثر الجوانب لا عقلانية في الفكر الأوروبي المعاصر...
وكان قد استنتج أن السلفيّ والليبرالي وجميع الأسماء الأيديولوجيّة العربية الأخرى لا تستطيع، ولا نستطيع، نحن العرب، أن نفهم أو نعي مفهومي الأصالة والمعاصرة مادمنا محكومين بسلطة النموذج السلف سواء أكان من التراث أو من الفكر الغربي المعاصر أو شيئاً منهما..الخ.
وسيستنتج أخيراً: أن العقل العربي عقل فقهيّ سواء أتحدّث من موقع يميني أم من موقع يساري، ويتّسم بغياب العلاقة أو ما يكفي من العلاقة بين الفكر والواقع، وهو عاجزٌ عن تقديم الإمكانيّات النظرية المطابقة لتغيير الواقع... الخ!....(1/49)
ومع ذلك فهو يعترف في مقدّمته بأنه لم يوفّق في تبنّي منهج معيّن وسط المناهج الجاهزة، ويسوّغ عمله بطبيعة الموضوع ونوع الهدف وما يفرضانه من الأخذ بمنهجٍ أو عدٍة مناهج أو اختراع منهج جديد.
وهو يقرّ بتوظيفه مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو قراءات مختلفة ومتباينة!(38) وسينحاز في نقده العقل العربيّ إلى العقلانية النقديّة لدى ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، ويرى فيها منطلقاً يربطنا بقضايا تراثنا، من أجل نقلها إلى حاضرنا، والتعامل معها على أساس متطلّباته وحاجة المستقبل وفكر العصر ومنطقه. وقد حضرت في تفكيره، وتحضر سلطةُ أنموذج اختاره من السلف أو من التراث، كما حضرت، وتحضر سلطة أنموذج استعان بمنهجه من الفكر الأوروبي المعاصر، على هذا النحو أو ذاك..
يحتمي "الأصولي" و"غير الأصولي" و"السلفي" و"غير السلفي" بجزء من الماضي أو من التراث ـ كما يبدو ـ فيستعيد الأصوليّ أو السلفيُ شريعةً وفقهاً يواجه بهما حداثةً هجمت عليه.
وينتمي "الحداثيّ" أو "شبه الحداثيّ"، أو يصرّح بانتمائه إلى "بذور" حداثةٍ عربية انبثقت قبل ما يقارب من عشرة قرون من انبثاق حداثة الغرب، إن لم يصرّح بأنه اهتدى إليها من خلال أنموذج غربيّ، ويتّفق هنا مع الأصولي وشبه الأصوليّ في تأمّله أنموذجاتٍ من التفكير والعمل يرى فيها سبْق الإسلام أو العرب للغرب!
وكأن كلاً من "الأصولي" و "غير الأصولي" يهرب من الواقع والتاريخ، أحدهما يستعين برفض الغرب، الذي هو الواقع والعالم والتاريخ الآن، والآخر يهرب إلى نقد العقل الذي لا ينتمي إلى نقد الواقع والعالم والتاريخ بقدر ما ينتمي إلى كلامٍ "حديث" لم يمتلك القدرة بعد على أن يتحول إلى "فعلٍ" حديث حقاً!..(1/50)
الفرضيّة التي يدافع عنها د.الجابري في الخطاب العربي المعاصر هي فرضيّة إخفاق مشروع النهضة من قبل، وإخفاق مشروع الثورة فيما بعد، وسيدافع كتابه (نقد العقل العربي)، بأجزائه الثلاثة، عن فرضيّة استقالة العقل العربي!...
ينظر في مقدمّته كتابه (تكوين العقل العربي)، إلى نقد العقل كجزء أساسي وأوليّ من كلّ مشروع للنهضة، ويتساءل عن إمكانيّة بناء نهضةٍ بعقلٍ غير ناهض، عقلٍ لم يقحم بمراجعةٍ شاملةٍ لآلياته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه، ويصرّح بأن مشروعه هادفٌ لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر من كلّ ما هو ميت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافي... ويقرّ في موضع آخر من نهاية كتابه أن أيّ تحليل للفكر العربيّ الإسلاميّ، سواء أكان من منظور بنيويّ أم من منظور تاريخانيّ، سيظلّ ناقصاً، وستكون نتائجه مضلّلة إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره ومنعرجاته...
وسيرى أن الثقافة العربية الإسلامية يتقاسمها نظامان معرّفيان متباينان، يرتبطان بتيّارين أيديولوجيّين متصارعين تاريخياً: النظام البياني والأيديولوجية السينّة من جهة والنظام العرفاني والأيديولوجية الشيعيّة من جهة ثانية. ومن هنا سيكون النظام البرهانيّ محكوماً في طبيعته وتطوّره بالصراع بين البيان والعرفان... وتضمّ علوم البيان علوم النحو والفقه والكلام والبلاغة، وتعتمد على نظام معرفيّ أساسه قياس الغائب على الشاهد، وعلوم العرفان التي تضمّ علوم الكيمياء والطبّ والفلاحة والتنجيم والتصوّف والفكر الشيعيّ والفلسفة الإسماعيلية والتفسير الباطن للقرآن والفلسفة الإشراقيّة، والسحر والطلّسمات، ويعتمد نظامها على الكشف والوصال والتجاذب، أمّا علوم البرهان من علوم طبيعيةٍ ومنطق ورياضة وميتافيزيقا فمنهجها الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي...الخ(39).(1/51)
وكأنّه ينظر إلى العقل العربي بوصفه نتاج الثقافة العربية الإسلامية التي تأسّست على نظم معرفيّة ثلاثة: نظام معرفي لغويّ عربيّ الأصل، ونظم معرفيّ غنوصي فارسي هرمسيّ الأصل، ونظام معرفي عقلانيّ يوناني الأصل، كما ورد في كتابه التراث والحداثة. أو كأن لكلّ نظامٍ معرفيّ مرادفه عنده من أنواع المعقول ومراتبه، كما يلاحظ جورج طرابيشي، فالبرهان يطابقه المعقول العقليّ، والبيان يلازمه المعقول الدينيّ، أمّا العرفان فيحتلّ موقعه في أسفل الهرم، بوصفه مملكة اللامعقول المظلمة(40).
إنّ د.الجابري، متأثراً بحفريّات فوكو أو بالإبستميّة عنده يلغي تنوعاً أو كثرة، بل تعددّاً فضاؤه الثقافي العربي الإسلامي يعبّر عن تفاعل وتداخل وتجاور ووحدة، فقد تآوى فيه إنتاج مؤمنين ودهريّين وزنادقة، وفلاسفة وشعراء وكتّاب ومتكلّمين وفقهاء مارسوا التعبير عن أنفسهم، ومارسوا حريّتهم في الانتماء والنقد على هذا النحو أو ذاك، ولا يُحْصَر إنتاجه في هذا النظام المعرفي أو ذاك بشكل حاسم، فالأنظمة المعرفية الثلاثة متداخلة، وبينها عناصر مشتركة بقدر ما بينها من عناصر مختلفة. كما أن العقل يشمل البيان والبرهان، العلم والعرفان، الواقع والرمز، ليمارس العقل البشريُّ وحدته على نحو عميق وخلاّق، كما يرى د.علي حرب(41).
وأيّة مظاهر رئيسة لظاهرة استقالة العقل تبدو في انتصار "العرفان"، وتحوّل "البيان" إلى (عقل ـ عادة) و(البرهان) إلى (عادة ـ عقليّة) كما يرى الجابري؟ وهل هي مصدر "استقالة حتى اليوم في كثير من الأوساط الثقافية إن لم يكن في كلّها تقريباً، إذا لم نذكر الأغلبية الساحقة من الجماهير الأمية؛ على حدّ تعبير الجابري أيضاً!...(1/52)
يرى د.برهان غليون في خطاب الهويّة دليلاً على القطيعة المستمرّة في التاريخ الذاتي وفي خطاب الحداثة دليلاً على القطيعة في التاريخ الموضوعيّ. وهما يشكلان مظهراً واحداً لفصام الوعي. ومشكلة الهويّة لا تتعلّق، عنده بالتراث، وإنما بعلاقتنا مع العصر والمعاصرة، أمّا إجهاض الحداثة فلا يعود إلى مقاومة البنى التقليديّة، ويصل إلى نتيجة مفادها أنّه ينبغي الخروج من نقد التراث وتكييفه أو تحويره إلى نقد العقل... عقل الحداثة وفكرها. وما العقل عنده؟ العقل هو نحن... نظام تفكير الراهن! ولكن! أيّة حداثة هذه؟ وأيّ عقل ينتمي إليها؟.. ألا ينتجهما واقع ما، ويشرطهما تاريخٌ ما، ويعبّران عن وضع بشرٍ في مجتمع ما؟
ويفترض، بالمقابل، مطاع صفدي أن فكر القطيعة في المشروع الثقافي العربي لم يقطع مع شيء حقّاً ليصل مع شيء آخر حقّاً، لأن فكر القطيعة ـ وفقاً لتعبيره الخاص ـ لم يفكّر في ذاته حتى الآن! وكان قد لاحظ أن صيغة العقل الغربي الأولى، والتي منحته الريادة والقيادة، أنه هو العقل الذي ينقد دائماً، وأوّل ما ينقد هو ذاته... بل إن العقل هو النقد الخالص باعتباره يرادف إنتاجه، ويصاحبه دائماً، لا يعلو فوقه، ولا يتخلى عنه!
هل يختار الخطاب العربيّ الآن نقد عقله متأثّراً بخطاب غربيّ ينقد ذاته دائماً، أي نقد عقله؟
أليس الفكر الذي ورثناه عن السلف، أو ما يسمّيه بعضهم التراث، يدور كلّه حول العقل، كما يستخلص عبد الله العروي في خاتمة كتابه (مفهوم العقل) على الرغم من أنّ تطبيق ذلك العقل المفترض يؤدي غالباً ـ كما يرى ـ إلى نتائج محبطة.. ولذلك لا يكون العقل عقلانيّة إلاّ إذا انطلقنا من الفعل وخضعنا لمنطقه، وأبدلنا بالمنطق الموروث منطق العقل....(44) .(1/53)
الخطاب النقدي العربي يتدرّب على النقد بعامّة. ويعكس واقعاً أنتجه، وينتجه، كما يعكس تطوّره علاقةً ما مع العالم الآخر، يحاول عبرها أن يكون منتمياً وحضارياً، كونيّاً وشاملاً، يتكامل فيه نقد الذات بنقد الآخر، ويتدرّب على نقد الأنموذجات كلّها، فينزع عنها قداستها: أصولية ، وسلفية، وتنويرية، وثورية، تراثية، وحداثية، دينية، وعلمية، قومية وماركسية، عربية وغربية. ويؤصّل لبعض مفهوماته ومبادئه واستراتيجيّاته، ويعرّب بعضها، وبعضها الآخر يستعيره، فلعلّه ينتج لغته هو غير الغريبة وغير المغرَّبة!
إنّه خطابنا بمعنى ما، ينتمي إلينا، نحن، أوّلاً! ولذلك لم يمتلك شجاعة تسمية الأشياء والأسماء والعلاقات في الواقع.. تسمية كلّ شيء بما هو عليه من قبل، والآن، وبما سيكون عليه فيما بعد،... وهو لا يمتلك هذه الشجاعة لأننا جماعة لم تمتلكها بعد، ولم يمتلكها واقعنا الذي تهجم عليه حداثة إنسانية ومتوحّشة، بهيّة وقبيحة، تستهوي تأخرّه، وتعزّيه وتغويه بما هو متوحّش
وقبيح فحسب!.
إنّه يتدرّب على النقد، وتلك هي مهمّته الواجبة والممكنة حتى الآن، مادامت كائناته الآدميّة التي هي بشر واقعيّون تتدرّب على الحياة بدلاً من أن تحيّاها حقاً، وتتساءل عن جنس الملائكة بدلاً من أن تتساءل عن واقعها الآدمي الذي هو مصدر شقائها الدنيوي!..
متى يتخطّى مرحلة تدرّبه على النقد، ويتجاوزها؟ ومتى يتحوّل إلى نقدٍ، وإلى وعيٍ في مستوى الفعل، ويكون فيه العقل عقلانياً؛ يؤسّس لخطابه المضاد والمختلف بعامة؟
ألا يتطلب التدرّب على النقد تدرّباً على الديمقراطيّة يحرّر الواقع، فيؤسّس النقد لفرضياته التي لا تعمل فقط على تفسير الواقع، وإنّما تعمل على تغييره، بدلاً من أن تبقى في مستوى الكلام الذي لا يتحرر إلا بوساطة الفعل، بل لا يتحرر إلا إذا تحوّل إلى فعلٍ حقاً!
((
( هوامش ومراجع:(1/54)
1 ـ جورج طرابيشي، المثّقفون العرب والتراث، ص 20، ص21، رياض الريس للكتب والنشر، 1991.
2 ـ الياس مرقص، نقد العقلانيّة العربيّة، ص 570، ص 631، دار الحصاد، 1997.
3 ـ علي حرب، أوهام النخبة، أو نقد المثّقف، ص 58، ص 59. الدار البيضاء، 1996.
4 ـ فؤاد صروف ونبيه أمين فارس، محرِّر، مؤتمر هيئة الدراسات الفلسفية العربية المنعقد في تشرين الثاني 1966، في الجامعة الأمريكية، منشورات العيد المئوي ـ بيروت 1967.
5 ـ من مؤلّفات د.عبد الرحمن بدوي.
6 ـ عبد الله القصيمي، العالم ليس عقلاً، ص 483-486-488-495-528-531-532-.... الخ، بيروت 1963.
7 ـ ... ملّف تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي، اجتماع الخبراء، بمعونة اليونسكو، شهادة أدونيس، ص 299، دار الغرب الإسلامي 1990.
8 ـ عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 125، الدار البيضاء 1980.
9 ـ د.محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 175، بيروت، ط2 –1985.
10ـ د.أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة، ص 26، ص 28، دار الآداب، بيروت 1963.
11ـ د.برهان غليون اغتيال العقل، ص 343، ص 33، ص 340-302، دار التنوير، بيروت، 1985.
12ـ الخطاب العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 191-190-57.
13ـ مطاع صفدي، استراتيجيّة التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، ص 26، ص 27، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986.
14 ـ مطاع صفدي، نقد العقل الغربي، ص14، ص344، ص64، ص66، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
15 ـ د.سامي أدهم، مابعد الحداثة، انفجار أواخر القرن العشرين، النصّ، الفسحة المضيئة، ص 15، ص 9، ص 8، 58.
16ـ جورج طرابيشي، نظرية العقل؛ نقد نقد العقل العربي، ص 97، دار الساقي 1966.
17ـ د.هشام شرابي، النقد الحضاريّ في المجتمع العربي في نهاية القرن العشرين،
ص 17، ص 8، ص 10، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.(1/55)
18ـ د.أكرم ضياء العمري، منهج النقد عند المحدّثين مقارناً بالمنهج النقدي الغربيّ، ص 5-8-9-11-12-19-22-38-40-51، الرياض 1417هـ، 1997م.
19ـ أحمد موسى سالم، العقل ومناهج التفكير الإسلاميّ، ص 15-ص16، ص 241، 260، ص261، ص 285، دار الجيل، بيروت1980.
20ـ الياس مرقص، نقد الفكر القومي، ص 45-46-275-296-270 –322 –323 - 388- 454- 474- 491-495 -496-511 -533- 396- 411- 415- 218- 29-330- 394- 389- 572- 574- 576- 477- 487- دار الطليعة، 1966.
... ... يتألف الكتاب من مقدّمة وخمسة أقسام وخاتمة، ويهدف إلى حصر أفكار ساطع الحصري، كلّها، قدر الإمكان ونقدها، وصياغة النظريّة المضادّة على ضوء التجربة التاريخية العربية والعالمية، وقد أشار إلى حياة الحصري وموضوعات مؤلفاته ومحتويات كتبه القومية التسعة، وأعلن أهداف دراسته ومخطّطاتها.
... ... والتوقّف، عند هذا الكتاب، لا يعني إغفال مؤلّفات أخرى مثل (الماركسية في عصرنا 1965)، وما يتضمّنه من إشارات نقديّة حول الفكر القومي بالإضافة إلى (الماركسية والمسألة القومية 1967)، والكتاب المشترك مع رودنسون وإميل توما (في الأمّة والمسألة القومية والوحدة)، و(عفويّة النظرية في العمل الفدائي 1971).....الخ.
... ... ويلاحظ أيضاً أن الفكر القومي الأصيل في ردّه وهجومه على الفكر اللاقومي مزيج من أفكار برغسون ونيتشه وشبنغلر وغيرهم... ص 5-ص6.
21ـ عقد المجلس القومي للثقافة العربية، ندوة تحت عنوان(الياس مرقص والفكر القومي، اللاذقية، 1992)، وتضمّنت أربع جلسات دارت أهمُّ أعمالها حول فكره النقدي والمسألة القومية وتجديد الفكر القومي وغيرها، ويمكن الإشارة، بشكل خاص إلى بحث جاد الكريم الجباعي (المسألة القومية في فكر الياس مرقص)، وبحث محيي الدين صبحي (الياس مرقص، وتجديد الفكر القومي).
... ـ الياس مرقص والفكر القومي ـ منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط 1993.(1/56)
22ـ ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجية المهزومة ، ص 75- 76 –177، 185-186- 247-290-258- 294-320.... دار الطليعة 1979.
23ـ د.عبد الرزاق عيد، ياسين الحافظ، نقد حداثة التأخّر، ص 227، دار الصداقة، حلب 1996.
24ـ د.صادق جلال العظم، النقد الذاتي بعد الهزيمة، ص 5، ص 67-70-80-82 ـ ص 97 ـ ص 105-132...... دار الطليعة، ط4، 1972.
25ـ د.صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ص 5-ص17-18-28-36- 46- 75- 78 – دار الطليعة 1970. والأبحاث التي يشتمل عليها هي: الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني ـ – مأساة إبليس ـ معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان ـ التزييف في الفكر المسيحيّ الغربيّ المعاصر ـ مدخل إلى التصور العلميّ للكون وتطوّره.
26ـ بالإضافة إلى البحث الذي توقفنا عنده من كتاب (نقد الفكر الديني) نشير إلى (مأساة إبليس) الذي يستشهد في نهايته د.العظم بقصّة طريفة لتوفيق الحكيم، يجري فيها حوارٌ بين إبليس وشيخ الأزهر، بعد أن ذهب ليتوب على يديه، ويدخل في الدين الحنيف ويشعر باليأس من موافقة شيخ الأزهر، فيتوسّط الملاك جبريل عند ربّه دون جدوى، وينتهي الحوار بصرخة إبليس: إني شهيد! وطرافة البحث تشبه طرافة قصّة الحكيم!..
... ... أمّا بحثه (معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان) فيختمه بعبارة ذات دلالة عميقة، يقول فيها: هنيئاً مريئاً بهذه المأساة المفجعة لأنصار العذراء والمعجزات والسياحة، والتعزية الروحيّة بضياع القدس. ومرحى لمخرجي أمثال هذه المسرحيات ومروّجيها من أجهزة الإعلام، وشكراً للكنيسة القبطية ـ على نفيها الأخير لظهور العذراء... الخ.(1/57)
... ... وفي بحثه (التزييف والفكر المسيحي الغربي المعاصر)، يعالج بسرعة مجموعة من المحاضرات أصدرتها الجامعة الأمريكية حول موضوع (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر، بعد أن ألقيت في الجامعة نفسها، عام 1967، ويستنتج فيه أن السلاح نزع من الكنيسة من قبل قوى تنتمي في جوهرها للحركة العلمانية التي صنعت ما يسمّى بالعالم الحديث، وكوّنت ثقافته العلميّة وحضارته الصناعية!..
... ... ومطالعته: (مدخل إلى التصور العلميّ الماديّ للكون)، هي مديحٌ للمادية الديالكتيكية كأنجح محاولةٍ لصياغة صورة كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه، على حدّ تعبيره. ويعتقد أن هذا جزء مهم ممّا عناه سارتر حين قال: (الماركسية هي الفلسفة المعاصرة)!..
... ... وكان قرار محكمة استئناف بيروت الناظرة بقضايا المطبوعات إبطال التعقيبات على الفاعل الأصليّ والمدَّعى عليه، بعد أن أنكرا صحّة ما نُسب إليهما، إذْ صرّح د. العظم أنه في نشره الكتاب موضوع الادعاء إنّما يتوخّى من ورائه النقد العلمي والحقيقة، ولا يعتبر أنّ الأبحاث الواردة فيه تتضمّن تحريضاً على إثارة النعرات الطائفية أو ازدراءً للديانات السماوية. وقد سبقه إلى ذلك باحثون عرب وأجانب، وخاصة أن هذه المحكمة لا تحاكم المدعى عليهما، على حرّية المعتقد الديني أو الفكري أو تشكيكهما في الدين، لأن من المعلوم أن الدستور اللبناني يكفل حرية الرأي والفكر والنقد... الخ.
27ـ محمد جمال باروت، يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة، ص 10-11، ص 245-127-13-14-177-178، 28-33-95-124-193-209-212-18 الريس للكتب والنشر، 1993.
28ـ يرى باروت أن الخطاب الجهاديّ للحاكمية لله يضمر مرجعيّة شيعيّة خاصة بولاية الفقيه، ويناقش التشيّع السياسيّ بين نظرّيتيّ "ولايّة الفقيه" و"ولاية الأمّة على نفسها"، ص 81-93.
29ـ الفلسفة في الوطن العربي، بحوث المؤتمر الفلسفي الأول، ص 69-ص 60-61 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985.(1/58)
30ـ د.نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير، ص 134-135، ص 131- سينا للنشر، القاهرة 1995.
31ـ د.محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، تر: هشام صالح، ص 58-59، ص 154- دار الساقي 1998.
32ـ د.طيب تيزيني، النصّ القرآني، إشكاليّة البنية والقراءة، ص 439، 107-
ص157-158، دار الينابيع، دمشق 1996.
33ـ د.عزيز العظمة، دنيا الدين في حاضر الغرب، ص 16-ص13-14، ص 92، ص 60، ص 32، دار الطليعة، بيروت 1996.
34ـ د.نديم البيطار، من النكسة إلى الثورة، ص 161- ص 144، دار الطليعة،
بيروت 1968.
35ـ د.محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، تر: هشام صالح، ص 27 – ص93 – ط2، دار الساقي، 1993.
36ـ جورج طرابيشي، الفلسفة وجدليّة التقدّم والتأخّر، مقال، مجلة "أبواب" ص 114-115، ربيع 1998، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، دار الساقي 1998،
ص 125-126.
37ـ د.هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية وتخلف المجتمع العربي، ص 126-127، 128، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992.
38ـ الخطاب العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 14-30-31، 55-56-131-135-217، ص 12.
39ـ د.محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص5، ص 7-8، ص 246- ص 249 – ط6، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
40ـ جورج طرابيشي، إشكاليّات العقل العربي، ص 285، دار الساقي 1998.
41ـ علي حرب، خطاب الهويّة، ص 131- دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996.
42 ـ اغتيال العقل، مرجع سابق، ص 145-153-289-314- 315.
43ـ نقد الفكر الغربيّ، مرجع سابق، ص 7-10.
44ـ عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص 357-364، الدار البيضاء 1996.
((
ما بَعْدَ المُرَاجَعةِ النَّقْدِّيةِ
يستمرّ النَّقْدُ في تساؤله عن إخفاق نهضةٍ عربيّة أو مشروع نهضة، وعن إخفاق ثورةٍ عربيّة أو مشروع ثورة، وعن إخفاق حداثة عربيّة أو مشروع حداثة...(1/59)
ويُتوقّعُ من خطابنا النقديّ المعاصر أن يحقّق مراجعةً شاملةً لتيّارات واتجاهات وأفكارٍ تحوّل معظمها في مرحلةٍ سابقة إلى أيديولوجيا، وتحوّلت الأيديولوجيا إلى سلاح هدفه الاستيلاء على السلطة أوّلاً، فلعلّ السلطة التي تنتمي إلى حداثّةٍ ما تستطيع أن تغيِّر، أو تحدِّث بعض جوانب الحياة العربية..
وبين أيديولوجيا وأيديولوجيا مضادّة ونخبات متناقضة ومتصالحة، تستمرّ سلطة تأخرٍ، وتتآكل سلطة حداثةٍ لم تنجز مشروعها!..
ويفترض خطابنا النقديّ المعاصر أنّه يؤسّس لسؤاله المختلف، بدلاً من أن يكرّر إجابة ما أُنْجِزَتْ!
هل كان ثمة مشروعُ نهضةٍ حقاً، ويمكن تجديده؟.. وما علاقته بعلاقات مجتمعٍ ما قبل قوميّة، أو متأخّرة؟
وأيُّ مشروع ثورةٍ عربية تنتمي إليه الجماعة أو الأمّة أو الطبقات، إذ تكاثرت كياناتٌ ودويلات وإمارات ودول عربيّة، لكلّ منها مصالح تختلف وتأتلف؟ وكيف يُجدِّد، أو يتجدّد؟ وأيُّ مشروع حداثة عربية يستطيع أن يكون جزءاً من حداثة الذات وحداثة الآخر، مادام تحوَّل إلى "مذهب" نخبةٍ، وتستمتع به "قلّة"!
منذ بضعة عقود يُراكم النقد النقد، وينمو النقد بالنقد. ويساوي، أخيراً، بين النقد والحداثة، فلا حداثة من خارج النقد. وهذا لا يعني غيابه في هذه المرحلة أو تلك، ففي كلِّ مرحلة تاريخية كان ثمّة نقد، بمعنى ما.... ولكنه قد يستعير بعض مفهوماته وموضوعاته وأدواته من الآخر، كما تُستعار سلعٌ وأشياء وأزياء، ولابدَّ له أن يُكيّفها، أو يعمل على تبيئتها، أو ينتجها، فيفتتح ذاتيّته.....(1/60)
ويفترض خطابنا النقديّ المعاصر أيضاً انتماءه إلى الحداثة. وهذا الانتماء يعني أن يكون لكل تيّارٍ فيه، ولكلّ اتجاهٍ، طريقته في اختبار فرضيّاته ومفهوماته وأفكاره وسلوكاته... ولذلك كانت المراجعة النقديّة التي يشتغل عليها مراجعة تنتمي إلى الذات أو الأمّة، سواء أعبرت عن مشروع نهضةٍ، أم تناولت مشروع ثورةٍ، أم خلخلت مشروع حداثة. كما كانت أيضاً، مراجعة تحاول "نقد الذات" أوّلاً: تاريخ قوى وعلاقاتٍ وأفكاراً وحركةَ بشرٍ ونخباتٍ وطبقاتٍ... ويتّسع النقد لكل القضايا: الذات والآخر، التراث والحداثة، الواقع والفكر، المجتمع والدولة، السلطة والنخبة، الدين والسياسة، الفرد والمؤسّسة وغيرها وغيرها...
ويتدرّب النقد على أن يكون عادلاً فيصغي لمشروعات اختلفت من قبل، وجابه بعضها بعضاً، وتختلف الآن، ويجابه بعضها بعضاً... يدرس مشروع إصلاح إسلامي سابق ولاحق، ويتناول مشروع عمل قومي وقومي اشتراكي ذبلت إمكانيّاته، ويتأمّل مشروع ممارسةٍ ماركسيّةٍ أو ماركسيةٍ عربية هُشمت، وهمّشت، ويستكشف احتمالات هذا المشروع أو ذاك وإمكانيّات تجديده وتجدّده. وقد يلاحظ عناصر مؤتلفة في تيّارات واتّجاهات ونزعات وميول، ربّما كانت مختلفة دائماً، فعملت مختلفة، وفشلت مختلفة، فلم تنتج وحدتها من داخل الكثرة والتنوع والتعدّد، لأنها لم تتكيّف مع الاختلاف، ولم تكيّفه، ولم تنتج مفهومه الذي تستدعيه حريّةُ كلٍّ في أن يفكّر، ويعمل بشكل مختلف!
وإذا كان النقد ممكناً فإن كلَّ مفهوم قابلٌ للنقد، وكلَّ موضوعٍ قابل للنقد أيضاً... كلُّ شيءٍ قابل للنقد بمعنى ما. ولكن النقد يتطلّب بيئةً تدرّبت عليه بمعنى ما، وتستطيع أن تأتلف، إذا اختلفت، وأن تختلف، إذ ائتلفت!...
المراجعة النقديّة الراهنة هي مراجعاتٌ تقوّض أجوبة احتمت بها تيارات واتجاهات وميول ونزعات قليلاً أو كثيراً...(1/61)
وقد يكون جزءاً منها محض كلام، وقد يكون بعضها فائض كلام وصدى لمفهومات حداثةٍ ومابعد حداثةٍ عن بُعْد... ولكنها تنتمي جميعها إلى فضائها العربيّ، وتحاول أن تكون حديثةً لتدخل في تاريخ العالم، وإلاّ كانت في خارجه... وهي ستضمر ما بَعْدَها، أو تفصح عنه!...
في كلّ مرحلةٍ كان ثمّة "فكر" ما و"نقد" ما!..
في كلّ مرحلةٍ كانت هذه "المدرسة" الفكريّة أو تلك تعلن أنّها تمتلك الحقيقة وحدها!..
في كلّ مرحلةٍ كانت هذه "النخبة" أو تلك تعلن أنها الممثّل "الشرعي" للأمّة أو الطبقة أو الشعب أو المجتمع!...
ولأنّ الحداثة هي النقد أوّلاً، فقد تحوّل الخطاب بعامة إلى خطاب نقدٍ، يعيد النظر في "مطلقاتٍ" أو في "ادعاءات" قد تنحاز إلى مجتمع لم تستطع تحديثه، أو إلى أمّةٍ لم تستطع أن تنجز مشروع حداثتها الذي هو مشروع هويّتها أيضاً! وبعد أن انتهت مهمّاتٌ أو تراجعت، وتراكمت مفهوماتٌ تتآكل، وأُجلِّت موضوعات تُسْتَعاد، وبعد هزيمةٍ تفكير وطريقة تفكيرٍ تُسْتَعار، وبعد عملٍ لم ينتجْ تاريخه.. بعد نقدٍ لم يكن ممكناً حقّاً، وشبه نقدٍ ذاتيٍّ لم يكتمل، نستطيع أن نلاحظ فضاء مراجعةٍ نقديةٍ يتشكّل، سواء أعملت على تشكيله عوامل، من خارج أم عملت على تشكيله عوامل من داخل، تهدف إلى وعي اللحظة الذاتيّة بمعنى ما، وتتزامن مع شعورٍ عام بهزيمة الأمّة في نهاية قرن وبداية قرن، وتترافق مع شعور خاص بخطورة العولمة والأمركة وشرق الأوسطية وغيرها...
***
عنواناتٌ كثيرةٌ، ودراساتٌ متنوّعة، ومحاور وملفّات ومؤتمرات، تنحاز كلّها إلى مفهوم المراجعة النقديّة تحاولها، ولعلّها تتحوّل بها إلى فعّل!..(1/62)
وكلّها، أو معظمها، يختبر أفكاراً سابقة أو مطلقات قديمة وجديدة، ويشكّك، ويبحث، ويناقش، وينحاز إلى مفهوم النقد، مادام النقد ممكناً إلى هذا الحدّ أو ذاك، ومادام النقد يتدرّب على أن يكون ديموقراطياً يتعلّم من الحوار، ويعلّمه.. وسيبقى النقد هو نقد الذات أولاً وأخيراً، أَواجَه مشروع نهضةٍ أم جابه مشروع حداثة، تشتغل به الذات، ويشتغل عليها، ولعلّنا نستطيع أن نتأمل أكثر من مثال على هذه المراجعة النقدية الراهنة....
***
تشكّل ثلاثةُ محاور رئيسة قدّمتها مجلة "الطريق" جزءاً منها؛ يدور أوّلها حول إشكالية النهضة بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، ويخصّ ثانيها إشكالية النهضة في الفكر القوميّ العربي، أما المحور الثالث فيقارب إشكالية النهضة في الفكر الماركسيّ العربي...(1)..
وتتساءل المحاور الثلاثة عن احتمالات تجديد الفكر الإسلامي والفكر القومي والفكر الماركسي العربي بعامة، كما تتساءل عن إمكانيّات كل منها في إنجاز مشروع نهضةٍ عربية جديدة.
وكأنّها تعترف بحضورٍ كلٍ من الاتجاهات الفكرية الثلاثة، ودور كلٍ منها فيها، مهما كان شكل حضورها، وإنجازه!
إنّها تتقبّل كلّ تيّارٍ منها، وتتقبّل أيضاً مفهوم مشروع النهضة أو النهضة بدلاً من مفهوم ثورة وثورة عربية، وتفتح حواراً مختلفاً، بمفردات مختلفة، فليس ثمّة أحدٌ أحسن من أحد، إذْ كان لكل طريقة في التفكير والعمل تلغي سواه، فتلغي إمكانيات التفكير والعمل كما كان لكل إخفاقاته، أو هزيمته، وبعض نجاحات...
تطرح ورقة عمل المحور الأوّل أسئلتها عن تعامل حركة الإصلاح الدينيّ مع إشكالية النهضة، وتوقّفِ مشروعها، وعلاقةِ مشروع الإسلام السياسي بتحدّيات النهضة المفوّتة، واحتمالات بروز إصلاحٍ ديني جديد يعمل على تحديث الإسلام وتثويره ثقافياً... الخ.(1/63)
وتقدّم ورقة عمل المحور الثاني تساؤلها عن مواجهة الفكر القومي العربيّ، على مدى تاريخه، لإشكالية النهضة، وطبيعة المشاريع التي حملها خلال فترة صعوده من أجل نهوض العرب، وتقصير هذه المشاريع، على الرغم من إنجازاتها، عن تحقيق النهضة، وتعثّر انتقال الفكرة القومية من عالم النظريّة إلى عالم الواقع، لينتهي التساؤل بإمكانيّة تجديد الفكر القومي العربي وعقّلنته في بلورة مشروعٍ نهضةٍ عربيةٍ جديدةٍ...
أمّا ورقة عمل المحور الثالث فتتساءل عن إمكانيّة الحديث عن فكر ماركسي عربيّ، أي عن إنتاج عربي متميّز في الحقل الذي افتتحه ماركس، ويمكن اعتباره رافداً من روافد التنوير العربي الذي انطلق في القرن التاسع عشر، وعن مدى حضور إشكاليّة النهضة فيه، وغيابها وأسباب غيابها إن لم تكن حاضرة، وعن طبيعة المشروع أو المشاريع التي بلورها الفكر الماركسي العربي، وحملتها تعبيراته السياسية في إجابتها عن النهوض العربي، كما تتساءل عن الحاجة إلى توليد فكرٍ ماركسيٍّ عربي في ضوء التغيّرات والتحوّلات التي وقعت في السنوات الأخيرة، بحيث يساهم في بلورة نهضة عربية جديدة، وعمّا إذا كانت الاشتراكية التي يطمح إليها معادلة للنهضة!
تقدم المحاور الثلاثة أسئلة راهنة ومغايرة حول إشكالية النهضة عبر علاقات ثلاثة تيّارات فكرية كبرى بها، وهي تيّارات تزامنت وتداخلت، وتقاطعت، بمعنى ما، وترافقت، وتنازعت، وتناقضت أيضاً....
وكان لكلٍ منها أهدافه المعلنة وشعاراته اللطيفة، كما تفرّع منها أكثر من تيار أو حركة أو جماعةٍ... وكان لها حضورها الذي يستمر، واختلافها، الذي يستمر أيضاً!..(1/64)
يميّز د.طيب تيزيني في المحور الأول إصلاحاً دينيّاً قديماً من إصلاح ديني حديث. ويهتمّ، كعادته، بالتناقض بين مرجعيّة الوضعيّة الاجتماعيّة المشخّصة والمرجعيّة اللاتاريخية المقدّسة التي هي مرجعيّة إصلاح ديني يضطرب خطابه، كلّما اقترب من واقع الحال المشخّص، ويعمل على تقويم الغرب والشرق مستعيناً بمرجعية الأصل التي ينتمي إليها، إذْ لا صلاح ولا إصلاح إلا بالإسلام... ولذلك برزت مسألة الحاكمية موازيه لبروز الخطاب الإصلاحي الإسلامي...
وإذا كان خطاب الإسلام هو الخطاب المقدّس الذي يتعالى، كأيّ خطاب ديني، فوق الواقع وفوق التاريخ، فكيف يتكيّف مع مرجعية اجتماعية مشخّصة هي مرجعيّة الواقع والتاريخ؟ وكيف يتحوّل إلى خطاب دنيويّ حقّاً؟ وهل يستطيع أن يوفّق بين المتعالي والدنيوي؟
وإذا كان هذا الخطاب هو خطاب إجابةٍ وقبول لا خطاب تشكّك وسؤال، فكيف تسمح بنيته بإنتاج فكر فلسفي أو بإعادة إنتاجه؟
يبحث د.يوسف سلامة في الشروط التي تسمح بإعادة إنتاج الفكر الفلسفيّ أو عودته إلى الحياة، ويرى أن تيّار الإصلاح الديني الذي حقّق أهدافه صدر عن تأمّل الذات، وتجسّد في تيّارين: سلّفي وإصلاحي، بينما صدر التيار العلماني عن تجربة الصدام مع الآخر...
فكيف يتصالح الخطاب الإسلاميّ، سلفياً أو إصلاحياً، مع الفلسفة قديمةً أو حديثة، شرقيّة أو غربيّة، عربية ـ إسلامية، أو إسلامية ـ عربية، إذا كان هدفه إحياء الإجابة المطلقة لا التأسيس للسؤال المختلف؟
وهل يتوافق تيارٌ ما يمتلكه المطلق، فيمتلك الحقيقة، مع تيّار آخر يبحث عن الحقيقة المختلفة بطرق التفكير المختلفة، ولا يمتلكه مطلق ما، إلا إذا تحوّل بالعقل إلى مطلق من نوع ما!...
ويربط ماهر الشريف تجاوز الإسلام السياسي لأزمته باستعداده للتعايش مع الآخر المختلف وقبول التعدّد. وربّما كان هذا الاستعداد شرطاً لتجاوز أيّ تيار لأزمته!....(1/65)
وبعد بضع مقايسات بين الإسلام في صيغته الإصلاحية والمسيحيّة في صيغتها البروتستانتية يستخلص محمد جمال باروت أن الخطاب الإصلاحي الإسلامي يفصل بين الشريعة والسياسة، لا بين الدين والدولة، ويرى فيه جانباً ممّا يسميه العلمانية الإسلامية، ويميّز مفهوم العلمانية كدينوه فيه من العلمانوية، فالعلمانية كانت تعني الفصل بين الدين والقانون لا فصل الدين عن الدولة الذي لم يتمّ في فرنسا إلا عام 1905.
ويفترض أن علمانية الإسلام كانت احتمالاً وهدرت... ولأن تاريخ الاجتماع تاريخ احتمالات، فإنه يمكن التفكير مجدّداً بها كاحتمال...
ولأن تاريخ الاجتماع تاريخ احتمالات أيضاً فقد كان التراث تراثات والإسلام فرقاً ومذاهب... وليست العلمنة أو إمكانيتها إلا أحد الاحتمالات التي يتضمنّها تراث كثير وإسلام كثير، وإن صدرا عن وحدةٍ هي كثيرة أيضاً في تنوعها وتعدّدها!...
يقرّر كريم مروة وجود أنواع مختلفة من الحركات الإسلامية، من حيث الهدف والممارسة والعلاقة بين الدين والحياة وغيرها، ويجد أكثرها نفوذاً وتأثيراً تلك الحركات الإصلاحية التي تقاوم السلطة، وتستنفر الغرائز الدينية، ويعلّل هذه الظاهرة بالواقع العربي المأزوم، وعجز الحكومات المتعاقبة، وتفاقم مظاهر الاستبداد السياسيّ وفشل الشعوب في التغيير، وعجز الأنظمة عن التعامل مع القضية القوميّة، وتفاقم العدوان الاستعماري....الخ.
ويمكن لهذه العوامل مجتمعة أو متفرّقة أن تعلّل أيّة ظاهرة، مادامت تشفّ عن غياب تاريخ ومجتمع وأمّة، وإن كان الحلّ، برأيه، بناء دولةٍ ديمقراطيةٍ تحقق الفصل بين الدين والدولة!...
وهل يختلف سؤال هذه الدولة عن سؤال "الأمة" بعامةً، إذا كانت الأمة لم تنتج بعد وعيها بذاتها الذي يقوّض دولها الواقعيّة جداً وما تنتجه من ظواهر صالحة وغير صالحة، وحركات إصلاحية وغير إصلاحية! أليس سؤال الديمقراطية هو سؤال الأمّة؟..(1/66)
يميّز وجيه كوثراني ثلاثة أزمنة في مسار النهضة العربية هي زمن التوفيق بين الليبرالية الغربية والإصلاحية، وزمن الاشتراكية القومية، وزمن الصحوة الإسلامية أو المشروع الإسلامي الجديد. وينظر إلى الأزمنة الثلاثة كجزء من مرحلة واحدة مستمرة ذات وجهين: الاستبداد من جهة، والتحرّر من جهة ثانية. ويرى أن النقد التاريخي لتجربة النهوض العربي الإسلامي يقدّم صورة عن أزمة تواصل وتراكم تبرز في حالة القطيعة بين المشاريع وأزمنتها.
وربّما نستطيع أن نقول: التيّار الإسلامي كان دائماً حاضراً وموجوداً، باتجاهاته الرسمية والشعبية والتقليدية والتجديدية والعروبية وغير العروبية. وكانت له نخباته ومؤسساته التي تتوافق مع كتلة اجتماعية لم يصدم مزاجها الدينيّ بالحداثة إلاّ قليلاً، ومن خارج، وكان لهذا التيار الإسلامي دائماً مطلقاته التي يُواجه بها وقائع التاريخ وتاريخ الوقائع التي يُحّللها ويفّسرها تبعاً لإجابة جاهزة ومنجزة، مطلقة ومتعالية، تدفع الشكّ باليقين، وقد تعامل مع مؤسسة شبه حديثة أو دولة شبه حديثة تتكيّف مع أحكام الشريعة الإسلامية كما تتكيّف مع القوانين والأنظمة الوضعية!.. وقد كانت له أيضاً أصولياته القديمة والجديدة التي يمكن لعلاقتها بالتاريخ وبالواقع أن تقترح عليها أكثر من احتمال؛ قد يكون نقد الذات، كجزء من نقد الدولة والمجتمع، أحدها... وقد يفتتح نقد الذات عندها، وعند غيرها، إمكانيات تدفعها لمشاركة عادلة وإيجابية وفعّالة في اختيار حداثتها التي هي حداثة الأُمّة، دون أن تكون بديلاً لقوى وحركات أُخرى. وقد تدفعها "علمنة" مّا إلى "ديمقراطيّة" مّا...
وليست الصحوة الإسلامية الراهنة والمؤقتة والطارئة بديلاً لصحوة قومية أو غير قوميّة سابقة فاشلة أو مفلسة...(1/67)
ومع ذلك يرى بعض الإسلاميين أن الخيار القومي العربي كان بديلاً عن الحلّ الإسلامي. ولكنّ مع إفلاسه الحالي لم يبقّ من تعبير عن التعلّق بالأصالة والاستقلال في مواجهة الغرب سوى الإسلام. إنّه، برأيهم، العقيدة القومية المعاصرة، والإسلام هو الحامل الوحيد لقيم التحديث والعصرنة، باعتباره العقيدة التي تعرّف بها الأجيال الشابّة عن نفسها... وإن كان المجتمع لا الدولة، هو المؤسّسة الأولى في الإسلام برأيهم!..(2).
وليس ثمّة انبعاث جديد للإسلام يرتبط بظاهرة يراد لها أن ترادفه هي ظاهرة العنف والإرهاب، كما يرى بعضهم، إذ دفع الحديث عن نظريّة فراغٍ جديد بمقولة صدام الحضارات كبديل لصراع الأيديولوجيات، ليتمّ تناول الإسلام كتعبيرٍ عن ظاهرة شرقية متخلفة في مواجهة الحضارة الغربيّة... الخ.
والإسلام لا يساوي، على أيّة حال، ما يسمّى بالأصولية أو بالإرهاب، وهو يحتفظ بقدرةٍ ثقافية حضارية، ويمكن أن يشارك في أي تغيير... ولا يساوي المسلمين جميعاً أيضاً!...
ثمة "إسلام" كثير ومختلف، وثمة بشر مسلمون كثيرون ومختلفون!
وقد اتسع الإسلام للجميع، ويتّسع للجميع، ولم يضق باختلاف، ولا يضيق بالاختلاف. عبّرت فيه ملل ونحل وفرق عن أفكارها ومثلها وهواجسها وأوهامها وأحلامها، وتجسّد فيه عقل ونقل، وبرزت فلسفة وعلوم وتصوّف وكلام، وتآوى شك ويقين وإيمان وإلحاد.... وشارك في معاناته وإنجاز مواده الحضارية عربي وأعجمي!..
ولكنه تحوّل، عند بعضهم، في مرحلة انحطاط إلى محض أصولٍ، هي جزء من أصول تغلّب النقل على العقل، والاتباع على الإبداع، وتلغي الآخر المختلف، وتخدم سلطتها الدينية السلطان الدنيويّ!..(1/68)
وإذا كانت ظاهرة الإسلام المسلّح تنتمي إلى جزء من الأصول، لا الأصول كلّها. وإذا اعتبرها بعضهم معادلةً للإسلام، فهذا لا يعني أنها تساوي الإسلام، ولا يعني أن إسلام الأصول يساوي الأمّة أو المجتمع، وما تيّار الإسلام السياسي، بعبارة أخرى، إلا أحد التيارات التي يعبّر كلامها وفعلها عن شكل من أشكال الصراع الذي يُقطّع ليظهر، ويؤجّل فيندفع، مادامت الدولة لا تمثّل المجتمع، ومادامت القوى في المجتمع لا تجسّد إرادة الأمّة بعد؛ وبخاصة بعد إخفاق نهضةٍ وهزيمة أمّةٍ وانخلاع حداثة!...
لم يستنطق المحور الأول تجربة بعض ممثلي التيّار الديني، ولم يتعرّف خطابه من الداخل، ولم يستكشف إمكانيّة افتتاحه لخطاب إسلامي مختلف هو خطاب الإسلام كله كما تجلّى في تعدّده واختلافه.... أليس الإسلام كثيراً في وحدته؟
*
في المحور الثاني يؤكد جورج حبش على مراجعةٍ في العمق تهدف إلى إنتاج فكر قوميّ أصيل، بعد أن يلاحظ انصراف المفكر القومي إلى اليوميّ والسياسيّ والمباشرة والمساجلة من قبل، واتّسامه بالتسرّع في الاستنتاج والميكانيكية في قراءة التجربة الأوربيّة، بالإضافة إلى شيوع ذهنية القطع من التاريخ، والعجز عن التوفيق بين الأصالة والحداثة. ويلاحظ أن فشله يعود إلى عناصر منها ماهو داخلي، ومنها ماهو خارجي، على الرغم من إنجازاته... بينما يتفاءل د.جورج جبور بتجديد الفكر القوميّ وعقلنته.
ولكنه يتساءل عن الطريقة والعمل لبلوغه!
ويميّز الياس سحاب الالتباس الفكري بين العروبة كهويّة تاريخيّة وبين الأيديولوجيا القوميّة الحديثة الذي كان من نتائجه مشاحناتٌ وصراعات بين التيار القومي العربي من جهة والتيار الماركسي والليبرالي من جهة ثانية. ويربط الحل التاريخي لقضيّة فلسطين بوعي الغنى التاريخي والنّقد والتنوع التاريخيين اللذين تكوّنت منهما العروبة لا بالتصالح بين الصهيونية والعروبة!(1/69)
يقرر د.برهان غليون أن الاتجاهات السائدة في نقد القوميّة، وفي فهم أزمة الفكر القومي لا تنطلق من دراسة التجربة العملية والواقع التاريخي. وينجم عنها الاعتقاد بأن التحوّل الفكري نتاجٌ اختياريّ إرادي.
ويسوّغ انحسار الحركة القومية بعاملين: أحدهما تغيّر جدول الأعمال التاريخي تحت تأثير الأوضاع الدوليّة والقوميّة ، وثانيهما إنجاز الحركة القومية جزءاً من جدول الأعمال القومي، فالفكرة القومية العربية، برأيه، لم تعد قادرة على تقديم أيّ إنجاز جديد، ولم يعد وجودها سوى تغطيةٍ أيديولوجية على مصالح النخب القائمة في السلطة... بل إن مأزق القومية من حيث هي عقيدة ونظام يترافق مع مأزق عقائد قوى المعارضة وعجزها عن التغيير، والأنموذج الفكري للحركة القومية العربية، عنده، "يساعد على فهم المشكلات المطروحة في عصر العولمة!"..
أهو يفترض نهاية الفكرة القومية العربية، مع أنّه يؤكّد في أحد هوامش بحثه على أن الفكر القومي ليس موحّداً ومتجانساً، وهو أكثر انقساماً وتنوّعاً اليوم عما كان. ولكن! هل يعني هذا التنوع انحسار الفكرة القومية وأنها لم تعد ضرورية للوحدة أو الاتحاد أو التكتل مادامت تصطدم بالمفهوم الجديد للديمقراطية الذي يركّز على احترام التعدّدية السياسية؟ وإذا كان القوميون الجدد يؤكّدون على التعدّدية الثقافية والاعتراف بالأقليّات وضمان حقوق الإنسان ورفض الفكر العقائدي، فهل يتناقض هذا الاتجاه القومي "الجديد" مع المفهوم "الجديد" للديمقراطية؟
ستلاحظ فهمية شرف الدين انهيار المثل والأفكار التي يمثلها الفكر القوميّ بعد وصول الأحزاب القومية إلى السلطة. وتقرّر أن لمفهوم التجديد أهميّة مركزيّة، لتتساءل عن إمكانيته في ظل العولمة، وعن قابلية الفكر القومي على إنجاز تعديلات في جهازه المفهومي تمكّنه من استيعاب التحدّيات الجديدة، ولتربط، مع غيرها، الأفق الحقيقيّ لأيّة نهضةٍ بالحرية والديمقراطية.(1/70)
وسيتّفق عبد الإله بلقزيز مع غيره أن الفكرة القومية انتهت إلى فكرة نخبويّة وانقلابيّة، كما انتهى المشروع القومي إلى مشروع دولة قطريّة، كما أن مركزيّة الفكرة القومية أدّت إلى التنازل عن مبادئ في خطاب النهضة مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية... والفكر القومي لم ينتج نظريةً في الدولة القومية، بل أنتج نظرية في الأمّة، كما أن تسييس الفكرة القومية أعاق تنمية وعي نظري، فأصبح الخطاب القومي خطاب مؤسّسةٍ.
ولم تحقق الفكرةُ القومية هيمنةً ثقافية تتحوّل بها إلى أيديولوجيات سياسية للأمّة...
ويستنتج أخيراً أنه لابدّ من إعادة النظر في المعمار الفكري والسياسي والقومي لتأهيله مجدّداً من أجل حمل مشروعٍ نهضوي لا يمكن إلا أن يكون ديمقراطياً واشتراكياً...
ويستخلص د.فؤاد خليل أن العروبة الرسميّة في النظام العربي السائد مظهرٌ لأزمةٍ شاملة تمسّ الوجود والهويّة والاجتماع والسياسة... ويجد ماهر الشريف أنه لابدّ من استكمال بناء القومية العربية كي تتحقق النهضة، بعد أن أشار إلى مثالية الفكر القومي وتبشيرّيته ولا ديمقراطيته، وإن امتلك وعياً واضحاً بالتخلّف، وركّزعلى الوعي القوميّ، وأراد أن يسبق الزمن، ويحقّق نهضة سريعة عن طريق الانقلاب أو الثورة... ....
وفي دراسته عن الأنموذج اللبناني وتيّارات الفكر القومي يرى موريس نهرا ضرورة رفع راية عروبةٍ ديمقراطية حضارية تعزّز الروابط القوميّة، وتراعي الخصوصيّات، وتستلهم التراث، وتنفتح على ثقافة الغرب وحضارته دون ضياع الهويّة....
ويذكر د. محيي الدين صبحي في دراسته عن الياس مرقص وتجديد الفكر القوميّ بأن هذا المفكّر أنقذ النظريّة القومية من المثالية والذاتية والصوفية والفاشية، وقدّم أصوب وأكمل تركيب بين القومية والماركسيّة!(1/71)
وفي تعليقه على القسم الأول من محور إشكالية النهضة في الفكر القومي يرى فيصل دراج أن الواقع العربي لا يعاني من انهيار الفكرة القومية بل من انهيار السياسة. ولابدّ من إعادة الاعتبار إلى السياسة التي يكشف انطفاؤها أزمة المجتمع العربي كله لا أزمة نظامٍ سياسي معين. ولابد من إحياء الفكرة القومية والقتال من أجلها أيضاً، وبخاصةٍ في عصر العولمة الجديدة ...
والقضيّة القوميّة، عنده، تستدعي اليوم مقولات جديدة مثل المجتمع المدني والديمقراطية والدولة الحديثة والوطن والمواطن كما أن مقولة التأخر التاريخي المتجدّد هي في أساس المنظور المأزوم إلى الفكر القومي!..
الفكر القومي، إذاً، يعاني أزمة يعيها ... المشروع القومي أيضاً في أزمة يعيها، ويمكن أن يتجاوزها ما دام مشروعاً قيد الإنجاز. وقد يتفاءل بعضهم بما أنجز من جدول أعماله، إذ استطاعت بعض نخبة أن تستولي على السلطة في هذا المكان العربي أو ذاك، لتغدو عائقاً أمام تجديده، وجزءاً من أزمته التي تعبر عن تناقض مصالح هذه النخبة مع مصالح الأمّة بمعنى ما.
وممّا لا شك فيه أن وضعاً تاريخياً جديداً يقترح مفهومات مختلفةً وطرائق تفكير وعمل مختلفة تتجاوز مفهومات وطرائق قديمة، وبخاصة بعد أن تحوّلت دولةً شبه حديثة وشبه قومية إلى دولة تحافظ على كيانها القطريّ، لتحتفظ نخبتها أو شبه نخبتها بعوائد السلطة والثروة، ولتتساوى جمهوريّة شبه شعبية مع مملكة أو إمارة ومشيخة!
ولأن كلّ مفهوم ينتجه واقع وتاريخ، فلابدّ أن يكون أيّ مفهوم قابلاً للمناقشة، كي لا يتحوّل إلى "مطلق" تحتفي به سماء الفكر بعيداً عن أرض الواقع والتاريخ ... .(1/72)
وفي كل مرحلة من حياة العرب الحديثة والمعاصرة كان ثمة نقد بمعنى ما، وكان ثمة نقد إلى حد ما أيضاً ... وكانت الفرضيّة الرئيسة التي انشغل بها، واشتغل عليها، هي نهضة الأمّة والشعب أو المجتمع أو الوطن. وتحوّل مفهوم النهضة، التي كانت إحياء قومياً أو بعثاً قومياً إلى مفهوم الثورة، أكانت ثورة عربية قومية أم طبقية أم إسلامية ... وانتهى مفهوم الثورة إلى مفهوم الحداثة!
برز مفهوم القوميّة العربيّة كظهور حضاري عربي حديث للإسلام في دنيا العرب، تمثّله نزعات قومية عربية وعروبية إسلامية. ورأت نزعاتٌ عروبيةٌ وإسلاميةٌ مثاليّة عبقرية الأمة في لسانها. ومن قداسة "مطلقات" عربية وإسلامية، وقداسة "اللغة" منها، كانت قداسة مفهوم "الأمة" الذي استحضر الأسلاف أو بعض الأسلاف في حركة طليعةٍ أو شبه طليعة ونخبةٍ أو شبه نخبة تستهدف إحياء دور الأسلاف الإنساني!
وكان للفكرة القومية عناصرها وموادها الأصولية، على الرغم من أنها تكلّمت على أمراض الأمة أو المجتمع من فقر وجهل ومرض، وانطلقت من فرضية رئيسة هي فرضية "الاستعمار ضدّ الأمة" أو"الإمبريالية ضدّ الأمة"!.
وقد اختبر أكثرُ من مشروعٍ نقديّ مفهومات الفكر القومي وموضوعاته ومواده من داخله، ومن خارجه أيضاً ...
وتعيد أمثلة نقدية معاصرة، هي جزء من مراجعة نقدية راهنة، تأمّلها!
وقد تكون هذه الأمثلة جزءاً من مشروع خطاب عربي معاصر يتدرّب على النقد أيضاً!.
***(1/73)
يقرّر د. محمد جابر الأنصاري أنّ الجغرافيا ضدّ الأمة العربية، لأن الإقليم العربي لا يتمتّع بوحدةٍ طبيعية أرضية متلاحمة عضوياً، ومتواصلة تضاريسياً وطبوغرافياً، فالتجزؤ السياسي ساعدت عليه الفراغات الصحراوية الهائلة بين مراكز العمران والاحتياجات الرعويّة الكاسحة. ولم يتبلور مصطلح علمي متفق عليه يدل على وحدة "الإقليم العربي"، إذ ظهر مصطلح "الوطن العربي" مع مطلع القرن العشرين في الأدبيات القومية الوحدوية والأحزاب ذات الأيديولوجية الوحدوية، واقتصر الأمر في البداية على آسيا العربية. وارتبطت إضافة أفريقيا بمعالجة ساطع الحصري لأهميّة مصر الحيوية ... ولم تكن
أقطارٌ كالصومال وموريتانيا وجيبوتي تُعتبر أجزاء لا تتجزأ منه منذ زمن
بعيد ... . الخ(3).
وتكمّل فرضيّة (القبيلة نقيض الدولة) عنده فرضية (الجغرافيا ضد الأمّة)، فالمجتمع العربيّ كان، وما يزال، بدوياً أدّى فيه شقاق السياسة إلى تمذهب الدين وتصارع الفرق ... التاريخ السياسي للحضارة العربية الإسلامية أكثر عناصرها ضعفاً، على الرغم من تألقها الروحيّ والعمرانيّ، فهي تعاني من فقر دم سياسي منذ التأزّم المبكّر للخلافة الراشدة. وهذا التأزم السياسي ظاهرة مزمنة، ويرجع، برأيه، إلى "طبيعة ذاتية"، في العرب الذين لم يخبروا العيش في دولةٍ منتظمة وثابتة ... وحركات التغيير قادرة على (انقلاب الدولة) وعاجزة عن (بناء الدولة) بتياراتها المختلفة ... وما ظاهرة الدولة الوطنية إلا من نتاج تعدّد الكيانات، وليست نتيجة خالصة للتجزئة الاستعمارية ... . ويمكن للوحدة أن تتّم عبر تنمية الدولة القطرية ... والمجتمع المديني هو شرط المجتمع المدني الذي هو شرط الديمقراطية وقاعدتها، فليس من مجتمع مدني في البادية أو الريف التقليدي، ولا حضارة بلا مدن ... . الخ!(1/74)
كيف تمتلك الأمة إذاً مشروعها القومي إذا كانت الجغرافيا ضدّها، و"التأزّم السياسي المزمن" يرجع إلى "طبيعة ذاتية" متأصّلة ومقيمة، وبخاصة إذا كانت الجغرافيا من أقل العوامل تعرّضاً للتغيّر في تاريخ الشعوب؟(4).
وكان د. برهان غليون في تشخيصه محنة الأمة العربية قد اقترح فرضيّة (الدولة ضدّ الأمة)(5)، إذ اعتبر الدولة المعاصرة أو الدولة التحديثية فقدت طابعها القوميّ، أيّ تحولت إلى دولةِ أقليّةٍ اجتماعية تفرض مذهبها
وفكرها ومصالحها، وتحوّلت إلى دولةٍ سلطانية، واستدعت نشوء خلافةٍ
وبابويّة ... (8) ...
وما نعيشه اليوم، برأيه، ليس إلاّ تاريخ انحطاط الدولة التحديثية وفسادها الشامل، فهي دولة المركزية الشديدة والسلطة المطلقة، غير تمثيلية وغير ديموقراطية، لا تمثّل مصالح الأمّة أو الشعب، نزعتها القومية أو الوطنية تعني التمحور على الذات، والدفاع عن السيادة والعنف اللذين يخصّانها ... هي دولة استبدادية جائرة وطغيانيّة، هويّتها نابعة من مفهوم بيروقراطية الدولة التاريخية ... الخ. وقد عاشت، وجدّدت نفسها انطلاقاً من التزامها الشكليّ أو الفعلي بمبدأ تحديث المجتمع، وجعله مجتمعاً تاريخياً معاصراً، واستمدّت منه أيضاً ما تتمتّع به من شرعيّة ... . ولا يمنع تقديسها المحبطين منها أو المهمّشين بسبب سيادتها من النزوع إلى تدميرها ... الخ.
وسيستنتج أنه إذا لم يكن هناك دولة- أمة عربية، فإن هناك أمّة- جماعة تؤكّد نفسها في أغلب الوقت إلى جانب الدولة أو ضدّ الدولة، أي أن هناك قومية عربية روحيّة ثقافية وسياسية وتاريخية ... . الخ!(6).(1/75)
كانت نخبة قومية أو شبه نخبة تنتمي إلى الأمة أو ذات نزعة قومية أو وطنية، وكان لها مشروعها القومي الذي يمثل مصالح الأمة بمعنى ما، ولكنّها انقلبت على هذا المشروع إذ استولت على السلطة، وتحوّلت إلى أقليّة اجتماعية تتمثل في "مجتمع النخبة"، الذي صنع بيروقراطية الدولة، أو الدولة "البيروقراطية" بفسادها الشامل، ولتكون ضدّ الأمّة التي تمثّل أغلبية اجتماعية أحبطت، وهمّشت ...
وإذا افترضنا بأن الدولة التحديثية القطرية التي أنتجها تعدّد الكيانات هي شبه دولةٍ أو دولة مؤقتة فإن علاقتها بالمشروع القومي هي علاقة مؤقتة ما دامت لا تمثّل الجماعة- الأمة، ولا تهدف حقاً إلى تأسيس الدولة الأمة ... وسيبقى المشروع القومي قيد الإنجاز.
وعلى أية حال فإن تأزماً سياسياً مزمناً من طبيعة ذاتيّة متأصّلة، ويعمل، مع عوامل أخرى، على تكرار رسوب العرب في اختبارات السياسة، لا يؤدي إلاّ إلى نهايةٍ عبثية، كما أن الاختيار الديموقراطي يفقد جدواه ما دامت الأغلبية الاجتماعية لا تعي ذاتها كجزء من مشروع قوميّ هو مشروع الأمة. وما دام هذا الاختيار ليس من إنتاج "علمنة" العقل" وعلمنة" المؤسّسة!
أهي جدلية السياسي والحضاري في التكوين العربي، تلك الجدلية البالغة التفارق والتغير والحساسية والحدّة، كما يفترض د. الأنصاري لأن الذين يحكمون لا ينتجون، والذين ينتجون لا يحكمون، فالمدينة المحكومة تنتج الحضارة ولا تنتج السلطة، بينما البادية الحاكمة- أعجمية كانت أم عربية تنتج السلطة، ولا تنتج الحضارة؟
أم هي جدلية الأقلية الاجتماعية والأغلبية الاجتماعية التي تتمثّل في مجتمع نخبة ودولة تحديثية معاصرة يعملان على إلغاء "الأمة" التي تنتج دولتها القومية، التي هي دولة أغلبية! وليس ثمة من نخبة حقاً ما دامت هي نخبة سلطة!(1/76)
وعلى أيّة حال فإن نقد الدولة التحديثية وغير التحديثية وشبه التحديثية هو جزء من نقد الذات أو من نقد الأمة الذي يفترضه تأسيس مختلف لمشروع قوميّ مختلف!
وقد تشكّك فرضيّة "الجغرافيا ضدّ الأمّة"، باحتمالات مشروع قومي عربي، وإن اعتبرت الدولة القطرية مدخلاً إلى الدولة القومية في مستقبل قريب أو بعيد، كما تضمر فرضيّة (الدولة ضدّ الأمة) احتمالات منها نهاية المشروع القومي الذي عملت بداياته على مفهوم هويّة مطلقة ومنجزة ونهائية ومفهوم أمّة مكتملة في الواقع وفي التاريخ، لابدّ من بعثها في مستقبل قريب أو بعيد، وتستبدل بها مفهوم المصلحة أو القوّة أو الإرادة أحياناً.
هل يقوّض الفكر القوميّ إجابته السابقة، إذ انتهت سلطةُ نخبةٍ أو شبه نخبة إلى أن تكتفي بإقامة دولتها القطرية شبه الحديثة، وانتهت سلطة نخبة أو شبه نخبة بدوية إلى أن تكتفي بنهب "ثروة" انفجر عنها باطن أرض سعيدة أو غير سعيدة!
إن نخبات "قومية" مختلفة تعيد تأسيس سؤالها على هذا النحو أو ذاك، وبخاصة مع نهاية قرنٍ عملت على حرق جزء كبير من مكتبةٍ ردّدت، وكرّرت إجابات الأصول، أكانت الإجابات من فهرس الإصلاح الديني أم من ورق المفكّرة القومية أم من أدراج ماركسيةٍ شائعة متشابهة ومتمايزة!
***(1/77)
في المحور الثالث: إشكاليّة النهضة في الفكر الماركسيّ العربي يقرّر د. رفعت السعيد أنه يمكن الحديث عن فكرٍ ماركسي مصريّ، وآخر سوريّ، وثالث لبناني، أو عن أفكارٍ ماركسية نابعة من تجارب وممارسات في مختلف البلدان العربية ولا يمكن الحديث عن فكر عربي ماركسي، أي عن نتاج عربي متميّز في الحقل الذي افتتحه ماركس، بينما يلاحظ د. عبد الإله بلقزيز إجحافاً في حقّ التراث الفكري الماركسي العربي الذي كان في أساس نشوء خطابه حاجةٌ اجتماعية سياسية وحاجة فكرية منذ ثلاثة أرباع القرن. وكانت الماركسية مطلباً معرفياً مشروعاً للجواب على أسئلة نظرية حادّة، ولإشباع حاجات فكرية ضاغطة على الوعي والثقافة.
ولكن المؤسّسة الحزبية برز فيها فقدان حاسة النقد والنزعة الدعاوية والاقتصادية الطبقوية والتجريبية والنزعة اللاتاريخية والنزعة الأيديولوجية النضالية ... . الخ.
ويقترح د. ماهر الشريف أفكاراً للنقاش حول إمكانيّة إسهام الماركسيّة العربية في إطلاق نهضة جديدة، بعد أن يتوقف عند مناقشة كل من مهدي عامل وسمير أمين وعبد الله العروي لمصدر إنتاج الفكر الماركسي، وعلاقته بفكر النهضة فيها وظهور الإسلام السياسي وغيرها ... ومما يقترحه وصل ما انقطع بين الماركسية والفكر التنويري لحركة النهضة ومصالحة الماركسية والقومية. وسيكون، برأيه، في وسع الماركسيّة كوْنَنَة ماركسيّةٍ جديدة ومنفتحة، تقيم حواراً نقدياً مع ماركس نفسه، ومع كلّ الإضافات المستقلّة في الحقل الذي افتتحه ...
ويربط عطيّة مسّوح وفود الفكر النهضوي إلى مصر وبلاد الشام بمقتضيات التطوّر المحلي، فيذكر قنواته، ويعتبر نكوص النهضة فيما بعد نسبياً ومتفاوتاً وتدريجياً، فغياب فكرها لم يكن كاملاً، لأنها حاجة رئيسة فكراً وممارسة، إذْ ظهرت في مرحلة اتسمت بانهيار الإمبراطورية العثمانية وظهور الإمبريالية، على الرغم من ضعف حاملها الاجتماعي وضعف وعي الجماهير النهضوي ...(1/78)
وقد تجلّى موقع التيار الماركسي، برأيه، في ربط النهضة بالتقدم والعدالة وتأمين الفرص المناسبة لأبناء المجتمع.
ويميّز مرحلتين في الفكر الماركسي العربي، تتلخّص المرحلة الأولى في تعريف القارئ بالفكر الماركسي عن طريق عرض الماركسية، كما فهمها الكاتب العربي آنذاك. وتترافق المرحلة الثانية مع تأسيس الأحزاب الشيوعية وارتباطها بالكومنترون، أي الماركسية الرسمية وقد اتسمت بتراجع النشاط الفكري والتصوّر القاصر للأممية، وتراجع النزوع القومي والمتناقض مع القوى الاشتراكية ورفض الليبرالية والتشكيك بالديمقراطية والكتابة عن الاتحاد السوفياتي ...
ويلخّص خطأ الحركة الشيوعية العربية بتقديمها المسألة الطبقية على مسألة التحرّر الوطنيّ والنهضة المجتمعية وتبنّي الأنموذج السوفياتي. ولكنه يبرز هويتها النهضوية في مواقفها تجاه مشكلات التحرّر والعلمانية والديمقراطية، وإن لم تكن واضحة تجاه مشكلة الهويّة ومشكلة الديمقراطية ويردّ استصغارها دَوْرَ المثقفين إلى فهمٍ مبسّط للمفاهيم الماركسّية حول
الطبقات ... الخ.
وربما تطابق بعض آرائه وملاحظاته، وتكامل مع أكثر من رأي وملاحظة في مشروعات اشتغلت على نقد الفكر الماركسي والفكر القومي منذ بضعة عقود، كما اقترحتها أعمال الياس مرقص بشكل خاص!
يعلّل كريم مروة فشل النهضة العربية الأولى بأسباب داخلية تتعلّق بكوْن شعوبنا أسيرة تاريخها، وبكَوْن سلطة الدين ومؤسساته مكرّسة لخدمة مصالح السلطة السياسية والاقتصاديّة في الدولة والمجتمع.(1/79)
ولذلك كان الإصلاح الديني شعاراً أساسياً. وكانت ولادة الأحزاب الشيوعية والحركات التي استندت إلى الماركسية، برأيه، استمراراً لحركة النهضة الأولى. وفي النهضة العربية الثانية كان التقاء التيارات القومية والشيوعية حاجة موضوعية على الرغم من خلافاتها حول قضايا مثل قرار تقسيم فلسطين والوحدة السورية- المصرية والخصوصيّات الوطنية والتعصّب القومي والاستبداد السلطويّ باسم القضية القومية ... . الخ!.
والآن! بعد سقوط مشاريع النهضة وانهيار التجربة الاشتراكية يبقى الحلُّ عِنده، هو تجديد الاشتراكية فكراً ومشروعاً سياسياً، وهو المدخل إلى إطلاق نهضة عربية جديدة.
ويذكّر بأن جوهر فكر ماركس هو النقد بكل معانيه، نقد الواقع ونقد الأفكار والمفاهيم، وهنا تكمن قيمته الكبرى. ولذلك فإن فكره سيظلّ حاضراً في كلّ الأبحاث المستقبليّة ... .
ويستخلص من وجهة نظر نقدية، أن مفهوم حزب الطبقة العاملة أصبح من الماضي، إن لم يكن خاطئاً. ولكن بديله لم يظهر، ولابدّ من بديل. كما أن صيغة البرنامج الذي يعيش طويلاً هي صيغة مضى زمنها أيضاً، فالتعدّدية والديمقراطية اللتان يجري الصراع من أجل تطويرهما هما السمة الأساسية لهذا التطور.
ويلخّص مهمّات تنتمي برأيه إلى المشروع الاشتراكي للنهضة، منها ما يتّصل ببناء القاعدة المادية للتغير مثل بناء دولة ديموقراطيّة حديثة، والنضال من أجل تحرير الأرض المحتلة، وتوطيد علاقات التكامل بين البلدان العربية والاهتمام بالبيئة والمحيط وغيرها، ومنها ما يتّصل ببناء القاعدة الروحيّة والأيديولوجيّة للتغيير مثل الاهتمام بالتراث الثقافي والاجتماعي الذي يشكل أساس تحديد الهويّة، والاهتمام بالثقافة بكل فروعها، بالإضافة إلى الاهتمام بالشباب والمرأة وغيرها ...(1/80)
ويلاحظ أخيراً بعض تناقضات الوعي وصور الخلل في الحياة العربية مثل العرقية والأثنية والدينية والمذهبية، بالإضافة إلى القدريّة والتكاسل والتسوّل والارتزاق والفردية المطلقة وفقدان المعايير والهروب من الواقع ومجاراة التطبيع ... ... .الخ..
يردّ د. فؤاد خليل إشكالية النهضة إلى مأزق الانتقال في الاجتماع العربي، والتي هي الأصل المشترك لكلّ الإشكاليات اللاحقة. ويلاحظ الحاجة الماسة لتجديد الفكر العربي بكل تياراته، انطلاقاً من أنه لا حقيقة مطلقة ونهائيّة في التاريخ، ولا شكل واحد لتطوّر التاريخ البشريّ. كما يلاحظ إخفاق التيارات المختلفة، فتيّار الإصلاح الديني أخفق في تحويل زمنه التاريخيّ إلى زمن مهيمن، ولم توفّر البنى الاجتماعية للتيار الليبرالي بيئةً مناسبة لنمذجة مستلهمة من الغرب، أما التيار القومي العربي فعجز عن حلّ مشكلات التجزئة المجتمعيّة، كما عجز عن تحقيق التوحيد القومي. والتزمت التعبيراتُ السياسيّة للفكر التغييري بالنضال الأيديولوجي والطبقي، وأسقط الجدل الميكانيكيّ المفاهيمَ وأدواتَ التحليل على الواقع العربي ... الخ.
ويستخلص أن الديمقراطية هي نمط التعبير الواقعيّ والموضوعيّ عن مجتمع تركيبه متنوّع في طبيعته، وأن القوميّة والأمة ظاهرتان تاريخيتان، ولا حتمية في التاريخ، كما أن الماركسية هي إحدى مرجعيات العلم في الميدان الاجتماعي والإنساني، وليست المرجعية الوحيدة. والفكر الماركسي العربي يطرح الآن قضيّة التحديث كأولوية يندرج في متنها النظام العربي وإشكالية بناء الدولة الوطنيّة الحديثة وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات وعقلنة الرأسمالية ... الخ. الخ.(1/81)
ويلاحظ زياد ماجد أنه ما من نظام عربي أعلن الماركسية هويّة وسياسة وفلسفة حكم، وأن القوى الشيوعية العربية تفاوتت تجاربها بتفاوت علاقتها مع الأنظمة، وظلّت أكثريتها نخبويّة، وإن استنهض بعضها قواعد جماهيريّة، ولجأت في مستوى الخطاب الفكري والسياسي إلى محاولات تقليّدٍ وقفزٍ فوق الحقبات وحرقٍ للمراحل، وتحوّلت بناها التنظيمية إلى مؤسسات حزبية تديرها هيئاتٌ تقلّد الأنموذج السوفياتي. وكان للماركسيين العرب مواقعهم الطليعية في العلوم والفنون الإنسانية، إذ شخصوا أزمات مجتمعاتهم وطبقاتهم ... الخ.
وستبقى الماركسيّة حاضنة لكلّ محاولة نهوضٍ وتنمية وتجديد فكري وتطبيقي برأيه، وستبقى الاشتراكية السبيل إلى نهضة عربية جديدة أفقاً تنموياً، دون التخلّي عن الماركسية كأداة تحليل وفلسفة ونقد وبحث دائم التطوّر ...
تشير أخيراً مراجعة لكتاب نقد العقلانية العربية لإلياس مرقص إلى نقد الماركسية العربية من مواقعها، وفي أفق تجديدها ... وتتناول قضيّة البدء من المفهوم في أية ممارسة إنسانية كما ينظر إليها مرقص الذي يرى أيضاً أن مفهوم الدين وجد منذ الاجتماع الإنساني، وأن الوحدة هي جدل الفروقات والاختلافات في التنوع والتغاير، وأن نقد ماركس كان للمؤسسة الدينية، وليس للدين ... الخ. وتكمن، عنده، مستقبلية الماركسية في أنها نظرية نقدية تنقد غيرها، وتنقد ذاتها من خلال الممارسة ... وهو يؤكد دفاعه عن التغاير والاختلاف والتنوّع، ويميّز الاختلاف من الصراع ... . والتعدّد، كما يراه كمٌّ، لا يعني تنوعاً، بينما كلّ تنوع تعدّد ... والديمقراطية تنوع أولاً، وتعدّد ثانياً، والتعدّدية ليست ديموقراطية ... الخ.
ولابدّ من سيادة الفكر حتى لا يصبح تابعاً للسلطان، وليتمكّن من نقد السياسة الراهنة في المجتمع العربي
لابد أيضاً من التأسيس لفكرٍ عربيٍّ مستقبليٍّ وعقلانيةٍ عربية تقدمية!
*(1/82)
كلّ التيارات قابلة للنقد إذاً: التيار الإسلاميّ والتيّار القوميّ والتيّار الماركسي(7)، ولكلّ تيّار أن ينقد ذاته، كما ينقد غيره، وهذه (الحالة) النقدية ليست جديدة، فقد كان ثمة محاولات تناولت مشروع النهضة الأولى بأبعادها الإسلاميّة والعروبية الإسلامية والإسلامية العروبية، واستخلصت عوامل إخفاقها واستمرارها في أشكال وقوى ونوى متنوّعة.
وكانت محاولات تناولت مشروع النهضة الثانية كما جسّدتها قوى ونظم قومية بمعنى ما، وتأمّلت هزيمتها في إنجاز مشروعها القومي، كما تناولت بالنقد الفكر القومي والنخبة القومية والدولة القطرية التي أنجبتها يوتوبيا قوميّة اكتفى ممثّلوها الشرعيون وغير الشرعيين بعوائد السلطة القطرية، وكانت محاولات أيضاً تناولت التيار الماركسيّ باتجاهاته المختلفة، واستكشفت إنجازاته وتراجعاته، وأوهامه وأحلامه، تاريخه وواقعه ... .
واكتشفت محاولات نقدية مختلفة أقنعة حداثةٍ تنكّرت بها قوى ونخبات قومية وماركسيّة، ربما كان في مقدّمتها محاولات الياس مرقص وياسين الحافظ ومهدي عامل وعبد الله العروي وآخرون ...
والآن! لتشملْ المراجعةُ النقدية الجميع! وليتحاورْ الجميع! وإذ كان الجميع ينتمي إلى الأمة، ويهدف إلى إنجاز مشروعها، فمن حقّ الجميع أن يمارس نقد ذاته ونقد غيره، فكل نقد هو جزء من نقد الذات، أو نقد الأمة!..
وقد يكون الاعتراف بالهزيمة بداية نقدٍ يهدف إلى تجاوزها ... ولا أحد أحسن من أحد!
لم يستطع مشروع النهضة الأولى أن ينهض بالأمّة. كما أن مشروع النهضة الثانية الذي اشتغل على خطاب نهضة وخطاب حداثة لم يستطع أن "يحدّث" المجتمع أو الأمة ...(1/83)
ومع العقد الأخير من هذا القرن سقطت مفهوماتٌ واحتمالاتٌ وإمكانيّات، وانفجرت مفهومات واحتمالات وإمكانيات أيضاً ... قُوِّضت مطلقاتٌ وأجوبةٌ ومكتباتٌ كيما تؤسس للسؤال، الذي هو سؤال الذات والموضوع، الهوية والحداثة، التماثل والتغاير، الأمة والمجتمع، المهمّش والفاعل، السلطة والثروة، العالم والمعرفة ... الخ!
يستكشف الجميع ما آلت إليه قوى وتنظيمات ونخبات وسلطات قطرية أو قومية!
ويتّفق الجميع على أهميّة النقد بعامة ونقد الذات بخاصة، وضرورتهما!
ويعلن الجميع الاختيار الديموقراطيّ أولاً، وإن اختلف بعضهم على العلمنة!
*
إذا كانت مجلّة "الطريق" قد اختارت أن تقارب مفهوم النهضة وإشكالية النهضة، فإن مجلة "الآداب" قد اختارت أن تقارب مفهوم الحداثة ونقد الحداثة والحداثة العربية، بالإضافة إلى نقد نقد الحداثة.(8).
وقد نظرت مقدّمة ملفّها الأول إلى الحداثة كموضوعٍ خطير ينتمي إلى فضاء نقديّ في الثقافة العربية الحديثة يراجع الأفكار نقدياً، ويحوّلها إلى إشكاليات، ويطرح عليها الأسئلة من جديد، على حدّ تعبير معدّ الملفّ محمد جمال باروت الذي يفترض أن القرن العشرين هو قرن انتصار الحداثة في المنظور الاقتصادي التقني، كما هو قرن النقد الجذري لعقل الحداثة ولأساطيرها، وتحويلها من مشروع سيطرةٍ إلى مشروع تحرير. ولذلك سيهتمّ الملفّ بإبراز مفاهيم النظريّة النقديّة المرتبطة بمدرسة فرانكفورت، وبإضاءتها من وجهات نظر ومستويات متعدّدة، لما لها من أهميّة محورية في نقد الحداثة!(1/84)
وتذكّر مقدّمة الملف الثاني بأن الملفّ الأول عالج إشكاليات نقد أيديولوجيا الحداثة في علاقتها بمسائل العقلانية والعلمانية والميتافيزيقا والدولة والسيطرة والعقل الأداتي. وترى في أنموذج الحداثة العربية أكبر عائق أمام استملاك الحداثة الفعلية، لأنه أعاد إنتاج ما عمل على تقويضه، وانتهى إلى عكس الأهداف التي انطلق منها ... وقد نعت هذه الحداثة معجمٌ وصفيّ دلالي خاص في استخداماتنا بأسماء مثل الحداثة المغدورة والمبتورة والمهمّشة وغير المنجزة معبّراً عن الحسّ بمأزقها، وعن الأمل في تملّك الحداثة الفعلية أيضاً!
ما الحداثة الفعلية إذاً؟ وكيف تُمتَلك؟ وهل هناك حداثة عربيّة حقاً؟ وأيّة حداثة هي هذه الحداثة العربيّة؟
إنّ ملفّ الحداثة ملف مهمّ وخطير، كملفّ النهضة، وبخاصة عندما يتمّ تناوله في إطار موضوعه العربي، كموضوع أنجز، وينجز، ولا يزال قيد الإنجاز. ولعل الخطاب النقدي الذي ينتمي إليه يعيد النظر في مفهوماته وقضاياه، وينتج سؤاله العربي الذي يضطر إلى استعارة أسئلته وأجوبته من حداثة غربٍ هي حداثة العالم!.
إن نقد الحداثة الذي يتقنّع على هيئة مشروع حداثةٍ عربية مفترضة ما يزال أسير حداثة الآخر يحتشد بألفاظ وأسماء وأشكال ورطانات وادعاءات، وكأن حداثة هي شبه حداثة تفرز نقداً هو شبه نقد، لم يتدرّب على امتلاك حداثته! وإذا تدرّب على امتلاكها فليستدعي بعض أنموذجات تراثية من الأصول يرى فيها صورة سابقة لحداثة الآخر. وكأنه يخرج الحداثة من تاريخها، أو يستعير بعض مفهومات حداثة غربية يرطن بها!
تتحوّل الحداثة في الغرب، وتفتتح دائماً احتمالات وإمكانيات لتجاوز ذاتها بنقدها، وتنجز من داخلها أفقاً يدعى الآن ما بعد الحداثة، كجزء من نقد الحداثة لذاتها، وكجزء من تحرّر الحداثة وتحريرها!(1/85)
ويتجوّل خطابٌ نقدي عربي حول حداثة ما، ويتكلم على حداثة من نوع مّا، فيكرّر كلاماً قيل من قبل، ويقال الآن، وقد يقال فيما بعد. وتحتكر نخبةٌ أو شبه نخبة سلطةً ثقافية تعلن من خلال وعيها الدنيويّ الضديّ بميوله الديمقراطية ونزعاته العقلانية، وهو يختصر الحداثة إلى لعبةٍ أو ألهية أو شبه مذهب، إذ تعامل معها كظاهرة طارئة ومؤقتة، يستطيع أن يستعير مفرداتها وأزياءها الأخيرة، بدلاً من أن يعمل عليها كظاهرة كونيّة تفعل فينا، وفي العالم، وإن نمت في الغرب على نحو، يعبّر عنه تغيّرٌ كبيرٌ في أدوات الإنتاج المادي وقواه وعلاقاته مرتبطاً ومتلازماً مع تغيّر عمليات إنتاج المعرفة وعلاقاته ... .
وإذا كان أيّ تحديث ماديّ يفضي إلى حداثة فكرية، فما هي الحداثة الفكرية التي اقترحها شبه تحديث عربي، ويقترحها، بمظاهره الشائعة المعلنة والمضمرة؟ وكيف انعكست آثاره على الإنتاج النظري والثقافي والنقدي والإبداعي؟.
وهل تعبّر عن هويّةٍ هي قيد الإنجاز أم تنفصل عن مقدمات هوية يتمّ تجاهلها أو تآكلها؟
تهجم مظاهر التحديث وظواهره ومواده وإعلاناته على نحو خارجي وإعلامي من الاقتصاد إلى الفكر، ومن الفن إلى قصيدة النثر ومن الزيّ إلى الآلة، وتتدخل في تشكيل روحيةٍ عربية ليست قديمة وليست حديثة أنموذجاتٌ تتجاور فيها ماديّة ماركس وحفريات فوكو وتفكيكات دريدا مع منهجيات إسلامية وقوميّة مثاليّة وصوفيّة وأصولية!
هكذا يتظاهر بيان الحسبة في الإسلام، كما يتجوّل بحذر بيان الديمقراطية الحديث في أمكنة الحياة العربية. ويصاحب جنوح "الموضة" وعبثها وخوفها وقلقها تقليد الكوفيّة والجلباب والسروال وسيطرة أكثر من حجاب. ويتردّد فتى عربيّ مسلم في الدخول إلى عرض مسرحيّ، ما دام يعرف أنه يدخل المسجد باليمنى والمرحاض باليسرى فقط! ويصرّ طفلٌ عربيّ على التبول والتبرّز قرب حائط دورة مياه حديثة في مدرسته الريفية، ما دام آذن المدرسة يصر على إغلاق بابها في وجهه!(1/86)
وتطلق نخباتٌ وجمهراتٌ حديثة وشبه حديثة وغير حديثة شعارات مشبعة بمجاز التحوّلات، بينما تطلق نخباتٌ وجمهرات أخرى ليست قديمة وليست حديثة شعارات الأصول الأولى والمطلقات الأولى وهوية الينبوع!
ويرطن النقد بمفهومات بنيوية وأسلوبية وسيميائية وتفكيكية. ويتأمّل ثقافة عصرٍ جديد يتحوّل فيها الوعي الذاتي إلى علامة من علامات النظام، وتختزل العلاقة فيه بين الأفراد عبر اتصال معلوماتي وثقافة استهلاكية، وكأن ثقافة الأطراف هي ثقافة المركز، ما دامت قد شاعت تكنولوجيا الألكترونيات الدقيقة عبر فضاء الاتصالات، ولم يعد نقل التكنولوجيا غير العقلاني عامل التبعية الوحيد!
ويكرّر النقد الآخر مفهومات الأصول السابقة محتمياً بمزاج كتلة قومية أو اجتماعية يفترض أنها مازالت تعيش عصرها الذهبيّ القديم!
فهل يستطيع خطابٌ عربي نقدي معاصر أن يحرّر أصوله، وأن يتحرّر من حداثته؟
*
في ملف مجلّة "الآداب" الأوّل يقارب د. يوسف سلامة مفهوم الحداثة، فيرى في مفهوم سيادة العقل سمتها المميّزة انطلاقاً من مبدأ التنوير وفلسفة التنوير، أما العلمانية فهي عنصر من عناصر تعزّز سلطة العقل التي تفتتح من خلالها الحداثةُ أزمتها وتقتضي ممارسة النقد لما تمّ إنجازه وإعادة الاعتبار إلى الطبيعة وإلى الذات الإنسانية ... .
ويشير إلى معنيين تتضمنّهما الحداثة في التفكير الغربي المعاصر، أوّلهما ارتبط بالحركة النقدية في تفكير الكنيسة الرومانية الكاثوليكية اللاهوتي مع نهاية القرن التاسع عشر، وثانيهما ينظر إلى الحداثة كنمط حضاري مضاد للتقليد.
وكأنّ التغيّر المستمرّ عنصر جوهري في الحداثة، يفضي إلى وجود أزمة أو إلى مجموعة مشكلات متداخلة ومترابطة وملحّة تفرض على المجتمع مراجعة شاملة منطلقة من الأزمة لفترة تطول أو تقصر، لتؤسّس نوعاً من العقلانية ...(1/87)
تقترن الحداثة، كمنتج تاريخي، بالعقلنة. وهي مزيج من العقلنة والعلمية لا يتناقض مع النزعة التاريخية. وهي نوع من هيمنة العقل على المجتمع تتخذ صورة سيادة القانون الذي يتطلع إلى سيادة الكلي في المجتمع، ما دامت لا تعترف إلا بسلطة العلم ...
وينوّه المقال، كغيره في هذا الملّف، بموقف مدرسة فرانكفورت من مفهومات العقل والعقلانية والتقنية والعلم، وتحوّلِ العقل إلى عقلٍ أداتي والعلم وفلسفة التنوير إلى أسطورة ... .
والحداثة، كدالّ مفارق عند د. منذ عياشي، تتضمّن تمرّدها على ثوابت دلالة الأسماء ومفارقتها، فهي دال منقطع عن سلفها من حيث كينونتها اللغوية، لأنها حضور بلا تاريخ. وهي من حيث التكوين تضاد وصدمة، وليست بديلاً ... وكفعل منعكس على نفسه، يبدع فاعله، ثم يلغيه ... وعلى اختلافه المنشغل بنفسه فيه لا ينفي وحدة المؤتلف ... وتحويل الحداثة إلى أيديولوجيا يخرجها من ذات نفسها إلى سواها ...
وهو يقرّر أن الحداثة العربية ليست سوى وهم، ممثّلوه كذبةٌ كبيرة في الثقافات العربية، ما دام منطق الحداثة العربية مضاداً لمنطق فعل الحداثة ... فعل الحداثة برأيه، ينطوي على زمان خاص بحدوثها، غير قابل للانتقال أو العبور أو التكرار أو التقليد أو المحاكاة، ينبذ المطابق ... وهو زمان استثنائي يمكن أن نصطلح عليه بالزمان الغربيّ الحديث ... الحداثة أيضاً تمثل، وفق تعبيره، لحظةً ناتئة ومختلفة، كفعل غربيّ ومحض ولازم ... وهي كدالّ مكاني، بما هي دالّ زماني، تنكشف عن مكان مغاير لا يقبل المطابقة مع الأمكنة الأخرى ... الحداثة مكان غربي تختلف المدن فيه بناء فمنظوراً فمفهوماً لاختلافٍ جذري بين الحضارة والحداثة، لأن مدن الحضارة مدن مؤسسة، ومدن الحداثة مدن مؤسِّسِه ...(1/88)
وقد أعلن اللاهوت التكنولوجي موت الإله ليضع الإنسان محلّه بوصفاً صانعاً أو خالقاً، كما أعلن موت الإنسان ليضع الآلة مكانه، وحلّت التكنولوجيا محلّ الله والإنسان، لتعزّز الحداثة في مرحلةِ الهيمنةَ على العالم، وفي مرحلةٍ أنموذجاً عرقياً نازياً أو فاشياً للحكم، وفي مرحلةٍ أفرزت مدنها الهيمنة والعنف المنظم والمخطط والمعزّز تكنولوجياً واقتصاداً وسياسة وثقافة ومجتمعاً ... الخ.
يتوقّف عمر كوش عند وجهتي نظر في نقد الحداثة، أولاهما تنظر إلى ما عرف بما بعد الحداثة، كما قدّمها (ليوتار، دريدا، فوكو) والثانية تنظر إلى الحداثة كمشروع لم يكتمل كما قدّمها (هابرماس) بخاصة!
ويلخّص القول الفلسفي للحداثة عند (هابر ماس) مذ كانت مشروعاً فلسفياً عند كانت، وكما تجلّى في نقد الحداثة عند نيتشه بتفكيك الحقيقة والمطابقة، وبتفكيك الميتافيزيقا عند هيدغر وبالتفكيك كاستراتيجية نقدٍ شامل للعقل وللميتافيزيقا، تعمل على مفهوم الاختلاف ... الخ.
ويشير إلى ممارسة هابرماس لعقلانيةٍ جديدة قائمة على الفعل التواصلي عبر عقل تواصلي يستمدّ معطياته من العقل النقديّ للحداثة ... .
ويبتدئ محمد جمال باروت مقاله بالإشارة إلى وصف آلن تورين القرن العشرين بقرن سقوط الحداثة، أي أيديولوجيا الحداثة التي كان تاريخها تاريخ تحويلها إلى أسطورة أو أيديولوجيا كتاريخ للعقلانية ولتأليه العقل ... ويدعو إلى عقلانية مفتوحة تعترف بما هو عقلاني وغير عقلاني في نقدها أيديولوجيا العقل ... ويرى أن نقد الحداثة من داخلها هو عامل تحريرها، كما يقترح أدغارموران، فالعقلانية المغلقة ترتبط بالاستبعاد والتهميش، وعقلانية العقل الأداتي عقلانية سيطرة لا تحرر تدمَر أبعاد العقل المتعدّدة، وتختزله إلى
أداة تقنية ...(1/89)
ويستنتج أن إعادة النظر في العلاقة الداخلية بين العقلانية والحداثة لا ينفصل عن نقد أيديولوجيا الحداثة في ضوء عقلانية مفتوحة، بالانتقال من العقل الأداتي إلى العقل المتجاوز النقديّ ... .
ويذكّر محمود منقذ الهاشمي بحقّ النقد كمبدأ "رئيس في الحداثة"، وبعاملي الحركة والتغيّر، وبمفهوم الشك كمبدأ للمعرفة في الفلسفة الحديثة ... ويذكر مثال التخريب البيئي كأحد مضاعفات الحداثة لجزء من أزمتها، ومن أزمة الحياة نفسها ...
ولكن الحداثة تبقى، برأيه، نقيض الأصولية، والديمقراطية وجهها الذي ترافق مع الاستعمار ... ويفضّل القول مع هابرماس بالحداثة كمشروع لم يكتمل بدلاً من البحث فيما قبل الحداثة أو فيما بعدها ...
ولابدّ من نقد الحداثة لأن أزمتها هي أزمة حياة الإنسان على هذا
الكوكب ... ولابدّ للديمقراطية أن ترتبط بالتعددية والتسامح بالتنوير ... الخ.
ويقرّر كريم أبو حلاوة أن الحداثة لم تعد ظاهرة تاريخية، بل تحوّلت إلى ما يشبه الدين، وأنتجت العلمية والوضعية أو العقلانية الأداتية التي أنتجت ما يسمّى أزمة الحداثة التي يحدّدها آلان تورين بقوله: "إن القوّة التحريرية للحداثة تستنفذ كلما انتصرت الحداثة!
ويُعْني مع غيره بالاحتجاج النيتشوي وبتقويض الميتافيزيقا عند هيدغر في نقد الحداثة، بعد إشاراته إلى أعمال هيغل وماركس وغيرهما. ويلاحظ مع غيره أيضاً، معطيات النقد الذي ارتبط بمدرسة فرانكفورت، والتي رأت أن العقل التقنيّ، وقد أفضى إلى تحرّر الإنسان، غدا أسطورة تخنق الإمكانيات الإنسانية!
ويستخلص أنه لابد من البحث الدائم عن آفاق السؤال والاهتمام بنقد السلطة والعائلة والفاشية وكشف آليات السيطرة في الثقافة ونقد الدولة الحديثة ومؤسّسات السيطرة الكليانية، باتجاه نقد العقلانية الأداتية(9).(1/90)
يردّد ملفّ نقد الحداثة والحداثة الغربية بخاصة ما يقدّمه منتج الحداثة وما بعد الحداثة من قضايا وملاحظات، ويكرّر مستهلك منتجاتها مفهومات منتجها بعامة ... وإذا كانت أزمة المنتج مختلفة عن أزمة المستهلك، فكيف يشتغل المستهلك على نقد حداثة من وجهة نظر حديثة، لا من وجهة نظر أصولية؟
ولعلّ الدرس الأول الذي يقدّمه نقد الحداثة والحداثة العربية هو حقّ النقد الذي يؤكد أن الحداثة لم تسقط بعد، وأنها مستمرّة تشتغل على ذاتها.
في ملفّ نقد الحداثة العربية يقرّر محمد سيد رصاص أن تجربة التحديث العربية مبنيّة على الأنموذج الغربيّ، وفكرها تحكمه معيارية هذا الأنموذج، وإن اختلفت الأيديولوجيات الثلاث الليبرالية والقومية والماركسية حول أدوات التحديث والحداثة التي تبنتها. ولذلك تدور البنية الاجتماعية العربية حول إشكاليتين. العلاقة مع الماضي والعلاقة مع الغرب، كما دارت التيّارات الفكرية الثلاثة حول تضادّات ثنائية منتمية إلى ديكارت وأوغست كونت، بينما انبنت الحداثة الغربية على أسس مفاهيمية أعطت التحوّلات الاقتصادية مضمونها النظريّ، ووصل الغرب إلى فكر حداثي عبر الماركسية والبراغماتية والفرويدية متجاوزاً الإشكاليات الفلسفية الديكارتية والوضعية ... .
وارتبطت الحداثة العربية بالتوظيف الأيديولوجي لظواهر تاريخية معيّنة ضدّ الأفكار الدينية وضدّ اتجاهات سياسية من موقع مصالح الحامل الاجتماعي لفكرها ...
وتستكمل مقالة غريغوار مرشو فرضيات المقالة السابقة فتقرّر أن الهاجس الوحيد للحداثة العربية هو اللحاق بالغرب، وإعادة إنتاج الأفكار الجديدة التي كان الغرب مصدرها، ما دامت المعرفة العلمية الحقّة هي المعرفة الوافدة ... .(1/91)
وتتوقّف عند شعار العلمانية الذي رفعه دعاة الحداثة العربية، إذ افترضوا أن الدين هو مصدر انحطاط الأمّة، فهو، كشعار، سلاح أيديولوجي يموّه الواقع الأهلي، ويكرّس دونية المواطن. وليس ثمة رابط وجوب بين العلمانية والديمقراطية!
وتُرْجِع إخفاقَ الحداثة إلى سياساتٍ إرادوية منقولة عن الغرب، هاجسها توزيع السلطة على دعاة الحداثة، باتجاهاتهم المختلفة، إذ أسبغت الدولةُ القوميّةُ القداسة على نفسها، دون أن تتغذّى من فلسفة عقلانية ... .
وللخروج من حالة الانشطار الراهنة إلى معسكرين متنابذين أصوليّ وحداثي لابد من إعادة استقراء الواقع، وما يحمله من قوانين خارجية وداخلية واقتراح أسئلة وأجوبة جديدة ...
بينما يرى د. أحمد برقاوي أن المفهوم الرئيس في أيديولوجيا الحداثة هو مفهوم التقدّم، وهو ليس مستعاراً من أوربا، بل يتضمّن تجاوز الواقع إلى ما هو أرقى، فالتجزئة، عنده، أنتجت فكرة الوحدة القومية وخطاب الأمة. والحداثة العربية أيضاً ليست نسخة كاريكاتوريّة عن الحداثة الغربية!
إن التفكير التقليدي، برأيه، هو سبب التخلف. وهذا ما يسوّغ الإصلاح الديني الذي احتلّ العقل فيه موقفاً مركزياً، وكان إنتاج السلطة السياسية هو أحد الهموم الرئيسة في أيديولوجيا الحداثة، نشأت عبره حالة من التناقض بين الليبرالية كأيديولوجية بورجوازية وبين تحقّقها الواقعي، إذ اصطدمت ببنى ما قبل حدثية أو متخلفة ... ولم يثر القضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة ردَّ فعلٍ شعبياً!
ويلاحظ عودة خطاب الديمقراطية إلى واجهة الفكر العربي بعد أن عرف الشعب الهزيمة، وبروز مفهوم المجتمع المدنيّ، وبروز مأزق الحداثة القومية والأيديولوجيا القوميّة ... .
ويقرّر أن بذرة الاستبداد جاهزة في أحشاء الأيديولوجية القومية وهو مأزقها، فإخفاق المشروع القومي الحداثوي ليس قائماً في طوباويته أو رومانسيته أو لا علميته، وإنما في عدم فهم طبيعة القوى النابذة للحداثة القومية ... الخ.(1/92)
ويلاحظ على الشيوعية العربية هاجس الانتقال من مجتمع طبقي متخلّف إلى مجتمع لا طبقي حديث، إذ ساد لديها منطق النزعة الميكانيكية والإرادوية، على الرغم من أن الماركسية كانت، ومازالت، أكبر مشروع حداثي ... وإذا كانت الحداثة الليبرالية تمرّ عبر الدولة الديموقراطية العلمانية فإن الحداثة القومية والشيوعية أعلنت عقمها، وتبنّت فكرة الديموقراطية الشعبية ... الخ.
ويستخلص نتائج منها أن الحداثة مازالت مشروعاً عربياً مؤسّساً على فكرة تجاوز القيم، وهو يغتني الآن بالمراجعة النقدية ...
ويقترح بضعة أسئلة شاع طرحها من قبل، والآن، مثل: هل الديموقراطية إمكانية أم لا؟ أيجب القطع مع الماضي؟ هل هناك حقل لفعل الإرادة؟ هل تطوّر العالم الأوربي عامل في تجاوز التخلف؟ ... ... الخ!..
ويعلّق شمس الدين الكيلاني على مفهوم دولة النخبة ونخبة الدولة في أنموذج برهان غليون الفكري، فيلاحظ أن الحضارة عنده تجاوز المدنيّات، وأن المدنيّة الغربية وحدها تحوّلت إلى موقع الحضارة. كما أن تجديد المدنيّة يعني مراجعتها لذاتها. ولذلك كانت الحداثة العربية انعكاساً لصراع موضوعه محاولة السيطرة على الحضارة بقدر ما تشكّل ميداناً لتفتّح المدنيّات وتطور الثقافات. والمدخل لفهم هذه الأزمة تجدّده مسؤوليةُ الدولة عن مصير الحداثة، فالدولة الاستبداديّة ونخبها مسؤولةٌ عن انهيار الحداثة. وليست القطيعة بين الهويّة والتحديثيّة، سوى مظهر لأزمة التحديث المشوّه والانطواء على الذات ... أمّا العقلانية فتظهر استيراداً مفقراً للنظريات أدخلتها فئاتٌ عليها لتخليد سيطرتها وإخراج الجماعة ... . الخ!
وقد ترجمت الدولة التحديثية فكرة التقدّم تقليداً للأنموذج الغربي.
وإذا كانت العقلانية قد تحولت عندها إلى عقيدة، فإن العلمانية تصاعد طلبها مع إخفاقها، إذْ حوّلتها النخبة إلى شعار تمييز اجتماعي ...(1/93)
إن نقده الحداثة العربية هو المدخل إلى رفع قيمة الديموقراطية، وتجاوز الدولة القطرية إلى عالم المدنية العربية لتتمكّن الجماعة العربية من الحوار الفعّال مع الحضارة الراهنة ... الخ. ومع ذلك يلاحظ مَطْلعُ المقالة أن وجهة نظر برهان غليون لم تتطهّر من نظرية التبعيّة والتمحور على الذات، وأن منهجه الطبقاوي يمسّ معالجة مسألة الديموقراطية، وأن تحليله تغلب عليه النظرية البَعْديّة للتاريخ على حساب النظرة النسبيّة التاريخية، ونصّه يتّسم بالاستطراد الذي حرمه أحياناً ضبط مصطلحاته الإجرائية!
وهكذا يكون نقد الدولة التحديثية، بل نقد نخبتها، هو المدخل إلى نقد الحداثة العربية بعامة ... فهل ينفصل نقدها عن نقد المجتمع؟
***
في تعليقه على ملفي "الآداب" وتحت عنوان "نَقْدُ نقدِ الحداثة" يلاحظ جورج طرابيشي أن الملّفْين يتعاملان مع الحداثة كفضاء عقلي شمولي، وأن العقبة المسبقة تبدو في شبه الاستحالة الابستمولوجية لنقد الحداثة في المجتمعات العربية ما دامت لم تمرّ عليها مرحلة الحداثة ...
ويميّز بين منتج الحداثة ومستهلكها الذي ليس له استطاعة تأثير على قرار المنتج. فالإمكانية الأبستمولوجية الوحيدة لنقد الحداثة من قبلنا في مجتمعات ما قبل الحداثة هي أن ننقدها بما ينقدها عليه مثقفو مجتمعات ما بعد
الحداثة ... الخ!
وسيلاحظ أن النظرية النقدية الكبرى لمدرسة فرانكفورت غير ذات موضوع، إذ سقط المشروع الشيوعيّ بعد هزيمة المشروع النازي بخمسة وأربعين عاماً وتخطّت الرأسمالية الغربية المرحلة التايلوردية بدخولها الثورة المعلوماتية ... .. وستبقى جدارة هابرماس في استئناف مشروع التنوير. أمّا ما بعد الحداثة الفرنسيّة فقد أسّست، برأيه، عبارة حقيقيّة للاختلاف بهدف تفكيك المركزية الغربية. وبدلاً من أن يكون حقّ الاختلاف جسر الحداثة الغربية إلى الاعتراف بالآخر غدا سلاحاً من أسلحة الحركات الأصولية!(1/94)
ويتساءل عن غياب التيّار الأصوليّ عن الملفّين، وإن كان هذا التيار غير معنيّ بنقد الحداثة، ما دام يرفضها!
ومن خلال مفهومي إرادة المعرفة وعلاقة الفكر بالقوة يقدّم في مناقشات عددٍ تالٍ عماد الدين شيخ الجبل مقاربةْ تفكيكيّة لملفّ نقد الحداثة بوصفه خطاباً منتجاً من قبل إرادة المعرفة العربية.
وتتضمّن أيضاً نقداً للنزعة العدميّة التي انتهى إليها جورج طرابيشي، ودعوته غير المعلنة للفكر العربي إلى تقديم استقالته في عصر ما بعد
الحداثة ...
وهو يفترض أن الاستحالة الأبستمولوجية التي أشار إليها طرابيشي هي استحالة سلطوية في جانبها الأعمق. وتطرح نقد الأساس السلطويّ الاقتصادي لإنتاج المنظومات المعرفية في داخل حداثتنا ... . بل إن مشكلاتنا اليوم لم تعد مع التراث، ولا مع تحديث الدولة، بل تتحدّد من خلال مجموعة أزمات مازالت إرادة المعرفة العربية مفتقرة إلى القوّة التفسيريّة اللازمة للتعامل معها ... .الخ!
وإذا كان زماننا هو زمان عولمةِ الحداثة، وإذا كانت حضارة الحداثة الغربية قد صارت كونيّة، وإذا كانت الثقافات التي لا تتفاعل مع الحداثة أفقر من الثقافات التي تتفاعل معها، فكيف تدخل مجتمعاتنا إلى الفضاء العقلي للحداثة، سواء أكانت لم تمرّ عليها مرحلة الحداثة أو كانت ما قبل حديثة، أو عرفت نتفاً من الحداثة السياسية الاقتصادية والعسكرية والتربوية والقانونية والإعلامية التكنولوجية!
وكيف يتحوّل مستهلك الحداثة إلى منتج؟
وما دام نقد أيديولوجيا الحداثة ليس ردّة على الحداثة، بل محاولة لوضعها في منظور نقدي، فإن المستهلك والمنتج يمكن أن يباشرا هذا النقد، ويمكن للمستهلك أن يكون مشاركاً فاعلاً في هذا النقد، مهما اختلفت أشكال التحديث التي عرفتها، وتعرفها، مؤسّساته!
والتحديث لا يساوي التغريب أو اللاهويّة في عالمٍ ستكون حضارته موحّدة، وثقافاته متعددة!(1/95)
إنّ الفشل العلميّ لا القصور النظري وحده، لتجارب التحديث العربية لا تتمثّل مقدّمته الكبرى في هزيمة حزيران 1967، وإنّما في بنية المجتمع العربي المتأخرة. وليست الهزيمة، وسواها، إلا إحدى تظاهرات هذه البنية التي لم تُخَلْخَلْ إلا من خارج، وكنتيجة لمضاعفات الحداثة التي وفدت إليها أو صدمتها، أو استدخلت فيها نتفاً متفرقة!
وإذا كانت المراجعة النقدية ممكنةً، فإنها تتسّع الآن لنقد الأيديولوجيات الثلاث الماركسية والقومية والليبرالية بالإضافة إلى أيديولوجيا الأصول بعامة. وربما كان عاملاً في استكشاف "الأصولية" التي تكمن في كلٍ من الأيديولوجيات الثلاث، بالقدر الذي تتجلى في الأيديولوجيا السلفية!
وإذاكانت طبقة اجتماعية هي البورجوازية، حامل الحداثة الغربية الاجتماعي، فهل ينتظر مشروع الحداثة العربية ظهور هذه الطبقة الاجتماعية، كما يُنْتَظر المهديّ المنتظر، أم أن استئناف المشروع القومي قوى ومجتمعاً ونخبات، فكراً وسلوكاً وعملاً، يمكن أن يطلق قواه الاجتماعية، لينتج حداثته كجزء من حداثة العالم!
إن الحداثة العربية لا تزال مشروعاً قيد الإنجاز، كما هي مشروع قيد النقد أيضاً ... . وقد يحتمي بعض هذا النقد بنزعة شعبية أو شبه شعبية تردّد مطلقات الأمّة والمجتمع، وكأن الهويّة مشروع مطلق ونهائي ومنجز مادته إدانة الحداثة، لا الاحتجاج عليها فحسب!
لم ينته زمان الحداثة في الغرب أو في العالم بعد، ولن تنتهي الحداثة أيضاً ... فكيف نمتلك الحداثة بما هي فضاء شمولي للعقل وللعمل؟ وكيف يتفاعل حقّ النقد مع مفهوم الاختلاف ما دامت الحداثة هي النقد؟ وهل يمكن أن نختزل الحداثة كلها إلى حداثة أدبيّة، والحداثة الأدبية إلى حداثة شعرية، ونكتفي بالنزاع على الألفاظ؟ وأيّ مستقبل يُتوقّع من صراعٍ على ملكيّة الماضي مارسته التيارات كلها، باتجاهاتها المختلفة، وكأن امتلاك الماضي من وجهة نظر أصحابه يحدّد امتلاك المستقبل!
*(1/96)
إن شعار النقد يفترض شعار الحوار!
وسيرى بعضهم أن الحوار الممكن الآن هو حوار الساحة الفكرية الداخلية الذي يدفع التيارات جميعها تجاه هدف مشترك. ويعني بها التيارات الدينية والقومية والماركسيّة والليبرالية، وهي تيارات لا يمكن أن نختزلها إلى اتجاهين: ديني وعلماني يتبادلان الاتهام فيما بينهما، كأنّ يتّهم الاتجاه الدينيُّ الاتجاه العلمانيّ بالعمالة والتغريب والتضاد مع الهوية والدين والتراث، ويتهم الاتجاه العلمانيُّ الاتجاه الدينيّ بالماضوية وعدم استيعاب العصر والجهل ... الخ(10).
في "مشروع ميثاق العمل الإسلامي"(11)، وهو صالح أيضاً كميثاق للعمل القومي، "يلاحظ د. محمد شحرور أن مشاريع الحداثة لم تفِ بوعودها ورسّخت نظماً استبداديّة تحت شعار العلم والحداثة والتقدميّة، أما الصّحوة الإسلامية فتسير في متاهات.. ويفرّق بين العقد والميثاق، ويؤكد على حريّة الاعتقاد وحرية الضمير وحرية الرأي والتعدّدية الحزبية وتداول السلطة، وعلى الديموقراطية في المجتمع كشكل يمارس الإنسان حريته من خلاله. وله مرجعيات أبرزها ميثاق الإسلام وميثاق الإيمان والمرجعية المعرفية والجمالية ... الخ!
ويرى أن للعمل السياسي ميثاقاً شأنه شأن المواثيق الأخرى. ولا يخرج عن المنطق الأساسي للإسلام وأساسه حرية الناس في الاختيار، باعتبارهم عباد الله ... الخ!
ويعي بعضهم الدور المنتظر للإسلام، فيهدف إلى رسم ملامح أخلاقيّة أفضل للقرن القادم، كي يسجّل التاريخ أن الأمّة العربية والمسلمة، بما لديها من طاقات حضاريّة، تعي المشكلة الأخلاقيٍّة في العالم ... .(12)!.(1/97)
ولا يكتفي بالتوقّف عند المشكلة الأخلاقيّة، بل يطرح ما يسميّه شعار (التاءات الثلاث): تحرير، تفعيل، تغيير، منطلقاً من دور النقد البنّاء في عمليّة حرق المراحل: النقد البنّاء على طريقة "كانت" لتحرير العقل، والنقد للتفعيل على طريقة "هيغل" ونقد المجتمع للتغيير على طريقة "ماركس". ويقرّر أن مجتمعنا يحتاج للأنواع الثلاثة بآن معاً، أي للتفعيل وللتحرير وللتغيير. دون التنكر للحضارة التي حفرها التاريخ في الذاكرة الجماعية للمجتمع العربيّ المسلم ... .. إلخ.
وكأن هذا الوعي الذي هو وعي مسلم، أو إسلاميّ، في أساسه، يعلن إمكانيّة توظيف عناصر ملهمة في حداثة الغرب، دون أن يلغي علاقته بذاكرته وتاريخه وانتمائه. أو كأنه يدعو بشكل ما إلى "التوفيق" بين معطيات التحرير والتفعيل والتغيير في الغرب والمعطيات الروحية أو الأخلاقية التي أنتجها، وينتجها مجتمع عربي مسلم ... . الخ!.
يربط د. طيّب تيزيني أيضاً الخروج من المأزق التاريخي الراهن بحريّة البحث العلمي وما يتطلّبه من حوار علميّ ومفتوح وملتزم، وبالعقلانية وما تشترطه من رؤية متبصرة ونقديّة، وبالتاريخية في ضبطها الحدث ضمن كيفيّة تجليه بشريّاً على نحو مفتوح أفقياً وعمقياً، وبالجدليّة، في اشتراطها النظر إلى الأشياء والظواهر والأحداث في الكون الطبيعي والوجود الاجتماعي البشريّ ضمن سياقاتها وعلائقها ونموّها واضمحلالها، ومن مواقع فواعلها الرئيسة الحاسمة والثانوية على نحوٍ يكشف عملية التحوّل والتغير فيها ... الخ(13).
وشعارات الحرية والعقلانية والتاريخية والجدلية لا تتناقض مع شعارات التحرير والتفعيل والتغيير، على الرغم من أن د. طيب تيزيني يقرّر أن الوضعية الاجتماعية المشخّصة هي مرجعيته في قراءة هذا النص الدينيّ أو ذاك، الذي يستكشف أعماقه الروحيّة، بمعنى مّا، ويرى أبعاده الماديّة والاجتماعية ... .(1/98)
وبعد اشتغاله على نقد الخطاب العربي المعاصر كمقدّمة لنقد العقل العربي بنيةً وتكويناً، بأنظمته الثلاثة من بيان وعرفان وبرهان وبعد حماسة للبرهان بخاصة، وللعقلانية بعامّة. وبعد حماسة للحداثة الغربية كمرجعيّة راهنة، يجد د.محمد عابد الجابري أن تطبيق الشريعة، التطبيق الذي يناسب العصر وأحواله وتطوّراته يتطلّب إعادة بناء مرجعية للتطبيق. والمرجعية الوحيدة، التي يجب أن تعلو، برأيه، على جميع المرجعيات الأخرى هي عمل الصحابة ... إنها المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تجمع المسلمين على رأي واحد ... ويعلّل ذلك بكونها سابقة على قيام المذاهب وظهور الخلاف، وهي أيضاً الصالحة لكلّ زمان ومكان، لأنها مبنيّة على اعتبار المصالح الكليّة (14). وهكذا يتمّ تأصيل الأصول، عنده، على أساس اعتبار المصلحة الكلية!
هكذا تُقاس تطوّرات هائلة في حياة معاصرة، تختلف عن حيواتنا الماضية، بمقياس التراث أو السلف.
ويرى فكر عربي معاصر- وهو يتفاعل مع أكثر المنهجيات حداثة- مرجعيّة للتفكير أو للعمل في هذا الجانب أو ذاك من مفاهيم وسلوكات تنتمي إلى التراث الإسلامي ...
ويرى أيضاً فكر إسلامي عربي معاصر أنه يستطيع أن يستثمر روح الحداثة النقدية الغربية هادفاً إلى التحرير والتغيير، دون أن يتنكر لروح الإسلام!
وتتحوّل مرجعية اجتماعية مشخّصة إلى مرجعيّة روحيّة ترى هواجس "علمنة" سابقة وقديمة في التراث ترجع إلى حياة "المدينة"، بينما يجد اتجاه ابستمولوجي أو آخر تحليلي في العلمانيّة مسألة زائفة. وكأن العلمنة والديموقراطية ليستا جزءاً من الحداثة!
تتآوى "أمشاج" مختلفة ومؤتلفة، متناقضة، ومتداخلة، قديمة وحديثة، حديثة وشبه حديثة، سلفية وتنويرية، ماركسيّة وقومية، في فضاء العمل الثقافي العربي بعامة، ويحاول النقد في بعض الأحيان أن يصالح بينها، ويجتهد بالتوفيق بينها في أحيان كثيرة ...
وفي مراجعتنا النقديّة كثير أو قليل من التوفيق ...(1/99)
فهل التوفيقية ظاهرة في طريقة تفكيرنا؟
وهل هي ظاهرة قديمة أم جديدة؟(15).
إن مجتمعاً يتعلّق بقيمه الروحيّة وغير الروحيّة القديمة لا يستطيع إلا أنّ يستجيب إلى قيم الحداثة التي تهجم عليه بقوّة. وقد يكيّفها وفقاً لقيمه، أو يتكيّف معها، ويكيّف ذاته وقيمه وفقها. وقد يتجاوز مرحلة التكيّف والتكييف إلى مرحلة أكثر ذاتيّة وإنتاجاً، فيتخطّى أزمته التي هي أزمة نخباته الضائعة علمانية وغير علمانية، يمينية ويسارية، قومية وعربية، إسلامية وقومية، سلفيّة وتنويرية ... . وهي نخبات أو شبه نخبات تتكلّم أصواتها المختلفة على تأخّر الشعب وتكسّر الأمة وفوات المجتمع واستبداد السلطة، مهما كانت طبيعة "اليوتوبيا" التي تحلم بها، أو تنتصر لها مخيّلتها، أو ينظّمها فكرها ... ولابدّ من يوتوبيا، على أيّة حال!
فهل تتخطّى النخبات أو شبه النخبات أزمتها، سواء أتقنّع بعضُها بمعارضةِ سلطةٍ ما، أم عقد مصالحةً معها، أم اختار عربةً من عرباتها في المقدّمة أو المؤخرة؟
***
ماذا ستنتج مراجعة نقدية تراهن على حداثةٍ هي مشروعٌ تتجاور مؤسّسته الحديثة مع مؤسسة قديمة تكرّر درسها القديم في خدمة السلطة بدلاً من خدمة المجتمع؟ ولِمَ تنتج أنظمةُ حداثةٍ وشبه حداثةٍ تطرّفاً مضاداً للحداثة؟ وهل تحاول التيّارات الدينية والقومية والماركسيّة في الفكر أن تعيد النّظر في تجاربها وأفكارها حقاً في داخلها، وفيما بينها ... ؟
وإلى أيّ مدى اشتغلت هذه التيّارات على مفهوم الحداثة؟ وهل كانت حديثة حقاً؟ وكيف تتحدّث، وتُحدَّث، وتُحدِّث؟
تفترض المراجعة النقدية للذات الحوار بين الذات والآخر، والذي هو مدخل إلى نقد الأمة، أو وعي الأمّة بذاتها. وهو نقد يتطلّب الاعتراف بحقّ الاختلاف!(1/100)
لسؤال الحداثة العربية احتمالاته المفتوحة، وهو سؤال هويّة، بما هو سؤال حداثةٍ(16)، ربما كان قادراً الآن على أن يرتفع بالعقل إلى مستوى ينقد فيه ذاته، ما دام مشروع المراجعة النقدية راهناً. ولعله يؤسّس لوعي لحظته الذاتيّة في أثناء هذه المراجعة النقدية وبعدها!
((
( هوامش ومراجع:
1-مجلّة "الطريق" بيروت.
-العدد(1)، 1997، محور بين الإصلاح الديني والإسلام السياسيّ. شارك في موضوعاته: د. طيّب تيزيني، د. يوسف سلامة، د. ماهر الشريف، محمد جمال باروت، وجيه كوثراني، كريم مروة.
-العدد(6)، 1997، محور إشكالية النهضة في الفكر القومي العربي، شارك فيه: د. جورج حبش، د. جورج جبّور، د. برهان غليون، د. فهميّة شرف الدين، موريس نهرا، د. ماهر الشريف.
والعدد(1)، 1998، شارك فيه، د. عبد الإله بلقزيز، د. فؤاد خليل، د. محيي الدين صبحي، فيصل درّاج ...
-العدد(5)، 1998، محور إشكالية النهضة في الفكر الماركسي العربي.
... شارك في موضوعاته: عطيّة مسوح، د. رفعت السعيد، د. عبد الإله بلقزيز، د. ماهر الشريف.
والعدد(6)، 1998، شارك فيه كريم مروة، د. كاظم حبيب، د. فؤاد خليل، زياد ماجد، نقولا الزّهر..
2-د. حسن ترابي وآخرون، حوارات في الإسلام: الديموقراطية، الدولة، الغرب. مركز دراسات الإسلام والعالم، ندوة الطاولة المستديرة، دار الجديد، بيروت 1992، ص36-37-43.
3-د. محمد جابر الأنصاري، العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العربي، دار الساقي، بيروت 1998، ص25-27-55-77-78-118-201 ... ..
4-زين نور الدين زين، الصراع الدوليّ في الشّرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار، بيروت 1971، ص9.
5-د. برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت 1986، ص293.
6-د. برهان غليون، المحنة العربية: الدولة ضدّ الأمّة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993، ص16-17-99-297-301-302.(1/101)
7-نذكر، على سبيل المثال، أعمال كل من الياس مرقص وياسين الحافظ في نقد الفكر القومي والماركسيّات العربية الشائعة بالإضافة إلى الأيديولوجيا السلفيّة ...
8-مجلّة "الآداب"، بيروت.
- ملّف (نقد الحداثة) العدد (11-12)، 1998.
... شارك في موضوعاته: د. يوسف سلامة، د. منذر عيّاشي، عمر كوش، محمد جمال باروت، محمود منقذ الهاشمي، كريم أبو حلاوة.
- ملف (نقد الحداثة) العدد (1-2)، 1999.
... شارك فيه: محمد سيّد رصاص، غريغوار، مرشو، د. أحمد برقاوي، شمس الدين الكيلاني.
- مراجعة جورج طرابيشي للملف الأوّل والملفّ الثاني بعنوان:
... (نَقْدُ نقدِ الحداثة)، العدد (3،4)، 1999.
- تعليق عماد الدين شيخ الجبل، باب (مناقشات)، تحت عنوان:
... نقد "نقد الحداثة"، ونقد جورج طرابيشي، العدد (7،8) 1999. ويرى في ملّف نقد الحداثة الذي طرحته مجلّة "الآداب" للمناقشة والحوار علامةً فارقةً في الحداثة العربية، فهو إعلان عن تنوير جديد، يهدف إلى تحرير الذات العارفة العربية من السبات الدوغمائي، ومن كلّ أشكال الهيمنة التي تستبعد قوّتها المعرفيّة ...
9- رجعت موضوعات الملّف الأول إلى بضعة كتب في نقد الحداثة، منها كتاب آلان تورين، نقد الحداثة بترجمته المصرية أو السوريّة، بالإضافة إلى كتاب هابرماس القول الفلسفي في الحداثة ...
10-مقدّمة المحرر، أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي، د. طيّب تيزيني، (الإسلام والعصر: تحدّيات وآفاق)، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، دمشق- دار الفكر المعاصر، بيروت 1998، ص8/15.
11-د. محمد شحرور، مشروع ميثاق العمل الإسلامي، كُتِبَ بناء على طلب المنبر الدولي للحوار الإسلامي، ويتألّف من إحدى وثلاثين صفحة من القطع الصغير. ص7-8-22-23-25-32 ... دار الأهالي.
12-أبحاث الموسم الثقافي الثاني لمنتدى الثقافة والفكر، ديترويت- الولايات المتحدة، (من أجل أخلاق أفضل للقرن الحادي والعشرين)، التوزيع: فصّلت للدراسات والترجمة والنشر، 1999، ص10-11.(1/102)
13-سلسلة حوارات لقرن جديد، مرجع سابق، ص108-109.
14-د. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1996، ص52-53-113
15-في كتابه (تحوّلات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970) ط2، جديدة ومنقّحة، دلمون للنشر 1988، يلاحظ د. محمد جابر الأنصاري أن الاتجاهات الفكرية الغالبة تندرج تحت ظاهرة التوفيقيّة التي تجمع عقلانية محمد عبده الإيمانية إلى تعادلية توفيق الحكيم. إلى (مدرحيّة) أنطون سعادة إلى الواقعيّة المثالية الناصرية والقوميّة بجمعها بين القوميّة والدين والمادية والإيمان ... . الخ.
... وهي ظاهرة تعود جذورها، برأيه، إلى التوفيقية الإسلامية بين الدين والعقل وبين مختلف المؤثّرات المتباينة والمتعارضة. التي هضمتها الحضارة العربية الإسلامية بعد أن قامت بعملية التوفيق فيما بينها ... الخ. ص5-7.
16-مصطفى خضر، الحداثة كسؤال هوية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996، ص5.
((
خطابُ تراثٍ أم خطابُ حداثة
بعد بضعة عقود من تجربة إنسانية عاصفة، حاولنا أن ننتمي فيها إلى مشروع حداثة، نتوقف أمام ما أنجزناه ولم ننجزه بتردد وتوتر. وبعد أن أغوتنا فكرة تغير أو تقدم يلفت انتباهنا ما تنكرنا به من أقنعة، وما تجملنا به من أصبغة.
تتآكل فتنة الصراع بين قديم وجديد، ويختلط القديم بالجديد. أما فكرة الحداثة التي أسرتنا فإنها لم تكتمل بتحرير الذات، أو بتحرير العلاقات، وهي في وعينا تعادل الحرية، وتحولت إلى "مطلق" أو "مقدس" من نوع ما، لتدفعنا إلى إلغاء علاقتنا بالمختلف وبالمغاير.
فما جدوى بيانات حداثة، هي محض طقوس ابتدأت معنا، وانتهت بالإجابة بدلاً من أن يكون عنوانها السؤال، وسلاحها التشكك والاستكشاف والتعدد والتنوع؟
قد يخيل إلينا أننا لم نعمل على تحرير الشعر والنثر والفن والواقع، بل نهضنا بالعقل والسلوك، وبالفرد والمجتمع ...(1/103)
كما يخيل إلينا –وقضيتنا قضية حداثة وتحديث- أننا تجاوزنا مفهوم نهضة وتنوير أو مفهوم تغير، وإذ بنا –نحن الذين يتوقع منا أن نقيم في العالم- ما زلنا نقرع بابه بعد. وكأننا –ونحن من كائناته الدنيوية أيضاً- لم ندخل في تاريخه، إن لم نكن قد خرجنا منه، لنستوطن أرض مدنيات تحتفل بها ذاكرة شقية ومعذبة.
ألم تكن هجرتنا في الحداثة تعللها فكرة البديل دائماً؟ في الشعر كانت القصيدة التي كتبت وفق نظام إيقاع التفعيلة بديلاً للقصيدة العربية ذات نظام البيت العربي الواحد. واقترح بعضهم قصيدة النثر بديلاً للنظام العروضي العربي، ليؤصل لها في نثر صوفي وفي أفق قرآني، إذ اضطر للولادة من رحم التراث ...
وافتتن بعضهم بإنجاز كتابة جديدة أو نص مختلف!
وكان شعار ثورة وتقدم بديلاً لإخفاق مشروع نهضة وتنوير وكانت الحداثة بديل نهضة وثورة ... ويخيّل إلينا الآن أن ما بعد الحداثة هو بديل الحداثة!
فهل ستكون الحداثة التي لم ندخل فيها حقاً، هي مرحلة عابرة أو طارئة؟
ولنتأمل سيرة حياتنا العربية المرئية وغير المرئية، السرية والعلنية!
هل ينبغي أن نضع مشروع حداثة عربية في منطقة السؤال أخيراً؟ وهل ينبغي أن يشيع السؤال بدلاً من الإجابة؟
وإذا كنا قد تعصبنا لمطالع حداثة وتفاءلنا بها، فلم لا يدعونا إخفاقنا أو نجاحنا في إنتاج حداثتنا إلى نقدها، أي إلى نقد الذات التي تتغير قليلاً أو كثيراً لأن العالم يتغير فحسب.
العالم يتغير حقاً، ونحن نريد أن نتغير بمعنى ما. التاريخ يتقدم، ولدينا من النوايا الطيبة ما يزيّن لنا أن نتقدم أيضاً. فالحضور في العالم والتاريخ ليس كمثل الغياب، والإنسان الفاعل ينتج تاريخه كما ينتجه التاريخ.
فكيف نتجاوز أنقاضنا إذا كانت الحداثة لا تتوقف عندها إلا كبرهة تاريخية. وكان لها تطوراتها التي تخطّت كل مباراة ميتافيزيقية إلى عالم الاجتماع الذي تخطته أيضاً إلى فضاء التاريخ.(1/104)
إن إنجاز قصيدة ذات إيقاع مختلف ليست عملاً بطولياً. وربما لم يكن أكثر من خلخلة لنظام عروضي تفترض تطورات متعددة تعديل بنيته وتكييفها.
والحداثة ليست عملاً في اللغة بعامة وفي الشعر بخاصة، فاللغة تستجيب دوماً لوقائع الحياة والتاريخ، وتحمل احتمالات تطورها في داخلها، كجزء من فعل كوني وشمولي تقترحه حداثة ويكيفه تحديث.
نكتشف أخيراً أن مشروع حداثتنا لم يشكل فضاءه العربي الحقيقي والواقعي الذي ينتمي إليه، ولم يلتحق بحداثة الغرب التي هجمت عليه، أو صدم، ويصدم بها، ولم يمتلك فضاءه من داخلها.
ونكتشف أننا أسرى حداثة لا نستطيع أن نتحرّر منها، أو نحرّرها، نحن أسرى التراث أيضاً الذي هو معيار خاص نقيس به حداثة الغرب التي هي معيار نقيس به تراثها.
وكيف نخرج من هذا الأسر أو ذاك؟
ولأن الثوب المستعار لا يمنح الدفء حقاً، فقد كانت أشكال الحداثة المستعارة تتراكم، ما دام الغرب لا يتوقف عن الإنتاج، وما دمنا لا نتوقف عن الاستهلاك وما دام لكل شكل جاذبيته.
هكذا استجابت هوية مكتملة يوجهها مفهوم الإسلام أو العروبة لجاذبية الماركسية، أو لسحر الذرائعية والوضعية المنطقية العملي، أو لإغواء الوجودية ويستجيب مشروع حداثةٍ عربي لفتنة البنيوية والتفكيكية ولما بعد الحداثة بعامة.
وسواء أكانت مصادرنا غربية أم شرقية فإننا نبحث عن مرجعية سابقة لهذه المصادر في تراثنا الفلسفيّ أو اللغويّ أو النقديّ أو الشعريّ.
تتراكم مصادر فتزيح مصادر، وتتآوى مرجعيات لتتناذر ... وتشيع اختلالات ليس من مهمتها التأسيس لمشروع حداثة عربية والشغل عليه، ما دمنا نستكمل أسطورتنا عن الذات بدلاً من نقدها.
وليستكمل الشعر حداثته بعيداً عن الفكر أو قريباً منه إذ اختزل هذا الجيل أو ذاك مشروع حداثة عربية إلى محض حداثة شعرية، وليلعب هذا الجيل أو ذاك دور البطل، إن أعجبته اللعبة.!.
ولكن! هل الحداثة هي حداثة شعر فحسب؟(1/105)
ومتى يكون الشعر حديثاً إذا تجاهل الفكر، أو إذا كان الشعر محض لعبة لغوية.
ألا يغدو اللعب باللغة لغواً؟
وهل يؤدي اللغو إلى إنتاج المفهوم؟
وأي خطاب تقترحه لغة لا تفكر، ولا تنتج ما تفكر فيه، وتحوله إلى عمل.
أليس الخطاب هو النظام الذي ينتجه فعل، فينتج الفعل أيضاً؟
***
يستمرّ الحضور القويّ لخطاب التراث في داخل خطاب الحداثة، كمشروع يمكن إنجازه، أو هو قيد الإنجاز. وقد حاول خطاب الحداثة أن يبحث في التراث، دائماً عن مراجع وأصول وأفكار لفرضيّاته، وإن تأثّر بثقافة شبه سائدة، تلهمها عناصر فكرية ورمزية وسياسية تنتمي إلى الخارج أو الآخر أو الغرب. وعكست منتجاته أشكالاً من الوعي تتوتر بين العلاقة مع الداخل من جهة، والعلاقة مع الخارج من جهة أخرى. وكلّها تحفزها رغبةٌ مشروعة في ولادة خطاب عربيّ حديث ومختلف. ولكنّ العلاقة مع "الخارج" ليست خارجيّة دائماً، كما أن العلاقة مع التراث ليست داخليّة فحسب!
وأيّة حداثة تحاولها، وأيّة أصالة تستعيدها، ما دام الخطاب العربي، بعامة، ينتمي إلى أصول فعليّة في الفكر الأوربي الذي توطّن عندنا. وهي أصول لا تمتّ إلى الأصالة الثقافية والأيديولوجية، كما يرى بعضهم ... (1).
نحن نتكلم على الحداثة، كما نتكلم على التراث، ونحيا فيهما، عليهما، وبهما، ومعهما، بمعنى ما.
نصغي إليهما، ونحتكم إليهما، ونحكم عليهما.. ونعيد النظر، بين مرحلة وأخرى، في علاقتنا بهما. ونختزل مواد منهما لنكيّفها، أو نتكيّف معها.
وقد انشغل الخطاب العربي، منذ أكثر من قرن، بمفهومات أصالة وتجديد وتراث وحداثة وتخلّف ونهضة ...
وحاولت نخبات متنوعة أن تصلح أحوال البلاد والعباد ... ولا تزال نخبات وشبه نخبات تردّد فرضياتها حول الذات والآخر والهوية والحداثة ...(1/106)
ونستطيع أن نتأمّل تأخر شبه "النظام العربي" الذي يشرطه تأخّر وانقسام، وتتمزّق "خطاباته"، وبخاصة بعد "غياب" الاتحاد السوفياتي، و"تفكيك" منظومة اشتراكية، و "هيمنة مركز أمريكي توجِّه العالم، عبرها، نحو عولمة أو كوننة أو كوكبة؛ أنموذجها الحضاريّ يستهوي العالم كله، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، غنيه وفقيره، حديثة وقديمه..
وهو يتحكم بأدوات اتصال حديثة وعلاقات سوقٍ وحشية، ويشيع أفكاره وطرائقه ومناهجه وأدواته بل أزياءه وأصباغه وأقنعته. ويحتكر الثروة والسلطة والمعرفة!
ويكرّر "إعلام" عربيّ رسميّ وشبه رسميّ وغير رسميّ حواراته وسجالاته وندواته حول هذه الأزمة أو تلك، سواء أعمل على "تأصيل" حداثته، و "تحديث" أصالته، أم اشتغل على التفكير بأصول ينتمي إليها:
أصول إسلامية وعربية، أو إسلامية- عربية أو عربية إسلامية، توجّه أهدافه القريبة والبعيدة مؤسّسة قديمة وشبه قديمة أو يتكيّف مع مؤسسة شبه حديثة، لعلّه يستجيب لأسئلة الواقع من داخل ذاكرة تتواصل مع "جزء" من التراث، يمارس سلطته غائباً أو حاضراً، أو يستجيب لإجابات من الخارج يقترحها التغيّر في العالم على واقعنا.
ويعلن أيّ خطاب، بشكل غير مباشر، تشوّشه وقلقه بين سلطة الداخل وسلطة الخارج. وقد يتقدّم خطاب "الأصول" كخطاب بديل يمثل التاريخ والورثة والحقيقة، بل والعمل، فيمارس سلطة مُعلنة، بالقدر الذي تشيع فيه سلطته الخفيّة ...
وفي خطاب الأصول الذي يهدف إلى أن يكون واحداً، وكليّاً وشاملاً، تجد ميولٌ سلفيّة أو تقليدية أو تراثية مرجعاً لدعواتها وصحواتها، كما تتفاعل ميولٌ قومية عربية مع معانٍ ورموز قوميّةٍ وإنسانيةٍ. وقد يتأمل اتجاهٍ علميّ وعلمانيّ نزعات ماديّة وهواجس دينويّة أو علمانية فيه. كما ينتقي نزوع عقلاني وشبه عقلاني لحظاتٍ عقلية أو عقلانية وشبه عقلانيّة ...(1/107)
وكأنّ خطاب الأصول جزء من تراث هو تراثات بمعنى ما.. فما الذي نتوقعه من تراث هو تراثات حقاً، كأيّ تراث إنساني أنتجه تاريخ هذا المكان أو ذاك، غير التعدّد والتنوّع؟!(2).
سنلاحظ وحدة من داخل الكثرة، وكثرة من داخل الوحدة! وسنرى خلافاً واختلافاً ومللاً ونحلاً تشتمل على "بذور" شتّى ونزعات مختلفة ومعانٍ متغايرة ورموز كثيرة تمثل لسعة التراث في المكان ولقوّته في الزمان!
هل ننحاز إلى جزء منه، ونتخّرب لبعض مواده وعناصره؟ وهل يتطلب "مشروع" حداثةٍ قيد الإنجاز انحيازنا وتحزّبنا؟ أليس "التراث" الذي هو "تراثات" يحضر، كله، في حياتنا: شعراً ونثراً وتربية واجتماعاً وكلاماً وطقساً، بل يحضر كسلوك، أو شبه سلوك؟!
ولكن! كيف ينتسب "كلّنا إلى التراث "كلّه" دون أن تأخذ بنا خلافاته واختلافاته ونزعاته ونزاعاته، فيكون مصدر معاصرة لا مصدر أصالة فحسب؟
وكيف نمتلك التراث كلّه بدلاً من أن يمتلكنا بعضهُ؟
في مقدّمة لمجلّد نشرت فيه أعمال ندوة "التراث وتحدّيات العصر"(3) يرى "سيّد يسين" أن "الضوضاء الفكرية السائدة اليوم في الساحة العربية لن تنتهي إلا إذا دفعنا كلّ تيّار فاعل إلى أن يحدّد بشكل قاطع مسلمّاته الرئيسة ومفاهيمه وتصوّراته العمليّة بصدد حلّ المشكلات الكبرى التي يجابهها المجتمع العربي في مسيرته نحو العصريّة. ولن يتمّ ذلك إلا بالممارسة المسؤولة للنقد وفتح باب الحوار الفكري واسعاً وعريضاً في إطار "ديمقراطي" ومن الظواهر التي لفتت انتباهه عدم التفات مناقشات الندوة بشكل كافٍ إلى العوامل الفاعلة في النظام الدوليّ، وإضفاء هالة من القداسة على الماضي، وتقديمه خالياً من الصراعات والشوائب، بالإضافة إلى هجاء "الغرب" ورفضه.. الخ ويدعو إلى الاقتراب من الجماهير بجميع فئاتها حتى نتعلّم منها كيف تفكّر، ولماذا تسلك، ومتى تقبل، ومتى ترفض، على أن نقوم كمثقفين بنوع من النقد الذاتيّ لتقصيرنا في هذا المجال.. الخ.(1/108)
ولكنّ كيف نتدرب على تقبل الاختلاف، ونحاول نوعاً من الفعل "الديمقراطي" في علاقتنا مع ذواتنا ومع الآخرين؟! وكيف نتعامل مع ميول وتصنيفات وحقول تفكير وفرضيّات تتغاير، وتتخالف في تأمّلها الواقع والتاريخ والعالم؟.
في خطابنا الحديث والمعاصر يصنّف بعضهم لثلاثة تيارات رئيسة أسّست لعلاقتها مع التراث.
أوّلها تيار إسلامي سلفي أو تقليدي مرجعيّته القرآن والسنّة والسلف الصالح، ويشتمل على تفريعات معتدلة ومستنيرة، إصلاحية ومتطرّفة، إسلامية- عروبية، وعروبية- إسلامية. وثانيها تيار "عصريّ" حديث أو شبه حديث يتماهى مع الغرب، ويقطع مع التراث، وبخاصة بعد أن اجتاحت الحداثة كلّ مكان، وتحوّل التاريخ، الذي هو تاريخ الغرب، إلى تاريخ للعالم. أمّا ثالثها فهو تيّار "توفيقي" يدعو إلى تكييف الأصالة مع المعاصرة والمعاصرة مع الأصالة، أو دمجهما. ويشتمل على ميول ليبرالية وراديكالية: يسارية إسلامية وقوميّة وأمميّة وغيرها. ويصالح بعضها بين بعض معطيات التراث وبعض معطيات الحداثة من وجهة نظر أيديولوجية بعامة..
وربّما تجاورت التيارات الثلاثة، وتداخلت، أو اختلطت، وتصالحت، تبعاً لثقافة سائدة وسلطة سائدة ونظام سائد. وقد يدل تجاورها وتداخلها على تأخّر وعي هو جزء من تأخر مجتمعي وتاريخي، ما دام الوعي بالتاريخ يفترض تقدّماً.
وتستمرّ الأوضاع العربية في إنتاج أشكال من الاختيار: إصلاحية، أو جذرية، إسلامية أو قومية وفقاً لشروط تحكم البنى والقوى والمؤسسات والنظم، ووفقاً لعلاقات تابعة للغرب. فقد يقترح مكانٌ عربي اختياراً ما ليتخلّى عن اختيار سابق تبعاً لتحوّل سياسات ونظم من داخل ومن خارج.(1/109)
يلاحظ د. طيّب تيزيني أن الموقف من الأصالة والمعاصرة انشعب انشعاب الموقف من قضيّة التراث نفسها. ويميّز لوحة الإشكالية بين الأصالة والمعاصرة بأنساقها المكوّنة الثلاثة الرئيسة. وهي، وفقاً للمصطلح الذي يستخدمه: السلفويّة أي النزعة السلفية، والعصروية، أي النزعة العصرية، والتلفيقوية أي النزعة التلفيقية. ويرى أن النزعة التلفيقية قد وقعت في المأزق الذي وقعت فيه النزعتان اللتان تحوّلتا إلى موضوع نقدٍ ونقضٍ لها.
ويقرر أن حلّ الإشكالية اكتسى طابعاً زائفاً على المستوى المعرفيّ، في حين أنه مثل موقفاً مشروعاً على الصعيد الأيديولوجي الاجتماعي.. الخ. ويستنتج أن النزعات الثلاث مثلّت موقفاً يحمل مشروعيّته الاجتماعية المشخّصة، أي مشروعيّة عمليّة الإخفاق الكبرى التي ألمت بالفكر العربي النهضوي، حيث يغدو، برأيه، من الخطل المنطقيّ والمنهجيّ ،
النظر إليها كما لو كانت مقحمة فيه من مصدر آخر غير الواقع النهضوي المحقّق ... الخ(4).
بينما يتساءل د. محمد عابد الجابري إن كنّا ما زلنا، نحن العرب في وضعيّة تسمح لنا بالاختيار بين ما نسميّه "النموذج الغربي" وما نحلم به من نموذج "أصيل" نستعيده أو نستوحيه من تراثنا الفكري الحضاري. ويرى أننا لم نكن نملك منذ اصطدامنا بالنموذج الحضاري المعاصر بين أن نأخذ به وأن نتركه، وبخاصة بعد أن فرض نفسه علينا، كنموذج عالميّ.
وليست العلاقة بين الصراع الطبقي وإشكالية الأصالة والمعاصرة علاقة سبّبية، برأيه. فالمصالح المتضامنة أو المتصارعة لا تفسّر هذه الإشكاليّة، فهي إشكالية ثقافية محض ... ويعتقد أن التحرّر من التبعيّة للآخر لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال العمل من أجل التحرر من التبعيّة للماضي ... الخ.
ويستخلص أن الحاجة تدعو إلى تدشين "عصر تدوين" جديد يبدأ من نقد النماذج كلها!(5).(1/110)
ولكنّه يرى في موضع آخر أن تطبيق الشريعة يتطلّب اليوم إعادة تأصيل الأصول على أساس اعتبار المصلحة الكلية، كما كان يفعل الصحابة، فتطبيق الشريعة، التطبيق الذي يناسب العصر وأحواله وتطوّراته، يتطلّب إعادة بناء مرجعيّة للتطبيق. أما المرجعية التي تعلو على جميع المرجعيات –كما يقرّر- فهو عمل الصحابة(6) ... الخ.
وكان "عبد الله العروي" قد توقف أمام ثلاث لحظات من الوعي العربي الذي يحاول منذ نهاية القرن الماضي أن يفهم ذاته، وأن يفهم الغرب، فاختصر الحداثة بثلاث شخصيّات أنموذجية: يمثلها (الشيخ) ومثاله محمد عبده، و (السياسيّ الليبرالي) ويمثل له بأحمد لطفي السيّد، و (داعية التقنية) وأنموذجه سلامة موسى ... الخ(7).
بينما يجد د. "محمد أركون" إن الفكر العربي لم ينتبه –وعليه أن ينتبه فوراً- إلى أن التراث له جوانب أربعة متلازمة:
أولاً: جانب ما قد فكَّر فيه، وهو جميع ما وصل إلينا من مؤلفات وآثار ونظم وإنجازات ثقافية ومدنية، وهو ما نقصده عندما ندعو إلى إحياء التراث. وثانياً: جانب ما يمكن التفكير فيه اعتماداً على ما قد فكر فيه. وثالثاً: ما لا يمكن التفكير فيه، وهو قسمان: عالم الغيب الذي لا يدركه الإنسان إلا بالوسائل الفكرية والإدراكية المتوفرة لديه. ثم ما منع المفكر فيه تناوله بالبحث الحرّ وهو مرتبط بالجانب الأيديولوجي مما فكرّ فيه.. ورابعاً ما لم يفكر فيه بعد، وهو نتيجة ما لا يمكن التفكير فيه.. الخ.(1/111)
ويدعو إلى الالتزام بمشروع تاريخي لإحياء التراث لإنقاذ الفكر العربي من قيود الماضي وسجون الحاضر والسلطات الغيبيّة، ويلاحظ أن كلّ من حاول أن يميّز بين الفكر العربي والفكر الإسلاميّ مضطر إلى معالجة مشكلة التراث ويمتدّ مجال الفكر العربيّ، برأيه، إلى ما اكتشفه الفكر الإسلامي من آفاق وأنتجه من آراء ومذاهب وتيّارات فكرية في مرحلة التكوين والتدوين الرسمي، إلا أنّ الفكر العربي يتعدّى حدود الفكر الديني إلى مجالات علمية وعرفانية لا صلة بينها وبين الإسلام كدين. ويقصد بها ما شاع من علوم عقلية تجريبية امتداداً للتراث اليوناني والفارسي والسرياني القديم.. وينبّه إلى نزاع يدلّ على فهمين مختلفين وممارستين متنافستين للتراث، منذ القرن الأوّل الهجريّ، بين أهل الحديث المدافعين عن العلوم الدينية وأهل الرأي والعقل المنفتحين للعلوم العقلية ... الخ.
وفي هذه الحالة، ربّما كان التراث، الذي يدعو إليه الفكر العربي المعاصر، سلاحاً من أسلحة أيديولوجية الكفاح أكثر منه مفهوماً ثقافياً ذا أبعاد تاريخية معرفية ... (8).
وفي موضع آخر، يرى أن هناك "إسلامات" بقدر ما هناك من مجتمعات مختلفة وأعراق ذات لغات "مختلفة" وخلفية أنثربولوجية مختلفة ... الخ(9).
هكذا نمارس، كلّنا، اهتماماً قويّاً بالتراث، وكأن علاقتنا به تدفعنا إلى أن نكون تراثيّين بمعنى ما، سواء أعشنا عليه وفيه أم قطعنا معه، وسواء أكانت وجهة النظر التي تتداوله سلفية أم عصرية، انتقائية أم تلفيقية، دينية أم دنيويّة، نقدية أم غير نقديّة ... ويعكس هذا الاهتمام القويّ بالتراث معركة عليه، تتشخّص على حد تعبير د. طيب تيزيني أكثر فأكثر في حقلين اثنين ينتميان إلى قضيّة التراث هما الحقل المنهجيّ النظري والآخر التطبيقي ... الخ(10).(1/112)
وسنلاحظ أن نتيجة هذه "المعركة" تعبّر عن اضطراب الخطاب العربي وشقائه بعامة. فقد يستكشف اتجاه "ماركسي" عناصر تقدميّة وديمقراطية في التراث، ويستوعب قيمته النسبيّة وينظر إلى "ابن رشد" –كمثال أو كأنموذج في تطوير الفلسفة المادية والجدلية والهرطقية، بينما ترى وجهة نظر أبستمولوجية في النظرة "الرشدية" للنظام والترتيب في العالم بوصفها تجليات للحكمة والعناية الإلهيّتين ودليلاً عليهما ... (11).
ويعلي بعضهم من المبادئ الأساسية لفلسفة "إخوان الصفا" التي تحتوي على مضمون اجتماعي يعبّر عن أيديولوجية الفئات المضطهدة. بينما تتصرف مناقشة أبستمولوجية في مناقشة "إخوان الصفا" إلى فضح "الفلسفة المشرقيّة السينويّة" ...
وتتحوّل هذه الحركة من وجهة نظر عروبية- إسلامية إلى حركة غنوصية استهدفت، تحت اسمها المتناقض مع أهدافها، أن تقضي على وحدة العرب ومقوّمات الإسلام!(12).
ويثّمن أكثر من اتجاه فلسفي عربي معاصر وحديث "ابن خلدون" كمؤرّخ ينتسب إلى فلسفة عقلانية، مع أنه ينظر إلى الفلسفة كعلم باطل بحدّ ذاته، ومضرّ في تطبيقه!(13).
ويقرّر "أدونيس" مفارقة في صدد الثابت والمتحوّل، هي أن ما يجذبنا في تراثنا هو النتاج المرتبط بمنحى التحوّل. وهو ما رفضه أسلافنا بشكل أو بآخر، بل ما يزال حتى اليوم خارج بنية المجتمع العربي الأساسية ... (14).
هكذا نعمل على قضيّة التراث كتراثيين لأنه يشرطنا مؤسّسةً وطريقة تفكير وسلوكاً.. ونشتغل على موضوع الحداثة كتراثيين أيضاً، لأننا لم نستطع أن نمتلكها من داخل بل هي تجابهنا من خارج!
وينتقل شكلٌ من "نزاع" الأسلاف إلى الحفدة!(1/113)
يقرّر أدونيس استناداً إلى معايير غربيّة أن "ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربيّة، وإنما الشعر نفسه غير موجود" ... الشعر بوصفه رؤيا تأسيسية، وبوصفه فاعلية معرفيّة كشفيّة قائمة بذاتها.. إلخ" ويعلل ذلك بأن الحداثة" تنشأ في خرق ثقافي جذريّ وشامل لما هو سائد ... الخ فما يسميّه بعضهم حداثة ليس إلاّ تقليداً للآخر ... وليس إلا مرضاً في قلب تاريخنا الذي أنهكته الأمراض ... الخ"(15).
وكان قد اعتبر أن حداثة الشعر في المجتمع العربي متقدّمة على الحداثة العلميّة والثوريّة(16).
ولكنه يبشّر الآن بتلك "الحداثة المضمرة" التي يستعيد العرب مبادئها التي خلّفها بعض أسلافنا الهامشيّين في القرنين التاسع والعاشر"(17). وهي، على ما يبدو، حداثة مضمرة من وجهة نظر شخصية تقرأ التراث وفق تكوينها الثقافي الخاص، وقد تتعارض مع وجهات نظر ترى في هؤلاء الأسلاف الهامشيين خروجاً وزندقة ومروقاً، أو وجهات نظر ترى إليهم كجزء من تراث كبير قوامه التنوع والتعدد والكثرة والاختلاف، في برهة من برهات الحضارة العربية الإسلامية.
وقد يشبه تعاطي هذه "الحداثة المضمرة" اصطفاء أمثلة تراثيّة عن عقلانيّة عربيّة إسلامية أسهمت في تحرير الفلسفة، وإن اعتبرت الاتصال بالعقل حكراً على قلة موهوبة، بل كانت صريحة في تحريم النظر العلمي على غير الخاصة، حتى لدى ابن رشد في رسالته "فصل المقال.." وقد يشبه تأمّل نزعات ماديّة في التراث أو إحياء جمهوريّات تراثيّة اقترحتها هذه المرحلة التاريخية أو تلك من تاريخ العرب والإسلام. ولذلك لا بد أن يضاعف النقدُ النقدَ!(1/114)
فمن غير النقد (تتخلّى الحداثة عن نفسها، وتتحول إلى مذهب أو مدرسة أو مؤسّسة) كما يرى علي حرب الذي يقرّر "أننا لن نصبح حديثين ما لم نصبح شركاء في الحداثة. ولن نصير إلا بنقدّ الحداثة بكلّ نماذجها وشعاراتها ومؤسساتها ... الخ"(12) ويقترح د. هشام شرابي مفهوم النقد الحضاري الذي يستند إلى تحليل المجتمع البطركي الأبويّ السائد واللغة الأبويّة التي تعكسها السلطة الأبوية.
وتتمثّل في رأيه بدايات النقد الحضاري في الفكر النقدي الذي يناهض أيديولوجية الفكر "الثوري" القديم وغيبيّات الفكر الأصولي النامي ... الخ(18).
ويرى أن معنى الحداثة يتجسّد في اتجاهين: عقلانيّ يتضمّن عقلنة الحضارة، وعلمانيّ يفترض علمنة المجتمع ... (19).
فإلى أي مدى استطاع مشروع الحداثة العربية أن يشيع الروح النقدية، وينتج عقلانيته، ويعقلن نتاجاته؟
وهل برزت قوى اجتماعية يفترض حضورها علمنة المجتمع؟ وأيّة علمنة تتقبّلها كتلة اجتماعية تحتمي بأسلافها وتشرطها رموزها التراثية في مواقف حياتها الاعتيادية والطارئة، وتلتجئ إلى نصّها القديم ومؤسستها القديمة بين كلّ غمّة ومحنة!.
*
يداور جورج طرابيشي، على حدّ تعبيره، منهج التحليل النفسي في أثناء تمديده الخطاب العربي المعاصر على سرير هذا المنهج. وينظر إلى العصاب العربي كخلل أو اضطراب من طبيعة مرضيّة يصيب الشخصيّة أو قطاعاً منها نتيجة تمحورها حول عقدة نفسيّة(20).
ويخضع للتحليل الخطاب العربي الذي بدأ ينتج نفسه، ويعيد إنتاجها منذ هزيمة 1967 كخطاب يتميّز من الخطاب الحديث غداة الحرب العالمية الثانية، ومن الخطاب النهضوي من 1798-1939. ومشروعه "يندرج ضمن المشاريع المتكاثرة في هذه الأيّام لنقد ما بات يسمّى بلا تحفظ بـ "العقل العربي". ولكن العقل المستهدف بهذا النقد عنده "ليس العقل الظاهر بقدر ما هو العقل الباطن ... الخ"(21).(1/115)
وقد لاحظ أن الخطاب العربي المعاصر هو من "إفراز الرضّة الحزيرانية بينما الخطاب العربي الحديث أو النهضوي من إفراز الصدمة النابوليونية.
والعلاقة التي تجمع بينهما ليست علاقة وصل وتكرار، بل علاقة قطع ونكوص. وقد ورث الأوّل عن سلفه استعدادات مرضية ... (22).
وتحت عنوان "ازدواجيّة العقل في كتابات حسن حنفي" يتناول حالة تشخيصيّة يستخلص منها أن الحالة العربية عموماً، كما في حالة حسن حنفي خصوصاً، تبدو استعادة السيطرة فيها على الموقف النفسي رهناً بتحولات إيجابيّة على صعيد الواقع "تعيد وضع المجتمع العربي على سكة النهضة والتقدّم كطريق وحيد إلى البرء من الجرح الأنثربولوجي ... الخ الخ(23).
ولكن! كيف تبدأ هذه التحولات الإيجابية؟ ألا يتطلب ذلك استئناف أسئلة الحداثة أو التقدّم ما دام البديل السحريّ ليس بديلاً، وإنما هو جزء من التأخر!
بالإضافة إلى مداورته منهج التحليل النفسي لعصاب جماعي في كتابه "المثقفون العرب والتراث" يميّز جورج طرابيشي في كتاب آخر هو "مذبحة التراث في الثقافة العربية" رغبة مسبقة في تبرئة التراث ورغبة مسبقة في تجريمه. ويلاحظ ضياع الحقيقة بين كلتا الرغبتين!(24).
وفي مقاربته التيار الماركسي يلاحظ أن صاحب الرؤية الماركسية لا يتردد في أن يعلن أن "الهدف الأكبر الكامن وراء استراتيجيته الثقافية هو التوظيف النضالي للتراث وللمعرفة التراثية من منطلق استلهام العناصر العقلانية والديمقراطية والثورية في تراثنا ... الخ(25).(1/116)
ويشاطر، برأيه، التيار القومي التيار الماركسي في معياريته الأيديولوجية القائمة على ثنائيّة الرجعية والتقدمية، وإن لم يقاسمه نزعته إلى الفرز الطبقي المستنير بضوء أيديولوجيا الطبقة العاملة ... ويمثل للتيار القومي العلماني بزكي الأرسوزي الذي يتمثّل دراما الانحطاط أو الانحراف في تحوّل العرب من الجاهلية إلى الإسلام أو من العروبة إلى العجمة بالمعنى العرقي أو اللغوي أساساً ... الخ ويمثّل للتيار القومي الإسلامي بمحمّد عمارة الذي ينظر إلى الإسلام كدين مؤسَّس على العقل والعقلانية وكأنموذج يلجأ إلى الربط الماهوي بين العقلانية والقومية كسمتين للحضارة العربية الإسلامية ... الخ ويمثل للتيار العلمي بالنموذج العلمي البراغماتي عند د. زكي نجيب محمود، فيرى أن إشكالية الأخذ والترك من التراث تتضمن الأجوبة وتحدّدها سلفاً. وهي أجوبة لا تملك بحكم الصياغة إلا أن تكون سلبية ما دام المدار هو العمل والتطبيق، والمعيار هو العلم العمليّ، والهدف تصريف الآلات، والمؤدّى الوحيد للثقافة هو التقنية. ويستخلص جورج الطرابيشي أن مهمّة الطريق الثالث الذي يتصدّى لها د. زكي نجيب محمود، وهي صنع ثقافة عربية معاصرة، لا يمكن أن تكون إلا بقدر ما تكفّ عن أن تكون عربية ... الخ أمّا النموذج العلمي الأبستمولوجي فيمثل له بالدكتور محمد عابد الجابري فيجد أن العقل يرتدّ عنده إلى تعبيره العقلي.(1/117)
وكأن لغة العقل الوحيدة هي لغة النثر العقلي، أو كأن اللا عقل لا يؤلّف جزءاً مقوماً من العقل، فاختزاله العقل إلى العقل العقلي أدّى إلى مأزق معرفي، وجد من خلاله أن العقل العربي يعمل تحت ثلاثة أنظمة هي البيان ويرادفه المعقول الديني والبرهان ويرادفه المعقول العقلي والعرفان الذي يرادف اللامعقول العقلي ... ويرى أن الثورة المنهجية الأبستمولوجية، تبعاً لرؤية الجابري، عمّقت الانقسام، وجذّرت الخلاف، وصعدت التنوع إلى تضاد ما هويّ بدلاً من أن تتيح قراءة أركيولوجية نادرة تردّ المنقسم إلى الوحدة والمتنوّع إلى الجذر المشترك ... الخ الخ(26).
ويستخلص أن قراءة هذا النموذج للتراث أدّت إلى أن "التراث ليس وحده ولا حتى اللغة، بل العقل نفسه كما تقولبه اللغة، يبدو محكوماً عليه بوضعيّة اللا عقل.. الخ"(27).
في كتابه الأخير "مفهوم العقل" يذكر عبد الله العروي أن ما كتبه حتى الآن "يمثّل فصولاً من مؤلّف واحد حول مفهوم الحداثة"(28) ويذكر أيضاً أن موضوع كتابه "هو العقل كما يتجسد في سلوك الأفراد والجماعات"(29). ولكنه يقرّر "أن الاختيار العقليّ على مستوى الفكر قد لا يؤدي بالضرورة إلى عقلانيّة المجتمع"(30) ويرى العروي في بعض استنتاجات الخلاصة العامة لكتابه أن الفكر الذي ورثناه عن السلف –أو ما يسميّه بعضهم التراث.. يدور كلّه حول العقل ... الخ.. ويجد أن تطبيق ذلك العقل المفترض لدينا يؤدي في الغالب الأعمّ إلى نتائج محبطة ... ويتساءل عن ذلك العقل الموروث، العقل الذي نتصوّره بإطلاق، ونعتزّ به، وهو بالذات أصل الإحباط!(31).
ويستخلص "أن العقل لا يكون عقلانية، لا يجسّد في السلوك إلا إذا انطلقنا من الفعل، وخضعنا لمنطقه، ثم بعد عملية تجريد وتوضيح وتعقيل أبدلنا به المنطق الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاق!(32).(1/118)
إن نقد المفهومات يحدّدها، ويعقلنها، وقد يتكامل مع تجارب تحاول نقد العقل العربي أو الإسلامي أو الغربي، أو مع تجارب تحاول تأمّل البيئة الثقافية بعامة ...
وإذا كان العقل الموروث –على حدّ تعبير العروي- قد تكيّف مع المطلق، فقد اضمرت برهات منه هوامش دنيوية وعقليّة ومضادة بمعنى ما، وذات أفق إنساني متحرّك ومفتوح.
وربما عكس النقد المعاصر، عبر إحيائه هذا العقل –جزءاً من قلقه وتوتره وانقسامه. ولكنه لم يستطع أن يؤسس لحظته النقدية الذاتية والمستقلة، ما دام معظم إنتاجاته هو تنويع على كلام الآخر، إن لم يكن تنويعاً تابعاً..
ولتستمر الدعوة إلى النقد، وإلى تحرير العقل من داخل النقد، وبالنقد!
ولكن! هل يتحرّر العقل دون تحرير الفعل؟ وكيف نستطيع تحرير الفعل العربي الذي هو جزء من تحرير العقل العربي، يتحرّر به، ويحرّره؟
وأيّة حداثة هي تلك الحداثة التي ينبغي أن ننتقل إلى نقدها، أو نقد عقلها وفكرها، وهي تشرطنا من خارج ومن داخل، نفتتن بها، وننحني لها، ونحتفي بأوثانها وتظاهراتها على نحو تعيد فيه الذات المتأخرة إنتاج تأخرها عبر حداثة مقنّعة! وكيف نقيم علاقة نقدية حديثة معها من داخل عقل يشرطه تأخره الموضوعي؟ ومتى ندخل في تاريخ العقل الذي هو تاريخ الإنسان، بما هو تاريخ الحداثة، قبل أن نخرج من التاريخ!
ينفتح أنموذجٌ حديث أو شبه حديث إذاً على الغرب الثقافي والنقديّ والإبداعيّ، ويحاور جزءاً من أصوله النقديّة والإبداعيّة والفلسفيّة بينما ينغلق أنموذجٌ أصوليٌ أو شبه أصولي على جزء من تراثه العربي الإسلامي فيلغي إنتاجه الفلسفي والنقدي!
ويستمرُّ اختزال الحداثة إلى شعار ولعبة ورغبة ونيّة!
كما يستمر اختزال الهويّة إلى عناصر مغلقة من التراث وإلى مشروع سلطة ووهم ...(1/119)
ويبدو أن دعوة الحداثة أو شبه الحداثة لم تمتلك بعد شروطاً مادية تاريخية واجتماعيّة توفّر إمكانيات أنموذج عربي، وتشكل بديلاً للتراكم الذي امتلكه الغرب في لحظة حداثته. كما يبدو أن دعوة الأصول وشبه الأصول تريد لعقارب الساعة أن تعود للوراء!
يرى أنموذجٌ أصوليٌ أو شبه أصولي إلى الحداثة كأدوات وأشياء وأزياء يحلّلها أو يحرّم بعضها، و "يكفر" عقلاً ابتكرها! ويتدرّب أنموذج حديث أو شبه حديث في الفكر والنقد والإبداع على توظيف مفهومات ومصطلحات حديثة، وتردّد حقوله نظريات كانت وديكارت وهيغل وماركس ونيتشه وهيدغر وبرغسن وسارتر وبارت وشتراوس وفوكو ودريدا وغيرهم كثير، فيتشكل فضاءٌ فكريٌّ حديث مستعار أو شبه مستعار!
وتشيع أخيراً منهجيّة حفريّة تبحث عن آليات الخطاب في تشكيل المعنى وإنتاج الحقيقة متجاورة مع منهجيّة معرفية تبحث في أنظمة معرفية عقلانية وأخرى غير عقلانيّة بينما تحاول منهجية مادّية جدلية وتاريخية تجديد ذاتها في غسق نهايات القرن العشرين!
ويستعير النقد مفهومات بنيوية أو أسلوبية أو سيميائية أو تفكيكية. بل ينتقل في بعض الأحيان إلى مظاهر ما سميّ: ما بعد الحداثة، كثقافة عصر جديد يتحول فيها الوعي الذاتي إلى علامة من علامات النظام، وتختزل العلاقة بين الأفراد وعبر اتصال معلوماتيّ وثقافة استهلاكيّة. ويقترح جزءٌ من النقد المفهوم الكوني كمفهوم رئيس بديل في فهم المناخ العالمي وكأنه يريد أن يغلق أسئلة حداثة أو مشروع حداثة يعانيها العرب منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن!
هكذا تؤثّر ثقافة المركز على ثقافة الأطراف وبخاصة بعد أن شاعت تكنولوجيا الألكترونيات الدقيقة وتكنولوجيا فضاء الاتصالات وغيرها، ولم يعد نقل التكنولوجيا غير العقلاني عامل التبعيّة الوحيد!(1/120)
تتآوى أقنعة حداثة وأقنعة هويّةٍ في فضاء الثقافة العربية بعامة. وبين حداثة مقنّعة أو شبه مقنِّعة وهوية مجتزأة وشبه منتهكة، يضاعف النقدُ النقدَ، ويستكمل نقد "العقل العربيّ" بمعنى ما بل يُعلن أن نقد العقل العربيّ لا يكتمل إلاّ بنقد "العقل الغربيّ".
هل يفصح المشروع الثقافيُّ أو النقديُّ أو الإبداعي عن هذا الشقاء كلّه؟ وهل يصرّح بهذا اليأس كله؟
ألم يؤسس هذا المشروع لعلاقة مختلفة مع تراثه الفلسفيّ والإبداعيّ والنقديّ؟
ألم يتجاوز حالة الاستهواء والوله بالتراث إلى تجربة تعانيه وتقرؤه وتنقده بعد أن انشغلت مطالع نهضةٍ بإحيائه وبعثه؟
ألا ينتميّ النقد العربيُّ الآن إلى موقف عقلاني وديمقراطي، يدعو إليه، ويكافح من أجله على الرغم من إمكانياته المتواضعة؟
إن حداثة نقديّةً تتدرّب على طرح أسئلتها لا ترى في الحداثة نفياً للهوية ما دامت الحداثة ليست هدفاً في حدّ ذاتها.
وربما كانت مساءلة الذات فيها جزءاً من موضوع هوية قابلة للإنجاز دائماً ولا تنفصل عن مساءلة الآخر الذي هو الغرب أو العالم.. ليست الحداثة ظاهرة تاريخية فحسب، وإنما هي ظاهرة كونية الآن، تنتج نمطها الحضاري الذي يمارس قطيعته مع الماضي والسائد ويحطّم أشكالاً تقليدية في المجتمع والاجتماع والعلاقات وفي الأدب والنقد والفن إيقاعاً ومنظوراً وتشكيلاً ولا بد أن يعري روحاً مدرسيّة شائعة بتجلياته المختلفة، المفاجئة والمدهشة!
ولم لا يصنع جسده وروحه وزيّه وسلوكه وإيقاعه وتشكيله ورموزه؟
إن مظاهر تقنية حديثة هجمت على الوضع العربي ومسته بعمق، كما مسّت مجتمعات هي في حالة نمو أو تأخر ولم تكن علاقتها مع الحداثة نتيجة تراكم كمثل الغرب!
فكيف تؤسس حداثةٌ فضاءها النقديّ والإبداعي عبر مجتمعات ليست حديثة، ولم تتشكل على نحو حديث؟(1/121)
ألا تدفع وقائع التغير التي تشرط الوضع العربيِّ إلى التكيف مع التأخّر وتكييفه وإن استأنفت نخبة هنا ونخبة هناك إعادة النظر في هذه المنهجيّة أو تلك، أو حاولت التفاعل أكثر فأكثر مع شعارات العقلانية والديمقراطية والعلمانية ...
ومع ذلك فإن الاختيار العقلانيَّ والديمقراطيّ في المشروع النقدي العربي هو اختيار يفترض ابتكار أنموذج في الحداثة ينتمي إلى مشروعه القومي العربيّ، ويتكيف مع حاجات الجماعة المادية والروحيّة ...
فهل يستطيع المشروع النقدي أن يكون حديثاً حقاً؟
وهل يستطيع أن يتحرّر من سلطة الحداثة أيضاً؟
يتحوّل خطاب الحداثة، بتفريعاته وتنويعاته، إلى خطاب تراث! نحن تراثيّون إذاً، وإن تكلّمنا على خطاب حداثة أنجزه الغرب. ونحن تراثيون أيضاً ما دمنا نتكلّم على "نقد" أو "وعي" نتوقع له أن يخرج من داخل "جزء" من التراث الذي هو تراثات! وكأن خطاب الحداثة هو، كمثل خطاب التراث، ينتمي إلى التراث أكثر مما ينتمي إلى التاريخ والواقع والعالم!
وكأن كلّ "طرف" من أطراف "الخطاب العربي" يختار من التراث ما يدعم سلطته معرفية أو أيديولوجية أو إعلامية. ويتوقف عند "يمين" و "يسار" فيه، أو عند ميول عقلانية وأخرى إشراقية، أو عند إرهاصات علمانية أو ديمقراطية أو ثوريّة، بينما تحتكم الميول الأصولية إلى "أصول" من وجهة نظرها!
التراث الذي تنتمي إليه العروبة، أو ينتمي إليه الإسلام، كثير. فهو تراثات في داخل التراث الكبير.(1/122)
وللحقبة الإسلامية –العربية والعربية- الإسلامية ذاكرة كبرى يتدخّل في تشكيلها ظاهر وباطن، قرآن وسنة، شيعة وخوارج ومعتزلة وأشعرية، قدرية وجبرية، كلام وفلسفة، فقه وسياسة، إيمان وإلحاد، شعوب وشعوبية، خلافة وملك، صوفية وتصوّف، شعر ونثر، قوى مختلفة وقوى مؤتلفة ... وفيها اتباع وإبداع، وتناقض وتكامل، وتضاد وتداخل ... وقد شارك في تأسيس فضائها أكثر من قوم بالإضافة إلى العرب. واقترحت مذاهب ومللاً ونحلاً أعلنت انتسابها إلى الإسلام، بل التزامها به.
والجماعة القوميّة تنتمي الآن إلى هذا التراث كلّه، والذي هو تراثات، يتسع فيشمل مواد وعناصر آرامية وكنعانية وسومريّة وفرعونية وفينيقية وقبطية وسريانية ومسيحية ويهودية وغيرها من مواد وعناصر شرقيّة ...
ولها أن تقبل على هذا التراث كله، وتتقبّله، وتتدرّب على نقده، دون أن تنحاز لهذه المرحلة أو تلك، أو تتعصّب لهذا الإنتاج أو ذاك.
ولنتأمّل هذا التراث الغائب. وهو حاضر فينا دائماً ... ألا يدل هو على هويّة لم يمتلكها "النقد" بعد؟!
وهل ينبغي أن تعكس علاقتنا به، أو معه، توتّراً وانقساماً بدلاً من التنوّع في داخل الوحدة والوحدة في داخل التنوّع!.
وكيف تؤدّي حداثة الخطاب إلى حداثة الفعل، أو يكون جزءاً منها؟
يتدّرب الآن خطاب الحداثة على نقد العقل العربي والعقل الإسلامي، بل والعقل الغربيّ.
ويفترض هذا التدرّب فضاء نقدياً يفتتح الأسئلة كلها، ويعالج اليقين بالشك بدلاً من أن يكتفي بأجوبة مغلقة تستعيد "فتنة" التراث التي تنبهّها "فتنة" حداثة لم تتم!.
وهل هناك مداخل إلى الذاتية والاستقلالية والكونيّة أيضاً سوى "النقد" الذي ينميّه فضول وشك وبحث وتساؤل!
وفي النقد اختلاف، وبه نستطيع أن نكون "نحن" الآن أو في المستقبل بدلاً من أن نكون غيرنا، أولا نكون!.(1/123)
وبالنقد ينتهي التقليد والتكرار والترداد. وبه قد نتدّرب على أن نمتلك التراث كلّه بدلاً من أن يمتلكنا بعضه، فنحرّر التراث منا، كما نتحرّر به ومنه!
أليس خطاب الحداثة هو خطاب نقد؟
ألم يكن خطاب التراث خطاب نقدٍ أيضاً؟
((
( مراجع وهوامش:
1-يرى "عزيز العظمة" أنه ليس الغرب، وليست الحداثة بعامة، خارجاً مطلقاً، بل إن الغرب أصبح في داخلنا.. وما الأصالة بهذا الاعتبار؟ ...
... ... أما مفهوم الأصالة في السنوات العشر الماضية تحديداً فقد صار مدخل الأيديولوجيا الدينية إلى محاولتها مضارعة الأيديولوجيّات القومية الغالبة على الخطاب السياسي في الوطن العربي ... الخ.
- الأصالة أو سياسة الهروب من الواقع، دار الساقي 1992، ص20، 21، 25.
2-يذكر "شارينه" –على سبيل المثال- أنه قد ظهر في الإسلام مائة مذهب في علم الكلام، وما يقرب من العشرين مذهباً في الفقه، وذلك إلى جانب الفرق الثلاث والسبعين التي عرفت في العصر الكلاسيكي من تاريخ الإسلام ...
- بولس الخوري، التراث والحداثة، مراجع لدراسة الفكر العربي الحاضر معهد الإنماء العربي، بيروت 1983، ص 75.
3-ندوة مركز دراسات الوحدة العربية (التراث وتحدّيات العصر)، القاهرة: 24-27 أيلول 1984، مجلّد 872 صفحة، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985، المقدمة ص 19، ص20.
4-المرجع السابق، بحث د. طيب تيزيني، إشكالية التراث والمعاصرة في الوطن العربي.
5-المرجع السابق، بحث د. محمد عابد الجابري، إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر.
6-د. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1996، ص 52-53.
7-عبد الله العروي، الأيديولوجية العربيّة المعاصرة، دار الحقيقة، 1970.
8-ندوة (التراث وتحدّيات العصر)، مرجع سابق، بحث د. محمد أركون.
9-د. محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، تر: هاشم صالح، دار الساقي، 1997، ص9.(1/124)
10-د. طيّب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، دار الذاكرة 1996، ص 142.
11-12-13-يمكن العودة إلى أعمال عديدة منها أعمال حسين مروة وطيّب تيزيني والجابري وغيرها، للتعرّف على وجهات نظر مشابهة ومغايرة.
14-أدونيس "الثابت والمتحوّل"، جـ1، ط3، دار العودة، بيروت 1980، ص144.
15-أدونيس، النصّ القرآني وآفاق الكتابة، ص 107، دار الآداب بيروت 1990.
16-أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، ص 328 دار العودة 1980.
17-أدونيس، النص القرآني ص 115.
18-علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقّف، ص 95، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1996.
19-د. هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، ص 22، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1990.
20-جورج طرابيشي، المثقفون العرب والتراث، مرجع سابق ص10.
21-المصدر نفسه، ص93.
22-المصدر نفسه، ص20.
23-المصدر نفسه، ص105-274.
24-جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية، ص10، دار الساقي 1993.
25-المصدر نفسه، ص15.
26-المصدر نفسه، ص15-81.
27-المصدر نفسه، ص127.
28-عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص14، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1996.
29-المصدر نفسه، ص269.
30-المصدر نفسه، ص74.
31-المصدر نفسه، ص357، 358.
32-المصدر نفسه، ص364.
((
مفهوم المشروع النهضوي العربي
بين حوار اليأس واختبار الأمل
يتجدد الاهتمام الرسمي والشعبي والنخبوي بالموضوع العربي وفقاً لحركة الوقائع والأحداث، ولأشكال المجابهة والمواجهة في الداخل وفي الخارج!
ويستمرّ عمل ثقافي ونقدي عربي في تأمل مشروع قومي عربي قيد الإنجاز. ويعالج إخفاق مشروع نهضةٍ عربية سابقة، فيستخلص دروسه، ويعنى بخطابه أو خطاباته، ويستعيد أسئلته وإجاباته، بنجاحاته وإخفاقاته ...(1/125)
وإذا كان مشروع دولة "قطرية" قد اكتمل في هذا المكان العربي أو ذاك، بمعنى ما. فإن بعض وجهات النظر الثقافية والنقدية ترى إلى هذه الدولة "القطرية" كمدخل إلى "الدولة القومية" بينما ينظر بعضها الآخر إليها كتكوين "زائف" أو "مصطنع" يشرع للكيان الجزئي، ويطور حالات ما قبل قومية وما قبل حديثة، على الرغم من مظاهر "حداثة" تتكيف "السلطة" القطرية معها، وتكيف أوضاعاً اجتماعية وفقاً لشروطها.
ويبقى لتاريخ الاجتماع الإنساني احتمالاته المختلفة، فقد تنتج عوامل "مفترضة" وحدة جماعاتٍ وشعوب ومدنيات وأمم، أو تؤدي إلى تلاشي بعض عناصر قوتها، أو تدفع بها إلى التماهي مع جماعة أقوى، فحضور الأمة هو حضور نسبي يعبر عن هوية قيد الإنجاز غير مطلقة وغير نهائية. وقد يستمر هذا الحضور قائماً بالقوة لا بالفعل، ما دامت عوامل تكوينه التي هي عوامل واقعية وتاريخية لم تتوفر على نحو إيجابي وفعال وحقيقي!
وفي مثال "أمة عربية واحدة" يصعد الآن "البديل" "القطري" ليجسد مصلحة قوى طارئة ومؤقتة بالقدر الذي تعمل فيه قوى تاريخية مغايرة على تكوين "بديل قومي" يتوقع منه أن يحقق مصلحة الأمة ووعيها وإرادتها ...
وتتناول مراجعات نقدية مختلفة مفهوم مشروع نهضوي عربي، يتماثل في بعض جوانبه مع مفهوم ثورة عربية، أو "نظرية" ثورة عربية سبق تداوله، والتفاؤل به، في الفكر القومي العربي ...
وتعيد هذه المراجعات النظر في اتجاهات وتيارات كبرى تشيع حلماً سياسياً عربياً، وأشاعته بمعنى ما، سواء أكانت تيارات إسلامية أم قومية، ماركسية أم ليبرالية. وتبحث في إمكانية تجددها أو تجديدها، وإن كان بعضهم يرى في إخفاق الأيديولوجيات القومية والماركسية العربية مدخلاً إلى اختيار ليبرالي أو أساساً للاختيار الإسلامي والإسلامي العربي بظواهره الأصولية أو مظاهره السلفية.(1/126)
ويرد بعضهم الآخر "أزمة" المشروع القومي العربي أخيراً إلى هزيمة المشروع الاشتراكي العالمي في الشرق والغرب، بعد أن ردت "أزمة" سابقة إلى هزيمة حزيران.
وتتفاءل مراجعات بالأفق الاشتراكي القومي كأفق نهضوي ينفتح لأي مشروع عربي مستقبلي محتمل ...
ويُعْنى بعضها بتأمل العلاقة المشتركة بين تلك الاتجاهات أو التيارات جمعيها، لعل الأهداف والرموز والمعاني التي تضمرها، أو تفصح عنها، تنفتح على اعتراف وحوار متبادلين..
فما إمكانية اعتراف وحوار بينها، وبخاصة إذا استعانت بسلاح الحوار بدلاً من حوار السلاح؟
وكيف تتكيف مع شعارات "حديثة" في التعدد والتنوع والاختلاف؟
ومتى يتحول الاعتراف والحوار إلى سلوك حقاً؟
وهل يبتدئ مشروعٌ قومي ديمقراطي من خارج نقد الذات، وإعادة بنائها من داخل الخلافات والاختلافات؟
وأية علاقة بين نقد الذات ونقد المجتمع؟
وما العلاقة بين نقد المجتمع ونقد الدولة أو السلطة بعامة؟
وكيف يفتتح النقد "فضاء" حديثاً لخطاب عربي معاصر يتجاوز فيه ما يحرم قوله، أو ما يمنع، وما لا يجوز قوله، وما يسكت عنه؟
وكيف يحرر "منطقة الصمت" دون أن ينحاز إلى حقيقة "مفترضة" يحاول أن ينجزها، فيطور علاقة "حديثة" بين التأمل أو الفكر وبين الفعل أو السلوك
إن مشروعاً نهضوياً عربياً سابقاً أو تالياً أو مفترضاً يعبر عن
اختيار الأمة ذاتها، ووعيها بذاتها، في محاولة منها لتأسيس وحدتها وتقدمها، هو مشروع المستقبل الذي يوجه الحاضر إذاً، وإن انطلق من معطيات
الماضي ... (1).(1/127)
وقد ميزت مراجعاتٌ نقدية مشروع نهضة أولى من مشروع نهضة ثانية. ووجدت في "الصدمة الحضارية" للحملة الفرنسية على مصر بخاصة بدايات المشروع الأول، بينما وجدت في "الصدمة القومية" للحملة الصهيونية على فلسطين بدايات المشروع الثاني، إذْ استطاعت نخبات "ثقافية" و"عسكرية" أن تعيد إنتاج "كيانات" قطرية حديثة أو شبه حديثة بعد استقلالات قطرية "ضعيفة، وأعلنت شعاراتها القومية الكبرى، واقترحت برامجها في التقدم تحولات مختلفة في الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ولكن تجاربها في التغيّر والتغيير والتحول والتحويل عززت مفهوم الدولة القطرية، وأجّلت دولة "الأمة" كلّ الأمة، مادام "الشكل" القطري يلبي بعض متطلبات "فئات" شعبية قليلة أو كثيرة واحتياجات "نخبات" حديثة وشبه حديثة تحالفت، وتتحالف، معها، بينما تعاني "قوى" شعبية من "أحوال" مدمّرة، وتشاركها نخبات قليلة أو كثيرة معاناتها، وتنتبه جمعيها إلى تلاشي الحلم القومي أو الإسلامي أو الاجتماعي!
وقد كان ثمة دائماً حلم يصاحب المشروع النهضوي في مراحله المختلفة الحديثة والمعاصرة، إن لم يكن المشروع النهضوي هو تلك "اليوتوبيا" التي احتمت بها قوى وفئات اجتماعية قومية وإسلامية، وتحتمي بها، وما زالت تحتاج إلى الحلم الذي يدفعها إلى الفعل، ويشكل عاملاً في إحياء موقف نقدي يعيد صياغة المشروع النهضوي الذي لم يعد خطابه أو خطاباته وقفاً على هذه الجهة أو تلك، أتماثلت الفرضيات والأفكار والاحتمالات أم تغايرت.
وإذا كان المشروع النهضوي هو اختيار الأمة لذاتها أولاً، فهو مشروع المستقبل وإن كان ثمة أكثر من طريق إلى المستقبل، فقد يكون الطريق عند بعضهم عربياً قومياً أو عربياً إسلامياً أو إسلامياً، وقد يكون عند بعضهم اشتراكياً راديكاليا أو ليبراليا، وينصرف إلى الاندماج بتجربة الغرب في الحداثة وما بعد الحداثة..(1/128)
ولكن هذا المشروع هو مشروع البحث عن الذات التي هي تجربة هوية قيد الإنجاز على أية حال!
وربما كان مفهوم المشروع النهضوي العربي الراهن "وريث" مفهوم "ثورة عربية" هي احتمال، وتبقى احتمالاً، على الرغم من أحوال "عولمة" جديدة يشكلها الغرب، والغرب الأمريكي بخاصة، لتطمس هويات، وتبعث هويات أيضاً، وتعيد بناء علاقات كونية قابلة للتأمل والبحث، وقابلة للتحول والتغير أيضاً.
ولا بد لمراجعاتنا النقدية أن تتراكم!
ولا بد أن يتراكم النقد، فيعيد النظر في مشروعات إصلاح أو يقظة ونهضة أو تنوير وتجديد أو ثورة، وإن تكن قد تآكلت بمعنى ما، وتآكل معها تفاعل نظام عربي مع مفهومي الوحدة والتقدم. وليس ثمة ما يدفعه عاجلاً إلى المبادرة في تكوين عالم عربي موحد وعادل وليس ثمّة ما يسمح له حتى الآن بالمشاركة في تكوين عالم إنساني يمكن أن يكون جزءاً من تاريخه المعاصر.
تبتدئ مراجعات نقدية بنقد الموضوع موضوع التجزئة والتأخر والتبعية، أو تبتدئ بنقد الذات، أو نقد المجتمع والأمة والطبقة والنخبة والدولة..
وقد تتحول من نقد الذات إلى نقد الموضوع، ومن نقد الموضوع إلى نقذ الذات!
ويرفع بعضها شعارات العقلانية والتعددية والعلمانية والديمقراطية وغيرها، ويجد فيها عوامل مشروع نهضوي تؤسس لمجتمع عربي مدني..
وقد يعقد بعضها الآخر حواراً مع الياس أو حوار مع الأمل، وهي تلاحظ آثار نظام عربي راهن حطّ بالإنسان العربي إلى كائن بيولوجي محض، ودفع بالجماعة القومية إلى هجرة يومية شقية تسيجها الضرورة، وبخاصة بعد أن أنتج ظاهرة "فساد" "سائدة" تنكرت سلوكات قواها للموضوع الوطني وللموضوع القومي، وأسرفت أدوات علام تمتلكها في القطيعة بين الوعي والفعل أو الكلام والسلوك ولم يعد "الفساد" ظاهرة تقتصر على شخص يمكن عزله، أو على جيوب يمكن أن تعالج حالات أفرزتها، وقد تهشمت المعاني الإنسانية في حياة الفرد والجماعة..(1/129)
تراكمت مراجعات نقدية إذاً، وتتراكم. وقد تحولت الذات إلى موضوع في مرحلة يهزم فيها الحلم القومي واليوتوبيا القومية، وتفترض إعادة بناء المشروع النهضوي بما هو مشروع الأمة، أي مشروع الذات والمصير والمستقبل!
***
من تلك المراجعات النقدية المتشابهة، المختلفة كتاب د. محمد عابد الجابري المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية)(2) وكتاب د. فهمي جدعان الطريق إلى المستقبل، أفكار –قوى للأزمنة العربية المنظورة)(3) وهما يقدمان صورة من صور معاناتنا الثقافية ورؤى متماثلة ومتغايرة مع الرؤى التي يقترحها النقد النظري والنقد الثقافي في الغسق الأخير من القرن العشرين، فيتفقان في بعض ملاحظاتهما، ويختلفان في بعضها الآخر ...
يرى د. محمد عابد الجابري في المراجعة النقدية، كما يفهمها، ممارسة معرفية في الماضي من أجل المستقبل، فهي ليست نقداً لموضوع كما هو شأن النقد التاريخي، بل هو نقد للذات، يركز فيه على التاريخ الواقعي الحقيقي الذي نمت فيه الفكرة القومية العربية.. ويتحدد اتجاه المراجعة النقدية بالممكنات التي تشكل برنامجاً للمستقبل ولا تقتصر على طموحات الأمس فحسب.. الخ ص13 المراجعة النقدية أيضاً ضرورة ملحة لاستعادة الأمل واستئناف المسيرة مع التاريخ للمشاركة في صنعه والتأثير في مجراه.. ص15 وفي مدخل كتابه اعتبر القضايا الأساسية التي هي قوام فكر النهضة العربية ما زالت قائمة كطموحات في نهاية القرن العشرين، وما زالت أهدافاً ومطالب تنتظر التحقيق.. ص7 وسيجد في خاتمة كتابه أن أول مهمة تواجه من يريد التفكير في المستقبل العربي هي مهمة إعادة بناء الأهداف، لأن التفكير في المستقبل العربي دون استحضار أهداف واضحة هو تفكير يبتعد عن استراتيجية المستقبل، ولكنه يرى في الوحدة والتقدم هدفين لا يمكن الاستغناء عنهما في أيّ تفكير أو عمل عربي تحركه إرادة المستقبل التي يعني بها إرادة التغيير في اتجاه الأفضل.. الخ
ص182- ص183.(1/130)
وفي كتابه (الطريق إلى المستقبل) يرى د. فهمي جدعان أن مبحثه يريد أن يستجيب لنداء الحياة، فهو عمل "تأسيسي" اجتهادي – على حد تعبيره- يقدر أنه يجسد جملة تأمله وفهمه وتقديره للقضايا والمسائل والوجوه التي يعتقد أنها جوهرية ومركزية وحيوية في وجود العرب المعاصر عند نهاية القرن العشرين. وهو لا يزعم أنه يقترح مشروعاً للنهضة أو الحياة برمتها. وإنما يهمه أن يوجه النظر إلى "الطرق المسدودة" وإلى "المسالك النافذة" التي يمكن أن تبعث على الرجاء .. ص8، ص9. وما مهمة المفكر الحقيقي عنده إلا التنوير.. الخ ص11.
يلتقي د. الجابري وده جدعان مع غيرهما على ضرورة المراجعة النقدية وأهميتها وعلى نقد العقل ونقد الفعل أيضاً، ولكن د.جدعان يرى أن أحداً من مفكري عصر النهضة العربي لم يدرك أي هدف من الأهداف الحيوية التي حددها غاية لتفكيره أو تأمله أو فعله، ووفقاً لوجهة نظره فإن تيارات الإصلاح الديني الحديثة اهتمت بالمظاهر الخارجية "الشكلانية، ولم تهتم بما هو جوهري، وإن تنبهت إلى الخلل العميق في الوجود الإنساني الإسلامي.. الخ.
وكان قد تساءل عن القوى العربية الذاتية التي يمكنها أن تصمد أمام الزحف الساحق لحضارة الحداثة ومتعلقاتها.
ويختتم كتابه بفصل حوار مع الياس يدلل فيه على أن "التدخل" العربي في التاريخ لم يكن مغامرة من المغامرات، وإنما كان مشروعاً حقيقياً نال أصحابه من الدنيا حظهم.. وقد عدّل "اللطف الإلهي" من تقصيرهم، ومكّن لهم في الأرض. ولكنهم ساروا في طريق التمرد على الله.. ولن يعود مسوغ لبقاء الأحوال على ما جرت عليه وقد أوصلوا الأمور إلى الحافة موجهين ومتوجهين بقوى ورغبات ومنافع لا رادع لها ولا ضابط.. الخ..(1/131)
وعلى الرغم من الآمال التي عقدها على إمكانية إحداث تعديلات بنيوية ثقافية في الذات العربية من جهة ما أسماه بالعقلية، أو من جهة ما يدخل في باب الفعل، فإنه يقرر أن البنى الصلبة المتأصلة في هذه الذات ليست مما يسهل تدبر أمرها أو تعديلها أو تغييرها في المدى المنظور.. الخ ص433، ص434،
ص435.
يتوقع د. جدعان للعالم العربي ولمستقبله مخاطر اقتصادية وسياسية وثقافية حقيقية ما دام ينطلق بأسره في طريق المصالحة التاريخية الكبرى مع الدولة اليهودية في ظروف غير مواتية وأحوال غير مواتية..
وكان قد ميز ثلاث رؤى رئيسة في تفسير التأخر الإسلامي والعربي وإخفاق المسلمين والعرب وردّ اثنتين منها إلى عوامل ذاتية والثالثة إلى عامل خارجي.. الرؤية الأولى أنثربولوجية تستند إلى طبيعة الإنسان العربي من حيث التكوين البيولوجي والتكوين الثقافي، وهو يفرق بين "عقل عربي" أو "عقل إسلامي" بما هو خصائص ذاتية قارة في الطبيعة البيولوجية وبين هذا العقل بما هو عقل ذو خصائص مكونة ثقافياً وتاريخياً.. الخ. الرؤية الثانية تاريخية ترى أننا صنائع تراث لا يأتي من الحقب الإسلامية، وإنما من الحقب الموغلة في القدم.. الخ. الرؤية الثالثة ترد الإخفاق إلى علة فعل "الغير المدمر "المتآمر".. الخ ص23-ص35.
ويميز د. الجابري أربعة مشروعات عرفها القرن العشرون هي مشروع الحداثة الأوروبية والمشروع الاشتراكي العالمي والحركة الصهيونية ومشروع النهضة العربية ...(1/132)
ويلاحظ أن المشروعات الثلاثة المتزامنة والمنافسة التي عاصرها المشروع النهضوي العربي قد حققت نجاحات لا تنكر، وإن أسفرت عن نتائج تتناقض، أو على الأقل تختلف وتبتعد عن طموحاتها.. الخ المشروع الاشتراكي العالمي أعلن إخفاقه على الرغم من شعاره في إعادة البناء لفترة قصيرة، والمشروع الصهيوني تحقق في مئة عام بعكس المشروع العربي القومي. وإن نجح العمل الشعبي وحتى الرسمي في تحجيم المشروع الصهيوني.. الخ ص53. وإذا كانت عوامل خارجية جعلت المشروع العربي يتعثر ويفشل، فإنها لم تفعل فعلها لولا عوامل داخلية مساعدة.. ص58.
ويلاحظ أيضاً أن المشروع النهضوي العربي ارتبط منذ البداية بالأهداف الإنسانية في الحداثة الأوروبية والفكر الاشتراكي العالمي، وطرح المسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية.. الخ ص53 ولكنه يتوقف عند الأخطاء التي ارتكبها العرب من حيث النظر إلى الحداثة الأوروبية ببعدها التنويري بدلاً من البعد الذي يعبر عن علاقة السلطة بالمعرفة وانتصار السلطة على المعرفة. ويحدد دعائم الحداثة الأوروبية في القوة التي عبر عنها التوسع الاستعماري، والمنافسة التي ميّزت التنافس الأوروبي، والمعرفة التي هي أساس الفكر التحديثي.
ويعلل الدور التخريبي للحداثة الأوروبية في المشروع النهضوي العربي بكونه من جنس علاقة السيد بالعبد، وإذا كان القرن الثامن عشر يمثل أيديولوجيا الأنوار، فإن القرن التاسع عشر تتمثل فيه أيديولوجيا الاستعمار الذي نظر إلى مفهوم أوروبا من حيث عظمتها وتفوقها وقدرتها على الهيمنة، استناداً إلى معطيات تاريخية وعرقية وعلموية تجلت في مبدأ البقاء للأصلح وللأقوى وفي مبدأ الاصطفاء الطبيعي والاجتماعي على نحو تحول فيه الشرق إلى موضوع للمعرفة.(1/133)
سيرى د. الجابري أيضاً أن أيديولوجيا الوحدة والتقدم منذ القرن الماضي وإلى اليوم في تعارض مستمر مع مصالح الحاكمين وإراداتهم.. ويعلل انفصال السياسة عن الأيديولوجيا في دولة الاستقلال القطرية بغياب الديمقراطية بالدرجة الأولى.. فالنخبات كلها تخاف الديمقراطية.. نخبة الدولة الليبرالية والنخبة التقليدية ونخبة الثورة.. ص143، ص145.
ولكنه سيجد في الانتماء إلى الأمّة العربية مسألة نهائية، فالفكرة القومية بقيت حية في داخل الدولة القطرية، ووحدة الحاضر العربي في نفوس العرب، وفي رؤى غير العرب، أقوى وأعمق من أي وقت مضى.. الخ ص51-52.
إن أسئلة الوحدة والتقدم والعقلانية والديمقراطية ما تزال هي أسئلة المشروع النهضوي العربي السابق والراهن وما تزال أسئلة الحداثة والتأخر من أسئلته الأولى أيضاً، وهي أسئلة تستحضر العلاقة بين الذات والآخر أو العرب والغرب، كما تتطلب تأمل واقع النظام العربي وعلاقته بمشروع الأمة القومي والديمقراطي.
يلاحظ د. جدعان في تحديده آلية النظر والتحليل أهمية الواقع المشخص، وإقامة تراسل بين موضوع إرادتنا وبين استطاعتنا على تحقيق هذا الموضوع، فاختياراتنا ترتبط بمفهوم "المناسب" و"الأنسب" على حد تعبيره، ويرتبط المناسب بما هو واقعي، أما "الممكن" فلا يعني إنكار الضروري المطلق ... والعقلانية، عنده ليست غير مبدأ موجه من بين مبادئ عدة، قد تكون الحلقة الأضعف في تكوين الإنسان الأنثربولوجي.. الخ ص35-ص45.(1/134)
ويعتبر أن الواقع التاريخي أعلن تمكّن الاختلاف في حياة الناس ومصائرهم وأفكارهم وتغير الأحوال في العصر الحديث. وواقع الاختلاف، برأيه، يوجه إلى واقع جديد هو واقع الحوار الذي هو قبل كل شيء، استعداد ذهني يرتبط بعملية بنائية نقدية للعادات والنظم العقلية السائدة وسلطات الاستبداد.. الخ ولا بد من إضفاء قيمة التواصل على العلاقات الإنسانية المحكومة بمبادئ الصراع ومواقفنا من أنفسنا وأحوالنا ومن الغير لا يمكن أن تستند إلى رؤية "إجماعية" أحادية ومطلقة.. الخ ص50، ص51-ص52.
وهو يدعو إلى نقد الفعل بشكل خاص، ما دام إصلاح العقل عبر نقده غير كاف لتوجيه مناشطنا وأفعالنا، ولأن حالة القيم تعاني من اضطرابات سلوكية في مناشط الأفراد تفضي إلى أحوال ارتكاسية شاملة في حالة المجتمع والدولة.. ص95.
ولذلك توقف عند معركة النفاق أو "معركة الأقنعة" التي يجب على قوى الإصلاح خوضها ما دام النفاق يحول وجودنا إلى وجود زائف، وما دام العالم السياسي هو أحفل العوالم الاجتماعية بالنفاق.. ص67، ص76 وقد شملت وجوه الوجود الزائف حياتنا.. الخ الخ..
ولا يتحقق خلاص الأمة عند د. جدعان إلا بإنفاذ مشروع إسلامي تتجسد فيه أحكام الدين وقواعده.. ص439 بينما تجسد محور هذا الخلاص قضية الوحدة والتقدم عند د. الجابري وعند سواه أيضاً.
ووفقاً لتعبير د. جدعان فإننا سنكون واهمين كل الوهم، إن ظللنا متعلقين تعلقاً مطلقاً بالمفهوم التقليدي للقومية العربية، لأن الواقع تحول تحولا عظيماً عن هذا المفهوم.. ص442 بينما يرى د. الجابري أن الانتماء إلى الأمة العربية مسألة نهائية.. الخ.(1/135)
سيرى د. جدعان أيضاً أن الإخفاق الشامل للأنظمة السياسية الوطنية والقومية والاشتراكية في العالم العربي هو الذي ولد ما أطلقت عليه أجهزة الإعلام الغربية اسم الأصولية.. ص210 ولكنه يتساءل عما إذا كان الإسلام قادراً على أن يكون اليوم وفي المستقبل المنظور بديلاً للمشروع الغربي.. ص240 وقد وجد أن على الإسلام أن يقف موقفاً إيجابياً من واقعة الحداثة وإلا جرفه التيار على غير نظام أو هدى.. ص339.
أما أزمة الآفاق المسدودة، على حد تعبيره فقد عززت من عمل الحركات الدينية السياسية الصدامي، وشجعتها على الدعوة إلى بديل راديكالي للأوضاع القائمة وللهيمنة الغربية ولقيم الحداثة.. ص202-213 وبخاصة بعد أن تمثلت أزمة الآفاق المسدودة في فساد الأنظمة السياسية والاجتماعية وفي الأزمة الاقتصادية وفي الانحطاط الأخلاقي..
وهكذا يجد أن حظوظ العالم العربي والأمة العربية من الاندماج والتوحيد باتت أضعف مما كانت عليه في أي وقت مضى. ولن يرد أحوال التحلل والتدهور عن مسارها الكارثي إلا "تحدّ وجودي جديد يضع "المصير" أمام خطر حقيقي داهم.. الخ ص367-368.
***
تتفق أكثر من مراجعة نقدية، ومنها مراجعة د. الجابري ود. جدعان على نجاح مشروع الحداثة الغربي، وعلى نجاح المشروع الصهيوني الذي صعد معه، بينما ترافق إخفاق المشروع القومي العربي مع إخفاق المشروع الاشتراكي العالمي، واتضحت هزيمته مع هزيمة المشروع الاشتراكي العالمي وسقوط الاتحاد السوفياتي ولكن هذه النجاحات وتلك الإخفاقات لا تعني إلغاء الصراع: صراع الطبقات والأيديولوجيات والقوى الاجتماعية بعامة، ولا يعني نهاية الصراع بين شرق وغرب أو شمال وجنوب أو غنى وفقر، ولا يعني أن البشرية انتهى بحثها عن حلول دنيوية وغير دنيوية لعذاباتها ولمشكلاتها.(1/136)
وليست هيمنة الحداثة الغربية إلا مرحلة تاريخية تجلت، وتتجلى في ظواهر ومظاهر مختلفة فهي جزء من مشروع الكائن الإنساني في إنجاز ذاته على هذا الكوكب الأرضي..
وما المشروع النهضوي العربي غير جزء من مشروع إنساني عادل يبحث عن ذاته!
يرى د. جدعان أنه لا سبيل للعرب إلا في التفاعل والتواصل، وأننا نحن والغرب في حالة خوف صريحة، لكن خوفنا ينبغي أن يكون أعظم.. ص184.
أما الأحوال التي تستدعي مراجعات شاملة وسياسات للعمل موضوعية وفاعلة برأيه فهي إعادة بناء صورة الإسلام الكونية ومحاصرة الصراع واستيعابه وتمثل الوجوه الإيجابية من الحداثة الغربية بالإضافة إلى الوعي بالغرب والحوار معه ومضاهاته وتحرير الذات من عقد النقص وتصميم سياسات "دفاع" اجتماعي حقيقي مشخصة.. الخ الخ ص185.
أما الوصف الذي يعبر عن وضع كل من الحداثة الأوروبية والحركة الصهيونية والاشتراكية العالمية في أفق القرن الحادي والعشرين فهو الـ "ما بعد" وفقاً لتحليل د. الجابري أي ما بعد الحداثة، ما بعد الصهيونية، ما بعد الاشتراكية العالمية، ومفهوم الـ "ما بعد" عنده لا يعني وجود فاصل بينه وبين ما هو كائن، بل يعني الاستمرار في شكل جديد عبر منطق تختلف زاوية الانعطاف أو الانحراف" فيه من مكان لآخر ومن زمن لآخر ... الخ ص187.
ويشير د. الجابري إلى أن فلسطين "القضية" لم تنته بعد فإذا كانت شعارات المشروع النهضوي في الوحدة والتقدم والتحرير لم تنجز بعد، فإن شعار (من النيل إلى الفرات) الذي يحرك فكرة المشروع الصهيوني ما زال بعيداً..
ص188
ما الاحتمالات التي توجه المشروع النهضوي العربي إذاً؟
وكيف تتحرك قواه في مرحلة الـ "ما بعد" عربياً ودولياً؟
وإذا كان هذا المشروع يعبر عن إرادة المستقبل التي هي الإرادة في التغيير، فما القوى التي تؤسس لهذه الإرادة؟(1/137)
وهل الأمة في مشروعها قادرة على التغيير؟ يتطلب التغيير وفقاً لتعبير د. الجابري الامتلاء بالثقافة العربية الذي هو امتلاء بالهوية. ودونها يكون الانفتاح على الثقافات الأخرى مدعاة للاستلاب والاختراق.. ص177.
ولكن كيف تنعكس آثار مرحلة الـ (ما بعد) على الواقع العربي الراهن، وعلى المشروع النهضوي العربي الذي تحركه إرادة المستقبل، أي الإرادة في التغيير في ظل عولمة "ساحقة" وفي ظل سياسات وكيانات "قطرية" تهدف إلى أن تكون مشروعة؟
وكيف يكون "الإسلام" جزءاً من مشروع نهضوي عربي يمتلكه بدلاً من أن يتصالح معه، ويتكامل به بدلاً من أن يتناقض معه أيضاً؟
وأي تناقض بين الهدفين الرئيسين اللذين هما الوحدة والتقدم وبين الإسلام؟
وهل يفترض التغيير إعادة بناء الأهداف الكبرى من داخل علاقة حديثة ومتكاملة بين العروبة والإسلام، بالإضافة إلى العلاقة بين التفكير والعمل؟
***
ما يزال مفهوم النهضة مفهوماً مركزياً في الثقافة العربية المعاصرة، يتجاور مع مفهوم الحداثة أو يتقاطع معه.
وما يزال هاجس النهضة وهاجس الحداثة يحركان المراجعة النقدية والتأمل الفكري في حوارات المثقفين العرب بعامة..
سيرى بعضهم أن النهضة نهضة مزعومة على حد تعبير د. أحمد برقاوي(4) ويمكن تسمية المرحلة بمرحلة نشوء التبعية ص36. ص37 فقد مات عصر النهضة ليبدأ عصر الدولة القطرية.. وما زال عصر الثورة خجولا وفقاً لتعبيره ص125 بينما يفترض د. طيب تيزيني الذي تشتغل اهتماماته الآن على المشروع النهضوي أن سقوط الفكر العربي المعاصر في أحد أوجهه الكبرى هو الذي يمثل الوريث الشرعي لاتجاه الإخفاق في الفكر العربي الحديث النهضوي.. ص13.(1/138)
وسيلاحظ جورج طرابيشي (5) توقف مشروع النهضة التي صادرتها الثورة أكثر مما ورثتها. كما سيلاحظ أن هذا الفشل المزدوج، الثوري والنهضوي معاً، والذي تواقت على كل حال مع الهزيمة العربية الكبرى في حزيران/ يونيو 1967، قد نكأ الجرح النرجسي الذي ما كان اندمل أصلاً.. بل إن الأصولية الإسلامية الراهنة هي، جزئياً على الأقل، من افراز هذا الجرح في الطور الجديد في نزفه.. الخ ص83.
هكذا تتجدد المراجعة النقدية وتستمر وقد يصاحبها اعتراف بالهزيمة يتضمن تساؤلاً عما بعد الهزيمة..
فهل دخل التفكير العربي في مرحلة ما بعد الهزيمة؟ وهل توقفت الهزيمة العربية حقاً؟
تستمر المراجعة النقدية إذاً فكيف ندخل في مرحلة ما بعد المراجعة النقدية، أي مرحلة الفعل التي تؤسس لمشروع نهضوي عربي حديث؟(6).
قد لا تكون مرحلة المراجعة النقدية سوى مدخل إلى ما بعد المرجعة النقدية، وكلتاهما مدخل إلى الفعل، ما دام التغيير يفترض التفكير والعمل.. وستنتجان الآن أو فيما بعد خطاباً عربياً حديثاً هو جزء من خطاب هوية ينتمي إلى مفهومات عقلانية وديمقراطية وعلمانية وتعددية مهما اختلفت المواقف من هذه المفهومات!
وستكون المراجعة النقدية دليل حوار ومشاركة وتواصل بدلاً من أن تكون عامل قطيعة وتناقض وتضاد!
فما جدوى أن تلتقي هذه المراجعة أو تلك بهجاء نهضة أو السخرية من حداثة أو التحذير من أصولية ما؟
وأي بديل يقترحه إعلان ما عن سقوط نهضة أو فشل ثورة أو أفول مشروع وتآكل طبقة أو شبه الطبقة؟
وإذا كانت الرهانات السابقة، كلها أو بعضها قد فشلت، فأي رهان تستطيع المراجعة النقدية أن تشتغل عليه سوى رهان الوعي الحر الذي تمتلكه إرادة حرة أيضاً هي إرادة أمة لم تمتلك بعد لحظتها الذاتية ومشروعها التاريخي!(7).
وكيف تتجاوز تدريباتنا واختباراتنا النقدية حوار الياس إلى اختبار الأمل؟
((
( هوامش ومراجع
((1/139)
1) ... لا مسوغ لاحصاء الدراسات النقدية الكثيرة التي قاربت مشروع النهضة العربية الأولى ومشروع النهضة العربية الثانية، وفقاً لتعبير ياسين الحافظ وإلياس مرقص، وقد تفيد الإشارة إلى بعضها مثل الأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي. والفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939 لالبرت حوراني والمجتمع العربي المعاصر لحليم بركات، والفكر العربي في العصر الحديث لمنير موسى، والفكر العربي في معركة النهضة لأنور عبد الملك، والهزيمة والأيديولوجيا المهزومة لياسين الحافظ، وغيرها..
(2) ... د. محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية) مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1996.
(3) ... د. فهمي جدعان، الطريق إلى المستقبل أفكار- قوى للأزمنة العربية المنظورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1996.
(4) ... د. أحمد نسيم برقاوي، قراءة في عصر النهضة، دار الرواد1988.
(5) ... جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردة (تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة دار الساقي 2000.
(6) ... مصطفى خضر، الحداثة كسؤال هوية، اتحاد الكتاب العرب 1996، مشروع وعي مشروع نهضة، مشروع نقد، ص64-ص103.
(7) ... يرى عبد الإله بلقزيزاننا حين نفتح ملف هذه المراجعة تستوقفنا ظواهر ثلاث تغري بالنقد: درجة التراكم المعرفي ومضمون الإنتاج الفكري وتتعلقان بالمستوى المعرفي وظاهرة أنماط توظيف الإنتاج الفكري في الحياة العامة، وتتعلق بالمستوى الأيديولوجي ص57-ص58.
... ويؤكد على مراجعة ونقد كل شيء مما ركن المثقفون العرب إلى مسلماته ص77، وأسوأ أنواع النقد ما يفقد جوهره، فلا يكون إلا طقساً معرفياً ص100-نهاية الداعية الممكن والمتنع في أدوار المثقفين المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000م.
((
الفِعْلُ والكِتَابَةُ:
(مفهومُ المقاومةِ في
الكتابة العربيّة الحديثة والمعاصرة)(1/140)
لنفترض أن الخطاب العربيّ الحديث والمعاصر هو خطاب مقاومة بعامّة، ويتضمّن عناصر مجابهة ورفض واحتجاج وتضادّ، ما دام يبحث عن ذاتيته واستقلاليته ومستقبله، ويحاول سؤال هويّة يعيد إنتاجها وامتلاكها، ويتفاعل مع سؤال حداثةٍ، هو في بعض موارده وعناصره سؤال هويّة قيد الإنجاز..
وإذا كانت المقاومة في بعض تجلياتها موقفاً من الواقع والحياة والعالم، فهي فعل مضاد ومغاير ومختلف، يفصح عن وعي جديد يوجّه كتابة بعضها قد يسبق الفعل، وبعضها الآخر قد يصاحبه، أو يليه، سواء أكانت المقاومة تواجه قوى وأوضاعاً وعوامل خارجيّة، أم كانت تجابه شروطاً وبنى داخليّة!
يؤسّس للمقاومة من داخل صراع خارجيّ أو داخليّ إذاً. وليست المقاومة الثقافية إلاّ شكلاً من أشكال المقاومة التي يشكّل الإنتاج الأدبيّ الإبداعيّ والنقديّ مظهراً من مظاهرها..
المقاومة في الأدب جزء من المقاومة الثقافية بعامة. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر كان ثمة مقاومة مسلحة دائماً، ترافقها مقاومة ثقافية، ربّما كان أبرزها تلك المقاومة الثقافية في مواجهة الغزو الاستيطاني الصهيونيّ، وهي جزء من مقاومات ثقافيّة مختلفة ومتنوّعة سبقتها، وتلتها في أكثر من مكان عربيّ!
وقد كان مفهوم المقاومة، ولم يزل، يمثّل علاقة الجماعة أو الشّعب أو الأمة بالمعنى وبالمصير، فهي فعل يجاهد من أجل الوعي بالذات، وبخاصّة في مرحلةٍ تتحوّل فيها الذات إلى موضوع هيمنةٍ إمبريالية تعزز هيمنة صهيونية، وهيمنة صهيونية تشيع هيمنة إمبريالية..
إنّ روح المقاومة تتجلى في الإنتاج الأدبيّ العربيّ، قديمه وحديثه بمعنى ما(1)، فقد كان ثمّة علاقة بين الشعر والتحرّر والتحرير وحالات "التمرّد" المختلفة. واختارت الأعمال الأدبيّة المهمّة الصراع مع قوى التأخّر العربيّ وبناه. وكانت تؤسس لمفهوم التغيير الذي ترافق مع مفهوم التحرير بعامّة، ولم تقتصر على التفاعل مع المقاومات المسلّحة في هذا المكان العربيّ أو ذاك..(1/141)
وإذا كان التحرّر من هيمنة الخارج جزءاً من الموضوع العربيّ في الكتابة العربيّة الحديثة والمعاصرة، فإنّ تغيير علاقات الداخل وتحريرها يشكّل هاجساً من هواجس علاقتها مع سؤال الحداثة..
وربّما كان تحرير الفعل الذي هو مقاومة جزءاً من تحرير الكتابة. وربّما كانت المقاومة التي هي فعل تغيّر وتغيير عاملاً من عوامل تغيّر الكتابة العربيّة وتغييرها.
وما تحرير الفعل والكتابة سوى تحرير للوعي بالذات!
في مشروع نهضة عربيّة أولى حاولت تيارات أو اتجاهات أو ميول فكريّة مختلفة مواجهة "الغرب" بعد أن جابهت "التتريك"، واختارت هويةً إسلاميّة أو إسلاميّة –عربية أو عربيّة إسلامية. واقترحت "جيوب" علمانية توظيف مفهومات الغرب وفرضيّاته وطرائقه وأدواته في إنتاج مجتمع حديث، وبخاصة في مرحلة كان الغرب فيها هو العالم. وكانت مقاومة التأخر في الداخل تعني "التحديث". ولكنّ التحديث لم يستجب دائماً لمتطلبات حياة عربيّة جديدة، إن لم يكن عامل "تغريب"!
اشتغلت الكتابة العربيّة في تلك المرحلة على مفهوم الحريّة.. وحاولت موضوعات تحرير الإنسان والعقل والمرأة والمجتمع والعلاقات والطبقات والقوى وغيرها.. وهي موضوعات عني بها خطاب إسلاميّ أو إسلاميّ عربيّ أو عربيّ إسلاميّ، وعني بها خطاب قومي علمانيّ أو ليبراليّ أو راديكاليّ..
حاولت الكتابة الشعريّة إحياء "التراث الشعري" أو استعادته، إذ عادت في بعض أنموذجاتها الأولى إلى لغة العصر العباسيّ، واستعادت تشكيل قصيدته وأغراضها واهتماماتها وقيمها ومواقفها وبلاغتها وبيانها، وبخاصة بعد أن طغت "العاميّة"، وتأخرت اللغة العربيّة الفصيحة بين سياسة "تتريك" من قبل وسياسة "تغريب" فيما بعد!
وحاولت الكتابة السرديّة رؤية الواقع وتطوّراته، دون أن تتجاهل رؤية وقائع التاريخ ومعطياته، لتقدّم شهادات متنوّعة ومختلفة عن التاريخ والواقع..(1/142)
ولم يكن إحياء "البيان" العربيّ التراثيّ غير مدخل إلى مشروع بيان عربيّ حديث يتفاعل مع هويّته، ويجدّد أدواته من داخل علاقته مع عصره، وانفتاحه على لغة الغرب ومفهوماته الحديثة أيضاً. وقد تدرّب هذا البيان على تكييف عناصره، وعلى تبيئة عناصر غربية تدخلت في تطويره. وتماهى التدريب مع التجريب، واختلط التجريب بالتغريب.
وكانت بدايات تحرير الفعل العربي عاملاً من عوامل تحرير الكتابة التي ستبحث دائماً عن أفق مختلف ومغاير وبديل!
وربما كان مفهوم الحريّة يتطابق مع مفهوم هويّة اشتغل عليه مشروع نهضة عربية أولى، بما اشتمل عليه من عنوانات تنتمي إلى الأمة أو اللغة القومية أو اليقظة العربية أو التاريخ العربي الإسلامي والإسلامي العربي.. وسيتطابق مفهوم الهوية مع مفهوم الحرية في مقاومة هيمنة إمبريالية تشاركها هيمنة صهيونيّة على المكان العربيّ والجماعة العربيّة...
في مشروع نهضة عربيّة ثانية، عبّرت عنها قوى وطنيّة وقومية جديدة كانت "الهويّة العربية" مبدأ تحوّل جديد في الاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والأدب والفنون.
وستشيع بسرعة مفهومات أدب الحياة وأدب المعركة أو الأدب الملتزم والأدب الحضاريّ والأدب الثوريّ وغيرها..
وسيتناول النقد الأدبيّ مفهومات البطل القوميّ والبطل الإيجابيّ والبطل الثوري أو العربي الثوريّ وغيرها أيضاً.
وستقترح تطورّات مختلفة مفهومات المقاومة في الأدب والأدب المقاوم والفكر المقاوم، إذا اقترحت "نظريات" الكفاح المسلّح والمقاومة الشعبية المسلّحة والانتفاضة الشعبيّة والعمل الفدائيّ وغيرها من مفردات "سياسة" عربيّة تهدف إلى تحرير الفعل العربي في مواجهة "تفوّق" عسكريّ إسرائيلي استيطاني ...(1/143)
وربما صاحبت الدعوة إلى تحرير الفعل العربي دعوة إلى تحرير الكتابة العربيّة، أو سبقتها، أو تلتها، أو تجاورت معها. وقد ارتبطت بمدخلات ثقافيّة إبداعيّة ونقديّة، وفكريّة تفاعلت مع مفهوم "نظرية الثورة" أو "نظرية الثورة العربيّة"، وبخاصة بعد أن أنجزت أمكنة عربيّة استقلالاتها القطريّة، وانفجرت انقلابات اجتماعية في أكثر من قطر عربيّ بمبادرة عسكريّة أو شعبيّة متحالفة مع نخبات حزبيّة أو جيوب اجتماعيّة جديدة أعلنت شعاراتها الخاصّة بالمستقبل العربي أو التقدّم الاجتماعي والصراع العربيّ- الصهيوني أو المصير العربيّ..
إذا كانت "اليوتوبيا" القوميّة والاجتماعيّة هي موضوع الإنتاج الإبداعيّ والثقافي بعامة، فإن "المأساة" القومية والاجتماعية العربية هي في أساس هذا الموضوع الذي اشتغل عليه سرد وشعر ونقد، وكان مصدر تأمّل وتفكّر ومعاناة ومعاينة في الخطاب العربيّ الذي لن يكون بطله الثوريّ العربي سوى بطله المأساوي بامتياز!
وسيعكس إخفاق مشروع النهضة الثانية مقاومات مختلفة للهيمنة في الداخل وفي الخارج، وتحاول الانتاجات الأدبيّة والنقديّة أن تعيد النظر في حداثتها التي لم تستطع أن تنتج وعياً مطابقاً للواقع، ما دامت تعاني من داخلها أزمة تشبه أزمة "نظام" عربيّ لم يمتلك حداثته، لأنه لا يمتلك هويته، فقد تقنعت رهاناته في السياسة بمظاهر حداثة "قطرية" استبعدت المشروع القوميّ العربيّ في الفعل، واكتفت منه بشعارات وإعلانات وألفاظ ومناسبات..
واكتفى بعض الإنتاجات الإبداعية والنقدية بـ "أزياء" حداثة أعلنت الرفض أو التضاد أو المقاومة "اللفظية" بديلاً، إذ استبعدت الرهان على هُويّة منجزة أو قيد الانجاز!(1/144)
وستؤرخ هزيمة حزيران في عام 1967 لنهاية مشروع النهضة الثانية، وإن دفعت بجزء من الخطاب العربيّ إلى أن يكون أكثر راديكالية، وجعلت قواه المختلفة تعيد النظر في ذاتها وفي غيرها، ورفعت قوى قوميّة شعارات "العلميّة" و"الثورية" و"العلمانيّة" واعتبرت الماركسيّة مصدراً رئيساً من مصادرها. واندفعت قوى شيوعيّة محليّة إلى إعادة النظر في علاقتها بالمسألة القوميّة والموضوع الفلسطينيّ والعمل الديمقراطيّ ... ولاحظت جيوب إسلاميّة شعبيّة وغير شعبيّة علاقة بين محنة العرب أو هزيمتهم وبين تخلّي العرب عن "الدين" أو إلحاد أنظمة عربيّة حديثة.
ولكن المقاومة العربية المسلّحة التي أنتجها "وضع" عربيّ مضطرب تحوّلت بإراداتها ورهاناتها إلى فعل استراتيجي.. واستطاعت الإنتاجات الإبداعية والنقديّة أن تدوّن معاني ورموز اً يقترحها هذا الفعل ...
فهل كانت هزيمة حزيران عاملاً في حضور "نقد ذاتي" يحتفي به الفكر والأدب والفن؟
وما الذي يقدمه نقد ذاتي اقتصر على الرفض والاحتجاج والهجاء والتضاد، دون أن يتجاوز هزيمة شاملة هو جزء منها؟ وهل كان النقد شاملاً حقاً؟
وإلى أيّ مدى استطاع أن يكون عاملاً من عوامل المقاومة في السياسة والأدب، أو في القصيدة والقصّة والمسرحيّة والرواية والمقالة السياسيّة والدراسة النظريّة والفكريّة والنقديّة؟ وهل استطاعت أشكال المقاومة المسلّحة ومعطيات حرب تشرين في عام 1973 أن تشيع "روح" التفاؤل في الإنتاج الأدبيّ والنقديّ؟
وأيّ معنى لتفاؤل مّا، لا تصاحبه مقاومة مستمرة، تعلي من قيم المجابهة والتضحية والشهادة والتحدّي والفداء وغيرها!(1/145)
إن المعنى الذي يقترحه الأنموذج الفدائيّ أو الأنموذج المقاوم سيشيع فضاء كتابة مختلفة في نصّ يتضح ارتباط موضوعه الفلسطيني بفضائه العربيّ. وإن اختلف بعضهم في تساؤله حول فرضيّة تحرير فلسطين كطريق إلى الوحدة العربيّة أو فرضيّة الوحدة العربيّة كطريق إلى تحرير فلسطين، وعلى الرغم من أن تآكل "الأوضاع العربيّة" بعامة، و"الوضع الفلسطيني" منها، قد أدّى إلى اختيار فرضيّة القرار الفلسطينيّ المستقلّ، واختبارها، على نحو أنتجه انهيارُ سياسات عربية وتطوّرات محليّة وإقليميّة وقوميّة ودوليّة وعالمية..
وكانت التجربة الأدبيّة أكثر معاناة وعلاقة بمأساة الوضع العربيّ والشرط العربيّ، وأكثر وعياً بالواقع العربي ووقائعه المتكاثرة وتناقضاته المختلفة، تشاركها بحثها واهتماماتها وهواجسها أنموذجات فكرية ونقديّة تنوّعت سجالاتها وخلافاتها واختلافاتها ومراجعاتها، وبخاصّة في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية..
وكان الأنموذج البديل المقاوم أو النقديّ أو الضدّي هو الأنموذج الذي اشتغل عليه الشعر أو السرد، ليعبّر عن العلاقة بين تحرير الكائن العربيّ وتغيير الواقع العربيّ، وكأن "منطق" الأنموذج المقاوم هو منطق التحرير والتغيير..
يتضمّن مفهوم المقاومة إذاً مفهوم التحرير الذي يتضمّن فكرة التغيير.
ويتحوّل مفهوم المقاومة في الإنتاج الإبداعي والثقافيّ إلى إحدى القيم الإنسانية المطلقة، وبخاصّة في منطقة عربيّة يحاول تاريخها المعاصر أن ينجز ارتباطه وتفاعله مع قيم الهويّة والحداثة والحريّة..
وسيعزّز مفهوم المقاومة مفهوم هويّة قابلة للإنجاز، ويستمر إنجازها، لتعزز، بدورها، مفهوم حداثة قيد الإنجاز في الأدب والنقد، وبخاصة بعد مقاومة وطنيّة وقومية صاحبت الاجتياح الإسرائيلي لأرض لبنان وتلته، وبعد هجرات للعمل الفلسطيني انتهت إلى اتفاقية واتفاقيات لم تستطع أن تلغي افتتاح دروس "الانتفاضة" من قبل، أو من بعد!(1/146)
نفترض إذاً أن مفهوم المقاومة ليس مفهوماً مؤقتاً أو طارئاً، بل هو جزء من مفهوم هويّة تعمل على إنجازه، ويمكن أن ينجز، وقد تعامل معه الإنتاج الإبداعي والثقافيّ العربيّ المعاصر كمدخل إلى وعي اللحظة الذاتيّة بعامّة ويلاحظ في هذا الإنتاج تضادّه مع أشكال الهيمنة الخارجيّة بالإضافة إلى تضادّه مع أشكال التأخر العربيّ، أكان قليله أو كثيره ردود فعل على أحداث ووقائع، أم كان قليله أو كثيره دعاوة لفضيلة المقاومة أو إعلاناً عن قيمة إنسانية حديثة وعادلة، أو إعلاماً يحتفي بمرحلة جديدة في حياة الجماعة والأمّة.
*
سنفترض أيضاً أن للمؤسسة الثقافية العربيّة علاقة مّا بالمقاومة وبأدب المقاومة. وقد يعبّر وضعها الراهن عنها بأشكال يتوقّع منها الاحتفاء بفكرة المقاومة وبالعمل المقاوم وإشاعة قيمة المقاومة كإحدى القيم الكبرى..
وقد نستطيع أن نذكر أكثر من مثال احتفائي بالمقاومة!
أصدر (المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ) كتاب (المقاومة في التعبير الأدبيّ) وشارك فيه أكثر من أربعين كاتباً لبنانياً، واقتصر الاختيار على كتابات اللبنانيين دون غيرهم من الأدباء العرب، لعل الناشر يوفق إلى إصدار كتاب آخر يكون وقفاً على المختار من الكتابات العربية..
وترى مقدّمة الكتاب أن جذور أدبنا المقاوم تمتدّ عميقاً في تاريخ الأدب العربيّ القديم والحديث.. فكم من إبداع أدبيّ سابق على المقاومة.. بل إنّ كل عمل فني ناجح هو أيضاً عمليّة مقاومة، وإن كانت سمعة الأدب المقاوم في العالم أنّه "أدب مباشر" ..(2)
وتضمّن مجلّد (المقاومة في الأدب) الذي أصدره اتحاد الكتّاب العرب في القطر العربيّ السوريّ اثنتين وخمسين مقالة وثلاثاً وثلاثين قصيدة وعشرين قصة من تأليف كتّاب سوريين..(1/147)
وتتوقع مقدّمته أن يقدّم إسهاماً في أدب المقاومة من قبل كتّاب (واكبوا ذلك الجهد السامي الذي يقدّمه أبطال المقاومة اللبنانيّة في جنوب لبنان( ... ) وهي مختارات من ذلك الإنتاج الذي كتب ( ... ) ليكون ناراً ونوراً.. ناراً تحرق الفساد الذي يصيب الضمائر.. ونوراً يهدي إلى طريق الشهادة، ويضيء صرحها الشامخ في أرضنا العربيّة.. الخ(3).
ويقدّم بعضهم إنتاجاً يحتوي على صور من أدب المعتقل
ومعسكراته ومعتقل النساء بالإضافة إلى (نفحات أدبيّة خطّها بعض المقاومين والمعتقلين ... ).. الخ(4).
*
يتفاعل مفهوم المقاومة في الأدب مع مفهوم الثقافة المقاومة.
وتعني الثقافة المقاومة عند د. مسعود ضاهر – على سبيل المثال -ثقافة المواجهة، أي ثقافة التغيير التي تتضمّن المواجهة بالتراث وبالحاضر وبالمستقبل. وهو يؤكد الحاجة إلى ثقافة التغيير الجذريّ، وإلى فكر ثقافيّ عربيّ وحدويّ جديد، وإلى أنتلجنسيا عربيّة طليعيّة، وإلى الإبداع المقاوم. ويرى في المجابهة الثقافيّة داخل الأرض المحتلة توكيداً للهويّة الفلسطينيّة وتحدّياً للعنصريّة الصهيونيّة ومجابهة للتحديّات في تهويد القدس والتمسّك بالأرض طريقاً للانتصار.. الخ(5).
المقاومة الثقافية إذا جزء من المقاومة القوميّة. ولا بد للخطاب العربيّ أن يمارس فعله الثقافي لإنجاز التحدّي الحضاريّ في مواجهة التحدّي العنصريّ الصهيونيّ الإمبريالي..
وليست المقاومة في الأدب سوى حركة من حركات المقاومة الثقافية التي تسبق الفعل المقاوم، وتصاحبه، وتليه..
وهل الكتابة المقاومة سوى مدخل إلى وعي مقاوم؟
أليست الكتابة المقاومة هي الكتابة المضادة والبديلة؟
وهل النزعة القوميّة في الأدب العربيّ سوى نزعة مقاومة، تهدف إلى تأسيس كتابة مغايرة ومختلفة، وتنتمي إلى سؤال أمّة تحاول تحقيق ذاتيتها واستقلاليتها وحداثتها في العالم..(1/148)
يشكّل الموضوع العربيّ، بظواهره ووقائعه وتحوّلاته وتطوّراته، محور الإنتاج الأدبي العربيّ الحديث والمعاصر. وقد تجلّى فيه (معنى) المقاومة أو أضمر على هذا النحو أو ذاك. ولهذا المعنى مضاعفاته ودلالاته وإشاراته ورموزه في الإنتاج الإبداعيّ والنقديّ منذ أعمال الباردوي واليازجي والبستاني والشدياق وشوقي وحافظ إبراهيم والجواهري وجرجي زيدان وفرح أنطون وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم كثير، وحتى أعمال نجيب محفوظ وأبو ريشة وسليمان العيسى ومحمود درويش وخليل حاوي وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وغيرهم كثير أيضاً ... (6).
وقد كانت هذه الأعمال، بعضها أو كلّها، موضوع درسٍ كثير. وسيكون بعضها، أو كلّها وغيرها، موضوع درس كثير أيضاً!
وربّما كان موضوع المقاومة الذي هو الموضوع القوميّ العربيّ أحد الدروس الكبرى التي يستطيع البحث أو النقد أن يتأمله، ويحلّله فيها..
ويستطيع البحث أو النقد أيضاً أن يؤرخ لهذا المنبر أو لتلك الدوريّة بمتطلّبات حركة أدبيّة عربيّة تهدف إلى أن تكون مقاومة. وقد علل بعضهم، مع مطالع مشروع نهضة عربية ثانية، الحاجة إلى أدب ملتزم، يحمل رسالة قومية مثلى، وينبع من حاجة المجتمع العربيّ، ويصبّ فيه!(7).
إن الموضوع العربيّ القوميّ ، والموضوع الفلسطيني جزء منه، هو موضوع المقاومة الذي تحاول فيه الأمّة وعيها بذاتها، وتقارب عنوانات تحرّر وتحرير وتغيّر وتغيير وتمدّن ومدنيّة وحضارة وهوّية ومجتمع وحداثة، وتعمل على "بعث" كتابة التراث لغةً وطريقة تعبير وتفكير، بالقدر الذي تعمل فيه على "تأسيس" كتابة مختلفة ومغايرة وحديثة ترى في سؤال الحداثة سؤال هويّة يفترض مجابهة أشكال هيمنة خارجيّة ومواجهة وشروط تأخر داخلية!(1/149)
هكذا اقترحت الدعوة إلى كتابة حديثة فعلاً حديثاً منذ بدايات مشروع النهضة العربيّة الأولى وحتى نهاية مشروع النهضة العربيّة الثانية، وهما المشروعان اللذان لم يسقطا بفعل هيمنة غربيّة وغربية صهيونية فحسب، بل كانت أوضاع التأخر العربي وشروطه مدخلاً إلى هذا السقوط أيضاً.
وربّما كانت الكتابة العربية المختلفة الآن تعبّر عن مجابهة هيمنة الغرب الإمبريالية الحديثة التي تصاحبها هيمنة صهيونية حديثة أيضاً. وهي كتابة تتفاعل مع فعل مقاوم وسلوك مقاوم، يعبران عن انتماء إلى هويّة تنجز حداثتها!
وإذا كان الفعل المقاوم في هذا المكان العربي أو ذاك يعيد النظر في مشروع نهضة أولى وثانية، فإنه يستعين بمشروع وعي مقاوم ومعاصر، يستعيد سؤال مشروعه النهضوي القوميّ العربيّ، ويعيد إنتاجه، وتشارك في إنتاج هذا الوعي المقاوم إنتاجات أدبية ونقديّة متنوّعة ومختلفة، ما تزال تقترح مراجعاتها، وتستمر في إنجازها.
ولا شكّ في أن الكتابة تنتمي إلى واقع مّا، تعبّر عنه، وتطوّر فرضياتها الفنيّة تبعاً لتغيراته، وتقدّم أنموذجها الراهن واللاحق اللذين قد يتميّزان من أنموذج سابق، ما دامت تحمل قراءة مختلفة لأزمة فعل عربيّ هي جزء من أزمة هيمنة وتأخر، وما دامت تتوقّع أن تشكل بالإضافة إلى عوامل أخرى فضاء إنسانيّاً يستطيع أن يعزّز التفكير الحرّ والتعبير الحرّ ...
قد يكون التبدّل في أنموذج الكتابة بطيئاً أو مفاجئاً أو انتقالياً. وقد يردّد طرائق تعبير سالفة إلى هذا الحدّ أو ذاك، ما دامت اللغة لا ينتجها واقع راهن فحسب، بل تنتمي إلى تراث، بعض نصوصه القديمة، والنصوص التي تستعين بها، وتنطلق منها، ما زالت تثير اهتمام جيوب من الجماعة القوميّة أو النخبة القوميّة!(1/150)
ولن يستطيع أحدّ أن يدّعي أنه يمارس لعبة السّرد خيراً من الجاحظ أو التوحيدي ولعبة الشعر خيراً من المتنبيّ أو المعريّ. ولا نستطيع أن نتجاهل روح المقاومة والتحدّي والتضاد في نصوص تراثية بعيدة أو قريبة..
وليس ثمة إمكانية للقطيعة مع تراث هو جزء من مشروع هويّة يحاول أن يمتلك حداثته!
إن الفعل المقاوم لا يعني مجابهة هيمنة خارجية فحسب، بل يفترض أن ينتمي إلى تراث يمتلكه، وتحاول كتابةٌ مقاومة امتلاكه، وإعادة إنتاجه على نحو حديث. وقد تستطيع مؤسّسة عربية حديثة أن تمتلك إرادة ثقافيّة توجّه إنتاجاتها بدلاً من إشاعة رطانات مبهمة ورغبات فارغة ورهانات غير هادفة!
وسيبقى الفعل المقاوم على علاقة حيّة بذاكرة تاريخيّة هي ذاكرة رموز ورموز ذاكرة تعمل على تشكيلها كتابة حديثة تلبّي حاجة روحيّة، وتوفّر متعة فنيّة أيضاً، دون أن يتجاهل الفعل المقاوم أو الكتابة المقاومة أسئلة واقع تاريخيّ عربي معاصر ومغاير، ويحاول أن يكون جزءاً من تاريخ العالم ...
هكذا تشارك الكتابةُ المقاومة الفعل المقاوم في البحث عن الذات، وفي تشكيل الوعي باللحظة الذاتية من داخل مرحلة تاريخية، تعصف وقائعها بالوعي العربيّ والوجدان العربيّ.
وإذا كانت الكتابة بعامة، والكتابة المقاومة بخاصّة، عملاً إشكالياً، فإن الفعل المقاومة فعل إشكاليّ، ما دام يهدف إلى خلخلة تاريخ واقعيّ من علاقات هيمنة وتأخّر!
قد يتوقّف الفعل المقاوم قليلاً، أو ينقطع، أو يضمر. ولكن "روح" المقاومة تبقى مستمرّة وشاملة، بمعنى ما، مضمرة ومعلنة..
وقد تنشغل الكتابة المقاومة بمعاناة فرديّة أو ذاتيّة إلى هذا الحد أو ذاك. ولكنّ هذه المعاناة الفرديّة تشف بشكل ما عن معاناة الجماعة!
وتبقى "ظاهرة" المقاومة في الكتابة مستمرة وشاملة، من حيث علاقاتها بالوقائع أو بأشكال تعبيرها المحتملة..
فهل تتوقّع المراجعة النقديّة من الفعل المقاوم أن يشتغل على ذاته كمشروع قومّي نهضويّ وحضاريّ؟
*(1/151)
المقاومة في الكتابة العربيّة المعاصرة إذاً بنية من بنى المقاومة الثقافية والحضاريّة بعامّة. وقد تسبق "ظاهرة" المقاومة في العمل الأدبيّ أو الثقافي الفعل المقاوم، أو تصاحبه، أو تلبيه. وقد تكون بسيطة أو مركّبة، مضمرة أو صريحة، إعلاميّة أو مؤسسة، هجائية أو تبجيليّة، مباشرة أو غير مباشرة. وقد يشيع فيها تجريب أو تغريب. ولكنها تشارك الفعل المقاوم في مجابهة هيمنة وتأخر، ما دامت تنتمي إلى مشروعها القومي العربي، الذي هو مشروع مقاومة أولاً!
وهل التاريخ العربيّ الحديث والمعاصر سوى تاريخ مقاومة أو مقاومات؟
((
( هوامش ومراجع:
(1) ... تحضر روح التمرد والتحدّي والمقاومة في تراثنا الأدبيّ القديم بعامة وفي تراثنا العربيّ الإسلامي بخاصة وقد قدّم النقد الأدبيّ المدرسيّ وغير المدرسيّ أمثلة مختلفة ووجهات نظرٍ مختلفة حول جوانب كثيرة منها..
... ونجد في مرحلة الحروب الصليبيّة أمثلة على أدب المقاومة بكل الأشكال المعروفة من خطابة ورسائل وشعر وقصص ونوادر ونكات ساخرة بالإضافة إلى بعض قصص ألف ليلة وليلة وبعض السير الشعبيّة..
... والأمثلة التي تفصح عن مقاومة الأدب للاستبداد العثمانيّ والاستعمار الغربيّ، بأشكاله المختلفة، لا مسوغ لإحصائها أو الإشارة إليها، فهي من المدوّنات الباهرة لتاريخ العرب الحديث والمعاصر.
(2) ... المجلس الثقافي للبنان الجنوبيّ، المقاومة في التعبير الأدبي، طبع بعون اللجنة الدائمة المناصرة للمقاومة اللبنانيّة في دولة الإمارات العربيّة المتحدة، 1985-ص13-ص16.
(3) ... مجموعة من الكتّاب في القطر العربيّ السوري، المقاومة في الأدب، منشورات اتحاد الكتاب العرب، تقديم د. علي عقلة عرسان، دمشق 1985-ص4
(4) ... سعدون حسين، أدب المعتقل، مؤسّسة الرؤى للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1984 ص233-245
((1/152)
5) ... د. مسعود ضاهر، مجابهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني (دراسة في الثقافة المقاومة)، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1989، ص142-144-165-180-209-285-317.
(6) ... نستطيع أن نتأمل مفهوم المقاومة في إنتاجات شعرية مختلفة وتطور إنتاج هذا المفهوم من أعمال شاعر مثل الجواهري إلى أعمال شاعر مثل سليمان العيسى إلى أعمال شاعر مثل محمود درويش على سبيل المثال..
... ونستطيع أن نقارن بين مفهوم المقاومة كما يقاربه أدب فلسطين المحتلة والأدب الفلسطيني في الشتات ومفهوم المقاومة في أدب الأقطار العربية المختلفة.
... وقد تكون معالجة هذا المفهوم مفيدة، كما تبرزه سيرة التحوّلات الكبرى في ثلاثيّة نجيب محفوظ ومدن الملح لعبد الرحمن منيف ومدارات الشرق لنبيل سليمان وغيرها أيضاً..
(7) ... يعلّل د. سهيل إدريس صدور مجلّة "الآداب" بوعي الحاجة الحيويّة، إلى مجلّة أدبيّة تحمل رسالة قوميّة مثلى..
... وهكذا تشارك في العمل القوميّ العربيّ العظيم.. ص9-10.
... د. سهيل إدريس، مواقف وقضايا أديبّة، دار الآداب، بيروت 1977.
(8) ... إن مفهوم المقاومة هو مفهوم هويّة قيد الإنجاز، تحاول أن تنجز "حداثتها أيضاً. وهو دليل على وعي الأمة بذاتها، تعبّر عنه الإنتاجات الفكريّة والنقديّة والأدبيّة عبر تطوّراته المختلفة بأشكالٍ مختلفة..
((
ملاحق :
ملحق1
على هامش مقالة
د.علي عقلة عرسان
(مقاربة في الخطاب العربي)
الخطاب العربيّ أمام مصيره القوميّ!(1/153)
يشتغل بعضُ النقد السياسي والاجتماعي والثقافي والنظريّ العربيّ الراهن على مفهوم الخطاب العربيّ. وكانت دراساتٌ سابقة قد اشتغلت على مفهومات الفكر القوميّ والأيديولوجيا القوميّة والأيديولوجيا الانقلابية والنظريّة الثوريّة ونظريّة الثورة العربيّة وغيرها. وكأنّ أعمال هذا النقد الراهن ترى في مفهوم الخطاب العربي مفهوماً حديثاً وإجرائياً يساعد توظيفه على إعادة إنتاج تلك المفهومات في صورةٍ متطوّرة وحديثة، وإن اشتمل على أفكارٍ وقيمٍ واتجاهات أشاعتها تلك المفهومات من قبل في مرحلةً كان العمل القوميّ السياسيّ فيها ممكناً، وكانت قواه الجديدة قوميّة وغير قوميّة تعلن أهدافها في التحرّر القوميّ والتحرّر الاجتماعيّ.
وترى في برامجها ومهمّاتها بديلاً لسلطة القوى القديمة. وقد صعدت نخبات تلك القوى الجديدة، واستطاعت أن تصنع سلطتها الحديثة أو شبه الحديثة، وأن تحافظ عليها في دولةٍ قطريةٍ حديثة أو شبه حديثة، يوجّهها "سلوك" قطريّ يخدم استقرارها في السلطة واستمرارها، ويوجّه "وسائط تأثيرها الأيديولوجيّ" التي تمتلكها "شعاراتٌ" قوميّةٌ لم تستطع أن تتحوّل إلى "سلوك" قوميّ، ما دامت شعارات سلطةٍ تنطلق من مصلحة نخباتها أوّلاً، وما دامت الأمة لم تتحول إلى ذات فاعلة، وما دام المجتمع لم يمتلك مؤسساته المدنيّة التي تمكّن الشعب من أن يمنح هذه السلطة أو تلك شرعيّتها النسبيّة بدلاً من أن تكون "القوة" معيار الشرعية، مهما كانت أشكالها أو تظاهراتها أو مظاهرها السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة.
وعلى أيّة حالٍ فإن نخبات الدولة القطريّة العربيّة شبه الحديثة ترى في الموضوع العربي علّة وجودها في السلطة، وأحد عوامل استقرارها فيها واستمرارها، كما أن دولة النخبات العربيّة القطريّة شبه الحديثة تعلن عن التزامها بالموضوع العربي، فهو موضوع مستقبلٍ ومصير!(1/154)
فأيّ مستقبلٍ هو مستقبل الخطاب العربيّ الذي يشكّل الموضوع العربي محوره الرئيس؟
وأيّ مصيرٍ ينتظر أهدافه القريبة والبعيدة سواء أكان الفعل الذي سينجزه هو فعل "أنظمةٍ" غير فاعلة وغير فعّالة أم كان فعّل قوى وجماعات قوميّة واجتماعية يعكس واقعها الراهن تآكلاً وتكسّراً وتراجعاً في الفكر كما في السلوك!
ألا تدلّ وقائع الحياة العربيّة اليوميّة على انسحاب الموضوع العربيّ منها على الرغم من الإعلام العربيّ الذي يصدّر لغوه القوميّ، وهو يدرك أنه يصدر عن "سلوك" قطري!
احتفلت مطالعُ الفكر القوميّ بالمشروع القوميّ العربيّ كمشروع حضاريّ إنسانيّ، له رسالته. ويتوقع منه أن يتجاوز عوامل "النقص" في المشروع الحضاريّ الغربيّ الحديث الذي لم يؤسّس على مواقف عادلة من الشعوب المختلفة والأمم المغايرة، وقد تماثل المشروع القومي العربي مع المشروع الإسلامي العربي أو العربيّ الإسلامي في إشاراتهما المتكرّرة إلى البعد الإنسانيّ الذي ينطلقان منه.
وقد نظرت نخباتُ كلٍّ منهما إلى مشروعها، الذي هو مشروع الأمّة في نزوعه الإنساني، كبديلٍ لحركة الرأسمالية وللحركة الشيوعيّة، بما تشتمل عليه كلٌ منهما من ظواهر وعلاقات ومفهومات غير إنسانيّة.
وبعد وقائع متتاليةٍ محليّةٍ وقطرية وقومية وإقليمية وعالميّة، وبعد انتصاراتٍ وهزائم عربيّةٍ وغير عربيّة، وبعد انفجار هويّاتٍ وصعود هويّاتٍ، وبعد انهيار نظام عالمي سابق ومشروع نظام عالمي تالٍ، ستلاحظ مقارباتٌ نقديّة عربيّة راهنة تآكل مفهومات سابقة أو تراجعها، وإشاعة مفهومات جديدة أو مختلفة وحضورها، وستلحظ تبدّلاً واضحاً في مبادئ وسلوكات وقيم ... . وهو تبدّل سريع ومفاجئ بمعنى ما، ما دامت الوقائع التي تعكسه غير نهائيّة وغير مكتملة، وإن لم تكن طارئة ومؤقتة، وتعبّر عن صراع يستمرّ!(1/155)
في المشروع القوميّ العربي الوحدويّ يجد بعضهم الدولة القطرية مدخلاً واقعياً إلى دولة الأمّة الواحدة، ويتقبل العمل التضامني العربي في إطار إقليميّ كحدٍ أعلى في الممارسة القوميّة، ويقبل على "أنوار" الدولة القطرية سواء أكانت مشيخة أو إمارة أم مملكة أو جمهورية!
وهل يجسّد البديل القطريّ سوى مصلحة نخبةٍ أو فئة أو جماعةٍ اجتماعية؟
ويبرز الآن مفهوم المشروع النهضويّ العربيّ كبديل لمفهوم الثورة أو لمفهوم الثورة العربيّة. ويغلب الاهتمام بمفهومات الديمقراطية والعلمانية والتعدديّة وحقّ الاختلاف وحقوق الإنسان وحقوق الأقليّات والمجتمع المدنيّ وغيرها. ولاشكّ في أن حضور هذه المفهومات يعبّر عن متطلّباتٍ وحاجاتٍ هي منتمية إلى فضاء الخطاب العربي في تطوّره وتغيّره، على ألاّ يلغي التقنّع بها الموضوع العربي الذي هو دليل هذا الخطاب ومحوره أيضاً..
ومهما كانت وجهة النظر في مفهوم الخطاب العربيّ ومواده وأنظمته، ومهما كانت الأحكام النقديّة التي تستخلصها هذه المراجعة النقديّة أو تلك على مضموناته وعوائده ونتائجه وقيمه ومبادئه التي اشتمل عليها، واشتغل عليها أيضاً، ومهما كانت طبيعة المؤثّرات الداخليّة والخارجية التي تدخّلت في تكوينه، فإن الخطاب العربيّ، يعبّر، باتجاهاته ومستوياته المختلفة، عن "حالات" وعي للذات أو عن مشروع الذات، على الرغم من أنّه قد يكون في بعض حالاته خطاب سلطةٍ أو ترجيعاً لخطاب سلطةٍ ومؤسّسةٍ، وخطاب نخبة أو صدى لخطاب نخبةٍ أو طائفة اجتماعية!
وعلى أيّة حال فالخطاب الذي يسود هو سلطةٌ بمعنى ما، ويعبّر عن قوّة سلطةٍ تتنكّر فيه، أو يفصح عنها وتفصح عنه!
وقد ينتقل عبره تأثير الآخر والمختلف إذ استطاع أن يكون أحد عوامل تكوينه. ولذلك كان الغرب أحد مصادر الخطاب العربيّ من حيث نظام مفهوماته أو طرائق تفكيره، واستطاع أن يؤثّر على نحو إيجابي وسلبيّ في تشكيله!(1/156)
وربّما كان الخطاب العربيّ منذ مشروع النهضة العربيّة الأولى هو مشروع خطابٍ عربيّ لم ينجز ذاتيّته أو استقلاليته بعد. وربّما كانت مراجعاتٌ نقديّة حديثة ومعاصرة تعمل على تفكيكه، وهي جزء منه، لتعيد إنتاجه وفقاً لوقائع مختلفة تختلف فيها الرؤية، كما يختلف الفعل!
وقد اشتغل أكثر من عنوانٍ نقديّ دالّ على الخطاب العربيّ، فقبل كتاب د.محمد عابد الجابري (الخطاب العربيّ المعاصر) أصدر العروي (الأيديولوجية العربيّة المعاصرة) وقدّم الياس مرقص كتابه (نقد الفكر القومي) وأنجز صادق جلال العظيم كتابيه (نقد الفكر الدينيّ) و (النقد الذاتي بعد الهزيمة) وتناول ياسين الحافظ (اللاعقلانية في السياسة العربيّة) و (الهزيمة والأيديولوجية المهزومة). ولا يعني تذكّر هذه العنوانات تجاهل عنواناتٍ كثيرة قاربت الخطاب العربيّ الحديث والمعاصر عبر مراجعاتٍ متنوّعة ومختلفة قدّمها محمود أمين العالم وهشام شرابي وطيّب تيزيني وحسين مروّة وحليم بركات وسمير أمين وعزيز العظمة ومهدي عامل وغيرهم أيضاً!
وهل يتطوّر الخطاب، أيّ خطاب، بغير النقد؟
وهل النقد سوى إعادة إنتاجٍ لخطاب، أو إنتاجٍ لخطاب؟
من الأمثلة النظريّة التي تقارب الخطاب العربيّ مساهمة د.علي عقلة عرسان (مقاربة في الخطاب العربيّ) التي يتجه فيها إلى موضوعه مباشرة، دون أن يردّد وجهات نظر سابقة، أو يكرّرها، أو يناقشها، وكأنّه يهدف إلى تقديم مقاربته المستقلّة مستعيناً بحديث الوقائع في بعض الأحيان وبوقائع التاريخ القريبة والبعيدة في أحيان أخرى ...(1/157)
ولكن! ما الخطاب العربيّ الذي يقاربه؟ أهو خطاب الفكر المحض والثقافة المحضة أم هو خطاب الفعل والسلوك؟ وهل تعالج مقاربته خطاب سلطةٍ عربيّةٍ ومؤسّسةٍ عربيّة أم تحلّل خطاب قوى وتنظيمات قد تمثّل أحوالَ طبقاتٍ وفئاتٍ أو نخباتٍ؟ وكيف تفكّك بنية هذا الخطاب؟ وكيف تعرضه أو تصفه؟ وما هي أبعاده التي تتوقف عندها؟ ولمَ تستلهم المعطيات القومية في المواجهة؟ الخ الخ ...
إن الموضوع العربيّ القوميّ هو في أساس هذه المقاربة التي تريد أن تؤكّد على مبادئ وثوابت تلاحظ تآكلها، والتي تهدف، على ما يبدو لي، إلى تعبئة وجدانٍ عربيّ واستنفاره بعد أن مزّقه تراجع مشروعٍ قوميّ!
وتميّز أوّلاً الخطاب الثقافيّ من خطاب العصر.
الخطاب الثقافي يشتمل على المكونات الثقافية المختلفة الأدبية والتربويّة والفكريّة والفنيّة. ويتّصل بأداء الوعي البشري، على حدّ تعبير د.عرسان الذي يعني بخطاب العصر لغة المتقدّمين من أهله، وما وصلوا إليه في ميادين المعرفة والعلم، ولاسيّما ما تحقّق من تقانةٍ عالية أدّت إلى تفوّقهم في امتلاك القوّة واستخدامها وهيمنة قواهم على قرارات العالم وعلى بعض صيغ
مستقبله ... ص7.
الخطاب الثقافيّ، بمعنى ما، يعبّر عن ذاكرة أمّة وتجربتها الروحيّة والإبداعية. ويتصّل بوعيها لذاتها. أمّا خطاب العصر، كما اصطلح عليه، فهو خطاب الآخر المتفوّق الذي هو خطاب الغرب الأوربيّ، والأمريكيّ بشكل خاص؛ إذ امتلك القوّة الآن على نحو يحقّق له الهيمنة!
وربّما كان الخطاب دائماً هو خطاب الذات وخطاب الآخر؛ سواء أأنتجه تفاعلٌ وتواصلٌ وتثاقفٌ أم أنتجه التحاقٌ وإلحاقٌ وهيمنة. ولكلّ خطاب موادّه وعلاقاته التي تتدخل في تشكيله. ولكلّ خطاب إمكانياته واحتمالاته ...(1/158)
يتوقّف د.عرسان عند البعدين القوميّ والإسلاميّ في الخطاب العربيّ؛ فالبعد القوميّ، برأيه، يؤكّد الثوابت القوميّة والمبدئية والقيميّة للأمّة العربية، ويعمل على تحقيق الأهداف بعد مرحلة حكم عثمانيّ وعهود استعمار غربيّ وصراع مستمر مع العدوّ الصهيوني.. ص7. وهو خطابٌ مثقلٌ بالتحدّيات من داخله ومن الخارج ... ص8.
ينتمي هذا الخطاب إلى هويّة قومية إسلاميّة أنجزت من قبل، ويفترض أن تنجزها الأمة من داخل صراع حديثٍ ومعاصرٍ مع الغرب الأوروبيّ المستعمر في مرحلة، ومع حركة صهيونية استيطانية، وهيمنةً أمريكيّة، في هذه المرحلة من الصراع ... ولذلك يتساءل د.عرسان عمّا إذا كان الخطاب العربي في خارج العصر الذي يدلف إلى العولمة؛ بما هو خطاب وحدةٍ وتحرّر وتحرير وانتماء وأصالة ومصالح مشتركة، مادام عصر القوميّات قد زال، كما يزعم بعضهم، وإن كانت القوميّات تتفتّح في أمكنةٍ مثل روسيا الاتحاديّة!
إن المشروع القوميّ العربيّ هو مشروعٌ قيد الإنجاز من قبل والآن، وفيما بعد. وهو مشروعٌ يعبّر عن هويّةٌ قيد الإنجاز في داخل الصراع. وقد أنجز بعض مهمّاته في هذه المرحلة التاريخيّة السابقة أو تلك. ولكن مهمته الكبرى في إنجاز الدولة العربية الكبرى الواحدة يتأخّر إنجازها، بل إن بعض مواد الخطاب العربيّ تشكّك في إمكانية إنجازها، أو العمل على إنجازها، بما هي تعبيرٌ واقعيّ عن الأمّة كذات فاعلة، وعن وعي لحظتها الذاتيّة كهويّة تؤسّس لاستقلالها ولذاتيّتها ...
وسيلاحظ د.عرسان ممارسة دويلاتٍ قطريّة يمكن أن تتحالف مع الشيطان ضدّ الأمة العربيّة لتعلن موت الحلم القوميّ العربيّ!(1/159)
ومع ذلك فقد لا يكون تصنيفه الدول العربيّة، تبعاً لعلاقتها مع الكيان الصهيونيّ، معياراً لتقدّم المشروع القوميّ أو تراجعه، ولتآكله أو تكامله، فهو مشروعٌ أهدافه تعبّر عن احتمالاتٍ تاريخيّة تنتمي إلى صراع أمّة مع ذاتها ومع الآخر، ويتوقع من هذا الصراع أن ينتج استقلالها ووحدتها ووعيها بذاتها. وإذا أقامت الآن "دول" عربية تمثيلاً دبلوماسياً مع الكيان الصهيوني، واعترف بعضها به، وإذا مارست التطبيع الاقتصاديّ أو الثقافيّ، وإذا تنكّرت للعمل العربيّ المشترك والدفاع المشترك والتضامن العربيّ، فهل يعني ذلك نهاية مشروع تاريخ عربيّ حديثٍ ومعاصر بإمكانياته واحتمالاته التي يحرّكها حلمٌ قوميٌّ بأمّةٍ واحدةٍ ومجتمعٍ عربيّ حديث وبدورٍ حضاريّ إنسانيّ؟
وأيّة دولٍ هذه الدول العربيّة بمشيخاتها وإماراتها وملكيّاتها وجمهوريّاتها ما دامت لا تمثّل إرادة شعب أو أمّة، ولا تعكس مزاج أغلبيّة اجتماعيّة، ولا تلبّي متطلّبات خطاب عربيّ يؤسّس لمشروع قومي، ولا تتطابق أفعالها مع حاجات جماعةٍ قوميّة كبيرة تبحث عن مكانتها، وتهدف إلى تحقيق ذاتها!
وهل يفترض التطبيع، أو علاقات طبيعيّةٌ مع إسرائيل، إمكانيّة إلغاء الصراع مع إسرائيل وحذفه، أم أن هذا الشكل من التطبيع وذلك قد يؤجل الصراع الذي يختزل إلى علاقةٍ بين دولة ودول وإلى علاقة بين حكومة وحكومات!
ألا تنتظر إسرائيل "التطبيع" مع أمّةٍ حاولت، وتحاول، أن تنجز ذاتها؟ ألا تتوقّع في مرحلةٍ تلي التطبيع، أو تصاحبه، الهيمنة على إمكانياتها وتوجيه الاحتمالات التي تتطابق مع مصالحها كمشروعٍ صهيونيّ استيطاني في المنطقة العربية؟(1/160)
ومن هم (أهل الخطاب الثقافيّ العربي.. ص9)؟ ومن هم (العرب الذين يتنكّرون لبعد الهويّة القوميّة والأصالة والوحدة والتحرّر والتحرير ... وهي مقولات يحاربها الغرب والصهيونية ... وقد أخذ العرب يحاربونها بأشكال مختلفة بعد تراجع التيّار القوميّ، وما أصاب الأمّة من إحباط.. الخ ص9) حسب تعبير د.عرسان.
إن الموضوع الرئيس في الخطاب العربيّ هو الموضوع العربيّ، وما الموضوع الفلسطينيّ إلا أحد مدخلاته.. أما القضيّة الرئيسة في الخطاب العربيّ فهي قضيّة الأمّة. وليست القضيّة الفلسطينيّة سوى عنوان من عنوانات قضيّة الأمة أيضاً.
وقد يكون تراجع التيّار القوميّ "مناسبة" لنقد الذات، إذا كان ثمّة تيّار قوميّ موحّد في هذه المرحلة التاريخية أو في مراحل تاريخيّة سابقة، وإذا لم تدفع تناقضات قواه ونخباته ومصالحها المختلفة إلى أكثر من مواجهة مسلّحة وغير مسلّحة فيما بينها.
وإلى أيّ مدى يعبّر هذا التيّار القوميّ أو ذاك عن المشروع القوميّ الذي هو مشروع الأمة كلّها، بقواها المختلفة والمتنوّعة، التي تنتجها الأمّة، وتنتج، بدورها، تاريخ الأمّة باحتمالاته المختلفة والمتنوّعة أيضاً. وليست حقبة ثورة الجزائر وصعود الناصرية والبعث –وهي حقبةٌ ليست طويلة، إن لم تكن قصيرة- مثالاً كاملاً وبهيّاً على تقدّم الأمّة أو على تقدّم المشروع القوميّ فقد حفلت هذه الحقبة بالاختلالات والتناقضات، ولم تستثمر "إمكانيات" الأمّة حقّاً، وقد طغت خلافاتٌ واختلافاتٌ على قضية الأمّة، وأنتجت فيما بعد النظام القطريّ بسلطته القطريّة التي لا تستطيع أن تكون "وحدوية" في الوقت نفسه، ولم تستطع أن تكون ديمقراطية لأنها ليست وحدويّة!(1/161)
وليس مستند الخطاب القوميّ في قدرةٍ مادّيةٍ أو سندٍ دوليّ أو تضامن أنظمةٍ كما يرى د.عرسان ص9، بل إن المشروع القوميّ هو مستند هذا الخطاب الواقعيّ والعمليّ والنظريّ أوّلاً. وليست الحرب أو إمكانية الحرب ولا السلام أو إمكانيّة السلام من المدخلات الرئيسة إلى مشروع قوميّ ينجز ذاته، أو هو قيد الإنجاز، ويستمرّ في إنجاز ذاته ... يطوّر قواه، ويعيد إنتاجها في كلّ مرحلة تاريخية، ما دامت الهويّة ليست معطى نهائياً، وما دامت الأمّة أيضاً ليست معطى مطلقاً، بل تكتشف ذاتها، وتعيد اكتشافها أيضاً.. وإذا كانت مفهومات العولمة والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان هي من أقنعة خطاب العصر الأمريكيّ، فهي مفهومات لا تتعارض مع خطاب الهويّة.
ولكن! إلى أيّ مدى نستطيع أن نقول مع د.عرسان: إن (خطابنا نحن العرب خطاب أخلاق يملك الحقّ ولا يملك القوّة) ص10؟ وهل (خطاب العصر هو خطاب قوّة) فحسب و(خطاب استلابي، استعلائي، عنصري) ص10؟
ألا يفترض بنا أن نعيد النظر في (أهل الخطاب العربي) فنميّز خطاب سلطةٍ قطريّةٍ من خطاب العباد وخطاب مؤسّسةٍ من خطاب نخبةٍ وخطاب قوى متحالفةٍ من خطاب قوى معارضة؟
ألا يفترض بنا أن نميّز خطاب إعلامٍ رسميّ وشبه رسمّي من خطاب غير رسميّ قد يتواصل مع مزاج كتلة اجتماعية عربية في بعض جوانبه، وقد يتقاطع معه، أو يقطع في جوانب أخرى؟
وهل يمتلك (خطاب العصر الذي هو خطاب قوّة) عناصر ثابتة ومتجانسة، أم أنّه خطاب قابلٌ للتغيّر، تصاحبه عناصر إيجابية أو تنويريّة لابدّ من توظيفها في هذه المرحلة أو تلك! ولابدّ أن نتفاءل مع د.عرسان بالتاريخ (فقوى اليوم ليست قوة خالدة لأن تداول الدول سنّة الحياة وقانون في ضوء دروس التاريخ وتجارب الأمم واستقراء الواقع.. الخ ص11 عل حد تعبيره!(1/162)
وما دامت الدولة زائلة والحكومات زائلة فإن استراتيجيّة إسرائيل هي إقامة علاقات طبيعيّة مع الأمّة، إذ أدركت حكوماتها المتعاقبة والمتنافسة على تحقيق المشروع الصهيوني أن الصلح والسلام ممكنان مع الشيخ أو الأمير أو الملك أو الرئيس، لأن مصلحة كلّ منهم تتمثّل في استملاكه السلطة وتوريثها. وهذا الصلح أو السلام معبرٌ إلى هدفها البعيد.
إن قضيّة الصراع إذاً هي قضيّة المستقبل، وليست قضيّة الحاضر وحده، وليست قضيّة الماضي فحسب!
ومن هي الزاوية يمكن أن نتأمل تحذير "هنتغتون" الذي أشار إليه د.عرسان، من مستقبل يتعاون فيه المسلمون والصين ضدّ الولايات المتحدة الأمريكيّة والغرب. وردّه عليه بأن الثقافة الحقّة تصنع التعارف بين الأمم وتعزّز السلام ما دامت في خدمة الإنسان والمبادئ والقيم والأخلاق.. ص11.
ولكن الثقافة ينتجها صراع قد يكون عادلاً أو غير عادلٍ، كما أن الشعوب تعلن صراعاتها أو تضمرها، وتستكشف تناقضاتها الداخلية والخارجية، وتطوّر تحالفاتها أو تغيّرها في هذه الحقبة التاريخيّة أو تلك تبعاً لوعيها بلحظتها الذاتيّة التي تكثّف مصالحها ورهاناتها وإراداتها ...
وإذا كان خطاب العصر الصهيوني –الأمريكي يصف الأصوليّة القوميّة والأصوليّة الإسلاميّة بالإرهاب فلأن كلاً من الخطابين اللذين ينتميان إليهما يحاول نقضه أو دحضه مدركاً تناقضه الرئيس معه من داخل تطوّرات محليّة وإقليميّة وعالمية!
ألا يعزّز البعد القوميّ في الخطاب الثقافي العربي المقاومة ويناصرها، ويأخذ بالتحرّر على حد تعبير د.عرسان ص11؟
ألا يتكامل البعد الإسلاميّ أو الشق الديني في الخطاب الثقافي العربيّ مع الشقّ القوميّ وفقاً لتعبير د.عرسان أيضاً ص14؟
أليس خطاب العصر –وفقاً لمصطلح د.عرسان هو الخطاب النقيض الآن للخطاب الثقافيّ العربيّ، والخطاب الثقافي العربي هو الخطاب المضادّ؟(1/163)
وما الاحتمالات التي يفتحها شعارٌ ينادي بتغيير جذريّ يبدأ بالعلم والإيمان والعمل بهما؟
ألا يتطلّب هذا التغيير المفترض تحديد مفهوم العلم وتحديد مفهوم الإيمان؟ وهل يتطابق مفهوم العلم مع مفهوم الإيمان؟
إن مفهوم التغيير هو الذي يدفع د.عرسان فيما بعد إلى التساؤل عن مفهوم الخطاب السياسيّ، على ما يبدو!.. فهل الخطاب (لغة ذاتيّة أم لغة موضوعيّة) أي (هل هو كلام صاحب الخطاب أم خطاب صاحب المسؤولية والصلاحية في التعبير عما ينتهجه نظام من سياسة.. الخ ص19).
(وهل الخطاب كلامٌ في المبدئيّة والأخلاق والثوابت القومية والوطنيّة والقيم الإنسانية، أم أنه مجرّد صياغاتٍ كلاميّة مدروسة بعناية ... الخ ص19).
(وهل هو خطابٌ يلتزم بالاستراتيجية السياسية والأيديولوجية أم أنه تكتيك ومناورات وعوامل تمويه.. ص19).
وهل ينطوي الخطاب السياسي، أو ينبغي له أن ينطوي على الصدق أم أنّه فضاء يراوغ المتكلّم في مجالاته للوصول إلى الأهداف والمنافع والأغراض الشخصيّة أو العامة؟.. ص19).
ويلاحظ د.عرسان أن سؤال الأخلاق والسياسة سؤال مركزيّ. ولكن السياسة التي تستند إلى مبدئية خلقيّة وثوابت الحقّ قد تفلس ما دامت لا تملك القوّة. وما دامت السياسة فنّ الممكن في بعض الاجتهادات فهي مصالح عند الكثير من السياسيّين، وإذا انطوت على منظومات قيم وأخلاق عند بعضهم، فإن بعضهم الآخر يتنكّر لمنظومات القيم والأخلاق.. الخ ص19.
ويقرّر أهميّة التوقف عند الخطاب السياسيّ من أجل فهمه والتعامل معه لأنه يتعلّق بالحياة والمصير، وفيه ثوابت وأساليب تعبير عنها، وفيه ماهو مضمر أو منسيّ أو ما يراد له أن يكون منسيّاً من تلك الثوابت، وفيه المسكوت عه أو ما لا يشاء السياسيّ أن يصرّح به.. الخ ص20.(1/164)
ويذكّر بمراحل وحالاتٍ مرّ بها هذا الخطاب منذ موجة الاستقلال الوطنيّ القطريّ، كما يذّكر بتغيّرات طرأت على أسلوبه ولغته ومفرداته وطريقة تعبيره، ليتساءل عمّا إذا كان يحمل في طيّاته ازدواجية الوجه والقناع، وليتساءل أيضاً عمّا إذا كان الخطاب السياسيّ العربيّ هو خطاب شخص الحاكم أم خطاب النظام أم خطاب الدولة، أي مؤسّسات المجتمع المدنيّ.. وعمّا إذا كان الخطاب الذي يتوجّه فيه إلى الداخل يتناقض مع الخطاب الذي يتوجّه به إلى الخارج.. الخ ص20.
وإذا كان لهذا الخطاب السياسيّ العربي تأثيره في مصائر النّاس ومصائر البلدان فما مصير هذا الخطاب؟ وما مستقبل علاقته بقضايا الحاضر والمستقبل كقضيّة الوحدة القومية والديمقراطية والتنمية والصراع العربيّ الصهيونيّ وحقوق الإنسان العربيّ والأمن القطريّ والقوميّ والإسلام والعلاقة مع الغرب وغيرها ... .
إن هذا الخطاب هو مشروع أكثر من خطاب ينتمي إلى هذه السلطة القطريّة أو تلك، وينفتح إلى هذا الحدّ أو ذاك على مشروع خطابٍ عربيّ قوميّ هو جزءٌ من مشروع قومي ينتج، ويعاد إنتاجه في هذه المرحلة التاريخية أو تلك!
وربما كانت المراجعة النقديّة أحد مدخلات إنتاجه وإعادة إنتاجه وتحرّره وتحريره وتغيّره وتغييره
تتناول مقاربة د.عرسان البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي. وعلى الرغم من أنه يجده متأصلاً في هذا الخطاب، فإنه يتساءل عمّا إذا كان الخطاب الديني متخلّفاً أم يؤدّي إلى التخلّف من حيث مرجعيّاته وغيبيّاته وأدواته ووسائله وأساليبه، وإن استنكر تساؤله فيما بعد، لما لهذا الخطاب من رصيد في الوجدان الشعبيّ وفي الإرث الثقافيّ. ويتساءل أيضاً عمّا إذا كان خطاباً عصرياً له مستقبل أو يفيد الناس في المستقبل..
ويقرّر وجود بعد دينيّ إسلاميّ ومسيحيّ يتجلّى في منظومات قيم ومحرّمات، وإن وُجّهت إليه تهمٌ أو نسب إليه تطرفٌ ... الخ ص12.(1/165)
ويلاحظ أن الخطاب الدينيّ هو جزء من الهويّة، ولا مصلحة في تهميشه لأنّه موجود مؤثّر.. الخ ص136.
والمصدر الإسلاميّ الأساس في ذلك الخطاب هو القرآن ثم الحديث ثمّ السنّة الثابتة قولاً وعملاً، والمراجع كثيرة بالإضافة إلى حقّ الاجتهاد لمن ملك القدرة عقلياً وشرعيّاً وعلمياً ... الخ ص13.
ويفترض في هذا الخطاب أن يعزّز الإيمان، والإيمان كلٌّ لا يتجزّأ. ومن حسن دينه حسن إيمانه وسلوكه وأداؤه.. الخ ص13.
ويرى د.عرسان أن خطابنا الدينيّ القائم على الإيمان والداعي إليه لا ينقض العلم، ولا يضعفه، بل يعزّره.. ص 14 إذا شكلّ عائقاً في وجه تقدّم الإنسان ونموّ قدراته توجب تقصّي أسس الفهم والتفسير والتأويل والتدّبر والتدبير ... . والخطاب الدينيّ ليس مصدر اعتراض على النزوع القوميّ والتمايز القوميّ ... من غير المقبول أن يتعارض الشقّ الدينيّ من خطابنا الثقافيّ مع الشقّ القومي، فالأساس هو التكامل..الخ ص14.
ويستخلص أن وضع العروبة في مقابل الإسلام والإسلام في مقابل العروبة يؤدّي إلى إضعاف الطرفين.. ص15.
وليس ثمة من شكّ في أن الإسلام مصدر هويّة وذاكرة حضارة وفضاء لغة، أعاد إنتاج العروبة مدنيّةً وثقافةً وعملاً وروحاً في حقبة تاريخيّة تمثّلت فيها الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة. وتجاور خطاب العقل وخطاب النقل، كما صاحب التفلسف التصوّف والعلم العمل والتشكك اليقين والفتح الانفتاح..
وفي حقبة انحطاطٍ تاريخيّ تراجع الإسلام إلى إسلام فرقٍ ومللٍ ونحلٍ وخاصّةٍ وعامةٍ وتقاليد ودروشة بعامة!
وقد نستطيع أن نميّز في حياة العرب الحديثة والمعاصرة إسلاماً رسميّاً وشبه رسميّ من إسلام شعبيّ واجتماعيّ وإسلاماً منفتحاً على الحداثة والعصر من إسلام مغلقٍ على أصول وتقاليد وإسلاماً يحتكم إلى سلاح الحوار من إسلام يحكمه حوار السلاح وإسلام تفكيرٍ من إسلام تكفير.. الخ.(1/166)
وإذا كان الخطاب الثقافيّ العربيّ خطاباً متعدّداً ومتنوّعاً، يعاني من انقساماتٍ واختلافاتٍ، وتمثّله اتجاهاتٌ وميولٌ وتيّاراتٌ مختلفة ليبراليّة وقوميّة وماركسيّة وإسلامية، فإن الخطاب الإسلاميّ هو خطابٌ متعدّدٌ ومتنوّعٌ، وتدّعي امتلاكه أكثر من فئةٍ وأكثر من جماعة، وتوظّفه أكثر من سلطة في مصلحتها..
ولكنّ الإسلام الذي هو كثيرٌ بعدٌ من أبعاد الخطاب العربيّ الذي ينجز مشروعه القومي، وينجزه مشروعه القومي!
وكيف يمتلك هذا المشروع القوميّ هويته، ويعيد إنتاجها، إن لم يمتلك عروبته وإسلامه؟ وكيف يعيد إنتاج عروبته وإسلامه إن لم ينتج حداثته أيضاً.
هكذا يلاحظ د.عرسان فيما بعد ما في خطابنا من (الانفعالية والشعاراتية والعصبيّة والعاطفيّة) كما يلاحظ (انكفاءه في حضن القديم.. يضفي قداسة على ما ليس مقدّساً.. ص15).
بالإضافة إلى تعلّقه بخطاب الآخر وثقافته (بنوع من التبعيّة..) (بعيداً عن المعطى العلميّ والتواصل مع معطيات العصر.. ص16).
ويستخلص د.عرسان أهميّة التغيير وضرورته.. والمدخل (مراجعةٌ دقيقةٌ وجريئة للذات ولما في خطابنا مع معطيات يراها العقل النقديّ السليم عيباً فيه أو حجاباً له عن العصر ومعطياته وعن التأثير في مجرياته والقدرة على التغيير من موقع بناء.. ص16) وربّما كانت المراجعة النقديّة هي اختبار لحقبة الانهيار العربيّ والهزيمة العربيّة كما اصطلحت عليها كتابةٌ عربيّة جديدة ومختلفة!
وقد تحمل المراجعة النقدية علامات ما بعد المراجعة النقديّة!
في فقرةٍ تالية من مقاربته يميّز د.عرسان خطاب القوّة من قوّة الخطاب. وخطاب القوّة، برأيه، يعنى بالمصالح ويضع المبادئ والقيم في خدمتها، وإن لم يملك قوّة الخطاب التي يراها تستمدّ مقوّماتها من الاستناد إلى الحقّ والاعتماد على ثوابت مبدئية وقيميّة وخلقيّة وإنسانيّة ... الخ.(1/167)
بينما تستند قوّة الخطاب إلى (معطيات خلقيّة وحقانيّة وإنسانية في الأغلب الأعمّ..) وتستفيد من قيم ومقوّمات تمنح الخطاب (القوّة الروحيّة التي تبقى مجرّد كمونٍ للقوّة.. الخ ص17).
ويقرّر أن العرب تمتلك قوّة الخطاب التي تفتقد إلى خطاب القوّة.. ص18) ولكنّ (الرغبة والحماسة لا تكفيان، والاستقالة من الموقع والمسؤولية غير ممكنة وغير مقبولة.. ص18).
ويتساءل عمّا إذا كنّا نقبل بوضع قوّة خطابنا المهزوم أمام خطاب القوّة القاهرة! ص18.
ويقرّر أن الطريق المؤدية إلى خلاصٍ ممكن تبدأ بالعلم والإيمان والعمل بهما على مستويات فرديّة وجماعيّة، قطريّة وقوميّة، عربيّة وإسلامية..
الخ ص18.
ولكن! إلى أيّ مدى يمتلك خطابنا، نحن العرب، قوّة الخطاب ما دام يعكس واقعه تناقضاً بين أنظمةٍ وقوى واتجاهات وتيّارات، وما دامت هذه الحكومة أو تلك تعتبر نفسها الممثّل الشرعيّ للأمة أو للشعب، وتفوّض نفسها باتخاذ القرارات، وقد افترضت أنّها تمثّل الإرادات!
وهل الخطاب مجرّد ألفاظٍ وكلامٍ وإعلام أم أنه فعلٌ وعمل وسلوك أيضاً؟
وعندها قد يمتلك قوّة الخطاب التي هي مدخل إلى خطاب القوّة، وفقاً للمصطلح الذي يستخدمه د.عرسان في مقاربته..
ويخطر في البال أن نتساءل عن العلاقة بين الخطاب الثقافي العربي الذي تناوله د.عرسان في مطالع مقاربته والخطاب السياسي العربي فيما بعد!
أليس خطاب السياسة خطاب ثقافةٍ وخطاب الثقافة خطاب سياسة؟ ألا تصاحب السياسات ثقافاتٌ، وتصاحب الثقافات سياساتٌ تتناقض مع سياسات قوى وثقافات قوى، وتختلف معها؟ ألا يوظّف خطاب سياسةٍ ما خطاب ثقافةٍ ما لخدمة مصالحه، وبخاصة عندما يمتلك وسائل التأثير الأيديولوجي العلنيّة وحده، بالإضافة إلى مؤسّسة التأثير "الأمنيّ"؟(1/168)
يرى د.عرسان فيما بعد أن الخطاب السياسي العربي، ولاسيّما خطاب العقود الثلاثة الأولى من نصف القرن العشرين الثاني، هو خطاب استنهاض وليس مسؤولاً عن الهزيمة أو سبباً لها في مناخ عربيّ ممزّق وتابع.. الخ ص21 بل (إن حرب حزيران لم تكن إلاّ مؤامرة شاركت فيها، بالإضافة إلى عوامل القصور والتقصير، قوى عديدة منها الأصدقاء السوفييت عن غفلة أو عن تسميم إعلاميّ أميركي، صهيوني، وإمّا بإدراكٍ ووعيٍ قامت به عناصر مواليةً للصهيونية من داخل الحكم السوفياتيّ.. الخ الخ ص21).
ومع ذلك فهو لا يقرّ خطاب اليأس أو خطاب الهزيمة.. فالخطاب السياسيّ العربي (يحتاج إلى مراجعة، ليكون أقلّ عاطفيّة وشعاراتيّة وانفعاليّة وطوباويّة وأكثر موضوعيّة وعلمية وواقعيّة ومعلوماتية..). الخ ص22 وأن يأخذ فيما يتعلّق بالصراع العربي، بالاعتبار الواقع من جهة والممكن من جهة أخرى، وأن يعزز مقوّمات القرار والقوّة والحساب، على ألا تسوّغ إعادة النظر بالحقّ والمبدأ.. الخ ص 22.
وإذا كان الغرب والشرق قد شاركا في إقامة "إسرائيل"، وإذا كانت خلافاتهما قد أفادت العرب، فإن العرب لم تكن لديهم فرصٌ واختياراتٌ كثيرة، على حد تعبير د.عرسان ص 23 وقد كان ثمة تحكّم بالتخطيط العربي والقرار والإرادة لا يسمح بالتجاوز ما دام يستند إلى مصالح وتحالفات والتزامات سياسيّة وغير سياسيّة حيال الكيان الصهيونيّ.. الخ ص22-23.
وسيستنتج د.عرسان أنّنا (كنّا وكان خطابنا السياسيّ وقرارنا السياسيّ وإرادتنا في الفخّ على نحو مّا.. ص24).
ولكن هذا الوضع، برأيه، لا يسوّغ الخطاب الانهزامي أو خطاب الهزيمة و "واقعية" الموالين للصهيونية والغرب الاستعماري، فما زال المشروع الاستعماري العنصريّ الاستيطاني هو المشروع النقيض لأيّ مشروع نهضويّ عربيّ يحقق حضوره الفاعل.. ص 24-25.(1/169)
ولكنّ عوامل القصور والتقصير تفترض نقداً ذاتياً واسعاً، وبخاصة عندما تتعلّق بتأخّر أمّة وتأخّر مجتمع، كما تتعلّق بتأخّر نخبات وأنظمة وسلطات. وتعكس تأّخراً في خطاب الثقافة وفي خطاب السياسة. وليست سمة "الاستنهاض" في خطاب السياسة العربيّة خلال هذا العقد أو ذاك مسوّغاً لإعفاء هذا الخطاب أو تلك السياسة من مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن هذه الكارثة القومية أو تلك الهزيمة القوميّة. ولا نعني هنا أن تشتغل المراجعة النقديّة الراهنة أو المتوقّعة على إنتاج فكر هزيمة وهزيمة فكر يلغي احتمال إنتاج اجتماعٍ عربيّ مختلف وإنتاج تاريخ مستقبلٍ عربي مختلف، بل نعني التفاؤل بهذا الاحتمال!
سيلاحظ د.عرسان أيضاً أن ثلاث معادلات متناقضة يشدّ إليها الخطاب السياسيّ العربيّ، ولا سيّما في الأقطار العربيّة المحيطة بفلسطين المحتلّة: في المعادلة الأولى تسلم الرؤية مصيرها للموقف الأمريكي من الصراع العربيّ الصهيوني، وهو موقف لا يحتاج إلى فهم أو تحليل أو تعليل. وفي المعادلة الثانية تلاحظ الرؤية قومية الموضوع الفلسطينيّ. ولكنها تنوس بين خطابٍ علنيّ وآخر سريّ ما دامت تهدف إلى المحافظة على سلطة نظامها القطريّ أمّا المعادلة الثالثة فتجسّدها رؤيةً بنيت على سياسة العرب التي بدأت منذ عام 1948 بشعار تحرير فلسطين، ثم أخذت تتراجع أو تتكشف عن عجزٍ أو تواطؤٍ أو تبعيّة للاستعمار.. الخ الخ ص25-26 ويمثّل د.عرسان لأنموذجين في حرب 1973: أنموذج حرب تحريك في قرار السادات وأنموذج حرب تحرير في قرار الأسد. ويشير إلى تجلي الضعف والتمزّق العربيّين في حصار بيروت 1982، وإلى تجلّي تعارض الموقف والتآمر الصريح على الأخ الشريك في القضية والمصير في مؤتمر مدريد وما بعده، وإلى الانفجار الكارثيّ للوضع العربي في أثناء غزو العراق للكويت وما أسفر عنه.. الخ الخ.(1/170)
ويتساءل عمّا إذا كانت تناقضات الخطاب السياسيّ العربيّ ناتجةً عن استخدام الغموض في النصوص ...
ولكنّه يراها كامنة في الفرديّة الأنانيّة المتورّمة، وفي التنافس الظاهريّ أو المظهريّ على خدمة ماهو قوميّ، وفي ضعف المؤسّسات أو غيابها ... الخ الخ ص27-28 وسيجد أخيراً أن القوميّ ينتفي لمصلحة القطري، وأن القطريّ ينتفي أمام المصلحة الشخصية، ليضيع العام لدى اقترابه من الخاص..
الخ ص29.
فأيّ ضعف هو هذا الضعف العربي!
وأي ضياع هو هذا الضياع العربي!
ألا يجسّد هذا الضعف وهذا الضياع ضعف خطابٍ عربيّ سائد وضياع خطابٍ عربيٍ سائد هو ضعف أنظمةٍ وسلطات أولاً وضياع قوى ونخباتٍ أو شبه قوى ونخبات سائدة أولاً؟
وماذا يعني اختراق ميثاق الدفاع المشترك وانتهاكه بأشكال مختلفة كما يبرز ذلك د.عرسان ص28؟
وماذا يعني أيضاً جدل الدول العربيّة الموقّعة على اتفاقيات مع إسرائيل حول موضوع التضامن العربيّ وحدوده، وحول تفعيل المقاطعة العربيّة وموضوعات التطبيع ومظاهره وأشكاله، كما أشار د.عرسان أيضاً ص28؟
وسيلاحظ أخيراً (الروح القطريّة والتنافسية والمصلحيّة المسيطرة على بيئة الخطاب العربيّ وبيئة القرار القوميّ، كما تتجلّى في عدم رؤية المستقبليّ
( ... ) وعدم رؤية قوة الكلّ ( ... ) وعدم التأسيس لعمل الجماعة ( ... ) بالإضافة إلى عامل التواكل وعامل التآكل في الإرادة.. الخ الخ ص30-31.
وكان قد رأى أهميّة سيكولوجيّة اتخاذ القرار لأنها تفضي إلى تحليل سيكولوجية الخطاب السياسيّ العربي.. الخ ص30 وسيستخلص أن السؤال المحوريّ أو السؤال الأعلى على حدّ تعبيره يحدّده مدى انصياع القطريّ للقوميّ والالتزام به أو التنازل له أو الانضواء تحت لوائه، وفي مدى انصياع المصلحة الآنيّة الضيقة لشخص أو فئة أو قطر للمصلحة الدائمة والواسعة.. الخ.(1/171)
وسيستخلص أيضاً أن (الخطاب السياسيّ العربيّ ملغمّ ومخترق في مصداقيته..) ص29 ويمثّل لذلك بالخطاب المراوغ الذي يفضي إلى قرارٍ لا يلتزم به صاحب القرار السياسي كما في انتهاك توصيات قمّة بغداد 1987 وتعريب كامب ديفيد.. الخ ص29-30.
هذا هو الخطاب السياسي العربي السائد إذاً ...
وهو يعبّر عن مواقف رسميّةٍ أو شبه رسميّة بمعنى ما
ولكن! أهو الخطاب السياسيّ الوحيد في حياتنا العربية بما تشتمل عليه من وقائع يوميّة اعتياديّة وغير اعتياديّة، مفاجئة وطارئة، عنيفة وهادئة..
أليس ثمة أكثرُ من خطاب سياسيّ عربي غير مسموع وغير مرئي تضمره الكتلة الاجتماعية العربيّة الكبرى التي أقالتها أنظمةٌ وسلطاتٌ قطريّة من العمل السياسي، وأعفتها من العمل الوطنيّ والقوميّ، بل من الاهتمام بالحياة العامة!
وما علاقة هذا الخطاب السياسيّ العربيّ السائد بمعاناة الكتلة الاجتماعية العربيّة الكبرى؟
وهل سينفجر هذا الخطاب عن خطاب بديلٍ أو عن "خطابات" بديلة؟ وكيف يبتدئ احتمالُ خطابٍ قوميّ عربيّ مختلفٍ وبديل؟ وما مستقبل هذا الخطاب بعامّة؟
إن الخطاب السياسيّ العربي السائد هو خطاب أنظمةٍ قطريّةٍ سائدة بقواها ونخباتها السائدة التي يشكّل الآن استقرارها في السلطة واستمرارها فيها هاجسها الأوّل على ما يبدو. أمّا بالنسبة للمشروع القوميّ العربي، الذي هو موضوع الأمّة فهي قادرة على شحنه إعلاماً ودعاوة فحسب، لتضفي شكلاً من أشكال الشرعيّة القوميّة على سطلتها القطريّة، ما دامت تستطيع أن تدفع الكتلة الاجتماعيّة في هذا القطر العربي أو ذاك إلى مبايعات تقليدية لحكّامها ...(1/172)
وقد ينتهي سلوك هذه السلطة القطريّة إلى أن يكون ضدّ مشروعها القوميّ الذي تتغنّى أجهزتها به، وقد حاصرتها "عولمة" أو "هيمنة" لا تمتلك متطلبات أيّة مواجهةٍ نسبيّةٍ في تضادّها معها، ولم توفر للكتلة الاجتماعية العربية الكبرى الصامتة والممنوعة من المشاركة أيّة استعداداتٍ للتكيّف معها، إذ ألغت إرادتها، وحذفت أدوارها أيضاً ...
وأيّة احتمالاتٍ لتكوين بدائل سياسية يقترحها غيابٌ قوميٌ عربيّ؟ وأيّة إمكانيّات لمشاركاتٍ وطنيّة وقوميّة في اتخاذ القرارات الوطنيّة والقوميّة؟
ألا يفترض وضع الخطاب السياسي العربي، بل أوضاعه وشروطه، مراجعة نقدية كبرى، وهو الخطاب "الملغم" و "المخترق" وفقاً لتعبير د.عرسان؟
وكيف تؤسّس الأمة لخطابها المضاد، ولوعيها الضديّ؟ كيف تطوّر إرادتها ورهاناتها؟
قد تؤثّر هيمنةٌ أمريكيّة وصهيونية في أوضاع "الخارج العربيّ والعلاقات العربية الخارجية إلى هذا الحدّ أو ذاك.
وقد تفرض "شروطاً". وقد تدفع إلى اتخاذ "قرارات" غير قوميّة. ولكنّ أوضاع "الداخل" العربيّ في هذا القطر أو ذاك تمتلك إمكانيّاتٍ غير محدودة في المواجهة إذا استطاعت الكتلة الاجتماعية القوميّة الكبرى أن تنتج قواها الوطنية والقومية الديمقراطية التي تعبّر أفكارها وأفعالها ومواقفها وقيمها عن المشروع القومي العربي!
وليست الهيمنة الأمريكية الصهيونية "قدراً" موضوعياً ...
وليست المؤسّسة القطرية العربية الحاكمة "قدراً" موضوعياً أيضاً.. وللتاريخ تطوّراته واحتمالاته دائماً!(1/173)
هكذا تلتزم مقاربة د.عرسان للخطاب العربي بموقف قوميّ عربيّ ينطلق من المشروع النهضويّ العربيّ في علاقته مع الموضوع الفلسطينيّ بشكل خاص. وتلاحظ، بكل ما تحمله من شجن قوميّ، غياب الإرادة العربية المستقلّة وتآكل المصلحة القوميّة العليا في خطابٍ سياسيٍّ عربيٍّ راهن يتراجع أمام خطاب مضادّ، هو خطاب نقيض، هو خطاب العصر، كما تصطلح عليه. وهو خطاب تفوّقٍ واستعلاء تمثّله هيمنةٌ أمريكيّة صهيونية تلغي أيّ بعد للحوار والتفاعل والتواصل..
إن موضوع المشروع القوميّ العربي هو موضوع الأمّة أولاً.. وهل الموضوع الفلسطيني غير مدخل إلى موضوع الأمة في الخطاب العربي المعاصر؟
إن للخطاب العربيّ، بعامّة، جذوره التي تنتمي إلى حضارات الشرق العربي القديم وهي جزء من التاريخ الحقيقيّ للعرب بالإضافة إلى أبعاده العربيّة والإسلامية. وهي حضارات تدخّلت في تشكيل ما دعي بالمعجزة اليونانية التي تفاعلت معها، ومع سواها، حضارةٌ عربيةٌ إسلاميّة كانت أنموذجاً لحوار حضاراتٍ وتفاعلها وتواصلها. وكان لها دورها في نهضة الغرب الحديثة..
فكيف ينتج المشروع القوميّ العربيّ خطابه المغاير الذي يتطابق فيه الكلام مع السلوك والوعي مع الفعل؟
وأيّ مستقبل يتوقّع من خطابٍ عربيّ راهن إذا لم ينجز مراجعةً نقديةً كبرى لمفهوماته ولغته وأفعاله وبناه وقواه؟ وأيّ اختبارٍ سيواجهه في المستقبل؟(1)
((
ملحق 2
الحلم والسياسة
( محاولة قراءة في "التقرير السياسيّ للمؤتمر العام السادس لاتحاد الكتّاب العرب، دمشق: 31/8/2000م.
كلّ "تقرير سياسيّ" نصّ بامتياز!
ينتجه واقعٌ، ويعكس واقعاً، يوجّهه ممكن، وينتمي إلى حلم، فلا سياسة بلا حلم، وربما كانت "اليوتوبيا" التي يضمرها، أو يفصح عنها، هي التي تغري بقراءته!
__________
(1) * د.علي عقلة عرسان، مقاربة في الخطاب العربيّ، ص7- ص31، مجلّة الفكر السياسيّ، صيف 1999، فصليّة تصدر عن اتحاد الكتّاب العرب بدمشق.(1/174)
كلّ "تقرير ساسيّ" قابلٌ لقراءة مّا أيضاً؛ هي محاولة قراءة، أو مشروع قراءة، سواء أكانت قراءة نقدية أو انطباعيّة، موضوعيّةً أو ذاتية، أم كانت قراءة مجاملةٍ أو مجابهة وقراءة تقبّل أو رفض..
و"التقرير السياسيّ" الذي يتّجه بخطابه إلى أعضاء جماعة "مؤتمر" لا يعني أنه لا يتوّجه إلى كل "فرد" من أفراد هذه الجماعة. ولكنّه قد يتوقّع من هؤلاء الأفراد استجابات عامة متقاربة أو متماثلة. وهذه الاستجابات قد تشيع صمتاً أكثر ممّا تبني حواراً، وقد تخلّف ثرثرة تشبه الصمت، فتتلاشى!..
كيف يعبّر "الفرد" كلّ فرد، عن استجابته؟
وهل تتحوّل الاستجابة إلى فعل؟
ومتى ينجز الفعل الحلم؟
"التقرير السياسيّ" للمؤتمر العام السادس لاتحاد الكتّاب العرب (دمشق 31/8/2000م) نصّ سياسيّ بامتياز!
ولعلّ الحلم القوميّ العربيّ يوجه هذا التقرير بعامّة!
وربّما كان الموضوع العربي القومي، والموضوع الفلسطيني جوهره، هو مركز اهتمامه الذي يحتفي بشعارات نهضةٍ وحريّة وتحرير وتقدّم اجتماعيّ ...
أكثر من عشر صفحات فيه نتأمّل الوضع العربي الراهن، وتحلّله من داخل مفهوم الصراع العربيّ –الصهيوني. وتلخّص موقف السياسة العربيّة السوريّة وتطورّات هذا الموقف من سلام عربيّ –إسرائيلي قيد الإنجاز ...
ويقتصر أقل من ثلاث صفحات على ملاحظة "الوضع الداخلي"
ينطلق "التقرير السياسيّ" من مسلّمة قوميّة مركزيّة ترى في الصراع الغربيّ –الصهيونيّة صراع وجودٍ، وليس نزاعاً على حدود.
وهي مسلّمة تفصح عن استمرارية هذا الصراع الذي يمكن أن يحسم على مراحل وفق استراتيجية تأخذ بمرحلية حسم الصراع لمصلحة الأمّة
العربيّة.. ص4.
فأيّة قوى عربيّة تؤسّس الآن لهذه الاستراتيجيّة؟ وأيّة "أنظمة" عربية تلتزم بها؟
وما مدى تطابقها مع احتمالات مختلفة يقترحها الوضع العربي الراهن بمستوياته المختلفة؟..(1/175)
إن مراجعتنا النقديّة يتّفق بعضها، أو كلّها، على إخفاق المشروع النهضويّ القوميّ في إنجاز الوحدة والتقدّم. ويتّفق بعضها، أو كلّها، على أن المشروع الصهيوني استطاع أن يحقّق "نجاحات" ملموسة وواضحة في مائة عام!
وربّما يفصح "وضع" التيّارات العربيّة الليبراليّة والإسلاميّة والقوميّة والاشتراكيّة عن أشكالٍ من الانقسام والضياع والتمزّق، وبخاصة بعد هزيمة المشروع الاشتراكيّ العالميّ، وترتيب مشروع سلام عربيّ –إسرائيليّ، بعد حرب الخليج الثانية. من داخل اتفاقيات سلامٍ ومفاوضات سلامٍ عادل أو غير عادل، تداخلت مع مشروعات جديدة وبديلة ومضادة تنتمي إلى برامج شرق أوسطيّة أو متوسطيّة!..
فما عنوانات مراحل تدريجيّة تتضمّنها استراتيجية للصراع تعبّر عن مصلحة الأمّة العربيّة؟ وأية قوى تمثّل وعي الأمّة بذاتها؟.
إن المشروع الصهيونيّ هو مشروع مضاد لكل مشروع نهضويّ أو تضامنيّ أو وحدويّ عربيّ ... ص6، كما يرى التقرير بحقّ. وما تزال الإدارة الأمريكية الداعمة له، بمؤسّساتها الرسميّة وغير الرسميّة تمثّل حالة عدوانية مستمرّة على أيّ مشروع عربيّ مشترك. وليس الحصار المفروض، بأبعاده المدمّرة، على العراق بخاصة، أو على ليبيا أو على السودان، آخر تجليّات تلك السياسة، كما أشار التقرير، بل إن حالة من الحصار الخفيّ والعلنيّ تفرضها الإدارة الأمريكيّة على العرب بعامة، وعلى "الأنظمة" العربيّة الموالية وشبه الموالية، وغير الموالية لها أيضاً ... .
كيف يؤسّس العرب إذاً لاستراتيجية مواجهة ومجابهة؟ وماذا فعلت المؤسّسة العربيّة الرسمية وغير الرسميّة في هذا الاتجاه؟ وهل تمتلك الأنظمة العربيّة "إمكانيات" المواجهة والمجابهة؟
وإذا امتلكتها فهل تعمل على توظيفها؟ وكيف توظّفها؟(1/176)
لقد استطاع المشروع الصهيوني في قرن مضى أن يقيم دولة استيطانية ذات قوة إقليميّة بعد هزيمة عربيّة سميّت "نكبة"، وأن يحتل أرضاً عربيّة جديدة بعد هزيمة أخرى دعوناها "نكسة"، وبعد حرب تشرين "التحريريّة"، بمعانيها الإيجابية الكبرى، استطاع أن يعقد اتفاق سلام رسمي مع الدولة العربيّة الكبرى مصر. وربّما كان اتفاق "كامب ديفيد"، الأوّل أحد مدخلات اتفاقيّة "أوسلو"، أو اتفاقية "وادي عربة" وغيرها من اتفاقات واتفاقيّات قد تعقد ...
وسواء أكان السلام عادلاً أم كان غير عادلٍ من وجهة نظر رسميّة أو غير رسميّة، فإن "إلغاء" الصراع مع المشروع الصهيوني أو تأجيله، ينطوي على احتمالات مشروعات إقليمية مضادة للمشروع النهضوي العربيّ القوميّ، ولن يقدّم احتمالات تضامن عربيّ أو توحيد عربيّ.
بل إن إلغاء الصراع يترافق مع "تكامل" مشروع "الدولة القطريّة"، و "السلطة القطريّة" في هذا المكان العربيّ أو ذاك؛ سواء أتمثلت "السلطة القطريّة" في مشيخة وإمارة وسلطنة أم تمثّلت في مملكة وجمهوريّة وجماهيريّة ...
وإذا كان التعاون الأمريكيّ –الإسرائيلي قد حوّل بعض العرب إلى وسطاء أو وضعهم على الحياد أو في دائرة الضغط، حسب تعبير التقرير، فأيّ "فضاء" عربيّ قومي يقترحه "تضامن" بعض الأنظمة؟
وأيّ تضامن ينجزه تراجع مشروع نهضوي عربي قوميّ أمام تعاون أمريكي –إسرائيلي؟ ...
يقرّر التقرير أن المواجهة تستدعي تفهّماً ودعماً من الأنظمة العربية الواعية للخطر الصهيونيّ والمدركة لحقيقة أن الصراع مع الكيان الصهيوني صراع وجود.. وكأنّ ثمة أنظمة تعي الخطر وأنظمة لا تعيه، أو تجهله، أو تتجاهله، أو تؤجل الوعي به، وبخاصة عندما لا يمسّ هذا الخطر استقرارها في السلطة واستمرارها، ولا يتناقض مع تلبية متطلبات نخباتها وقواها وشهوات حاكميها وأجهزتها وطمأنينة محكوميها! ...(1/177)
إن "الخطر"، على ما يبدو، لا يمسّ إلاّ الأمة وقواها الحقيقيّة التي لم تستطع حتى الآن أن تصنع تاريخها الحقيقيّ على نحو يعبّر عن مصلحة الأمّة ووعيها بذاتها..
ومع ذلك فإن "التقرير السياسيّ" يرى أن الكتّاب يؤكّدون أهميّة استعادة التضامن العربي، وينادون بضرورة توسيع العمل العربي، ليشمل خلق مناخٍ عربي يستعيد فعاليّة مؤتمر القمّة وحضوره العربي بالإضافة إلى تطوير ميثاق الجامعة العربيّة وتفعيل دورها.. الخ الخ.
ويلاحظ تطوّر العلاقات الثنائيّة بين سورية والأردن والتعاون بين مصر والسعودية وسورية تعويضاً عن التضامن العربيّ. ويشير إلى العلاقة الاستراتيجية بين سورية ولبنان ... ص 98 ص9.
كيف يستعاد التضامن العربيّ؟
وكيف يعزز أيضاً، ليرتقي إلى أشكال من الاتحاد تؤدي إلى الوحدة؟
وما الإمكانيات العمليّة لتعزيز سوق عربيّة مشتركة في عصر "العولمة" وفي مرحلة تعمل "الدولة القطرية"، على إنتاج مشروعيتها الخاصة فيها، وتجتهد في أن تصنع تاريخها الخاص بها؟
أليست العودة إلى "الشعب"، أو إلى "الأمة" هي المدخل الرئيس في معالجة الوضع العربيّ الراهن بسياساته وإراداته ورهاناته؟
ألا تشكّل العودة إلى "الشعب"، أو "الأمة" بداية عمل عربيّ قوميّ مشترك، بما تقترحه من مهمّات وبرامج، يوجّهها مشروع نهضويّ عربيّ يهدف إلى إنجاز الوحدة والتقدّم؟
ولكن! كيف نبتدئ عودتنا إلى شعبنا، وإلى أمتنا؟
* *
يتفاءل "التقرير السياسيّ" من جانب آخر بوضع سورية الأفضل، فيما إذا حصلت على حقوقها في الأرض والمياه والسيادة.. ص4. ولاشك في أن سورية بوّابة السلم والحرب في المنطقة وهي تنظر إلى المقاومة كحق مشروع. وتلتزم بالمقاومة ضدّ الاحتلال، وقد دعمت المقاومة الوطنيّة والإسلاميّة في لبنان، وعملت على وحدة المسارين السوريّ واللبنانيّ ...(1/178)
وقد أوضحت مفاوضات واي بلانتيشن وشيبردزتاون فيما بعد أن سورية لا يمكن أن تتنازل عن حقوقها في الأرض والمياه والسيادة. وليس ثمّة ما يدل على أنها يمكن أن تتنازل عن حقوقها في أمد قريب أو بعيد ...
ولذلك يتفاءل التقرير بوضع سورية الأفضل، ويتفهّمه منطلقاً من أن السلام العادل والدائم والشامل لا مجال له مع وجود سيادة صهيونيّة في فلسطين، وبقاء معظم الشعب العربيّ الفلسطينيّ خارجها، ويفقد سيادته التامّة على وطنه بشكل كلي ... ص4.
ويقترح مقاومة كلّ شكل من أشكال الاعتراف العربيّ بالكيان الصهيوني أو التطبيع معه، ليدعو إلى تعزيز المقاومة وثقافة المقاومة، وإلى العمل من أجل جبهة عربيّة واسعة لمقاومة التطبيع ودعاة "ثقافة السلام". وينادي بعمل عربيّ نوعيّ ومسؤول ومدروس يمسّ الكيان الصهيونيّ من الداخل، ويردّ على ممارساته العنصريّة.. إلى ص 5، ص6 ...
إنّ سياسات تراهن على اتفاقات أو اتفاقيات أو مفاوضات ستلغي "الحلم القوميّ" الآن أو فيما بعد من برامجها.. وستواجه قوى الأمّة التي تراهن على هذا الحلم..
والسياسة التي تتناقض مع الحلم القومي لا تستطيع أن تنتج تاريخ الأمة، وستكون ضدّ قواها التي تعمل من أجل التغيير ...
هل نعترف الآن، أو فيما بعد، أننا بحاجة إلى استعادة "الحلم القومي" وإن فكّرنا باستعادة شكل من أشكال التضامن العربيّ؟
ومتى نمتلك الشجاعة كي نسمّي أوضاعنا وقوانا وعلاقاتنا وبنانا بأسمائها الحقيقية؟
وكيف ننظر إلى السياسة كعمل دنيوي قابل للتداول، ينجزه مواطنون آدميّون ينجحون، ويخفقون أيضاً؟.
وهل النجاح أو الإخفاق هو نجاح "شخص" أو إخفاق "شخص" إذا كان النجاح نجاح "سياسة"، أو "نظم" أو "قوى"، والإخفاق إخفاقها، سواء أتدخّلت عوامل "خارجيّة"، أم ساهمت عوامل "داخليّة" في هذا النجاح أو الإخفاق؟..(1/179)
ألا يعود بعض "نجاحات" المشروع الصهيوني إلى عوامل تحدّدها بناه وقواه، ويعود "بعض" نجاحاته إلى تزامنه مع مشروعات قوى عالمية، صعد معها، وصعد بصعودها متحالفاً وإيّاها ...
إن "نجاحات" المشروع الصهيوني، بعضها أو كلّها، لا تعني نهاية المشروع النهضوي العربي القومي الذي ينتج واقعه دائماً قوى جديدة وحديثة تشتغل على استراتيجية الوحدة والتقدم. وإذا ما نجحت هذه القوى، بعضها أو كلها، في إنجاز بعض مهماتها فستكون الاتفاقات والاتفاقيات والمفاوضات وسواها صورةً عن مرحلة تاريخيّة مضّطربة وحرجة في حياة أمة! ...
ولن يكون نقد الذات الشامل والمستمر تعبيراً عن "فكر" انهزامي أو "سلوك" انهزاميّ مادام عاملاً من عوامل التدرّب على ممارسة ديمقراطية يعيد فيها المجتمع إنتاج مؤسساته وبناه وقواه على نحو قوميّ حديث، يتجاوز أوضاعاً وانقسامات ما قبل قوميّة! ...
*
وقد تكون معالجة "الوضع الداخليّ" العلنيّة، والمسؤولة، جزءاً من نقد الذات حقاً ... فهل ينبغي أن نصفها بالجرأة أو بالشجاعة؟
ولعلّ "التقرير السياسيّ" يتناول ملفّين من الملفّات التي تستوجب المتابعة والمعالجة ص11، ص 12، كجزء من نقد الذات!
الملفّان هما "ملفّ الفساد" و"ملفّ الانتهازية" الذي هو جزء من "ظاهرة الفساد" كما نرى.
وقد أشار "التقرير" إلى أن إعداد سورية للمعاصرة، ببناها ومظاهرها المختلفة، يتطلّب "نقلة" نوعيّة في القوانين والأنظمة وعلاقات العمل ومستويات الدخل واحترام حقوق المواطنة وواجباتها والممارسة الديمقراطية السليمة ... الخ ورأى أن ملفّ الانتهازية يقف وراء ملفّات كثيرة تحتاج إلى معالجة ... ص 11-ص12.(1/180)
ولاشكّ في أنّ "ظاهرة الفساد" تحوّلت إلى "قوّة مضادة"، في الداخل تلغي النموّ، وتعطّل التنمية، وتدفع إلى إلغاء "الحلم الاجتماعي" لتعمل على تأجيل "الحلم القومي" وعلى إلغائه أيضاً. وهي ظاهرة نمت، وتنامت مع تراجع المشروع العربيّ القوميّ وتآكل قيمه واتجاهاته وأفكاره. وستلغي احتمال إنتاج مجتمع قومي حديث ما دامت تتكيّف مع انقسامات اجتماعيّة قديمة وجديدة، وتكيّفها أيضاً وفقاً لمتطلّباتها.
ولذلك سيؤكّد "التقرير" أن الوطن الحرّ يصنعه ويحميه مواطنون أحرار، وأن الكلمة كانت مع الحريّة ومن أجلها في كلّ الأزمنة والأمكنة عبر التاريخ.. ص12.
وسيؤكّد أيضاً بإيجاز وثبات ووضوح مسؤوليّات الكاتب التاريخيّة عن دور مشرّف للكلمة من أجل التحرير والحريّة والكرامة والتقدّم وعن فعاليّة الثقافة في حياة الوطن والمواطن والأمّة وعن إنتاج فكريّ وإبداعي ينتمي إلى الهويّة، ويعبّر عن خصوصيّة.. الخ.. الخ.. ص12-ص13.
*
هل يتوقّع من هذا "التقرير السياسيّ" أو ذاك أكثر من الإشارة إلى هذا الوضع أو ذاك، وإلى هذه الظاهرة أو تلك؟
إن "التقرير السياسيّ" للمؤتمر العام السادس لاتحاد الكتّاب العرب، دمشق: 31/8/2000م يعلن انتماءه إلى المشروع القوميّ العربيّ، ويجدّد التزامه بقضايا الأمّة والوطن والمواطن التي هي قضايا تحرّر وتحرير وحريّة وتقدّم وعدالة وكرامة ...
إنه ينحاز أيضاً إلى الحلم القوميّ وإلى الأمل الاجتماعي، ويطلب من السياسة ألاّ تتنكّر للحلم، أو تحذف الوجدان، أو تنتهك الروح..
((
ملحق 3 :
الانتفاضةُ وإِنْتاج المَعْنى
ليست انتفاضة ((الأقصى)) انتفاضةً أولى. ولن تكون انتفاضةً أخيرة، فهي جزء من تاريخ مأساة عربيّة واقعيّة، حديثةٍ ومعاصرة؛ تحاول جماعته القوميّة قوى ونخباً وأفراداً أن تنجز مشروعها النهضويّ العربيّ القوميّ الذي لا تستطيع إلاّ أن تحلم به، وقد اضطهدت، وهُمّشت من داخل ومن خارج!(1/181)
وليست أجزاء ((ديوان)) الطفل الشهيد ((محمّد الدّرة)) الذي يستمرّ إنتاجه، وتكتب صفحاته سوى فصل من موسوعة انتفاضة عربيّة كبرى قيد الإنجاز ...
إن انتفاضة ((الأقصى)) في عام 2000م تستعيد ذاكرة الانطلاقة العربيّة الفلسطينيّة ضد الاستيطان الصهيونيّ والاستعمار البريطانيّ في عام 1920. وتتفاعل دلالاتها مع ثورة ((البراق)) في 5 آب 1929، وتستخلص قيم ثورة ((عزّ الدين القسام)) التي انطلقت في 19/11/1935 وشعائر ((الثورة الفلسطينية الكبرى)) في أيار 1936 وتقاليد ((الإضراب الكبير)) من نيسان إلى تشرين الأول 1939 ومواجهات 1937-1939. والتاريخ فعل وذاكرة وكلمة!
ينتجه آدميّون واقعيّون، وينتجهم!
ولا تاريخ للموضوع الفلسطيني من خارج موضوعه العربيّ!
ولعل المشروع العربيّ الإبداعيّ: السرديّ والشعريّ أعلن انتماءه إلى المقاومة الجذريّة قبل إعلان الكفاح المسلح في عام 1964. وقدّم تجلّياته حول علاقته بالأرض العربيّة قبل يوم الأرض في 30 آذار 1976 وبعده، وقد مهّد لوعي الانتفاضة الشعبيّة في 21/12/1987. وعكس ((أحزان)) مجزرة الأقصى في 18/10/1990. واحتفى بإشارات انتفاضة 1996.
وما يزال ((بياض)) الصحافة الثقافيّة العربيّة يحتشد بإنتاج. ((إبداعيّ)) يدوّن ظاهرة الانتفاضة، فيسجّل وقائعها، ويستكشف مظاهرها، ويحتفل بمواقفها، ويمتدح قيمها، ويعلن رموزها، وإن اختلفت مستويات هذا ((الإنتاج)) الفنيّة، وتنوّعت رؤاه الفكرية.
يستمرّ المكان العربيّ الفلسطينيّ في صياغة ((مفهوم)) الانتفاضة الذي اقترحته طريقة أبناء فلسطين أطفالاً وفتياناً في مجابهة أسلحة الصهيونية العنصريّة الحديثة!
ولعلّ هذا المفهوم يفترض وعياً ذكيّاً وباهراً وحديثاً بمأساةٍ عربية هي جزء من حياة العرب الحديثة والمعاصرة. وهو يفترض، أيضاً، سلوكاً مختلفاً في البحث عن ((المعنى)) وإنتاجه..
وقد حاول المشروع السرديّ والشعريّ اكتناه هذا المعنى واختباره، ويحاوله!(1/182)
وربّما كانت ((الظاهرة الاستشهاديّة)) من عناصره الأولى!
فماذا يعني أن يواجه جسدٌ عربيٌّ طفلٌ، برقّته وشفافيته وهشاشته، السلاح الإسرائيلي العنصريّ ((الحديث))!
وأيّ قهر واضطهاد وتهميش تحمله ((ذات)) من يمتلك هذا الجسد؟
يختبر الجسد العربيّ الطفل علاقةً جديدةً في مقاومة ((السيّد)) العنصريّ وآلته العسكريّة، ويكسر علاقاته قديمة وجديدة ...
هكذا استطاعت الانتفاضة أن تهشّم ((سلطة)) الإسرائيلي الصهيونيّ. وهشّمت علاقاتٍ تراتبيّة تعكس سلطة ((الكبار)) و((الراشدين)) وسلطة ((قوى)) عربية تتآكل و ((شبكة)) نظام عربي ضعيف ومتأخّر..
ألم يكتشف طفلٌ عربيّ أنّ الشهادة هي طريقة في التفكير، وأن التفكير طريقة في التحرير، وأن التحرير يبتدئ بالتحرّر من الجسد، وتحريره، وامتلاك معناه!
تدرك بعض أنموذجات شعريّة وسرديّة مهمّتها في إعادة إنتاج المعنى الذي يقترحه ((طفل)) الانتفاضة، وتشتغل على متخيّل يعزّز العلاقة بين الحلم والسياسة، ويتخطّى ((الزيف)) الدنيويّ، ويعيد الاعتبار إلى المبادرة الذاتيّة التي تلغيها سياسات ((نظام)) عربيّ ورهاناته، بعد أن فقد إرادته، واستجاب لشروط ذاتيّة وموضوعيّة تحاصره من داخل ومن خارج!
فهل تقترح الانتفاضة على عمل سرديّ وشعريّ عربيّ طرائق جديدةً في امتلاك المعنى، بعد أن دفعت بالمناخ الثقافيّ الإبداعيّ والنقديّ إلى منطقةٍ جديدة في التفكير الحرّ وتحرير التعبير..
إن الانتفاضة التي تتجاوز أساليب الصراع التقليديّة تحرّض على أساليب تعبير مختلفة أيضاً، وهي تؤسّس لوجود ذات إنسانيّة حرّة تمثّل الخيّر الجذري في مواجهة الشرّ الجذريّ بمعنى ما!
يستعين العمل السرديّ والشعريّ الآن بخطابه السابق القديم والجديد. ويستعيد رموزاً تاريخيّة مختلفة، ويستفيد من ((أشكال)) قديمة وجديدة وانتقاليّة، ويوظّف ((أشكالاً)) تجريبيّة هي قيد الاختبار، ويجاهد في اختبار المعنى المختلف، لعله ينجز مشروعه المختلف!(1/183)
ولكن ((الانتفاضة)) ما زالت في بعض أنموذجاته الناجحة وغير الناجحة ((موضوعاً)) أو ((مناسبة)) يعبّر من خلالهما عن رؤية قوميّة إيجابية أو موقف قوميّ إيجابيّ..
تتطابق ((شعرية)) الانتفاضة التي تكتب الآن مع ذاكرة شعريةٍ جاهزةٍ في تمرينات وأعمالٍ شعريّة كثيرة. وتنحاز ((سرديّة)) الانتفاضة أيضاً إلى وعي سابق يشبه وعياً تقدّمه وسائل إعلام مستملكة!
ولكن! أليست الانتفاضة مشروعاً؟
وهل المعنى الشعريّ والسرديّ الذي يصاحب الانتفاضة سوى مشروع أيضاً يتطلّب ((فعلاً)) أكثر. ويفترض معاناةً ومجاهدةً وتأمّلاً، ليعيد إنتاج المعنى المختلف الذي تنتجه الانتفاضة!
أليس هذا المعنى هو المعنى النقيض للمشروع الصهيوني العنصريّ، ولنظام التأخّر العربيّ من حيث السلوك، لا الكلام فحسب!
إنّه معنى يجسّد ((أخلاقيات)) مختلفةً هي اختلاقيات الانتفاضة التي يتحوّل فيها الإنسان العربيّ الفلسطينيّ إلى ((فرد)) حقيقيّ، وإلى ((ذات)) حقيقيةّ؛ كأنّه سلاحٌ ماديّ ورمزيّ تلهمه قضيّة الحق بعامة، ويتطابق عبره الفكر مع السلوك، وقد ارتقى الفكر والسلوك إلى فكر وسلوك استشهاديين!
وهل الشهادة، التي هي اختيار الموت من أجل المعنى، سوى إحدى أخلاقيّات الانتفاضة؟
ولعلّ التاريخ في بعض وقائعه وتجلّياته هو إنتاج للمعنى؟
فهل يبتدئ ((طفل)) الانتفاضة في إنتاج تاريخه العربيّ المعاصر، وفي إنتاج معناه الإنسانيّ؟
(((
الفهرس
مدخل ... 3
النَّقد والخطاب النقديّ ... 3
ما بَعْدَ المُرَاجَعةِ النَّقْدِّيةِ ... 3
خطابُ تراثٍ أم خطابُ حداثة ... 3
مفهوم المشروع النهضوي العربي بين حوار اليأس واختبار الأمل ... 3
الفِعْلُ والكِتَابةُ: (مفهومُ المقاومةِ في الكتابة العربيّة الحديثة والمعاصرة) ... 3
ملاحق : ... 3
ملحق1 على هامش مقالة د.علي عقلة عرسان ... 3
(مقاربة في الخطاب العربي) الخطاب العربيّ أمام مصيره القوميّ! ... 3
ملحق 2 :الحلم والسياسة ... 3
ملحق 3 : الانتفاضةُ وإِنْتاج المَعْنى ... 3
((((1/184)
صدر للمؤلف
1-مجموعات شعريّة:
-من أين تبتدئ القصيدة؟
-المرثية الدائمة.
-رماد الكائن الشعريّ.
-جمهوريّة الأرض.
-العين والفضاء
-طفولة هذا المكان
-فضاء للجماعة
-ديوان الزخرف الصغير
-النشيد الدنيويّ
-أختار أن أتأمّل
2-قصائد للأطفال:
-دفتر النهار
-أنشودة الأرض.
3-دراسات:
-الشعر والهويّة.
-الحداثة كسؤال هويّة.
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
النقد والخطاب : محاولة قراءة في مراجعة نقدية عربية معاصرة/ مصطفى خضر – دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 –
160 ص؛ 24سم.
1- 191 خ ض ر ن ... ... ... 2- 306.40956 خ ض ر ن
3- العنوان ... ... ... ... 4- خضر
ع- 1546/8/ 2001 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
((
مصطفى خضر
- ... شاعر وباحث من القطر العربيّ السوريّ
- ... نشر أعماله الإبداعيّة والنقديّة في دوريّات عربيّة معروفة منذ مطلع الستينيات.
- ... صدر له حتى الآن عشر مجموعات شعريّة، منها ( رماد الكائن الشعريّ، فضاء للجماعة، ديوان الزّخرف الصّغير)، وثلاث مجموعات شعريّة للأطفال، منها ( دفتر النّهار)، وثلاث دراسات نقديّة، منها ( الحداثة كسؤال هُويّة).
(((1/185)