الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه نبذة موجزة عن النصرانية، وذلك من خلال المباحث التالية:
- تعريف النصرانية، وسبب تسميتها.
- نبذة تاريخية عن النصارى.
- موقف النصارى من عيسى _ عليه السلام _.
- النصارى بعد رفع المسيح _ عليه السلام _.
- عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _.
- نماذج من انحرافات النصارى العقدية.
- نماذج من انحرافاتهم في القرآن والسنة وتحذير المسلمين من ذلك.
- فرق النصارى.
- كتب النصارى.
- مواطن انتشار النصرانية.
- علاقة النصارى باليهود وعداؤهم للإسلام.
- عداوة النصارى للمسلمين وموقفهم منهم.
أولاً: تعريف النصرانية: النصرانية مصطلح حادث أطلق على الديانة المحرفة عما جاء بها عيسى _ عليه السلام _.
ومن خلال هذا التحريف يتضح لنا خطأ من يعرف النصرانية بأنها الدين الذي جاء به عيسى _ عليه السلام _.
فالدين الذي جاء به عيسى هو الإسلام والتوحيد, فالإسلام دين جميع الأنبياء قال _تعالى_: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ](آل عمران: 19).
وقال _تعالى_: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ](آل عمران:67).
فلو كانت النصرانية هي الدين الحق ما برَّأ الله نبيه إبراهيم _ عليه السلام _ منها.
ومما يدل على أن عيسى _ عليه السلام _ جاء بالإسلام قوله _تعالى_ عن الحواريين: [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:52).
ثانياً: سبب التسمية: سميت النصرانية بهذا الاسم أخذاً من كلمة النصارى الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
وقد اختلف في سبب تسميتهم على أقوال منها:
1_ أنهم سموا بذلك؛ لتناصرهم فيما بينهم.(1/1)
2_ لأنهم نصروا عيسى _ عليه السلام _ لما قال _ كما أخبر الله عنه _ [مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ] (آل عمران: 52).
3_ لأنهم سكنوا مدينة ناصرة ثم أطلقت كلمة النصارى عليهم كلهم على وجه التغليب.
هذا وقد سماهم القرآن الكريم نصارى على سبيل الذم، وهم يهربون من هذه التسمية، ويسمون أنفسهم مسيحيين؛ نسبة إلى المسيح _ عليه السلام _ وهو منهم براء.
أما الذين اتبعوه، وآمنوا ببشارته بمحمد _ عليه الصلاة والسلام _ فهم مسلمون، ويؤتون أجرهم مرتين.
أما من كفر بمحمد فقد كفر بعيسى وبجميع الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _.
أرسل الله _ سبحانه وتعالى _ رسله تترا إلى بني إسرائيل يدعونهم إلى الهدى، ويقومون اعوجاجهم، ويصلحون ما انحرف من عقائدهم، وأخلاقهم.
وآخر من أرسل إليهم من الرسل عيسى بن مريم _ عليه السلام _ ورسالته التي أرسل بها إنما هي امتداد لرسالة موسى _ عليه السلام _ وتجديد لها، وتصحيح لما دخلها من التحريف، وفيها تحليل لما حرم على اليهود من بعض الطيبات.
ودعوته _ عليه السلام _ كانت إلى التوحيد الخالص، والأخلاق القويمة.
والكتاب الذي أنزل إليه هو الإنجيل.
وإننا _معشر المسلمين_ لا نعرف مصدراً صحيحاً جديراً بالاعتماد والثقة من المسلم غير القرآن الكريم، والحديث الشريف.
وينص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل: التوحيد بكل شعبه.
التوحيد في العبادة فلا يعبد إلا الله، والتوحيد في التكوين؛ فخالق السموات والأرض وما بينهما هو الله(1).
والتوحيد في الأسماء والصفات فله الأسماء الحسنى، وله الوصف الكامل؛ فالقرآن الكريم يثبت أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل.
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة ص12.(1/2)
وهذا ما أخبر به _ عز وجل _ حيث قال مبيناً ما يكون من عيسى _ عليه السلام _ عندما يجيب ربه إذا سأله وهو _ عز وجل _ أعلم، قال _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)] (المائدة).
فهذا نص يفيد بصريحه أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد(1).
إذاً هذه حقيقة عيسى _ عليه السلام _ التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية.
أما عن حقيقة صاحب الدعوى عيسى _ عليه السلام _ وأمه, فقد بيَّنها الله _سبحانه وتعالى _ في القرآن غاية البيان, قال ابن كثير ×: =قال الله _تعالى_ في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى _عليهم لعائن الله_ الذين زعموا أن لله ولداً _ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً _.
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله "فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم، ويدَّعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة، وعيسى، ومريم.
__________
(1) _ انظر المرجع السابق.(1/3)
وهم على اختلاف فرقهم, فأنزل الله صدر هذه السورة بيَّن فيها أن عيسى عبدٌ من عباد الله خلقه، وصوَّره في رحم كما صور غيره من المخلوقات، وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وقال له: كن فكان _ سبحانه وتعالى _ وبيَّن أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها، وكيف حملت بولدها عيسى, وكذلك بُسط ذلك في سورة مريم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته+(1).
ثم شرع × بإيراد الآيات والآثار التي وردت في هذا السياق, بداية من قصة ميلاد مريم كما في قوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] (آل عمران: 33) إلى أن بين حياتها، وحملها بعيسى، ووضعها له، وما أظهره الله على يديه من المعجزات؛ فهذه _إذاً_ حقيقة عيسى _ عليه السلام _ وأمه وسيمر بنا _إن شاء الله تعالى_ شيء من ذلك عند الكلام عن عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _.
لقد بعث الله عيسى _ عليه السلام _ بالبينات، وأيده بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه، وكان جديراً بقومه أن يؤمنوا به ويصدقوه ويتبعوه، ولكن القوم الذين بعث فيهم كانوا غلاظ الرقاب، قساة القلوب, فكانت مهمته شاقة إذ حاول هدايتهم.
فاليهود قوم عكفوا على المادة، واستغرقتهم، واستولت على أهدافهم ومشاعرهم، حتى لقد كان نساكهم وسدنةُ الهياكل عندهم _ وقد فاتهم العمل على كسب المال من أبوابه الدنيوية _ يجمعون المال من نذور الهياكل، والقرابين التي يتقرب بها الناس.
ولقد كانوا يجعلون لأحبارهم، وعلماء الدين فيهم المنزلة السامية، والمكانة العالية دون الناس؛ فجاء المسيح وجعل الناس جميعاً سواءاً أمام ملكوت الله(2).
__________
(1) _ قصص الأنبياء ابن كثير ص518.
(2) _ انظر محاضرات في النصرانية ص22_23.(1/4)
فما كان من اليهود تجاه هذه الدعوة إلا أن وقفوا ضدها، وناصبوا صاحبها العداء، ولم يؤمن منهم إلا القليل, كما قال _تعالى_ عنهم:[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 52).
وقال _تعالى_: [كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14).
فالذين آمنوا برسالته هم المؤمنون المسلمون, والذين كذبوا وكفروا به هم الكفار, ثم إن الذين كفروا به على فريقين: فريق غلا فيه، وقال: إنه إله، وابن إله؛ فعبدوه من دون الله, وفريق رموه وأمه بالبهتان والزور، وكذبوا برسالته، ووشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان، وهموا بقتله إلا أن الله خلَّصه ورفعه إليه، وألقى شَبَهَه على أحد أصحابه، وقيل: إنه يهوذا الأسخريوطي الذي درس عليه.
وقد اختلفوا في المسيح، وفي رفعه فمنهم من قال: إنه صلب, ومنهم من قال: إنه رفع, ومنهم من قال: غير ذلك.
وقد بين الله حقيقة ذلك في القرآن الكريم فقال _عز وجل_:[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ] (النساء: 157).
مر بنا أن عيسى بن مريم _ عليه السلام _ أتى بدين التوحيد وقد دعا إليه، فآمن به من آمن, ولما رفعه الله إليه بقي عدد من أتباعه وأنصاره على الحق مدة يسيرة إلا أنهم لقوا من اليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى _ عليه السلام _ أذىً كثيراً؛ حيث طاردوهم، وقتلوهم، ووشوا بهم عند السلاطين.(1/5)
يقول الشيخ محمد أبو زهرة ×: =اتفقت المصادر شرقية وغربية، دينية وغير دينية على أن المسيحيين نزل بهم بعد المسيح بلايا وكوارث جعلتهم يَسْتَخْفُون بديانتهم، ويفرون بها أحياناً، ويصمدون للمضطهدين مستشهدين أحياناً أخرى, وهم في كلتا الحالتين لا شوكة لهم، ولا قوة تحميهم وتحمي ديانتهم وكتبهم+(1).
ويقول _ أيضاً _: =وأشد ما نزل من أذى كان في عهد نيرون سنة 64م وترجان سنة106م ودبيون سنة 49م+(2).
وفي تلك الفترة كتبت أناجيلهم وهي عبارة عن اجتهادات لم تسمع من عيسى _ عليه السلام _ مشافهة، وبعضها من دس اليهود.
وقد عاشت النصرانية بعد ذلك ثلاثة قرون في تخبط وافتراق، وتأثر بالفلسفات والآراء والطقوس الوثنية السائدة، إضافة إلى ما قام به اليهود خلال تلك الفترة من الدس والتحريف، وإشاعة الفرقة والاختلاف العقدي والمذهبي في صفوف أتباع النصرانية.
كما أنه خلال تلك الفترة فُقِدَ النصُّ الصحيح للإنجيل، وكثرت الأناجيل إلى حد لا يمكن معه الاهتداء إلى نص الإنجيل الثابت.
وتتفق المصادر التاريخية _ فيما نعلم _ على أن اليد الطولى في التحريف كانت لمبشر من أتباع الحواريين تُسَمِّيه المسيحية المحرفة بولس الرسول وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله _تعالى الله عن ذلك_ وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث.
وفي سنة 325م بدأ التجمع النصراني الكبير الذي عقده قسطنطين ملك الرومان في نيقية، وهو تجمع حاسم قرر فيه غالبية النصارى الاتجاه نحو النصرانية الضالة والتي هي مزيج من الوثنية الرومانية السائدة آنذاك، ومن اليهودية المحرفة، وبقايا النصرانية المشوشة، والديانات الوثنية الهندية.
__________
(1) _ 2 محاضرات النصرانية ص29_30.(1/6)
وفي هذا اللقاء رسخت عند النصارى عقيدة التثليث الوثنية وهو اعتقادهم أن الله ثالث ثلاثة: الأب وهو الله بزعمهم _ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً _ والابن وهو عيسى بزعمهم، وروح القدس يتمثل في الروح التي حلت في مريم.
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والنصرانية على هذا الاعتقاد الفاسد(1).
عقيدة المسلمين في عيسى ــ عليه السلام ــ (2)
عقيدة المسلمين _ وهي الحق الذي لا مرية فيه _ في المسيح _ عليه السلام _ تتلخص فيما يلي:
1_ أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه: قال الله _تعالى_:[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ](النساء:171).
وقال ": =من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل+(3) .
فقوله: =عبد الله+: رد على الغالين, وقوله: =ورسوله+: رد على الجافين, ومعنى: =كلمته+: أي كن؛ فعيسى خلق بكن، وليس هو كن.
وقوله: =وكلمته+ = وروح منه+ ليس معنى ذلك أنه جزء من الله؛ لأن ما أضيف إلى الله أو جاء بلفظ =منه+ فإنه على وجهين:
__________
(1) _ انظر العلمانية د. سفر الحوالي ص36، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص71.
(2) _ الكلام في هذا أكثره مستفاد من كتاب فقه العبادات للشيخ محمد بن عثيمين ص24_25، ومن محاضرات في التوحيد للشيخ محمد بن قاسم لطلاب كلية اللغة العربية في جامعة الإمام بالرياض. ص18_19.
(3) _ البخاري (3435)، ومسلم (28).(1/7)
أ_ إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو مملوك له، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى مالكه أو المخلوق إلى خالقه, وقد تقتضي تلك الإضافة تشريفاً كناقة الله، ورسول الله، وبيت الله، وكليم الله, وقد لا تقتضي تشريفاً مثل أرض الله، وسماء الله.
ب _ وإن كان المضاف إلى الله عيناً غير قائمة بنفسها فهي صفة من صفات الله مثل: سمع الله، يد الله، كلام الله.
وقوله =منه+: أي مخلوقة منه صادرة من عنده.
2_ أنه ولد من غير أب كما خُلق آدم من غير أب ولا أم: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ](آل عمران: 59).
3_ أنه أحد أولي العزم من الرسل: قال الله _ عز وجل _:[ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7)] (الأحزاب)
4_ أنه عبد ليس له من خصائص الربوبية والألوهية شيء: [إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ](الزخرف: 59).
5_ أن الله أظهر على يديه المعجزات والآيات: كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، وكلامه وهو في المهد صبياً.
6_ أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له: ودعاهم إلى العقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة: [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ] (آل عمران:51).
7_ أنه بشر بنبوة محمد ": [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).
8 _ أنه ليس بينه وبين محمد _ عليهما الصلاة والسلام _ نبي لقوله _تعالى_:[مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).(1/8)
9_ أنه لم يصلب ولم يقتل بل رفعه الله إليه كما قال _تعالى_: [إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ](آل عمران:55), وكما قال:[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(158)] (النساء).
10_ أنه يَنْزِلُ في آخر الزمان: فيحكم بشريعة محمد " ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب ويضع الجزية(1) وينتقم من مسيح الضلالة, ثم يموت في الأرض، ويدفن فيها، ويخرج منها كما يخرج سائر بني آدم لقوله _تعالى_:[مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى](طه:55).
هذه هي عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _ وهي العقيدة الصحيحة؛ فمن خالفها فقد شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين: [ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)] (مريم).
منذ أن ابتعد النصارى عن ملة التوحيد، ومنذ أن حرفوا دينهم وهم يهيمون في أودية الضلالة والكفر؛ حيث أصبحت عقيدتهم خليطاً من وثنيات شتى هندية ورومانية ويونانية؛ فأتوا بذلك بالمتناقضات والمضحكات التي تحيلها العقول، ولا تقبلها.
حتى إن النصارى أنفسهم عجزوا عن فهمها وإدراكها فضلاً عن غيرهم.
__________
(1) _ انظر صحيح البخاري (3448)، ومسلم (115، 2937).(1/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى, وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا, بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين؛ ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً, وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالث+(1).
=ولو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً لما استطاع ذلك+(2).
فمن تلك العقائد التي يعتقدها النصارى ما يلي:
1_ عقيدة التثليث: وهي بزعمهم أن الله _تعالى_ عما يقولون _ ثالث ثلاثة ويزعمون أن الله _تعالى_ له ثلاث حالات وتسمى عندهم (الأقانيم) جمع أقنوم بمعنى (عنصر أو طبيعة) _ =فالله عندهم ثلاثة:
أ _ الإله الأب: وله خصائص اللاهوتية أي الإلهية: وهو (الله).
ب _ الإله الابن: وله خصائص الناسوتية أي البشرية وهو (عيسى).
ج _ الإله الروح القدس: وله خصائص الازدواجية بين الإلهية والبشرية وهو الروح التي حلت في مريم(3).
هذا وقد اختلفوا في تقرير تلك العقيدة وتفسيرها اختلافاً كثيراً.
ولقد ظل العقل البشري يلح على الكنيسة أن تعطيه إجابة مقنعة يتخلص بها من سؤال داخلي قاتل وهو كيف أصدق أن: 1+1+1=1
فكان رد الكنيسة المتكرر دائماً أن ذلك سرٌ لا يستطيع العقل إدراكه(4).
__________
(1) _ الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح، لابن تيمية 2/155.
(2) _ ما يجب أن يعرفه المسلم عن حقائق النصرانية، للشيخ إبراهيم الجبهان ص13.
(3) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص71.
(4) _ العلمانية للحوالي ص40.(1/10)
هذا وقد بين الله ذلك الزعم منهم، ورد عليهم بقوله _تعالى_:[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً](النساء:171).
وقد كفرهم الله _ سبحانه وتعالى _ في اعتقادهم هذا بقوله _عز وجل_: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] (المائدة:73).
2 _ عقيدة الصلب والفداء، والخطيئة الأصلية الموروثة: =فإن النصارى يعتقدون أن أرواح الأنبياء _ عليهم السلام _ كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح بسبب خطيئة آدم _ عليه السلام _ وأكله من الشجرة, وأن كل من مات من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
قالوا: ثم إن الله _تعالى_ لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيَّل على إبليس، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى وُلِد، وكَبِر، وصار رجلاً؛ فمكن أعداءه اليهود من نفسه حتى صلبوه، وسمروه، ووضعوا تاجاً من الشوك على رأسه وهو يصيح ويستنجد، وهم يصفقون حوله ويرقصون؛ فخلصهم بذلك من الشيطان، واستحق أعداؤه العذاب والسجن في الجحيم.
ولذلك سموه (المخلِّص) قالوا: من أنكر صلبه، أو شك فيه، أو قال: بأن الإله يَجِل عن ذلك فهو في سجن إبليس معذبٌ حتى يقر بذلك .(1/11)
هذه هي قصة الفداء الذي يزعمون, وهي أهم دليل عندهم في الدعوة إلى التنصير وحكايتها كافية في الدلالة على بطلانها؛ إذ هي من أحط الخرافات، ويستحيل في العقول السليمة التصديق بها؛ إذ نسبوا الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس، وأقلهم عقلاً أن يفعله بخادمه _ تعالى الله عن إفك أمة الضلال علواً كبيراً _.
وقد صاروا بذلك ضحكة للسفهاء، ومثلة للعقلاء في جمعهم بين النقيضين: دعواهم ربوبيته مع دعواهم قتله وصلبه.
وآدم _ عليه السلام _ تاب؛ فتاب الله عليه: [وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] (الأنعام:164)، وإبليس أحقر مما نسبوه إليه(1).
3_ تقديس الرهبان ورجال الكنيسة: وهذا من تحريف النصارى وباطلهم بحيث اتخذوا الرهبان أرباباً من دون الله، وأعطوهم الثقة المطلقة في التحليل، والتحريم، والمغفرة عن الذنب.
قال _تعالى_: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ](التوبة:31).
4_ الرهبانية التي ابتدعوها في دينهم: ويتضمن نظام الرهبانية شروطاً لابد من تحقُّقها في الراهب وهي:
1_ العزوبة. ... ... ... 2_ التجرد الكامل عن الدنيا.
3_ العبادة المتواصلة. ... ... 4_ التعذيب الجنوني(2).
وقد قال الله _تعالى_ عنهم: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا](الحديد:27).
5_ العشاء الربَّاني: وحقيقته أنهم يزعمون بأن المسيح قد جمع الحواريين في الليلة التي سبقت صلبه، وأنه قد وزع عليهم خمراً وخبزاً كسَّره بينهم؛ ليلتهموه؛ إذ إن الخمر يشير إلى دمه، والخبز يشير إلى جسده(3).
6_ الاستحالة: وهي التحول: فمن أكل الخبز وشرب الخمر من الكنيسة في يوم الفصح؛ فإن ذلك يستحيل فيه وكأنه قد أدخل في جوفه لحم المسيح ودمه، وأنه قد امتزج في تعاليمه بذلك(4).
__________
(1) _ مستفاد من محاضرات في التوحيد، للشيخ ابن قاسم، ص30.
(2) _ انظر العلمانية، ص89_91.
(3) _4 انظر الموسوعة الميسرة ص504، وانظر ما هي النصرانية ص95.(1/12)
وظاهرٌ أن عقيدة الاستحالة مما لايتردد العقل في إنكاره ونبذه؛ إذ لا يستطيع عقل سليم أن يتصور استحالة خبز وخمر إلى لحم ودم في حين أن الآكلين يتذوقون طعم الخبز والخمر العادي.
ثم إن جسد المسيح واحد، وموائد العشاء تعد بالآلاف سنوياً وفي أماكن متفرقة؛ فكيف يتفرق جسده ودمه عليها جميعاً؟(1).
7_ الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته مقتصرين على أكل البقول وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى(2).
8_ الصلاة: ليس لها عدد معلوم مع التركيز على صلاتي الصباح والمساء، وهي عبارة عن أدعية وتسابيح وإنشاد، كما أن الانتظام في الصوم والصلاة إنما هو تصرف اختياري لا إجباري(3).
9_ الاعتراف: =وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب وهذا الاعتراف يسقط عن الإنسان العقوبة، بل يطهره من الذنب؛ إذ يدَّعون بأن رجل الدين هو الذي يقوم بطلب الغفران له من الله+(4).
10_ صكوك الغفران: وهذه إحدى مهازل الكنيسة، وهي حماقة يترفع عن ارتكابها من لديه أدنى مُسْكَةٍ من عقل، أو ذرة من إيمان, تلك هي توزيع الجنة وعرضها للبيع في مزاد علني، وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة؛ فإذا ما تسلم المشتري صك غفرانه، ودسه في محفظته فقد أبيح له كل محظور وحل له كل حرام (5).
ثم تبقى عنده مشكلة أخرى تنغص عليه حياته وهي والداه وأقاربه الذين ماتوا دون شراء تلك الصكوك, فما العمل إذاً؟ العمل يشتري لهم وينتهي الأمر، ويبقى بعد ذلك الضعيف المسكين لا يملك لنفسه أو لغيره شيئاً.
__________
(1) _ العلمانية ص99.
(2) _ الموسوعة الميسرة ص504_505.
(3) _4انظر الموسوعة الميسرة ص504_505.
(5) _ انظر العلمانية ص110_111.(1/13)
11_ عبادة الصور والتماثيل: وهذا مما اقتبسته النصرانية من الديانات الوثنية =فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل، وتعده من أعمال الوثنيين+(1).
=وبلغ الأمر بصورة المسيح وأمه حد الابتذال والامتهان وكانت الطامة الكبرى في الأفلام السينمائية، حيث وصل السخف والاستهتار بإحدى الشركات السويدية _ وربما كانت يهودية _ سنة 1397هـ إلى إنتاج فيلم عن حياة المسيح الجنسية+(2).
كل ما مضى شيء من عقائد النصارى الباطلة التي تتنافى مع النقل الصحيح والعقل الصريح، ولا يمكن أن يعتقدها، أو يقتنع بها إلا من ألغى عقله تماماً؛ فما الظن بتلك العقائد المنتنة؟ وما الثمرات التي ستنتج منها؟
الجواب لا يخفى على من هو ذو عقل: [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً] (الأعراف:58).
فتلك العقائد الباطلة كانت إرهاصاتٍ وأسباباً مباشرة لظهور العلمانية وبالتالي نبذ الدين بالكلية.
نماذج من انحرافاتهم في القرآن والسنة، وتحذير المسلمين من ذلك(3)
تظاهرت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في بيان ما وقع به النصارى من انحراف خلقي وعقدي، وما ذلك البيان إلا لحكمة عظيمة وهي أن يبتعد المسلمون عن سلوك سبيلهم، وألا يتشبهوا بهم.
ومن تلك الانحرافات التي ذكرت في القرآن والسنة:
أولاً: نماذج من انحرافات النصارى من القرآن الكريم:
1_ الحسد: قال _تعالى_: [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ](البقرة:109).
__________
(1) _ العلمانية ص100_103.
(2) _ العلمانية ص100_103.
(3) _ انظر في هذا الباب إلى كتاب: مناظرات بين الإسلام والنصرانية ص 459_472.(1/14)
2_ كتمان العلم: قال _تعالى_: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ](آل عمران:187).
3_ معرفة الحق بالرجال: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ](البقرة:91).
4_ الغلو: قال _تعالى_: [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] (النساء:171).
5_ الرهبانية: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا](الحديد:27).
6_ جعل حق التشريع لغير الله: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ](التوبة:31).
7_ حكم الأغلبية: [قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً] (الكهف:21).
8_ احتقار ما عند الخصم: [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ](البقرة:113).
9_ الاختلاف بسبب البغي: [فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم] (الجاثية:17).
10_ التفرق: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ](آل عمران:105).
11_ البعد عن سبيل المؤمنين: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115).(1/15)
12_ اتباع الهوى: [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ](المائدة:49).
13_ قسوة القلوب: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16).
ثانياً: نماذج من انحرافات النصارى من السنة:
1_ الفتنة بالنساء: قال ": =فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء+(1).
2_ كثرة السؤال، والاختلاف على الأنبياء: كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ÷قال: =ذروني ماتركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه+(2).
3_ التشدد: قال ":=لا تشددوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم, فتلك بقاياهم في الصوامع والديار+(3).
4_ التفرقة العنصرية: كما جاء في الصحيحين عن عائشة _رضي الله عنها_ أن قريشاً أهمهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم رسول الله "؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله " فكلمه أسامة، فقال رسول الله ": =أتشفع في حد من حدود الله+ ثم قام فاختطب، ثم قال: =إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها+(4).
__________
(1) _ رواه مسلم (2742).
(2) _ مسلم (1337).
(3) _ رواه أبو داود(4904).
(4) _ رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).(1/16)
5_ اتخاذ القبور مساجد: كما في حديث جندب بن عبدالله البجلي في صحيح مسلم: =ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك+(1).
ومع ذلك البيان الجلي والنهي الشديد عن التشبه بهم فقد وقعت طوائف كثيرة من هذه الأمة فيما وقع به أهل الكتاب والله المستعان.
منذ أن تخلى النصارى عن ملة التوحيد, انقسمت النصرانية إلى فرق عديدة منها:
1_ الموحدون: وهم أتباع آريوس الذي كان يقول بأن الأب وحده هو الله، والابن مخلوق له.
2_ النسطوريون: وهم أصحاب نسطور بطريرك الإسكندرية سنة 431م والذي قال: بأن مريم لم تلد إلا الإنسان، فهي بذلك أم الإنسان، وليست أماً لإله، ومذهب النساطرة وضع الأساس للقول بطبيعتين في المسيح أي القول بالحلول.
3_ اليعاقبة: وهم يقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة وهي التقاء اللاهوت بالناسوت أي القول بالاتحاد(2), وهناك فرق أخرى غير ما ذكر.
أما الفرق النصرانية الكبيرة الآن فهي ثلاث:
1_ الكاثوليك: وهم أتباع الكنيسة الكاثوليكية العامة، وهي أعرق وأكبر الطوائف النصرانية، ومركزها في روما، وجمهورها في أوربا عموماً.
وهم يعتقدون بزعمهم أن الله الابن مساوٍ في خصائص الألوهية لله الأب، وروح القدس منبثق عنهما (3).
2_ الأرثوذكس: وهم أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، وهي كنيسة الروم الشرقية، ومركزها قديماً القسطنطينية، وأكثر أتباعها من شمال وغرب آسيا، وشرق أوربا.
والآن ليس لها مركز معين؛ فكل كنيسة من كنائسهم لها صفة الاستقلال.
ويعتقد أتباعها أن الله الأب أفضل من الله الابن، وأن روح القدس انبثقت عن الله الأب(4).
__________
(1) _ مسلم (532).
(2) _ الموسوعة الميسرة ص502_503.
(3) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص76_77.
(4) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص76_77.(1/17)
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هاتين الكنيستين بينهما تناحر عظيم، وخلاف مستمر؛ وذلك لأن كل واحدة منهما تدعي الرئاسة العامة، وتريد أن تكون الأخرى تابعة لها.
وإضافة إلى ذلك الخلاف فإنه حصل بينهما خلاف في مسائل فرعية منها:
أ_ استعمال الفطير في العَشاء الرباني بدل الخبز؛ فإن ذلك أَقَرَّتْهُ الكنيسة الغربية؛ ولم تعترف به الكنيسة الشرقية.
ب _ أكل الدم المخنوق؛ فإن الكنيسة الغربية أباحته وهو مخالف لمَجْمَع الرسل في أورشليم الذي انعقد بعد مفارقة المسيح بنحو اثنتين وعشرين سنة.
3_ أكل الرهبان دهن الخنزير؛ فهو مباح عند الكاثوليك دون الكنيسة الشرقية.
=ولقد كان يأتي الفينة بعد الأخرى صوت يدعو إلى الوحدة والالتئام بدل الاستمرار على الفرقة والانقسام؛ فَتُعقَد لأجل هذا مجامع, وترسل الوفود, ولكن ما إن يتلاقى المتخاصمان حتى تعاد أسباب النزاع جَذَعة، إذ كل واحدة ترغب في أن تنزل الأخرى عن رأيها, فَتُلاحي كلُّ واحدة عما تعتقده، فيشتد الجدل، ويحمى وطيس القول، فتفترقان وقد زادت القطيعة قوة واحتداماً+(1).
و=هكذا ازدادت الفرقة بينهم، وأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء، ويظهر أن السبب في ذلك ما تعتقده كل واحدة منها أن الأخرى خارجة على الدين، ورغبة كل واحدة أن تجتذب الأخرى إليها+ (2).
3_ البروتستانت(3): أو الإصلاح الكنيسي: وهم أتباع الكنيسة البروتستانتية التي أسسها الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي.
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية ص 162.
(2) _ محاضرات في النصرانية ص163.
(3) _ سمي البروتستانت الذين خرجوا على الكنيسة الكاثوليكية بهذا الاسم لأنهم عندما أريد تنفيذ قرار الحرمان عليهم أعلنوا احتجاجاً يسمى بالإنجليزية برتستنت فسمي الذين امضوا القرار بروتستنت:أي المحتجين.(1/18)
ويقول عنه الشيخ أبو زهرة ×: =وكان شديد التورع مبالغاً في تقدير سيئاته، وقد سيطرت على مشاعره نَفْسُهُ اللوامة حتى لقد قال بنفسه: إنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا برحمة الرب الرحيم+(1).
وقد ذهب لوثر إلى روما للحج؛ ليتيمن بلقاء رجال الدين الذين كان يظن أنهم على قدر عالٍ من الزهد والعبادة إلا أنه فوجئ بفسادهم وجرأتهم على الخطايا؛ فأَثَّر ذلك بنفسه، واستنكر هذه الأفعال التي تصدر من رجال الدين.
ومن هنا بدأ ثورته على الكنيسة وعلى آرائها ومعتقداتها.
كما ظهر في الوقت نفسه في سويسرا رجل آخر اسمه زونجلي ينادي بما نادى به لوثر وذلك لِمَا رآه من حال الكنيسة المزري.
وكان مما نادى به لوثر وزونجلي الثورة على صكوك الغفران وما يسمى بالعشاء الرباني.
=بيد أن حركة لوثر كانت أوسع دائرة وأسرع انتشاراً, كما ظهر _ أيضاً _ رجل آخر في فرنسا ينادي للإصلاح واسمه كَالْفن، وأهم مبادئ الإصلاح الكنيسي الذي نادى به هؤلاء:
1_ جعل الخضوع التام لنصوص الكتاب المقدس.
2_ عدم الرياسة في الدين.
3_ ليس لرجل الدين غفران.
4_ عدم الصلاة بلغة غير مفهومة.
5_ رأوا أن العشاء الرباني إنما هو تذكار بالغداء، وعظة واستبصار.
6_ أنكروا الرهبنة.
7_ منعوا اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس، والسجود لها.
هذه أعظم المسائل التي خالف بها المصلحون في المسيحية ما عليه الكنيسة+(2).
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية ص 177.
(2) _ محاضرات في النصرانية ص 188.(1/19)
ويرى الدكتور السيد محمد الشاهد أن ثورة مارتن لوثر ومعارضات سابقيه من رجال الكنيسة لم تكن نتيجة سوء الأوضاع الداخلية، وفساد الكنيسة الاجتماعي والخلقي فحسب، بل هناك سبب آخر، يقول الدكتور الشاهد: =هذا السبب الآخر والأقدر في نظري هو انتشار المعرفة بالإسلام عقيدة وفكراً في الغرب؛ فقد كان الإسلام هو المحرك للعقل الأوربي بعد أن أيقظته من سبات دام طوال عصور الظلام والعصور الوسطى كما يقول غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب ص 527.
وأما مارتن لوثر فإنه من المأثور عنه أنه كان يعرف القرآن معرفة جيدة، وله كتابات تهجم فيها عليه تدل على مدى اهتمامه بالقرآن، وتأثره به.
وقد كان رجال الكنيسة المحافظون يتهمونه بأنه يريد أن يقيم مملكة محمد " بدلاً من مملكة عيسى _ عليه السلام _ ويستشهدون على ذلك بدخول بعض أنصاره في الدين الإسلامي+ (1).
وكان جديراً بهؤلاء المصلحين الذين قرروا أن يأخذوا مذهبهم الديني من كتبهم الصحيحة أن ينظروا في هذه الكتب نظرة فاحصة؛ ليصلوا إلى الحق الذي بدأوا بالسير إليه من خلال منهجهم الإصلاحي بدلاً من أن يتخذوا أحبارهم وقساوستهم أرباباً من دون الله.
ولهذا فإن هذه الحركة تعد أميل الفرق الثلاثة إلى التوحيد، ويظهر تأثرها بالمسلمين لكنها لم تصمد أمام الضغط النصراني؛ فانغمست في الكفر والشرك(2).
ولقد حصل من تعدد الكنائس وانشقاقها التناحر الشديد، والعداوة المغراة المستمرة.
وكما تناحر النصارى في السابق بسبب المعتقدات فقد تناحروا في الزمن الحاضر بسبب الأطماع الدنيوية؛ فحصل بينهم حروب طاحنة بسبب ذلك كالحروب العالمية.
__________
(1) _ انظر مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن عدد22 ص 83 في مقالة للدكتور محمد الشاهد بعنوان =أثر الإسلام على حركة الإصلاح البروتستنتية+.
(2) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص79.(1/20)
وكل دولة من الدول تساعد كنيستها, وليست العداوة بين الكنائس فحسب، بل إن العداوة شديدة في الكنيسة الواحدة، وكل ذلك مصداق لما قاله _تعالى_ في كتابه العزيز: [وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ](المائدة:14).
فهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير؛ فبقدر ما ينسى الناس حظاً مما ذكروا به فإن العداوة تُغرى بينهم بحسب ذلك النسيان.
الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة، والإنجيل، ورسائل الرسل, وتسمى التوراةُ وأسفارُها الموسويةُ وغيرُها _ كتب العهد القديم الذي يعد أصلاً للديانة النصرانية.
وتسمى الأناجيل ورسائل الرسل كتب العهد الجديد(1).
فالعهد الجديد _ إذاً _ هو الذي يشتمل على أناجيلهم.
والأناجيل المعتبرة عند النصارى هي:
1_ إنجيل متَّى: وهو أحد التلاميذ الاثني عشر, وقد دون الإنجيل باللغة العبرية أو بالسريانية.
وآخر نسخة عُثر عليها كانت باللغة اليونانية كما أن هناك خلافاً حول مَنْ دَوَّن الإنجيل ومَنْ ترجمه (2).
2_ إنجيل مَرْقَص: وكاتبه يوحنا، ويلقب بمرقص، ولم يكن من الحواريين الاثني عشر الذين تتلمذوا للمسيح، واختصهم بالزلفى إليه.
وأصله من اليهود، وكانت أسرته بأورشليم في وقت ظهور المسيح، وهو من أوائل الذين أجابوا دعوته؛ فاختارهم من بين السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقادهم بعد رفعه (3).
وكان رجلاً نشيطاً في نشر النصرانية في أنطاكية، وشمال أفريقيا، ومصر، وروما, وقد قتل حوالي عام 62م(4).
__________
(1) _ انظر محاضرات في النصرانية ص40، والموسوعة الميسرة ص501.
(2) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 40.
(3) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 46.
(4) _ انظر الموسوعة ص 501.(1/21)
3_ إنجيل لوقا: يقولون: إن لوقا ولد في أنطاكية ودرس الطب، ونجح في ممارسته، ولقد رافق بولس في أسفاره وأعماله(1).
4_ إنجيل يوحنا: وهو حواريٌّ كان المسيح يحبه، وبعضهم يقول: إنه شخصية مجهولة انفرد بالقول بالتثليث، وبألوهية المسيح في الوقت المبكر من تاريخ النصرانية(2).
وهناك أناجيل أخرى كإنجيل برنابا، وهناك أناجيل أخرى أهملت.
هذا وقد بين كثير من علماء المسلمين قديماً وحديثاً، ومن علماء النصارى الذين دخلوا في الإسلام، أو العلماء المتحررين منهم عدم صحة الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى، ووجهوا لها انتقادات كثيرة.
ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية × في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وابن القيم × في كتابه (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) والجويني ×في كتابه (شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل).
ومن العلماء المُحْدَثين الشيخ رحمة الله الهندي × في كتابه (إظهار الحق) والشيخ محمد أبو زهرة ×في كتابه (محاضرات في النصرانية).
ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أحمد كما في كتابه (محاضرات في مقارنة الأديان).
وفيما يلي إجمال لبعض الأمور التي تُبَيِّنُ عَدَمَ صحة الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى:
1_ أن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى لم يملها عيسى _ عليه السلام _ ولم تنزل عليه وحياً، ولكنها كُتبت بعده.
2_ ما وقع في الأناجيل من تلاعب النُّسَاخ وتبديلهم وتحريفهم.
3_ اشتمال الأناجيل على المتناقضات والاختلاف فلقد أتى الشيخ رحمة الله الهندي × بآخر كتابه _إظهار الحق_ بأكثر من مائة اختلاف بين هذه الكتب(3).
4_ انقطاع السند في نسبتها لكاتبها.
5_ اشتمالها على تنقص الرب _ جل وعلا _.
6_ اشتمالها على العقائد الباطلة المخالفة للعقل والنقل.
__________
(1) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 47.
(2) _ انظر الموسوعة ص501.
(3) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 89.(1/22)
7_ تعارضها مع الحقائق العلمية وهذا ما أثبته العالم الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (أصل الإنسان) و(والتوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث) حيث أثبت فيهما وجود أخطاء علمية في التوراة وفي الإنجيل وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه بل سجل شهاداتِ تَفَوُّقٍ سبق بها القرآنُ العلمَ الحديث بـ 1400 سنة(1).
8_ أن الكتاب المقدس _ وبغض النظر عن كونه محرفاً _ يخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي(2).
وعلى هذا فإنه لا يجب الإيمان بتلك الأناجيل؛ لأن باطلها أضعاف ما فيها من حق، ولو افترضنا صحتها جميعاً لما جاز لنا اتِّباعُها؛ لأنها نسخت بالقرآن الذي تكفل الله _تعالى_ بحفظه كما قال _ عز وجل _ :[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجرات:9).
أما التوراة والإنجيل فقد وكل الله حفظها إلى اليهود والنصارى، فأضاعوها.
تنتشر النصرانية في أكثر بلاد العالم فهي في عدد أتباعها تأتي بالدرجة الثانية بعد الإسلام.
هذا وقد أعانها على انتشارها الاستعمار، والتنصير.
وتتركز النصرانية في أوربا وأمريكا.
وأكثر الأقليات النصرانية وجوداً في العالم الإسلامي في مصر، والشام، والمغرب، والسودان كما أن لها نشاطاً واسعاً في أفريقيا، وأستراليا، وشرق آسيا.
فالكنيسة الكاثوليكية تنتشر في إيطاليا، وبلجيكا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال.
أما الكنيسة الأرثوذكسية فمعظم انتشارها في روسيا، والبلقان، واليونان.
ومقرها الأصلي في القسطنطينية، ويتبعها عدد من الكنائس الشرقية المستقلة.
أما البروتستانتية فمركز انتشارها ألمانيا، والدانمرك، وهولندا، وسويسرا، والنرويج، وأمريكا الشمالية(3).
__________
(1) _ انظر مقارنة التوراة والقرآن لمحمد الصوياني ص 35.
(2) _ انظر مقال للدكتور الشاهد مجلة البيان عدد 22 ص 86.
(3) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص77.(1/23)
أرسل الله _ سبحانه وتعالى _ المسيح عيسى _ عليه السلام _ إلى بني إسرائيل متمماً رسالة موسى _ عليه السلام _ ومصححاً ما حرفه اليهود فيها إلا أن اليهود ناصبوه العداء، وكذبوه، وأَغْروا به الحكام, وحاولوا قتله.
بل ادعوا قتله وصلبه _ عليه السلام _.
ومنذ ذلك الحين والعداوة بين اليهود والنصارى على أَشُدِّها, وقد بلغ ذلك العداء قمته قديماً عندما اعتنقت الدولة البيزنطية العقيدة النصرانية، فعملت بعد ذلك على قتل اليهود، وتشريدهم، وملاحقتهم.
وبالرغم من تلك العداوة، والاختلاف، وقيام بعضهم بتكفير بعض إلا أن ذلك يزول ويختفي أثره، بل يَحُلُّ محلَّه الوئامُ إذا كان عدو الطرفين الإسلام أو المسلمين(1).
وهذا مصداق لقوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ](المائدة:51).
=وليس في تاريخ العداوات عداوة تماثل شراستها وأبديتها ذلك النوع الذي تواجه به طوائفُ اليهودِ والنصارى الأمةَ الإسلاميةَ+(2).
ولم يكن الرضا عن اليهود متفقاً عليه من قبل جميع النصارى بل إن هناك من النصارى المتعصبين من يقف ضد اليهود؛ فقد طردوا من إنجلترا عام 1290م، ومن فرنسا عام 1390م، ومن النمسا سنة1420م، ومن أسبانيا سنة 1692م وذلك من قبل محاكم التفتيش التي أقيمت ضد المسيحيين واليهود على السواء، ثم أخرجوا من ألمانيا عام 1719م، ومن روسيا سنة 1727م، ثم جاء هتلر فقتل منهم من قتل(3).
__________
(1) _ موقف أصحاب الأهواء والفرق من السنة النبوية ورواتها: جذورهم ووسائلهم وأهدافهم قديماً وحديثاً د. محمد بن مطر الزهراني ص32.
(2) _ العلمانية د. سفر الحوالي.ص 528.
(3) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق من السنة النبوية ورواتها ص 33.(1/24)
وإزاء هذه العداوة العنيفة، وهذا الاضطهاد العظيم _خصوصاً وأنهم يزعمون أنهم شعب الله المختار_ فكروا جدياً بالتخلص من تلك العداوة التي تقف أمام كثير من مخططاتهم.
خصوصاً وأن أوربا كانت تعاني من الخواء الروحي، والطغيان الكنيسي بكافة ألوانه؛ فسلكوا في هذا الموضوع خطوات عديدة منها:
1_ تظاهرُ كثيرٍ من حاخاماتهم وعلمائهم بالدخول في النصرانية.
2_ إنشاء المنظمات السرية كالصهيونية، والماسونية وغيرها التي كانت ترفع شعارات الحرية والإخاء والمساواة.
3_ إحداث الثورات ضد الكنيسة أو استغلالها إذا قام بها غيرهم، ومن ذلك ما قام به مارتن لوثر ضد الكنيسة الغربية الكاثوليكية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وكذلك الثورة الفرنسية التي قام بها نابليون عام 1789م والتي كانت تنادي بنفس شعارات الماسونية: الحرية والإخاء والمساواة.
4_ السعي للسيطرة الاقتصادية على الدول الأوربية(1).
وقد حصل اليهود على نتائج مهمة، واستغلوا الفرصة التي أتاحها لهم نفور الأوربيون من دينهم.
ومن تلك النتائج التي حققها اليهود من وراء مخططاتهم ما يلي:
1_ علمنة الحياة في أوربا، حيث أُقصي الدين المسيحي عن الحياة تماماً.
2_ تمكن اليهود من تَبَوُّء مناصب ومواقع رفيعة في الحكومات الغربية لم يكونوا يحلمون بها في عصور الاضطهاد.
3_ السيطرة التامة على الاقتصاد الغربي وثرواته، بل وعلى اقتصاد وثروات العالم.
4_ كسر حدة العداء لليهود عند الأوربيين.
5_ تمكن اليهود من إحياء التحالف اليهودي النصراني مرة أخرى ضد الإسلام(2).
__________
(1) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق ص 33.
(2) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق ص 34.(1/25)
يقول الشيخ الدكتور سفر الحوالي _ حفظه الله _: =ومنذ أن أحكمت اليهودية العالمية أنشوصتها على العالم الغربي الذي أوقعته أسيراً في شباكها الأخطبوطية اتخذت العداوة مساراً واحداً تحفزه الروح الصليبية، وتوجهه الأفعى اليهودية؛ فقد تشابكت، وتداخلت مصالح الطرفين.
وكان الغرب الصليبي مستعداً للتخلي عن كل حقد وعداوة إلا عداوته للإسلام في حين كانت الخطط التلمودية تروم تسخير العالم الصليبي بعد أن شلت قواه، وركبت رأسه للقضاء على عدوها الأكبر الإسلام+(1).
ويقول الشيخ _ حفظه الله _: =وتجدر الإشارة إلى أن خطة العمل الموحد المشترك بين الصليبية واليهودية أصبحت لزاماً وواجباً على كلا الطرفين بعد الموقف الصلب الذي وجه به السلطان عبد الحميد × هرتزل؛ إذ تعين بعدها أن القضاء على الخلافة الإسلامية ضروري لمصلحة الفريقين: النصارى الذين كانت لهم دولهم الاستعمارية تتحين الفرصة للأخذ بثأر الحروب الصليبية، واليهود الذين أيقنوا أن فشلهم مع السلطان يستوجب التركيز على العالم الصليبي، وتسخيره لمآربهم التلمودية.
وبلغت الخطة ذروة التوحد بعد قرار المجمع الماسوني الذي ينص على تبرئة اليهود من دم المسيح _ عليه السلام _ والذي كان يهدف إلى محو كل أثر عدائي مسيحي لليهود، وبالتالي إيجاد كتلة يهودية نصرانية واحدة لمجابهة الإسلام+(2).
وهكذا نجد أن اليهود والنصارى متعادون متناحرون لا يجمعهم سوى مصالحهم، وأعظم مصلحة يجتمعون عليها هي عداء الإسلام والمسلمين.
وما نراه اليوم من تحالف بين أمريكا وإسرائيل, وما وعد بلفور المشؤوم _ إلا نموذج لذلك التحالف.
__________
(1) _ العلمانية ص 532.
(2) _ العلمانية ص534.(1/26)
وقد تبنى بعض النصارى في أمريكا وأوربا فكرة وجود إسرائيل الحديثة على أنها تحقيق لنبوآت الكتاب المقدس، وعلامةٌ على قرب عودة المسيح إلى الأرض ثانية؛ حيث إنهم يعتقدون أن المسيح سينزل في آخر الزمان وهم متفقون مع المسلمين في هذه القضية إلا أن اليهود _ بخبثهم ومكرهم وبغباء النصارى _ حولوا هذه القضية لصالحهم؛ فاليهود يعتقدون بمجيء مُنْتَظر؛ لأنهم يعتقدون أن عيسى _ عليه السلام _ كذاب دجال.
أما المنتظر الذي ينتظرونه فهو _ ملك السلام _ كما يزعمون، وفي الحقيقة هو المسيح الدجال.
ومن هنا غرروا بالنصارى وقالوا: لابد أن نعمل بما اتفقنا عليه وهو أن المسيح سينزل, أما من هو المسيح الذي سينزل فسنتركه جانباً؛ فاليهود يعتقدون بأن النصارى سينتهون إذا جاء منتظرهم، والنصارى بعكسهم، حيث يعتقدون بأن المسيح إذا نزل سيقتل كل من لم يدخل في المسيحية.
ومن المؤتمرات التي عقدت بهذا الصدد المؤتمر المسيحي الصهيوني الدولي الذي عقد في إبريل عام 1988م في إسرائيل وألقى فيه إسحاق شامير رئيس الوزراء بنفسه كلمة الافتتاح.
وفي كلمته التي اتسمت بالعاطفة والحماسة أكد شامير _ وبكل وضوح _ استمراره في تثبيت أركان الدولة الصهيونية، ومقاومة الفلسطينيين بكل الوسائل.
وفي نهاية كلمته وقف كل المستمعين لتحيته وذلك حينما دعاهم لأن يدعوا كل مسيحي العالم لتعضيد دولة إسرائيل(1).
وفي هذا المؤتمر قال أحد القساوسة المشاركين فيه وهو (فان درهوفيه) قال : =إن الكنيسة التي لا تتبع هذا الطريق _ تأييد إسرائيل _ سوف تنتهي مثل الدخان+(2).
ولعلنا نجد من ثمار ذلك ما تقوم به الدول الغربية من حماية لمصالح اليهود، والحرص على هجرتهم، وتشجيعها، وتسهيل ذلك، أو محاولة تخفيف عداء المسلمين لليهود.
__________
(1) _ انظر مجلة المجتمع ص 23العدد 982.
(2) _ مجلة المجتمع ص 23العدد 982.(1/27)
وبالرغم من هذا التحالف إلا أننا نجد بين الفينة والأخرى من يعارضه من النصارى، ويعده أضحوكة يهودية؛ لكي يستغلوا النصارى في تنفيذ مخططاتهم التلمودية.
ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا عن هذا الموضوع قس مصري اسمه إكرام لمعي وينتمي للكنيسة الإنجيلية وله كتاب اسمه (الاختراق الصهيوني للمسيحية).
حيث بين فيه مدى الاستغلال الصهيوني اليهودي للدين المسيحي؛ لتحقيق الأطماع والأحلام(1).
ومن خلال ما مضى يمكن إجمال علاقة النصارى مع اليهود بما يلي:
1_ أنهم أهل كتاب كما سماهم الله _تعالى_ وكتابهم الذي يجمعهم هو الكتاب المقدس إلا أن اليهود لا يؤمنون بالأناجيل في آخره.
2_ أنهم متعادون فيما بينهم عداءاً شديداً، وأهم ما يجمعهم عداء المسلمين؛ حسداً من عند أنفسهم.
3_ أنهم متفقون مع اليهود في عقيدة المسيح المنتظر الذي سينزل في آخر الزمان، وأن مكان نزوله في فلسطين.
ولكنهم يختلفون في ماهية هذا المنتظر؛ فاليهود يزعمون أنه ملك السلام الذي سيحكم الأرض ويقتل كل من سوى اليهود.
والنصارى يعتقدون أنه المسيح _ عليه السلام _ وأنه سيدخل جميع الناس في النصرانية ومن رفض قتله.
والحقيقة أنهم ينتظرون المسيح الدجال، والنصارى ينتظرون مسيحاً وهمياً لا حقيقة له.
والمسلمون ينتظرون المسيح _ عليه السلام _ ليحكم بشرع محمد " ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وقد حققوا من جراء هذا التحالف الشيء الكثير كالإطاحة بالخلافة الإسلامية، وباحتلال اليهود لفلسطين.
أ _ في القديم: منذ أن ظهر دين الإسلام وأهل الكتاب يكيدون لهذا الدين ولنبيه " ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.
وقد أخبر الله _سبحانه وتعالى_ عن عداوتهم للمسلمين، وأنها من سننه الكونية قال الله _تعالى_: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا](البقرة:217).
__________
(1) _ انظر مجلة المجتمع ص 23 عدد 982.(1/28)
وقال:[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ](البقرة:109).
وقال: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ](البقرة:105).
وأخبر _تعالى_ أنهم لا يقنعون بشيء حتى نتبعهم في دينهم, قال _عز وجل_: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم](البقرة:120).
ولقد وقف النصارى من المسلمين موقف المعادي المبغض الشانئ , وحاولوا بكل ما أوتوا من قوة على مر العصور أن يردوا هذه الأمة عن دينها, وسلكوا في هذا السبيل طرائق شتى، وخططاً مختلفة ملائمة لكل زمان ومكان.
ففي الماضي قاموا بحرب المسلمين وغزوهم في بلادهم مع أنهم كانوا ينعمون في ظل عدالة الدولة الإسلامية أكثر مما يلقونه تحت حكم النصارى أنفسهم.
وما الحروب الصليبية عنا ببعيد تلك الحروب التي استمرت قرنين من الزمان 490هـ _690هـ والتي قامت بين المسلمين في المشرق العربي وبين الصليبيين القادمين من أوربا؛ لاحتلال بيت المقدس وبلاد الشام ومصر، والقضاء على الإسلام، وَوَقْفِ انتشاره في أوربا.
وهي حروب دينية شنتها أوربا النصرانية الحاقدة بدعوى تحرير القدس من المسلمين، والحقيقة أنها قامت لإذلال المسلمين، ورغبة في القضاء على الإسلام.
ويذكر المؤرخون أن لتلك الحرب أسباباً كثيرة، ولعل أهمها وأجلاها وأوضحها ما يلي:
1_ الحقد الصليبي، والعداء للإسلام.
2_ ما أثاره الرهبان والبابوات في نفوس النصارى في أوربا, ومن تلك الإثارات ما قام به القديس بطرس؛ حيث أخذ يجوب أوربا على حماره، ويحرض الأوباش والعوام على تحرير القدس, والاستعداد لنزول المسيح.
3_ رغبة النصارى في التوسع.(1/29)
4_ رغبة البابا أوربان الثاني في توحيد الكنيستين الشرقية والغربية, ومحاولته جمع النصارى تحت هدف مشترك وهو قتال المسلمين, وغزوهم في بلادهم، وذلك عندما دعا البابا أوربان الثاني إلى مؤتمر (كليرمونت) وألقى فيه كلمة مشهورة ملأها بالهجوم على المسلمين، وإثارة الأحقاد في نفوس النصارى, ثم أخرج في نهاية الخطبة صليباً وعلقه على صدره, ودعا الحاضرين إلى تعليقه والدفاع عنه.
هذه _ بإجمال _ أسباب الحروب الصليبية.
وبعد ذلك بدأت أول حملة عام 490هـ بقيادة (جود فري دريموند) واستولى على كثير من بلاد الشام، ثم تتابعت الحملات، واستولوا على كثير من بلاد المسلمين وأهمها بيت المقدس عام 492هـ وما كانوا ليستطيعوا فعل ذلك لولا أن المسلمين متناحرون متفككون يشتغل بعضهم ببعض.
عندئذ قام النصارى بتلك الحروب، وقتلوا المسلمين شر قتله في كثير من الأماكن وخصوصاً في بيت المقدس؛ حيث مثلوا في القتلى، فلم يوقروا كبيراً، ولم يرحموا صغيراً, حتى النساء لم تسلم منهم، بل إن الزهاد والعباد الذين انقطعوا للعبادة في بيت المقدس لم يسلموا منهم, حتى إن الخيل غاصت إلى الركب من جثث القتلى؛ حيث قتل الآلاف من أهل تلك البلاد.
ومهما يكن من شيء فإن المسلمين آنذاك كانوا يعرفون الداء والدواء؛ فالداء يكمن في بعدهم عن دينهم وعقيدتهم, والدواء بالرجوع إلى ذلك, فهم يعرفون سبيل العزة.
ولماَّ كانت تلك الجذوة تتحرك في قلوبهم؛ ولما كانوا يتهمون أنفسهم ويلقون باللائمة عليها _ كان ذلك بداية طريق العزة.
ومن هنا تعالت صيحات الجهاد، وارتفعت الدعوات مطالبة باستعادة الأراضي وطرد عباد الصليب, ولذلك سادت الروح الجهادية في ذلك العصر, ونجد أن الشعراء قد وقفوا شعرهم على شعر الجهاد وتحريك الهمم كما نجد ذلك في قصيدة أبي المظفر الأبيوردي التي قالها محرضاً على الجهاد بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس عام 492هـ يقول:(1/30)
مزجنا دماءاً بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً بني الإسلام إن أمامكم ... وقائعَ يُلْحِقْنَ الذُّرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم في الشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت ومن دُمى ... تواري حياءًا حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظُّبا ... وسمر العوالي داميات اللهازم
وتلك حروب من يَغِبْ عن غمارها ... ليسلمَ يقرعْ بعدها سن نادم
فليتهم إن لم يذودوا حميةً ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا بالأجر إذ حمي الوغى ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ومن ذلك قول ابن المجاور يبكي القدس:
أعيني لا ترقي من العبرات ... صلي في البكا الآصالَ بالبكرات
إلى أن يقول:
لتَبكِ على القدس البلادُ بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات
لتَبكِ عليها مكة ٌفهي أختها ... وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتَبكِ على ما حل بالقدس طيبة ... وتشرحه في أكرم الحجرات
وهكذا نجد أن روح الجهاد سرت في ذلك العصر, ثم قيض الله _سبحانه وتعالى_ رجالاً مؤمنين مخلصين مجاهدين كأمثال عماد الدين زنكي, ونور الدين محمود وصلاح الدين _ رحمهم الله أجمعين _ فاستعاد المسلمون بعد ذلك ما أخذه الصليبيون، واستردوا بيت المقدس, ولا ينسى الصليبيون موقف صلاح الدين منهم عندما عفى عنهم بعد أن قدر عليهم.
وإن ينسَ المسلمون شيئاً فلن ينسوا ما فعله النصارى في الأندلس, تقول الدكتورة سينجريد هونكه: =في 2 يناير 1492م رفع الكاردينال (دبيدر) الصليب على الحمراء القلعة الملكية للأسرة الناصرية؛ فكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على إسبانيا, وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال القرون الوسطى.(1/31)
وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضاراتهم وثقافتهم.
لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه كما حرم عليهم استخدام اللغة العربية والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي, ومن يخالف ذلك كان يحرق حياً بعد أن يعذب أشد العذاب+(1).
وهكذا قوضت أطناب الدولة الإسلامية في الأندلس، وانتهى الإسلام من تلك الربوع التي رفرفت فيها رايته ثمانية قرون، فلم يبقَ مسلم واحد في أسبانيا يظهر دينه.
وغير خافٍ ما قامت به محاكم التفتيش من التفنن في أساليب القتل والوحشية في المخالفين لها من المسيحيين فضلاً عن المسلمين.
فمن ذلك أنهم وضعوا غرفاً فيها آلات رهيبة للتعذيب منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري, وكانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم.
ومن ذلك أن هناك آلة للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة يلقى بها المعَّذب ثم يطبقون بابه وخناجره, فإذا أغلق مَزَّق جسم المعذب المسكين وقطَّعة إرباً إرباً.
وهناك آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج منها اللسان(2).
ثم بعد ذلك كان هناك تفكير ذكي اتعظ بالهزائم العسكرية المتلاحقة التي مني بها الغرب، ونقَّب عن السر العظيم لصلابة المسلمين، وانتفاضتهم المفاجئة، ووجد السر فعلاً؛ أنه الإسلام نفسه ولا شيء سواه.
__________
(1) _ قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله، لجلال العالم ص12.
(2) _ انظر قادة الغرب ص 16_17_18.(1/32)
ولقد فكر الغرب في تحطيم تلك القوة وذلك الرصيد في نفوس المسلمين، ووضع خطته الخبيثة بناءاً على النتيجة, خطة لا تقوم على إبادة المسلمين، ولا على احتلال أراضيهم، وإنما تقوم على إبادة الإسلام نفسه واقتلاعه من نفوس أبنائه وضمائرهم، أو تقليص دائرته، وعزله عن واقع الحياة(1).
وبدأوا بالسير حثيثاً في سبيل ذلك الأمر، وأخذوا بوصية لويس التاسع الذي أسر بالمنصورة في إحدى الحروب الصليبية، وعندما خرج أوصى قومه بأن يعملوا على إذابة الإسلام من نفوس أهله، وإطفاء تلك الجذوة التي ما تفتأ تعود بقوة بعد أن يُظنَّ أن المسلمين قد انتهوا تماماً، ألا وهي العقيدة.
فطالما أن جذوة العقيدة تتقد في قلوب المسلمين فإنهم لن يهزموا، وإن هزموا فسيعودون مرة أخرى.
فما الحل _إذاً_ وكيف تهزم هذه الأمة؟
أخذ الغرب يبحث عن الحل فارتأى أن الحل هو حرب العقيدة نفسها.
وقد سلكوا في هذا السبيل وسائل عديدة امتازت بالدقة والتنظيم، وتتلخص جهودهم في عدة وجوه وهي:
1_ الاستشراق.
2_ الاحتلال العسكري.
3_ التنصير (التبشير).
وسيكون التفصيل في هذه الوسائل في الرسائل التالية.
__________
(1) _ انظر العلمانية ص 535.(1/33)