الغلام للفجور وأشباه ذلك وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم وكون المعاوضة فاسدة أو غير فاسدة وقد تقدم لذلك بسط في - كتاب المقاصد
المسألة التاسعة
ورد الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معا في عمل واحد وفي غرض واحد كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة لأن (3/191)
الحكم فيهما واحد لأن الأمر قد يكون للإباحة كقوله تعالى فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وإنما قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح والمعنى في المساق مفهوم فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد لأن القصد يأباه والمقاصد معتبرة في التصرفات ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للإجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون حالة الانفراد
ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين أو منهيين فقد نهى عليه الصلاة و السلام عن بيع وسلف وكل واحد منهما لو انفرد لجاز ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال
إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الإجتماع مؤثرا وهو دليل وكان تأثيره في قطع الأرحام وهو رفع الإجتماع وهو دليل أيضا على تأثير الإجتماع (3/192)
وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله أو ما بعده وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة وذلك يقتضى أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما ليس للانفراد ولو في سلب الانفراد (3/193)
ونهى عن الخليطين في الأشربة لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار وعن التفرقة بين الأم وولدها وهو في الصحيح وعن التفرقة بين الأخوين وهو حديث حسن وهو كثير في الشريعة
وأيضا فإذا أخذ الدليل في الإجتماع أعم من هذا تكاثرت الأدلة على اعتباره (3/194)
في الجملة كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد كالتعاون والتظاهر وإظهار أبهة الإسلام وشعائره وإخماد كلمة الكفر ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد وشرعت المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصا وبين سائر أهل الإسلام عموما وقد مدح الإجتماع وذم الافتراق وأمر بإصلاح ذات البين وذم ضدها وما يؤدي إليها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى
وأيضا فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرا زائدا لا يوجد مع الافتراق
هذا وجه تأثير الإجتماع
وللافتراق أيضا تأثير من جهة أخرى فإنها إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق أيضا معان لا تزيلها حالة الاجتماع فالنهي عن البيع (3/195)
والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع وهو الانتفاع بكل واحد منهما إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ومثله الجمع بين الأختين وما في معناه مما ذكر من الأدلة
وأيضا فإن كان للاجتماع معان لا تكون في الانفراد فللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان فإن مجموعها هو الإنسان ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد واليد تفيد ما لا تفيده الرجل وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق وغيرها فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات
فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الأفراد حالة (3/196)
الاجتماع فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضا حالة الاجتماع وأيضا فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضا فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد
ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين
وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر أو بالنهي أو لا فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الإنفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة الصفقة تجمع بين حرام وحلال ووجه كل قول منهما قد ظهر
ولا يقال إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع فإنه صار جزءا من الجملة وبعض الجملة تابع للجملة ومن الدليل على ذلك ما مر في - كتاب الأحكام من كون (3/197)
الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل وسائر الأقسام التى يختلف فيها حكم الجزء مع الكل وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ووجه ما تقدم في تعليل المأزري وما ذكر معه
لأنا نقول إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا وما ذكر في - كتاب الأحكام لا ينكر وله معارض وهو اعتبار الأفراد كما مر وأما توجيه المأزري فاعتباره مختلف فيه وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ويمكن أن لا
المسألة العاشرة
الأمران يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعها معا في عمل واحد وفي غرض واحد فقد تقدم أن (3/198)
للجمع تأثيرا وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع
ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام الآخر أولا
فإن كان كذلك رجع في الحكم إلى اجتماع الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان قصدا وذلك مقتضى المسألة قبلها ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية تقترن به فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين كان ذلك العمل عادة أو عبادة فإن اقترن عملان وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الإجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت للمصالح فتنافت وجوه المصالح وتدافعت وإذا تنافت لم تبق مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد فاستقرت الحال على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه فاستويا في تنافي الأحكام لأن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما مر فامتنع ما كان مثله
وأصل هذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن البيع والسلف لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع فخرج السلف عن أصله إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب نسيئة فرجع إلى أصله المستثنى منه من حيث كان ما استثنى منه وهو الصرف أصله المغابنة والمكايسة والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع امتنع من جهتين إحداهما الأجل الذي في السلف والأخرى طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى
وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به (3/199)
إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا لم يكن أحدهما تبعا للآخر وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي في الصلاة وجمع (3/200)
نية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معا وجمع فرضين معا في فعل واحد كظهرين أو عصرين أو ظهر وعصر أو صوم رمضان أداء وقضاء معا إلى أشباه ذلك
ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض وإن كان في بعضها خلاف فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع فمنع من اجتماع الصرف والبيع والنكاح والبيع والقراض والبيع والمساقاة والبيع والشركة والبيع والجعل والبيع والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييق حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير ولا بقاء علقة وليس البيع كذلك (3/201)
والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة ولذلك سمى الله الصداق نحلة وهي العطية لا في مقابلة عوض وأجيز فيه نكاح التفويض بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع وهو الإجارة المجهولة فصارا كالرخصة بخلاف البيع فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك فأحكامه تنافي أحكامهما والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين والبيع يضاد ذلك والجعل مبني على الجهالة بالعمل وعلى أن العامل بالخيار والبيع يأبى هذين واعتبار الكيل في المكيل قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم والإجارة عقد على منافع لم توجد فهو على أصل الجهالة وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة والبيع ليس كذلك وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى والمنع بناء على تضاد البت والخيار
وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما أو عدم تضادها كذلك اختلفوا أيضا في جمع العبادى مع العادى كالتجارة (3/202)
في الحج أو الجهاد وكقصد التبرد مع الوضوء وقصد الحمية مع الصوم وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة وقد مر هنا وفي - كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة وبالله التوفيق
وإن كانا غير متنافي الأحكام فلا بد أيضا من اعتبار قصد الاجتماع وقد تقدم الدليل عليه قبل فلا يخلو أن يحدث الاجتماع حكما يقتضي النهي أو لا
فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيا عنها واتحدت جهة الطلب فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء وصارت الجملة شيئا واحدا يتعلق به إما الأمر وإما النهي فيتعلق به الأمر إن اقتضى المصلحة ويتعلق به النهي إذا اقتضى مفسدة فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة فلا بد أن يتعلق به النهي كالجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها أو خالتها والجمع بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله وما بعده والخليطين في الأشربة وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه في مذهب مالك فإن الجمع يقتضي عدم اعتبار الأفراد بالقصد الأول فيؤدي ذلك إلى الجهالة في الثمن بالنسبة إلى كل واحد من البائعين وإن كانت الجملة معلومة فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها وأما المجيز فيمكن أن يكون اعتبر أمرا آخر وهو أن صاحبي السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك معنى الشركة فيهما فكأنهما قصدا الشركة أولا ثم بيعهما والاشتراك في الثمن وإذا كانا في حكم الشريكين فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين لأن كل واحدة كجزء السلعة الواحدة فهو قصد تابع لقصد الجملة فلا أثر له ثم الثمن يفض على رءوس المالين إذا أرادا القسمة ولا امتناع في ذلك إذ لا جهالة فيه فلم يكن في الاجتماع حدوث فساد
وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي فالأمر متوجه إذ ليس إلا أمر أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه (3/203)
المسألة الحادية عشرة
الأمران يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما راجعا إلى الجملة والآخر راجع إلى بعض تفاصيلها أو إلى بعض أوصافها أو إلى بعض جزئياتها فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول
والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع وهو الأمر الراجع إلى الجملة وما سواه تابع لأن ما يرجع إلى التفاصيل أو الأوصاف أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة لها وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا مطلقا وهذا معنى كونه تابعا وأيضا فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون مقتضى الأمر بالجملة بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن إيقاع التفاصيل لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي وإذا كان كذلك فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة
ولذلك أمثلة كالصلاة بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية والخبثية وأخذ الزينة والخشوع والذكر والقراءة والدعاء واستقبال القبلة وأشباه ذلك ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب الكسب وإخراجها في وقتها وتنويع (3/204)
المخرج ومقداره وكذلك الصيام مع تعجيل الإفطار وتأخير السحور وترك الرفث وعدم التغرير وكالحج مع مطلوباته التي هى له كالتفاصيل والجزئيات والأوصاف التكميليات وكذلك القصاص مع العدل واعتبار الكفاءة والبيع مع توفية المكيال والميزان وحسن القضاء والاقتضاء والنصيحة وأشباه ذلك فهذه الأمور مبنية في الطلب على طلب ما رجعت إليه وانبنت عليه فلا يمكن أن تفرض إلا وهي مستندة إلى الأمور المطلوبة الجمل وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات
بخلاف الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع كالشجرة المثمرة (3/205)
قبل الطيب فإن النهي لم يرد عل بيع الثمرة إلا على حكم الاستقلال فلو فرضنا عدم الاستقلال فيها فذلك راجع إلى صيرورة الثمرة كالجزء التابع للشجرة وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة وهو معنى القصد إلى العقد عليهما معا فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم وحصل من ذلك اتحاد الأمر إذ ذاك بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها
وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينيات فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج وهو الضروريات بلا شك والتحسينات مكملات ومتممات فلا بد أن تستلزم أمورا تكون مكملات لها لأن التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع بل قبيحا مثلا أو ناقصا أو ضيقا أو حرجا فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب فالمطلوب أن يكون تحسينا وتوسيعا تابع في الطلب للمحسن والموسع وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية
وإذا ثبت هذا تصور في الموضع قسم آخر وهى (3/206)
المسألة الثانية عشرة
فنقول الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى بعض أوصافها أو جزئياتها أو نحو ذلك فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز اجتماعهما وله صورتان إحداهما أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها وهذا كثير كالصلاة بحضرة الطعام والصلاة مع مدافعة الأخبثين والصلاة في الأوقات المكروهة وصيام أيام العيد والبيع المقترن بالغرر والجهالة والإسراف في القتل ومجاوزة الحد في العدل فيه والغش والخديعة في البيوع ونحوها إلى ما كان من هذا القبيل والثانية أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله عليه الصلاة و السلام
من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله وإتباع السيئة الحسنة لقوله تعالى ثم يتوبون من قريب وروى
من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا وأشباه ذلك فأما الأول فقد تكلم عليه الأصوليون فلا معنى لإعادته هنا وأما الثاني فيؤخذ الحكم فيه من معنى كلامهم في (3/207)
الأول فإليك النظر في التفريع والله أعلم وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر وهي
المسألة الثالثة عشرة
وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعا مع التابع له وأن الطلب المتوجه للجملة أعلى رتبة وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل أو الأوصاف أو خصوص الجزئيات
والدليل على ذلك ما تقدم من أن التابع مقصود بالقصد الثاني ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في جنب المتبوع فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال أو يصير منه كالجزء أو كالصفة أو التكملة وبالجملة فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم وكله دليل على قوة المتبوع في الاعتبار وضعف التابع
فالأمر المتعلق بالمتبوع آكد في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع (3/208)
وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحدا وأنها لا تدخل تحت قصد واحد فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها بل بينهما تفاوت معلوم بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى الممتعات المباحة التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ماله معارض كالتمتع باللذات المباحة مع استعمال القرض والسلم والمساقاة وأشباه ذلك ولا أيضا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق وكذلك التحسينيات حرفا بحرف
فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب أو للندب أو للإباحة (3/209)
أو مشترك أو لغير ذلك مما يعد في تقرير الخلاف في المسألة إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه فإنهم يقولون إنه للوجوب ما لم يدل دليل على خلاف ذلك فكان المعنى يرجع إلى اتباع الدليل في كل أمر وإذا كان كذلك رجع إلى ما ذكر لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية وليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها
فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني فإن كان مطلوبا بالقصد الأول فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر هل يصح إقامة أصل (3/210)
الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن ولكنه مكمل ومتمم إما من الحاجيات وإما من التحسينيات فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها
المسألة الرابعة عشرة
الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمر بالتوابع بل التوابع إذا كانت مأمورا بها مفتقرة إلى استئناف أمر آخر والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص والأمر إنما تعلق بها مطلقا لا مقيدا فيكفي فيها إيقاع مقتضى (3/211)
الألفاظ المطلقة فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه ولا على صفة دون صفة فلا بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص واللفظ لا يشعر به على الخصوص فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص وهو المطلوب
وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل فإنا إذا فرضناه مأمورا بإيقاع عمل من العبادات مثلا من غير تعيين وجه مخصوص فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصا بوجه ولا بصفة بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق فالمأمور بالعتق مثلا أمر بالإعتاق مطلقا من غير تقييد مثلا بكونه ذكرا دون أنثى ولا أسود دون أبيض ولا كاتبا دون صانع ولا ما أشبه ذلك فإذا التزم هو في الإعتاق نوعا من هذا الأنواع دون غيره احتاج في هذا الالتزام إلى دليل وإلا كان التزامه غير مشروع وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائما أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية أو غير ذلك من الالتزامات التى هى توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات فلا بد من طلب دليل على ذلك وإلا لم يصح في التشريع وهو عرضة لأن يكر على المتبوع بالإبطال
وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع فقد عرفنا من قصد الشارع (3/212)
أن المشروع عمل مطلق لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه ولا وصف دون وصف فالمخصص له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق فافتقر إلى دليل على ذلك التقييد أو صار مخالفا لمقصود الشارع
وقد سئل مالك عن القراءة في المسجد فقال لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث قال ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن وقال أيضا أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى قال ابن رشد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما بجامع قرطبة أثر صلاة الصبح فرأى ذلك بدعة قال وأما القراءة على غير هذا الوجه فلا بأس بها في المسجد ولا وجه لكراهيتها والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس
وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء فكرهه فقيل له فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه ويكبرون قال ينصرف (3/213)
ولو أقام في منزله كان خيرا له قال ابن رشد كره هذا وإن كان الدعاء حسنا وأفضله يوم عرفة لأن الاجتماع لذلك بدعة وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال
أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد القارئ مواضع السجود فقط ليسجد فيها وكره في المدونة أن يجلس الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلما وأنكر على من يقرأ في المساجد ويجتمع عليه ورأى أن يقام وفيها ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه
وقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمى إلا أني لا أحب أن أذكره وكان مساء يعني يساء الثناء عليه قال ابن رشد جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام وهو من محدثات الأمور
وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء وفي الدعاء عند ختم القرآن وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة والتثويب للصلاة والزيادة في الذبح (3/214)
على التسمية المعلومة والقراءة في الطواف دائما والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم عند التعجب وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس يكون الأمر واردا على الإطلاق فيقيد بتقييدات تلتزم من غير دليل دل على ذلك وعليه أكثر البدع المحدثات
وفي الحديث
لا يجعلن أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه وعن ابن عمر وغيره أنه سئل عن الالتفات في صلاة يمينا وشمالا فقال نلتفت هكذا وهكذا ونفعل ما يفعل الناس كأنه التزام عدم الالتفات ورآه من الأمور التي لم يرد التزامها
وقال عمر واعجبا لك يا ابن العاصي لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلت لكانت سنة بل اغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر هذا فيما لم يظهر الدوام فيه فكيف مع الالتزام
والأحاديث في هذا والإخبار كثيرة جميعها يدل على أن التزام الخصوصات (3/215)
في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل وإلا كان قولا بالرأي واستنانا بغير مشروع وهذه الفائدة انبتت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد
المسألة الخامسة عشرة
المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول
أما الأول فيتبين من أوجه (3/216)
أحدها أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه وهذا هو الأصل فيتناول على الوجه المشروع وينتفع به كذلك ولا ينسى حق الله فيه لا في سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه فإذا أخذ على ذلك الوزان كان مباحا بالجزء مطلوبا بالكل فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين وهو الاقتصاد فيها ومن هذه الجهة جعلت نعما وعدت مننا وسميت خيرا وفضلا
فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد بأن تكون ضررا عليه في الدنيا أو في الدين كانت من هذه الجهة مذمومة لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة أو عن بعضها فدخلت المفاسد بدلا عن المصالح في الدنيا وفي الدين وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما أو بنوع ما أو بقدر ما وكانت مصالحة تجرى على ذلك ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره وقوته البدنية والقلبية كان مسرفا وضعفت قوته عن حمل الجميع فوقع الاختلال وظهر الفساد كالرجل يكفيه لغذائه مثلا رغيف وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار لأن تهيئته لا تقوى على غيره فزاد على الرغيف مثله فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولا من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى فصار يتكلف كلفة اثنين وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة وفي جهة تناوله فإنه يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار شاقا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى وفي جهة (3/217)
عاقبته فإن أصل كل داء البردة وهذا قد عمل على وفق الداء فيوشك أن يقع به
وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة
فإذا تأملت الحالة وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم لا أنفس النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة وهو القصد الثاني لأنه مبنى على قصد المكلف المذموم وإلا فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق وإنما ذمت حين صدت من صدت عن سبيل الله وهو ظاهر لمن تأمله
والثاني أن جهة الامتنان لا تزول أصلا وقد يزول الإسراف رأسا وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول بخلاف ما قد يزول فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد له لم يكن فيه من وجوه الذم شيء وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له صار مذموما في الوجه الذي اتبع فيه هواه وغير مذموم في الوجه الآخر وأيضا فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته لكن غطى عليها هواه ومثاله أنه إذا تناول مباحا على غير الجهة المشروعة قد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة وإن كانت مشوبة فبمتبوع هواه والأصل هو النعمة لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد ولم يهدم أصل المصلحة وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح لأن البناء إنما كان عليه فلم يزل أصل المباح وإن كان مغمورا تحت أوصاف (3/218)
الاكتساب والاستعمال المذموم فهذا أيضا مما يدل على أن كون المباح مذموما ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني لا بالقصد الأول
والثالث أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى كقوله تعالى أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقوله وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا إلى قوله ولعلكم تشكرون فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب لا من جهة ما وضعت له أولا فإنها من الوضع الأول خالصة فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر وهو جريها على ما وضعت أولا وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف وكل بقضاء الله وقدره والله خلقكم وما تعملون وفي الحديث
إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا فقيل أيأتي الخير بالشر فقال
لا يأتي الخير إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم الحديث
وأيضا فباب سد الذرائع من هذا القبيل فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض وهو أصل متفق عليه في الجملة وإن اختلف العلماء في تفاصيله فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا (3/219)
لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله وشبه ذلك والشواهد فيه كثيرة
وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد والنهي عن الوصال وسرد الصيام والتبتل وقد تقدم من ذلك كثير ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشا وعائدا على (3/220)
الواجب بالنقصان كقوله
ليس من البر الصيام في السفر وأشباه ذلك
فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني وهو المطلوب
فإن قيل هذا معارض بما يدل على خلافه وأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض وعلى ما وضع فيها من المنافع على سواء فإن الله عز و جل قال وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا و قال الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار لكن بحسب ذلك الابتلاء والابتلاء إنما يكون بما له جهتان لا بما هو ذو جهة واحدة ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم ولا أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء فإذا عدت نعما ومصالح من حيث تصرفات المكلف فهي معدودة فتنا ونقما بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضا ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيأة للتصرفين معا فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد وعلى (3/221)
هذا الوجه فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر حتى يعد القصد الأول هو بثها نعما فقط وكونها نقما وفتنا إنما هو على القصد الثاني
فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين
أحدهما أن هذه الظواهر التى نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها وهو المطلوب الأول أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك وهذا الثاني لا يصح إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم وأنه امتن بها وجعلها حجة على الخلق ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى آخر الآيات وقوله هو الذي أنزل من السمآء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها أفيصح في واحدة منها أن يقال إنها ليست كذلك بإطلاق أو يقال إنها نعم بالنسبة إلى قوم ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول
والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وأنه النور الأعظم وطريقه هو الطريق المستقيم وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وأنه هدى للمتقين لا لغيرهم وأنه هدى ورحمة للمحسنين إلى أشباه ذلك ولا يصح أن يقال أنزل القرآن ليكون هدى لقوم وضلالا لآخرين أو هو محتمل لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم
لا يقال إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنها سلم إلى السعادة وجد لا هزل وما خلقنا السماء (3/222)
والأرض وما بينهما لاعبين
لأنا نقول هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص كما يصح في كون القرآن هدى وشفاء ونورا كما دل عليه الإجماع وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم
والوجه الثاني أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف لأنها لم تصر نقما في أنفسها بل استعمالها على غير الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا (3/223)
وجميع ما أشبههه نعم ظاهرة لم تتغير فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير مأخذ صارت عليهم وبالا وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه
وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن فإنهم لما مثلت أصنامهم التى اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود وقالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ثم استدرك البيان المنتظر بقوله وما يضل به إلا الفاسقين نفيا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم أي هو هدى كما قال أولا هدى للمتقين لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه وهو الذي أنزل من أجله وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى فإذا تقرر هذا صارت النعم نعما بالقصد الأول وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها وذلك معنى القصد الثاني والله أعلم
وأما الثاني وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول فكذلك أيضا لإنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل صار مطلوب الترك لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص فصار الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي بل قطع الزمان به صد عما هو خادم لذلك فصار خادما لضده
ووجهه ثان أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا كقوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا يعني الطبل أو المزمار أو الغناء وقال (3/224)
في معرض الذم للدنيا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية وفي الحديث
كل لهو باطل إلا ثلاثة فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أولا حقا به استثناها ولم يجعلها باطلا
ووجه ثالث وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول فلم يقع امتنان باللهو من حيث لهو ولا بالطرب ولا بسببه من جهة ما يسببه بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة لخدمة ما هو مطلوب وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة ويحقق ذلك أيضا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق وإنما هى مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة ألا ترى إلى قوله قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده (3/225)
والطيبات من الرزق وقال والأرض وضعها للأنام إلى قوله يخرج منهما اللؤللؤ والمرجان وقوله والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة إلى أشباه ذلك ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب
فإن قيل إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود ولذلك كان مبثوثا في القسم الأول كلذة الطعام والشراب والوقاع والركوب وغير ذلك وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز وإن لم يطلب (3/226)
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وقال والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وقال ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وما كان نحو ذلك وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين بها واتخاذ السكر راجع إلى معنى اللهو واللعب فينبغي أن يدخل في القسم الأول ومنها أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل فهي خادمة للمأمور به أيضا لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير كما كان المطلوب بالكل كذلك فالقسمان متحدان فلا ينبغي أن يفرق بينهما
فالجواب أن استدعاء النشاط واللذات إن كان مبثوثا في المطلوب بالكل (3/227)
فهو فيه خادم للمطلوب الفعل وأما إذا تجرد عن ذلك فلا نسلم أنه مقصود وهى مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري أو نحوه
ومما يدل على ذلك قوله في الحديث
كل لهو باطل إلا ثلاثة فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد وأبطل البواقي وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا يعنون بما ينشط النفوس فأنزل الله عز و جل الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية فذلك في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم وذلك ما بث فيه من الأحكام والحكم والمواعظ والتحذيرات والتبشيرات الحاملة على الاعتبار والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم وهذا خلاف ما طلبوه
قال الراوي ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف فيها آيات ومواعظ وتذكيرات وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك فدلوا على ما تضمن قصدهم بما هو خادم للضروريات لا ما هو خادم لضد ذلك وفي الحديث أيضا
إن (3/228)
لكل عابد شدة ولكل شدة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة
فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك وأما آيات الزينة والجمال والسكر فإنما ذكرت فيها لتبعيتها لأصول تلك (3/229)
النعم لا أنها المقصود الأول في تلك النعم وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول لأنه خادم له ويدل عليه قوله تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده وقوله عليه الصلاة و السلام
إن الله جميل يحب الجمال
إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده
وأما السكر فإنه قال فيه تتخذون منه سكرا فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه وقال ورزقا حسنا فحسنه فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم بل قال تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا الآية فتفهم هذا
وأما الوجه الثالث فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به فهي من القسم الأول كملاعبة الزوجة وتأديب الفرس وغيرهما وإلا فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني لا بالقصد الأول إذا كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها والاستراحة من الأعمال بالنوم وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائما كل هذه الأشياء مباحة لأنها خادمة للمطلوب (3/230)
بالقصد الأول أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم فهو أمر زائد على ذلك كله فإن جاء به من غير مداومة فقد أتى بأمر يتضمن ما هو خادم للمطلوب الفعل فصارت خدمته له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول فباين القسم الأول إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا لم يداوم عليه وهذا ظاهر لمن تأمله
فصل
فإن قيل هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول فالواجب العمل على ما يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح أو ترك الاستعمال وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء
فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية وأصول عملية
منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد وما لا يطلب الخروج عنه وإن اعترضت العوارض وذلك أن (3/231)
القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل وهى إما مطلوب بالأصل وإما خادم للمطلوب بالأصل لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج أو تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن هذه الأمة فلا بد للإنسان من ذلك لكن مع الكف عما يستطاع الكف عنه وما سواه فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل وقد بسطه الغزالي في - كتاب الحلال والحرام من الأحياء على وجه أخص من هذا فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه فإن قيل (3/232)
فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها فكيف أن يكون جائزا قلنا الحمام موضع تداو وتطهر فصار بمنزلة النهر فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات وتظاهر المنكرات فإذا احتاج إليه المرء دخله ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه والمنكر اليوم في المساجد والبلدان فالحمام كالبلد عموما وكالنهر خصوصا هذا ما قاله وهو ظاهر في هذا المعنى
وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون وهو ظاهر
أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح إذا حضره منكرا أو كان في طريقه لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل فلا يمكن والحالة (3/233)
هذه أن يستوفى المكلف حظه منه فلا بد من تركه جملة وكذلك اللعب وغيره
وفي - كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها أو اكتسابها
فإن قيل فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد وإن كان أصله مطلوبا بالكل أو كان خادما للمطلوب فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز وأشباهها مما هو مطلوب شرعا وحض كثير من الناس على ترك التزوج وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس وهكذا غيره وكانوا علماء وفقهاء وأولياء ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله عليه الصلاة و السلام
يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وسائر ما جاء في طلب العزلة وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل أو بالجزء ندبا أو وجوبا خادما لمطلوب أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح
فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين أحدهما أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها فمن عمل على أحد الجائزين (3/234)
فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه والثاني أن ما وقع التحذير فيه وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في - كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال
فصل
ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة وما لا ينقلب وذلك أن ما كان منها خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ أو من جهة الخطاب الشرعي فإذا أخذ من (3/235)
جهة الحظ فهو المباح بعينه وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب وطلبه بالقصد الأول
وهذا التقسيم قد مر بيانه في - كتاب الأحكام
فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو من جهة الإذن وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول
وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات وشربها فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات وما دار بها بخلاف اللعب فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة وقد مر بيان ذلك وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح (3/236)
فإن من الناس من يقول إنه ينقلب بالقصد طاعة وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء الله تعالى
فإن قيل إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة
فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب أو غناء بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول فإنه استوى مع النوم مثلا والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة أو غناء تحت حكم اختيار المستريح فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه فلا طلب وإن أخذه من جهة الطلب فلا طلب في هذا القسم كما تبين ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل لأنه قد تضمن خدمة المطلوب (3/237)
الفعل فكان يكون مطلوب الفعل بالكل وقد فرضناه على خلاف ذلك هذا خلف وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه أو شبيها به
فصل
ومنها بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب
قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب أو أصل الطلب فلا إشكال في دعائه عليه الصلاة و السلام له
ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله
إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال
زهرة الدنيا فقيل هل يأتي الخير بالشر فقال
لا يأتي الخير إلا بالخير وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث وقال حكيم ابن حزام سألت النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال
إن هذا المال خضرة حلوة الحديث وقال
المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن (3/238)
الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به وهو ظاهر من هذه القاعدة
والفوائد المبنية عليها كثيرة
المسألة السادسة عشرة
قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبةواحدة في الطلب الفعلي أو التركي وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك
وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم
وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان أحدهما اقتضاء الفعل والآخر اقتضاء الترك فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم
وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك وعلى المكروه أنه محرم وهؤلاء هم الذي عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر (3/239)
في أحكام الرخص وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين
أحدهما من جهة الآمر وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات وعد كل مخالفة كبيرة وهذا رأي أبي المعالي في - الإرشاد فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي وما رآه يصح في الاعتبار
والثاني من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات
أحدها النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها فإن امتثال الأوامر واجتناب (3/240)
النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده لأن الجميع يقتضي نقيض القرب وهو إما البعد وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد
والثاني النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ودرء المفاسد عند الامتثال وضد ذلك عند المخالفة فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ومكمل مخدوم وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت المندوبات كملت الواجبات وبالضد فالأمر راجع إلى كون (3/241)
الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها وأنسابها فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل المعاصي بريد الكفر ودل على ذلك قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وتفسيره في الحديث وحديث
الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات الخ فقوله
كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي قسم الامتثال قوله
وما (3/242)
لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وقوله الله الذى أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وأشباه ذلك فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التى في السموات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببا فيها كذلك أيضا
وهذا النظر ذكره الغزالي في - الإحياء وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا نهي ونهي فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري وإنما أخذوا في نمط آخر وهو أنه لا يليق بمن يقال له وما خلقت الجن والإنس إلا (3/243)
ليعبدون أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد
فصل
ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر أو النهي أو من حيث ناقضت التقرب أو من حيث ناقضت وضع المصالح أو من حيث كانت كفرانا للنعمة ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ومذهبهم الأخذ بالعزائم وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله عليه الصلاة و السلام
يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة وقوله
إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله الحديث ويشمله عموم قوله تعالى وتوبوا إلى (3/244)
الله جميعا أيها المؤمنون ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين وقال تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنه نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين الآية فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ومن لم يعمر أنفاسه بطالا وهذا مجال لا مقال فيه وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا
فإن قيل هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها
فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق وإنما هو إثبات راجح وأرجح وهذا موجود وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية وقال الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وقال (3/245)
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض المراتب مع إمكان الرقي وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين وما أشبه ذلك ولما فضل رسول الله صلى الله عليه و سلم بين دور الأنصار وقال
في كل دور الأنصار خير قال سعد بن عبادة يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا فقال أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار وفي حديث آخر
قد فضلكم على كثير (3/246)
فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال وإن كان لها مراتب أيضا فلا تعارض بينهما والله أعلم وقد يقال إن قول من قال حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى وهو ظاهر فيه والله أعلم
المسألة السابعة عشرة
تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله وما هو حق للعباد وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هى حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فلامتثاله هذا الأمر مأخذان
أحدهما وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق وإلى زاد يبلغه وإلى مركوب يستعين به وإلى الطريق إن كان مخوفا أو مأمونا وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغرورها وإلى غير ذلك من الأمور (3/247)
التى تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه
والثاني أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من - كتاب الأحكام
وهكذا سائر الأوامر والنواهي
فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعةالمشروطة راجع إليها (3/248)
وأما الثاني فجار على إسقاط اعتبارها وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء
أحدها ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون قوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد فالمقدم حق الله فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله ك (3/249)
فلا راد لفضله وفى الآية الأخرى وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير وقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه بعد قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه
والآيات في هذا المعنى كثيرة
والثاني ما جاء في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم
احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد (3/250)
على الأسباب وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله وأحاديث الرزق والأجل كقوله
اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وقال صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد
إن يكنه فلا تطيقه وقال
جف القلم بما أنت لاق وقال
لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن لها ما قدر لها وقال في العزل
ولا عليكم أن لا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هى كائنة وفي الحديث
المعصوم من عصم الله وقال
إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة إلى سائر ما في هذا المعنى مما (3/251)
هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا وأن الله هو المعطى والمانع وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى
والثالث ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم فقد قام عليه الصلاة و السلام حتى تفطرت قدماه (3/252)
وقال
أفلا أكون عبدا شكورا وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه وقال الله له (3/253)
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية وقال له ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله فأمره باطراح ما يتوقاه فإن الله حسبه وقال الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وقال قبل ذلك وكان أمر الله قدرا مقدورا وقال هود عليه السلام لقومه وهو يبلغهم الرسالة فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله الآية وقال موسى وهارون عليهما السلام ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله لهما لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى
وكان عبد الله بن أم مكتوم قد نزل عذره فى قوله تعالى غير أولى الضرر ولكنه كان بعد ذلك يقول إنى أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء وأقعدونى بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ويقدم حق الله على حق نفسه وروى عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه
إنى أجد حيلة فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله ويقول هذا لك وهذا لرسولك الحديث وعن بعض الصحابة أنه قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنت أيسرا جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون وفى النقل من هذا النحو كثير وقد مر منه فى فصل الرخص والعزائم من - كتاب الأحكام ما فيه كفاية
فإن قيل إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعنى ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد وهذا غير صحيح لأن الشارع (3/254)
وضعها وأمر بها واستعملها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه والتابعون بعده وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة
وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد فى الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس وسائر الضروريات المراعاة فى كل ملة ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد وإن كانت واجبة هذا لا يستقيم فى النظر
وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقوله وتزودوا وقوله وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية وقد كان عليه الصلاة و السلام يستعد الأسباب لمعاشه وسائر أعماله من جهاد وغيره ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية فى الخلق الجريان على العادات وما تقدم لا يقتضيه فلا بد من صحة أحدهما وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم
فالجواب أن ما نقدم لا يدل على اطراح الأسباب بل يدل على تقديم (3/255)
بعض الأسباب خاصة وهى الأسباب التى يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التى تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك وبين أمره عليه الصلاة و السلام بالأسباب واستعماله لها تعارض ودليل ذلك إقراره عليه الصلاة و السلام فعل من اطرحها عند التعارض وعمله عليه الصلاة و السلام على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة وندبه إلى ذلك كما تبين فى الأحاديث المتقدمة وقد مر فى فصل الأسباب من - كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب هذا جواب الأول
وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت وإنما فسح للمكلف فى أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب وبيان ذلك فى فصل الرخص والعزائم وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات خادم للضروريات وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الاخلال بالضروريات وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل
فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد وهو نظر فقهي صحيح مستقيم فى النظر
وأما الثالث فلا معارضة فيه فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا وإلى هذا كله فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض فى تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها وإدامة الحضور فيها أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه (3/256)
فلم يكن له ذلك فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة بل هو الأحق على الإطلاق وهذا فقه فى المسألة حسن جدا وبالله التوفيق
فصل
واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى وقد تبين هذا فى موضعه
المسألة الثامنة عشرة
الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل والآخر راجع إلى جهة التعاون هل يعتبر الأصل أو جهة التعاون أما اعتبارهما معا من جهة واحدة فلا يصح ولا بد من التفصيل فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل أو التعاون
فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع فإنه منع الجائز (3/257)
لئلا يتوسل به إلى الممنوع وقد مر ما فيه وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه
أحدها اعتبار الأصل إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد
والثاني اعتبار جهة التعاون فإن اعتبار الأصل مؤد إلى الملال (3/258)
الممنوع والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها ولأنه فتح باب الحيل
والثالث التفصيل فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة أو لا فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة وهو باطل وإن لم تكن غالبة فالإجتهاد
وإن كان الثاني فظاهره شنيع لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى المأمور به تعاونا وطريق التعاون متأخر فى الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين أو يبنى قنطرة ولكنه صحيح إذا نزل منزلته وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة (3/259)
كالمنع من تلقي الركبان فإن منعه فى الأصل ممنوع إذ هو من باب منع الإرتفاق وأصله ضروري أو حاجي لأجل أهل السوق ومنع بيع الحاضر للبادئ لأنه فى الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق لأهل الحضر وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل وله نظائر كثيرة فإن جهة التعاون هنا أقوى وقد أشار الصحابة على الصديق إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم فى التعاون وهو القيام بمصالح المسلمين وعوضه من ذلك فى بيت المال وهذا النوع صحيح كما تفسر والله أعلم الفصل الرابع فى العموم والخصوص
ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا والمراد العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أولا فإذا قلنا فى وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات فى تحريم الظلم أو غيره إنه عام فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل فيه صيغة عموم أولا بناء على أن الأدلة المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات والخصوص بخلاف العموم فإذا ثبت مناط النظر وتحقق فيتعلق به مسائل
المسألة الأولى
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا (3/260)
حكايات الأحوال والدليل على ذلك أمور
أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض لأنا إنما نتكلم فى الأصول الكلية القطعية وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه
والثانى أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية
وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على ظاهرها وهى مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه
والثالث أن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية فى الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف وكما فى الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني
والرابع أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معا أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر أعنى فى محل المعارضة فإعمالهما معا باطل وكذلك إهمالهما لأنه (3/261)
إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي وهو خلاف القاعدة فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب
فإن قيل هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الأحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها فيلزم إما بطلان ما قالوه وإما بطلان هذه القاعدة لكن ما قالوه صحيح فلزم إبطال هذه القاعدة
فالجواب من وجهين
أحدهما أن ما فرض فى السؤال ليس من مسألتنا بحال فإن ما نحن فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض فإن القاعدة إذا كانت كلية ثم ورد فى شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضى بظاهره المعارضة فى تلك القضية المخصوصة وحدها مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا فلا إشكال فى أن لا معارضة هنا وهو هنا محل التأويل لمن تأول أو محل عموم (3/262)
الاعتبار إن لاق بالموضع الإطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه (3/263)
كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه فى أمر خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر فى صحة الكلية الثابتة
وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب ثم جاء قوله
لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ونحو ذلك فهذا لا يؤثر لإحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل وأما تخصيص العموم فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال فيحنئذ يعلم ويعتبر كما قاله الأصوليون وليس ذلك ما نحن فيه
فصل
وهذا الموضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة فى الكلي فثبت فى حقه المعارضة ورمت به أيدي الإشكالات فى مهاو بعيدة وهذا هو أصل الزيغ والضلال فى الدين لأنه اتباع للمتشابهات وتشكك في القواطع المحكمات ولا توفيق إلا بالله
ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين (3/264)
ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس وقد ورد على غرناطة بعض العدوة الأفريقية فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد فى قتل موسى للقبطي وأن ظاهر القرآن يقضى بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله هذا من عمل الشيطان وقوله رب إني ظلمت نفسى فاغفر لى فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها وما ذكر فيها من التأويلات إخراج الآيات عن ظواهرها وهذا المأخذ لا يتخلص وربما وقع الانفصال على غير وفاق فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام فيقال له الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة وإن قيل أنهم معصومون أيضا من الصغائر وهو صحيح فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا فلم يبق إلا أن يقال أنه ليس بذنب ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات وكثيرا ما يبنى عليه النظار وهو حسن والله أعلم
المسألة الثانية
ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما
أما كون الشريعة على ذلك الوضع فظاهر ألا ترى أن وضع التكاليف عام (3/265)
وجعل على ذلك علامة البلوغ وهو مظنة لوجود العقل الذى هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم إذ لا يطرد ولا ينعكس كليا على التمام لوجود من يتم عقله قبل البلوغ ومن ينقص وإن كان بالغا إلا أن الغالب الاقتران وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها ومع ذلك فلم يعتبر الشارع تلك النوادر بل أجرى القاعدة مجراها ومثله حد الغنى بالنصاب وتوجيه الأحكام بالبينات وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التى قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية
وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية
وإذا ثبت ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية من حيث هى منضبطة بالمظنات إلا إذا ظهر معارض فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه كما إذا عللنا القصر بالمشقة فلا ينتقض بالملك المترف (3/266)
ولا بالصناعة الشاقة وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها كالتافه من البر وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته أو عللناه في الطعام بالاقتيات فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات كالحبة الواحدة وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات (3/267)
في النادر كاللوز والجوز والقثاء والبقول وشبهها بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار وكذلك نقول أن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل ثم إنه أجرى الحد في القليل الذى لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارا بالعادة في تناول الكثير وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالية مع الإيلاج الإنزال وكثير من هذا
فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي
المسألة الثالثة
لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضا ولكنه أكيد التقرير ها هنا وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين
أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أهل وضعها على الإطلاق وإلى (3/268)
هذا النظر قصد الأصوليين فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة
والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التى تقضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك
وهذا الاعتبار استعمالي والأول قياسي
والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي
وبيان ذلك هنا أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل (3/269)
بحسب الوضع نفسه وغيره وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل فى مقتضى العموم وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له فى أصل الوضع دون غيره من الأصناف كما أنه قد يقصد ذكر البعض فى لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع كما تقول فلان يملك المشرق والمغرب والمراد جميع الأرض وضرب زيد الظهر والبطن ومنه رب المشرقين ورب المغربين وهو الذى في السماء إله وفي الأرض إله فكذلك إذا قال من دخل داري أكرمته فليس المتكلم بمراد وإذا قال أكرمت الناس أو قاتلت الكفار فإنما المقصود من لقي منهم فاللفظ عام فيهم خاصة وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال
قال ابن خروف ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من فى الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه لبر ولم يلزمه شيء ولو قال اتهم الأمير كل من فى المدينة فضربهم فلا يدخل الأمير فى التهمة والضرب قال فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الأخبار فى نحو قوله تعالى خالق كل شئ لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه ومثله والله بكل شيء عليم وإن كان عالما بنفسه وصفاته ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع (3/270)
كل شئ بأمر ربها لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال ولا المياه ولا غيرها مما هو فى معناها وإنما المقصود تدمر كل شئ مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة ولذلك قال فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وقال فى الآية الأخرى ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم
ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان فلا يقال من دخل داري أكرمته إلا نفسي أو أكرمت الناس إلا نفسي ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم ولا ما كان نحو ذلك وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار أو ممن لقيت من الكفار وهو الذى يتوهم دخوله لو لم يستثن هذا كلام العرب فى التعميم فهو إذا الجاري فى عمومات الشرع وأيضا فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه إلا مع الجمود على (3/271)
مجرد اللفظ وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم كقوله صلى الله عليه و سلم
أيما إهاب دبغ فقد طهر قال الغزالي خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد بل هو الغالب الواقع ونقيضه هو الغريب المستبعد وكذا قال غيره أيضا وهو موافق لقاعدة العرب وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد
فإن قيل إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له فى الأصل (3/272)
حالة الإفراد فإذا حصل التركيب والاستعمال فأما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الافراد أولا فإن كان الأول فهو مقتضى وضع اللفظ فلا إشكال وإن كان الثانى فهو تخصيص للفظ العام وكل تخصيص لا بد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما وهو مراد الأصوليين
ووجه آخر وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه فى كثير من أدلة الشريعة مع أن معنى الكلام يقتضى على ما تقرر خلاف ما فهموا وإذا كان فهمهم فى سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر فى دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم بحيث صار كوضع ثان بل هو باق على أصل وضعه ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية شق ذلك عليهم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه الصلاة و السلام
إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم وفى رواية فنزلت إن الشرك لظلم عظيم ومثل (3/273)
بعض الكفار فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضى بحسب المقصد الشرعي عموما أخص من عموم اللفظ وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ فى الأصل لم يقع منهم فهمه
فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى فإن بقيت فلا تخصيص وإن لم تبق دلالته فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي وربما أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ الحقيقة اللغوية إذا أرادوا أصل الوضع ولفظ الحقيقة العرفية إذا أراد الوضع الاستعمالي والدليل على صحته ما ثبت فى أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين أصالة قياسية وأصالة استعماليه
فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ فى أصل الوضع وهي التى وقع الكلام فيها وقام الدليل عليها فى مسألتنا فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال
وعن الثانى أن الفهم فى عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه وللشريعة (3/274)
بهذا النظر مقصدان أحدهما المقصد فى الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه وقد تقدم القول فيه
والثاني المقصد فى الاستعمال الشرعي الذى تقرر فى سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الإستعمالى العربي كنسبه الوضع فى الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري كما تقول في الصلاة إن أصلها الدعاء لغة ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص وهي فيه حقيقة لا مجاز فكذلك نقول فى ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي إنها إنما تعم بحسب مقصد الشارع فيها والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الإستعمالي المتقدم الذكر واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك مع ما ينضاف إليه فى مسألة إثبات الحقيقة الشرعية
فأما الأول فالعرب فيه شرع سواء لأن القرآن نزل بلسانهم
وأما الثاني فالتفاوت فى إدراكه حاصل إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس فى تلك الدرجة ولا المبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فلا مانع من توقف بعض الصحابة فى بعض ما يشكل أمره ويغمض وجه القصد الشرعي فيه حتى إذا تبحر في إدارك معاني الشريعة نظره واتسع فى ميدانها باعه زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد (3/275)
الشرعي على الكمال فإذا تقرر وجه الاستعمال فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع الحقيقة الشرعية فإن الموضع يستمد منها وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في الكلام العربي فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضا وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بقاصد الشارع كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب فكل ما سألوا عنه فمن القبيل إذا تدبرته
فصل
ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول
فأما قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد وهادمة لقواعد الشرك وما يليه والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس وكان قد تقدم قبل ذلك قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعنى بهما في سورة الأنعام (3/276)
إبطالا بالحجة وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما
فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى وأيضا فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم دق أو جل فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة وهى مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام
وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله ولم يلبسوا إيمانهم بظلم نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم بل هو كقوله لم يأتني رجل فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه وهي كلها نفى لموجب مذكور أو مقدر ولا نص فى مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة إلا مع الإتيان بمن وما يعطى معناها ذلك مفقود هنا بل فى السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف وهو ظلم الافتراء على الله والتكذيب بآياته فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا فى مساق تقرير الأحكام (3/277)
مجملة فى عمومها فوقع الإشكال فيها ثم بين لهم النبي صلى الله عليه و سلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم وذلك ما دلت عليه السورة وليس فيه تخصيص على هذا بوجه (3/278)
وأما قوله إنكم وما تعبدون الآية فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعري فيها بجهله بموقعها وما روى فى الموضع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له
ما أجهلك بلغة قومك يا غلام لأنه جاء فى الآية إنكم وما تعبدون وما لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح والذى يجرى على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام فقوله وما تعبدون عام فى الأصنام التى كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالى غير ذلك فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق وغفلة عما قصد فى الآيات وما روى من قوله
ما أجهلك بلغة قومك يا غلام دليل على عدم تمكنه فى فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب لحداثته وغلبة الهوى عليه فى الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يتهدى للمعنى المراد ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى بيانا لجهله
ومثله ما في - الصحيح أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس مالكم ولهذه الآية إنما دعا النبي صلى الله (3/279)
كذلك حتى قوله يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهذا من ذلك المعنى أيضا وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت فى الشريعة وأن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله وبه يحصل فهمها وعلى طريقه يجرى سائر العمومات وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال (3/280)
على ما تقرر وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل
فلقائل أن يقول إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل لا مما وضع فى الاستعمال على العموم المدعى
ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة
منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام كما كان يلبس المرقع فى خلافته فقيل له لو اتخذت طعاما ألين من هذا فقال أخشى أن تعجل طيباتي يقول الله تعالى أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا الحديث وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا أين تذهب بكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا الآية وسياق الآية يقتضى أنها (3/281)
عذاب الهون فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ومع ذلك فقد أخذها عمر مستندا فى ترك الإسراف مطلقا وله أصل فى الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه و سلم ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه فاستوى جالسا فقال
أو في شك يا بن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا فهذا يشير مأخذ عمر فى الآية وإن دل السياق على خلافه
وفى حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن معاوية قال صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو فى أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية وهي في الكفار لقوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الخ فدل على الأخذ بعموم من فى غير الكفار أيضا
وفي - البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي ثم قال أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله عز و جل إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية فهذا أيضا من ذلك لأن (3/282)
الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك
وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الآية دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلى الله عليه و سلم فقال قولوا سمعنا وأطعنا فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال قد فعلت الحديث الخ فهموا من الآية العموم وأقره النبي صلى الله عليه و سلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهي قاعدة مكية كلية ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ (3/283)
بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه
وكذلك قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة وأن مخالفه عاص وعلى أن الابتداع في الدين مذموم وقوله تعالى ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله ليستخفوا منه أي من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن عباس إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء فى حكم الآية مع أن المساق لا يقتضيه
ومثل هذا كثير وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب
ومثله قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (3/284)
مع أنها نزلت فى اليهود والسياق يدل على ذلك ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار وقالوا كفر دون كفر
فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لااعتبار بعموم اللفظ وإنما الاعتبار بخصوص السبب وفيه من الخلاف ما علم فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ولا فائدة زائدة
والجواب أن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون فى العلم وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيء أعمالهم والمؤمنين بأحسن أعمالهم ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء فيرى (3/285)
أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم فيجتهد رجاء أن يدركهم ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه وفيما يشبهه ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين فى وصف ما وإن كان مسكوتا عنه لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال الاجتهاد لا فرق لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي وهو ظاهر فى آية الأحقاف وهود والنساء في آية إن الذين توفاهم الملائكة ويظهر أيضا فى قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وما سوى ذلك فإما من تلك القاعدة وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم وإليك النظر فى التفاصيل والله المستعان (3/286)
فصل
إذا تقرر ما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل
فإن كان بالمتصل كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك فليس فى الحقيقة بإخراج لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم فى عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما
وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد فإذا المجموع هو الدال ويظهر ذلك فى الاستثناء إذا قلت عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب وإذا كان كذلك فلا تخصيص فى محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ولا يصح أن يقال إنه مجازا أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك ما رأيت أسد (3/287)
يفترس الأبطال وقولك ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز والثاني حقيقة والرجوع فى هذا إليهم لا إلى ما يصوره العقل فى مناحي الكلام
وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود فى عموم الصيغ حسبما تقدم فى رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذى يذكره الأصوليون
فإن قيل وهكذا يقول الأصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع وليس بمراد الدخول تحتها وإلا كان التخصيص نسخا فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون
فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية فى أصل الاستعمال العربي أو الشرعي وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه وبينهما فرق فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه والذى للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز كقولك (3/288)
رأيت أسدا يفترس الأبطال
فإن قيل أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا أم لا فإن كان باطلا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وإن كان صوابا وهو الذى يقتضيه إجماعهم فكل ما يعارضه خطأ فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ
فالجواب أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ولو سلم أنه ثابت لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ولم يعتبروا حالة الوضع الإستعمالي حتى إذا أخذوا فى الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره كل على اعتبار رآه أو تأويل ارتضاه فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ فى الاستعمال بلا خلاف بيننا وبينهم إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ولا يجود محصول كلامهم
وبالله التوفيق
فصل
فإن قيل حاصل ما مر أنه بحث فى عبارة والمعنى متفق عليه ومثله لا ينبني عليه حكم
فالجواب أن لا بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام
منها أنهم اختلفوا فى العام إذا خص هل يبقى حجة أم لا وهي من (3/289)
المسائل الخطيرة في الدين فإن الخلاف فيها فى ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص صار معظم الشريعة مختلفا فيها هل هو حجة أم لا ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور لم يبق الإشكال المحظور وصارت العمومات حجة على كل قول
ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى وهى أن عمومات (3/290)
القرآن ليس فيها ما هو معتد به فى حقيقته من العموم وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص وفيه ما يقتضى إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال به جملة إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم
وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستناد إليها وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال ليس في القرآن عام إلا مخصص إلا قوله تعالى والله بكل شيء عليم وجميع ذلك مخالف لكلام العرب (3/291)
ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام
وأيضا فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بجوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون وأقرب ما يمكن في التحصيل ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في القرآن جوامع بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصره وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح فيحتمل التأويل
فالحق فى صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها فى الأصل الإستعمالي بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل وبالله التوفيق
المسألة الرابعة
عمومات العزائم وإن ظهر ببادىء الرأي أن الرخص تخصصها فليست بمخصصة لها في الحقيقة بل العزائم باقية على عمومها وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها فإطلاق مجازي لا حقيقي
والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق أو لا
فإن كان الأول فليست برخصة فى الحقيقة إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها وإنما يقال هنا إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام فليس بمخاطب بالقيام بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر وهو العزيمة عليه وإن كان الثانى فمعنى الرخصة فى حقه أنه إن (3/292)
انتقل إلى الأخف فلا جناح عليه لا أنه سقط عنه فرض القيام والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما فإما أن يقال إنه أدى الفرض على كمال العزيمة أولا فلا يصح أن يقال إنه لم يؤده على كماله إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل فلا بد أنه أداه على كماله وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام
فإن قيل إن العزيمة مع الرخصة من خصال الكفارة بالنسبة إليه فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب وإذا كان كذلك فعمله بالعزيمة عمل على كمال وقد ارتفع عنه حكم الإنحتام وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير فلا يستقيم القوم ببقاء العمومات إذ ذاك
وأيضا فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام فى الصلاة واجب عليه حتما ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما وهما قضيتان متناقضتان لا تجتمعان على موضوع واحد فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام فى الصلاة
وأمر ثالث وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن فما أدى إليه مثله (3/293)
فالجواب أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها فلا جناح عليه خاصة لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة وقد تقدم الفرق بينهما فى - كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص وإذا ثبت ذلك فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها وللمخالفة حكم آخر
وأيضا فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة بل من جهتين مختلفتين وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم فى الاجتماع ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التى هي (3/294)
عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها فعلى المجاز لا على الحقيقة ولنعدها مسألة على حدتها وهي
المسألة الخامسة
والأدلة على صحتها ما تقدم والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ولنفرض المسألة فى موضعين
أحدهما فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما كشارب المسكر يظنه حلالا وآكل مال اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه أو قاتل المسلم يظنه كافرا أو واطئ الأجنبية يظنها (3/295)
زوجته أو أمته وما أشبه ذلك فإن المفاسد التى حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا وواطئ الأجنبية قد تسبب فى اختلاط نسب المخلوق من مائه فهل يسوغ فى هذه الأشياء أن يقال إن الله أذن فيها وأمر بها كلا بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة كالغرامة والضمان فى المال وأداء الدية مع تحرير الرقبة فى النفس وبذل المهر مع إلحاق الولد بالوطئ وما أشبه ذلك قل إن الله لا يأمر بالفحشاء إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم
والموضع الثانى إذا أخطأ الحاكم فى الحكم فسلم المال إلى غير أهله أو الزوجة إلى غير زوجها أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له (3/296)
ذوى عدل منكم فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله فكيف يقال أنه مأمور بذلك أو أشهد ذوي زور فهل يصح أن يقال إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم هذا لا يسوغ بناء على مراعاة المصالح في الأحكام تفضلا كما اخترناه أو لزوما كما يقوله المعتزلة غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر والأمثلة فى ذلك كثيرة
ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه أو مأذونا له فيه لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة إذ لا فرق بين أمر وأمر وإذن وإذن إذ الجميع ابتدائي فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح
فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ورشحه بأن الحرج (3/297)
موضوع فى التكاليف وإصابة ما فى نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع وإنما يكلف بما يظنه صوابا وقد ظنه كذلك فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر
المسألة السادسة
العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان
أحدهما الصيغ إذا وردت وهو المشهور فى كلام أهل الأصول
والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ والدليل على صحة هذا الثاني وجوه
أحدها أن الاستقراء هكذا شأنه فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام إما قطعي وإما ظني وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا فى كل فرد يقدر وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع
والثاني أن التواتر المعنوي هذا معناه فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على (3/298)
الإطلاق من غير تقييد وعلى العموم من غير تخصيص بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر مختلفة فى الوقوع متفقة فى معنى الجود حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ولم يكن خصوص الوقائع قادحا فى هذه الإفادة فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم فأنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة فى أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعدا عند مشقة طلب القيام والقصر والفطر فى السفر والجمع بين الصلاتين فى السفر والمرض والمطر والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات والصلاة إلى أي جهة كان لعسر استخراج القبلة والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج فى الأبواب كلها عملا بالاستقراء فكأنه عموم لفظي فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي ثبت فى ضمنه ما نحن فيه (3/299)
والثالث أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم فى ترك الأضحية مع القدرة عليها وكإتمام عثمان الصلاة في حجه بالناس وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به هن سد الذريعة إلى غير ذلك من أفرادها التى عملوا بها مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وفي الحديث
من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال
فإن قيل اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه
أحدها أن ذلك إنما يمكن فى العقليات لا في الشرعيات لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ومتفقة لا تقبل الاختلاف فيحكم العقل فيها على (3/300)
الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا لأن فرض خلافه محال عنده بخلاف الوضعيات فإنها لم توضع وضع العقليات وإلا كانت هي هي بعينها فلا تكون وضعية هذا خلف وإذا لم توضع وضعها وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله والجمع بين الشيء وضده ونقيضه لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص
والثاني أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام أو معاني كثيرة وهذا واضح فى المعقول لأن ما به الإشتراك غير ما به الامتياز وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الإنفراد أو بهما معا فلا يتعين متعلق الحكم وإذا لم يتعين لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات فى استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل (3/301)
والثالث أن التخصيصات في الشريعة كثيرة فيخص محل بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات فى حكم واحد ولذلك أمثلة كثيرة كجعل التراب طهورا كالماء وليس بمطهر كالماء بل هو بخلافه وإيجاب الغسل من خروج المنى دون المذى والبول وغيرهما وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها والمعنى واحد ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس والجلد بقذف الزنى دون غيره وقبول شاهدين فى كل حد ما سوى الزنى والجلد بقذف الحر دون قذف العبد والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض والأمة بواحدة وكالتسوية فى الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه فى دم العمد وبين المرتد والقاتل وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ
وأيضا فإن الرجل والمرأة مستويان فى أصل التكليف على الجملة ومفترقان (3/302)
بالتكليف اللائق بكل واحد منهما كالحيض والنفاس والعدة وأشباهها بالنسبة إلى المرأة والإختصاص فى مثل هذا لا إشكال فيه وأما الأول فقد وقع الإختصاص فيه في كثير من المواضع كالجمعة والجهاد والإمامة ولو في النساء وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ففرق بين بول الصبي والصبية إلى غير ذلك من المسائل مع فقد الفارق فى القسم المشترك ومثل ذلك العبد فإن له اختصاصات فى القسم المشترك أيضا وإذا ثبت هذا لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة
فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به فى مسائل كثيرة كما تقدم التنبيه عليه فإذا وقع مثله فهو واضح في أن الوضع الإختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع
وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا أن (3/303)
الخصوصيات وما به الإمتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا وذلك باطل فما أدى إليه مثله
وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس فالذى أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا
فصل
ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقري من غير اعتبار بقياس أو غيره إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه
ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافى الذى أورده على أهل مذهب مالك حيث استدلوا فى سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت وبحديث
لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها الخ وقوله لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل (3/304)
على اعتبار الشرع سد الذرائع فى الجملة وهذا مجمع عليه وإنما النزاع فى ذرائع خاصة وهى بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع وإلا فهذه لا تفيد قال وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون أن مدركهم النصوص وليس كذلك بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها كحديث أم ولد زيد بن أرقم
هذا ما قال فى إيراد هذا الإشكال
وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها فى خصوصات كثيرة بحيث أعطت فى الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح فى أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة
أما الشافعي فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة وإنما فيه عمل جملة من الصحابة وذلك عند الشافعي ليس بحجة لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر رجح على غيره فأعمله فترك سد الذريعة لأجله وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا (3/305)
وأما أبو حنيفة فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل وإذا كان كذلك فلا إشكال
المسألة السابعة
العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل
والدليل على ذلك الاستقراء فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ولم تستثن منه موضعا ولا حالا فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ولا توقف في مقتضاه وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام وأيضا قررت أن لا تزر وازرة وزر أخرى (3/306)
فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل وغيره وبينت بالتكرار أن
لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه وحملوه على عمومه وأن
من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن
من مات مسلما دخل الجنة ومن مات كافرا دخل النار وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وأشباه ذلك
فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر فلا بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه
فصل
وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا (3/307)
فإن قيل قد حكى الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا وكذلك دليل مع معارضة فكيف يصح القول بالتفصيل
فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأفضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم
الفصل الخامس في البيان والأجمال ويتعلق به مسائل
المسألة الأولى
إن النبي صلى الله عليه و سلم كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
فكان يبين بقوله عليه الصلاة و السلام كما قال في حديث الطلاق
فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء وقال لعائشة حين سألته عن قول (3/308)
الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا
إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله
آية المنافق ثلاث
إنما عنيت بذلك كذا وكذا
وهو لا يحصى كثرة
وكان أيضا يبين بفعله
ألا أخبرته أني أفعل ذلك وقال الله تعالى زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج الآية وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله وقال عند ذلك
صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم إلى غير ذلك
وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره وهذا كله مبين في الأصول ولكن نصير منه إلى معنى آخر وهي (3/309)
المسألة الثانية
وذلك أن العالم وارث النبي فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هو عالم
والدليل على ذلك أمران
أحدهما ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثة في البيان وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة وبين أصول الأدلة في الإتيان بها فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ
والثاني ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء فقد قال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله والآيات كثيرة وفي الحديث
ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال
لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها وقال
من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل والأحاديث في هذا كثيرة ولا خلاف (3/310)
في وجوب البيان على العلماء والبيان يشمل البيان الابتدائي للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهى
المسألة الثالثة
فنقول إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل فلا بد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة فى الناس دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين فى أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله فلا نطول به ههنا لأنه تكرار
المسألة الرابعة
إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول فهو الغاية فى البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات
فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا إلا أن كل واحد منهما على انفراد قاصر عن غاية البيان من وجه بالغ أقصى الغاية من وجه آخر
فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التى لا يبلغها البيان القولي ولذلك بين عليه الصلاة و السلام بفعله لأمته كما فعل به جبريل حين صلى به وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك وإن جاء فيها بيان بالقول فإنه إذا عرض نص الطهارة فى القرآن على عين ما تلقى بالفعل من الرسول عليه الصلاة و السلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من (3/311)
النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم وهبه عليه الصلاة و السلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة و السلام في الوضوء شمله بلا شك وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة و السلام فيه ولو تركنا والنص لما حصل لنا منه كل ذلك بل أمر أقل منه وهكذا تجد الفعل مع القول أبدا بل يبعد فى العادة (3/312)
أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير فى الأفعال المعتادة المحسوسة بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذى معناه الفعلي بسيط ووجد له نظير في المعتاد وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فيه حصل البيان لا بمجرد القول وإذا كان كذلك لم يقم القول هنا فى البيان مقام الفعل من كل وجه فالفعل ابلغ من هذا الوجه
وهو يقصر عن القول من جهة أخرى وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص فى الأحوال والأزمان والأشخاص فإن القول ذو صيغ تقتضى هذه الأمور وما كان نحوها بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله وعلى زمانه وعلى حالته وليس له تعد عن محله ألبتة فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه و سلم مثلا لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله فى هذا الوقت المعين وعلى هذه الحالة المعينة فيبقى علينا النظر هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة أو يختص بهذا الزمان أو هو عام فى جميع الأزمنة أو يختص به وحده أو يكون حكم أمته حكمه ثم بعد النظر فى هذا يتصدى نظر آخر فى حكم هذا الفعل الذى فعله من أي نوع هو من الأحكام الشرعية وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه وهذا بين بأدنى تأمل ولأجل ذلك جاء قوله تعالى لقد كان لكم فى رسول الله (3/313)
صلوا كما رأيتمونى أصلي
وخذوا عني مناسككم ونحو ذلك ليستمر البيان إلى أقصاه
فصل
وإذا ثبت هذا لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين فلا يقال أيهما أبلغ فى البيان القول أم الفعل إذ لا يصدقان على محل واحد إلا فى فعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق فيقوم أحدهما مقام الآخر وهنالك يقال أيهما أبلغ أو أيهما أولى كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام (3/314)
صاحبه أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسى الأمة به فيه فيختص بالقول
المسألة الخامسة
إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق أو مخصص أو مقيد وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم إذا كان موافقا غير مناقض ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك وبيان ذلك بأشياء
منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ثم فعله هو ولم يخل به فى مقتضى ما قال فيه قوى اعتقاد إيحابه وانتهض العلم به عند كل من سمعه بخير عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ثم تركه فلم ير فاعلا ولا دائرا حواليه قوي عند متبعه ما أخبر به عنه بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة إما من تطريق احتمال إلى القول وإما من تطريق (3/315)
تكذيب إلى القائل أو استرابة فى بعض مآخذ القول مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم فى دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة كما هو معلوم بالعيان فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل فعلى حسب ما يكون القائل فى موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به أو عدم ذلك
ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام فى الرتبة القصوى من هذا المعنى وكان المتبعون لهم أشد اتباعا وأجرى على طريق التصديق بما يقولون مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ومن جملتها ما نحن فيه فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ثم أخذ فى تناوله دونك أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه دل هذا كله على خلل فى الإخبار أو فى فهم الخبر فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله وقد قال تعالى أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد فقد قال تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال فى ضده لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله وبما كانوا يكذبون فاعتبر فى الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم فإنما يريد على كل مكلف وأنا منهم فإن وافق صدق وإن خالف كذب (3/316)
ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس فى بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله فإنه وارث النبي والنبي كان مبينا بقوله وفعله فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله فكذلك الوارث فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ فى القول فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى لكن بسببه وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة و السلام ولم يفعله هو حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله لاحتمال أن يكون تركه أرجح ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة و السلام له حتى إذا فعله اتبعوه فى فعله كما فى التحلل من العمرة والإفطار فى السفر هذا وكل صحيح فما ظنك بمن ليس بمعصوم من العلماء فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به
ولا يقال إن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل بخلاف من ليس بمعصوم
لأنا نقول إن اعتبر هذا الاحتمال فى ترك الاقتداء بالفعل فليعتبر فى ترك اتباع القول وإذ ذاك يقع فى الرتبة فساد لا يصلح وخرق لا يرقع فلا بد أن يجرى الفعل مجرى القول ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية فى العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به وإن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه (3/317)
وقد جاء في الحديث
إنى لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا وما هي يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وقال عمر بن الخطاب ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا
وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس ويل للاتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه و سلم منه فيترك قوله ذلك ثم يمضى الأتباع
وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين أما زلة العالم فكما تقدم ومثال كسر السفينة واقع فيها وأما الحكم الجائر فظاهر أيضا وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله وأما الجدال بالقرآن فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا وصار مظنه للاتباع على تأويل ذلك المجادل ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها فصاروا فتنة على الناس وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا (3/318)
من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان وأما الدنيا فمعلوم فتنتها للخلق
فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم بل يقال إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين
أحدهما من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة
والثاني من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز و جل إذا انتصب في هذا المقام فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين والبيان واجب لا غير فإذا كان مما يفعل أو يقال كان واجب الفعل على الجملة وإن كان مما لا يفعل فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله وذلك هو تحريم الفعل
لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك وإما عند اعتقاد خلاف الحكم أو مظنة اعتقاد خلافه
فالمطلوب فعله بيانه بالفعل أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم فإن كان مندوبا مظنة لاعتقاد الوجوب (3/319)
فبيانه بالترك أو بالقول الذى يجتمع إليه الترك كما فعل فى ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال وأشباه ذلك وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة كما فى السنن والمندوبات التى تنوسيت فى هذه الأزمنة
والمطلوب تركه بيانه بالترك أو القول الذى يساعده الترك إن كان حراما وإن كان مكروها فكذلك إن كان مجهول الحكم فإن كان مظنة لاعتقاد التحريم وترجيح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقربه وقد قال الله تعالى ولقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة وقال فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية وفي حديث المصبح جنبا قوله
وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر ابن عبد الرحمن من قول عائشة يا عبد الرحمن
أترغب عما كان رسول الله يصنع قال عبد الرحمن لا والله قالت عائشة فأشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم وفى حديث أم سلمة
ألا أخبرتيها أنى أفعل ذلك إلى آخر الحديث وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه قال رأيت ابن (3/320)
فسوق الآية وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يتأثر على فعله فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج فى الفعل كما فى سجود الشكر عند مالك وكما فى غسل اليدين قبل الطعام حسبما بينه مالك فى مسألة عبد الملك بن صالح وستأتي إن شاء الله
وعلى الجملة فالمراعى ههنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات الراد إلى الصراط المستقيم ومن تأمل سير السلف الصالح فى هذا المعنى تبين ما تقرر بحول الله ولا بد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب والله المستعان
المسألة السادسة
المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب لا في القول ولا في الفعل كما لا يسوى بينهما فى الاعتقاد فإن سوى بينهما في القول أو الفعل فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد وبيان ذلك بأمور (3/321)
أحدها أن التسوية فى الاعتقاد باطلة باتفاق بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة وهو ترك الالتزام فى المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم وقد كان من شأنه ذلك فى مسائل كثيرة كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلة بقيام وقوله
لا يجعل أحدكم للشيطان حظا فى صلاته بينه حديث ابن عمر قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر فقال لي عبد الله ابن عمر ما منعك أن تنصرف عن يمينك قلت رأيت فانصرفت إليك قال أصبت إن قائلا يقول انصرف عن يمينك وأنا أقول انصرف كيف شئت عن يمينك وعن يسارك وفى بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب
من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وقال الأعرابي هل على غيرهن قال لا إلا أن تطوع وقال لما سئل عن تقديم (3/322)
بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب لا حرج قال الراوي فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال
افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة و السلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد ونهى عن التبتل مع قوله تعالى وتبتل إليه تبتيلا ونهى عن الوصال وقال
خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التى بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب (3/323)
ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر فى الإعتقاد
ومسلك آخر وهو أن النبي عليه الصلاة و السلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم قالت عائشة
وما سبح النبي صلى الله عليه و سلم سبحة الضحى قط وإني لأستحبها وقد قام ليالى من رمضان فى المسجد فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ثم كثروا فترك ذلك وعلل بخشية الفرض ويحتمل وجهين أحدهما أن يفرض بالوحي وعلى هذا جمهور الناس والثانى فى معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب وهو تأويل متمكن
والثالث أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط فى الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة وكانوا أئمة يقتدى بهم فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة فمن ذلك ترك عثمان القصر فى السفر فى خلافته وقال إني إمام الناس فنظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر مطلوب وقال حذيفة (3/324)
ابن أسيد شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة وقال بلال لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ويقول لعكرمة من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس وكان غنيا وقال بعضهم إنى لأترك أضحيتى وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري كنا نضحى عن النساء وأهلينا فلما تباهى الناس بذلك تركناها ولا خلاف فى أن الأضحية مطلوبة وقال ابن عمر فى صلاة الضحى إنها بدعة وحمل على أحد وجهين إما أنهم كانوا يصلونها جماعة وإما أفذاذا على هئية النوافل في أعقاب الفرائض
وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله
لا تمنعوا إماء الله مساجد الله لما أحدثن فى خروجهن ولما يخاف فيهن
والرابع أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وان اختلفوا فى التفاصيل فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك للعلة المتقدمة مع أن الترغيب فى صيامها ثابت صحيح لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان
قال القرافي وقد وقع ذلك للعجم وقال الشافعي فى الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير وسد الذريعة أصل عنده متبع مطرد فى العادات (3/325)
والعبادات فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا
فصل
والتفرقة بينهما تحصل بأمور منها بيان القول إن اكتفى به وإلا فالفعل بل هو في هذا النمط مقصود وقد يكون فى سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه وأكثر ما يحصل الفرق فى الكيفيات العديمة النص وأما المنصوص فلا كلام فيها فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه
فصل
وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب فى الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات فى الترك المطلق من غير بيان فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعيه الترك كما تقدم ولم يفهم كون المندوب مندوبا هذا وجه
ووجه آخر وهو أن فى ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ومن المندوبات ما هو واجب بالكل فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب بل لا بد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به وهذا مطلوب ممن يقتدى به كما كان شأن السلف الصالح (3/326)
وفى الحديث الحسن عن أنس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم
يا بني إن قدرت أن تصبح وليس فى قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتى ومن أحيا سنتى فقد أحبني ومن أحبني كان معى فى الجنة فجعل العمل بالسنة إحياء لها فليس بيانها مختصا بالقول وقد قال مالك فى نزول الحاج بالمحصب من مكة وهو الأبطح استحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي وظاهر من مذهب مالك أن المندوب لا بد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب وذلك بفعله وإظهاره
وقال بعضهم فى حديث عمر
بل أغسل ما رأيت وانضح ما لم أر وفى الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة يعني فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه فى ذلك الفعل وصار ذلك أصلا فى التوسعة على الناس فى ترك تكلف ثوب آخر للصلاة وفى تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب وفى الحديث
واعجبا لك يا ابن العاصي لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز (3/327)
أخرت الصلاة شيئا فقال إن ثيابي غسلت قال ابن رشد يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده فى الدنيا أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به فى ذلك ائتساء بعمر بن الخطاب فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه فى جميع الأحوال
ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة فى الجماعة له إلفا وعادة وخيف أن يتعدى إلى غيره فى الاقتداء به أن للحاكم أن يزجره واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم
لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث وقال أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها إن له أن ينهاهم قال لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه وأشار إلى نحو هذا فى مسائل أخر وحكى قولين فى مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية فى إقامة الجمعة بجماعة اختلفت فى انعقاد الجمعة بهم فى بعض وجوهها وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها
ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة لئلا ينشأ الصغير على تركها فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه وهذا الباب يتسع ومما يجرى مجراه فى تقوية اعتبار البيان فى هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر ابن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ثم قال هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع السجود فقور
وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله فى الجملة وإن اختلفوا فى التفاصيل كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وقوله (3/328)
وقد رأى مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل فمنعه من وطئها إلا أن يخفي ذلك عن الناس وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس فى جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا فى صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب فأمر بإلقاء الحصى فى صحن المسجد وقال لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة فى الصلاة ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور فقال له انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له أمخلد أنت فى الدنيا قال لا قال هل يملكون لك جنة أو نارا قال لا
قال فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا فى ذلك فقال له مالك أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة الملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره فلا يثبت على حال
المسألة السابعة
المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات (3/329)
ولا المكروهات فإنها إن سوى بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم فى مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ومسألة عمر بن الخطاب فى غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام فقال ابدءوا بأبي عبد الله
فقال مالك إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال لم قال ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأى الأعاجم وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك أترك يا أبا عبد الله قال إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك ولا نأمر الرجل أن لا يغسل يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه فلا أميتوا سنة العجم وأحيوا سنة العرب أما سمعت قول عمر تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم
وهكذا إن سوى فى الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات فقد كان عليه الصلاة و السلام يكره الضب ويقول
لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته فظهر حكمه وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله أحرام هو قال
لا ولكنى أكرهه من أجل ريحه وفى رواية أنه قال لأصحابه (3/330)
كلوا فإني لست كأحدكم إنى أخاف أن أؤذي صاحبي وروى فى الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا الآية فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة حتى يصير كالمكروه وليس بمكروه والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات
المسألة الثامنة
المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات
أما الأول فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم
ولا يقال إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه
لأنا نقول البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجعة ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة و السلام له
أنكتها هكذا من غير كناية مع أن ذكر (3/331)
اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع غير أن التصريح هنا آكد فاغتفر لما يترتب عليه فكذلك هنا ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في التلقاء الختانين وقوله عليه الصلاة و السلام
ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه
وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله إن تصدق الطير ننك لميسا فمثل هذا لا حرج فيه
وأما الثاني فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا وذلك المكروهات المفعولة في المساجد وفي مواطن الإجتماعات الإسلامية والمحاضر الجمهورية ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من هذه المكروهات بل ومن المباحات كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك
فصل
ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية
منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدينة الندبية أن يواظب (3/332)
عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا أو مظنة لذلك بل الذى ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته بحيث لا يتخلف عنه كما أن خاصية المندوب عدم الإلتزام فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب فحمله على الوجوب ثم استمر على ذلك فضل
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر بحيث يفهم عنه في الترك أنه مشروع
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس قرأها في كرة أخرى فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود فلم يسجدها وقال إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء فقال أيحب أن يذبح إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء
ونقل عن عمر أنه قال لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني في الوضوء مع أن المستحب التيامن في الشأن كله
ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة
ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو لو فعلتها لكانت سنة بل أغسل ما رأيت وانضح ما لم أر
ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة (3/333)
في الوضوء قال لا الوضوء مرتان مرتان أو ثلاث ثلاث مع أنه لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ قال اللخمي وهذا احتياط وحماية لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به والأمثلة كثيرة
وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال أن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة فلا بأس وكذا قال مالك في المرة الواحدة حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به فلا بأس وهو جار على المذهب لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس لأنه إن كان كذلك فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ولا يكون كذلك شرعا فلا بد في إظهاره من عدم إلتزامه في بعض الأوقات ولا بد في إلتزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات وذلك على الشرط المذكور في أول - كتاب الأدلة
ولا يقال إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال وقد كان عليه الصلاة و السلام إذا عمل عملا أثبته (3/334)
لأنا نقول كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال فإذا ترك في بعض الأوقات لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات إنهم غير مداومين عليها فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة
وإنما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك إلى غير ذلك من الأمور التى لا تلزم الجمهور بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو جائز غير جائز أو مطلوبا أو تعريضهم لسؤال القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل إما لحال غالبة أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه
وهذا كله محظور (3/335)
المسألة التاسعة
الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تفعل ولا يسامح في فعلها وهذا ظاهر ولكنا نسير منه إلى معنى آخر وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ولا كلام في مترتبات الآخرة لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليها حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها
فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا
ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف كان الحكم الشرعي مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع وغير إلى الحكم المخالف الذى لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ووقع بيانه مخالفا فيصير المنتصب لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله فيجري فيه ما تقدم فإذا رأى الجاهل ما جرى توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر حصلت الريبة وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه وكل ذلك فساد وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها في أنفسها وفي لواحقها وسوابقها وقرائنها وسائر ما يتعلق بها شرعا حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام وإلا كان (3/336)
من الذين قال الله تعالى فيهم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية
المسألة العاشرة
لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية لازم بيانها قولا وعملا فإن قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت حصل بيانها للناس وإن قررت ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل أو مع فقدانها فلم يعمل وافق القول الفعل فإن عكست القضية وقع الخلاف فلم ينتهض القول بيانا وهكذا الموانع وغيرها
وقد أعمل النبي صلى الله عليه و سلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر وأعمل الأسباب ورتب الأحكام حتى في نفسه حين أقص من نفسه صلى الله عليه و سلم وكذلك في غيره والشواهد لا تحصى والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة والتنبيه كاف
المسألة الحادية عشرة
بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم بيان صحيح لا إشكال في صحته لأنه لذلك بعث قال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولا خلاف فيه (3/337)
وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة أم لا هذا فيه نظر وتفصيل ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين
أحدهما معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة
والثاني مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك والشاهد يرى ما لا يرى الغائب
فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية
مثاله قوله عليه الصلاة و السلام
لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ويحتمل أن لا فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة (3/338)
بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا وأن التأخير الذى يفعله أهل المشرق شيء آخر داخل في التعمق المنهى عنه وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار فندب المسلمون إلى التعجيل
وكذلك لما قال عليه الصلاة و السلام
لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد غروب الشمس فبين عثمان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس وتأمل فعادة مالك ابن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن وما يعمل به منها وما لا يعمل به وما يقيد به مطلقاتها وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره ومما بين كلامهم اللغة أيضا كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع وفي معنى الإخوة أن السنة قضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم معاني الكتاب والسنة (3/339)
لا يقال إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف
لأنا نقول نعم هو تقليد ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجه إلا لهم كما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سننهم كما جاء في قوله عليه الصلاة و السلام
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث فإنها عاضدة لهذا المعنى في الجملة (3/340)
أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين فهم ومن سواهم فيه شرع سواء كمسألة العول والضوء من النوم وكثير من مسائل الربا التى قال فيها عمر ابن الخطاب مات رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا آية الربا فدعوا الربا والريبة أو كما قال فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين وفيه خلاف بين العلماء أيضا فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر كالأحاديث والاجتهادات النبوية وهو مذكور في كتب الأصول فلا يحتاج إلى ذكرها ههنا
المسألة الثانية عشرة
الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف وإما غير واقع في الشريعة
وبيان ذلك من أوجه
أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية وقوله هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون وقوله تعالى هدى للمتقين هدى ورحمة للمحسنين وإنما كان هدى لأنه مبين والمجمل لا يقع به بيان وكل ما في هذا المعنى من (3/341)
ويدل على أنهما بيان لكل مشكل وملجأ من كل معضل وفي الحديث
ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه وهذا المعنى كثير فإن كان في القرآن شيء مجمل فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال وللحج إذ قال
خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك ثم بين عليه الصلاة و السلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن والجميع بيان منه عليه الصلاة و السلام
فإذا ثبت هذا فإن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال وطلب ما لا ينال وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه وأخر متشابهات (3/342)
ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه لا على ما يفهم المكلف منه فقد قال الله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله كل من عند ربنا والناس في المتشابه المراد ههنا على مذهبين فمن قال إن الراسخين يعلمونه فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب أو على غير العلماء من الناس ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله ألا الله فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به وهكذا إذا قلنا إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ما دام مشتبها عليهم حتى يتبين باجتهاد أو تقليد وعند ذلك يرتفع تشابهه فيصير كسائر المبينات
فإن قيل قد أثبت القرآن متشابها في القرآن وبينت السنة أن في الشريعة متشبهات بقوله
الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوم فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون فى العلم يقولون (3/343)
آمنا به كل من عند ربنا فكيف يقال إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف
فالجواب أن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع وتشابه الحديث في مناط الحكم وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه وإن سلم فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ولذلك قال فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله الرحمن على العرش استوى وفي الحديث
ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف وإلا فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه إلى غير ذلك من وجوه النظر
الوجه الثاني أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ولو كان فيه بحسب هذا القصد أشتباه وإجمال لناقض أصل مقصود الخطاب فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح تفضلا أو انحتاما أو عدم رعيها إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود
والثالث أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف (3/344)
بامتناع تأخير البيان عن وقته وإذا ثبت ذلك فمسألتنا من قبيل هذا المعنى لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه أولا فإن لم يقصد فذلك ما أردنا وإن قصد رجع إلى تكليف مالا يطاق وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة وعلى هذين الوجهين أعني الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل فلا بد من خروج معناه عن تعلق التكليف به وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي وهو المطلوب
الطرف الثاني
في الأدلة على التفصيل
وهي الكتاب والسنة والإجماع والرأي
ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما اقتصرنا على النظر فيهما وأيضا فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي والاقتصار على الكتاب والسنة والله المستعان
فالأول أصلها وهو الكتاب وفيه مسائل (3/345)
المسألة الأولى
إن الكتاب قد تقرر أن كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا لا اقتصارا على أحدهما فيوشك أن يفوز بالبغية وأن يظفر بالطلبة ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول فإن كان قادرا على ذلك ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف والمرتبة المنيفة
وأيضا فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى لكن بشرط الدربة في اللسان العربي كما تبين في - كتاب الاجتهاد إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن الأمة وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب مفهوم معقول ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وقال فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر (3/346)
مبين وعلى أي وجه فرض إعجازه فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم وكذلك ما كان مثله وهو ظاهر
المسألة الثانية
معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران
أحدهما أن علم المعاني والبيان الذى يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه
الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع (3/347)
ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي قال خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة فقال ابن عباس يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال فزجره عمر وانتهره فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه فقال أعد علي ما قلت فأعاده عليه فعرف عمر قوله وأعجبه وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب
فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية قال يراهم شرار خلق الله أنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين فهذا معنى الرأي الذى نبه ابن عباس عليه وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذى نزل فيه القرآن
وروى أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية إنما دعا النبي صلى الله عليه و سلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلى قوله ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان
والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله وقوموا لله قانتين فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد (3/348)
الخ فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله وفي رواية فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال إن الله يقول في كتابه ليس على الذين آمنوا إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا وأحد والخندق والمشاهد
فقال عمر ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لماضين وحجة على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر صدقت الحديث
وحكى إسماعيل القاضي قال
شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان فقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا الآية قال فكتب فيهم إلى عمر قال فكتب عمر إليه أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس فقالوا يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا فى دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات
وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال تركت فى المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية يوم تأتى السماء بدخان مبين قال يأتي الناس (3/349)
يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به الله أعلم إنما كان هذا الأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه و سلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله فارتقب يوم تأتى السماء بدخان الآية إلى آخر القصة
وهذا شأن أسباب النزول فى التعريف بمعاني المنزل بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات وقد قال عليه الصلاة و السلام
خذوا القرآن من أربعة منهم عبد الله ابن مسعود وقد قال فى خطبة خطبها والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه
وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التى يكون العالم بها عالما بالقرآن وعن الحسن أنه قال ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وما أراد بها وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب وعن ابن سيرين قال سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال اتق الله وعليك بالسداد فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير (3/350)
فصل
ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجارى أحوالها حالة التنزيل وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض فى علم القرآن منه وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك ما تقدم بيانه فى النوع الثاني من - كتاب المقاصد فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين فى هذا المقام ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما
أحدها قول الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به لكن على تغيير بعض الشعائر ونقص جملة منها كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا فجاء الأمر بالإتمام لذلك وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة أم لا
والثاني قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا نقل عن أبي يوسف أن ذلك فى الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه قال فهذا على الشرك ليس على الإيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء لم تكن الإيمان بالطلاق والعتاق فى زمانهم
والثالث قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم أأمنتم من في السماء وأشباه ذلك إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بآلهية الواحد الحق فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه فى الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ولذلك قال تعالى فخر عليهم السقف من فوقهم فتأمله واجر على هذا المجرى فى سائر (3/351)
العرب عبدته وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها فلذلك عينت
فصل
وقد يشارك القرآن فى هذا المعنى السنة إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ومنه أنه نهى عليه الصلاة و السلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث فلما كان بعد ذلك قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويحملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال وما ذلك قالوا نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة و السلام
إنما نهيتكم من أجل الدافة التى دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة فإن حديث ابن مسعود يبين أنه بأهل النفاق بقوله
ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث
الأعمال بالنيات واقع عن سبب وهو أنهم لما أمروا بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر فكان بعد ذلك يسمى مهاجر أم قيس وهو كثير (3/352)
المسألة الثالثة
كل حكاية وقعت فى القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أولا فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكى وكذبه وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكى وصدقه
أما الأول فظاهر ولا يحتاج إلى برهان ومن أمثلة ذلك قوله تعالى إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأعقب بقوله قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية وقال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله بزعمهم وبقوله ساء ما يحكمون ثم قال وقالوا هذه أنعام وحرث حجر إلى تمامه ورد بقوله سيجزيهم بما كانوا يفترون ثم قال وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية فنبه على فساده بقوله سيجزيهم وصفهم زيادة على ذلك
وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فرد عليهم بقوله وقد جاءوا ظلما وزورا ثم قال وقالوا أساطير الأولين الآية فرد بقوله قل أنزله الذى يعلم السر الآية ثم قال وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ثم قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا وقال تعالى وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله أأنزل عليه الذكر من بيننا ثم رد عليهم بقوله بل هم في شك من ذكري إلى آخر ما هنالك وقال وقالوا اتخذ الله ولدا ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله بل عباد مكرمون وقوله (3/353)
بل له ما فى السموات والأرض وقوله سبحانه هو الغني الآية وقوله تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض إلى آخره وأشباه ذلك ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر
وأما الثاني فظاهر أيضا ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها فإن القرآن سمي فرقانا وهدى وبرهانا وبيانا وتبيانا لكل شيء وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لاينبه عليه وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق يجعل عمدة عند طائفة فى شريعتنا ويمنعه قوم لا من جهة قدح فيه ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط ولو نبه على أمر فيه لكان فى حكم التنبيه على الأول كقوله تعالى وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه الآية وقوله يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه الآية وكذلك قوله تعالى من الذين هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين فصار هذا من النمط الأول ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا كحكايته عن الأنبياء والأولياء ومنه قصة ذي القرنين وقصة الخضر مع موسى عليه السلام وقصة أصحاب الكهف وأشباه ذلك (3/354)
فصل
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآية إذ لو كان قولهم باطلا لرد عند حكايته واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وأنهم خمسة سادسهم كلبهم أعقب ذلك بقوله رجما بالغيب أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ولما حكى قولهم سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال بل قال قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل دل المساق على صحته دون القولين الأولين
وروى عن ابن عباس أنه كان يقول أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم
ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قوله إبراهيم عليه السلام ربي أرني كيف تحيي الموتى فقيل له أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية فقال لا وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال أولم تؤمن قال بلى فلو عمل شكا منه لأظهر ذلك فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة فى الإيمان بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب فى قوله قالت الأعراب آمنا فإن الله تعالى رد عليهم بقوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل
فقد قال تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله إلى آخرها (3/355)
إنك لرسوله تصحيحا لظاهر القول وقال والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطالا لما قصدوا فيه
وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال مر يهودي بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي حدثنا يا يهودي فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه وأشار الراوى بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره وفي رواية أخرى جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد إن الله يمسك السموات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والخلائق على أصبع ثم يقول أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه قال وما قدروا الله حق قدره وفي رواية فضحك النبي صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا والحديث الأول كأنه مفسر لهذا وبمعناه يتبن معنى قوله وما قدروا الله حق قدره فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق فى الجلمة وذلك قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه فقال وما قدروا الله حق قدره
وقال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن أي يسمع (3/356)
وقال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن أي يسمع الحق والباطل فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق فقال قل اذن خير لكم الآية ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم
وقال تعالى وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء فرد عليهم بقوله إن أنتم إلا في ضلال مبين لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر وجواب أنفقوا أن يقال نعم أو لا وهو الامتثال أو العصيان فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا إذ حاصلة أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق فكأنهم قالوا كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم وهذا عين الضلال فى نفس الحجة
وقال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فقوله ففهمناها سليمان تقرير لإصابته عليه السلام فى ذلك الحكم وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام لكن لما كان (3/357)
المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع قال وكلا آتينا حكما وعلما وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه قال الحسن والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاء قد هلكوا فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده والنمط هنا يتسع ويكفي منه ما ذكر وبالله التوفيق
فصل
وللسنة مدخل فى هذا الأصل فإن القاعدة المحصلة أن النبي عليه الصلاة و السلام لا يسكت عما يسمعه أو يراه من الباطل حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه والمسألة مذكورة فى الأصول
المسألة الرابعة
إذا ورد فى القرآن الترغيب قارنه الترهيب فى لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس وكذلك الترجيه مع التخويف وما يرجع إلى هذا المعنى مثله ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجيه وفى ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا فهو راجع إلى الترجية والتخويف (3/358)
أنعمت عليهم إلى آخرها فجيء بذكر الفريقين ثم بدئت سورة البقرة بذكرها أيضا فقيل هدى للمتقين ثم قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ثم ذكر بإثرهم المنافقون وهو صنف من الكفار فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار وبعده بالترجية فقال فإن لم تفعلوا ولن تعفعلوا فاتقوا النار إلى قوله وبشر الذين آمنوا الآية ثم قال إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا الآية ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم قيل إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله هم فيها خالدون ثم ذكر تفاصيل ذلك الإعتداء إلى أن ختم بقوله ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وهذا تخويف ثم قال ولو أنهم آمنوا واتقو المثوبة الآية وهو ترجية ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ثم قال بلى من أسلم وجهه لله الآية ثم ذكر من شأنهم الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وبنيه وذكر فى أثنائها التخويف والترجية وختمها بمثل ذلك ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد فى هذا الإقتران فقد يكون بينهما أشياء معترضة فى أثناء المقصود والرجوع بعد إلى ما تقرر
وقال تعالى فى سورة الأنعام وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات الحمد لله الذى خلق السموات والأرض إلى قوله ثم الذين كفروا (3/359)
بربهم يعدلون وذكر البراهين التامة ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه إلى أن قال كتب ربكم على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف وذلك يعطى التخويف تصريحا والترجية ضمنا ثم قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فهذا تخويف وقال من يصرف عنه يؤمئذ فقد رحمه الآية وهذا ترجية وكذا قوله وإن يمسسك الله بضر الآية ثم مضى فى ذكر التخويف حتى قال وللدار الآخرة خير للذين يتقون ثم قال إنما يستجيب الذين يسمعون ونظيره قوله والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم فى الظلمات الآية ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح الآية واجر في النظر على هذا الترتيب يلح لك وجه الأصل المنبه عليه ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير
فصل
وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال
فيرد التخويف ويتسع مجاله لكنه لا يخلو من الترجية كما في سورة الأنعام فإنها جاءت مقررة للخلق ومنكرة على من كفر بالله واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه وصد عن سبيله وأنكر ما لا ينكر ولد فيه وخاصم (3/360)
وهذا المعنى يقتضى تأكيد التخويف وإطالة التأنيب والتعنيف فكثرت مقدماته ولواحقه ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق وقد تقدم الدعاء وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وانذارا ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية لأن درء المفاسد آكد
وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها وذلك في مواطن القنوط ومظنته كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة فنزلت فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط فجيء فيه بالترجية غالبة ومثل ذلك الآية الأخرى وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفامن الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما
ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب كان جانب التخويف أغلب وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا وقد مر لهذاالمعنى بسط في - كتاب المقاصد والحمد لله
فإن قيل هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر فيأتي التخويف من غير ترجية وبالعكس (3/361)
ألا ترى قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة إلى آخرها فإنها كلها تخويف وقوله كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إلى آخر السورة وقوله ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل إلى آخر السورة ومن الآيات قوله إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
وفي الطرف الآخر قوله تعالى والضحى والليل إذا سجى إلى آخرها وقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك إلى آخرهاومن الآيات قوله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى الآية وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو فقال ابن عباس أي آية أرجي في كتاب الله فقال عبد الله قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية فقال ابن عباس لكن قول الله وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال ابن عباس فرضى منه بقوله بلى قال فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان وعن ابن مسعود قال في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله إلى آخر الآية وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وعن ابن مسعود أن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية (3/362)
وقوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وقوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية وقوله ومن يعمل سواءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وأشياء من هذا القبيل كثيرة إذا تتبعت وجدت فالقاعدة لا تطرد وإنما الذى يقال أن كل موطن له ما يناسبه ولكل مقام مقال وهو الذي يطرد فى علم البيان أما هذا التخصيص فلا
فالجواب أن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم وعنه جوابان إجمالي وتفصيلي
فالإجمايى أن يقال إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية لأن الكلية إذا كانت أكثرية فى الوضعيات انعقدت كلية واعتمدت فى الحكم بها وعليها شأن الأمور العادية الجارية فى الوجود ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل يدل على الاستقراء فليس بقادح فيما تأصل
وأما التفصيلي فإن قوله ويل لكل همزة لمزة فضية عين فى رجل معين من الكفار بسبب أمر معين من همزة النبي عليه الصلاة و السلام وعيبه إياه فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح لا أنه أجرى مجرى التخويف (3/363)
فليس مما نحن فيه وهذا الوجه جار فى قوله إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله الآيتين جار على ما ذكر وكذلك سورة والضحى وقوله ألم نشرح لك صدرك غير ما نحن فيه بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة و السلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم قضية عين لأبي بكر الصديق نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبة المتصف بالمسكنة والهجرة ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ولكن أحب الله له معالى الأخلاق وقوله لا تقنطوا وما ذكر معها فى المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه بل النظر فى معاني آيات على استقلالها ألا ترى أن قوله لا تقنطوا من رحمة الله أعقب بقوله وأنيبوا إلى ربكم الآية وفي هذا تخويف عظيم مهيج للفرار من وقوعه وما تقدم من السبب فى نزول الآية يبين المراد وأن قوله لا تقنطوا رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف وقوله رب أرنى كيف تحيى الموتى فظر في معنى آية فى الجملة وما يستنبط منها وإلا فقوله أو لم تؤمن تقرير نيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنا فلما قال بلى حصل المقصود وقوله والذين إذا فعلوا فاحشة كقوله لا تقنطوا من رحمة الله وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله ولا تكن للخائنين خصيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله فمن يجادل (3/364)
الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا وقوله إن تجتنبوا آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك كأكل مال اليتيم والحيف في الوصية وغيرهما فذلك مما يرجى به تقدم التخويف وأما قوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة فقد أعقب بقوله يؤمئذ يود الذين كفروا وعصوا الآية وتقدم قبلها قوله الذين يبخلون إلى قوله عذابا مهينا بل قوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة جمع التخويف مع الترجية وكذا قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم فهو مما نحن فيه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية جامع للتخويف والترجيه من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة ولم يرد ابن مسعود بقوله ما يسرنى أن لي بها الدنيا وما فيها أنها آيات ترجية خاصة بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات قد احتوت على علم كثير وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين ولذلك قال ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن إجراؤه على البشارة والنذارة وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب وبالله التوفيق
فصل
ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم (3/365)
وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه
وهذا على الجملة فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة فجانب الخوف عليه أقرب وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب وبهذا كان عليه الصلاة و السلام يؤدب أصحابه ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوفوا وعوتبوا كقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة الآية فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب
المسألة الخامسة
تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه و سلم
ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى وأنزلنا (3/366)
الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه و سلم
ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وفي الحديث
ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وإنما الذي أعطى القرآن وأما السنة فبيان له وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن إنما بينتها السنة وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها (3/367)
وقوله وما آتاكم الرسول فخذوه متضمنا للسنة وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين متضمنا للإجماع وهذا أهم ما يكون وفي - الصحيح عن ابن مسعود قال
لعن الله الواشمات والمستوشمات الخ فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا فذكرته فقال عبد الله ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز و جل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا الحديث وعبد الله من العالمين بالقرآن (3/368)
فصل
فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة لأنه إذا كان كليا وفيه أمور كلية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر في بيانه وبعد ذلك ينظر فى تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة فإنهم أعرف به من غيرهم وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك والله أعلم
المسألة السادسة
القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شيء والدليل على ذلك أمور
منها النصوص القرآنيه من قوله اليوم أكملت لكم دينكم الآية وقوله ونزلنا عليك الكتاب تبيانا شيء وقوله ما فرطنا في الكتاب من شئ وقوله إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني الطريقة المستقيمة ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما فى الصدور ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء (3/369)
ومنها ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله عليه الصلاة و السلام
إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد الخ فكونه حبل الله بإطلاق والشفاء النافع إلى تمامه دليل على كمال الأمر فيه ونحو هذا من حديث علي عن النبي عليه الصلاة و السلام وعن ابن مسعود
أن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وأن أدب الله القرآن وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت كان خلقه القرآن وصدق ذلك قوله وإنك لعلى خلق عظيم وعن قتادة ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان ثم قرأ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وعن محمد ابن كعب القرظي في قول الله تعالى إنا سمعنا مناديا ينادى للإيمان قال هو القرآن ليس كلهم رأي النبي صلى الله عليه و سلم وفي الحديث
يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة وعن عائشة أن من قرأ القرآن فليس فوقه أحد وعن عبد الله قال إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين وعن عبد الله بن (3/370)
عمر قال من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه وفي رواية عنه من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى
ومنها التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل وقال ابن حزم الظاهري كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل فى الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله حاش القراض فما وجدنا له أصلا فيهما ألبتة إلا آخر ما قال وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة وأصل الإجارة في القرآن ثابت وبين ذلك إقراره عليه الصلاة و السلام وعمل الصحابة به
ولقائل أن يقول إن هذا غير صحيح لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن وإنما وجدت في السنة ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة و السلام
لا ألفين أحدكم متكئا على أريكتة يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا ويصححه قول الله تعالى فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول الآية قال ميمون بن مهران الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إذا كان حيا فلما قبضه الله فالرد إلى سنته ومثله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا الآية يقال (3/371)
ما نزل إليهم وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول إن كانت السنة بيانا للكتاب ففي أحد قسميها فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وقيل لعلي بن أبي طالب هل عندكم كتاب قال لا إلا كتاب الله أو فهم أعطية رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قال قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله وهو خلاف ما أصلت
والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني وهو السنة بحول الله
ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن علي أنه قال الحمل ستة أشهر انتزاعا من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله (3/372)
وفصاله في عامين واستنباط مالك ابن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء من قوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية وقول من قال الولد لا يملك من قوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وقول ابن العربي إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا من قوله خلق الإنسان من علق واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرؤوس إلى جانب عند الإبايه والإيماء بها سفلا عند الإجابة أولى مما يفعله المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون الآية وكان أبو بكر الشبلي (3/373)
الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا فقال له ابن مجاهد أين في العلم إفساد ما ينتفع به فقال فطفق مسحا بالسوق والأعناق ثم قال الشبلي أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فسكت ابن مجاهد وقال له قل قال قوله وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه الآية وفي بعض هذه الاستدلالات نظر (3/374)
فصل
وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك وإلا فمراتب النظر فيها متعددة لعلها تذكر بعد في موضعها إن شاء الله تعالى وقد تقدم في القسم الأول من - كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد وهو أضعف وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه أو دينا يدان الله به فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم
المسألة السابعة
العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها وعلم والقراآت والناسخ والمنسوخ وقواعد أصول الفقه وما أشبه ذلك فهذا لا نظر فيه هنا
ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلةأنه وسيلةإلى فهم القرآن وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكي والمدني وعلم القراآت وعلم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى (3/375)
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه - بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الإتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة
وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها مع القطع بتحققهم بفهم القرآن يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه و سلم والجم الغفير فلينظر امرؤ اين يضع قدمه وثم أنواع أخر يعرفها من زوال هذه الأمور ولا ينبئك مثل خبير فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه
وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرها بل من جهة ما هو هو وذلك ما فيه من دلالة النبوة وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ولا سورة دون سورة ولا نمط منه دون آخر بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه الصلاة و السلام
ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة و السلام وفيها عجز الفصحاء اللسن والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو (3/376)
يداينه ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع لأنه كيفما تصور الإعجاز به فماهيته هي الدالة على ذلك فإلى أي نحو منه ملت دلك ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا وموضعه - كتب الكلام
وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى فى إنزاله وخطاب الخلق به
ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ويتبين صحة الأصل المذكور فى - كتاب الإجتهاد وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله
ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية
فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد
فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فجرت عادته فى خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل فإذا قامت الحجة عليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولكل جزاء مثله
ومنها الإبلاغ فى إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة و السلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية
ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان وإن استعجلوا به
ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التى يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحى من ذكره فى عادتنا كقوله تعالى أو لامستم النساء ومريم ابنة (3/377)
حتى إذا وضح السبيل فى مقطع الحق وحضر وقت التصريح بما ينبغى التصريح فيه فلا بد منه وإليه الإشارة بقوله إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها والله لا يستحي من الحق
ومنها التأنى فى الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم نجوما وهو في عشرين سنة حتى قال الكفار لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة فقال الله كذلك لنثبت به فؤادك وقال وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه وحين أبى من أبى الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا بالتغليظ بالدعاء فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة ووضحت المحجة واشتد أس الدين وقوى عضده بأنصار الله فلله الحمد كثيرا على ذلك
ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه وإن لم ينص عليها بالعبارة فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت فى القرآن فى الغالب إلا بيا المشيرة إلى بعد المنادى لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعى قرب الإجابة منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادى غير غافل عنه فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا ربنا ربنا كقوله ربنا لا تؤاخذنا (3/378)
ربنا تقبل منا رب إني نذرت لك ما فى بطني رب أرني كيف تحي الموتى ومنها كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد وإصلاحها فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان قائلا يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا وهو مقتضى ما يدعو به
وإنما أتى اللهم فى مواضع قليلة ولمعان اقتضتها الأحوال ومنها تقديم الوسيلة بين يدى الطلب كقوله إياك نعبد وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم الآية ربنا إننا آمنا ربنا آمنا بما أنزلت ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة الآية رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده إلى قوله ولا تزد الظالمين إلا تبارا وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير
ومن ذلك أشياء ذكرت فى - كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال والتخلق بالصفات تضاف إلى ما هنا وقد تقدم أيضا منه جملة في - كتاب المقاصد
والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ويصححها نصوص الآيات والأخبار (3/379)
وقسم هو المقصود الأول بالذكر وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها على حسب ما أداه اللسان العربي فيه وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول أحدها معرفة المتوجه إليه وهو الله المعبود سبحانه والثانى معرفة كيفية التوجه إليه والثالث معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود عبر عنه قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة هي المطلوب الأول غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها فإذا عرف ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه توجه الطلب إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد فجيء بالجنس الثاني ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف وأن الدنيا ليست بدار إقامة وإنما الإقامة فى الدار الآخرة
فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات لأنها الوسائط بين المعبود والعباد وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا ويتكمل بتقرير البراهين والمحاجة لمن جادل خصما من المبطلين
والثاني يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كل واحد منها من المكملات وهي أنواع فروض الكفايات وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به (3/380)
والثالث يدخل فى ضمنه النظر في ثلاثة مواطن الموت وما يليه ويوم القيامة وما يحويه والمنزل الذي يستقر فيه ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم وما أداهم إليه حاصل أعمالهم
وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة وثلاثة هي توابع ومتممة
فأما الثلاثة فهي تعريف المدعو إليه وهو شرح معرفة الله تعالى ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة والتزكية عن الأخلاق الذميمة وتعريف الحال عند الوصول إليه ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة
وأما الثلاثة الأخر فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة وذلك قصص خنه في الشريعة هو الأمر المعروف و النهي عن المنكر فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب بخلاف فروض الكفايات الأخرى كالولايات العامة والجهاد و تعليم العلم و إقامة الصناعات المهمة فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة هنا معنى الجمع و ليس المراد بكونه جامعها أنه كلى لها و أنها جزئيات مندرجة تحته فإنه لا يظهر (3/381)
الأنبياء والأولياء وسره الترغيب وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله وسره الترهيب والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائعة وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه وذكر النبي عليه الصلاة و السلام بما لا يليق به وادكار عاقبة الطاعة والمعصية وسره فى جنبة الباطل التحذير والإفضاح وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح والتعريف بعمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الأهبة والزاد ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء فى العبادات والعادات والمعاملات والجنايات وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة وهي ذكر الذات والصفات والأفعال والمعاد والصراط المستقيم وهو جانب التحلية والتزكية وأحوال الأنبياء والأولياء والأعداء ومحاجة الكفار وحدود الأحكام
المسألة الثامنة
من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وربما نقلوا فى ذلك بعض الأحاديث والآثار فعن الحسن مما أرسله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن وكل حرف حد وكل حد مطلع وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة والباطن هو الفهم عن الله لمراده لأن الله تعالى قال فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام كيف وهو منزل بلسانهم ولكن لم يحظوا بفهم مراد (3/382)
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فظاهر المعنى شيء وهم عارفون به لأنهم عرب والمراد شيء آخر وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الإتفاق وينزاح الإختلاف هو الباطن المشار إليه ولما قالوا فى الحسنة هذا من عند الله وفي السيئة هذا من عند رسول الله بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا لكن بين الوجه الذى يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله ما أصابك من حسنة فمن الله الآية وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبر قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين
أحدهما يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل
والآخر يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي
وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي والباطن هو (3/383)
مراد الله تعالى من كلامه وخطابه فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر فصحيح ولا نزاع فيه وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب فلا يكون ظنيا وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم فى سلك المراسيل وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله
وله أمثلة تبين معناه بإطلاق فعن ابن عباس قال كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال له عبد الرحمن بن عوف أتدخله ولنا بنون مثله فقال له عمر إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية إذا جاء نصر الله والفتح فقلت إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه إياه وقرأ السورة إلى آخرها فقال عمر والله ما أعلم منها إلا ما تعلم فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه وباطنها أن الله نعى إليه نفسه ولما نزل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية فرح الصحابة وبكى عمر وقال
ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة و السلام فما عاش بعدها إلا أحدا وثمانين يوما وقال تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت الآية قال الكفار ما بال العنكبوت والذباب يذكر فى القرآن ما هذا كلام الإله فنزل إن الله لا يستحي أن (3/384)
يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأخذوا بمجرد الظاهر ولم ينظروا في المراد فقال تعالى فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل وترك ما هو مقصود منها وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير ولما قال تعالى عليها تسعة عشر نظر الكفار إلى ظاهر العدد فقال أبو جهل فيما روى لا يعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية لما نزل القرآن الذى هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ناظره الكافر النضر بن الحرث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الإعتبار لباطن ما أنزل الله وقال تعالى في المنافقين لأنتم أشد رهبة فى صدورهم من الله وهذا عدم فقه منهم لأن من علم أن الله هو الذى بيده ملكوت كل شيء وأنه هو مصرف الأمور فهو الفقيه ولذلك قال تعالى ذلك بأنهم قوم لا يفقهون وكذلك قوله تعالى صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون لأنهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا
فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه وهو باطنه (3/385)
وبين ضائق في قوله وضائق به صدرك والفرق بين النداء بيا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء بيا أيها الناس أو بيا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم والعطف في قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث وكلاهما قد تقدم عليه وصف (3/386)
قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله ما أنت إلا بشر مثلنا وبين الآية الأخرى وما أنت إلا بشر مثلنا والفرق بين الرفع في قوله قال سلام والنصب فيما قبله من قوله قالوا سلاما والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله فإذا هم مبصورن أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن وكذلك قوله وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة (3/387)
بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون مع إتيانه بقوله فرحوا بعد إذا و يقنطون بعد إن وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي فقد حصل فهم ظاهر القرآن
ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة فقال الله تعالى وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية وقال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من انزاله فإذا عرفوا عجزهم عنه عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى
وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله
ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ومن ذلك أنه لما نزل من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال أبو الدحداح إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء ففهم أبي الدحداح هو الفقه وهو الباطن المراد وفي رواية قال أبو الدحداح يستقرضنا وهو غني فقال عليه الصلاة و السلام
نعم ليدخلكم (3/388)
لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وفي الأخرى قليلا ما تشكرون والشكر ضد الكفر فالإيمان وفروعه هو الشكر فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد فهو الذي فهم المراد من الخطاب وحصل باطنه على التمام وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط فهذا خارج عن المقصود وواقف مع ظاهر الخطاب فإن الله قال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ثم قال فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فالمنافق إنما فهم مجرد الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا وتركوا المقصود من ذلك وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة فإذا كانت الصلاة تشعر بالزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير عودا عليه بالمزيد فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك كيف يكون شاكرا للنعمة وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به حتى يجري على معنى قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هينئا مرئيا (3/389)
وتجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود اقتحم هذه المتاهات البعيدة
وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما قال الخوارج لعلي إنه حكم الخلق في دين الله والله يقول إن الحكم إلا لله وقالوا إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين فهو إذا أمير الكافرين وقالوا لابن عباس لا تناظروه فإنه ممن قال الله فيهم بل هم قوم خصمون وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله نجرى بأعيننا مما عملته أيدينا وهو السميع البصير والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر الخوراج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله يحكم به ذوا عدل منكم وقوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها لعلموا أن قوله إن الحكم إلا لله غير مناف لما فعله علي وأنه من جملة حكم الله فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده فكذلك ما كان مثله مما فعله علي ولو نظروا إلى أن محو الإسم من أمر لا يقتضى إثباته لضده لما قالوا إنه أمير الكافرين وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله ليس كمثله شئ في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين
وعلى الجملة فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه (3/390)
المسألة التاسعة
كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين وقال سبحانه ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ثم رد الحكاية عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم والبشر هنا حبر وكان نصرانيا فأسلم أو سلمان وقد كان فارسيا فأسلم أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم وقال تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك فدل على أنه عندهم عربي وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان الغربي
فإذا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل وقد مر في - كتاب المقاصد بيان هذا المعنى
والحمد لله
ومن امثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى هذا بيان للناس الآية وهو من الترهات بمكان مكين والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الإفتراء البارد ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم (3/391)
للناس كما يقال هذا زيد للناس ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى وإن يروا كسفا من السماء ساقطا الآية فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد كما تقول وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبيان بن سمعان هذا هو الذى تنسب إليه البيانية من الفرق وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن والكسف هو أبو منصور الذى تنسب إليه المنصورية
وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره وكان أحدهما يسمى بنصر الله والآخر بالفتح فكان يقول لهما أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال إذا جاء نصر الله والفتح قالوا وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى فبدل قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس بقوله كتامة خير أمةأخرجت للناس ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيصير المعنى إذا مت يا محمد ثم خلق هذان ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذى افتراه الشيعي قاتله الله
ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى (3/392)
وثلاث ورباع ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله قال حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يحرم شيئا غير لحمه ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس ومنهم من فسر الكرسي في قوله وسع كرسيه السموات والأرض بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو ولا بكرسئ علم الله مخلوق كأنه عندهم ولا يعلم علمه وبكرسئ مهموز والكرسي غير مهموز ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى أنه تخم من أكل الشجرة من قول العرب غوي الفصيل يغوي غوى إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد لأن غوي الفصيل فعل والذي في القرآن على وزن فعل ومنهم من قال في قوله ولقد ذرأنا لجهنم أي ألقينا فيها كأنه عندهم من قول الناس ذرته الريح وذرأ مهموز وذرا غير مهموز وفي قوله واتخذ الله إبراهيم خليلا أي فقيرا إلى رحمته من الخلة بفتح الخاء محتجين على ذلك بقول زهير وإن أتاه خليل يوم مسألة قال ابن قتيبة أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل موسى كليم الله وعيسى روح الله ويشهد له الحديث
لو كنت متخذ خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظة عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية والمعنى على ما علمت لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها (3/393)
فصل
وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان
أحدهما أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية
والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض
فأما الأول فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا
وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود إنه الإمام ورث النبي علمه
وقالوا في الجنابة إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الإستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام (3/394)
والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة النبي والباب على والصفا هو النبي والمروة على والتلبية إجابة الداعي والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة و السلام إلى تمام الأئمة السبعة والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ونار إبراهيم هو غضب نمروذ لا النار الحقيقية وذبح إسحق هو أخذ العهد عليه وعصا موسى حجته التى تلقفت شبه السحرة وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم والبحر هو العالم وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم والمن علم نزل من السماء والسلوى داع من الدعاة والجراد والقمل والضفادع سؤآلات موسى وإلزماته التى تسلطت عليهم وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين والجن الذين ملكهم سلمان باطنية ذلك الزمان
والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال وضحكة السامع نعوذ بالله من الخذلان قال القتبى وكان بعض أهل الأدب يقول ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل ... بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل ...
إنه في رجل منهم قيل له فما تقول أنت فيه قال البيت بيت الله وزرارة الحج قيل فمجاشع قال زمزم جشعت بالماء قيل فأبو الفوراس قال أبو قبيس قيل فنهشل قال نهشل أشده وصمت ساعة ثم قال نعم نهشل مصباح الكعبة لأنه طويل أسود فذلك نهشل انتهى ما حكاه (3/395)
فصل
وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل أو من قبيل الباطن الصحيح وهي منسوبة لأناس من أهل العلم وربما نسب منها إلى السلف الصالح
فمن ذلك فواتح السور نحو ألم و المص و حم ونحوها فسرت بأشياء منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ومنها ما ليس كذلك فينقلون عن ابن عباس أن الم أن ألف الله ولام جبريل وميم محمد صلى الله عليه و سلم وهذا إن صح في النقل فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي كما قال قلت لها قفي فقالت قاف وقال قالوا جميعا كلهم بلافا
وقال ولا أريد الشر إلا أن تا والقول في الم ليس هكذا وأيضا فلا دليل من خارج يدل عليه إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله لأنه من المسائل التى تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه
ولما لم يثبت شيء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه
وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية وهو أقرب من الأول كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله وهو أظهر الأقوال فهي من قبيل المتشابهات وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيها على مدة هذه الملة وفي السير ما يدل (3/396)
على هذا المعنى وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير
فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم بل إلى الإطلاع والكشف على حقائق الأمور حججا في دعاو ادعوها على القرآن وربما نسبوا شيئا من ذلك علي بن أبي طالب وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه وضرب بعضها ببعض ونسبتها إلى الطبائع الأربع وإلى أنها الفاعلة في الوجود وأنها مجمل كل مفصل وعنصر كل موجود ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعاو محالة على الكشف والإطلاع ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال كما أنه لا يعد دليلا في غيرها كما سيأتي بحول الله
فصل
ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا أي أضدادا قال وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء الطواعة إلى حظوظها (3/397)
ومنهيها بغير هدى من الله وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصل لكان المعنى فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين
إحداهما أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الإعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقار به لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته والنفس الأمارة هذا شأنها لأنها تأمر صاحبها (3/398)
بمراعاة حظوظها لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها وهذا هو الذى يعنى به الند في نده لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه وشاهد صحة هذا الإعتبار قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان فما حرموا عليه حرموه وما أباحوا لهم حللوه فقال الله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا شأن المتبع لهوى نفسه
والثانية أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ألا ترى أن عمر ابن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان أين تذهب بكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما أنزلت في الكفار لقوله ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله فلا تجعلوا لله أندادا والله أعلم
فصل
ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة قال لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد معنى مساكنة (3/399)
الهمة لشيء هو غيره أي لا تهتم بشيء هو غيري قال فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه عليه إلا أن يC فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها قال وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به
وهذا الذى ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ولم يرد النهي عن الأول تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به وأيضا فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ولأنه لم يقل به أحد وإنما النهي عن معنى في القرب وهو إما التناول والأكل وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل الأكل ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهى عنه فهذا التفسير له وجه ظاهر فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل (3/400)
من السكون لغير الله إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان وذلك الخلد المدعى أضاف الله إليه لفظ العصيان ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم
ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس الآية باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه و سلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته وهذا التفسير يحتاج إلى بيان فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ولا يلائمه مساق بحال فكيف هذا والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن فزال الإشكال إذا
وبقي النظر في هذه الدعوى ولا بد إن شاء الله من بيانها
ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى يؤمنون بالجبت والطاغوت قال رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية وهو أيضا من قبيل ما قبله وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا
وقال في قوله تعالى والجار ذى القربى الآية أما باطنها فهو القلب والجار الجنب النفس الطبيعي والصاحب بالجنب العقل المقتدى بعمل الشرع وابن السبيل الجوراح المطيعة لله عز و جل وهو من المواضع المشكة (3/401)
في كلامه ولغيره مثل ذلك أيضا وذلك أن الجاري على مفهموم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء وغير ذلك لا يعرفه العرب لا من آمن منهم ولا من كفر والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ولا هم أعرف بالشريعة منهم ولا أيضا ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير لا من مساق الآية فإنه ينافيه ولا من خارج إذ لا دليل عليه كذلك بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم
وقال في قوله صرح ممرد من قوارير الصرح نفس الطبع والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهوى بالترك من الله تعالى العصمة لعبده وفي قوله فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أي قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه وقد علموا أنهم مأمورون منهيون والبيوت القلوب فمنها عامرة بالذكر ومنها خراب بالغفلة عن الذكر وفي قوله فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها قال حياة القلوب بالذكر وقال في قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر الآية مثل الله القلب بالبحر والجوارح بالبر ومثله أيضا بالأرض التى تزهى بالنبات هذه باطنه
وقد حمل بعضهم قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله ونقل في قوله تعالى فاخلع نعليك أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة فذكر عن الشبلي أن معنى اخلع نعليك اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية وعن ابن عطاء اخلع نعليك عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب وقال (3/402)
النعل النفس والوادي المقدس دين المرء أي حال وقت خلوك من نفسك والقيام معنا بدينك وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف
وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ولقد قال الصديق أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم وفي الخبر من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ وما أشبه ذلك من التحذيرات وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافة فربما كذب به أو أشكل عليه ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى أنه تقول وبهتان مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي
المسألة العاشرة
فنقول
الإعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر إذا صحت على كمال شروطها فهي على ضربين أحدهما ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات فإن الإعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه (3/403)
حجب الأكوان من غير توقف فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك والثاني ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها ويتبعه الإعتبار في القرآن
فإن كان الأول فذلك الإعتبار صحيح وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها لا بإطلاق وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم ولأن الإعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد فلا يخرجون عند الإعتبار فيه عن حدوده كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به لجريانه على مجاريه والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه فإنه كله جار على ما تقضي به العربية وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل
وإن كان الثاني فالتوقف عن إعتباره في فهم باطن القرآن لازم وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن فنقول
إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهى راجعة إلى الإعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح (3/404)
تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله فكون القلب جار ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي إلى سائر ما ذكر يصح تنزيله إعتباريا مطلقا فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ
وأيضا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الإعتبار القرآني والوجودي وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه ولا إعتبار بقول من لم يثبت إعتبار قوله من الباطنية وغيرهم وللغزالي في مشكات الأنوار وفي - كتاب الشكر من الإحياء وفي - كتاب جواهر القرآن في الإعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة فتأملها هناك والله الموفق (3/405)
فصل
وللسنة في هذا النمط مدخل فإن كل واحد منهما قابل لذلك الإعتبار المتقدم الصحيح الشواهد وقابل أيضا للاعتبار الوجودي فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة و السلام
لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلى غير ذلك من الأحاديث ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب
المسألة الحادية عشرة
المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل وإلا لم يصح والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمة دل على ذلك الاستقراء وذلك إنما يكون بيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصل أو تكميل ما لم يظهر تكميله
وأول شاهد على هذا أصل الشريعة فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام ويليه تنزيل سورة الأنعام فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين وقد خرج العلماء منها قواعد التوحيد التى صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة (3/406)
هذا ما قالوا وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة أو نقص منها أصل كلي
ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة وهي التى قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين حملتها وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها والجنايات من أحكام الدماء وما يليها وأيضا فإن حفظ الدين فيهاوحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها
وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه (3/407)
فصل
وللسنة هنا مدخل لأنها مبنية للكتاب فلا تقع في التفسير إلا على وفقه
وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث كما يتبين ذلك في القرآن أيضا ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ففهم منها يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات كحديث
من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة أو حديث
ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق وكان ما عارضها مؤولا عند هؤلاء وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر (3/408)
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلا وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه لقوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة
المسألة الثانية عشرة
ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والإعتدال وعليه أكثر السلف المتقدمين بل ذلك شأنهم وبه كانوا أفقه الناس فيه وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه
وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الإعتدال إما على الإفراط وإما على التفريط وكلا طرفي قصد الأمور ذميم
فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذى به جاء وهو العربية فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا كما تقدم عن الباطنية وغيرها ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء
والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا فى فهم معانيه من جهة أخرى وقد تقدم في - كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية وأن ما لم يكن معهودا عند العرب (3/409)
فلا يعتبر فيها ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات فى كلامها ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة فما وراء ذلك إن كان مقصودا لها فبالقصد الثاني ومن جهة ما هو معين على إدارك المعنى المقصود كالمجاز والاستعارة والكناية وإذا كان كذلك فربما لا يحتاج فيه إلى فكر فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف وذلك ليس من كلام العرب فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى وأيضا فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه
وذلك أنه إعذار وإنذار وتبشير وتحذير ورد إلى الصراط المستقيم فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد باذلا غاية الطاقة فى الموافقات هاربا بالكلية عن المخالفات وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ والمعنى المقصود فى الخطاب بمعزل عن النظر فيه
كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه فى العبارة بل التفقه فى المعبر عنه وما المراد به هذا لا يرتاب فيه عاقل
ولا يصح أن يقال إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه فى المعاني بإجماع العلماء فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره ولأن الاشتغال (3/410)
بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون الاشتغال بالمعنى المقصود لا ينكر فى الجملة والالزام ذم علم العربية بجميع أصنافه وليس كذلك باتفاق العلماء
لأنا نقول ما ذكرته فى السؤال لا ينكر بإطلاق كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه وإنما المنكر الخروج فى ذلك إلى حد الإفراط الذى يشك فى كونه مراد المتكلم أو يظن أنه غير مراد أو يقطع به فيه لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله فى كلامها ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة
فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة من أين فهمتم عنى أنى قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أو قولى قال إنى لعملكم من القالين فإن فى دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطرا بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم وإلى أنه قول فى كتاب الله بالرأي وذلك بخلاف الكناية فى قوله تعالى أو لامستم النساء وقوله كانا يأكلان الطعام وما أشبه ذلك (3/411)
فإنه شائع في كلام العرب مفهوم من مساق الكلام معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة والتجنيس ونحوه ليس كذلك وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه إذ ليس فى التجنيس ذلك والشاهد على ذلك ندوره من العرب الأجلاف البوالين على أعقابهم كما قال أبو عبيدة ومن كان نحوهم وشهرة الكناية وغيرها ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا فى كلام المولدين ومن لا يحتج به فالحاصل أن لكل علم عدلا وطرفا إفراط وتفريط والطرفان هما المذمومان والوسط هو المحمود
المسألة الثالثة عشرة
مبنية على ما قبلها
فإنه إذا تعين أن العدل فى الوسط فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا والإحالة (3/412)
على مجهول لا فائدة فيه فلا بد من ضابط يعول عليه فى مأخذ الفهم
والقول فى ذلك والله المستعان أن المساقات تختلف بإختلاف الأحوال والأوقات والنوازل وهذا معلوم فى علم المعاني والبيان فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة فى شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع فى فهم المكلف فإن فرق النظر فى أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان (3/413)
العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود المتكلم فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد فعليه بالتعبد به
وقد يعينه على هذا المقصد النظر فى أسباب التنزيل فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر
غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدا بكل اعتبار بمعنى أنه أنزل فى قضية واحدة طالت أو قصرت وعليه أكثر سور المفصل وتارة يكون متعددا في الاعتبار بمعنى أنه أنزل فى قضايا متعددة كسورة البقرة وآل عمران والنساء واقرأ باسم ربك وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئا بعد شئيء
ولكن هذا القسم لها اعتباران اعتبار من جهة تعدد القضايا فتكون كل قضية مختصة بنظرها ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول فلا فرق بينهما فى التماس العلم والفقه
واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ويشترك معه أيضا القسم الأول لأنه نظم ألقي بالوحي
وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه (3/414)
الإعجاز وبعض مسائل نبه عليها فى المسألة السابقة قبل وجميع ذلك لا بد فيه من النظر فى أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود كما أن الاقتصار على بعض الآية فى استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها
فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فبه يبين ما تقدم فقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبنى إلا عليها ثم جاء قوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية كلاما آخر بين أحكاما أخر
وقوله يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وانتهى الكلام على قول طائفة وعند أخرى أن قوله وليس البر بأن تأتوا البيوت الآية (3/415)
وقوله تعالى إنا أعطيناك الكوثر نازلة فى قضية واحدة
وسورة اقرأ نازلة فى قضيتين الأولى إلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم والأخرى ما بقي إلى آخر السورة
وسورة المؤمنين نازلة فى قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى
أحدها تقرير الوحدانية لله الواحد الحق غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار فى وقائع مختلفة من كونه مقربا إلى الله زلفى أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة
والثاني تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعا صادق فيما جاء به من عند الله إلا أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم
والثالث إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر
فهذه المعانى الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة فى عامة الأمر
وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها فى محصول الأمر ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك (3/416)
فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنين الباقين وإنهم إنما انكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن جاءت فكانت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى فافتتحت السورة بثلاث جمل
إحداها وهي الآكد فى المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التى إذا اتصف بها رفعة الله وأكرمه وذلك قوله قد أفلح المؤمنون إلى قوله هم فيها خالدون
والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذى حصل له جاريا على مجارى الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا
والثالثة بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة وأن ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما
وكفى بهذا تشريفا وتكريما
ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ففي قصة نوح مع قومه قولهم ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم أي من البشر لا من الملائكة فقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ثم قالوا إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا أي هو من البشر ثم قال تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فقوله رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملائه بقولهم أنؤمن لبشرين مثلنا (3/417)
الخ هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية تسلية لمحمد عليه الصلاة و السلام ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر يأكلون ويشربون كجميع الناس والاختصاص أمر آخر من الله تعالى فقال بعد تقرير رسالة موسى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان ثم قال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات أي هذا من نعم الله عليكم والعمل الصالح شكر تلك النعم ومشرف للعامل به فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة وقوله وأن هذه أمتكم أمة واحدة إشارة إلى التماثل بينهم وأنهم جميعا مصطفون من البشر ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله هم لها سابقون
وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية استكبارا من أشرافهم وعتوا على الله ورسوله فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول فى أطوار العدم وغاية الضعف فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف وأصله العدم فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله فى النشأة والخلق فهذا كله كالتنكيت عليهم والله أعلم ثم ذكر القصص فى قوم نوح فقال الملأ الذين كفروا من قومه والملأ هم الأشراف وكذلك فيمن بعدهم وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم الآية وفي قصة موسى أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم فى قومهم قالوا هذا الكلام ثم قوله (3/418)
أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين فرد عليهم بأن الذى يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ثم رجعت الآيات إلى وصفهم فى ترفهم وحال مآلهم وذكر النعم عليهم والبراهين عل صحة النبوة وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ونفى الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف لكن على منهاجه وطريقه ومن أراد الاختبار فى سائر سور القرآن فالباب مفتوح والتوفيق بيد الله فسورة المؤمنين قصة واحدة فى شيء واحد
وبالجملة فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة و السلام وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال والجميع حق واقع لا إشكال فى صحته وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذى فى النظر فى القرآن لمن أراد فهم القرآن والله المستعان (3/419)
فصل
وهل للقرآن مأخذ فى النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد لا بحسبه فى نفسه فإن كلام الله فى نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار حسبما تبين فى علم الكلام وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد تنزيلا لما هو من معهودهم فيه هذا محل احتمال وتفصيل
فيصح فى الاعتبار أن يكون واحدا بالمعنى المتقدم أي يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما وذلك أنه يبين بعضه بعضا حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار
ويصح أن لا يكون كلاما واحدا وهو المعنى الأظهر فيه فإنه أنزل سورا مفصولا بينها معنى وابتداء فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول بسم الله الرحمن الرحيم فى أول الكلام وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للإفهام وذلك لا إشكال فيه (3/420)
المسألة الرابعة عشرة
إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضا ما يقتضى إعماله وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل في شيء من القرآن أي سماء تظلنى وأي أرض تقلنى إن أنا قلت فى كتاب الله ما لا أعلم وربما روى فيه إذا قلت فى كتاب الله برأيي ثم سئل عن الكلالة المذكورة فى القرآن فقال لا أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه فى القرآن وهما لا يجتمعان
والقول فيه أن الرأي ضربان
أحدهما جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور أحدها أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها وذلك غير ممكن لا بد من القول فيه بما يليق
والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه و سلم مبينا ذلك كله بالتوقيف فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول والمعلوم أن عليه الصلاة و السلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم فى جميع تفسير القرآن التوقيف
والثالث أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح
والرابع أن هذا الفرض لا يمكن لأن النظر فى القرآن من جهتين من جهة (3/421)
الأمور الشرعية فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا ومن جهة المآخذ العربية وهذا لا يمكن فيه التوقيف والإ لزم ذلك فى السلف الأولين وهو باطل فاللازم عنه مثله وبالجملة فهو أوضح من إطناب فيه
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال كما كان مذموما في القياس أيضا حسبما هو مذكور فى - كتاب القياس لأنه تقول على الله بغير برهان فيرجع إلى الكذب على الله تعالى وفي وهذا القسم جاء من التشديد فى القول بالرأي فى القرآن ما جاء كما روى عن ابن مسعود
ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق وعن عمر بن الخطاب
إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه وعن عمر أيضا
ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله وفاكهة وأبا فقال أي سماء تظلنى الحديث وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال له ابن عباس فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال الرجل إنما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله فى كتابه الله أعلم بهما نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال أنا لا أقول فى القرآن شيئا وسأله رجل عن آية فقال لا تسألنى عن القرآن وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعنى عكرمة وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك وقال ابن سيرين سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال اتق الله وعليك (3/422)
بالسداد فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعن مسروق قال اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله وعن إبراهيم قال كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه وعن هشام بن عروة قال ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله وإنما هذا كله توق وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم والقول فيه من غير تثبت وقد نقل عن الأصمعي وجلالته فى معرفة كلام العرب معلومة أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله وإذا سئل عن ذلك لم يجب انظر الحكاية عنه في - الكامل للمبرد
فصل
فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء
منها التحفظ من القول فى كتاب الله تعالى إلا على بينة فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات
إحداها من بلغ فى ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم
وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا فى العلم والفهم مثلهم وهيهات
والثانية من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم فهذا طرف لا إشكال فى تحريم ذلك عليه
والثالثه من شك فى بلوغه مبلغ أهل الإجتهاد أو ظن ذلك فى بعض علومه دون بعض فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه لأن الأصل عدم العلم فعند ما يبقى له شك أو تردد فى الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب (3/423)
الدليل الثاني السنة ويتعلق بها النظر في مسائل
المسألة الأولى
يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي صلى الله عليه و سلم على الخصوص مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز بل إنما نص عليه من جهته عليه الصلاة و السلام كان بيانا لما في الكتاب أولا (4/3)
ويطلق أيضا في مقابلة البدعة فيقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه و سلم كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولا ويقال فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة وإن كان العمل بمقتضى الكتاب
ويطلق أيضا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم فإن إجماعهم إجماع وعمل خلفائهم راجع أيضا إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر (4/4)
المصلحي عندهم فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان كما فعلوا في حد الخمر وتضمين الصناع وجمع المصحف وحمل الناس (4/5)
على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة وتدوين الدواوين وما أشبه ذلك ويدل على هذا الإطلاق قوله عليه الصلاة و السلام
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه قوله عليه الصلاة و السلام وفعله وإقراره وكل (4/6)
ذلك إما متلقي بالوحي أو بالإجتهاد بناء على صحة الاجتهاد في حقه وهذه ثلاثة والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار ولكن عد وجها واحدا إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم
المسألة الثانية
رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور أحدها أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة
والثاني أن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك فإن كان بيانا فهو ثان على المبين في الاعتبار إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب
والثالث ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ
بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي الحديث وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح (4/7)
إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم الخ وفي رواية عنه إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره وقد بين معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومثل هذا عن ابن مسعود
من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه و سلم الحديث وعن ابن عباس أنه كان إذا عن سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال به وهو كثير في كلام السلف والعلماء
وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار
فإن قيل هذا مخالف لما عليه المحققون
أما أولا فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر فتأتي السنة بتعيين أحدهما فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى الكتاب وأيضا فقد يكون ظاهر (4/8)
الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره وهذا دليل على تقديم السنة
فتخرجه عن ظاهره وهذا دليل على تقديم السنة وحسبك أنها تقيد مطلقة وتخص عمومه وتحمله على غير ظاهرة حسبما هو مذكور في الأصول فالقرآن آت بقطع كل سارق فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا فخصته بأموال مخصوصة وقال تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم
فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم للسنة عليه ومثل ذلك لا يحصى كثرة
وأما ثانيا فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول هل يقدم الكتاب على السنة أم بالعكس أم هما متعارضان
وقد تكلم الناس في حديث معاذ ورأوا أنه على خلاف الدليل فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ولذلك وقع الخلاف وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب فإذا كان الأمر على هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب بل المتبع الدليل
فالجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب بل أن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ودل على ذلك قوله (4/9)
لتبين للناس ما نزل إليهم فإذا حصل بيان قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بأن القطع من الكوع وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله فذلك هو المعنى المراد من الآية لا أن نقول إن السنة اثبتت هذه الأحكام دون الكتاب كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه فلا يصح لنا أن نقول إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة و السلام وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله احتماله وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه
وأما خلاف الأصوليين في التعارض فقد مر في أول كتاب الأدلة أن (4/10)
خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإلا فالتوقف وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي وتبين معنى هذا الكلام هنالك فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيين فيرجع إلى ذلك وخرج عن معارضة كتاب مع سنة وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق
وأيضا فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضى بتواتره إلى زمان الواقعة فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ولا كبير جدوى فيه والله أعلم (4/11)
المسألة الثالثة
السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره
وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك لأن الله قال وإنك لعلى خلق عظيم وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن واقتصرت في خلقه على ذلك فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن لأن الخلق محصور (4/12)
أكملت لكم دينكم وهو يريد بإنزال القرآن فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه وذلك معنى كونها راجعة إليه وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام
فإن قيل هذا غير صحيح من أوجه
أحدها أن الله تعالى قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية والآية نزلت في قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير بالسقى قبل الأنصاري من شراج الجرة الحديث مذكور في الموطأ وذلك ليس في كتاب الله تعالى ثم جاء في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله (4/13)
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد موته وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله وقال فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة الآية فقد اختص الرسول عليه الصلاة و السلام بشئ يطاع فيه وذلك السنة التي لم تأت في القرآن وقال ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقال وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وأدلة (4/14)
القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن فلا بد أن يكون زائدا عليه
والثاني الأحاديث الدالة على ذم ترك السنة واتباع الكتاب إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال كما روى أنه عليه الصلاة و السلام قال
يوشك بأحدكم أن يقول هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه ألا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه وعنه أنه قال
يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل الذي حرم الله وفي رواية
لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من (4/15)
أمري بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب
والثالث أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وهو الذي نبه عليه حديث علي ابن أبي طالب حيث قال فيه
ما عندنا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم وما في هذه الصحيفة وفي حديث آخر عن علي أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال
والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا أسنان الإبل وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا (4/16)
ولا عدلا وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وجاء في حديث معاذ
بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وما في معناه مما تقدم ذكره وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن وهو نحو قول من قال من العلماء ترك الكتاب موضعا للسنة وتركت السنة موضعا للقرآن
والرابع أن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شئ فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله فقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم
أن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان القرآن واللبن فأما القرآن فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين وأما اللبن فيتبعون الريف يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات وفي بعض الأخبار عن عمر بن الخطاب
سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالأحاديث فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله وقال أبو الدرداء
إن مما (4/17)
أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وعن عمر
ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود
ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق وعن عمر
إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح السنن وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي صلى الله عليه و سلم
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وما في معناه فإن كثيرا من أهل البدع هكذا فعلوا اطرحوا الأحاديث وتأولوا كتاب الله على غير تأويله فضلوا وأضلوا
وربما ذكروا حديثا يعطى أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى وذلك ما روى أنه عليه الصلاة و السلام قال
ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله قال عبد الرحمن ابن مهدي الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث قالوا وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه و سلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم فقالوا (4/18)
نحن نعرضه على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال هذا مما يلزم القائل إن السنة راجعة إلى الكتاب ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين كما كان ذلك فيمن تقدم فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم أعاذنا الله من ذلك بمنه
فالجواب أن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم
أما الأوجه الأول فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب فلا بد أن تكون بيانا لما في الكتاب احتمال له ولغيره فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه وأطاع رسوله في مقتضى بيانه ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه وعصى رسوله في مقتضى بيانه فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق وإذا لم يلزم ذلك لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب بل قد يجتمعان في المعنى ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين ولا محال فيه ويبقى النظر في وجود ما حكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم في القرآن يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى وقوله في السؤال فلا بد أن يكون زائدا عليه مسلم ولكن (4/19)
هذا الزائد هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحا أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب هذا محل النزاع
وعلى هذا المعنى يتنزل الوجه الثاني
وأيضا فإذا كان الحكم في القرآن إجماليا وهو في السنة تفصيلي فكأنه ليس إياه فقوله أقيموا الصلاة أجمل فيه معنى الصلاة وبينه عليه الصلاة و السلام فظهر من البيان ما لم يظهر من المبين وإن كان معنى البيان هو معنى المبين ولكنهما في الحكم يختلفان ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان التوقف وفي البيان العمل بمقتضاه فلما اختلفا حكما صار كإختلافهما معنى فاعتبرت السنة اعتبار المفرد عن الكتاب
وأما الثالث فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله
وأما الرابع فإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي وإطراحهم السنن لا من جهة أخرى وذلك أن السنة كما تبين توضح (4/20)
المحمل وتقيد المطلق وتخصص العموم فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير وهي الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل
وأما ما احتجوا به من الحديث فإن لم يصح في النقل فلا حجة به لأحد من الفريقين وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله فلا بد من النظر فيه فإن الحديث إما وحي من الله صرف وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة و السلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله لأنه عليه الصلاة و السلام ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه ألبتة فلا بد من الرجوع إلى الصواب والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس في مخالفة ولا موافقة بل لما يكون مسكوتا عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور فمعناه صحيح صح سنده (4/21)
أو لا وقد خرج في معنى هذا الحديث الطحاوي في كتابه في بيان مشكل الحديث عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري عن أبي حميد وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم وتند منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه وروى أيضا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل أن أبي بن كعب كان في مجلس فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت فلما فرغوا قال أي هؤلاء ما حديث بلغكم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده فصدقوا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن رسول الله لا يقول إلا الخير
وبين وجه ذلك الطحاوي بأن الله تعالى قال في كتابه إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية وقال مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية وقال وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع الآية فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه وكان ما يحدثون به عن النبي صلى الله عليه و سلم من جنس ذلك لأنه كله من عند الله ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث وإن كانوا بخلاف ذلك وجب التوقف لمخالفته ما سواه وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقا لا مخالفا في المعنى إذ لو (4/22)
خالف لما اقشعرت الجلود ولا لانت القلوب لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه وخرج الطحاوي أيضا عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة و السلام
إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ووجه ذلك أن المروى إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه لوجود معناه في ذلك وجب قبوله لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ إذ يصح تفسير كلامه عليه الصلاة و السلام للأعجمي بكلامه وإذا كان الحديث مخالفا يكذبه القرآن والسنة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله وهذا مثل ما تقدم أيضا والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات وأما إن لم تصح فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح (4/23)
ويحقق ذلك ما تقدم في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة ففي ذلك الموضع من أمثلة هذا الأصل في الموافقة والمخالفة جملة كافية وبالله التوفيق وإذا ثبت هذا بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة حتى صار متضمنا لكليتها في الجملة وإن كانت بيانا له في التفصيل وهي
المسألة الرابعة
فنقول وبالله التوفيق إن للناس في هذا المعنى مآخذ
منها ما هو عام جدا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية وممن أخذ به عبد الله بن مسعود فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت له بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول فقال لها عبد الله أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله قالت بلى قال فهو ذاك وفي رواية قال عبد الله
لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك انك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز و جل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا الحديث (4/24)
فخذوه دون قوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله إن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي ويشعر بذلك أيضا ما روى عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه فقال ائتني بأية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه وما آتاكم الرسول فخذوه الآية وروى أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس اتركهما فقال إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله قال وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وروى عن الحكم ابن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال هن أحرار
قلت بأي شيء قال بالقرآن قلت بأي شيء في القرآن قال قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وكان عمر من أولي الأمر قال عتقت ولو بسقط وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة
ومنها الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو (4/25)
لواحقه أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى وبيان أحكام الصوم ومما فيه ما لم يقع النص عليه في الكتاب وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن وهو الذى يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
وقد روى عن عمران بن حصين أنه قال لرجل إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحضره جبريل بالسنة التى تفسر ذلك قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر يريد أنها تقضى عليه وتبين المراد منه وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه
فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى (4/26)
ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهى الضروريات ويلحق بها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام
فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان وهى الإسلام والإيمان والإحسان فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وهى الدعاء إليه بالترغيب والترهيب وجهاد من عانده أو رام إفساده وتلافي النقصان الطارئ في أصله وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان وهى إقامة أصله بشرعية التناسل وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب وذلك ما يحفظه من داخل والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من (4/27)
خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وذلك حفظه عن وضعه فى حرام كالزنى وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحد والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم وأصوله في القرآن والسنة بينتها وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان وهو (4/28)
في القرآن والسنة وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده وهو في القرآن
ومكملة شرعية الحد أو الزجر وليس في القرآن له أصل على الخصوص فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا فبقى الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد فيحصل المراد أيضا
وإذا نظرت الى الحاجيات وكذلك التحسينيات
وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء
والاستقراء يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه
ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق (4/29)
فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب وفى الصوم بالفطر في السفر والمرض وكذلك سائر العبادات فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها والسنة أول قائم بذلك
وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية
وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك
وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي (4/30)
لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه فرجع إلا تفسير ما أجمل من الكتاب وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه
وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات (4/31)
وآداب الرفق في الصيام وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان من عدم التضييق على الزوجة وبسط الرفق في المعاشرة وما أشبه ذلك وبالنسبة إلى المال كأخذه من غير إشراف نفس والتورع في كسبه واستعماله والبذل منه على المحتاج وبالنسبة إلى العقل كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها بناء على أن قوله تعالى فاجتنبوه يراد به المجانبة بإطلاق فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح وإنما المقصود هنا التنبيه والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه وبالله التوفيق
ومنها النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع وهو المبين في دليل القياس
ولنبدأ بالأول
وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني وتبقى الواسطة على اجتهاد والتباين لمجاذبة الطرفين إياها فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة فيأتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه البيان وأنه لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي أو غيره وهذا هو المقصود هنا (4/32)
ويتضح ذلك بأمثلة
أحدها أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث وبقى بين هذين الأصليين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما فبين عليه الصلاة و السلام في ذلك ما اتضح به الأمر فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وقال إنها ركس وسئل ابن عمر عن القنفذ قال
كل وتلا قل لا أجد فيما أوحى إلي الآية فقال له إنسان إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم ويقول هو خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن قاله النبي صلى الله عليه و سلم فهو كما قال وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة و السلام عن أكل الجلالة وألبانها وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهى العهدة فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث كما ألحق عليه الصلاة و السلام الضب والحباري والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات
والثاني أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل وأشباهها وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة (4/33)
والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر وهو نبيذ الدباء والمزفت والنقير وغيرها فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا سدا للذريعة ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل فقال عليه الصلاة و السلام
كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام وبقى في قليل المسكر على الأصل من التحريم فبين أن
ما أسكر كثيره فقليله حرام وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما
فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين فكان البيان من رسول الله صلى الله عليه و سلم يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين
والثالث أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه فدار بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك فتعارض الأصلان فجاءت السنة ببيان ذلك فقال عليه الصلاة و السلام
فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن (4/34)
يكون إنما أمسكه على نفسه وفي حديث آخر
إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك وجاء في حديث آخر
إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه الحديث وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين
والرابع أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء وأبيح للحلال مطلقا فمن قتله فلا شيء عليه فبقى قتله خطأ في محل النظر فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ قال الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد وهو في الخطأ سنة والزهري من أعلم الناس بالسنن
والخامس أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام فبين صاحب السنة صلى الله عليه و سلم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل فالأول قوله
الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات الحديث ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة
واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه بعتبة الحديث (4/35)
وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد
فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل لا تدري لعله قتله الذي ليس منها وقال في بئر بضاعة وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات
خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة وجاء في الصيد
كل ما أصميت ودع ما أنميت وقال في حديث عقبة بن الحرث في الرضاع إذا أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته والمرأة التى أراد تزوجها قال فيه
كيف بها وقد (4/36)
زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة
والسادس أن الله عز و جل حرم الزنى وأحل التزويج وملك اليمين وسكت عن النكاح المخالف للمشروع فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض فجاء في السنة ما بين الحكم في بعض الوجوه حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا أو في بعض الأحوال وبالأصل الآخر في حال آخر فجاء في الحديث
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة
والسابع أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها فقال عليه الصلاة و السلام
هو الطهور مآؤه الحل ميتته وروى في بعض الحديث (4/37)
أحلت ميتتان الحيتان والجراد وأكل عليه الصلاة و السلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة
والثامن أن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى آخر الآية
هذا في العمد وأما الخطأ فالدية لقوله فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وبين عليه الصلاة و السلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته فبينت السنة فيه أن ديته الغرة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له
والتاسع أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين فاحتملهما فقال في الحديث
ذكاة الجنين ذكاة (4/38)
أمه ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال
والعاشر أن الله قال فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فبقيت البنتان مسكوتا عنهما فنقل في السنة حكمهما وهو إلحاقهما بما فوق البنتين ذكره القاضي إسماعيل
فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها فإنه أمر واضح لمن تأمل وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما أو إليهما معا فيأخذ من كل منهما بطرف فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما
وأما مجال القياس فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها فيجتزى بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصا في حكم العام معنى وقد (4/39)
مر في كتاب الأدلة بيان هذا المعنى فإذا كان كذلك ووجدنا في الكتاب أصلا وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه فهو المعنى ههنا
وسواء علينا أقلنا إن النبي صلى الله عليه و سلم قاله بالقياس أو بالوحي إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة وله أمثلة
أحدهما أن الله عز و جل حرم الربا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه إنما البيع مثل الربا هو فسخ الدين في الدين يقول الطالب إما أن تقضي وإما أن تربى وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم (4/40)
لا تظلمون ولا تظلمون فقال عليه الصلاة و السلام
وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله وإذا كان كذلك وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى فقال عليه الصلاة و السلام
الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ثم زاد على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف وعده من الربا لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا وذلك لأن بيع هذا الجنس (4/41)
بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة ويبقى النظر لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما محل نظر يخفي وجهه على المجتهدين وهو من أخفى الأمور التى لم يتضح معناها إلى اليوم فلذلك بينتها السنة إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس فتأمله (4/42)
والثاني أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن وأحل لكم ما وراء ذلكم فجاء نهيه عليه الصلاة و السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا وقد يروى في هذا الحديث
فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم والتعليل يشعر بوجه القياس
والثالث أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء وأنه أسكنه في الأرض ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه
الطهور ماؤه الحل ميتته
والرابع أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن ولم يذكر ديات الأطراف وهى مما يشكل قياسها على العقول فبين الحديث من دياتها ما وضح به السبيل وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه
والخامس أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة من النصف والربع والثمن والثلث والسدس ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث الآية وقوله في الأولاد للذكر (4/43)
مثل حظ الأنثيين وقوله في آية الكلالة وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقوله وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فاقتضى أن ما بقى بعد الفرائض المذكورة فللعصبة وبقى من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين كالجد والعم وابن العم وأشباههم فقال عليه الصلاة و السلام
ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فهو لأولى رجل ذكر وفي رواية
فلأولى عصبة ذكر فأتى هذا على ما بقى مما يحتاج إليه بعد ما نبه الكتاب على أصله
والسادس أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله وأمهاتكم اللآتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة فألحق النبي صلى الله عليه و سلم بهاتين سائر القرابات من الرضاعة التى يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك وجهة إلحاقها هى جهة الإلحاق بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق نصت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي عليه الصلاة و السلام في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد فقال عليه الصلاة و السلام
إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب (4/44)
وسائر ما جاء في هذا المعنى ثم ألحق بالإناث الذكور لأن اللبن للفحل ومن جهة در المرأة فإذا كانت المرأة بالرضاع فالذي له اللبن أم بلا إشكال
والسابع أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم فقال رب اجعل هذا بلدا آمنا وقال تعالى أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وذلك حرم الله مكة فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها فقال
إني أحرم ما بين لابتى المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها وفي رواية
ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء وفي حديث آخر (4/45)
فمن أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ومثله في صحيفة على المتقدمة فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة وقد جاء فيها قوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام إلى قوله ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم وارتكاب المنهيات على تنوعها حسبما فسرته السنة فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى
والثامن أن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل وظهر به ضعف شهادتهن ونبه على ذلك في قوله
ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه أن تضل إحداهما فتدكر إحداهما الأخرى دل عل انحطاطهن عن درجة الرجل فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد فقضى عليه الصلاة و السلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس إلا أنه يخفى فبينته السنة
والتاسع أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله وذكر الإجارة في بعض الأشياء كالجعل المشار إليه في قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير والإجارة على (4/46)
القيام بمال اليتيم في قوله ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى والعاملين عليها وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك كثيرا ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع ولا علينا أقصد النبي عليه الصلاة و السلام القياس على الخصوص أم لا لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان
والعاشر أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين وكانت رؤيا صادقة ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا فبين النبي صلى الله عليه و سلم أحكام ذلك وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة وأنها من المبشرات وأنها على أقسام إلى غير ذلك من أحكامها فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم وهو المعنى الذي في القياس والأمثلة في هذا المعنى كثيرة
ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد فيعلم أو يظن أن ذلك (4/47)
المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله عليه الصلاة و السلام
لا ضرر ولا ضرار من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث فلا معنى للإعادة ومنها النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن وإن كان (4/48)
في السنة بيان زائد ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى أو منصوصا عليه في القرآن ولمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته
وله أمثلة كثيرة
أحدها حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهى حائض فقال عليه الصلاة و السلام لعمر
مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء يعني أمره في قوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن
والثاني حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة إذ طلقها ألبتة وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة لأنها بذت على أهلها بلسانها فكان ذلك تفسيرا لقوله ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة
والثالث حديث سبيعة الأسلمية إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فأخبرها عليه الصلاة و السلام أن قد حلت فبين الحديث أن قوله تعالى والذين (4/49)
يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا مخصوص في غير الحامل وأن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقات وغيرهن
والرابع حديث أبي هريرة في قوله
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قالوا حبة في شعرة يعني عوض قوله وقولوا حطة
والخامس حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال نبدأ بما بدأ الله به وقرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله
والسادس حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى وقال ربكم ادعونى أستجب لكم قال الدعاء هو العبادة وقرأ الآية إلى قوله داخرين
والسابع حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال لي النبي صلى الله عليه و سلم (4/50)
إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل
والثامن حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
صلاة الوسطى صلاة العصر وقال يوم الأحزاب
اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس
والتاسع حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة و السلام
إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز
والعاشر حديث أنس في الكبائر قال عليه الصلاة و السلام فيها
الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر وجميعها تفسير لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية (4/51)
وهذا النمط في السنة كثير
ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التى تستعملها العرب أو نحوها وأول شاهد في هذا الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التى خرج مسلم ابن الحجاج في كتابه المسند الصحيح دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب والله الموفق للصواب
فصل
وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التى قالوا إن القرآن لم ينبه عليها فقوله عليه الصلاة و السلام
يوشك رجل منكم متكئا على (4/52)
أريكته إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى وقوله
ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما حرم الله صحيح على الوجه المتقدم إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه وإما بالطريقة القياسية وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة
ومر الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وعن العقل
وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسي
وأما أن لا يقتل مسلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوله لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذه الآية أبعد ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها علي خارجة عن القرآن حيث قال
ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم لأن الله تعالى قال الحر بالحر والعبد بالعبد فلم يقد من الحر للعبد والعبودية من آثار الكفر فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر (4/53)
وأما إخفار ذمه المسلم فهو من باب نقض العهد وهو في القرآن وأقرب الآيات إليه قوله تعالى والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار وفي الآية الأخرى أولئك هم الخاسرون
وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن
وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء الذى هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء كما هو في الانتساب إلى غير الأب وقد قال تعالى فيها والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون وصدق هذا المعنى ما في الصحيح من قوله
أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم وفيه
إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة
وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه فهو (4/54)
مبين في السنة وإلا فالاجتهاد يقضي عليه وليس فيه معارضة لما تقدم
المسألة الخامسة
حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وإن السنة إنما جاءت مبينة له فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين
أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا لا نظر في أنه بيان له كما في قوله تعالى وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قال
دخلوا يزحفون على أوراكهم وفي قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم قال
قالوا حبة في شعرة وفي قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية قال
يدعى نوح فيقال هل بلغت فيقول نعم فيدعى قومه فيقال هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك (4/55)
قول الله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وفي قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس قال
إنكم تتبعون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله وفي قوله بل أحياء عند ربهم يرزقون
إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش إلى آخر الحديث وقال
ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وفي قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم الآية قال
لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك الحديث وفي قوله لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قال
يرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه وقال
الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وفي رواية
ما أنزل الله في التوراة (4/56)
والإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وسأله اليهود عن قول الله تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ففسرها لهم وحديث موسى مع الخضر ثابت صحيح وفي قوله تعالى فقال إنى سقيم قال
لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث قوله إني سقيم الحديث وقال
إنكم محشورون إلى الله غرلا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده الآية وفي قوله إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال
ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار الحديث وقال
إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار وأمثلة هذا الضرب كثيرة
والثاني أن لا يقع موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على موقع التكليف وإنما (4/57)
أنزل القرآن لذلك فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح كحديث أبرص وأقرع وأعمى وحديث جريج العابد ووفاة موسى وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم قبلنا مما لا يتبني عليه عمل ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني وهو نمط ربما يرجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي ومعدود في المكملات لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول والله أعلم
المسألة السادسة
السنة ثلاثة أنواع كما تقدم قول وفعل وإقرار بعد العلم والقدرة على الإنكار لو كان منكرا
فأما القول فلا إشكال فيه ولا تفصيل
وأما الفعل فيدخل تحته الكف عن الفعل لأنه فعل عند جماعة وعند كثير من الأصوليين أن الكف غير فعل وعلى الجملة فلا بد من الكلام على كل واحد منهما
فالفعل منه صلى الله عليه و سلم دليل على مطلق الإذن فيه ما لم يدل دليل على (4/58)
غيره من قول أو قرينة حال أو غيرهما والكلام هنا مذكور في الأصول ولكن الذي يخص هذا الموضع أن الفعل منه أبلغ في باب التأسي والامتثال من القول المجرد وهذا المعنى وإن كان محتاجا إلى بيان فقد ذكر ذلك في فصل البيان والإجمال و كتاب الاجتهاد من هذا الكتاب والحمد لله وأيضا فإنه وإن دل الدليل أو القرينة على خلاف مطلق الإذن فلا يخرج عن أنواعه فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب والمباح ففعله عليه الصلاة و السلام لا يخرج عن ذلك فهو إما واجب أو مندوب أو مباح وسواء علينا أكان ذلك في حال أم كان مطلقا فالمطلق كسائر المفعولات له والذي في حال كتقريره للزاني إذ أقر عنده فبالغ في الاحتياط عليه حتى صرح له بلفظ الوطء الصريح ومثله في غير هذا المحل منهي عنه فإنما جاز لمحل الضرورة فيتقدر بقدرها بدليل النهي عن التفحش مطلقا والقول هنا فعل لأنه معنى تكليفي لا تعريفي فالتعريفي هو المعدود في الأقوال وهو الذى يؤتى به أمرا أو نهيا أو إخبارا بحكم شرعي والتكليفي هو الذى لا يعرف بالحكم بنفسه من حيث هو قول كما أن الفعل كذلك
وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه وهو المكروه والممنوع فتركه (4/59)
عليه الصلاة و السلام دال على مرجوحية الفعل وهو إما مطلقا وإما في حال
فالمتروك مطلقا ظاهر والمتروك في حال كتركه الشهادة لمن نحل بعض ولده دون بعض فإنه قال
أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال فأشهد غيري فإني لا أشهد على جور وهذا ظاهر
وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم
منها الكراهية طبعا كما قال في الضب وقد امتنع من أكله
إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة ولا حرج فيه
ومنها الترك لحق الغير كما في تركه أكل الثوم والبصل لحق الملائكة وهو ترك مباح لمعارضة حق الغير ومنها الترك خوف الافتراض لأنه كان يترك العمل (4/60)
وهو يحب أن يعمل به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم كما ترك القيام في المسجد في رمضان وقال
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وقال لما أعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة ومنها الترك لما لا حرج في فعله بناء على أن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل كإعراضه عن سماع غناء الجاريتين في بيته وفي الحديث
لست من دد ولا دد مني والدد اللهو وإن كان مما لا حرج فيه فليس كل ما لا حرج فيه يؤذن فيه وقد مر الكلام فيه في كتاب الأحكام ومنها ترك المباح الصرف إلى ما هو الأفضل فإن القسم لم يكن لازما (4/61)
لأزواجه في حقه وهو معنى قوله تعالى ترجى من تشاء منهم وتؤوى إليك من تشاء الآية عند جماعة من المفسرين ومع ذلك فترك ما أبيح له إلى القسم الذى هو أخلق بمكارم أخلاقه وترك الانتصار ممن قال له اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ونهي من أراد قتله وترك قتل المرأة التي سمت له الشاة ولم يعاقب عروة بن الحرث إذ أراد الفتك به وقال من يمنعك مني الحديث ومنها الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب كما جاء في الحديث عن عائشة
لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض وفي رواية
لأسست البيت على قواعد إبراهيم ومنع من قتل أهل النفاق وقال
لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه
وكل هذه الوجوه قد ترجع إلى الأصل المتقدم (4/62)
أما الأول فلم يكن في الحقيقة من هذا النمط لأنه ليس بترك بإطلاق
كيف وقد أكل على مائدته عليه الصلاة و السلام
وأما الثاني فقد صار في حقه التناول ممنوعا أو مكروها لحق ذلك الغير
هذا في غير مقاربة المساجد وأما مع مقاربتها والدخول فيها فهو عام فيه وفي الأمة فلذلك نهى آكلها عن مقاربة المسجد وهو راجع إلى النهي عن أكلها لمن أراد مقاربته
وأما الثالث فهو من الرفق المندوب إليه فالترك هنالك مطلوب وهو راجع إلى أصل الذرائع إذا كان تركا لما هو مطلوب خوفا مما هو أشد منه فإذا رجع إلى النهي عن المأذون فيه خوفا من مآل لم يؤذن فيه صار الترك هنا مطلوبا
وأما الرابع فقد تبين فيه رجوعه إلى المنهي عنه
وأما الخامس فوجه النهي المتوجه على الفعل حتى حصل الترك أن الرفيع المنصب مطالب بما يقتضي منصبه بحيث يعد خلافه منهيا عنه وغير لائق به وإن لم يكن كذلك في حقيقة الأمر حسبما جرت به العبارة عندهم في قولهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إنما يريدون في اعتبارهم لا في حقيقة الخطاب الشرعي ولقد روى أنه عليه الصلاة و السلام كان بعد القسم على الزوجات وإقامة العدل على ما يليق به يعتذر إلى ربه ويقول
اللهم هذا عملي فيما أملك فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك يريد بذلك ميل القلب إلى (4/63)
بعض الزوجات دون بعض فإنه أمر لا يملك كسائر الأمور القلبية التى لا كسب للإنسان فيها أنفسها
والذي يوضح هذا الموضع وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام في حديث الشفاعة وفى اعتذار نوح عليه السلام عن أن يقوم بها بخطيئته وهى دعاؤه على قومه ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من أيمانهم قالوا وبعد قول الله له لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهذا يقضى بأنه دعاء مباح إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا إذ كان الأولى الإمساك عنه وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله
لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فعدها كذبات وإن كانت تعريضا اعتبارا بما ذكر
والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم في دليل الكتاب أن كل قضية لم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها فهي صحيحة صادقة فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه فقال وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي بل حكى أنه قال إنك إن تذرهم يضلوا عبادك الآية ومعلوم أنه عليه السلام لم يقل ذلك (4/64)
إلا بوحي من الله لأنه غيب وهو معنى قوله تعالى وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكذلك قال تعالى في إبراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب ولا مخالفة أمر ولا نهي ومثله قوله تعالى قال بل فعله كبيرهم هذا فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ولا إشارة إلى عتب بل جاء في الآية الأولى إذ جاء ربه بقلب سليم وهو غاية في المدح بالموافقة وهكذا سائر المساق إلى آخر القصة وفي الآية الأخرى قال ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إلى آخرها أفتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن الحق من غير زيادة فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق ومع ذلك فقد قال محمد صلى الله عليه و سلم
لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره وكذلك نوح فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل مخالفة أمر الله بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة فكذلك قصة محمد عليه الصلاة و السلام في مسألة القسم وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه ولولا الإطالة لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء عليهم السلام ما ينشرح له الصدر وتطمئن إلى بيانه النفس مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية والله المستعان وفي آخر فصل الأوامر والنواهي أيضا مما يتمهد به هذا الأصل وقد حصل من المجموع أن الترك هنا راجع إلى ما يقتضيه النهي لكن النهي الاعتباري (4/65)
وأما السادس فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب تعارض مفسدتين إذ يطلب الذهاب إلى الراجح وينهى عن العمل بالمرجوح
والترك هنا هو الراجح فعمل عليه
فصل
وأما الإقرار فمحمله على أن لا حرج في الفعل الذي رآه عليه السلام فأقره أو سمع به فأقره وهذا المعنى مبسوط في الأصول ولكن الذي يخص الموضع هنا أن ما لا حرج فيه جنس لأنواع الواجب والمندوب والمباح بمعنى المأذون فيه وبمعنى أن لا حرج فيه وأما المكروه فغير داخل تحته على ما هو المقصود لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة الفعل للترك والمكروه لا يصح فيه ذلك (4/66)
لأن الفعل المكروه منهي عنه وإذا كان كذلك لم يصح السكوت عنه ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة تقترن به فإذا لم يكن ثم قرينة ولا تعريف أوهم ما هو أقرب إلى الفهم وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق والمكروه ليس كذلك
لا يقال فيلزم مثله في الواجب والمندوب إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج وليسا كذلك لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله والمندوب مأمور بفعله وجميع ذلك زائد على مطلق رفع الحرج فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار وقد زعمت أنه داخل هذا خلف
لأنا نقول بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب لازم للموافقة بينهما لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدا من جهة الفعل ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما بخلاف المكروه فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك لا من جهة الفعل وأن لا حرج راجع إلى الفعل فلا يتوافقان وإلا فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل
فإن قيل من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل ومعنى كونه معفوا عنه هو معنى عدم الحرج فيه وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام
قيل كلا بل المراد هنا غير المراد هنالك لأن الكلام هنالك فيما بعد (4/67)
الوقوع لا فيما قبله ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتا كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعد ما وقع في حكم ما لا حرج فيه استدراكا له من رفق الشارع بالمكلف ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيها له بالصغيرة التى يكفرها كثير من الطاعات كالطهارات والصلوات والجمعات ورمضان واجتناب الكبائر وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة والصغيرة أعظم من المكروه فالمكروه أولى بهذا الحكم فضلا من الله ونعمة
وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج فنظر إلى ما قبل الوقوع ولا مرية في أن الأمر كذلك فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت ما لا حرج فيه وأمثلة هذا القسم كثيرة كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد وأكل الضب على مائدته عليه الصلاة و السلام وعن عبد الله بن مغفل قال أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا قال فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم متبسما وقد استدل بعض العلماء على طهارة دم النبي عليه الصلاة و السلام بترك الإنكار على من شرب دم حجامته
المسألة السابعة
القول منه صلى الله عليه و سلم إذا قارنه الفعل فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة إلى المكلفين لأن فعله عليه الصلاة و السلام واقع على أزكى ما يمكن (4/68)
في وضع التكاليف فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية
ومثاله ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له أأكذب لإمرأتي قال
لا خير في الكذب قال أفأعدها وأقول لها قال
لا جناح عليك ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه بل لما وعد عزم على أن لا يفعل وذلك حين شرب عند بعض أزواجه عسلا فقال له بعض أزواجه إني أجد منك ريح مغافير كأنه مما يتأذى من ريحه فحلف أن لا يشربه أو حرمه على نفسه ويرجع إلى الأول فقال الله له يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك وكان قادرا على أن يعد ويقول ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه أو تحريم عقده حتى رده الله إلى تحلة الأيمان وأيضا فلما قال للرجل (4/69)
الواهب لابنه
أشهد غيري كان ظاهرا في الإجازة ولما امتنع هو من الشهادة دل على مرجوحية مقتضى القول وأمر عليه الصلاة و السلام حسان وغيره بإنشاد الشعر وأذن لهم فيه ومع ذلك فقد منعه عليه الصلاة و السلام ولم يعلمه وذلك يدل على مرجوحيته ولقوله وما ينبغى له وقال لحسان
اهجهم وجبريل معك فهذا إذن في الهجاء ولم يذم عليه الصلاة و السلام أحدا بعيب فيه خلاف عيب الدين ولا هجا أحدا بمنثور كما لم يتأت له المنظوم أيضا ومن أوصافه عليه الصلاة و السلام أنه لم يكن عيابا ولا فحاشا وأذن لأقوام في أن يقولوا لمنافع كانت (4/70)
لهم في القول أو نضال عن الإسلام ولم يفعل هو شيئا من ذلك وإنما كان منه التورية كقوله
نحن من ماء وفي التوجه إلى الغزو فكان إذا أراد عزوة ورى بغيرها فإذا كان كذلك فالاقتداء بالقول الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدا مما لا حرج فيه وإن تركه اقتداء بالنبي عليه الصلاة و السلام أحسن لمن قدر على ذلك فمن أتى شيئا من ذلك فالتوسعة على وفق القول مبذولة وباب التيسير مفتوح والحمد لله
المسألة الثامنة
الإقرار منه عليه الصلاة و السلام إذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي لأن فعله عليه الصلاة و السلام (4/71)
واقع موقع الصواب فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل فهو كمجرد الاقتداء بالفعل فالإقرار دليل زائد مثبت
بخلاف ما إذا لم يوافقه فإن الاقرار وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض وإن لم تتحقق فيه المعارضة فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه عليه الصلاة و السلام عن الفعل ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا وبعده عن التلهي به وإن لم يحرج في استعماله وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة أو ما لا بد منه ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة قال لها
خذي فرصة ممسكة فتطهري بها فقالت وكيف أتطهر بها فأعاد عليها واستحى حتى غطى وجهه ففهمت عائشة ما أراد ففهمتها بما هو أصرح وأشرح فأقر عائشة على الشرح الأبلغ وسكت هو عنه حياء فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك فإنه من باب الجائز أما إذا تعين فلا يمكن إلا الإفهام كيف (4/72)
كان فإنه محل مقطع الحقوق والأمثلة كثيرة
والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر بل فيه ما يكون كذلك نحو الإقرار على المطلوبات والمباحات الصرفة ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة
فإن قارنه قول فالأمر فيه كما تقدم فينظر إلى الفعل فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة (4/73)
المسألة التاسعة
سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور
أحدها ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضى بإستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى
ولا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص (4/74)
ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة و السلام وهم المباشرون للوحي وثالثا أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التى وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح وأيضا فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم (4/75)
فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق وأنهم وسط أي عدول بإطلاق وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم كقوله تعالى للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية وأشباه ذلك
والثاني ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه و سلم كقوله
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وقوله
تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي وعنه أنه قال
أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به وعنه أيضا
إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي منهم أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير ويروى في بعض الأخبار
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلى غير ذلك مما في معناه (4/76)
والثالث أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل فقد جعل طائفة قول أبي يكر وعمر حجة ودليلا وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المتعمد في المسألة وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم (4/77)
فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع في غيره وهو المنقول عنه في الصحابي
كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم
وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه فعن سعيد بن جبير أنه قال ما لم يعرفه البدريون فليس الدين وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قال
إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم وعن إبراهيم قال لم يدخر لكم شيء خبىء عن القوم لفضل عندكم وعن حذيفة أنه كان يقول اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها (4/78)
هديا وأحسنها حالا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال علي
إياكم والاستنان بالرجال ثم قال فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وهو نهي للعلماء لا للعوام ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز قال
سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وفي رواية بعد قوله وقوة على دين الله
ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي خالفها من اهتدى بها مهتد الحديث وكان مالك يعجبه كلامه جدا وعن حذيفة قال
اتبعوا آثارنا فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود نحوه
فقال اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو
الرابع ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم وأن من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه و سلم ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة و السلام وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط إذ (4/79)
لا مزية في ذلك وإنما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمليته ونصرته ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتبعهم رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون
المسألة العاشرة
كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم من خبر فهو كما أخبر وهو حق وصدق معتمد عليه فيما أخبر به وعنه سواء علينا أنبنى عليه في التكليف حكم أم لا كما أنه إذا شرع حكما أو أمر أو نهى فهو كما قال عليه الصلاة و السلام (4/80)
لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله وبين ما نفث في روعه وألقى في نفسه أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة أو كيف ما كان فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا لأنه صلى الله عليه و سلم مؤيد بالعصمة وما ينطق عن الهوى
وهذا مبين في علم الكلام فلا نطول بالإحتجاج عليه ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله
فمثاله قوله عليه الصلاة و السلام
إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فهذا بناء حكم على ما ألقى في النفس وقال عليه الصلاة و السلام
أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر وفي حديث آخر
آرى رؤياكم قد تواطت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها (4/81)
في السبع الأواخر فهذا بناء من النبي صلى الله عليه و سلم على رؤيا النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان وهو أبلغ في المسألة عن عبد الله بن زيد قال لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بالرؤيا فقال
إن هذه لرؤيا حق الحديث إلى أن قال عمر بن الخطاب والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلله الحمد فذاك أثبت فحكم عليه الصلاة و السلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الآذان وفي الصحيح صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما ثم انصرف فقال
يا فلان ألا تحسن صلاتك ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي فهذا حكم امرئ بنى على الكشف ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا
فإذا تقرر هذا فلقائل أن يقول قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه و سلم يخصنا وما يعمه يعمنا فإذا بنينا على ذلك فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى إطلاعة وكشفه ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه ثم (4/82)
مرض قبل أن تقبضه قال فيه وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قال فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته إنما هي أسماء فمن الأخرى قال ذو بطن بنت خارجة أراها جارية وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية وهو على المنبر فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى وكتب العلماء مشحونة بأخبارهم فيه فيقتضى ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والجواب أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة وبسببه جلبت هذه المقدمة وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها فاعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف إما بأنه لا يخطىء ألبتة وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض فما ظنك بغير ذلك فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز و جل وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ويجوز أن تكون رؤياه حلما وكشفه (4/83)
غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقة واعتيد ذلك فيه وأطرد فإمكان الخطأ والوهم باق وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم
وأيضا فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله كما في الحديث من قوله عليه الصلاة و السلام
في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث إلى آخر السورة وقال في الآية الأخرى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية فبقى من عداهم على الحكم الأول وهو امتناع علمه وقال تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية وقال قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وفي حديث عائشة
ومن زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله وقد تعاضدت الآيات والأخبار ! وتكررت في أنه لا يعلم الله ! وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب فإذا كان كذلك خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات (4/84)
وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح فمما لا ينبني عليه حكم إذ لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم ووقوعه على حسب ما أخبروا هو مما يظن بهم ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة وهو جواز الخطأ لذلك قال أبو بكر أراها جارية فأتى بعبارة الظن التى لا تفيد حكما وعبارة يا سارية الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها وإن سلم فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه فلا يطور حول حمى أحواله التى أكرمه الله بها بخلاف غيره فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغير فلا يكون على علم منها محقق لاشك فيه بل على الحال التى يقال فيها أرى أو أظن فإذا وقع مطابقا في الوجود وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا والاطراد ثانيا فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع فاستوت الخارقة وغيرها نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه
ولا يقال إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية كالمستفاد من أخبار الأحاد والقياس وغيرهما وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة فإنه يفيد ظنا فيكون معتبرا (4/85)
لأنا نقول ما كان من الظنون معتبرا شرعا فلاستناده إلى أصل شرعي حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني هذا وإن كان النبي صلى الله عليه و سلم ثبت ذلك بالنسبة إليه فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء (4/86)
- كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات (4/87)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم - كتاب الاجتهاد
وللنظر فيه أطراف
( أ ) طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الإجتهاد ( ب ) وطرف يتعلق بفتواه ( ج ) وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والإقتداء به
فأما الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى
الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا
فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذى لا خلاف (4/89)
بين الأمة في قبوله ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوى عدل منكم وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء بل ذلك يختلف اختلافا متباينا فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها وبينهما مراتب لا تنحصر وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد
فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد كما إذا أوصى بماله للفقراء فلا شك (4/90)
أن من الناس من لا شئ له فيتحقق فيه إسم الفقر فهو من أهل الوصية ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا وبينهما وسائط كالرجل يكون له الشئ ولا سعة له فينظر فيه هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التى لا تنضبط بحصر ولا يمكن استيفاء القول في آحادها فلا يمكن أن يستغنى ها هنا بالتقليد لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير وإن (4/91)
تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا فلا بد من النظر فيها بالإجتهاد وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا وهو نظر اجتهاد أيضا وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب وهذا كله بين لمن شدا في العلم ومن القواعد القضائية البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعه بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه وهو أصل القضاء ولا يتعين ذلك إلا (4/92)
بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة وهو تحقيق المناط بعينه
فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد
وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة كالمثل في جزاء الصيد فإن الذى جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وهذا ظاهر في اعتبار المثل إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ككون الكبش مثلا للضبع والعنز مثلا للغزال والعناق مثلا للأرنب والبقرة مثلا للبقرة الوحشية والشاة مثلا للشاة من الظباء (4/93)
وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات والبلوغ في الغلام والجارية وما أشبه ذلك ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان إذ لا يمكن حصول التكليف (4/94)
إلا به فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال وهو غير ممكن شرعا كما أنه غير ممكن عقلا وهو أوضح دليل في المسألة
وأما الضرب الثاني وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع
أحدها المسمى بتنقيح المناط وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغي كما جاء في حديث الأعرابي الذى جاء ينتف شعره ويضرب صدره وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ذكرها في شفاء الغليل وهو مبسوط في كتب الأصول (4/95)
قالوا وهو خارج عن باب القياس ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر
والثاني المسمى بتخريج المناط وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط فكأنه أخرج بالبحث وهو الاجتهاد القياسي
وهو معلوم
والثالث هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان (4/96)
أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعين نوع المثل في جزاء الصيد ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك وقد تقدم التنبيه عليه والضرب الثاني ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه فكأن تحقيق المناط على قسمين تحقيق عام وهو ما ذكر وتحقيق خاص من ذلك العام
وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة أوقع عليهم أحكام تلك النصوص كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر
أما الثاني وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال مالك من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقال أيضا إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد وقال الحكمة نور يقذفه الله في قلب (4/97)
العبد وقال أيضا يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله وقد كره مالك كتابة العلم يريد ما كان نحو الفتاوي فسئل ما الذي نصنع فقال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب
وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق لكن مما (4/98)
ثبت عمومه في التحقيق الأول العام ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود
هذا معنى تحقيق المناط هنا
وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط فيكون مندرجا تحت مطلق الدلالة عليه ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله
فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل ففي الصحيح أنه عليه الصلاة و السلام
سئل أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله قال ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قال ثم ماذا قال حج مبرور وسئل عليه الصلاة و السلام
أي الأعمال أفضل قال الصلاة لوقتها قال ثم أي قال بر الوالدين قال ثم أي قال الجهاد في سبيل الله وفي النسائي عن أبي إمامة قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم
فقلت مرني بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له وفي الترمذي
أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفي الصحيح في قول
لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ (4/99)
قال ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به الحديث وفي النسائي ليس شيء أكرم على الله من الدعاء وفي البزار أي العبادة أفضل قال دعاء المرء لنفسه وفي الترمذي ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وفي البزار يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما وفي مسلم
أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفيه
سئل أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفي الصحيح
وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر وفي الترمذي
خيركم من تعلم القرآن وعلمه وفيه
أفضل العبادة انتظار الفرج إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل
وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال
قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه وقال لأبي ذر يا
أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك (4/100)
ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله وقد قال في الإمارة والحكم
إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الحديث وقال
أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح
وفي أحكام اسماعيل بن اسحاق عن ابن سيرين قال
كان أبو بكر يخافت وكان عمر يجهر يعني في الصلاة فقيل لأبي بكر كيف تفعل قال أناجي ربي وأتضرع إليه وقيل لعمر كيف تفعل قال أوقظ الوسنان وأخسأ الشيطان وأرضي الرحمن فقيل لأبي بكر ارفع شيئا وقيل لعمر اخفض شيئا وفسر بأنه عليه الصلاة و السلام قصد إخراج كل واحد منهما عن اختياره وإن كان قصده صحيحا
وفي الصحيح
أن ناسا جاؤا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان وفي حديث آخر
من وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله وعن ابن عباس في مثله قال
إذا وجدت شيئا من ذلك (4/101)
فقل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فأجاب النبي عليه الصلاة و السلام بأجوبة مختلفة وأجاب ابن عباس بأمر آخر والعارض من نوع واحد
وفي الصحيح
إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار وآثر عليه الصلاة و السلام في بعض الغنائم قوما ووكل قوما إلى إيمانهم لعلمه بالفريقين وقبل عليه الصلاة و السلام من أبي بكر ماله كله وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال
أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك وجاء آخر
بمثل البيضة من الذهب فردها في وجهه
وقال علي حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله فجعل إلقاء العلم مقيدا فرب مسألة تصلح لقوم دون لقوم وقد قالوا في الرباني إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره فهذا الترتيب من ذلك وروى عن الحرث ابن يعقوب قال الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان (4/102)
فقوله وعرف مكيدة الشيطان هو النكتة في المسألة وعن أبي رجاء العطاردي قال قلت لزبير بن العوام مالي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة قال نبادر الوسواس هذا مع أن التطويل مستحب ولكن جاء ما يعارضه ومثله حديث
أفتان أنت يا معاذ
ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين وهو كثير
وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم وقد فرع العلماء عليه كما قالوا في قوله تعالى إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية إن الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد فالقتل في موضع والصلب في موضع والقطع في موضع والنفي في موضع وكذلك التخيير في الأسارى من الفن والفداء
وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فالجميع في معنى واحد والاستدلال على الجميع واحد ولكن قد يستبعد ببادىء الرأي وبالنظر الأول حتى يتبين مغزاة ومورده من الشريعة وما تقدم وأمثاله كاف مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص وبالله التوفيق
فإن قيل كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا الاجتهاد المستدل عليه (4/103)
وغيره من أنواع الاجتهاد مع أنهما في الحكم سواء لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه لا بالكلية ولا بالجزئية وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك
أما الأول فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد
وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي وهو أيضا اتباع للهوى وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية وهو معنى تعطيل التكليف لزوما وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق فإذا لا بد من الاجتهاد في كل زمان لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان
وأما الثاني فباطل إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفى غيره فلم يظهر بين الاجتهادين فرق (4/104)
فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لا ارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه وذلك غير صحيح لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره فإن الوقائع المتجددة التى لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليده فيه لأنه معظم الشريعة فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات كما لو فرض العجز عند تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك فوضح أنهما ليسا سواء والله أعلم
المسألة الثانية
إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم (4/105)
مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها
أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل (4/106)
له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه و سلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله
وأما الثاني فهو كالخادم للأول فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ومن هنا كان خادما للأول وفي استنباط الأحكام ثانيا لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط فلذلك جعل شرطا ثانيا وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة
لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها وتارة يكون غير حافظ ولا عارف إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارا إليها في مسألته التى (4/107)
يجتهد فيها فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة
فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث والشافعي في علم الأصول فلا إشكال وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده وإن كان القسم الثالث فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك فكالثاني وإلا فكالعدم
فصل
وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون (4/108)
مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة بل الأمر ينقسم فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقة فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه وما سوى ذلك من العلوم فلا يلزم ذلك فيه وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة الاجتهاد فهذه ثلاثة مطالب لا بد من بيانها
أما الأول وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة فالدليل عليه أمور أحدها أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة ونحن نمثل بالأئمة الأربعة فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته وأبو حنيفة كذلك وإنما عدوا من أهله مالكا وحده وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني الحكم على ذلك والحكم لا يستقل دون ذلك الاجتهاد ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب وليس الأمر كذلك بالإجماع (4/109)
والثاني أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال بل يقول العلماء أن من فعل ذلك فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الإسطقصات أربعة وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان وغير ذلك من المقدمات كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم بالخفض مروئ على الصحة ومن المحدث أن الحديث الفلاني (4/110)
صحيح أو سقيم ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية منسوخ بآية المواريث ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض وما أشبه ذلك ثم يبنى عليه الأحكام
بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين وهى مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر مأخوذة في علم الهندسة على التقليد وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من إطناب فيه
فلا يقال إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التى يبنى عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده (4/111)
لأنا نقول بل يحصل له العلم بذلك لأنه مبني عل فرض صحة تلك المقدمات وبرهان الخلف مبني على مقدمات باطلة في نفس الأمر تفرض صحيحة فيبني عليها فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب فمسألتنا كذلك
والثالث أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه فصلا أن يكون مجتهدا فيه وهو الاجتهاد في تنقيح المناط وإنما يفتقر إلى (4/112)
الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه هو المطلوب
فإن قيل إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا تكون مجتهدا فيها بإطلاق فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق وكلامنا إنما هو في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها
فالجواب أن ذلك شرط في العلم بمسألة المجتهد فيها بإطلاق لا شرط في صحة الاجتهاد لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه كان بناؤه صحيحا لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم وهو لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل وإن لم يحتج إليها عند التخريج وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدا فتأمل (4/113)
قد وقع ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك والشافعي وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم وصاروا في عداد أهل الاجتهاد مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة والمزني والبويطي مع الشافعي فإذا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها
وأما الثاني من المطالب وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه فلا بد من تحصيله على تمامه وهو ظاهر
إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه
والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية ولا أعني بذلك النحو وحده ولا التصريف وحده ولا اللغة ولا علم المعاني ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف (4/114)
تصورت ما عدا الغريب والتصريف المسمى بالفعل وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن كان العلم به كمالا في العلم بالعربية وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم وقد قال الجرمي أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس (4/115)
من كتاب سيبويه وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك بل هو يبين في كل باب ما يليق به حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ومن هنالك كان الجرمي على ما قال وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه من غير إنكار
ولا يقال إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية فقالوا ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة
لأنا نقول هذا غير ما تقدم تقريره وقد قال الغزالي في هذا الشرط إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ثم قال والتخفيف فيه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو وهذا أيضا صحيح فالذي نفى اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط وإنما المقصود تحرير الفهم (4/116)
حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق فكذلك المجتهد في العربية فكذلك المجتهد في الشريعة وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه وإن كان مما تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين وعلما في الأئمة المهتدين وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى وأن الله خاطب العربي بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام وبالعام يراد به الخاص ويعرف بالسياق وبالكلام ينبنئ أوله عن آخره وآخره عن أوله وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد ثم قال فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط عليه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه هذا قوله وهو الحق الذي لا محيص عنه وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التى تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها
وما سواها من المقدمات فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا (4/117)
وتصديقا كأحكام النسخ وأحكام الحديث وما أشبه ذلك
فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب
وأما الثالث من المطالب وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالما بها فقد مر ما يدل عليه فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه فذلك لا يضره في كونه مجتهدا في عين مسألته كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدائرة مثلا فلا يضره في صحة برهانه تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة وهو المبرهن على وجودها وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك في صحة اجتهاده بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن وإن كان هو غير عارف به وما أشبه ذلك
المسألة الثالثة
الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك والدليل عليه أمور
أحدها أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى ولو كان من عند غير الله (4/118)
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فنفى أن يقع فيه الاختلاف ألبتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال وفي القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع وهذا باطل وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (4/119)
الآية والبينات هي الشريعة فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله ألبتة لما قيل لهم من بعد كذا ولكان لهم فيها أبلغ العذر وهذا غير صحيح
فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فبين أن طريق الحق واحد وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقال تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد قال المزني صاحب الشافعي ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة
والثاني أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ (4/120)
على الجملة وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا والفرض خلافة فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة ولكان الكلام فى ذلك كلاما فيما لا يجنى ثمرة إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين لكن هذا كله باطل بإجماع فدل على أن الاختلاف لا الأصل له في الشريعة وهكذا القول في كل دليل مع معارضه كالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد وما أشبه ذلك فكانت تنخرم هذه الأصول كلها وذلك فاسد فما أدى إليه مثله
والثالث أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع فإما أن يقال إن المكلف مطلوب بمقتضاها أولا أو مطلوب بأحدهما دون الآخر والجميع غير صحيح فالأول يقتضي افعل لا تفعل لمكلف واحد من وجه واحد وهو عين التكليف بما لا يطاق والثاني باطل لأنه خلاف (4/121)
الفرض وكذلك الثالث إذ كان الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم
لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين
لأنه خلاف الفرض وهو أيضا قول واحد لا قولان لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف وهو المطلوب
والرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر والقول بثبوت الخلاف فى الشريعة يرفع باب الترجيح جملة إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد فما أدى إليه مثله
والخامس أنه شيء لا يتصور لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده لأنه إذا قال فى الشيء الواحد افعل (4/122)
لا تفعل فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله لا تفعل ولا طلب تركه لقوله افعل فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف فلا يتصور توجهه على حال والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف فى الشريعة
فإن قيل إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضى وقوعه فى الشريعة وقد وقع والدليل عليه أمور
منها إنزال المتشابهات فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود فإن الاختلاف فيها قد وقع ووضع الشارع لها مقصود له وإذا كان مقصودا له وهو عالم بالمآلات فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة
ومنها الأمور الاجتهادية التى جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية بحيث يظهر بينها التعارض (4/123)
ومجال الاجتهاد لما قصده الشارع فى وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التى يختلف فى أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك ولذلك نبه فى الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة و السلام
إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله
ومنها أن العلماء الراسخين الأئمة المتقين اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد والجميع سوغوا هذا الاختلاف وهو دليل على أن له مساغا فى الشريعة على الجملة وأيضا فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب وأن الاختلاف حق وأنه غير منكر ولا محظور فى الشريعة
وأيضا فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي فى الشريعة دليلان متعارضان (4/124)
وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي فى الاختلاف
وطائفة أيضا رأوا أن قول الصحابي حجة فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر كل واحد منهما حجة وللمكلف في كل واحد منهما متمسك وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا
وقال القاسم بن محمد لقد نفع الله بإختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ورأى أن خيرا منه قد عمله وعنه أيضا أي ذلك أخذت به لم يكن فى نفسك منه شيء ومثل معناه مروى عن عمر بن عبد العزيز قال ما يسرني أن لي بإختلافهم حمر النعم قال القاسم لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق
وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ بقول رجل منهم كان في سعة وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء
وأيضا فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء وهو من ذلك فى سعة وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن ثم ترجيح فله الخيرة في العمل بأيها شاء لأنهما صارا (4/125)
بالنسبة إليه كخصال الكفارة والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة فقد ثبت إذا فى الشريعة تعارض الأدلة إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الإختلاف يحمل على الإختلاف فى أصل الدين لا فى فروعه بدليل وقوعه فى الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا
فالجواب أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة فإنها من المواضع المخيلة
أما مسألة المتشابهات فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة فى الشريعة قصد الاختلاف شرعا لأن هذا قد تقدم فى الأدلة السابقة ما يدل على فساده
وكونها قد وضعت ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة لا نظر فيه فقد قال تعالى ولا يزالون مختفلين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ففرق بين الوضع القدري الذى لا حجة فيه للعبد وهو الموضوع على وفق الإرادة التى لا مرد لها وبين الوضع الشرعي الذى لا يستلزم وفق (4/126)
الإرادة وقد قال تعالى هدى للمتقين وقال يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ومر بيانه في كتاب الأوامر فمسألة المتشابهات من الثاني لا من الأول وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ويقع الزائغون في إتباع أهواءهم ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها وأن الزائغين هم المخطئون
فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ولا ثلاثة فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ بل كان يكون الجميع مصيبين لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هى بموافقة قصد الشارع وأن (4/127)
الخطأ بمخالفته فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا
وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدا فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ولا هو حجة من حجج الاختلاف بل هو مجال استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق لكان فيه حجة وليس كذلك
فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد غير أنه إضافي فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد لا قولان مقرران فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه (4/128)
وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة
وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضى ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه ولا أظن أن أحدا منهم يقوله
وأما مسألة قول الصحابي فلا دليل فيه لأمرين أحدهما أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث على أنه مطعون في سنده ومسألتنا قطعية ولا يعارض الظن القطع والثاني على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد فإن هذا مناقض لما تقدم
وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سعة وإنما الحق في واحد قيل له فمن يقول إن كل مجتهد مصيب فقال هذا لا يكون قولان مختلفين صوابين ولو سلم فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك
قال القاضي اسماعيل إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم (4/129)
توسعة في اجتهاد الرأي فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا قال ابن عبد البر كلام إسماعيل هذا حسن جدا وأيضا فإن قول من قال إن اختلافهم رحمة يوافق ما تقدم وذلك لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين فيها وفي غيرها من متعلقات الدين فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة فما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال لأن الشريعة قد كملت فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي والفطر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف وأن الشريعة لا اختلاف فيها ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم وقال ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يختلفوا
وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضا لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ولا اتباع أحدهما (4/130)
من غير اجتهاد ولا ترجيح كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح وقول من قال إذا تعارضا عليه تخير غير صحيح من وجهين أحدهما أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفا والثاني ما تقدم من الأصل الشرعي وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا وقولا وعملا فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير عل حال وانظر في الكتاب المستظهر للغزالي فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة ولا هى موضوعة على وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إلية مقصودا من الشارع بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء وصح أن نفى الاختلاف في الشريعة وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف وذلك معلوم البطلان فما أدى إليه مثله (4/131)
فصل
وعلى هذا الأصل ينبني قواعد منها أنه ليس للمقلد أن (4/132)
يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة و السلام
أصحابي كالنجوم وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه فهما صاحبا دليلين متضادين فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى وقد ما مر فيه فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم (4/133)
وهو باطل بالإجماع وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فإختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ولذلك أعقبها بقوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله
أصحابي كالنجوم وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف لا يقال إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز فكذلك بعد لقائه والاجتماع طردي
لأنا نقول كلا بل للاجتماع أثر لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليل ولم يطلع على معارضة بعد البحث عليه جاز له العمل
أما إذا اجتمعا واختلفا عليه فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ولقد (4/134)
أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور لا قاصدا لاتباع هواه فيه ولا لمقتضى التخيير على الجملة فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا واتباع الهوى ممنوع فلا بد من هذا القصد وفى هذا الاعتذار ما فيه وهو تناقض لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه
فصل
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتى قريبه أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق
ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض فى المدارك قال موسى بن معاوية كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان فقال له بهلول ما أقدمك قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق ثلاثا ما أخفيته قال له البهلول مالك يقول إنه يحنث في زوجته فقال السائل وأنا قد سمعته (4/135)
يقول وإنما أردت غير هذا فقال ما عندي غير ما تسمع قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال يا بن فلان ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم قال مالك قال مالك فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن يقول لا حنث عليه في يمينه فقال السائل الله أكبر قلدها الحسن أو كما قال
وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين فالأمر أشد وفى الموازية كتب عمر بن الخطاب لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك قال ابن المواز لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض من مضى ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه وهو أيضا من قول من مضى وهو في أمر واحد ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضى على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافة بفتيا قوم آخرين إلا فعل فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا وما قاله صواب فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر مع عدم تطرق التهمة للحاكم وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله
وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الإتباع ليحيى ابن يحيى لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم (4/136)
وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى فصرف يحيى رسوله وقال له لا أشير عليه بشيء إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه وركب من فوره إلى يحيى وقال له لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع وسوف أقضي له غدا إن شاء الله فقال له يحيى وتفعل ذلك صدقا قال نعم قال له فالآن هيجت غيظي فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في الأقوال فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضى برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك فاستعف من ذلك فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك فرفع يستعفي فعزل وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها عياض وكانت مما غض من منصبه وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه وتأذيه برؤيتهم أو إن تطلعه من علاليه فقال له ابن بقي لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له فتكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجعلوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم
فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصودة وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ويقول إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ونقلدها وناظر أصحابه فيها
فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها (4/137)
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه وابن لبابة ساكت فقال له القاضي ما تقول أنت يا أبا عبد الله قال أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدى بهم أكثر الأمة وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول فيه يقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا فقال له الفقهاء سبحان الله تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه فقال له محمد بن يحيى ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم قالوا بلى قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي أنه إلى أمير المؤمنين فتياي فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقى مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد ابن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء (4/138)
من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة فهنى بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة قال القاضي عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه أو كما قال
وذكر الباجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين حكاية أخرى فى أثناء كلامه فى معنى هذه المسألة قال وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء دون أن يخرج عنها ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك فيقضى في قضية بقول مالك وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضى فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول لا لرأي تجدد له وإنما ذلك بحسب اختياره قال ولقد حدثني من أوثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض فأراد المكترى الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد فأفتى المكترى الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة فى الإجارات قال لي فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح فى الدين عن مسألتي فقالوا ما علمنا أنها لك إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها فأفتاني جميعهم بالشفعة فقضى لي بها (4/139)
قال وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر إن الذى لصديقي على إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالروية التى توافقه قال الباجي ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه قال وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية أم لعل فيها رخصة وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به فى الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضى بذلك من رضيه وسخطه من سخطه وإنما المفتى مخبر عن الله تعالى فى حكمه فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة و السلام وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتى بما يشتهى أو يفتى زيدا بما لا يفتى به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الاغراض وإنما يجب للمفتى أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد فى طلبه ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته
هذا ما ذكره وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ولا أن يفتى به أحدا والمقلد فى اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتى الذى ذكر فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى وأما المجتهد فهو أحرى بهذا الأمر (4/140)
فصل
وقد زاد هذا الأمر على قدره الكفاية حتى صار الخلاف فى المسائل معدودا فى حجج الإباحة ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر بل فى غير ذلك فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا وما ليس بحجة حجة
حكى الخطابي فى مسألة البتع المذكور فى الحديث عن بعض الناس أنه قال
إن الناس لما اختلفوا فى الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه قال وهذا خطأ فاحش وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول قال ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله فى الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلف فيها قال وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين هذا مختصر ما قال والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع فى الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويحتج فى ذلك بما روى عن القاسم (4/141)
ابن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما فى الدين من حرج وما أشبه ذلك وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة والتوفيق بيد الله
وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله
وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض إما أن يكون حاكما به أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتى
أما الأول فلا يصح على الإطلاق لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي
فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين فكذلك أو بالنسبة إلى الأول فكذلك أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر
ومن ههنا شرطوا فى الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان فانضبطت الأحكام بذلك وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط وهذا معنى أوضح من إطناب فيه
وأما الثاني فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى فى النازلة بالإباحة وإطلاق العنان وهو قول ثالث خارج عن القوالين وهذا لا يجوز له (4/142)
إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق وإن بلغها لم يصح له القولان فى وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول وأيضا فإن المفتى قد أقامه المستفتى مقام الحاكم على نفسه إلا أنه لا يلزمه المفتى ما أفتاه به فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا
وأما إن كان عاميا فهو قد استند فى فتواه إلى شهوته وهواه واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب فإن العبد فى تقلباته دائر بين لمتين لمة ملك ولمة شيطان فهو مخير بحكم الابتلاء فى الميل مع أحد الجانبين وقد قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وهديناه النجدين وعامة الأقوال الجارية فى مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات والهوى لا يعدوهما فإذا عرض العامي نازلته على المفتى فهو قائل له أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق فلا يمكن والحال هذه أن يقول له فى مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ولا ينجيه من هذا أن يقول (4/143)
ما فعلت إلا بقول عالم لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية وتسليط المفتى العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة وغش فى النصيحة وهذا المعنى جار فى الحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى
فصل
واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله فقال إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم وإن أراد ما فيه توسعت على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك بل قوله عليه الصلاة و السلام
بعثت (4/144)
بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح وأنت تعلم بما تقدم ما فى هذا الكلام لان الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها
وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها فما قاله عين الدعوى ثم نقول تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض
فصل
وربما استجاز هذا بعضهم فى مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح فى المذهب فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة (4/145)
وقد وقع فى نوازل ابن رشد من هذا مسألة نكاح المتعة ويذكر عن الإمام المأزري أنه سئل ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان والضرورات تبيح المحظورات من معاملة فقراء أهل البدو فى سنى الجدب إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم ما عندنا إلا الطعام فربما صدقوا فى ذلك فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم فى أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ولا حكام بالبادية أيضا مع ما فى المذهب فى ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع
فأجاب إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى فهذا ممنوع فى المذهب ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت
قال ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه لأن الورع قل بل كاد يعدم والتحفظ على الديانات كذلك وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه فلو فتح لهم باب فى مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب وهذا من المفسدات التى لا خفاء بها ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ويقبض البائع الثمن ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز فانظر كيف لم يستجز وهو المتفق على إمامته الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه بناء على (4/146)
قاعدة مصلحية ضرورية إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب لأن ما وجب للشيء وجب لمثله وظهر أن تلك الضرورة التى ادعيت فى السؤال ليست بضرورة
فصل
وقد أذكر هذا المعنى جملة مما فى اتباع رخص المذهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره فى تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك فى هذه الأمصار مجهولة وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى (4/147)
أمر معروف وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ولكن فيما تقدم منه كاف والحمد لله
فصل
وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى وهى
هل يجب الأخذ بأخف القولين أم بأثقلهما واستدل لمن قال بالأخف (4/148)
بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر الآية وقوله وما جعل عليكم فى الدين من حرج وقوله عليه الصلاة و السلام
لا ضرر ولا ضرار وقوله
بعثت بالحنيفية السمحة وكل ذلك ينافى شرع الشاق الثقيل ومن جهة القياس أن الله غني كريم والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغنى الأولى
والجواب عن هذا ما تقدم وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهى المشقة فإذا كانت المشقة حيث لحقت فى التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك فى الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال فما أدى إليه مثله فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال ثم قال المنتصر لهذا الرأي إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل فى الملاذ الإذن وفى المضار الحرمة وهو أصل قرره فى موضع آخر وقد تقدم التنبيه على ما فيه فى كتاب المقاصد وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم (4/149)
فصل
فإن قيل فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة فى المذهب المالكي فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ألا تراهم يقولون كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ويفتقر فى فسخه إلى الطلاق وإذا دخل مع الإمام فى الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبير الإحرام فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام وكذلك من قام إلى ثالثة فى النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها فإنه لا يراعى فيها غير دلائلها ومثله جار فى عقود البيع وغيرها فلا يعاملون الفاسد المختلف فى فساده معاملة المتفق على فساده ويعللون التفرقة بالخلاف فأنت تراهم يعتبرون الخلاف وهو مضاد لما تقرر فى المسألة (4/150)
فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة منهم ابن عبد البر فإنه قال الخلاف لا يكون حجة فى الشريعة وما قاله ظاهر فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقضيه الآخر وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف وهو جمع بين متنافيين كما تقدم وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف فيكون القول بأحدهما فى غير الوجه الذى يقول فيه بالقول الآخر فالأول فيما بعد الوقوع والآخر فيما قبله وهما مسألتان مختلفتان فليس (4/151)
جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتى للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله
على أن الباجي حكى خلافا فى اعتبار الخلاف فى الأحكام وذكر اعتباره عن الشيرازي واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ولو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا فى جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ لكان ذلك ذلك صحيحا فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط وما قاله غير ظاهر لأمرين
أحدهما أن هذا الدليل مشترك الإلزام ومنقلب على المستدل به إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول لو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا فى جواز أكله فإن جلده لا يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا فكذلك إذا علق الحكم بالاستنباط ويكون هذا القلب أرجح لأنه مائل إلى جانب الاحتياط وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه
والثاني أنه ليس كل جائز واقعا بل الوقوع محتاج إلى دليل ألا ترى أنا نقول يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء وأن شرب (4/152)
الماء السخن يفسد الحج وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين وما أشبه ذلك ولا يكون هذا التجويز سببا فى وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالإستنباط فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال فإن قال إنما أعنى ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه فى التعليل
قيل لم تفصل أنت هذا التفصيل وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون الباجي أشار فى الجواز إلى ما فى الخلاف من المعنى المتقدم ولا يكون بين القولين خلاف فى المعنى
واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم والحكم (4/153)
لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي ذلك غير ممتنع كالإجماع فإن الحكم يثبت به وإن حدث فى عصرنا وأيضا فمعنى قولنا إنه مختلف فيه أنه يسوغ فيه الاجتهاد وهذا كان حاله فى زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يتقدم على علته والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم بل هو أصل الحكم وقوله إن معنى قولنا مختلف فيه كذا هى عين الدعوى
فصل
ومن القواعد المبينة على هذه المسألة أن يقال هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون فى التروك أم لا أما فى ترك العمل بهما معا مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح (4/154)
وأما فى العمل فإن أمكن الجمع بدليله فلا تعارض وإن فرض التعارض فالجمع بينهما فى العمل جمع بين متنافيين ورجوع إلى إثبات الاختلاف فى الشريعة
وقد مر إبطاله وهكذا يجرى الحكم فى المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه
ولهذا الفصل تقرير فى كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله
المسألة الرابعة
محال الاجتهاد المعتبر هى ما ترددت بين طرفين وضح فى كل واحد منهما قصد الشارع فى الإثبات فى أحدهما والنفي فى الآخر فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات
وبيانه أن نقول لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا فإن لم يأت فيها خطاب فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود والبراءة الأصلية فى الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع (4/155)
بالعفو أو غيره وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو فى الإثبات أولا فإن لم يظهر له قصد ألبتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر فتارة يكون قطعيا وتارة يكون غير قطعي فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق فى النفي أو فى الإثبات وليس محلا للاجتهاد وهو قسم الواضحات لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا فليس من الواضحات بإطلاق بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه لأن مراتب الظنون فى النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى فى إحدى الجهتين وتارة لا يقوى فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات والمقدم (4/156)
عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن قوى فى إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه فى نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح فى حقه فى النفي أو في الإثبات إن قلنا إن كل مجتهد مصيب وأما على قول المخطئة فالمقدم عليه إن كان مصيبا فى نفس الأمر فواضح وإلا فمعذور
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا وأن الإضافي إنما صار إضافيا لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين فيقرب عند بعض من أحد الطرفين وعند بعض من الطرف الآخر وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات فهو غير مستقر فى نفسه فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون فى القوة (4/157)
والضعف ويجرى مجرى النفي فى أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه فثبوت العلم مع نفيه نقيضان كوقوع التكليف وعدمه وكالوجوب وعدمه وما أشبه ذلك وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان كالوجوب مع الندب أو الإباحة أو التحريم وما أشبه ذلك
وهذا الأصل واضح فى نفسه غير محتاج إلى إثباته بدليل ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير فى الهواء والسمك فى الماء وعلى جواز بيع الجبة التى حشوها مغيب عن الأبصار ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات فى مقدار الري فهذان طرفان فى اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته فى الأول وقلته مع عدم الإنفكاك عنه في الثاني فكل مسألة وقع الخلاف فيها فى باب الغرر فهى متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ومن منع مال إلى جانب الآخر (4/158)
ومن ذلك مسألة زكاة الحلى وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة فى العروض وعلى الزكاة فى النقدين فصار الحلى المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين فذلك وقع الخلاف فيها واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق وصار المجهول الحال دائرا بينهما فوقع الخلاف فيه
واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه هل يملك أم لا بناء على تغليب حكم أحد الطرفين واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع فى الصلاة يتوضأ ولا يصلى بتيممه وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة وما بين ذلك دائر بين الطرفين فاختلفوا فيه واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل فى البيع وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة
وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول فإجماع بإتفاق أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق فإن سكتوا من غير ظهور إنكار فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه والمبتدع بما لا يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة وبما اقتضى كفرا مصرحا (4/159)
به ليس من الأمة فالوسط مختلف فيه هل هو من الأمة أم لا وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق واختلفوا فى إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص وفى عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هى الكمال وكذلك ما أشبهها
فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به فى العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائر بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف
فصل
وبأحكام النظر فى هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف جديرا بأن يتبين له الحق فى كل نازلة تعرض له
ولأجل ذلك جاء فى حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه و سلم قال
يا عبد الله (4/160)
ابن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدرى أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا فى العمل وإن كان يزحف فى أسته فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف فعن قتادة من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه وعن هشام بن عبيد الله الرازي من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه وعن عطاء لا ينبغي لأحد أن يفتى الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه وعن أيوب السختياني وابن عيينة أجسر الناس على الفتية أقلهم علما باختلاف العلماء زاد أيوب وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء وعن مالك لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله صلى الله عليه و سلم وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لا يعرف (4/161)
الاختلاف أن يفتى ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلى وعن سعيد بن أبي عروبة من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما وعن قبيصة بن عقبه لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس
وكلام الناس هنا كثير وحاصلة معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر فلا بد منه لكل مجتهد
وكثيرا ما تجد هذا للمحققين فى النظر كالمأزري وغيره
المسألة الخامسة
الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد فى النصوص فلا يلزم فى ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة
والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات (4/162)
الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا يمكن التفاهم بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون فى فهمها فلا يختص بذلك لسان دون غيره فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التى ليست بعربية ويعتبرون الألفاظ فى كثير من النوازل وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق (4/163)
بالمقيس عليه وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة النصوص عليها أو التى أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما وما سواه فراجع إلى النظر العقلي
وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب فى مذهب مالك وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فى مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي فى مذهب الشافعي فإنهم على ما حكى عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه فى فهم ألفاظ الشريعة ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها خالفت مذهب إمامهم أو وافقته وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع فى وضع الأحكام ولولا ذلك لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ولا حل لمن فى زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص فلما لم يكن شىء من ذلك دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ فى فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه هذا (4/164)
على فرض أنهم لم يبلغوا فى كلام العرب مبلغ المجتهدين فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا فى صحة اجتهادهم على الإطلاق والله أعلم
المسألة السادسة
قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر فى ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التى ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به فهذا يعتبر اجتهادة فيما هو عارف به كان عالما بالعربية أم لا وعارفا بمقاصد الشارع أم لا وكذلك القارئ فى تأدية وجوه (4/165)
القرءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق فى معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد فى صحة القسمة والماسح في تقدير الأرضين ونحوها كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالا فى المجتهد
والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا فى الندرة بل هو محال عادة وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ولا كلام فيه وأيضا إن لزم فى هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم فى كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فيما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار (4/166)
المنكرين للشريعة ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون فى هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد فى تحقيق المناط
فالحاصل أنه إنما يلزم فى هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه فى الأولين كذلك فالاجتهاد فى الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذى يتعلق به الحكم لا من وجه غيره وهو ظاهر
المسألة السابعة
الاجتهاد الواقع فى الشريعة ضربان أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعا وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد وهذا هو الذى تقدم الكلام فيه والثانى غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه لأن حقيقته أنه رأى بمجرد التشهي والأغراض وخبط فى عماية واتباع للهوى فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية فى عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذى أنزل الله كما قال تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وهذا على الجملة لا إشكال فيه ولكن قد ينشأ فى كل واحد من القسمين قسم آخر فأما القسم الأول وهى (4/167)
المسألة الثامنة
فيعرض فيه الخطأ فى الاجتهاد إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه وإما بعدم الإطلاع عليه جملة
وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان فى أمر جزئي وأما إن كان فى أمر كلي فهو أشد وفى هذا الموطن حذر من زلة العالم فإنه جاء فى بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم التحذير منها فروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال
إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا وما هى يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وعن عمر
ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن أبي الدرداء
إن مما أخشى عليكم زلة العالم أو جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق وكان معاذ بن جبل يقول فى خطبته كثيرا وإياكم وزيغة الحكيم فإن (4/168)
الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هى كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق وقال سلمان الفارسي
كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وننتهي عما ينتهي عنه فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان الحديث وعن ابن عباس
ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه و سلم منه فيترك قوله ثم يمضى الاتباع وعن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما فى الحسن وبشر ما فى ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله
وقال مجاهد والحكم بن عيينة ومالك ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا (4/169)
وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع فى ذلك المعنى الذى اجتهد فيه والوقوف دون أقصى المبالغة فى البحث عن النصوص فيها وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني عليه فى الإتباع لقوله فيه خطر عظيم وقد قال الغزالي إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهى فى نفسها صغيرة وذكر منها أمثلة ثم قال فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا فى العالم أياما متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه
وهكذا الحكم مستمر فى زلته فى الفتيا من باب أولى فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضى ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد وقولا يعتبر فى مسائل الخلاف فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار فى البلاد عنه ويضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا زلة العالم مضروب بها الطبل
فصل
إذا ثبت هذا فلا بد من النظر فى أمور تنبني على هذا الأصل منها أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى (4/170)
التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى
وقد روى عن ابن المبارك أنه قال كنا في الكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى
فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا (4/171)
خيارا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى
والحق ما قال ابن المبارك فإن الله تعالى يقول فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول الآية فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع مع أن حكمه مبنى على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ولا ينقض مع الخطأ فى الاجتهاد وإن تبين لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة لأنه حكم بغير ما أنزل الله
فصل
ومنها أنه لا يصح اعتمادها خلافا فى المسائل الشرعية لأنها لم تصدر فى الحقيقة عن اجتهاده ولا هى من مسائل الاجتهاد وإن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلا فصارت فى نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد وإنما يعد فى الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة فى الشريعة كانت مما يقوى أو يضعف وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا فلذلك قيل إنه لا يصح أن يعتد بها فى الخلاف كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف فى مسألة ربا الفضل والمتعة ومحاشي النساء وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها (4/172)
فإن قيل فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك
فالجواب أنه من وظائف المجتهدين فهم العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم فلا تمييز لهم فى هذا المقام ويعضد هذا المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي فى حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة كأخبار الآحاد والقياس الجزئية فأما المخالف للقطعي فلا إشكال فى اطراحه ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه لا للاعتداد به وأما المخالف للظني ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره
فإن قيل فهل لغير المجتهد من المتفقهين فى ذلك ضابط يعتمده أم لا
فالجواب أن له ضابطا تقريبيا وهو أن ما كان معدودا فى الأقوال غلطا وزللا قليل جدا فى الشريعة وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين
فصل
وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف حين عد جهة الرواية وأن لها ثماني علل فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع (4/173)
بعض الحديث وفوت بعضه وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها فى المواضع المختلف فيها علل حقيقة فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد فى كونها موجودة فى محل الخلاف وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول
وأما القسم الثاني وهى
المسألة التاسعة
فيعرض فيه أن يعتقد فى صاحبه أو يعتقد هو فى نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارة فى جزئي وهو أخف وتارة فى كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال فتراه آخذا ببعض جزئياتها فى هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ (4/174)
رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روى عنهم فى فهمها ولا راجع إلى الله ورسوله فى أمرها كما قال فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول الآية ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة فى النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه فى اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر
وأصل هذا القسم مذكور فى قوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية وفى الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية ثم قال
إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم والتشابه فى القرآن (4/175)
لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ولا غير ذلك مما يذكرون بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم فى القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد فى أكثرها مقرر واضح فى معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهرة مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه ودل على ذلك قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فجعل المحكم وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه هو الأم والأصل المرجوع إليه ثم قال وأخر متشابهات يريد وليست بأم ولا معظم فهى إذا قلائل ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن (4/176)
أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه
وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الإعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة فقال في حديثه
وأن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء وفي أبي داود
وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة وهى بمعنى الرواية التى قبلها وقد (4/177)
روى ما يبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال
ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله
ما أنا عليه وأصحابي وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية
فصل
وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها وأنها مقصودة الدخول تحته فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها فهو آخذ في بدعة خارج عن مقتضى الشريعة وكذلك في الأحاديث الصحيحة فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها وربما ورد التعيين في بعضها كما قال عليه الصلاة و السلام في الخوارج
إن من ضئضئي هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية (4/178)
وفي رواية
دعه يعني ذا الخويصرة فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام الحديث إلى أن قال
آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر الخ فقد عرف عليه الصلاة و السلام بهؤلاء وذكر لهم علامة في صاحبهم وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين
أحدهما اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث
يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري وقال إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في مشكل القرآن وكتابه في مشكل الحديث يبين لك صحة هذا الإلزام فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر (4/179)
والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام فى الدنيا والآخرة ناجون وأن أهل الأوثان هالكون ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم فإذا كان النظر فى الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد صار صاحبه هادما لقواعدها وصادا عن سبيلها ومن تأمل كلامهم فى مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفى غيرها ظهر له خروجهم عن القصد وعدولهم عن الصواب وهدمهم للقواعد وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك
فهذان وجهان ذكرا فى الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات
وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن وأن لا حرام إلى ما فى قوله قل لا أجد فى ما أوحي إلى الآية وما سوى ذلك فحلال وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم وأن التقية لا تجوز فى قول ولا فعل على الإطلاق والعموم وأن الزاني لا يرجم بإطلاق والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة وأن الجاهل معذور فى أحكام الفروع بإطلاق وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية (4/180)
ولكن الغالب فى هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر فى تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذى ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا فى الدنيا بها فى الحكم الغالب العام وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بنى إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة وكذلك فى شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب إلى ما أشبه ذلك فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة وقد قالت طائفة إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف وللستر حكمة أيضا وهى أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وقال ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وفي الحديث
لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وأمر عليه الصلاة و السلام بإصلاح ذات البين وأخبر
أن فساد ذات البين هى الحالقة وأنها تحلق الدين والشريعة طافحة بهذا المعنى ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب البر والصلة وقد جاء في قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شئ الآية أنه روى عن عائشة وأبي هريرة هذا حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه (4/181)
وسلم
يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم قلت الله ورسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا منهم بري وهم مني برءآء
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها كما عين رسول الله صلى الله عليه و سلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفون ويحذر منهم ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى وخرج أبو داود عن عمر ابن أبي قرة قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون (4/182)
إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال
أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر فهذا من سلمان حسن من النظر فهو جار في مسألتنا
فإن قيل فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشديد بهم وتقبيح ما هم عليه فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز
فالجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ونبه على البدع من غير تفصيل وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس فنحن أولى بذلك معشر الأمة
وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع وأنها لاحقة (4/183)
فى جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد فهو ممكن أن يكون هو المراد فى نفس الأمر أو بعضه فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ويبقى النظر هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث أم لا فهو موضع اجتهاد وأيضا فإن البدع المحدثة تختلف فليست كلها فى مرتبة واحدة فى الضلال ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التى قال فيها مالك التثويب ضلال وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه وإلى ما هو محرم ولو كانت عندهم على سواء لكانت قسما واحدا وإذا كان كذلك فالبدع التى تفترق بها الأمة مختلفة الرتب فى القبح وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا وما فى الحديث محصور فيمكن أن يكون بعضها غير داخل فى الحديث أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها أو لا تكون داخلة من حيث هى عند العلماء من قبيل المكروه فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع وهذا كالمعدوم فيها فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها (4/184)
فإن قيل فالعلماء يقولون خلاف هذا وإن الواجب هو التشديد بهم والزجر لهم والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين
فالجواب أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر
فصل
ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة وعلامات أيضا في التفصيل فأما عالمات الجملة فثلاث
إحداها الفرقة التى نبه عليها قوله تعال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شئ وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وغير ذلك من الأدلة
قال بعض المفسرين صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ثم برأه الله منهم بقوله لست منهم فى شيء وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله قال ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم (4/185)
يجدوا فيه نصا واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كإختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت المرذية التى حذر منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه
قال فكل مسألة حدثت فى الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين فى شئ وأنها التى عنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بتفسير الآية وهى قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فإذا اختلفوا وتقاطعوا (4/186)
كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه وهو ظاهر فى أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين
وهذه الخاصية موجودة فى كل فرقة من تلك الفرق ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة و السلام في قوله
يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازى هذا إلا الفرقة التى بين أهل الإسلام وأهل الكفر وهكذا تجد الأمر فى سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم
والخاصة الثانية هى التى نبه عليها قوله تعالى فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم إتباع المتشابهات وقد تبين معناه وقال عليه الصلاة و السلام
فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
والخاصية الثالثة اتباع الهوى وهى التى نبه عليها قوله فأما الذين فى قلوبهم زيغ وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى وقوله ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية (4/187)
إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أخذ فى خاصة نفسة لأنها أمر باطن فلا يعرفها غير صاحبها إلا أن يكون عليها دليل فى الظاهر والتى قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين فى العلم لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها والتى قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله
وأما العلامات التفصيلية فى فرقة فقد نبه عليها وأشير إليها كما فى قوله تعالى فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إلى قوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقوله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله الآية وقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى إلى آخرها وقوله إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية وقوله وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه الآية وقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف إلى آخر الآيتين وقوله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إلى قوله لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وقوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها الآية وقوله ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى قوله إن الله لا يهدى القوم الظالمين إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم
وكذلك فى الحديث كقوله
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وكذلك ما تقدم ذكره فى قسم زلة (4/188)
العالم وغيره مما فى الأحاديث المختصة بهذا المعنى وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق لما تقدم ذكره فمن تهدى إليها فذاك وإلا فلا عليه أن لا يعلمها والله الموفق للصواب
فصل
ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص
ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه
ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه وقد جاء فى الحديث عن علي
حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفى الصحيح عن معاذ أنه عليه الصلاة و السلام قال
يا معاذ تدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله الحديث إلى أن قال قلت يا رسول أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا وفى حديث آخر عن معاذ فى مثله قال
يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا فقال إذا يتكلوا (4/189)
قال أنس فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة أنظره فى كتاب مسلم والبخاري فإنه قال فيه عمر
يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فخلهم
وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجلا فقال
إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغضبونهم قلت لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلها على وجهها فيطيروا بها كل مطير وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتلخص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال
والله لأقومن فى أول مقام أقومه بالمدينة الحديث
ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم
ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهى بل يربي بصغار (4/190)
العلم قبل كباره وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه كما ذكر عز الدين بن عبد السلام فى مسألة الدور فى الطلاق لما يؤدى إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق وهو مفسدة
من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ولذلك أنكرت عائشة على من قالت لم تقضى الحائض الصوم ولا تقضى الصلاة وقالت لها أحروية أنت وقد ضرب عمر ابن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى وفاكهة وأبا فقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال ما أمرنا بهذا إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك
فتنبه لهذا المعنى
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت فى ميزانها فانظر فى مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها فى ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم ان كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية (4/191)
فصل
هذه الفرق وإن كانت على ما هى عليه من الضلال فلم تخرج من الأمة ودل على ذلك قوله
تفترق أمتي فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها وقد جاء فى الخوارج فى هذه الأمة كذا فأتى بفى المقتضية أنها فيها وفى جملتها وقال فى الحديث
وتتمارى فى الفوق ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار فى كفرهم ولقال إنهم كفروا بعد إسلامهم (4/192)
فإن قيل فقد اختلف العلماء فى تكفير أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهما
فالجواب أنه ليس فى النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذا من تلك الفرق بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى الكفر وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به فى أهله والأمر بالقتل فى حديث (4/193)
الخوارج لا يدل على الكفر إذ للقتل أسباب غير الكفر كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل وما أشبه ذلك فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله
وبهذا كله يتبين أن التعيين فى دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب وأنه أمر اجتهادى لا قطع فيه إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله
المسألة العاشرة
النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على (4/194)
خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة
والدليل على صحته أمور
أحدها أن التكاليف كما تقدم مشروعة لمصالح العباد ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف فى الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هى مقصودة للشارع والمسببات هى مآلات الأسباب فاعتبارها فى جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر فى المآلات
لا يقال إنه قد مر فى كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الإلتفات إليها عند الدخول فى الأسباب (4/195)
لأنا نقول وتقدم أيضا أنه لا بد من اعتبار المسببات فى الأسباب ومر الكلام فى ذلك والجمع بين المطلبين ومسألتنا من الثاني لا من الأول لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر فى حكم غيره على البراءة من الحظوظ فإن المجتهد نائب عن الشارع فى الحكم على أفعال المكلفين وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات فى الأسباب وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب وهو مآل السبب
والثانى أن مآلات الأعمال إنما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق
والثالث الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة فى أصل المشروعية كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا (4/196)
بها إلى الحكام الآية وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وقوله رسلا مبشرين ومنذرين الآية وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية وقوله ولكم فى القصاص حياة
وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة
وأما فى مسألة على الخصوص فكثير فقد قال فى الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه
أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقوله
لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم (4/197)
فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله هذا معنى الكلام دون لفظه
وفى حديث الأعرابي الذي بال فى المسجد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتركه حتى يتم بوله وقال
لا تزرموه وحديث النهي عن التشديد على النفس فى العبادة خوفا من الإنقطاع وجميع ما مر فى تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل فى الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما فى ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح فى عمل غير مشروع فى الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها قال ابن العربي حين أخذ فى تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهى متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها
فصل
وهذا الأصل ينبنى عليه قواعد
منها قاعدة الذرائع التى حكمها مالك فى أكثر أبواب الفقه لأن (4/198)
حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل بأن يشترى البائع سلعته من مشتريها بخمسة نقدا فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل والسلعة لغو لا معنى لها فى هذا العمل لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شىء ولكن هذا بشرط أن (4/199)
يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس بمقتضى العادة
ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المال أيضا لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى فكل عقدة منهما لها مآلها ومآلها فى ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع
ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله عملا بمقتضى قوله تعالى ولا تبسوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي إنه يجوز التدرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق (4/200)
على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر
ومنها قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (4/201)
ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضا لكن على حكم الانفراد فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة كإنفاق المال عند رأس الحول وأداء الدين منه وشراء العروض به وغيرها مما لا تجب فيه زكاة وهذا الإبطال صحيح جائز لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع وأما إبطالها ضمنا فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ولا يقول بهذا واحد منهم
ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل والخلاف إنما وقع في أمر آخر
ومنها قاعدة مراعاة الخلاف وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت (4/202)
فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها كالغصب مثلا إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله وكان ذلك من غير زيادة صح فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم لأن العدل هو المطلوب ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته لأنه ظلم له وكونه جانيا لا يجني عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي أخذا من قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله والجروح قصاص ونحو ذلك وإذا ثبت هذا فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة أو مؤد إلى أمر أشد عليه من (4/203)
مقتضى النهي فيترك وما فعل من ذلك أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل نظرا إلى أن ذلك الواقع واقع المكلف فيه دليلا على الجملة وإن كان مرجوحا فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم وحديث قتل المنافقين وحديث البائل في المسجد فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بتركه حتى يتم بوله لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد وفي الحديث
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ثم قال
فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة وإلا كان في حكم الزنى وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف (4/204)
فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح
وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي وهذا يقتضي الإبطال ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجنى عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام لأنه مسلم لم يعاند الشارع بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ولذلك قال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية وقالوا إن المسلم لا يعصى إلا وهو جاهل فجرى عليه حكم الجاهل إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد فإذ ذاك لا نظر في المسألة مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب
ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان وهو في مذهب (4/205)
مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضى القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري (4/206)
يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر
وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ومثله بيع العرية بخرصها تمرا فإنه بيع الرطب باليابس لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الاعراء كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضى منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الإطلاع على العورات في التداوي والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة
هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه
وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل (4/207)
على طريق الاستثاء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ثم جعله أقساما فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير وقال في أحكام القرآن الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين (4/208)
فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا
وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام
وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثيرا جدا وفي العتبيه من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعى العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا إن الوكاء قد يتفلت قال والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال
تسعة أعشار العلم الاستحسان
فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان لأن العزل لا حكم له إذ أقر الوطء ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد لكن الاستحسان ما قال لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرا فأجرى الحكم على الغالب (4/209)
وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال
وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة وإن الاستحسان عماد العلم والأدلة المذكورة تعضد ما قال
ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى وهى أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق (4/210)
الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة ولم يقع هنالك تفصيل وقد ألف ابن السيد كتابا في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة وحصرها في ثمانية أسباب
أحدها الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وجعله ثلاثة أقسام اشتراك في موضوع اللفظ المفرد كالقرء وأو في آية الحرابة واشتراك في أحواله العارضة في التصريف نحو ولا يضار كاتب ولا (4/211)
شهيد واشتراك من قبل التركيب نحو والعمل الصالح يرفعه وما قتلوه يقينا
والثاني دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعله ثلاثة أقسام ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول و الله نور السموات والأرض وما يرجع إلى أحواله نحو بل مكر الليل والنهار ولم يبين وجه الخلاف وما يرجع إلى جهة التركيب كإيراد الممتنع بصورة الممكن ومنه
لئن (4/212)
قدر الله علي الحديث وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذم والتكثير بصورة التقليل وعكسها
والثالث دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب
والرابع دورانه بين العموم والخصوص نحو لا إكراه في الدين (4/213)
وعلم آدم الأسماء كلها
والخامس اختلاف الرواية وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها
والسادس جهات الاجتهاد والقياس
والسابع دعوى النسخ وعدمه
والثامن ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات
هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه ومن أراد التفصيل فعليه به ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها وبالله التوفيق
المسألة الثانية عشرة
من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف وهو ضربان
أحدهما ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة وقد تقدم التنبيه عليه
والثاني ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه وهكذا يتفق في شرح السنة (4/214)
وكذلك في فتاوي الأئمة وكلامهم في مسائل العلم وهذا الموضع مما يجب تحقيقه فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح
فإذا ثبت هذا فلنقل الخلاف هنا أسباب
أحدها أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا فينصهما المفسرون على نصهما فيظن أنه خلاف كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق وقيل زنجبيل وقيل الترنجبين وقيل شراب مزجوه بالماء فهذا كله يشمله اللفظ لأن الله من به عليهم ولذلك جاء في الحديث
الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ذكر الناس منها آحادا
والثاني أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد فيكون التفسير فيها على قول واحد ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السمانى وقيل طير أحمر صفته كذا وقيل طير بالهند أكبر من العصفور وكذلك قالوا في المن شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة وقيل الترنجبين وقيل مثل رب غليظ وقيل عسل جامد فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها (4/215)
والثالث أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ويذكر الآخر على التفسير المعنوي وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى وهما معا يرجعان إلى حكم واحد لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال كما قالوا في قوله تعالى ومتاعا للمقوين أي المسافرين وقيل النازلين بالأرض القواء وهى القفر وكذلك قوله تصيبهم بما صنعوا قارعة أي داهية تفجوهم وقيل سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأشباه ذلك
والرابع أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد كإختلافهم في أن (4/216)
المفهوم له عموم أولا وذلك أنهم قالوا لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به وهو مما لا يختلفون فيه أيضا وكثير من المسائل على هذا السبيل فلا يكون في المسألة خلاف وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف
والخامس يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم كإختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له بالثاني وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع والحق فيه ما ذكر أولا ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ولا يصح فيها غير ذلك وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر كما ذكر عن ابن عباس في المتعة وربا الفضل وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف
والسادس أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم كإختلاف القراء في (4/217)
وجوه القراءآت فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكاره غيره بل على إجازته والإقرار بصحته وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات وليس في الحقيقة باختلاف فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها
والسابع أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح بل على توسيع المعاني خاصة فهذا ليس بمستقر خلافا إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه وليس الكلام في مثل هذا
والثامن أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد فيحمله قوم على المجاز مثلا وقوم على الحقيقة والمطلوب أمر واحد كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فمنهم من يحمل الحيات والموت على حقائقهما ومنهم من يحملهما على المجاز ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ونظير هذا قول ذي الرمة
... وظاهر لها من يابس الشخت ... وبائس الشخث ...
وقد مر بيانه وقول ذي الرمة فيه إن بائس ويابس واحد ومثل ذلك قوله فأصبحت كالصريم فقيل كالنهار بيضاء لا شيء فيها وقيل كالليل سوداء لا شيء فيها فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين الذين لا يتلاقيان
والتاسع أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى (4/218)
ما دل عليه الدليل الخارجي فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل وجميع التأويلات في ذلك سواء فلا خلاف في المعنى المراد وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه وتقع في غيرها كثيرا أيضا كتأويلاتهم في حديث
خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه وأشباه ذلك
والعاشر الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد كما اختلفوا في الخبر هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب فهذا خلاف في عبارة والمعنى متفق عليه وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر أواجب هو إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة وإن لم يريدوا ذلك وقالوا لا يحرم تركه ولا يجرح فاعله فوصفه بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح (4/219)
الاحتجاج عليه وما قاله حق فإن العبارات لا مشاحة فيها ولا ينبني على الخلاف فيها حكم فلا اعتبار بالخلاف فيها
هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف يجب أن تكون على بال من المجتهد ليقيس عليها ما سواها فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع
فصل
وقد يقال إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضا
وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الإطلاع عليه
أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي (4/220)
أما الأول فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ولوافق صاحبه فيه فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا
وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضا كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا فالإصابة على قول المصوبة إضافية فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون
ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع فإختلاف الطرق غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات (4/221)
المختلفة كرجل تقربه الصلاة وآخر تقربه الصيام وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى لا إلى تحري مقصد الشارع والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها بل ليتعرف منها المقصد المتحد فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح والله أعلم
فصل
وبهذا يظهر أن الخلاف الذى هو في الحقيقة خلاف ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحرى قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل وهو الصادر عن أهل الأهواء وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات وجاء أن كل بدعة ضلالة لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ودخول الأهواء في الأعمال خفي فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف (4/222)
المقرر في الشرع فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة فإن قيل هذا مشكل فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول وفرعوا عليها الفروع واعتبروهم في الإجماع وهذا هو الاعتداد بأقوالهم
فالجواب من وجهين أحدهما أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها وذلك في علمي الأصول معا بين وما يتفرع عليها مبنى عليها
والثاني إذا سلم اعتدادهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره فمثله لا يقال فيه إنه متبع للهوى مطلقا بل هو متبع للشرع ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو اتباع الشريعة وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية
وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ولهذا (4/223)
لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم وأيضا فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ومدارك الاجتهاد تختلف لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه وإلا أدى إلى عدم الضبط ولهذا تقرير في كتاب الاجماع فلما اجتمعت هذه الأمور نقل خلافهم
وفى الحقيقة فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها وجهة الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعا فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير
فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ولكن ما ذكر فيها كاف والله الموفق للصواب
المسألة الثالثة عشرة
مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق
وبقي النظر في المقدار الذى إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالإجتهاد بما أراه الله وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة (4/224)
أحدها أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل لكنه مجمل بعد وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا وربما لم يظهر بعد فهو ينهى البحث نهايته ومعلمه عند ذلك بعينه بما يليق به في تلك الرتبة ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه يهديه إلى مواقع إزالتها في الجريان على مجراه مثبتا قدمه ورافعا وحشته ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم
فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ويعارضها وتعارضه طمعا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها ولم تتلخص له بعد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه لأنه لم يتخلص له مسند الإجتهاد هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه فاللازم له الكف والتقليد والثاني أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك بل تصير الشكوك إذا أوردت عليه كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار (4/225)
لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما وإن كان موجودا عنده فلا يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على خلافها أم لا فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا هذا محل نظر وإلتباس ومما يقع فيه الخلاف
وللمحتج للجواز أن يقول إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى إلتأمت وصار بعضها عاضدا للبعض ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة وعمدة النحلة ومنبع التكليف فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة إذ لو كان (4/226)
كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة وقد فرضناه واصلا هذا خلف ووجه ثان وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي حتى يبنى عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل وهو محال
ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه فإن تكن في الحال غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي فهي حاكمة في الحقيقة لأن المعنى الكلي منها انتظم ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد
وهو المطلوب
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه
منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها وتعاضدت مراميها واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ومسلكا منتظما لا يزل عنه من مواردها فرد ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف (4/227)
آخر لا بد أيضا من اعتباره إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله
ومنها أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل آخر كما في النكاح مثلا فإنه لا يسوغ أن يجرى مجرى المعاوضات من كل وجه كما أنه لا يسوغ أن يجرى مجري الهبات والنحل من كل وجه وكما في مال العبد وثمرة الشجرة والقرض والعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة بل لكل باب ما يليق به ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره وكما في الترخصات في العبادات والعادات وسائر الأحكام وإن كان كذلك وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة (4/228)
فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي وأنه هو مقصود الشارع هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع
ومنها أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها وهى أفعال المكلفين بل كما يجري الكليات في كل جزئية على الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد
وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال
ومن أمثلة هذه هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنصوص على الإطلاق ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير (4/229)
بل على مقتضى قوله اليوم أكملت لكم دينكم
فصاحب الرأي يقول الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا دل على ذلك الاستقراء فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر لكن على وجه كلي عام فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام لأن دليله قطعي ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان
والظاهري يقول الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ومصالحهم تجرى على حسب ما أجراها الشارع لا على حسب أنظارهم فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك وإتباع المعاني رأي فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة والخاص الظني لا يعارض العام القطعي
فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلى ما اعتمدته في فهم الشريعة
ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد (4/230)
ابن عبد الوارث قال وجدت في كتاب جدي أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فأتيت أبا حنفية فقلت له ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا قال البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلي فقال البيع جائز والشرط باطل وأتيت ابن شبرمة فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال لا أدرى ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع وشرط فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما فقال لا أدرى ما قالا حدثنا هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط
فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما فقال ما أدرى ما قالاه حدثني مسعود بن حكيم عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال
اشترى مني رسول الله صلى الله عليه و سلم ناقة فشرطت حملاني فأجاز البيع والشرط فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ولم ير غيره من الجزئيات معارضا فأطرح الاعتماد عليه والله أعلم (4/231)
الثالث أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر فلا هو يجرى على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا
وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها وحاصله أنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها بخلاف ما قبلها فإن صاحبها محكوم عليه فيها ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها وإن كانت محكوما عليها تحت نظره وقهره فهو صاحب التمكين والرسوخ فهو الذى يستحق الانتصاب للاجتهاد والتعرض للاستنباط وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه والله أعلم
ويسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه والعاقل لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره ويوفى كل أحد حقه حسبما يليق به وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله مراده ومن خاصته أمران أحدهما أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص بخلاف صاحب الرتبة الثانية فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص والثاني أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ولا يبالي بالمآل (4/232)
إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما وكان في مساقه كليا ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة من مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل وفى مذهب مالك من ذلك كثير
المسألة الرابعة عشرة
تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء والعام لجميع المكلفين
ولكن لا بد من إعادة شئ من ذلك على وجه يوضح النوعين ويبين جهة المأخذ في الطريقين
وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهى الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب (4/233)
والأجانب وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق والدفع بالتى هي أحسن وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد
وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن
فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وبعد وفاته وفى زمان التابعين
إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضى أحكاما خاصة أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلا عن غيرها كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ومال إليها طبعه وهى في نفسها على غير ذلك وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم وطلبوا (4/234)
بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان تارة القرآن وتارة بالنسبة فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المحتملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا (4/235)
مطردا وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلا من الله ونعمه فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب (4/236)
على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا وتأكيدا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين فقال الله تعالى عند ذلك اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا
وإنما عني الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التى هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما إلى مقاربة الحد الفاصل فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة وتارة باللين فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء وإياه تحروا
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا فلم يفصلوا (4/237)
القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان اعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر
وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم ! عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير
ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة و السلام
بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه (4/238)
فصل
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم وإحتياطهم فسبقوا غاية السبق حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله صلى الله عليه و سلم من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة والله يختص برحمته من يشاء
فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت وعلى الأول جرى الصوفية الأول وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة فإن الذى يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ونصوص التنزيل المكي الذى لم ينسخ وتنزيل أعمالهم عليه (4/239)
تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وبإتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر
فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبك فخمسة دراهم وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شلك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به وإلتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض وأنه قال لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقال ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقال وفي السماء رزقكم وما توعدون ونحو ذلك فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في ملتزمه إنه خارج عن الطريقة ولا متكلف في التعبد لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي الواجبة انحتاما مقدرة ألا تتعدى إلى ما دونها وبقي ما سواها على حكم الخيرة فاتسع على المكلف مجال لإبقاء جوازا والإنفاق ندبا فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر والجميع محمودون لأنهم لم يتعدوا حدود الله فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله
ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا علما بأن في المال حقا سوى الزكاة وهو يتعين تحقيقا وإنما فيه الاجتهاد فلا يزال (4/240)
ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله سواء عليه أمد نفسه منه أم لا
وهذا كان غالب أحوال الصحابة ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجرى على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر فالصواب والله أعلم أن أهل هذا البلد معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها
فإن قيل فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء
فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه فسقط له طلب الحظ لنفسه فساغ أن يفتي على حسب حاله لأنه يقول هذه حالتي فاحملني على مقتضاها فلا بد أن يحمله على ما تقضيه كما لو قال أحد للمفتي إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا وأن لا تمس يدي يد مشرك وما أشبه هذا فإنه عقد لله على فعل فضل وقد قال تعالى أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع وفي الحديث
إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه وقال عثمان ما مسست (4/241)
ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى إذ عاهد الله أن لا يمس مشركا فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك الحديث كما وقع
غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع فلا بد أن يفتيه بمقتضاه وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ولا يقال إن هذا خلاف ما صرح به الشارع لأن الشارع قد صرح بالجميع لكن جعل إحدى الحالتين وهى المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ولم يلزمها أحدا لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة فإنها لازمة فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه
فإن قيل فإذا كانت غير لازمة فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم
قيل لم يفت بها مقتضى اللزوم الذى لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك وإنما يفتي لها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله وأصل الإلزام معمول به شرعا أصله النظر والوفاء بالعهد في التبرعات ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم كالمتعة في الطلاق وحديث
لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وكان عليه الصلاة و السلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها كحديث الأشعريين إذا أرملوا وقوله
من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله وقوله
من ذا الذى تألى على الله لا يفعل الخير وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمة (4/242)
الشطر من دينه وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية وبذلك عمل عمر ابن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال والله ليمرن به ولو على بطنك إلى كثير من هذا الباب وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد ابن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان فسألها من أنت فقالت أخت بشر الحافي فأجابها بترك الغزل بضوئها هذا معنى الحكاية دون لفظها وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال كان مالك يستعمل في نفسه مالا يفتي به الناس يعني العوام ويقول لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم هذا كلامه وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم (4/243)
الطرف الثاني فيما يتعلق بالمجتهد من جهة فتواه
والنظر فيه في مسائل
المسألة الأولى
المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه و سلم
والدليل على ذلك أمور
أحدها النقل الشرعي في الحديث
أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم وفي الصحيح
بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله (4/244)
قال العلم وهو في معنى الميراث وبعث النبي صلى الله عليه و سلم نذيرا لقوله إنما أنت نذير وقال في العلماء فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية وأشباه ذلك
والثاني أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام لقوله
ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال
بلغوا عني ولو أية وقال
تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم وإذا كان كذلك فهو معنى كونه قائما مقام النبي
والثالث أن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغا والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق بل القسم الذى هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى وقد جاء في الحديث
أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه
وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين (4/245)
بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولى الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم والأدلة على هذا المعنى كثيرة
فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر وهى
المسألة الثانية
وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار
فأما الفتوى بالقول فهو الأمر المشهور ولا كلام فيه
وأما بالفعل فمن وجهين
أحدهما ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال فهو قائم مقام القول المصرح به كقوله عليه الصلاة و السلام
الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بيديه وسئل عليه الصلاة و السلام في حجته فقال
ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال لا حرج وقال
يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن (4/246)
ويكثر الهرج قيل يا رسول الله وما الهرج فقال
هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء قلت آية فأشارت برأسها أي نعم وحين سئل عليه الصلاة و السلام عن أوقات الصلوات قال للسائل
صل معنا هذين اليومين ثم صلى ثم قال له
الوقت ما بين هذين أو كما قال وهو كثير جدا
والثاني ما يقتضيه كونه أسوة يقتدي به ومبعوثا لذلك قصدا وأصله قول الله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج الآية وقال قبل ذلك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية وقال في إبراهيم قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلى آخر القصة والتأسي إيقاع الفعل على الوجه الذى فعله وشرع من قبلنا (4/247)
شرع لنا وقال عليه الصلاة و السلام لأم سلمة
ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم وقال
صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم وحديث ابن عمر وغيره في الإقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ولذلك جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله
وإذا كان كذلك وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين
أحدهما أنه وارث وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا فكذلك الوارث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله
والثاني أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر لا يقدرون على الإنفكاك عنه بوجه ولا بحال لا سيما (4/248)
عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم في محلين
أحدهما حين دعاهم عليه الصلاة و السلام من الكفر إلى الإيمان ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء كقوله وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا وما أشبهه من الآيات وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ثم كرر عليهم التحذير من ذلك فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم وأضيفت الملة المحمدية إليه فقال تعالى ملة أبيكم إبراهيم فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها وتعمل بكثير منها فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي وهو من أبلغ ما دعو به من جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة وبذلك جاء في القرآن بعد قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة و السلام يدعو بها وأيضا فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي به فانقادوا ورجعوا إلى الحق (4/249)
والمحل الثاني حين دخلوا في الإسلام وعرفوا الحق وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي عليه الصلاة و السلام ونواهيه فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول وقضيته عليه الصلاة و السلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال لأم سلمة
أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون فقالت اذبح واحلق
ففعل النبي صلى الله عليه و سلم فاتبعوه ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل فقال
إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا وقال
لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر والمعنى في الموضعين واحد ولعل قائلا يقول إن النبي صلى الله عليه و سلم كان معصوما فكان عمله للإقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية (4/250)
والكفر فضلا عن الإيمان فأفعاله لا يوثق بها فلا تكون مقتدى بها
فالجواب أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبر مثله في نصب أقواله فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا لأنه ليس بمعصوم ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال لم يكن معتبرا في الأفعال ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان
فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة
وأما الإقرار فراجع إلى الفعل لأن الكف فعل وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف (4/251)
والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه
المسألة الثالثة
تنبني على ما قبلها وهى أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا
فأما فتياه بالقول فإذا جرت أقواله على غير المشروع وهذا من جملة أقواله فيمكن جريانها على غير المشروع فلا يوثق بها
وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصح الإقتداء بها ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح
وكذلك إقراره لأنه من جملة أفعاله
وأيضا فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي
هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة
وأما على التفصيل فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني فإن كان صامتا عما لا يعنى ففتواه صادقة وإن كان من الخائضين فيما لا يعنى فهي غير صادقة
وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت (4/252)
فتياه وإلا فلا وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ومثلها النواهي
فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان أو عن الزنى وهو لا يزني أو عن التفحش وهو لا يتفحش أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم وما أشبه ذلك فهو الصادق الفتيا والذي يقتدي بقوله ويقتدى بفعله وإلا فلا لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ولذلك قال تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال في ضده ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله وبما كانوا يكذبون فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل وفي الكذب مخالفته وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة فإن وافق صدق وإن خالف كذب فالفتيا لا تصح مع المخالفة وإنما تصح مع الموافقة
وحسب الناظر من ذلك سيد البشر صلى الله عليه و سلم حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاء والتمام حتى أنكر على من قال يحل الله لرسوله ما شاء
وحين سأله الرجل عن أمر فقال إني أفعله فقال له إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر غضب صلى الله عليه و سلم وقال
والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي وفي القرآن عن (4/253)
شعيب عليه السلام قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وقوله وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ويأتونه عياذا بالله من ذلك لكان ذلك أولى منفر وأقرب صاد عن الإتباع فمن كان في رتبة الوارثة لهم فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول ولما نهي عن الربا قال
وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال
وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث وقال حين شفع له (4/254)
في حد السرقة
والذي نفسي بيده لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته وأن الناس في أحكام الله سواء
والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى
وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول فقال الله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية وقال يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون عن جعفر بن برقان قال سمعت ميمون ابن مهران يقول إن القاص المتكلم ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة قلت أرأيت قول الله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية هو الرجل يقرظ نفسه فيقول فعلت كذا وكذا من الخير أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير فقال كلاهما
فإن قيل إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال العلماء إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة فكذلك هنا ومثله الانتصاب للفتوى ومن الذى يوجد لا يزل ولا يضل ولا يخالف قوله فعله ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة نعم لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب وأما أن (4/255)
يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا
فالجواب أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي فنحن نقول واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق طابق قوله فعله أم لا لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا أو كان مظنة للحصول لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه وإن خالف فعله قوله فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أولا فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ومن اقتدى به كان مخالفا مثله فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه حصل تصديق قوله بفعله وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم فلم يصدق القول الفعل هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على (4/256)
الإطلاق وقد قال أبو الأسود الدؤلي ... إبدأ بنفسك فإنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ... فهناك يسمع ما تقول ويقتدى ... بالرأي منك وينفع التعليم ... لا تنه عن خلق وتأتى مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ...
وهو معنى موافق للنقل والعقل لا خلاف فيه بين العقلاء
فصل
فإن قيل فما حكم المستفتى مع هذا المفتى الذي لم يطابق قوله فعله هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا فالجواب أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي هذا هو المطرد والغالب وما سواه كالمحفوظ النادر الذى لا يقوم منه أصل كلي بحال
وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي فالفقه فيها ظاهر فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته فلا يصح إلزامه إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته وجهته غير موثوق بها فيسقط الإلزام عن المستفتى وإذا سقط الإلزام عن المستفتى فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا يجرى ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي هل هو شرط (4/257)
في التكليف أم لا وذلك مقرر في كتب الأصول وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح والعمل عليه مبرئ للذمة والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا
المسألة الرابعة
المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين
وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه الصلاة و السلام التبتل وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة
أفتان أنت يا معاذ وقال
إن منكم منفرين وقال
سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشئ من الدلجة والقصد القصد تبلغوا وقال
عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله (4/258)
لا يمل حتى تملوا وقال
أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ورد عليهم الوصال وكثير من هذا
وأيضا فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا لأن المستفتى إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة
فصل
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا
وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا وهذا غلط والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وأن (4/259)
الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه
فصل
قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فرق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفى ما لعله يقتدي به فيه فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا وكان عليه الصلاة و السلام قدوة فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع كنهيه عن الوصال ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم وقد قال تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولهذا والله أعلم أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه
فصل
إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وهو الذي كان (4/260)
عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ولكن الترجيح فيها لا بد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم وأقرب إلى تحرى قصد الشارع في مسائل الاجتهاد فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا إنه بدعة حدثت بعد المائتين وقالوا في مذهب أصحاب الرأي لا يكاد المعرق في القياس إلا يفارق السنة فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله والله أعلم
الطرف الثالث فيما يتعلق بأعمال قول المجتهد المقتدى به وحكم الاقتداء به
المسألة الأولى
إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه واتقوا الله ويعلمكم الله لا على ما يفهمه كثير من الناس بل على ما (4/261)
قرره الأئمة في صناعة النحو أي إن الله يعلمكم على كل حال فاتقوه فكأن الثاني سبب في الأول فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا وهو يقتضي تقدم العلم على العمل والأدلة على هذا المعنى كثيرة وهي قضية لا نزاع فيها فلا فائدة في التطويل فيها لكنها كالمقدمة لمعنى آخر وهى
المسألة الثانية
وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه لأنه إسناد أمر إلى غير أهله والإجماع على عدم صحة مثل هذا بل لا يمكن في الواقع لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه أخبرني عما لا تدري وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء إذ لو قال له دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء لعد من زمرة المجانين فالطريق الشرعي أولى لأنه هلاك أخروي وذلك هلاك دنيوي خاصة والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه غير أنا نقول بعده
إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذى يسأل عنه فلا يخلو أن يتحد في ذلك القطر أو يتعدد فإن اتحد فلا إشكال وإن تعدد فالنظر في التخيير وفى الترجيح قد تكفل به أهل الأصول وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال أما إذا كان اطلع على فتاويهم قبل ذلك وأراد أن يأخذ بأحدها فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى فلا سبيل إليه ألبتة وقد مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب فلا نعيده (4/262)
المسألة الثالثة
حيث يتعين الترجيح فله طريقان أحدهما عام والآخر خاص
فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ويحترز منه وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم أو على أهلها القائلين بها مع أنهم يثبتون مذاهبهم ويعتدون بها ويراعونها ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى وهو غير لائق بمناصب المرجحين وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة وما يليها من مذهب داود ونحوه فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها
أحدها أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذى تفاوتا فيه وإلا فهو إبطال لأحدهما وإهمال لجانبه رأسا ومثله هذا لا يسمى ترجيحا وإذا كان كذلك فالخروج في بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له وهذا ليس من شأن العلماء وإنما الذى يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله والأئمة المذكورون برآء من ذلك النمط لا يليق بهم
والثاني أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه لأن الذى غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر (4/263)
محاسنه فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام وإن كان مرجوحا فإن الترجيح لم يحصل
والثالث أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث
إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا وهل يسب الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فهذا من ذلك وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع كقوله لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وأشباه ذلك
والرابع أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب
وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ وقد مر تقرير هذا المعنى قبل فكل ما أدى إلى هذا ممنوع
فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب وإن لم يصحح سنده أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال له إياك والشعر قال لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه مأكلة عيالي ونملة على لساني قال فشبب بأهلك وإياك (4/264)
وكل مدحة مجحفة قال وما هى قال تقول بنو فلان خير من بنى فلان امدح ولا تفضل قال أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني فإن صح هذا الخبر وإلا فمعناه صحيح فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا والعوائد شاهدة بذلك
والخامس أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة قال الغزالي في بعض كتبه أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل
هذا ما قال وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية
وقد جاء في حديث الذى لطم وجه اليهودي القائل والذى اصطفى موسى على البشر أن النبي صلى الله عليه و سلم غضب وقال
لا تفضلوا بين الأنبياء (4/265)
أو
لا تفضلوني على موسى مع أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء بالتفضيل أيضا فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم قال وقد خرج الحديث على سبب وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي فقد يكون عليه الصلاة و السلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص موسى فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق قال عياض وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك هذا ما قال وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء فإنهم ورثة الأنبياء
فصل
وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة فلا حرج فيه بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن أعني عند الحاجة إليه وأصله من الكتاب قول الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية فبين أصل التفضيل ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل وقال تعالى ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا
وفى الحديث من هذا كثير
لما سئل من أكرم الناس فقال أتقاهم فقالوا ليس عن هذا نسألك قال فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله (4/266)
ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وقال عليه الصلاة و السلام
بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحد أعلم منك قال لا فأوحى الله إليه بلى عبدنا خضر وفى رواية أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم قال
أنا فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه قال له بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذى اصطفى محمدا على العالمين في قسم يقسم به فقال اليهودي والذى اصطفى موسى على العالمين إلى أن قال عليه الصلاة و السلام
لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بجانب العرش فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله وفى رواية
لا تفضلوا بين الأنبياء فإنه ينفخ في الصور الحديث فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إ ذا كان ثم مرجح وقال
كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقال للذى قال له يا خير (4/267)
البرية
ذاك إبراهيم وقال في الحديث الآخر
أنا سيد ولد آدم وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين وإنما النظر في صحة التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة وهو ثابت من الحديثين وقال
خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقال عمر كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة وهم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام إذا اختلفتم أنت وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك وقال خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الله الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفى كل دور الأنصار خير وقال
أرحم أمتى بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن (4/268)
جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وقال عبد الرحمن بن يزيد سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي صلى الله عليه و سلم حتى نأخذ عنه فقال
ما أعرف أحد أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه و سلم من ابن أم عبد ولما حضر معاذا الوفاة قيل له يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني قال إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول ذلك ثلاث مرات والتمسوا العلم عند أربعة رهط عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الحديث
وقال عليه الصلاة و السلام
اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (4/269)
وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم والحكم المنبرم الذى لا يتعدى إلى سواه وكذلك فعل السلف الصالح
فصل
وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم وعمروا بذلك دواوينهم وسودوا به قراطيسهم حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده بل أتى الوادي فطم على القرى فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال فنظموا فيه ونثروا وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة و السلام وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها وهو خروج عن الحق وقد علمت السبب في قوله عليه الصلاة و السلام
لا تفضلوا بين الأنبياء وما قال الناس فيه فإياك والدخول في هذه المضايق ففيها الخروج عن الصراط المستقيم
وأما الترجيح الخاص فلنفرد له مسألة وهى
المسألة الرابعة
وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين أحدهما من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله على مقتضى فتواه فهو متصف بأوصاف العلم قائم معه مقام الامتثال التام حتى إذا أحببت الإقتداء به من غير سؤال (4/270)
أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال كما كان رسول الله عليه وسلم يؤخذ العلم من قوله وفعله وإقراره
فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن ليس كذلك وهو القسم الثاني وإن كان في أهل العدالة مبرزا لوجهين
أحدهما ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله فوعظه أبلغ وقوله أنفع وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك لأنه الذى ظهرت ينابيع العلم عليه واستنارت كليته به وصار كلامه خارجا من صميم القلب والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ومن كان بهذه الصفة فهو من الذين قال الله فيهم إنما يخشى الله من عباده العلماء بخلاف من لم يكن كذلك فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ حسبما حققته التجربة العادية
والثاني أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول كما تقدم بيانه أيضا فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب وانقادت له بالطواعية النفوس بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام وإن كان فضله ودينه معلوما ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها فمن زهد الناس في الفضول التى لا تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها فتزهيده أنفع من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله
فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله
والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي فإذا طابق فيهما أعني فيما عدا شروط العدالة فالأرجح المطابقة في النواهي فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يرتكب منهيا عنه لكنه في الأوامر ليس كذلك (4/271)
والآخر مثابر على أن لا يخالف مأمورا به لكنه في النواهي على غير ذلك فالأول أرجح في الاتباع من الثاني لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه
أحدها أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم
والثاني أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف بعض النواهي فإنه مخالفة في الجملة فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة
الثالث النقل فقد جاء في الحديث
فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر
المسألة الخامسة
الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين
أحدهما أن يكون المقتدى به بالأفعال ممن دل الدليل على عصمته كالاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه و سلم أو فعل أهل الإجماع أو ما يعلم (4/272)
بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ كعمل أهل المدينة على رأي مالك
والثاني ما كان بخلاف ذلك
فأما الثاني فعلى ضربين أحدهما أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدي به قصدا كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم من أخذ وإعطاء ورد وإمضاء ونحو ذلك أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به واهتماما بشأنه دينا وأمانة والآخر أن لا يتعين فيه شيء من ذلك
فهذه أقسام ثلاثة لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الإقتداء
فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذى وقعه عليه المقتدي به لا يقصد به إلا ذلك سواء عليه أفهم مغزاه أم لا من غير زيادة أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه فيبني في إقتدائه على المحمل الأحسن ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ويفرع عليه المسائل
فأما الأول فلا إشكال في صحة الإقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون كما اقتدى الصحابة بالنبي صلى الله عليه و سلم في أشياء كثيرة كنزع الخاتم الذهبي (4/273)
وخلع النعلين في الصلاة والإفطار في السفر والإحلال من العمرة عام الحديبية وكذلك أفعال الصحابة التى أجمعوا عليها وما أشبه ذلك
وأما الثاني فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الإقتداء لأمور
أحدها أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل
فالاحتمال الذى عيه المقتدى لا يتعين وإذا لم يتعين لم يترجح إلا بالتشهي وذلك مهمل في الأمور الشرعية إذ لا ترجيح إلا بمرجح
ولا يقال إن تحسين الظن مطلوب على العموم فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته
لأنا نقول تحسين الظن بالمسلم وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه مطلوب بلا شك كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية وقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم كما أمر باعتقاد (4/274)
ما لا يعلم في قوله وقالوا هذا إفك مبين وقوله لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك مجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ولم يكن كل مسلم عدلا بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم وتحسين الظن بالأفعال من ذلك فلا ينبني عليها حكم
ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ولا قرينة تدل على تعين أحد الاحتمالين فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني بناء على تحسينه الظن به
والثاني أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا وهو مأمور به مطلقا وافق ما في نفس الأمر أو خالف إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر وليس كذلك باتفاق فلا يستلزم المطابقة وإذا ثبت هذا فالإقتداء (4/275)
بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه لا على أمر حصل لذلك المقتدى به لكنه قصد الإقتداء بناء على ما عند المقتدى به فأدى إلى بناء الإقتداء على غير شيء وذلك باطل بخلاف الإقتداء بناء على ظهور علاماته فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدي به علما أو ظنا وإياه قصد المقتدى بإقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة
والثالث أن هذا الإقتداء يلزم منه التناقض لأنه إنما يقتدي به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا وإذا لم يقتضه لم يكن الإقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر وقد فرضنا أنه كذلك هذا خلف متناقض
وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن والفرق بينهما ظاهر لأمرين أحدهما أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك حسبما دلت عليه الأدلة الظنية بخلاف تحسين الظن فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أولا والثاني أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدي به فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن قواه وثبته بتكراره في فكره (4/276)
ووعظ النفس في اعتقاده وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه وكرر نفيه على فكرة ومحاه عن ذكره
فإن قيل إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد والانقطاع إلى الله ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان
فالجواب أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه وفرض مسألتنا ليس هكذا بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته فمثل هذا له في هذه الدار حالان حال دنيوي به يقيم معاشه ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه وحال أخروي به يقيم أمر آخرته فأما هذا الثاني فلا كلام فيه وهو متعين في نفسه وغير محتمل إلا في القليل ولا اعتبار بالنوادر وأما الأول فهو مثار (4/277)
الاحتمال فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه فى نفسه فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا له به فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ليس له أصل ينبني عليه إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدي به نيل ما أبيح له من حظه فلا يصادف قصد المقتدي محلا بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيرة متقربا به والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام
بل نقول إذا وقف المقتدي به وقفة أو تناول ثوبه على وجه أو قبض لحيته في وقت ما أو ما أشبه ذلك فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلا كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين فمثل هذا هو المراد بالمسألة
وكذلك إذا كان له درهم مثلا فأعطاه صديق له لصداقته وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به فيقول المقتدي حسن الظن به يقتضى أنه يتصدق به لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر الأخروي فيجئ منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية
وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث
واختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا فإذا بنينا على (4/278)
ما تقدم فلقائل أن يقول إن ما قاله غير متعين
لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه فقد كان عليه الصلاة و السلام يحب من الدنيا أشياء وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ويتعين ذلك في أمور كحبه للنساء والطيب والحلواء والعسل والدباء وكراهيته للضب وأشباه ذلك وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له وهو منقول كثيرا
ووجه ثان وهو أنه قد دعا عليه الصلاة و السلام بأمور كثيرة دنيوية كاستعاذته من الفقر والدين وغلبة الرجال وشماتة الأعداء والهم وأن يرد إلى أرذل العمر وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ويدل عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله
لكل نبى دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم وهو الدعاء عليهم كقوله وقال نوح ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا حسبما نقله المفسرون وكان من الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط فكذلك دعوة النبي صلى الله عليه و سلم لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم (4/279)
وأمر ثالث وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة و السلام كان من أفعال الجبلة الآدمية أولا إذ يمكن أن يقال إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصا وليس كذلك عند العلماء بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضا فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه
مع أن الحديث كما تقدم يقتضى أن الدعوة مخصوصة بالأمة لقوله فيه
لكل نبي دعوة مستجابة في امته فليست مخصوصة به فلا يحصل (4/280)
فيها معنى الإيثار الذى ذكره لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر وهنا ليس كذلك
والقسم الثاني إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه فلا شك في صحة الاقتداء إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك بالقرائن الدالة على ذلك فهو موضع احتمال
فللمانع أن يقول إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ والنسيان والمعصية قصدا وإذا لم يتعين وجه فعله فكيف يصح الاقتداء به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ولذلك حكى عن بعض السلف أنه قال
أضعف العلم الرؤية يعنى أن يقول رأيت فلانا يعمل كذا ولعله فعله ساهيا وعن إياس ابن معاوية
لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك وقد ذم الله (4/281)
تعالى الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية وفى الحديث من قول المرتاب
سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس أو هو قريب منه
وللمجيز أن يقول إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك ولا سيما في العبادات ومع التكرار أيضا وهو من أهل الاقتداء بقوله فالاقتداء بفعله كذلك وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم إنه جائز واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه قال وأراه كان يتحراه فقد استند إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه عليه الصلاة (4/282)
والسلام عن إفراد يوم الجمعة بالصوم فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذى يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به وجهة فعله فصح الاقتداء
والقسم الثالث هو أن لا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ولا دلت قرينه على جهة ذلك الفعل فإن قلنا في القسم الثاني بعدم صحة الاقتداء فههنا أولى وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال فإن قرائن التحري للفعل موجودة فهي دليل يتمسك به في الصحة وأما ههنا فلما فقدت قوى احتمال الخطأ والغفلة وغيرها هذا مع اقتران الاحتياط على الدين فالصواب والحالة هذه منع الإقتداء إلا بعد الإستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ويتمكن قول من قال
لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك ونحوه
المسألة السادسة
قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة
أما الحال الأول فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد فإذا كان اجتهاده غير معتبر فالاقتداء به كذلك لأن أعماله إن كانت بإجتهاد منه فهي ساقطة وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه (4/283)
من حيث لا يعلم بها فيصير عمله مخالفا فلا يوثق بأن عمله صحيح فلا يمكن الاعتماد عليه
وأما الحال الثاني فلا إشكال في صحة استفتائه ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها
وأما الحال الثالث فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته وأما الاقتداء بأفعاله فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر
هذا وإذا لم يكن في أعماله صاحب حال فإن كان صاحب حال وهو ممن يستفتى فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا وهل يصح استفتاؤه في كل شئ أم لا كل هذا مما ينظر فيه فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق إما لسائق الخوف أو لحادى الرجاء أو لحامل المحبة فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه فليس لهم عن الأعمال فترة ولا عن جد السير راحة فمن كان بهذا الوصف فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته وأيضا فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء أو مريض العزم في (4/284)
قطع مسافات النفس أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية أو راض بالأوائل عن الغايات فكل هؤلاء لا طاقة لهم بإتباع أرباب الأحوال وإن تطوقوا ذلك زمانا فعما قريب ينقطعون والمطلوب الدوام ولذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام
خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وقال
أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ وقال
إن الله يحب الرفق في الأمر كله وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد خوفا من الانقطاع وقال واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ورفع عنا الإصر الذى كان على الذين من قبلنا فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء وهم كذلك ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه اللهم إلا أن تكون صاحب حال مثلهم وغير مخوف عليه الانقطاع فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل وهذا المقام قد عرفه أهله وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه
وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتى في المسائل فيحتمل تفصيلا وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شئ هو فيه صاحب حال أو لا فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله فأن نطقه في أحكام أحواله من جملة أعماله والغالب فيه أنه يفتى بما يقتضيه حاله لا بما يقتضيه حال السائل وإن كان الثاني ساغ ذلك (4/285)
لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال إذ ليس مأخوذا فيه
المسألة السابعة
يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه
قال مالك بن أنس ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقيل له يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ما تقول شيئا إلا تلقوه منك قال فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا قال الراوي فرأيت في النوم قائلا يقول مالك معصوم
وقال إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن
وقال ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي
وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويردد فيها فقيل له في ذلك فبكى وقال إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم وكان إذا جلس نكس رأسه وحرك شفتيه يذكر الله ولم يلتفت يمينا ولا شمالا فإذا سئل عن مسألة تغير لونه وكان أحمر فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه ثم يقول ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة وكان يقول من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب
وقال بعضهم لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة والله واقف بين الجنة والنار
وقال ما شئ أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام (4/286)
لأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسالة كان الموت أشرف عليه ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا وإن عمر ابن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذى بعث فيهم النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ويسألون ثم حينئذ يفتون فيها وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم قال ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتضى بهم ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ولكن يقول أنا أكره كذا وأرى كذا وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية لأن الحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرماه
قال موسى بن داود ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول لا أحسن من مالك وربما سمعته يقول ليس نبتلى بهذا الأمر ليس هذا ببلدنا
وكان يقول للرجل يسأله اذهب حتى أنظر في أمرك قال الراوي فقلت إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى
وسأل رجل مالكا عن مسألة وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب فقال له أخبر الذى أرسلك أنه لا علم لي بها قال ومن يعلمها قال من علمه الله وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدرى ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده فقال مسألتي فقال ما أدرى ما هي فقال الرجل يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على (4/287)
وجه الأرض أعلم منك فقال مالك غير مستوحش إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن وسأله آخر فلم يجبه فقال له يا أبا عبد الله أجبني فقال ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك
وسئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس وقال قال ابن عجلان إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله ويروي هذا الكلام عن ابن عباس وقال سمعت ابن هرمز يقول ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدري قال عمر بن يزيد فقلت لمالك في ذلك فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم وأهل العراق إلى عراقهم وأهل مصر إلى مصرهم ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به قال فأخبرت الليث بذلك فبكى وقال مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ويقول في الباقي لا أدري
قال أبو مصعب قال لنا المغيرة تعالوا نجمع كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا فمكثنا نجمع ذلك وكتبناه في قنداق ووجه به المغيرة إليه وسأله الجواب فأجابه في بعضه وكتب في الكثير منه لا أدري فقال المغيرة يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري
والروايات عنه في لا أدري و لا أحسن كثيرة حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة وقيل له إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري قال ويحك أعرفتني ومن أنا وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر وقال هذا ابن عمر يقول لا أدري فمن أنا وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة (4/288)
وهذا يضمحل عن قليل وقال مرة أخرى قد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها وقال ابن الزبير لا أدري وابن عمر لا أدري وسئل مالك عن مسألة فقال لا أدري فقال له السائل إنها مسألة خفيفة سهلة وإنما أردت أن أعلم بها الأمير وكان السائل ذا قدر فغضب مالك وقال مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول الله تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة قال بعضهم ما سمعت قط أكثر قولا من مالك لا حول ولا قوة إلا بالله ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين لفعلنا وقال له ابن القاسم ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال مالك ومن أين علموها قال منك فقال مالك ما أعلمها فكيف يعلمونها بي وقال ابن وهب قال مالك سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ولا أحدث بها قال الفروي فقلت له لم قال ليس عليها العمل وقال رجل لمالك إن الثوري حدثنا عنك في كذا فقال إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة وقيل له عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك فقال أنا أحدث الناس بكل ما سمعت إني إذا أحمق وفي رواية إني أريد أن أضلهم إذا ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها وإن كنت أجزع الناس من السياط ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته وكان إذا قيل له ليس هذا الحديث عند غيرك تركه وإن قيل له هذا ما يحتج به أهل البدع تركه وقيل له إن فلانا يحدث بغرائب فقال من الغريب نفر وكان إذا شك في الحديث طرحه كله وقال إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه وقال ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة ويذهب به إلى الأمصار (4/289)
قال الله تعالى فبشر عبادى الذين يستمعون القول الآية وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه لا أدري إنما هو الرأي وأنا أخطئ وأرجع وكل ما أقول يكتب وقال أشهب ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال لا تكتبها فإني لا أدري أثبت عليها أم لا قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل قال وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ويقول حسبكم من أكثر أخطأ وكان يعيب كثرة ذلك وقال يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله فقال مالك سل عما يكون ودع ما لا يكون وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه فقال له لم لا تجيبني يا أبا عبد الله فقال لو سألت عما تنتفع به أجبتك وقيل له إن قريشا تقول إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها فقال إنما نتكلم فيما نرجو بركته قال ابن القاسم كان مالك لا يكاد يجيب وكان أصحابه يحتالون أن يجئ رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها وقال لابن وهب اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذى لا يستقيم أن يحدث به فقال إنما أسمعه لأعرفه لا لأحدث به فقال له ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها وأرجو أن لا أفعل ما عشت ولقد ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت قال أشهب رأيت في النوم قائلا يقول لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها وذلك قوله ما شاء الله لا قوة إلا بالله
هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح ولم آت بها على ترجيح تقليد مالك وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض (4/290)
المسألة الثامنة
يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ولا من تقليد والدليل على ذلك أمور
أحدها أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح حسبما تبين في موضعه من الأصول فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى
والثاني أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب
والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به وهذا غير عالم بالفرض فلا ينتهض سببه على حال
والثالث أنه لو كان مكلفا بالعمل لكان من تكليف ما لا يطاق إذ هو مكلف بما لا يعلم ولا سبيل له إلى الوصول إليه فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه وهو عين المحال إما عقلا وإما شرعا والمسألة بينة
فصل
ويتصور في هذا العمل أمران
أحدهما فقد العلم به أصلا فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة (4/291)
والثاني فقد العلم لوصفه دون أصله كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها كالسهو وشبهه فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها وكتب الفروع أخص بها من هذا الموضع
المسألة التاسعة
فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين (4/292)
والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ولا يجوز ذلك لهم ألبتة وقد قال تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والمقلد غير عالم فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق فهم إذا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع
وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف فذلك مساو لعدم الدليل إذ لا تكليف إلا بدليل فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل فهو غير مكلف به فثبت أن قول المجتهد دليل العامي والله أعلم
ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران
أحدهما في تعارض الأدلة على المجتهد وترجيح بعضها على بعض
والآخر في أحكام السؤال والجواب (4/293)
كتاب لواحق الاجتهاد وفيه نظران
النظر الأول في التعارض والترجيح
المسألة الأولى لا تعارض في الشريعة في نفس الأمر بل في نظر المجتهد
فالنظر الأول
فيه مسائل
بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها وهى أن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر فيلزم أن لا يكون عنده تعارض ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم فإذا ثبت هذا فنقول
المسألة الأولى
التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر وإما من جهة نظر المجتهد أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك في مسألة أن الشريعة على قول واحد ما فيه كفاية وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين وهو صواب فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض (4/294)
كالعام مع الخاص والمطلق مع المقيد وأشباه ذلك
لكنا نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذى لا يمكن فيه الجمع ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة وبمجموع النظر في الضربين يسهل إن شاء الله على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد وبالله التوفيق
فأما ما لا يمكن فيه الجمع وهى
المسألة الثانية
فإنه قد مر في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب هو متعلق الدليل الشرعي فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معا دليل النفي ودليل الإثبات فتعارض عليها الدليلان فاحتيج إلى الترجيح وإلا فالتوقف وتصير من المتشابهات ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى لم يحتج إلى مزيد
إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح تعارض ما في معناها كما في تعارض القولين على المقلد لأن نسبتهما إليه نسبة الدليلين إلى (4/295)
المجتهد ومنه تعارض العلامات الدالة على الأحكام المختلفة كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الإنتهاب فيرى مثله في يد رجل ورع فيدل (4/296)
صلاح ذي اليد على أنه حلال ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام فيتعارضان ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة كالعبد فإنه آدمي فيجري مجرى الأحرار في الملك ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك ومنه تعارض الأسباب كاختلاط الميتة بالذكية والزوجة بالأجنبية إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم ومنه تعارض الشروط كتعارض البينتين إذا قلنا إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم فإحداهما تقتضي إثبات أمر والأخرى تقتضي نفيه وكذلك ما جرى مجرى الأمور داخل في حكمها
ووجه الترجيح في هذا الضرب غير منحصر إذ الوقائع الجزئية النوعية أو الشخصية لا تنحصر ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد بل لا بد من ضمائم تحتف وقرائن تقترن مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات وهذا أمر مشاهد معلوم وإذا كان كذلك فوجوه الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض فلا يمكن في هذه الحال الإحالة على نظر المجتهد فيه وقد تقدم لهذا المعنى تقرير في أول كتاب الاجتهاد وحقيقة النظر الالتفات إلى (4/297)
كل طرف من الطرفين أيهما أسعد وأغلب أو أقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة فيبنى على إلحاقها به من غير مراعاة للطرف الآخر أو مع مراعاته مسألة العبد في مذهب مالك ومن خالفه وأشباهها
فصل
هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام الأصوليين وإذا تأملنا المعنى فيه وجدناه راجعا إلى الضرب الثاني وأن الترجيح راجع إلى وجه (4/298)
من الجمع وإبطال أحد المتعارضين حسبما يذكر على أثر هذا بحول الله تعالى
وأما ما يمكن فيه الجمع وهى
المسألة الثالثة
فنقول لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور
إحداها أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي أولا وعلى كل تقدير فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم تعارضا وترجيحا وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة فلا فائدة في التكرار
والثانية أن يقع في جهتين جزئيتين كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة (4/299)
كتعارض حديثين أو قياسين أو علامتين على جزئية واحدة وكثيرا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذى لا يمكن فيه الجمع ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر فلا بد من أحد أمرين إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال فيقي ! الآخر هو المعمل لا غير وذلك لا يصح إلا مع فرض إبطاله بكونه منسوخا أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل وإذا فرض أحد هذه الأشياء لم يمكن فرض اجتماع دليلين فيتعارضا وقد سلموا أن أحدهما منسوخا لا يعد معارضا فكذلك ما في معناه فالحكم إذا للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل (4/300)
والأمر الثاني الحكم عليهما معا بالأعمال ويلزم من هذا أن لا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد لأنه محال مع فرض أعمالهما فيه فإنما يتواردان من وجهين وإذ ذاك يرتفع التعارض ألبتة إلا أن هذا الأعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك فإنه أعمل حكم الملك له من وجه وأهمل ذلك من وجه وتارة يخص أحد الدليلين فلا يتواردان على محل التعارض معا بل يعمل في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك
ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام
والصورة الثالثة أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ولا ترجعان إلى كلية واحدة كالمكلف لا يجد ماء ولا متيمما
فهو بين أن يترك مقتضى أقيموا الصلاة لمقتضى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلى آخرها أو يعكس فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات والطهارة (4/301)
راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك أو معارضة أقيموا الصلاة لقوله وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي فإن رجح الكلي فكذلك جزئيه أو لم يرجح فجزئيه مثله لأن الجزئي معتبر بكليه وقد ثبت ترجيحه فكذلك يترجح جزئيه وأيضا فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي فهو الحامل له حتى إذا انخرم فقد ينخرم الكلي فهذا إذا متضمن له فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كلية للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر فلا بد من تقديم جزئيه كذلك وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات الشاملة لهذه الجزئيات فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب والحمد لله
والصورة الرابعة أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد وهذا في (4/302)
ظاهره شنيع ولكنه في التحصيل صحيح
ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن وتعارض القطعيات محال
وأما وجه الصحة فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران فلا يكون تعارضا في الحقيقة وكذلك الجزئيان إذا دخلا تحت كلي واحد وكان موضوعهما واحد إلا أن له اعتبارين
فالجزئيان أمثلتهما كثيرة وقد مر منها ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم فقد تعارض على الميل دليلان لكن بالنسبة إلى شخصين وهكذا ركوب البحر يمنع منه بعض ويباح لبعض والزمان واحد لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق وأشباه ذلك (4/303)
وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله
وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول على لأنه شيء عظيم مهدي من ملك عظيم
فالأول له وجهان
أحدهما أنها لا جدوى لها ولا محصول عندها ومن ذلك قوله تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد في شئ ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها وقوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة وقوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان وقوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله ذلك متاع الحياة الدنيا وقال المال والبنون زينة الحياة الدنيا إلى غير ذلك من الآيات وكذلك الأحاديث في هذا المعنى كقوله
لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة (4/304)
ماء وهى كثيرة جدا وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء
والثاني أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع ومن ذلك قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض إلى قوله كأن لم تغن بالأمس وقوله إنما هذه الحياة الدنيا متاع وقوله لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل الآية وقوله إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وغير ذلك من الآيات المفهم معنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن والأحاديث في هذا أيضا كثيرة كقوله عليه الصلاة و السلام
مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب تحت شجرة ثم راح وتركها وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية (4/305)
وأما الثاني من الوصفين فله وجهان أيضا
أحدهما ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلى وعلى الدار الآخرة كقوله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى كذلك الخروج وقوله أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآية وقوله يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية وقوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد وبراهين على التوحيد
والثاني أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده وتعرف إليهم بها في أثناء ذلك واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم كقوله تعالى الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقوله الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء الآية وقوله هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وفيها والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا الآية وفي أول السورة والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم قال ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ثم قال والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة فامتن تعالى ههنا وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة وهو الذى ذم به الدنيا في قوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة إلى غير ذلك بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا (4/306)
كقوله في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وهو قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وقال ولهم فيها أزواج مطهرة وقال والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وهو كثير حتى إنه قال في الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة وقال والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا إلى قوله فيه شفاء للناس وهو كثير أيضا
فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لها من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات وقال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة يعني في الدنيا ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة وقال حين أمتن بالنعم كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور وقال في بعضها ولتبتغوا من فضله فعد طلب الدنيا فضلا كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلا
والدلائل أكثر من الاستقصاء
فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني وهو ظاهر لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته وإتصافه بصفات الكمال وعلى أن الآخرة حق فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق وهذا لا تنفصل (4/307)
الدنيا فيه من الآخرة بل هو في الدنيا لا يفنى لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذى تعطيه فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه وهو لا يفنى وإن فنى منها ما يظهر للحس وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة فتكون هنالك نعيما
فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه كجعل اللفظ دليلا على المعنى باق وإن فنى العنوان وكذلك ضد كونها منقضية بإطلاق
فالوصفان إذا متضادان والشريعة منزهة عن التضاد مبرأة عن الاختلاف فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو حالتين متنافيتين بيانه أن لها نظرين
أحدهما نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا متعرفا للحق ومستحقا لشكر الواضع لها بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ولعب بلا جد وباطل بلا حق لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ثم يزول عن قريب فلا يبقى منه شئ فذلك كأضغاث الأحلام فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ولذلك صارت أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وفى الآية الأخرى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (4/308)
والثاني نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم مبثوث فيها من كل شئ خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه فإذا نظر إليها العاقل وجد كل نعمة فيها يجب شكرها فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته وصار ذلك القشر محشوا لبا بل صار القشر نفسه لبا لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ومن ههنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق كقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق أولم يتفكروا فى أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق إلى غير ذلك ولأجل هذا صارت أعمال أهل النظر معتبرة مثبتة حتى قيل فلهم أجر غير ممنون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني بل هي محمودة فذمها بإطلاق لا يستقيم كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم والأخذ (4/309)
لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركبا للآخرة وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها
فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار وحاش لله من ذلك إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضى الله عنهم وألحقنا بهم وحشرنا معهم ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه
فتأمل هذا الفصل فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفى أحوال أهلها وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه كما يفهمون طلبها على غير وجهه فيمدحون ما لا يمدح شرعا ويذمون ما لا يذم شرعا وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ولا الغنى أفضل بإطلاق بل الأمر في ذلك يتفصل فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما وكان الفقر أفضل منه وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضل من الفقر والله الموفق بفضله (4/310)
فصل
واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب فلذلك اختصر القول فيه وأيضا فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به قلما يذكرها الأصوليون ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع فلم نتعرض لها لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر والله المستعان وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح
النظر الثاني في أحكام السؤال والجواب وهو علم الجدل
وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل
المسائلة الأولى
إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم وأعنى بالعالم المجتهد وغير العالم المقلد وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم فهذه أربعة أقسام
الأول سؤال العالم وذلك في المشروع يقع على وجوه كتحقيق (4/311)
ما حصل أو رفع إشكال عن له وتذكر ما خشى عليه النسيان أو تنبيه المسئول على خطأ يورده مورد الاستفادة أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم
والثاني سؤال المتعلم لمثله وذلك أيضا يكون على وجوه كمذاكرته له بما سمع أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسئول أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم أو التهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم
والثالث سؤال العالم للمتعلم وهو على وجوه كذلك كتنبيهه على موضع إشكال يطلب رفعه أو اختبار عقله أين بلغ والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل أو تنبيهه على ما علم ليستدل به على ما لم يعلم
والرابع وهو الأصل الأول سؤال المتعلم للعالم وهو يرجع إلى طلب علم ما لم يعلم
فأما الأول والثاني والثالث فالجواب عنه مستحق إن علم ما لم يمنع من ذلك عارض معتبر شرعا وإلا فالاعتراف بالعجز
وأما الرابع فليس الجواب بمستحق بإطلاق بل فيه تفصيل فيلزم الجواب (4/312)
إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم لا مطلقا ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف وهو مما ينبني عليه عمل شرعي وأشباه ذلك وقد لا يلزم الجواب في مواضع كما إذا لم يتعين عليه أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع وقد لا يجوز كما إذا لم يحتمل عقله الجواب أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط وفيه نوع اعتراض ولا بد من ذكر جملة يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية
المسألة الثانية
الإكثار من الأسئلة مذموم
والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح
من ذلك قوله تعالى يا أيها آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم (4/313)
تسؤكم الآية وفى الحديث أنه عليه الصلاة و السلام قرأ ولله على الناس حج البيت الآية فقال رجل يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام ثلاثا وفى كل ذلك يعرض وقال في الرابعة
والذى نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم وفى مثل هذا نزلت لا تسألوا عن أشياء الآية وكره عليه الصلاة و السلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وكان عليه الصلاة و السلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم وقال
إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها
وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم (4/314)
ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه و سلم كلهن في القرآن ويسألونك عن المحيض ويسألونك عن اليتامى يسألونك عن الشهر الحرام ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعنى أن هذا كان الغالب عليهم وفى الحديث
إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم عليه فحرم عليهم من أجل مسألته وقال
ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال
من أحب أن يسأل عن شئ فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول سلوني فقام عبد الله ابن حذافة السهمي فقال من أبي فقال أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبينا قال فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قال عمر ذلك وقال أولا
والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال سلوني في معرض الغضب تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ولأجل ذلك ورد في الآية قوله إن تبد لكم تسؤكم (4/315)
ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة فقد روى عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون وقال الربيع بن خيثم يا عبد الله ما علمك الله في كتابه من علم فأحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة و السلام قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين الخ وعن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن وفى الحديث أنه عليه الصلاة و السلام نهى عن الأغلوطات فسره الأوزاعي فقال يعنى صعاب المسائل وذكرت المسائل عند معاوية فقال أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن عضل المسائل وعن عبدة بن أبي لبابة قال وددت أن حظى من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شئ ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم وورد في الحديث
إياكم وكثرة السؤال وسئل مالك عن حديث
نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال قال أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله صلى الله عليه و سلم المسائل وعابها وقال الله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء وعن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شئ لم يكن فإن الله بين ما هو كائن وقال ابن وهب قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم (4/316)
تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء وقال الأوزاعي إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط وعن الحسن قال إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عباد الله وقال الشعبي والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري قلت من هم يا أبا عمر قال ألا رأيتيون وقال ما كلمة أبغض إلى من رأيت وقال أيضا لداود ألا احفظ عنى ثلاثا إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه أرأيت من اتخذ إلهه هواه حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشئ فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك وقال يحيى بن أيوب بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون إذا أراد الله أن لا يعلم عبده أشغله بالأغاليط والآثار كثيرة
والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد وعطوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه وكانوا يحبون أن يجئ الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم ألا ترى ما في الصحيح عن أنس قال نهينا أن (4/317)
نسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل فجلس إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ثم أخبرهم عليه الصلاة و السلام أنه جبريل وقال
أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا وكان أصحابه يهابون ذلك قال أسد بن الفرات وقد قدم على مالك وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا فأقول له فضاق علي يوما فقال لي هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لايغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة فقالت لها أحرورية أنت انكارا عليها السؤال عن مثل هذا وقضى النبي صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة فقال الذى قضى عليه كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل ولا شهق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال عليه الصلاة و السلام
إنما هذا من إخوان الكهان وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها فقال سعيد أعراقي أنت فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم فقال هي السنة يا ابن أخي وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة (4/318)
فصل
ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع أحدها السؤال عما لا ينفع في الدين كسؤال عبد الله بن حذافة من أبي وروى في التفسير أنه عليه الصلاة و السلام سئل ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان فأنزل الله يسألونك عن الأهلة الآية فأنما أجيب بما فيه من منافع الدين
والثاني أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته كما سأل الرجل عن الحج أكل عام مع أن قوله تعالى ولله على الناس حج البيت قاض بظاهره أنه للأبد لاطلاقة ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة
والثالث السؤال من غير احتياج إليه في الوقت وكان هذا والله أعلم خاص بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله
ذروني ما تركتكم وقوله
وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها
والرابع أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها كما جاء في النهي عن الأغلوطات
والخامس أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها (4/319)
معنى أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة
والسادس أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ولما سأل الرجل يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع قال عمر بن الخطاب
يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا الحديث
والسابع أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد أعراقى أنت وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالما بالنسبة أيجادل عنها قال لا ولكن يخبر بالنسبة فإن قبلت منه وإلا سكت
والثامن السؤال عن المتشابهات وعلى ذلك يدل قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه الآية وعن عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة
والتاسع السؤال عما شجر بين السلف الصالح وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال تلك دماء كف الله عنها يدي فلا أحب أن يطلخ بها لساني (4/320)
والعاشر سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام وفى القرآن في ذم نحو هذا ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهى ألد الخصام وقال بل هم قوم خصمون وفى الحديث
أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم
هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها يقاس عليها ما سواها
وليس النهي فيها واحدا بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف ومنها ما يحرم ومنها ما يكون محل اجتهاد وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء
إن المراء في القرآن كفر وقال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه والجواب بحسبه
المسألة الثالثة
ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم والدليل على ذلك أمور
أحدها ما جاء في القرآن الكريم كقصة موسى مع الخضر وإشتراطه عليه أن لا يسأله عن شئ حتى يحدث له منه ذكرا فكان ما قصه الله تعالى من قوله هذا فراق بيني وبينك وقول محمد عليه الصلاة و السلام (4/321)
يرحم الله موسى لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما وإن كان إنما تكلم بلسان العلم فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط وروى في الأخبار أن الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية فرد الله عليهم بقوله إني أعلم ما لا تعلمون أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فهو الذى كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير وهو دليل في مسألتنا وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم
والثاني ما جاء في الأخبار كحديث
تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم عليه الصلاة و السلام بالخروج ولم يكتب لهم شيئا وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ومنعت الماء من السيلان فقال عليه الصلاة و السلام
لو تركت لكانت زمزم عينا معينا وفى الحديث أنه طبخ لرسول الله صلى الله عليه و سلم قدر فيها لحم (4/322)
فقال ناولني ذراعا قال الراوي فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فقلت يا رسول الله كم للشاة من ذراع فقال
والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت ذراعا ما دعوت وحديث علي قال دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة قال فجلست وأنا أعرك عيني وأقول إنا والله ما نصلي إلا ما كتب الله لنا إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فولى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وحديث
يا أيها الناس اتهموا الرأي فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددناه ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه و سلم حزن جد سعيد بن المسيب فقال له ما اسمك قال حزن قال بل أنت سهل قال لا أغير اسما سماني به أبي قال سعيد فما زالت الحزونة حتى اليوم والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
والثالث ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ ولا سيما عند الصوفية فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل والزلة لا تقال ومن ذلك حكاية (4/323)
الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي إذ كان صائما فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي كل معنا يا فتى فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو يزيد دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله هذه سليسلة بنت سليسلة إن أرت هذا فعليك بالعراق فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه
فالذى تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح وأحرى بادراك البغية إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
الاعتراض على الظواهر غير مسموع
والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ولسان العرب يعدم فيه النص أو ينذر إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة وهذا نادر أو معدوم فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان (4/324)
العرب فالاحتمالات دائرة به وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين فلم يبق إلا الظاهر والمجمل فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف فالظاهر هو المعتمد إذا فلا يصح الاعتراض عليه لأنه من التعمق والتكلف وأيضا لو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد لورود الاحتمالات وإن ضعفت والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها وليس كذلك باتفاق
ووجه ثالث لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال النبي عليه الصلاة و السلام بذلك فائدة إذ يلزم أن لا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول فما يلزم عنه كذلك
ووجه رابع وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم منه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى وكذلك ما جاء (4/325)
في الحديث في قوله
أحجنا هذا لعامنا أو للأبد وأشباه ذلك بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل فذموا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة و السلام بالحذر منهم
ووجه خامس وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات المتفق عليها كقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء وقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا فيدعون لله شريكا وقال تعالى خلق (4/326)
السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه
وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الإعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية كقوله ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وإن طرق العقل إليها احتمالا فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات وهى خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله فإذا لا يصح (4/327)
في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة إلا أن يدل دليل على الخروج ! عنها فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح أو في باب البيان والله المستعان
المسألة الخامسة
الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر فأما المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ضرورية كانت أو نظرية عقلية أو سمعية وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ولا يفتقر إلى مناظرة لأن نظره في مطلبه إما نظر فى جزئي وهو ثان عن نظره في الكلي الذى ينبني عليه وإما نظر في كلي ابتداء والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده فلا يحتاج إلى غيره فيها وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه (4/328)
في نفسه فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة وأيضا فالمجتهد أمين على نفسه فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته إذ هو عنده مجتهد مقبول القول فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة
وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة رسول الله صلى الله عليه و سلم السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة فما أنزل الله الحكم لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فكلمه عمر في ذلك فلم يلتفت إلى وجه المصلحة (4/329)
في ترك القتال إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم
وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه وعند ذلك يلزمه أحد أمرين إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق وإما الاستعانة بمن يثق به وهو المناظر المستعين فلا يخلو أن يكون موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أولا
فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها والأمر سهل فيها فإن اتفقا فحسن وإلا فلا حرج لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه
وأمثلة هذا الأصل كثيرة يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسائل المشكلة عليهم كما في سؤالهم عند نزول قوله الذين آمنوا ولم (4/330)
يلبسوا إيمانهم بظلم وعند نزول قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية وسؤال ابن أم كتوم حين نزل لا يستوى القاعدون من المؤمنين الآية حتى نزل غير أولى الضرر وسؤال عائشة عند قوله عليه الصلاة و السلام
من نوقش الحساب عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا وأشباه ذلك
وإنما قلنا أن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة فلما نظروا أشكل عليهم الأمر بخلاف السائل عن المحكم ابتداء فإن هذا من قبيل المتعلمين فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم عليه السلام قومه بالكوكب والقمر والشمس فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة وكذلك قوله في الآية الأخرى إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء ومثله قوله بل فعله كبيرهم الآية وقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل (4/331)
من ذلكم من شيء وقوله أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها إلى آخرها فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته فكان أبلغ في المقصود من المواجهة بالتبكيت ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل كقوله تعالى أم اتخذوا من دون الله آلهة قل هاتوا برهانكم قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله آذن لكم أم على الله تفترون من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن
وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة فلا يستقيم له الاستعانة به ولا ينتفع به في مناظرته إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي وإذا خالف في الكلي ففي الجزئي المبني عليه أولى فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه فالاستعانة مفقودة
ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه كالأرز والدخن والذرة والحلبة وأشباه ذلك فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس (4/332)
لأنه بان على نفي القياس جملة وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين إذ هو مخالف في الأصل الذى يرجعان إليه وكذلك مسألة الحلبة والذرة أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي وإن قالوا بصحة القياس لبنائهما المسألة على خلاف ما يبنى عليه المالكي وهذا القسم شائع في سائر الأبواب فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع والمنكر لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة
فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة كما إذا كان مساعدا حقيقة وهذا لا يخفي
فصل
وإذا فرض المناظر مستقلا بنظره غير طالب للاستعانة ولا مفتقرا إليها ولكنه طالب لرد الخصم إلى رأيه أو ما هو منزل منزلته فقد تكفل العلماء بهذه (4/333)
الوظيفة غير أن فيها أصلا يرجع إليه وقد مر التنبيه عليه في أول كتاب الأدلة وهنا تمامه بحول الله وهى
المسألة السادسة
فنقول لما انبنى الدليل على مقدمتين إحداهما تحقق المناط والأخرى تحكم عليه ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك بدليل الاستقراء وأما المقدمة الحاكمة فلا بد من فرضها مسلمة
وربما وقع الشك في هذه الدعوى فقد يقال إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية وذلك أنك إذا قلت هذا مسكر وكل خمر أو وكل مسكر حرام فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر وهى مقدمة تحقيق المناط كما أنه قد يخالف فيها أيضا وإذا خالف فيها فلا نكير على الجملة لأنها محل الاختلاف وقد يخالف في أن كل مسكر خمر فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه وإذا لم تصح كليتها لم يكن فيها دليل فإذا صارت منازعا فيها فكيف يقال بإنحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع وهو خلاف ما تأصل (4/334)
والجواب أن ما تقدم صحيح وهذا الإشكال غير وارد وبيانه أن الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال وقد مر هذا وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه فليس عنده بدليل فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ولا يحصل مقصودا ومقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل وعلى ذلك دل قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع وبهذا وقع الاحتجاج على الكفار فإن الله تعالى قال قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله قل فأنى تسحرون فقررهم بما به أقروا واحتج بما عرفوا حتى قيل لهم فأنى تسحرون أي فكيف تخدعون عن الحق بعد ما اقررتم به فادعيتم مع الله إلها غيره وقال تعالى إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا وهذا من المعروف عندهم إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون وفى موضع آخر أتعبدون ما تنحتون وقال تعالى قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب قال له ذلك بعد ما ذكر له قوله ربي الذى يحيى ويميت فوجد الخصم مدفعا فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع بالمجاز ولا بالحقيقة وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو آدم وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده وهذا قاطع في دعواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن فلا يؤتى (4/335)
فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أو أبى وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال ما أنزل الله على بشر من شئ قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى الآية فحصل إفحامه بما هو به عالم وتأمل حديث صلح الحديبية ففيه إشارة إلى هذا المعنى فإنه لما أمر عليا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم فقال
اكتب من محمد رسول الله قالوا لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فعذرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كان هذا من حمية الجاهلية وكتب على ما قالوا ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا النصفة من عدم العلم وأنهم إنما يعرفون كذا
وإذا ثبت هذا فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب وإذا كان كذلك فقول القائل
هذا مسكر وكل مسكر خمر إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر وهى التي لا يقع النزاع إلا فيها فيبين أن كل مسكر حمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم كما جاء في النص
أن كل خمر حرام وإن نازع في أن كل خمر حرام صارت مقدمة تحقيق المناط ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها وفى كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى فإن سؤال السائل هل كل خمر حرام مخالف لسؤاله إذا سأل هل كل مسكر خمر (4/336)
وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ولا مظنة للنزاع فيه إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة وبطلت فائدة المناظرة
فصل
واعلم أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الإشكال المعروفة ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح
ومن هنا يعلم معنى ما قاله المازري في قوله عليه الصلاة و السلام
كل مسكر خمر وكل خمر حرام قال فنتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام
قال وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشئ من علم أصحاب المنطق فيقول أن أهل المنطق يقولون لا يكون القياس ولا تصح النتيجة إلا بمقدمتين فقوله
كل مسكر خمر مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئا وهذا وان اتفق لهذا الأصولي ههنا وفى موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر (4/337)
أقيستها ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ولا يعرف من هذه الجهة وذلك أنا لو عللنا تحريمه عليه الصلاة و السلام التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم فإذ عرفناها فللشافعي أن يقول حينئذ كل سفرجل مطعوم وكل مطعوم ربوي
فتكون النتيجة السفرجل ربوي قال ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه فجاء بها على هذه الصيغة قال ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها قال وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق
هذا ما قاله المازري وهو صحيح في الجملة وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم إلتزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية وفيه أيضا إشارة (4/338)
إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم تكن متفقا عليها مسلمة عند الخصم فلا يفيد وضعها دليلا ولما كان قوله عليه الصلاة و السلام
وكل خمر حرام مسلما لأنه نص النبي صلى الله عليه و سلم لم يعترض فيه المخالف بل قابله بالتسليم واعترض القاعدة بعدم الاطراد وذلك مما يدل على أنه من كلامه عليه الصلاة و السلام أمر اتفاقي لا أنه قصد قصد المنطقيين وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لأن لو لما سيقع لوقوع غيره فلا استثناء لها في كلام العرب قصدا وهو معنى تفسير سيبويه ونظيرها إن لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية
وإلى هذا المعنى والله أعلم أشار الباجي في أحكام الفصول حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج وهو كلام مشكل الظاهر إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر (4/339)
وقد تم والحمد لله الغرض المقصود وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها وقل على كثرة التعطش إليها ورادها فخشيت أن لا يردوا مواردها وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها فثنيت من جماع بيانها العنان وأراحت من رسمها القلم والبنان على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة وأشعة توضح من شمسها المنيرة فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف
فنسأل الله الذى بيده ملكوت كل شئ أن يعيننا على القيام بحقه وأن يعاملنا بفضله ورفقه إنه على كل شئ قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى (4/340)
الحكم الأول عليه باق بلا إشكال وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره فحسن ظنه بنفسه ودخل في الكلام فيه مع الراسخين ومن هنا افترقت الفرق وتباينت النحل وظهر في تفسير القرآن الخلل
ومنها أن من ترك النظر في القرآن واعتمد في ذلك على من تقدمه ووكل إليه النظر فيه غير ملوم وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه وكذلك وجدناهم في القول في القرآن فإن المحظور فيهما واحد وهو خوف التقول على الله بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر
ومنها أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام الله فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد الله من هذا الكلام فليتثبت أن يسأله الله تعالى من أين قلت عنى هذا فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله وإلا كان باطلا ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم والله أعلم (4/424)