الموافقات في أصول الشريعة (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة ونصب لنا من شريعة محمد صلى الله عليه و سلم أعلى علم وأوضح دلالة وكان ذلك أفضل ما من به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله
فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء وتجرى عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء لضعفها عن حمل هذه الأعباء ومشاركة عاجلات الأهواء على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء طالبين للشفاء كالقابض على الماء ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم ونستنتج القياس العقيم ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار وارتفعت حقيقة أيدي الأضطرار إلى الواحد القهار وتوجهت إليه أطماع أهل الإفتقار لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الأضطرار فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم إذ لم نستطع من دونه حيلا ولم نهتد بأنفسنا سبلا بأن جعل العذر مقبولا والعفو عن الزلات قبل بعث الرسالات (1/19)
مأمولا فقال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فبعث الأنبياء عليهم السلام في الأمم كل بلسان قومه من عرب أو عجم ليبينوا لهم طريق الحق من أمم ويأخذوا بحجزهم عن موارد جهنم وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد بن عبد الله الذي هو النعمة المسداة والرحمة المهداة والحكمة البالغة الأمية والنخبة الطاهرة الهاشمية أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنزل عليه كتابه العربي المبين الفارق بين الشك واليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفه وطيبه بطيب ثنائه وعرفه بعرفه إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته وكلى وصفه فصار عليه السلام مبينا بقوله وإقراره وفعله وكفه فوضح النهار لذى عينين وتبين الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غين
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة ونشكر له والشكر أول الزيادة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين خالق الخلق أجمعين وباسط الرزق للمطيعين والعاصين بسطا يقتضيه العدل والإحسان والفضل والإمتنان جاريا على حكم الضمان قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى كل ذلك ليتفرغوا لإداء الأمانة التي عرضت عليهم عرضا فلما تحملوها على حكم الجزاء حملوها فرضا ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية وتأملوا في البداية خطر النهاية لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال كما خطر للسماوات والأرض والجبال فلذلك سمي الإنسان ظلوما جهولا وكان أمر الله مفعولا دل على هذه الجملة المستبانة شاهد قوله وانا عرضنا الأمانة فسبحان من أجرى الأمور بحكمته (1/20)
وتقديره عل وفق علمه وقضائه ومقاديره لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين بملة حنيفية وشرعة بالمكلفين بها حفية ينطق بلسان التيسير بيانها ويعرف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا وتهدي الكافة فهيما وغبيا وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا وترفق بجميع المكلفين مطيعا وعصيا وتقودهم بخزائمهم منقادا وأبيا وتسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا وتبوىء حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا وتلبس المتصف بها ملبسا سنيا حتى يكون لله وليا فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا وما أفقر من عادها وإن كان غنيا
فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها ويبث للثقلين ما لديها ويناضل ببراهينها عليها ويحمي بقواطعها جانبيها بالغ الغاية في البيان يقول بلسان حاله ومقاله
أنا النذير العريان صلى الله عليه و سلم وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصلوها وجالت أفكارهم في آياتها
وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان وأشرق في قلوبهم نور الإيقان فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب ونجوما يهتدى بأنوارهم أولو الألباب رضي الله (1/21)
عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين وأسوة للمهتدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم الطالب لأسنى نتائج الحلوم المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم الحائم حول حمى ظاهر المرسوم طمعا في إدراك باطنه المرقوم معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم فإنه قد آن لك أن تصغى إلى من وافق هواك هواه وأن تطارح الشجى من ملكه مثلك شجاه وتعود إذ شاركته في جواه محل نجواه حتى يبث إليك شكواه لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى وتسري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى
فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه فيحا وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا ولاقى من وجوهه المعترضة جها وصبيحا وعاتى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا أو لما حالف من العاء طريحا أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا فلا عيش هنيئا ولا موت مريحا وجملة الأمر في التحقيق أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل وقلب بصدمات الأضغاث عليل فيمشي على غير سبيل وينتمي إلى غير قبيل
إلى أن من الرب الكريم البر الرحيم الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم فبعثت له أرواح تلك الجسوم وظهرت حقائق تلك الرسوم وبدت مسميات تلك الوسوم فلاح في أكنافها الحق واستبان وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان وقويت النفس الضعيفة وشجع القلب الجبان وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان وفوائده الغريبة البرهان وبدائعه الباهرة للأذهان ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره (1/22)
العقل ويقصر عن بث معشارة اللسان ايرادا يميز المشهور من الشاذ ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والإجتهاد والقصور والنفاذ وينزل كلا منهم منزلته حيث حل ويبصره في مقامه الخاص به بما دق وجل ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والإعتدال ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الإستصعاد والإستنزال ليخرجوا من انحرافي التشدد والإنحلال وطرفي التناقض والمحال فله الحمد كما يجب لجلاله وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله
ولما بدأ من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى لم ازل اقيد من اوابده واضم من شوارده تفاصيل وجملا واسواق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا معتمدا على الاستقراآت الكلية غير مقتصر على الافراد الجزئية ومبينا اصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما اعطته الاستطاعة والمنة ! في بيان مقاصد الكتاب والسنة ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد وجمع تلك الفوائد الى تراجم تردها الى اصوالها وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها فانضمت الى تراجم الاصول الفقهية وانتظمت في اسلاكها السنية البهية فصار كتابا منحصرا في خمسة اقسام
الاول في المقدمات العلمية المحتاج اليها في تمهيد المقصود والثاني في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف والثالث في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام والرابع في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل وذكر مآخذها وعلى أي (1/23)
وجه يحكم بها على أفعال المكلفين والخامس في أحكام الإجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات وأطراف وتفصيلات يتقرر بها الغرض المطلوب ويقرب بسببها تحصيله للقلوب
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية سميته - بعنوان التعريف بأسرار التكليف ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخا للوفادة وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه فقال لي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه - كتاب الموافقات قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة فقلت له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب فإني شرعت في تأليف هذه المعاني عازما على تأسيس تلك المباني فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء والقواعد المبني عليها عند القدماء فعجب الشيخ من غرابة هذا الإتفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق ليكون أيها الخل الصفي والصديق الوفي هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق إذ قد صار علما من جملة العلوم ورسما كسائر الرسوم وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم لا جرم أنه قرب عليك في المسير وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير ووقف بك من الطريق السابلة على (1/24)
الظهر وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر
فقدم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت وأقبل على ما قبلك منه فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت وإياك وإقدام الجبان والوقوف مع الطرق الحسان والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الإستبصار وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والإستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار وألبس التقوى شعارا والإتصاف بالإنصاف دثارا واجعل طلب الحق لك نحلة والإعتراف به لأهله ملة لا تملك قلبك عوارض الأغراض ولا تغر جوهرة قصدك طوارق الإعراض وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين إلا إذا اشتبهت المطالب ولم يلح وجه المطلوب للطالب فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم والواقف دونها هو الراسخ المعصوم وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار لا ترد مشرع العصبية ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية فذلك مرعى لسوامها وبيل وصدود عن سواء السبيل
فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الإختراع فيه والإبتكار وغر الظان أنه شىء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله وحسبك من شر سماعه ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه فلا تلتفت إلى الأشكال دون إختبار ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار وشد معاقده السلف الأخيار ورسم معالمه العلماء الأحبار وشيد أركانه أنظار النظار وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ووجب قبول ما حواه والإعتبار بصحة ما أبداه والإقرار حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل (1/25)
ويطرق صحة أفكارهم من العلل فالسعيد من عدت سقطاته والعالم من قلت غلطاته
وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل إذا وجد فيه نقصا أن يكمل وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام حتى أهدى إليه نتيجة عمره ووهب له يتيمة دهره فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه وطوقه طوق الأمانة التي في يديه وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
جعلنا الله من العاملين بما علمنا وأعاننا على تفهيم ما فهمنا ووهب لنا علما نافعا يبلعنا رضاه وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود وآخذ في انجاز ذلك الموعود والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1/26)
مقدمات المؤلف (1/27)
تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب وهي بضع عشر مقدمة
المقدمه الأولى
إن أصول الفقه في الدين قطعية لاظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي
بيان الأول ظاهر بالإستقراء المفيد للقطع وبيان الثاني من أوجه
أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهى قطعية وأما إلى (1/29)
الإستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما والؤلف من القطعيات قطعي وذلك أصول الفقه
والثاني أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي إذ الظن لا يقبل في العقليات ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول وذلك غير جائز عادة وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي لا شك فيها ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلاف ما ضمن الله عز و جل من حفظها (1/30)
والثالث أنه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق فكذلك هنا لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات
وقد قال بعضهم لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن لأنه تشريع ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب من الأصول تفاصيل العلل كالقول في عكس العلة ومعارضتها والترجيح بينها وبين غيرها وتفاصيل أحكام الأخبار كإعداد الرواة والإرسال فإنه ليس بقطعي واعتذر ابن الجويني عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي
قال المازري وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وأن كان ظنيا على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفا لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر قال فهي في هذا كالعموم والخصوص قال ويحسن من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول لأن الأصول عنده هي الأدلة والأدلة عنده (1/31)
ما يفضي إلى القطع وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه هذا ما قال
والجواب أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الإخلاف ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالإستقراء والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهو المراد بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم أيضا لا أن المراد المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الإحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعا فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد (1/32)
وفي معاني الآيات فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا هذا على مذهب أبي المعالي وأما على مذهب القاضي فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه فلا يمكن الإستدلال بها إلا بعد عرضها عليها واختبارها بها ولزم أن تكوم مثلها بل أقوى منها لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها
ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها فإنها حاكمة على غيرها فلا بد من الثقة بها في رتبتها وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين وأيضا لو صح كونها ظنية لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة وذلك غير صحيح ولو سلم ذلك كله فالإصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل (1/33)
أصولا وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعا عليه بالتبع لا بالقصد الأول
المقدمة الثانية
إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به وهذا بين وهي إما عقلية كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة وإما عادية وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل وإما سمعية وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ بشرط أن تكون قطعية الدلالة أو من الأخبار المتواترة في المعنى أو المستفاد من الإستقراء في موارد الشريعة فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول وأما كونه (1/34)
فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض
المقدمة الثالثة
الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع وهذا مبين في علم الكلام فإذا كان كذلك فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ووجود القطع فيها على الإستعمال المشهور معدوم أو في غاية الندور أعني في آحاد الأدلة فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم (1/35)
الإشتراك وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي
وإفادة القطع مع إعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بإنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين
وهذا كله نادر أو متعذر
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع فإن للإجتماع من القوة ما ليس للإفتراق ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعا وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى أقيموا الصلاة أو ما أشبه ذلك لكان في الإستدلال بمجرده نظر من أوجه لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ماصار به فرض الصلاة ضروريا في الدين لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين (1/36)
ومن ههنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالةالإجماع لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالإستدلال عليه وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتأخرين فاستشكل الإستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها إذ لم يأخذها مأخذ الإجتماع فكر عليها بالإعتراض نصا نصا واستضعف الإستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات (1/37)
والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة إلا أن نشرك العقل والعقل إنما ينظر من وراء الشرع فلا بد من هذا الإنتظام في تحقيق الأدلة الأصولية
فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل وعلمها عند الأمة كالضروري ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه وأن يرجع أهل الإجماع إليه وليس كذلك لأن كل واحد منها بانفراده ظني ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار كذلك لا يتعين هنا لإستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الإنفراد وإن كان الظن يختلف بإختلاف أحوال الناقلين وأحوال دلالات المنقولات وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك
فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها أقيموا الصلاة على وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامتها وذم التاركين لها وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلك مما (1/38)
في هذا المعنى وكذلك النفس نهي عن قتلها وجعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان ووجب سد رمق المضطر ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف لهذا علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة
وبهذا امتازت الأصول من الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة فبقيت على أصلها من الإستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بإنفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم لأن ذلك كالمتعذر ويدخل تحت هذا ضرب الإستدلال المرسل الذي أعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل (1/39)
معين فقد شهد له أصل كلي والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه كما أنه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل الإستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل لأن معناه يرجع إلى تقديم الإستدلال المرسل على القياس كما هو مذكور في موضعه
فإن قيل الإستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح لأن (1/40)
الأصل الأعم كلى وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة والأعم لا إشعار له بالأخص فالشرع وإن اعتبر كلى المصلحة من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها فالجواب أن الأصل الكلى إذا انتظم فى الاستقراء يكون كليا جاريا مجرى العموم فى الأفراد أما كونه كليا فلما يأتى في موضعه إن شاء الله وأما كونه يجرى مجرى العموم فى الأفراد فلأنه فى قوة اقتضاء وقوعه فى جميع الأفراد ومن هنالك استنبط لأنه انما استنبط من أدلة الأمر والنهى الواقعين على جميع المكلفين فهو كلى في تعلقه فيكون عاما فى الأمر به والنهى للجميع
لا يقال يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة وهو باطل لأنا نقول لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك حسبما هو مذكور فى موضعه من هذا الكتاب
فصل
وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الاجماع حجة ظنى لا قطعى إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفردها ما يفيده القطع فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية فى الأخذ (1/41)
بأمور عادية أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها أنها ظنية وهى قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال وهو واضح إن شاء الله تعالى
المقدمة الرابعة
كل مسألة مرسومة فى أصول الفقه لا ينبنى عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا فى ذلك فوضعها فى أصول الفقه عارية والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافتة إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه كعلم النحو واللغة والاشتقاق والتصريف والمعانى والبيان والعدد والمساحة والحديث وغير ذلك من العلوم التى (1/42)
يتوقف عليها تحقيق الفقه وينبنى عليها من مسائله وليس كذلك فليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله وإنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبنى عليه فقه فليس بأصل له
وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التى تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها كمسألة ابتداء الوضع ومسألة الإباحة هل هى تكليف أم لا ومسألة أمر المعدوم ومسألة هل كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بشرع أم لا ومسألة لا تكليف إلا بفعل كما أنه لا ينبغى أن يعد منها ماليس منها ثم البحث فيه في عمله وأن انبنى عليه الفقه كفصول كثيرة من النحو نحو معانى الحروف (1/43)
وتقاسيم الإسم والفعل والحرف والكلام على الحقيقة والمجاز وعلى المشترك والمترادف والمشتق وشبه ذلك
غير أنه يتكلم من الأحكام العربية فى أصول الفقه على مسألة هى عريقة فى الأصول وهى أن القرآن عربي والسنة عربية لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية فى الأصل أو لا يشتمل لأن هذا من علم النحو واللغة بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربى بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به فى الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها فى أنواع مخاطباتها خاصة فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع وفى ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع وهذه مسألة مبينة في - كتاب المقاصد والحمد لله
فصل
وكل مسألة فى أصول الفقه ينبنى عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضا كالخلاف مع المعتزلة فى الواجب المخير والمحرم المخير فإن كل فرقة موافقة (1/44)
للآخرى فى نفس العمل وإنما اختلفوا فى الإعتقاد بناء على أصل محرر فى علم الكلام وفى أصول الفقه له تقريرا أيضا وهو هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشارع وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي وهو ظاهر فإنه لا ينبنى عليه عمل وما أشبه ذلك من المسائل التى فرضوها مما لا ثمرة له فى الفقه
لا يقال إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد ينبنى عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم وأيضا ينبنى عليه عصمة الدم والمال والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى مادونه وأشباه ذلك هو من علم الفروع لأنا نقول هذا جار فى علم الكلام فى جميع مسائله فليكن من أصول الفقه وليس كذلك وإنما المقصود ما تقدم (1/45)
المقدمة الخامسة
كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا
والدليل على ذلك استقراء الشريعة فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به ففى القرآن الكريم يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج فوقع الجواب بما يتعلق به العمل إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال لم يبدو فى أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلىء حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ثم قال وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت فى هذا المعنى فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال فى التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها والبر إنما هو التقوى لا العلم بهذه الأمور التى لا تفيد نفعا فى التكليف ولا تجر إليه وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها أى إن السؤال عن هذا سؤال عما (1/46)
لا يعنى إذ يكفى من علمها أنه لا بد منها ولذلك لما سئل عليه الصلاة و السلام عن الساعة قال للسائل
ما أعددت لها بإسناد البخاري ومسلم إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة ولم يجبه عما سأل وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم نزلت فى رجل سأل من أبي روى أنه عليه السلام قام يوما يعرف الغضب فى وجهه فقال لا تسألوني عن شىء إلا أنبأتكم فقام رجل فقال يا رسول الله من أبي قال أبوك حذافة فنزلت وفى البابين روايات أخر وقال ابن عباس فى سؤال بنى إسرائيل عن صفات البقرة لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم
وهذا يبين أن سؤالهم لم يكن فيه فائدة وعلى هذا المعنى يجرى الكلام فى الآية قبلها عند من روى أن الآية نزلت فيمن سأل احجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال عليه السلام
للأبد ولو قلت نعم لو جبت وهذه الجملة ملفقه من حديثين في قصتين مختلفتين (1/47)
وفى بعض رواياته
فذرونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم الحديث وإنما سؤالهم هنا زيادة لا فائدة عمل فيها لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل فصار السؤال لا فائدة فيه ومن هنا نهى عليه السلام
عن قيل وقال وكثرة السؤال رواه البخاري صحيح لانه مظنة السؤال عما لا يفيد وقد سأله جبريل عن الساعة فقال
ما المسئول عنها باعلم من السائل رواه البخاري صحيح فأخبره (1/48)
أن ليس عنده من ذلك علم وذلك يبين أن السؤال عنها لا يتعلق به تكليف ولما كان ينبنى على ظهور أماراتها الحذر منها ومن الوقوع فى الأفعال التى هى من أماراتها والرجوع إلى الله عندها أخبره بذلك ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم فصح إذا أن من جملة دينهم فى فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به أعنى علم زمان إتيانها فليتنبه لهذا المعنى فى الحديث وفائدة سؤاله له عنها وقال
إن أعظم الناس جرما من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجل مسألته الشيخين صحيح وهو مما نحن فيه فإنه إذا لم يحرم فما فائدة السؤال عنه بالنسبة إلى العمل وقرأ عمر بن الخطاب وفاكهة وأبا وقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال نهينا عن التكلف وفى القرآن الكريم ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى الآية وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يجابوا وأن هذا مما لا يحتاج إليه فى التكليف وروى أن أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية وهو كالنص فى الرد عليهم فيما سألوا وأنه لا ينبغى السؤال إلا فيما يفيد فى التعبد لله ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف انظر الحديث في فضائل القرآن لأبى عبيد وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع ضبيع فى سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبنى عليها حكم تكليفى وتأديب عمر له وقد سأل ابن الكواء علي بن أبى طالب عن الذاريات ذروا فالحاملات وقرا الخ فقال له علي ويلك (1/49)
سل تفقها ولا تسأل تعنتا ثم أجابه فقال له ابن الكواء أفرأيت السواد الذي فى القمر فقال أعمى سأل عن عمياء ثم أجابه ثم سأله عن أشياء وفى الحديث طول وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ويحكى كراهيته عمن تقدم وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة
منها أنه شغل عما يعنى من أمر التكليف الذي طوقه المكلف بما لا يعنى إذ لا ينبنى على ذلك فائدة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة أما فى الآخرة فإنه يسأل عما أمر به أو نهى عنه وأما فى الدنيا فإن عمله بما علم من ذلك لا يزيده فى تدبير رزقه ولا ينقصه وأما اللذة الحاصلة عنه فى الحال فلا تفى مشقة اكتسابها وتعب طلبها بلذة حصولها وإن فرض أن فيه فائدة فى الدنيا فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست فى أحكام الشرع إلا على الضد كالزنى وشرب الخمر وسائر وجوه الفسق والمعاصى التى يتعلق بها غرض عاجل فإذا قطع الزمان فيما لا يجنى ثمره فى الدارين مع تعطيل ما يجنى الثمرة من فعل مالا ينبغى
ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد فى الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك وهو مشاهد فى التجربة العادية فإن عامة المشتغلين بالعلوم التى لا تتعلق بها (1/50)
ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعا وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعنى وخرجوا إلى ما لا يعنى فذلك فتنة على المتعلم والعالم وإعراض الشارع مع حصول السؤال عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان فى غير تحصيل
ومنها أن تتبع النظر فى كل شىء وتطلب علمه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يخالف السنة فاتباعهم فى نحلة هذا شأنها خطأ عظيم وانحراف عن الجادة ووجوه عدم الاستحسان كثيرة
فإن قيل العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الإطلاق وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق فتنتظم صيغه كل علم ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل وما لا يتعلق به عمل فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم وأيضا فقد قال العلماء إن تعلم كل علم فرض كفاية كالسحر والطلسمات وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل فما ظنك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك وأيضا فعلم التفسير من جملة العلوم المطلوبة وقد لا ينبنى عليه عمل وتأمل حكاية الفخر الرازي أن بعض العلماء مر بيهودى وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم فسأل اليهودي عما يقرأ عليه فقال له أنا أفسر له آية من كتاب الله فسأله ما هى وهو متعجب فقال قوله (1/51)
تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج قال اليهودي فأنا أبين له كيفية بنائها وتزيينها فاستحسن ذلك العالم منه هذا معنى الحكاية لا لفظها وأيضا فإن قوله تعالى أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء يشمل كل علم ظهر في الوجود من معقول أو منقول مكتسب أو موهوب وأشباهها من الآيات
ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق من حيث تدل على صانعها ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات فهذه وجوه تدل على عموم الإستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم
فالجواب عن الأول أن عموم الطلب مخصوص وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة والذي يوضحه أمران أحدهما أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب بل قد عد عمر ذلك في نحو وفاكهة وأبا من التكلف الذي نهى عنه وتأديبه ضبيعا ظاهر فيما نحن فيه مع أنه لم ينكر عليه ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله صلى الله وسلم لم يخض في شىء من ذلك ولو كان لنقل لكنه لم ينقل فدل على عدمه والثاني ما ثبت في - كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية وقد قال عليه السلام
نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا صحيحمسلم والنسائي رواية الى نظائر ذلك والمسألة مبسوطة هنالك والحمد لله
وعن الثاني أنا لا نسلم ذلك على الإطلاق وإنما فرض الكفاية رد كل فاسد وإبطاله علم ذلك الفاسد أو جهل إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد
والشرع متكفل بذلك والبرهان على ذلك أن موسى عليه السلام لم يعلم علم السحر الذي جاء به السحرة مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك ولو كان عالما به لم يخف كما لم يخف العالمون به وهم السحرة فقال الله له لا تخف إنك أنت الأعلى (1/52)
ثم قال إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وهذا تعريف بعد التنكير
ولو كان عالما به لم يعرف به والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل ولو بخارقة على يد ولي لله أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشىء عن فرقان التقوى فهو المراد فلم يتعين إذا طلب معرفة تلك العلوم من الشرع
وعن الثالث أن علم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف ويتبين ذلك في مسألة عمر وذلك أنه لما قرأ وفاكهة وأبا توقف في معنى الأب وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة كالحب والعنب والزيتون والنخل ومما هو من طعامه بواسطة مما هو مرعى للأنعام على الجملة فبقي التفصيل فى كل فرد من تلك الأفراد فضلا فلا على الإنسان أن لا يعرفه فمن هذا الوجه والله أعلم عد البحث عن معنى الأب من التكلف وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبى من جهته لما كان من التكلف بل من المطلوب علمه لقوله ليدبروا أياته ولذلك سأل الناس على المنبر (1/53)
عن معنى التخوف فى قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فأجابه الرجل الهذلي بأن التخوف فى لغتهم التنقص وأنشده شاهدا عليه ... تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن ...
فقال عمر يأيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم
ولما كان السؤال فى محافل الناس عن معنى والمرسلات عرفا والسابحات سبحا مما يشوش على العامة من غير بناء عمل عليه أدب عمر ضبيعا بما هو مشهور فإذا تفسير قوله أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها الآية بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل غير سائغ ولأن ذلك من قبيل مالا تعرفه العرب والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها وهذا المعنى مشروح في - كتاب المقاصد بحول الله
وكذلك القول فى كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدى فائدة عمل ولا هومما تعرفه العرب فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ فى علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما استدل أهل العدد بقوله تعالى فاسأل العادين وأهل الهندسة بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأهل التعديل النجومى بقوله الشمس والقمر بحسبان وأهل المنطق فى أن نقيض الكلية السالبة جزئية (1/54)
موجبة بقوله إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الآية وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أخر وأهل خط الرمل بقوله سبحانه أو أثارة من علم وقوله عليه السلام
كان نبي يخط فى الرمل رواه مسلم صحيح إلى غير ذلك مما هو مسطور في الكتب وجميعه يقطع بأنه مقصود لما تقدم وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع وأن قوله أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي (1/55)
الأمى صلى الله عليه و سلم بملة سهلة سمحة والفلسفة على فرض أنها جائزة الطلب صعبة المأخذ وعرة المسلك بعيدة الملتمس لا يليق الخطاب بتعلمها كى تتعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين فى محض الأمية فكيف وهى مذمومة على ألسنة أهل الشريعة منبه على ذمها بما تقدم فى أول المسألة
فإذا ثبت هذا فالصواب أن مالا ينبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة وعلم النحو والتفسير وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب إما شرعا وإما عقلا حسبما تبين فى موضعه لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفاف إليه وهو
المقدمة السادسة
وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبى يليق بالجمهور وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا
فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه كما إذا طلب معنى الملك فقيل إنه خلق من خلق الله يتصرف فى أمره أو معنى الإنسان فقيل إنه هذا الذى أنت من جنسه أو معنى التخوف فقيل هو التنقص أو معنى الكوكب فقيل هذا الذى نشاهده بالليل ونحو ذلك فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبى حتى يمكن الامتثال
وعلى هذا وقع البيان فى الشريعة كما قال عليه السلام
الكبر بطر (1/56)
الحق وغمط الناس رواه مسلم والترمذي ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة من حيث كانت أظهر فى الفهم منها وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور وكذلك سائر الأمور وهو عادة العرب والشريعة عربية ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي وقد تبين هذا فى - كتاب المقاصد مشروحا والحمد لله فإذا التصورات المستعملة فى الشرع إنما هى تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة
وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له لأن مسالكه صعبة المرام وما جعل عليكم فى الدين من حرج كما إذا طلب معنى الملك فأحيل به على معنى أغمض منه وهو ماهية مجردة عن المادة أصلا أو يقال جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلى أو طلب معنى الإنسان فقيل هو الحيوان الناطق المائت أو يقال ما الكوكب فيجاب بأنه جسم بسيط كرى مكانه الطبيعى نفس الفلك من شأنه أن ينير متحرك على الوسط غير مشتمل عليه أو سئل عن المكان فيقال هو السطح الباطن من الجرم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى وما أشبه ذلك من الأمور التى لا تعرفها العرب ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة فى طلب تلك المعانى ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به
وأيضا فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء وقد اعترف أصحابه بصعوبته بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر وأنهم أوجبوا أن لا يعرف شىء من الأشياء على حقيقته إذ الجواهر لها فصول مجهولة والجواهر عرفت بأمور (1/57)
سلبية فإن الذاتي الخاص إن علم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس فهو مجهول فإن عرف ذلك الخاص بغير ما يخصه فليس بتعريف والخاص به كالخاص المذكور أولا فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة أو ظاهرة من طريق أخرى وذلك لا يفي بتعريف الماهيات هذا في الجوهر وأما العرض فإنما يعرف باللوازم إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها وللمنازع أن يطالب بذلك وليس للحاد أن يقول لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه إذ كثير من الصفات غير ظاهر ولا يقال أيضا لو كان ثم ذاتي آخر ما عرفت الماهية دونه لأنا نقول إنما تعرف الحقيقة إذا عرف جميع ذاتياتها فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف حصل الشك في معرفة الماهية
فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإيتان بها ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها وهذا المعنى تقرر وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية هذا كله في التصور
وأما التصديق فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية أو قريبة من الضرورية حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول (1/58)
الله وقوته فإذا كان كذلك فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة وهو الذي نبه القرآن على أمثاله كقوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقوله تعالى قل يحييها الذي أنشأها أول مرة إلى آخرها وقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم وزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء وقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق وإلا فتقرير الحكم كاف
وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس هذا وإن كان راجعا إلى نظم الأقدمين في التحصيل فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود لا من حيث احتذاء من تقدمهم
وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل فليس هذا الطريق بشرعي ولا تجده في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف الصالح فإن ذلك متلفة للعقل (1/59)
ومحارة له قبل بلوغ المقصود وهو بخلاف وضع التعليم ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي لكان مناقضا لهذه المطالب وهو غير صحيح وأيضا فإن الإدراكات ليست على فن واحد ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها فإنها لا تفاوت فيها يعتد به فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب ولكان التكليف خاصا لا عاما أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق أو ما فيه حرج وكلاهما منتف عن الشريعة
وسيأتي في - كتاب المقاصد تقرير هذا المعنى
المقدمة السابعة
كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول والدليل على ذلك أمور (1/60)
أحدها ما تقدم في المسألة قبل أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ولو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسنا شرعا ولو كان مستحسنا شرعا لبحث عنه الأولون من الصحابة والتابعين وذلك غير موجود فما يلزم عنه كذلك
والثاني أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى يأيها الناس اتقوا ربكم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يسوون به غيره في العبادة فذمهم على ذلك وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون إنا أنزلنا (1/61)
إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص الآية وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى كلها دال على أن المقصود التعبد لله وإنما أوتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده سبحانه لا شريك له ولذلك قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وقال فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وقال هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد لا بد أن أعقب بطلب التعبد لله وحده أو جعل مقدمة لها بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها إلا تذكرة إلا كذا وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم والآيات في هذا المعنى لا تحصى
والثالث ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به فقد قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال وإنه لذو علم لما علمناه قال قتادة يعني لذو عمل بما علمناه وقال تعالى أمن هو قانت انآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة إلى أن قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية وقال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وروى عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى فكبكبوا فيها هو والغاوون قال قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وعن أبي هريرة في البخاري ومسلم صحيح قال
إن (1/62)
فى جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم من كان يعرفهم فى الدنيا فيقول ما صيركم فى هذا وإنما كنا نتعلم منكم قالوا إنا كنا نأمركم بالأمر ونخالفكم إلى غيره وقال سفيان الثوري إنما يتعلم العلم ليتقى به الله وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى الله به وعن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال
لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال اخرجه الترمذي ضعفها وفي رواية اخرى صححها وذكر فيها وعن علمه ماذا عمل فيه وعن أبي الدرداء إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أم جهلت فأقول علمت فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتنى تسألنى فريضتها فتسألنى الآمرة هل ائتمرت والزاجرة هل ازدجرت فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع وحديث أبى هريرة فى الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قال فيه
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن قال كذبت ولكن ليقال فلان قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على (1/63)
وجهه حتى ألقى فى النار رواه احمد والنسائي ومسلم وقال
إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ضعفه الترمذي والطبرانى وغيرهم وروى أنه عليه السلام كان يستعيذ من علم لا ينفع عن زيد بن ارقم
وقالت الحكماء من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به وقال معاذ بن جبل اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا وروى أيضا مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه و سلم وفيه زيادة
إن العلماء همتهم الرعاية وإن السفهاء همتهم الرواية وروى موقوفا أيضا عن أنس بن مالك وعن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنى عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا كنا نتدارس العلم فى مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال
تعلموا ما شئتم أن (1/64)
تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا سندها ضعيف وكان رجل يسأل أبا الدرداء فقال له كل ما تسأل عنه تعمل به قال لا قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك وقال الحسن اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين وقال ابن مسعود إن الناس أحسنوا القول كلهم فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه وقال الثوري إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عز و جل فلذلك فضل على غيره من العلوم ولولا ذلك كان كسائر الأشياء وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال أدركت الناس وما يعجبهم القول إنما يعجبهم العمل والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعى وإنما هو وسيلة إلى العمل وكل ما ورد فى فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به
فلا يقال إن العلم قد ثبت فى الشريعة فضله وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن مرتبة العلماء تلى مرتبة الأنبياء وإذا كان كذلك وكان الدليل الدال على على فضله مطلقا لا مقيدا فكيف ينكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة هذا وإن كان وسيلة من وجه فهو مقصود لنفسه أيضا كالإيمان فإنه شرط فى صحة العبادات ووسيلة إلى قبولها ومع ذلك فهو مقصود لنفسه (1/65)
لأنا نقول لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل بدليل ما تقدم ذكره آنفا وإلا تعارضت الأدلة وتناقضت الآيات والأخبار وأقوال السلف الأخيار فلا بد من الجمع بينها وما ذكر آنفا شارح لما ذكر فى فضل العلم والعلماء وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب وهو التصديق وهو ناشىء عن العلم والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض وإن صح أن تكون مقصودة فى أنفسها أما العلم فإنه وسيلة وأعلى ذلك العلم بالله ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله
فإن قيل هذا متناقض فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به
قيل بل قد يحصل العلم مع التكذيب فإن الله قال فى قوم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون فأثبت لهم المعرفة بالنبى صلى الله عليه و سلم ثم بين أنهم لا يؤمنون وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم كما أن الجهل مغاير للكفر
نعم قد يكون العلم فضيلة وإن لم يقع العمل به على الجملة كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة فى التكليف إذا فرض أنها لم تقع فى الخارج فإن العلم بها حسن وصاحب العلم مثاب عليه وبالغ مبالغ العلماء لكن من جهة ما هو مظنة الانتفاع عند وجود محله ولم يخرجه ذلك عن كونه وسيلة كما أن فى تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد أو جاء ولم يمكنه اداؤها لعذر
فلو فرض أنه تطهر على عزيمة أن لا يصلى لم يصح له ثواب الطهارة فكذلك إذا علم على أن لا يعمل لم ينفعه علمه وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من النصارى واليهود يعرفون دين الإسلام ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه ولم يكن ذلك نافعا (1/66)
لهم من البقاء على الكفر باتفاق أهل الإسلام فالحاصل أن كل علم شرعى ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه وهو العمل
فصل
ولا ينكر فضل العلم فى الجملة إلا جاهل ولكن له قصد أصلى وقصد تابع
فالقصد الأصلى ما تقدم ذكره وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا وإن لم يكن فى أصله كذلك وان الجاهل دنىء وإن كان فى أصله شريفا وأن قوله نافذ فى الأشعار والأبشار وحكمه ماض على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين إذ قام لهم مقام النبى لأن العلماء ورثة الأنبياء وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة وأهله أحياء أبد الدهر إلى سائر ماله فى الدنيا من المناقب الحميدة والمآثر الحسنة والمنازل الرفيعة فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى وإن كان صاحبه يناله
وأيضا فإن فى العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس وميلت إليها القلوب وهو مطلب خاص برهانه التجربة التامة والاستقراء العام فقد يطلب العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ولا سيما العلوم التى للعقول فيها مجال وللنظر فى أطرافها متسع ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع
ولكن كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادما للقصد الأصلى أو لا فإن كان خادما له فالقصد إليه ابتداء صحيح وقد قال تعالى فىمعرض المدح والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما وجاء عن بعض السلف الصالح اللهم اجعلنى من أئمة المتقين وقال عمر لابنه حين وقع فى نفسه أن الشجرة التى هى مثل (1/67)
المؤمن النخلة لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا وفى القرآن عن إبراهيم عليه السلام واجعل لي لسان صدق فى الآخرين فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل فى الآخرة وأشباه ذلك
وإن كان غير خادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياء أو ليمارى به السفهاء أويباهى به العلماء أو يستميل به قلوب العباد أو لينال من دنياهم أو ما أشبه ذلك فإن مثل هذا إذا لاح له شىء مما طلب زهد فى التعلم ورغب فى التقدم وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه وأنف من الإعتراف بالتقصير فرضى بحاكم عقله وقاس بجهله فصار ممن سئل فأفتى بغير علم فضل وأضل أعاذنا الله من ذلك بفضله وفى الحديث
لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحتازوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار صحيح وقال
من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة صحيح على شرط البخاري ومسلم وفى بعض الحديث سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية فقال
هوالرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه الحديث وفى القرآن العظيم إن الذين يكتمون ما أنرل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون فى بطونهم إلا النار الآية والأدلة فى المعنى كثيرة (1/68)
المقدمة الثامنة
العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به فبمقتضى الحمل التكليفي والحث الترغيبي والترهيبي وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى ولا إحتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه
والمرتبة الثانية الواقفون منه على براهينه إرتفاعا عن حضيض التقليد المجرد واستبصارا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ويعتمد عليه إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان وإنما هو كالأشياء المكتسبة والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل وعليه يعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى بل لا نسبة بينهما إذ هؤلآء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة (1/69)
العلم الحاصل لهم ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين فلا بد من الإفتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات بل ثم أمور أخر كمحاسن العادات ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها وأشباه ذلك وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة
إلا إنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية والأخذ في الإتصافات السلوكية
والمرتبة الثالثة الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول أو تقاربها ولا ينظر إلى طريق حصولها فإن ذلك لا يحتاج إليه فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية
وهذه المرتبة هي المترجم لها
والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى أمن هو قآنت آنآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ثم قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق الآية ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه وهو معنى هذه المرتبة بادروا إلى الإنقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ولا الشعوذة ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فحصر تعقلها (1/70)
في العالمين وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال وقال أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ثم وصف أهل العلم بقوله الذين يوفون بعهد الله إلى آخر الأوصاف وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون وقال في أهل الإيمان والإيمان من فوائد العلم إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى أن قال أولئك هم المؤمنون حقا ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لآ اله إلا هو فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق إذ التخالف محال وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفوظون من المعاصي وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حفظوا بالعلم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم حتى يسألوا النبي صلى الله عليه و سلم كنزول آية البقرة وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية وقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل والأدلة أكثر من إحصائها هنا وجميعها يدل (1/71)
على أن العلم المعتبر هو الملجىء إلى العمل به
فإن قيل هذا غير ظاهر من وجهين
أحدهما أن الرسوخ في العلم إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة
أولا فإن لم يكن كذلك فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به ولا ملجىء إليه وإن كان محفوظا به من المخالفة لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه لكن العلماء تقع منهم المعاصي ما عدا الأنبياء عليهم السلام ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وقال ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ثم قال ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وسائر ما في هذا المعنى فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم فلو كان العلم صادا عن ذلك لم يقع
والثاني ما جاء من ذم العلماء السوء وهو كثير ومن أشد ما فيه قوله عليه السلام
إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وفي القرآن أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وقال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية وقال إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا الآية وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والأدلة فيه (1/72)
كثيرة وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلمهم ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب فكيف يقال إن العلم مانع من العصيان
فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة وبدليل التجربة العادية لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة أوجه
الأول مجرد العناد فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي فغيره أولى وعلى ذلك دل قوله تعالى وجحدوا بها الآية وقوله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وأشباه ذلك والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
والثاني الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب الآية وقال تعالى إن الذين اتقو إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية فقد لا تبصر العين ولا تسمع الأذن لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول على السمع والإبصار فما نحن فيه كذلك
والثالث كونه ليس من أهل هذه المرتبة فلم يصر العلم له وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه ويدل عليه قوله تعالى ومن أضل ممن اتبع (1/73)
هواه بغير هدى من الله وفي الحديث
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس إلى أن قال اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا رواه للشيخانصحيح و وقوله
ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم ابن عبدالبر بسند لم يرضه الحديث فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما فليسوا من الراسخين في العلم ولا ممن صار لهم كالوصف وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم فلا اعتراض بهم
فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
إن لكل شىء إقبالا وإدبارا وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا الحديث رواه ابن السنى وابو نعيم الحديث وفي الحديث
سيأتي (1/74)
على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج اخرجه الطبراني في الاوسط والحاكم عن ابي هريرة إلى أن قال ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول وعن علي يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز و جل وعن ابن مسعود كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة فإنه قد يرعوى ولا يروي وقد يروي ولا يرعوى وعن أبي الدرداء لا تكون تقيا حتى تكون عالما ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا وعن الحسن العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئا فقاله وقال الثوري العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا وعن الحسن قال الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل وعنه في قول الله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قال علمتم فعلمتم ولم تعملوا فو الله ما ذلكم بعلم
وقال الثوري العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجىء إلى العمل وقال الشعبي كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ومثله عن وكيع بن الجراح وعن ابن مسعود ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله والآثار في هذا النحو كثيرة (1/75)
وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم وإنما هو رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله
على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم الإجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجىء إليه كما تقدم بيانه وهو معنى قول الحسن كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وعن معمر أنه قال كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله وعن حبيب بن أبي ثابت طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد وعن الثوري قال كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وهو معنى قوله في كلام آخر كنت أغبط الرجل يجتمع حوله ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي وعن أبي الوليد الطيالسي قال سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون وقال الحسن لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم
فصل
ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي والقول في ذلك على الإختصار أنها أمر باطن وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود وهو راجع إلى معنى الآية وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع رواه الترمذي وقال مالك ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور (1/76)
يجعله الله في القلوب وقال أيضا الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة
وأما تفصيل القول فيه فليس هذا موضع ذكره وفي - كتاب الإجتهاد منه طرف فراجعه إن شئت وبالله التوفيق
المقدمة التاسعة
من العلم ما هو من صلب العلم ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه فهذه ثلاثة أقسام
القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرفها وهي أصول الشريعة وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان
هذا وإن كانت وضعية لا عقلية فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي وعلم الشريعة من جملتها إذ العلم بها مستفاد من الإستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها وهذه خواص (1/77)
الكليات العقليات وأيضا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود وهو أمر وضعى لا عقلى فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما
فإذا لهذا القسم خواص ثلاث بهن يمتاز عن غيره
إحداها العموم والإطراد فلذلك جرت الأحكام الشرعية فى أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة وإن فرض فى نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو راجع إلى عموم كالعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة والصاع فى المصراة وأشباه ذلك فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها وهي أمور عامة فلا خاص فى الظاهر إلا وهو عام فى الحقيقة والإعتبار فى أبواب الفقه يبين ذلك
والثانية الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ولا تخصيصا لعمومها ولا تقييدا لإطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها لابحسب (1/78)
عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال بل ما أثبت سببا فهو سبب أبدا لا يرتفع وما كان شرطا فهو أبدا شرط وما كان واجبا فهو واجب أبدا أو مندوبا فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك
والثالثة كون العلم حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه لا زائد على ذلك ولا تجد فى العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم
فإذا كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث فهو من صلب العلم وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب والحمد لله
والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي بل إلى ظني أو كان راجعا إلى قطعى إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ولا بمعنى غيره فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم
فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الإطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم لأن عدم الإطراد يقوي جانب الإطراح ويضعف جانب الإعتبار إذ النقض فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ويقربه من الأمور الإتفاقية الواقعة عن غير قصد فلا يوثق به ولا يبني عليه
وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت فيأباه صلب العلم وقواعده فإنه إذا حكم في قضية ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض (1/79)
الأحوال كان حكمه خطأ وباطلا من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عم فيما هو خاص فعدم الناظر الوثوق بحكمه وذلك معنى خروجه عن صلب العلم
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما ومبنيا عليه فقادح أيضا لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس فاستوي مع سائر ما يتفرج به وإن لم يصح فأحرى في الأطراح كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم
ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها
أحدها الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه عل الخصوص في التعبدات كإختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود وكونها على بعض الهيئات دون بعض واختصاص الصيام بالنهار دون الليل وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار واختصاص الحج بالأعمال المعلومه وفي الأماكن المعروفة وإلى مسجد مخصوص إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه ولا مبني عليه عمل بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى (1/80)
ما ليس لنا به علم ولا دليل لنا عليه
والثاني تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ولا يطلب التزامها كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد فالتزمها المتأخرون بالقصد فصار تحملها على ذلك القصد تحريا لها بحيث يتعنى في إستحراجها ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل وإن صحبها العمل لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث كما في حديث
الراحمون يرحمهم الرحمن حسن صحيح فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه التلميذ من شيخه فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه غيره لم يمنع ذلك الإستفادة بمقتضاه وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال إنه مقصود فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه
والثالث التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة لا على قصد طلب تواتره بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة ومن جهات شتى وإن كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم فالإشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد (1/81)
الكناني قال خرجت حديثا واحدا عن النبي صلى الله عليه و سلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق شك الراوي قال فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له يا أبا زكريا قد خرجت حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم من مائتي طريق قال فسكت عني ساعة ثم قال أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر هذا ما قال وهو صحيح في الإعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلا
والرابع العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا فإنها وإن كانت صحيحة فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في الشريعة في مثلها كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح ولكنه لم نحتج به حتى عرضناه على العلم في اليقظة فصار الإستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام وإنما ذكرت الرؤيا تأنيساوعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء من الإستشهاد بالرؤيا
والخامس المسائل التي يختلف فيها فلا ينبني على الإختلاف فيها فرع عملى إنما تعد من الملح كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه ويقع كثير منها في سائر العلوم وفي العربية منها كثير كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر ومسألة اللهم ومسألة أشياء ومسألة الأصل في لفظ الإسم وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للإختلاف فيها فهي خارجةعن صلب العلم (1/82)
والسادس الإستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم وفي بيان مقاماتهم فينتزعون معاني الأشعار ويضعونها للتخلق بمقتضاها وهو في الحقيقة من الملح لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب ولذلك اتخذه الوعاظ ديدنا وأدخلوه في أثناء وعظهم وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه فالإستشهاد بالمعنى فإن كان شرعيا فمقبول وإلا فلا
والسابع الإستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح بناء على مجرد تحسين الظن لا زائد عليه فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في - كتاب الإجتهاد فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يحسن الظن به فهو عند ما يسلم من القوادح من هذا القسم لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله ولجواز تغيره فإنما يؤخذ إن سلم هذا المأخذ
والثامن كلام أرباب الأحوال من أهل الولاية فإن الإستدلال به من قبيل ما نحن فيه وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم حتى أعرضوا عن غيره جملة فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الأطراح لكل ما سوى الله وأعربوا عن مقتضاه وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور وهم إنما يكلمون به الجمهور وهو وإن كان حقا ففي رتبته لا مطلقا لأنه يصير في حق الأكثر من الحرج أو تكليف مالا يطاق بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه وفي حال دون حال فصار أخذه بإطلاق موقعا (1/83)
في مفسدة بخلاف أخذه على الجملة فليس على هذا من صلب العلم وإنما هو من ملحه ومستحسناته
والتاسع حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي كما يحكى عن الفراء النحوي أنه قال من برع في علم واحد سهل عليه كل علم فقال له محمد بن الحسن القاضي وكان حاضرا في مجلسه ذلك وكان ابن خالة الفراء فأنت قد برعت في علمك فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك ما تقول فيمن سها في صلاته ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا قال الفراء لا شىء عليه قال وكيف قال لأن التصغير عندنا لا يصغر فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له لأنه بمنزلة تصغير التصغير فالسجود للسهو هو جبر للصلاة والجبر لا يجبر كما أن التصغير لا يصغر فقال القاضي ما حسبت أن النساء يلدن مثلك فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر فلو جمعهما أصل واحد لم يكن من هذا الباب كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد روى أن أبا يوسف دخل على الرشيد والكسائي يداعبه ويمازحه فقال له أبو يوسف هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك فقال يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي
فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال يا أبا يوسف هل لك في مسألة فقال نحو أم فقه قال بل فقه فضحك الرشيد حتى فحص برجله ثم قال تلقي على أبي يوسف فقها قال نعم قال يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار وفتح أن قال إذا دخلت طلقت قال أخطأت يا أبا يوسف فضحك الرشيد ثم قال كيف الصواب قال إذا قال أن فقد وجب الفعل ووقع الطلاق وإن قال إن فلم يجب ولم يقع الطلاق قال فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي فهذه (1/84)
المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر فإن كثيرا منها يستفز الناظر استسحانها ببادىء الرأى فيقطع فيها عمره وليس وراءها ما يتخذ معتمدا في عمل ولا اعتقاد فيخيب في طلب العلم سعيه والله الواقي
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ أن أبا العباس ابن البناء سئل فقيل له لم لم تعمل إن في هذان من قوله تعالى إن هذان لساحران الآية فقال في الجواب لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول فقال السائل يا سيدي وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيئين فقال له المجيب يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها فأنت تريد أن تحكها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق أو كلاما هذا معناه فهذا الجواب فيه ما ترى وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العلم
والقسم الثالث وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والإعتقادات أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد أيضا ولا هو من ملحه لأن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها النفوس إذ ليس يصحبها منفر ولا هي مما تعادي العلوم لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شىء من ذلك
هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه وحقيقة (1/85)
أصله وهم وتخييل لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء كالإغراب باستجلاب غير المعهود والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص وأنهم من الخواص وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب ولا يحور منه صاحبه إلا بالإفتضاح عند الإمتحان حسبما بينه الغزالي وابن العربي ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما
ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره وأن المقصود وراء هذا الظاهر ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام واستنادهم فى جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم ولقد اتسع الخرق فى الأزمنة المتأخرة على الراقع فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية حتى آل ذلك إلى مالا يعقل على حال فضلا عن غير ذلك ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون وكل ذلك ليس له أصل ينبنى عليه ولا ثمرة تجنى منه فلا تعلق به بوجه
فصل
وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثانى ويتصور ذلك فى خلط بعض العلوم ببعض كالفقيه يبنى فقهه على مسألة نحوية مثلا فيرجع إلى تقريرها مسألة كما يقررها النحوى لا مقدمة مسلمة ثم يرد مسألته الفقهية إليها والذى كان من شأنه أن يأتى بها على أنها مفروغ منها فى علم النحو فيبنى عليها فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها وفى تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتى بها مسلمة ليفرع عليها فى علمه فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددى في علم العدد كان فضلا معدودا من الملح إن عد منها وهكذا سائر العلوم التى يخدم بعضها بعضا (1/86)
ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها على ضد التربية المشروعة فمثل هذا يوقع فى مصائب ومن أجلها قال علي رضى الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين حسبما هو مذكور فى موضعه من هذا الكتاب وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث فأولى أن يعرض للثانى أن يعد من الثالث لأنه أقرب إليه من الأول فلا يصح للعالم فى التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني وإلا لم يكن مربيا واحتاج هو إلى عالم يربيه
ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض وإن كان حكمة بالذات والله الموفق للصواب
المقدمة العاشرة
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل والدليل على ذلك أمور
الأول أنه لو جاز للعقل تخطى مأخذ النقل لم يكن للحد الذى حده النقل فائدة لأن الفرض أنه حد له حدا فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد وذلك في الشريعة باطل فما أدى إليه مثله
والثاني ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع لكان محسنا ومقبحا هذا خلف (1/87)
والثالث أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم وأقوالهم وإعتقاداتهم وهو جملة ما تضمنته فإن جاز للعقل تعدي حد وآحد جاز له تعدي جميع الحدود لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله أي ليس هذا الحد بصحيح وإن جاز إبطال واحد جاز إبطال السائر وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله
فإن قيل هذا مشكل من أوجه
الأول أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان وحاصلة عدم اعتبار المعقول جملة ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه
والثاني أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو والله على كل شيء قدير و على كل شيء وكيل و خالق كل شيء وهو نقص من مقتضى العموم فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ولأن الوقوف (1/88)
دون حد النقل كالمجاوز له فكلاهما إبطال للحد على زعمك فإذا جاز إبطاله مع النقص جاز مع الزيادة ولما لم يعد هذا إبطالا للحد فلا يعد الآخر
والثالث أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام
لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا لأجل معنى التشويش القضاء مع جميع المشوشات وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف وذلك خلاف ما أصلت وبالجملة فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه
فالجواب أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر
أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد وهذا مبين في موضعه من - كتاب القياس فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ونبه النبي صلى الله عليه و سلم على العمل بها فأين استقلال العقل بذلك بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجرى بمقدار ما أجرته ويقف حيث وقفته
وأما الثاني فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص وإن سلم أنها تخصص فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب (1/89)
بأدلة شرعية دلت على ذلك فالعقل مثلها فقوله والله على كل شىء قدير خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد فى العموم دخول ذات البارى وصفاته لأن ذلك محال بل المراد جميع ما عدا ذلك فلم يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه
وإذا كان كذلك لم يصح قياس المجاوزة عليه
وأما الثالث فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير فليس من تحكيم العقل بل من فهم معنى التشويش ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود فى الخطاب هكذا يقول الأصوليون فى تقرير هذا المعنى وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ لكن خصصه المعنى والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص فإن لفظ غضبان وزنه فعلان وفعلان فى أسماء الفاعلين يقتضى الامتلاء مما اشتق منه فغضبان إنما يستعمل فى الممتلىء عضبا كريان في الممتلىء ريا وعطشان في الممتلىء عطشا وأشباه ذلك لا أنه يستعمل فى مطلق ما اشتق منه فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلىء غضبا حتى كأنه قال لا يقضى القاضى وهو شديد الغضب أو ممتلىء من الغضب وهذا هو المشوش فخرج المعنى عن كونه مخصصا وصار خروج يسير الغضب عن النهى بمقتضى اللفظ لا بحكم المعنى وقيس على مشوش الغضب كل مشوش فلا تجاوز للعقل إذا (1/90)
وعلى كل تقدير فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء وبذلك ظهرت صحة ما تقدم
المقدمة الحادية عشرة
لما ثبت أن العلم المعتبر شرعا هو ما ينبنى عليه عمل صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية فما اقتضته فهو العلم الذى طلب من المكلف أن يعلمه فى الجملة وهذا ظاهر غير أن الشأن إنما هو فى حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعى وهذا مذكور فى - كتاب الأدلة الشرعية حسبما يأتى إن شاء الله
المقدمة الثانية عشرة
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ثم علمه وبصره وهداه طرق مصلحته فى الحياة الدنيا غير أن ما علمه من ذلك على ضربين ضرب منها ضرورى داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة كالتقامه الثدى ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا هذا من المحسوسات وكعلمه بوجوده وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات وضرب منها بوساطة التعليم شعر بذلك أولا كوجوه التصرفات الضرورية نحو محاكاة الأصوات والنطق بالكلمات ومعرفة أسماء الأشياء فى المحسوسات وكالعلوم النظرية التى للعقل فى تحصيلها مجال ونظر فى المعقولات
وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر فلا بد من معلم فيها وان (1/91)
كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا فالإمكان مسلم ولكن الواقع فى مجارى العادات أن لابد من المعلم وهو متفق عليه فى الجملة وإن اختلفوا فى بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية وهم الذين يشترطون المعصوم والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم علما كان المعلم أو عملا واتفاق الناس على ذلك فى الوقوع وجريان العادة به كاف فى أنه لا بد منه وقد قالوا إن العلم كان فى صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال وهذا الكلام يقضى بأن لا بد فى تحصيله من الرجال إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم وأصل هذا فى الصحيح
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء الحديث فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك
فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به وهذا أيضا واضح فى نفسه وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء إذ من شروطهم فى العالم بأى علم اتفق أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم قادرا على التعبير عن مقصوده فيه عارفا بما يلزم عنه قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح فى العلوم الشرعية وجدناهم قد أتصفوا بها على الكمال
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت وربما تصور تفريعها على أصول (1/92)
مختلفة فى العلم الواحد فأشكلت أو خفى فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه وهي فى نفس الأمر على غير ذلك أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح وأشباه ذلك فلا يقدح فى كونه عالما ولا يضر فى كونه إماما مقتدى به فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص
فصل
وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم وإن خالفتها فى النظر وهى ثلاث
إحداها العمل بماعلم حتى يكون قوله مطابقا لفعله فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به فى علم وهذا المعنى مبين على الكمال فى كتاب الاجتهاد والحمد لله
والثانية أن يكون ممن رباه الشيوخ فى ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك وهكذا كان شأن السلف الصالح
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذهم بأقواله (1/93)
وأفعله واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان وعلى أي وجه صدر فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذى لا يعارض والحكمة التى لا ينكسر قانونها ولا يحوم النقص حول حمى كمالها وإنما ذلك بكثرة الملازمة وشدة المثابرة وتأمل قصة عمر بن الخطاب فى صلح الحديبية حيث قال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار قال بلى قال ففيم نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم قال يا ابن الخطاب إنى رسول الله ولم يضيعنى الله أبدا فانطلق عمر ولم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك فقال أبو بكر إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم فطابت نفسه ورجع
فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم فى مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين
أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددته اخرجه البخاري وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال (1/94)
وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون فى الصحابة سيرتهم مع النبى صلى الله عليه و سلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال فى العلوم الشرعية وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر فى الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر فى قرنه بمثل ذلك
وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف
وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهرى وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم
والثالثة الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبى صلى الله عليه و سلم واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا فى كل قرن وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعنى بشدة الإتصاف به وإلا فالجميع ممن يهتدى به فى الدين كذلك كانوا ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة فى هذا المعنى فلما ترك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوي ولهذا المعنى تقرير فى كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى (1/95)
فصل
وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان
أحدهما المشافهة وهى أنفع الطريقين وأسلمهما لوجهين الأول خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء فكم من مسألة يقرؤها المتعلم فى كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة وحصل له العلم بها بالحضرة وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادى من قرائن أحوال وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال وقد يحصل بأمر غير معتاد ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم ! عند مثوله بين يدى المعلم ظاهر الفقر بادى الحاجة إلى ما يلقى إليه وهذا ليس ينكر فقد نبه عليه الحديث الذى جاء
أن الصحابة أنكروا أنفسهم عند ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وحديث حنظلة الأسيدى حين شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم إذا كانوا عنده وفى مجلسه كانوا على حالة يرضونها فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
لو أنكم تكونون كما تكونون عندى لأظلتكم الملائكة بأجنحتها اخرجه مسلم والترمذي صحيح وقد قال عمر بن الخطاب وافقت ربى فى ثلاث وهى من فوائد مجالسة العلماء إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا فى متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به فهذا الطريق نافع على كل تقدير
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل وكانوا يكرهون ذلك وقد كرهه مالك فقيل له فما نصنع قال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة وحكى عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة وإنما ترخص الناس فى ذلك عندما حدث النسيان وخيف على الشريعة الاندراس (1/96)
الطريق الثانى مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع في بابه بشرطين
الأول أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه وهو معنى قول من قال كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد
والشرط الثاني أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين وأصل ذلك التجربة والخبر أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما ما بلغه المتقدم
وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين والتابعون ليسوا كتابعيهم وهكذا إلى الآن ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى وأما الخبر ففي الحديث
خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رواه الخمسة وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك وروى عن النبي صلى الله عليه و سلم
أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض رواه ابراهيم الحربي عن ابي ثعلبة ولم يذكر منزلته من الصحة ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير وتكاثر الشر شيئا بعد شىء (1/97)
ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق وعن ابن مسعود أنه قال ليس عام إلا الذى بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم ومعناه موجود فى الصحيح فى قوله
ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون رواه البخاري وقال عليه السلام
إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل من الغرباء قال النزاع من القبائل رواه مسلم وفى رواية
قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون عند فساد الناس رواه الطبراني وعن أبى إدريس الخولانى إن للإسلام عرى يتعلق الناس وإنها تمتلخ عروة عروة وعن بعضهم تذهب السنة سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة وتلا أبو هريرة قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح الآية ثم قال والذى نفسى بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا وعن عبد الله قال أتدرون كيف ينقص الإسلام قالوا نعم كما ينقص صبغ الثوب وكما ينقص سمن الدابة فقال عبد الله ذلك منه ولما نزل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم بكى عمر فقال عليه والسلام
ما يبكيك قال يا رسول الله إنا كنا فى زيادة من ديننا فأما إذا كمل فلم يكمل شىء قط إلا نقص فقال عليه السلام صدقت اخرجه ابن ابي شيبة والأخبار هنا كثيرة وهى تدل على نقص الدين والدنيا وأعظم ذلك العلم فهو إذا فى نقص بلا شك (1/98)
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط فى العلم على أي نوع كان وخصوصا علم الشريعة الذى هو العروة الوثقى والوزر الأحمى وبالله تعالى التوفيق
المقدمة الثالثة عشرة
كل أصل علمى يتخذ إماما في العمل فلا يخلوا إما أن يجرى به العمل على مجارى العادات فى مثله بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط أولا فإن جرى فذلك الأصل صحيح وإلا فلا
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد بالفرض لتقع الأعمال فى الوجود على وفقه من غير تخلف كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح
فإذا جرت فى المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا
ومثاله فى علم الشريعة الذى نحن فى تأصيل أصوله أنه قد تبين فى أصول الدين امتناع التخلف فى خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه و سلم وثبت فى الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد فإذا كل أصل شرعى تخلف عن جريانه على هذه المجارى فلم يطرد ولا استقام بحسبها فى العادة فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها ويقع ذلك فى فهم الأقوال ومجارى الأساليب والدخول فى الأعمال
فأما فهم الأقوال فمثل قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على (1/99)
المؤمنين سبيلا إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعى فعليه يجب أن يحمل ومثله قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين إن حمل على أنه تقرير حكم شرعى استمر وحصلت الفائدة وإن حمل على أنه إخبار بشأن (1/100)
الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية
وأما مجارى الأساليب فمثل قوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا الخ فهذه صيغة عموم تقتضى بظاهرها دخول كل مطعوم وأنه لا جناح فى استعماله بذلك الشرط ومن جملته الخمر لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم فى الأسلوب مع إهمال السبب الذى لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر لأن الله تعالى لما حرم الخمر قال ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهى معا فلا يمكن للمكلف امتثال
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول فى الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم فى الخمر وقل له إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله إذ لا يصح أن يقال للمكلف اجتنب كذا ويؤكد النهى بما يقتضى التشديد فيه جدا ثم (1/101)
يقال فإن فعلت فلا جناح عليك وأيضا فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله وهو بعد استقرار التحريم كالمنافى لقوله إذا ما اتقوا وآمنوا وعلموا الصالحات فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق
وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر الإطلاق وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للإطراد والإستمرار فتصح وفى ضمنه تدخل أحكام الرخص إذ هو الحاكم فيها والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية لم يأمن الغلط بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الإجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر
إحداهما أنه كتب إلى بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه والشغل به فقال فيه وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته فرغ سره منه بالخروج عنه ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون فاستشكلت هذا الكلام وكتبت إليه بأن قلت أما أنه (1/102)
مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب فلا أدري ما هذا الوجوب ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم وديارهم وقراهم وأزواجهم وذرياتهم وغير ذلك مما يقع لهم به الشغل في الصلاة وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال وأيضا فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة هذا ما لا يفهم وإنما الجاري على الفقه والإجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره إن أمكنه الخروج عنه شرعا وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها وله موضع غير هذا اه حاصل المسألة
فلما وصل إليه ذلك كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه وهو صحيح لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة لإختلاف أحوال الناس فلا يصح إعتماده أصلا فقهيا ألبتة
والثانية مسألة الورع بالخروج عن الخلاف فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها (1/103)
ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب وإلى إفريقية فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر بل كان من جملة الإشكالات الواردة أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها إختلافا يعتد به فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات وهو خلاف وضع الشريعة وأيضا فقد صار الورع من أشد الحرج إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ولا معاملة ولا أمر من أمور التكليف من خلاف يطلب الخروج عنه وفي هذا ما فيه
فأجاب بعضهم بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه المختلف فيه إختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربه وليس أكثر مسائل الفقه هكذا بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي مواد التأمل وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل وأما الورع من حيث ذاته ولو في هذا النوع فقط فشديد مشق لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه وقد قال عليه السلام
حفت الجنة بالمكاره رواه مسلم هذا ما أجاب به فكتبت إليه بأن ما قررتم من الجواب غير بين لأنه إنما يجري في المجتهد (1/104)
وحده والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال
فليس مما نحن فيه وأما المقلد فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين
والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر وليس العامى كذلك وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة وربا النساء ومحاش النساء وما أشبه ذلك
وأيضا فتساوى الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ولا يكونان كذلك عند بعض فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد لأن ما يأمره به من الإجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده من غير أن يخرج عن الخلاف لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعى أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور وهو شديد جدا ومن يشاد هذا الدين يغلبه وهذا هو الذي أشكل على السائل ولم (1/105)
يتبين جوابه بعد
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع وإن كان شديدا في مخالفة النفس وورع الخروج من الخلاف صعب فى الوقوع قبل النظر في مخالفة النفس فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج وأنه ليس ما أشرتم إليه اه ما كتبت به وهنا وقف الكلام بيني وبينه
ومن تأمل هذا التقرير عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ولا يجري في الواقع مجرى الإستقامة للزوم الحرج في وقوعه فلا يصح أن يستند إليه ولا يجعل أصلا يبنى عليه والأمثلة كثيرة فاحتفظ بهذا الأصل فهو مفيد جدا وعليه ينبني كثير من مسائل الورع وتمييز المتشابهات وما يعتبر من وجه الإشتباه وما لا يعتبر وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله (1/106)
القسم الثاني - كتاب الأحكام (1/107)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم - كتاب الأحكام
والأحكام الشرعية قسمان أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف والآخر يرجع إلى خطاب الوضع فالأول ينحصر فى الخمسة فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل وهى جملة
المسألة الأولى
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب
أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب فلأمور
أحدها أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخييرلم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ولا طلب فلا طاعة
والثانى أن المباح مساو للواجب والمندوب فى أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا (1/109)
لا يقال إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل فقد قام المعارض لطلب الترك وليس المباح كذلك فإنه لا معارض لطلب الترك فيه لأنا نقول كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك وهو التخيير فى الترك فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه
والثالث أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك فى المباح شرعا فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه وهذا غير صحيح باتفاق ولا معقول فى نفسه
والرابع إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره بأن يترك ذلك المباح وأنه كنذر فعله وفى الحديث
من نذر أن يطيع الله فليطعه رواه الستة الا مسلم فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالندر لكنه غير لازم فدل على أنه ليس بطاعة وفى الحديث
أن رجلا نذر أن يصوم قائما ولا يستظل فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجلس وأن يستظل ويتم صومه رواه البخاري قال مالك أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى (1/110)
والخامس أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء لكان أرفع درجة فى الآخرة ممن فعله وهذا باطل قطعا
فإن القاعدة المتقف عليها أن الدرجات فى الآخرة منزلة على أمور الدنيا فإذا تحقق الاستواء فى الدرجات وفعل المباح وتركه فى نظر الشارع متساويان
فيلزم تساوى درجتى الفاعل والتارك وإذا فرضنا تساويهما فى الطاعات والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل فيلزم أن يكون أرفع درجة منه هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك
وإن لم يطع فلا كلام فى هذا
والسادس أنه لو كان ترك المباح طاعة للزم رفع المباح من أحكام الشرع من حيث النظر إليه فى نفسه وهو باطل بالإجماع ولا يخالف فى هذا الكعبى لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم لا بالنظر إلى ذات الفعل وكلامنا إنما هو (1/111)
بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم وأيضا فإنما قال الكعبى ما قال بالنظر إلى فعل المباح لأنه مستلزم ترك حرام بخلافه بالنظر إلى تركه إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ولا فعل مندوب فيكون مندوبا فثبت أن القول بذلك يؤدى إلى رفع المباح بإطلاق وذلك باطل باتفاق
والسابع أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار
فترك المباح إذا فعل مباح وأيضا القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد حسبما يأتى إن شاء الله وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك جاز أن يكون فاعله مطيعا وذلك تناقض محال
فإن قيل هذا كله معارض بأمور
أحدها أن فعل المباح سبب فى مضار كثيرة منها أن فيه إشتغالا عما هو الأهم فى الدنيا من العمل بنوافل الخيرات وصدا عن كثير من الطاعات ومنها أنه سبب فى الإشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوى بصاحبها فى المهلكة والعياذ بالله ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها كقوله تعالى أذهبتم طيباتكم فى حياتكم (1/112)
الدنيا وقوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وفى الحديث
إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث وفيه
إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم صحيح عن الشيخان وذلك كثير شهير فى الكتاب والسنة وهو كاف فى طلب ترك المباح لأنه أمر دنيوى لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح ومنها ما فيه من التعرض لطول الحساب فى الآخرة وقد جاء أن حلالها حساب وحرامها عذاب وعن بعضهم اعزلوا عني حسابها حين أتى بشىء يتناوله والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب وأن سرعة الإنصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد والمباح صاد عن ذلك فإذا تركه أفضل شرعا فهو طاعة فترك المباح طاعة
فالجواب أن كونه سببا فى مضار لا دليل فيه من أوجه
أحدها أن الكلام فى أصل المسألة إنما هو فى المباح من حيث هو مباح متساوى الطرفين ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعا من باب سد الذرائع لا من جهة كونه مباحا
وعلى هذا يتنزل قول من قال كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به (1/113)
البأس وروى مرفوعا وكذلك كل ما جاء من هذا الباب فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف وأيضا فقد يتعلق بالمباح فى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح كالمال إذا لم تؤد زكاته والخيل إذا ربطها تعففا ولكن نسى حق الله فى رقابها وما أشبه ذلك
والثانى أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة فليس تركه أفضل بإطلاق بل هو ثلاثة أقسام قسم يكون ذريعة إلى منهى عنه فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروى ففى الحديث
نعم المال الصالح للرجل الصالح اخرجه احمد بسند جيد وفيه
ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم إلى أن قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء رواه مسلم صحيح بل قد جاء أن فى مجامعة الأهل أ اجرا وإن كان قاضيا لشهوته لأنه يكف به عن الحرام وذلك فى الشريعة كثير لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما توسل بها إليه وقسم لا يكون ذريعة إلى شىء فهو المباح المطلق وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير وليس الكلام فيه
والثالث إنه إذا قيل إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه فهو معارض بمثله فيقال بل فعله طاعة بإطلاق لأن (1/114)
كل مباح ترك حرام ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح فقد شغل النفس به عن جميعها وهذا الثانى أولى لأن الكلية هنا تصح ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة
وأما قوله إنه سبب فى طول الحساب فجوابه من أوجه
أحدها أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه لزم أن يكون التارك محاسبا على تركه من حيث كان الترك فعلا ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح وذلك محال فما أدى إليه مثله وأيضا فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ثم قضى بأن التارك لا يحاسب مع أنه آت بحلال وهو الترك فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض
وهذا تناقض من القول
والثانى أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها فقد قال تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك وكذلك سائر المكلفين لا يقال إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها لأنا نقول كذلك المباح يعارض طلب تركه التخيير فيه وأن فعله وتركه فى قصد الشارع بمثابة واحدة
والثالث أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال إنه راجع (1/115)
إلى أمر خارج عن نفس المباح فإن المباح هو أكل كذا مثلا وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها فإذا روعيت صار الأكل مباحا وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان وشروط وموانع ولواحق تراعى
والترك في هذا كله كالفعل فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه
ولا يقال إن الفعل كثير الشروط والموانع ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك فإن ذلك فيه قليل وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك
لأنا نقول حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات كان فعلا أو تركا ولو بمجرد القصد وأيضا فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا يدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم
إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه اخرجه البخاري وتأمل ح حديث سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما يبين لك هو وما في معناه أن الفعل والترك في المباح على الخصوص لا فرق بينهما من هذا الوجه
فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح فالفعل والترك سواء وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا فالفعل والترك أيضا سواء وأيضا إن كان في المباح ما يقتضي الترك ففيه ما يقتضي عدم الترك لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ألا ترى إلى قوله تعالى والأرض وضعها للأنام إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقوله وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه إلى قوله ولعلكم تشكرون وقوله وسخر (1/116)
لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الإمتنان بالنعم وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والإنتفاع ثم الشكر عليها وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه لم تركته ولأي وجه أعرضت عنه وما منعك من تناول ما أحل لك فالسؤال حاصل في الطرفين وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه إما في جهة تناوله واكتسابه وإما في جهة الإستعانة به على التكليفات فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله
وفي ذلك قال تعالى قل من حرم زينة الله إلى قوله خالصة يوم القيامة أي لا تبعة فيها وقال تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض لا الحساب الذي فيه مناقشة وعذاب وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة وإليه يرجع قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين أعنى سؤال المرسلين ويحققه أحوال السلف فى تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا
والثانى من الأمور المعارضة أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا وذلك منقول عنهم تواترا كترك الترفه فى المطعم والمشرب والمركب والمسكن وأعرقهم فى ذلك عمر بن الخطاب وأبو ذر وسلمان وأبو عبيدة بن الجراح وعلي بن أبى طالب وعمار وغيرهم رضى الله عنهم (1/117)
وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب فى - كتاب الجهاد وكذلك الداودى فى - كتاب الأموال ففيه الشفاء ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه
والجواب عن ذلك من أوجه
أحدها أن هذه أولا حكايات أحوال فالاحتجاج بمجردها من غير نظر فيها لا يجدى إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الإحتجاج
والثاني أنها معارضة بمثلها في النقيض فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل ويأكل اللحم ويختص بالذراع وكانت تعجبه وكان يستعذب له الماء وينقع له الزبيب والتمر ويتطيب بالمسك ويحب النساء
وأيضا فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم يعلم ذلك من طالع سيرهم ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء لكنهم لم يفعلوا فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك وأدلة هذه الجملة كثيرة وانظر في باب المفاضلة بين الفقر (1/118)
والغنى في مقدمات ابن رشد
والثالث إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة بل لأمور خارجة وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك
منها أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات وحائل دون خيرات فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه من باب التوصل إلى ما هو مطلوب كما كانت عائشة رضي الله عنها يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا وهذا هو محل النزاع
ومنها أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة فيترك المباح لما يؤديه إليه كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيرة إلى الشام أتي بفرس فلما ركبه فهملج تحته أخبر أنه أحس من نفسه فنزل عنه ورجع إلى حماره وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم حين لبسها النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه وهو المعصوم (1/119)
صلى الله عليه و سلم ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها وفي الحديث
لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس صحيح الاسناد وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه
ومنها أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر لغيره أنه مباح إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ولم يتخلص له حلة وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف
كقوله كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس ولم يتركوا كل ما لا بأس به وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع
ومنها أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله إما للعون به على طاعة الله وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على عبادة أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ومن ذلك أن يتركه حتى (1/120)
يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما فإنه إذا كان لغير حاجة مباح كأكل بعض الفواكه فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ثم يأكل قصدا لإقامة البنية والعون على الطاعة وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف وغير قادحة في مسألتنا
ومنها أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل مما يتعلق بالآخرة فلا تجده يستلذ بمباح ولا ينحاش قلبه إليه ولا يلقي إليه بالا وهذا وإن كان قليلا فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة بل هو في طاعة بما اشتغل به
وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ولم تبق لنفسها شيئا فعوتبت على تركها نفسها دون شيء فقال لا تعنيني لو كنت ذكرتني لفعلت ويتفق مثل هذا للصوفية وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له هو في حكم المغفول عنه
ومنها أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا والإسراف مذموم
وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار فيكون التوسط راجعا إلى الإجتهاد بين الطرفين فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح ولا يكون كما ظن فكل أحد فيه فقيه نفسه والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب وهو شرط من شروط تناول المباح ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ولا مطلوب الفعل كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ومن (1/121)
شرطه أن لا يكون جنبا والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم فلا تعدو هذه الوجوه وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم والله أعلم
والثالث من الأمور المعارضة ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا وترك لذاتها وشهواتها وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا وذم تاركه على الجملة حتى قال الفضيل بن عياض جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وقال الكتاني الصوفي الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي ولا شامي الزهد في الدنيا وسخاوة النفس والنصيحة للخلق قال القشيري يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد إنها غير محمودة والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر والزهد حقيقة إنما هو في الحلال أما الحرام فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام عام في أهل الإيمان ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص وهو الزهد في المباح فأما المكروه فذو طرفين وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه
والجواب من أوجه
أحدها أن الزهد في الشرع مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر (1/122)
من الشريعة فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم
والثاني أن أزهد البشر صلى الله عليه و سلم لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها
وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد
والثالث أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به بل هو غفلة لا يقال فيه مباح فضلا عن أن يقال فيه زهد وإن كان تركه بقصد فإما أن يكون القصد مقصورا على كونه مباحا فهو محل النزاع أو لأمر خارج فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد وإن كان أخرويا فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب لا من جهة مجرد الترك ولا نزاع في هذا
وعلى هذا المعنى فسره الغزالي إذ قال الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فلم يجعله مجرد الإنصراف عن الشيء خاصة بل بقيد الإنصراف إلى ما هو خير منه وقال في تفسيره ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال ثم ذكر أقسام الزهد فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار (1/123)
فصل
وأما كون المباح غير مطلوب الفعل فيدل عليه كثير مما تقدم لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء وقد استدل من قال إنه مطلوب بأن كل مباح ترك حرام وترك الحرام واجب فكل مباح واجب إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح مع قطع النظر عما يستلزم مستوى الطرفين وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح لوجوه
أحدها لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة فلا يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا وهذا باطل باتفاق فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة كما تحكم عليها بسائر الأحكام وإن استلزمت ترك الحرام فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم لأنه أمر خارج عن ماهية المباح
والثاني أنه لو كان كما قال لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره (1/124)
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف وقد فرضناه واجبا فليس بمباح فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف
والثالث أنه لو كان كما قال لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية لإستلزامها ترك الحرام فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة وتصير واجبة
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه فهو باطل لأنه يعتبر جهة الاستلزام فلذلك نفى المباح فليعتبر جهة الاستلزام في الأربعة الباقية فينفيها وهو خلاف الإجماع والمعقول فإن اعتبر في الحرام والمكروه جهة النهي وفي المندوب جهة الأمر كالواجب لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما
فإن قال يخرج المباح عن كونه مباحا بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه فذلك غير مسلم وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به والخلاف فيه معلوم فلا نسلم أنه واجب وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ولا في تركه دون فعله بل قصده جعله لخيرة المكلف فما كان من المكلف من فعل أو ترك فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة أيهما فعل فهو قصد الشارع لا أن للشارع قصدا (1/125)
في الفعل بخصوصه ولا في الترك بخصوصه
لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص وإلى تركه على الخصوص
فأما الأول فأشياء منها الأمر بالتمتع بالطيبات كقوله تعالى يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا وقوله يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله وقوله يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إلى أشباه ذلك مما دل الامر به على قصد الإستعمال وأيضا فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها وقررت عليهم فهم منها القصد إلى التنعم بها لكن بقيد الشكر عليها ومنها أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات وجعل ذلك من أنواع ضلالهم فقال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة لإتباعة فيها ولا إثم
فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها ومنها أن هذه النعم هدايا من الله للعبد وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد هذا غير لائق في محاسن العادات ولا في مجاري الشرع بل قصد المهدي أن تقبل هديته
وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه فليقبل ثم ليشكر له عليها وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى حيث قال عليه (1/126)
السلام
إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم باسقاط لفظ انها زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه
أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ألم تغضب وفي الحديث
إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه رواه احمد وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب كالفطر في السفر أو التحريم كما قاله طائفة في قوله من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى آخرها وإذا تعلقت المحبة بالمباح كان راجح الفعل فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة وعلى والخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة كالطلاق السنى فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح
أبغض الحلال إلى الله الطلاق رواه ابو داود ولذلك لم يأت به صيغة أمر فى القرآن ولا في السنة كما جاء فى التمتع بالنعم وإنما جاء مثل قوله الطلاق مرتان فإن طلقها فلا تحل له من بعد يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولا شك أن جهة البغض فى المباح مرجوحة
وجاء
كل لهو (1/127)
باطل إلا ثلاثة اخرجه ابن خزيمة وكثير من أنواع اللهو مباح واللعب أيضا مباح وقد ذم فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافى قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا وتركا على غير الجهات المتقدمة
والجواب من وجهين أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي
فالإجمالي أن يقال إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوى الطرفين فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح وإما لأنه مباح في أصله ثم صار غير مباح لأمر خارج وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة
وأما التفصيلي فإن المباح ضربان أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك
فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح فى نفسه وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب فالأمر به (1/128)
راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد لا من حيث هو جزئى معين
والثاني إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة أولا يكون خادما لشىء كالطلاق فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلى إقامة النسل فى الوجود وهو ضروري ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما
فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه كان مبغضا ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى كالشقاق وعدم إقامة حدود الله
وهو من حيث كان جزئيا فى هذا الشخص وفى هذا الزمان مباح وحلال
وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا وقد تقدم ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري كالدين على الكافر والتقوى على العاصي كان من تلك الجهة مذموما وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح ولكنه مذموم ولم يرضه العلماء بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل فى إصلاح معاش ولا في إصلاح معاد لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية وفى القرآن ولا تمش فى الأرض مرحا إذ يشير إلى هذا المعنى وفي الحديث
كل لهو باطل إلا ثلاثة ويعنى بكونه باطلا أنه عبث (1/129)
أو كالعبث ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى بخلاف اللعب مع الزوجة فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل وبخلاف تأديب الفرس وكذلك اللعب بالسهام فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه
وهذا الجواب مبنى على أصل آخر ثابت فى الأحكام التكليفية فلنضعه هنا وهي
المسألة الثانية
فيقال إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقى
فالمباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل على جهة الندب أوالوجوب ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع فهذه أربعة أقسام
فالأول كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس مما سوى الواجب من ذلك والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه (1/130)
فى محاسن العادات كالإسراف فهومباح بالجزء فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه لكان جائزا كما لو فعل فلو ترك جملة لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ففى الحديث
إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده رواه البخاري وقوله فى الآخر حين حسن من هيئته
أليس هذا أحسن اخرجه مالك اليس هذا خيرا وقوله
إن الله جميل يحب الجمال اخرجه مسلم وابو داود والترمذي بعد قول الرجل
إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة وكثير من ذلك وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها
والثاني كالأكل والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوه الاكتسابات الجائزة كقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا أحل لكم صيد البحر وطعامه أحلت لكم بهيمة الأنعام وكثير من ذلك كل هذه الأشياء مباحة بالجزء أى إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا (1/131)
لما هو من الضروريات المأمور بها فكان الدخول فيها واجبا بالكل
والثالث كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها فمثل هذا مباح بالجزء فإذا فعل يوما ما أو فى حالة ما فلا حرج فيه فإن فعل دائما كان مكروها ونسب فاعله إلى قلة العقل وإلى خلاف محاسن العادات وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح
والرابع كالمباحات التى تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة
فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئآت أهل العدالة وأجرى صاحبها مجرى الفساق وإن لم يكن كذلك وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا وقد قال الغزالي إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة ومن هنا قيل لا صغيرة مع الإصرار
فصل
إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب (1/132)
فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح فلا تقبل شهادته لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك فالترك لها جملة مؤثر فى أوضاع الدين إذا كان دائما أما إذا كان فى بعض الأوقات فلا تأثير له فلا محظور فى الترك
فصل
إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة وسماع الغناء المكروه فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح فى العدالة فإن داوم عليها قدحت فى عدالته وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة لم تقبل شهادته وكذلك اللعب الذى يخرج به عن هيئة أهل المروءة والحلول بمواطن التهم لغير عذر وما أشبه ذلك
فصل
أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض فإنه لا بد أن يكون (1/133)
واجبا بالكل والجزء فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا
أما بحسب الجواز فذلك ظاهر فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها ويعد مرتكب كبيرة فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك
وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه وما أشبه ذلك فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها فى غيرها
وأما بحسب الوقوع فقد جاء ما يقتضى ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة
من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه رواه ابن خزيمة في صحيحه وهو على شرط مسلم فقيد بالثلاث كما ترى وقال فى الحديث الآخر
من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا على شرط مسلم كذلك مع أنه لو تركها مختار غيرمتهاون ولا مستخف لكان تاركا للفرض فإنما (1/134)
قال ذلك لأن مرات أولى في التحريم وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون إذ تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وكذلك يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك إنه لا يقدح فى شهادته إذا لم يكن كبيرة فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته وصار فى عداد من فعل كبيرة بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة
وأما إن قلنا إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال إن الواجب إذ كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل لا مانع يمنع من ذلك فانظر فيه وفى أمثلته منزلا على مذهب الحنفية وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم فيقال فى الفرض إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل وهكذا القول فى الممنوعات أنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء وإن عدت فى الحكم فى مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما فلا تكون كذلك فى أحوال أخر بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها وقد ينضاف الذنب إلى الذنب فيعظم بسبب الإضافة فليست (1/135)
سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر مع أن السرقة معدودة من الكبائر وقد قال الغزالي قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر قال ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق عوده إليها ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره
فصل
هذا وجه من النظر مبنى على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق
ولمدع أن يدعى اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية أما في المباح فمثل قتل كل مؤذ والعمل بالقراض والمساقاة وشراء العرية والإستراحة بعد التعب حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي إن قيل إنه مباح فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من فعلها ولا من تركها إثم ولا كراهة ولا ندب ولا وجوب وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه لقوله عليه السلام
تداووا اخرجه ابو داود عن ابي الدرداء وكالإحسان فى قتل الدواب المؤذية لقوله
إذا قتلتم فأحسنوا القتلة رواه الخمسة الا البخاري فإن هذه (1/136)
الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ولا ممنوعا وكذلك لو فعلها دائما وأما في المكروه فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ والاستجمار بالحممة والعظم وغيرهما مما ينقى إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن فليس النهى عن ذلك نهى تحريم ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم وكذلك البول في الجحر واختناث الأسقية في الشرب وأمثال ذلك كثيرة وأما فى الواجب والمحرم فظاهر أيضا التساوي فإن الحدود وضعت على التساوي فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة وقاذف الواحد كقاذف الجماعة وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس فى إقامة الحدود عليهم وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك وما أشبه ذلك
وأيضا فقد نص الغزالى على أن الغيبة أو سماعها والتجسس وسوء الظن وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين جار دوامها مجرى الفلتات فى غيرها لأنها غالبة في الناس على الخصوص كما كانت الفلتات فى غيرها غالبة فلا يقدح فى العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات فإذا ثبت هذا استقامت الدعوى فى أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية
ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل (1/137)
أما الأول فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك فى قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك داخلهم الحرج من وجوه عدة والشرع طالب لدفع الحرج قطعا فصال الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه وبحسبك فى المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعى وناهيك به نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم
ومثل هذا النظر جار فى المندوب والمكروه
وأما ما ذكره فى الواجب والمحرم فغير وارد فإن اختلاف الأحكام فى الحدود ظاهر وان اتفقت في بعض وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة وإن سلم ففى العدالة وحدها لمعارض راجح وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة فتعذرت الشهادة
فصل
إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية فى الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم فى أثناء التقرير بل (1/138)
هي فى اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة فى مورادها ومصادرها ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب وانشراح الصدر فيدل على ذلك جمل
منها ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لولم يداوم عليه وهو أصل متفق عليه بين العلماء فى الجملة ولولا أن للمداومة تأثيرا لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه وهو معنى ما تقدم تقريره فى الكلية والجزئية وهذا المسلك لمن اعتبره كاف
ومنها أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق وتقرر فى هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات إذ مجارى العادات كذلك جرت الأحكام فيها ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا فى الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد لكن الغالب الصدق فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ولا طرح الظن باطلاق وليس كذلك بل حكم بمقتضى ظن الصدق وإن برز بعد فى بعض الوقائع الغلط فى ذلك الظن وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية فى حكم الكلية وهو دليل على صحة اختلاف الفعل (1/139)
الواحد بحسب الكلية والجزئية وأن شأن الجزئية أخف
ومنها ما جاء في الحذر من زلة العالم في علمه أو عمله إذا لم تتعد لغيره في حكم زلة غير العالم فلم يزد فيها على غيره فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والإتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول فصارت عند الإتباع عظيمة جدا ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه إن صالحا فصالح وإن طالحا فطالح وفيه جاء
من سن سنة حسنة أو سئية اخرجه مسلم
وأن نفسا لا تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل رواه الخمسة وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب وإن كانت في نفسها صغيرة والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية وهو المطلوب
المسألة الثالثة
المباح يطلق بإطلاقين أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك والآخر من حيث يقال لا حرج فيه وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام (1/140)
أحدها أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل والثاني أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك والثالث أن يكون خادما لمخير فيه والرابع أن لا يكون فيه شىء من ذلك
فأما الأول فهو المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل وأما الثاني فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل بمعنى أن المداومة عليه منهى عنها وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني
ومعنى هذه الجملة أن المباح كما مر يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك كترك الدوام على التنزه فى البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح فإن ذلك هو المطلوب وقد تكون فى طرف الفعل كالاستمتاع بالحلال من الطيبات فإن الدوام فيه (1/141)
بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك فإنه خادم لما يضادها وهو الفراغ من الأشتغال بها والخادم للمخير فيه على حكمه وأما الرابع فلما كان غير خادم لشىء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء فصار مطلوب الترك أيضا لأنه صار خادما لقطع الزمان فى غير مصلحة دين ولا دنيا فهو إذا خادم لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له فصار مطلوب الترك أيضا
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق وإنما هو مباح بالجزء خاصة وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك فإن قيل أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوى الطرفين فالجواب أن لا (1/142)
لأن ذلك الذى تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذى سمى هنا المباح بالجزء وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمي بالمطلوب بالكل فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه فلا قصد له في أحد الأمرين وهذا معقول واقع بهذا الإعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموار للسوأة وجمال في النظر مطلوب الفعل وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ولا بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل لا بالجزء
المسألة الرابعة
إذا قيل في المباح إنه لا حرج فيه وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك لوجوه
أحدها أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة
فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك كقوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا والآية الأخرى في معناها فهذا تخيير (1/143)
حقيقة وأيضا فالأمر في المطلقات إذا كان الأمر للإباحة يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك فإن إطلاقة مع أنه يكون على وجوه واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك
وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه وجاء وإذا رأو تجارة أو لهوا انفضوا إليها وهو الطبل أو ما في معناه وقال تعالى ومن الناس من يشترى لهو الحديث وما تقدم من قول بعض الصحابة حدثنا يا رسول الله حين ملوا ملة فأنزل الله عز و جل الله نزل أحسن الحديث وفي الحديث
كل لهو باطل تقدم في المسألة السابقة وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجمتع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر
وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه وهذا (1/144)
إنما يعبر به في العادة إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه أو ما هو مظنة عنه
أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات
وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة وأما الإذن فمن باب مالا يتم الواجب إلا به أو من باب الأمر بالشىء هل هو نهي عن ضده أم لا والنهي عن الشىء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا والآخر صريح في نفس التخيير وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة وأما رفع الحرج فمن تلك الأبواب
والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب كقوله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك لم يصح مع الواجب ولا مع مخالفة المندوب وليس كذلك التخيير المصرح به فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ولا مندوبا وبالعكس (1/145)
والثاني أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك وأنهما على سواء في قصد ورفع الحرج مسكوت عنه وأما لفظ رفع الجناح فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه
فيمكن أن يكون مقصودا له لكن بالقصد الثاني كما في الرخص فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر وبالعكس فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لاحرج فيه فلا يؤخذ منه حكم الإباحة إذ قد يكون كذلك وقد يكون مكروها فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه فليتفقد هذا في الأدلة
والوجه الثالث مما يدل على أن مالا حرج فيه غير مخير فيه على الإطلاق
أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل صار خارجا عن محض اتباع الهوى بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات والقصد إليها في التكاليف فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ولا هو مضاد له بل هو مؤكد له فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي فلا ضرر في اتباع الهوى هنا لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء وإنما اتباع الهوى فيه خادم له (1/146)
وأما قسم ما لا حرج فيه فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم
ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة لكنه لقلته وعدم دوامه ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه لم يحفل به فدخل تحت المرفوع الحرج إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا وإن كان فتحا لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه والإجتماع مقو ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون مخيرا فيه فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى وأنه مضاد للشريعة
المسألة الخامسة
إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط
فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو ما خير فيه بين الفعل والترك بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ولا حاجي ولا تكميلي من حيث هو جزئي فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة وكذلك المباح الذي يقال لا حرج فيه أولى أن يكون راجعا إلى الحظ وأيضا فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري (1/147)
أو حاجي أو تكميلي وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ وقضاء وطر
فإن قيل فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ولعل بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ
فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جىء بها لمصالح العباد فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض غير أن الحظ على ضربين
أحدهما داخل تحت الطلب فللعبد أخذه من جهة الطلب فلا يكون ساعيا في حظه وهو مع ذلك لا يفوته حظه لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه وهذا معنى كونه بريئا من الحظ وقد يأخذه من حيث الحظ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه من ذلك الوجه صار حظه تابعا للطلب فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ وسمي باسمه وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق
والثاني غير داخل تحت الطلب فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض فهو قد أخذه إذا من جهة حظه فلهذا يقال في المباح إنه العمل المأذون فيه المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة (1/148)
المسألة السادسة
الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد فإدا عريت عن المقاصد لم تتعلق بها والدليل على ذلك أمور
أحدها ما ثبت من أن الأعمال بالنيات وهو أصل متفق عليه في الجملة والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها
والثاني ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك كما لا اعتبار بها من البهائم وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت وفي معناه روى الحديث
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه حديث صحيح وإن لم (1/149)
يصح سندا فمعناه متفق على صحته وفي الحديث أيضا
رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمغمى عليه حتى يفيق رواه احمد وابن خزيمة فجميع هؤلاء لا قصد لهم وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم
والثالث الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق
فإن قيل هذا في الطلب وأما المباح فلا تكليف فيه قيل متى صح تعلق التخيير صح تعلق الطلب وذلك يستلزم قصد المخير وقد فرضناه غير قاصد هذا خلف
ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك لأن هذا من قبيل خطاب الوضع وكلامنا في خطاب التكليف ولا بالسكران لقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون وفي سواهما لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد (1/150)
لرفع الأحكام التكليفية فعومل بنقيض المقصود أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد فيؤآخذه الشرع بها وإن لم يقصدها كما وقعت مؤآخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما وكما يؤآخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم
ونظائر ذلك كثيرة فالأصل صحيح والإعتراض عليه غير وارد
المسألة السابعة
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الإعتبار المتقدم وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له أو تذكار به كان من جنس الواجب أولا
فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة وكتعجيل الإفطار وتأخير السحور وكف اللسان عما لا يعنى مع الصيام وما أشبه ذلك فإذا كان كذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ويحتمل هذا المعنى تقريرا ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله (1/151)
فصل
المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع كان كالمندوب مع الواجب
وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا وهو أعظمها ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود كطهارة الحدث وستر العورة واستقبال القبلة والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا ومنه ما يكون وسيلة له كالواجب حرفا بحرف فتأمل ذلك
المسألة الثامنة
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه فى وقته لا تقصير فيه شرعا ولا عتب ولا ذم وإنما العتب والذم فى إخراجه عن وقته سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين
أحدهما أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى وباطل أن يكون لغير معنى فلم يبق إلا أن يكون لمعنى وذلك المعنى هو أن يوقع الفعل فيه فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت وهو (1/152)
يقتضى قطعا موافقه الأمر فى ذلك الفعل الواقع فيه فلو كان فيه عتب أو ذم للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع فى إيقاعه فى ذلك الوقت الذى وقع فيه العتب بسببه وقد فرضناه موافقا هذا خلف
والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الجزء من الوقت الذى وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا فى أجزائه إن كان موسعا والعتب مع التخيير متنافيان فلا بد أن يكون خارجا عنه وقد فرضناه جزءا من أجزائه هذا خلف محال وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل
فإن قيل قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها
وهو أصل قطعى وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ولا ببعض الأحوال دون بعض إذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلابد فالمقصر عنه معدود فى المقصرين والمفرطين ولا شك أن من كان هكذا فالتعب لاحق به فى تفريطه وتقصيره فكيف يقال لا عتب عليه
ويدل على تحقيق هذا ما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه لما سمع قول النبى صلى الله عليه و سلم
أول الوقت رضوان الله وآخره عفوا الله رواه الترمذي قال رضوان الله أحب الينا من عفوه فإن رضوانه للمحسنين وعفوه عن المقصرين
وفى مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا فقد قال فى المسافرين يقدمون الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح قال
يصلي الرجل وحده فى أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار فى جماعة فقدم كما ترى (1/153)
حكم المسابقة ولم يعتبر الجماعة التى هي سنة يعد من تركها مقصرا فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا وجاء عنه أيضا فيمن أفطر فى رمضان لسفر أو مرض ثم قدم أو صح فى غير شعبان من شهور القضاء فلم يصمه حتى مات فعليه الإطعام وجعله مفرطا كمن صح أو قدم في شعبان فلم يصمه حتى دخل رمضان الثانى مع أن القضاء ليس على الفور عنده قال اللخمى جعله مترقبا ليس على الفور ولا على التراخي فإن قضى فى شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط وإن مات قبل شعبان فمفرط وعليه الإطعام نحو قول الشافعية فى الحج إنه على التراخى فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا رأي الشافعية مضاد لمقتضى الأصل المذكور
فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا إما بالنص وإما بالإجتهاد ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا بل آثما فى بعضها وذلك مضاد لما تقدم فالجواب أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال إن إيقاعه فى وقته المعين له مسابقة فيكون الأصل المذكور شاملا له أم يقال ليس شاملا له
والأول هو الجارى على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال
الصلاة لأول وقتها ذكره ابو داود والترمذي في الترغيب والترهيب يريد به وقت الاختيار مطلقا
ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى فى (1/154)
أوائل الأوقات وأواخرها وحد ذلك حدا لا يتجاوز ولم ينبه فيه على تقصير وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له إذ قال
تلك صلاة المنافقين عن الستة الا البخاري الحديث فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذى تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان
فإنما ينبغى أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع فى ذلك الوقت المحدود وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس وكذلك الواجبات الفورية
وأما المقيدة بوقت العمر فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة فى أول أزمنة الإمكان فإن العاقبة مغيبة فإذا عاش المكلف ما فى مثله يؤدى ذلك المطلوب فلم يفعل مع سقوط الأعذار عد ولابد مفرطا وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره فإن آخره غير معلوم وإنما المعلوم منه ما فى اليد الآن فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور فلا تعود عليه بنقض
وأيضا فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة وهذا كما فى الواجب المخير فى خصال الكفارة فإن للمكلف الإختيار فى الأشياء المخير فيها وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض كما يقول بذلك فى الإطعام فى كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث وقول مالك به وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما هو مخير في أي الرقاب شاء مع أن الأفضل أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ولا يعد مختار غير الأعلى (1/155)
مقصرا ولا مفرطا وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام فى كفارة اليمين وما أشبه ذلك من المطلقات التى ليس للشارع قصد فى تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل فى الأعلى منها وكما أن الحج ماشيا أفضل ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولامقصرا وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا بل المقصر هو الذى قصر عما حد له وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه وليس فى مسألتنا ذلك
وأما حديث أبى بكر رضي الله عنه فلم يصح وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار وإن سلم فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر
وأما المسائل مالك فلعل استحبابه لتقديم الصلاة وترك الجماعة مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة وكان الإمام قد أخر إليه وما ذكر فى إطعام التفريط فى قضاء رمضان بناء على القول بالفور فى القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر فى السؤال فلا اعتراض بذلك وبالله التوفيق
المسألة التاسعة
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين كانت من حقوق الله كالصلاة والصيام والحج أو من حقوق الآدميين كالديون والنفقات والنصيحة وإصلاح ذات البين وما أشبه ذلك
أحدهما حقوق محدودة شرعا والآخر حقوق غير محدودة فأما المحدودة المقدرة فلازمة لذمة المكلف مترتبهة عليه دينا حتى يخرج عنها كأثمان المشتريات وقيم المتلفات ومقادير الزكوات وفرائض الصلوات وما أشبه ذلك فلا إشكال فى أن مثل هذا مترتب فى ذمته دينا (1/156)
عليه والدليل على ذلك التحديد والتقدير فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ولا يسقط عنه إلا بدليل
وأما غير المحدودة فلازمه له وهو مطلوب بها غير أنها لا تترتب فى ذمته لأمور
أحدها أنها لو ترتبت فى ذمته لكانت محدودة معلومة إذ المجهول لا يترتب فى الذمة ولا يعقل نسبته إليها فلا يصح أن يترتب دينا وبهذا استدللنا على عدم الترتب لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار والتكليف بأداءنا لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع وهو ممتنع سمعا
ومثاله الصدقات المطلقة وسد الخلات ودفع حاجات المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخل تحته سائر فروض الكفايات
فإذا قال الشارع أطعموا القانع والمعتر أو قال أكسوا العارى أو أنفقوا فى سبيل الله فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة فى كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسد خلته بمقتضى ذلك الإطلاق فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التى من أجلها أمر ابتداء والذى هو كاف يختلف بإختلاف الساعات والحالات فى ذلك المعين فقد يكون فى الوقت غير مفرط الجوع فيحتاج إلى مقدار من الطعام فإذا تركه حتى أفرط (1/157)
عليه احتاج إلى أكثر منه وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به فإذا كان المكلف به يختلف بإختلاف الأحوال والأزمان لم يستقر للترتيب فى الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة وهذا معنى كونه مجهولا فلا يكون معلوما إلا فى الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثانى مكلفا بشىء آخر لا بالأول أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة
والثانى أنه لو ترتب فى ذمته أمر لخرج إلى ما لا يعقل لأنه فى كل وقت من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ثم لم يفعل فترتب فى ذمته ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد فأما أن يقال إنه مكلف أيضا بسدها أولا والثانى باطل إذ ليس هذا الثانى بأولى بالسقوط من الأول لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف والخلة باقية هذا محال فلا بد أن يترتب فى الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية وهذا غير معقول فى الشرع والثالث أن هذا يكون عينا أو كفاية وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما فى ذمة واحد غير معين وهو باطل لا يعقل وإما فى ذمم جميع الخلق مقسطا فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد أوغير مقسط فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب فى ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم وهو باطل كما تقدم
والرابع لو ترتب فى ذمته لكان عبثا ولا عبث فى التشريع فإنه (1/158)
إذا كان المقصود دفع الحاجة فعمران الذمة ينافي هذا المقصد إذ المقصود إزالة هذا العارض لا غرم قيمة العارض فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب كان عبثا غير صحيح
لا يقال إنه لازم فى الزكاة المفروضة وأشباهها إذ المقصود بها سد الخلات وهى تترتب فى الذمة
لأنا نقول نسلم أن المقصود ما ذكرت ولكن الحاجة التى تسد بالزكاة غير متعينه على الجملة ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وأن لم تظهر عين الحاجة فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة فللشرع قصد فى تضمين المثل أو القيمة فيها بخلاف ما نحن فيه فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها فلو ارتفع العارض بغير شىء لسقط الوجوب والزكاة ونحوها لا بد من بذلها وإن كان محلها غير مضطر إليها فى الوقت ولذلك عينت
وعلى هذا الترتيب فى بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم فإن قيل لو كان الجهل مانعا من الترتب فى الذمة لكان مانعا من أصل التكليف أيضا لأن العلم بالمكلف به شرط فى التكليف إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه وما أشبه ذلك لكان تكليفا بما لا يطاق إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي (1/159)
وإذا علم بالوحي صار معلوما لا مجهولا والتكليف بالمعلوم صحيح هذا خلف فالجواب أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع كما لو قال أعتق رقبة وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان فهذا هو الممتنع أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف فالتكليف به صحيح كما صح فى التخيير بين الخصال فى الكفارة إذ ليس للشارع قصد فى إحدى الخصال دون ما بقى فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة فما لم يتعين خلة فلا طلب فإذا تعينت وقع الطلب هذا هو المراد هنا وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين فى مقدار ولا فى غيره
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين فلم يتمحض لأحدهما هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب والزوجات ولأجل ما فيه من الشبه بالضر بين اختلف الناس فيه هل له ترتب فى الذمة أم لا فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ولذلك محض بالتقدير والتعيين والثانى لاحق بقاعدة التحسين والتزيين ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين فلا بد فيه من النظر فى كل وافعة على التعيين والله أعلم
فصل
وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين وحاصل (1/160)
الثانى إقامة الأود العارض فى الدين وأهله إلا أن هذا الثانى قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ولكنه لا يصير طلبا متحتما فى الغالب إلا عند كونه كفاية كالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع
وأما الضرب الثالث فآخذ شبها من الطرفين أيضا فلذلك اختلفوا فى تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء والله أعلم
المسألة العاشرة
يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ومن الدليل على ذلك أوجه
أحدها ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين (1/161)
مع القصد إلى الفعل وأما دون ذلك فلا وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به فهو معنى العفو المتكلم فيه أي لا مؤآخذة به والثانى ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص فقد روى عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال
إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها رواه الدارقطني ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها رواه الدارقطني وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه و سلم كلها فى القرآن يسألونك عن المحيض و يسألونك عن اليتامى و يسألونك عن الشهر الحرام ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعنى أن هذا كان الغالب عليهم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال مالم يذكر فى القرآن فهو مما عفا الله عنه وكان يسأل عن الشىء لم يحرم فيقول عفو وقيل له ما تقول فى أموال أهل الذمة فقال العفو يعنى لا تؤخذ منهم زكاة وقال عبيد ابن عمير أحل الله حلالا وحرم حراما فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو
والثالث ما يدل على هذا المعنى فى الجملة كقوله تعالى عفا الله عنك (1/162)
لم آذنت لهم الآية فإنه موضع اجتهاد فى الإذن عند عدم النص
وقد ثبت فى الشريعة العفو عن الخطأ فى الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون ومنه قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على حكم البراءة الأصلية إذ هى راجعة إلى هذا المعنى ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها وقد قال صلى الله عليه و سلم
إن أعظم المسلمين فى المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته وقال
ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبياءهم ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقرأ عليه السلام قوله تعالى ولله على الناس حج البيت الآية فقال رجل يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
والذى نفسى بيده لو قلتها لو جبت ولو جبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم ثم ذكر معنى ما تقدم وفى مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ثم قال
عفا الله عنها أى عن تلك الأشياء فهى إذا عفو وقد كره عليه السلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقام يوما وهو يعرف فى وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال
من أحب أن يسأل عن شىء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شىء إلا أخبرتكم به ما دامت في مقامى هذا قال أنس فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول
سلوني فقام (1/163)
عبدالله بن حذافة السهمي فقال من أبي قال أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا قال فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قال عمر ذلك فنزلت الآية وقال أولا والذي نفسي بيدي لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر وظاهر من هذا المساق أن قوله سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ولأجل ذلك جاء قوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه وهو ما نهى عن السؤال عنه
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته وإن فرض أن الإحتمال الآخر مراد فهو مما يعفى عنه ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاؤا شدد عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة وأنها ليست من الأحكام الخمسة
فصل
ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة
منها ما يكون متفقا عليه
ومنها ما يختلف فيه فمنها الخطأ والنسيان فإنه متفق على عدم المؤاخذة (1/164)
به فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفى عنه وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا لأنها إن لم تكن منهيا عنها ولا مأمورا بها ولا مخيرا فيها فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع وهو معنى العفو
وأن تعلق بها الأمر والنهي فمن شرط المؤآخذة به ذكر الأمر والنهي والقدرة على الإمتثال وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال ومثل ذلك النائم والمجنون والحائض وأشباه ذلك
ومنها الخطأ في الإجتهاد وهو راجع إلى الأول وقد جاء في القرآن عفا الله عنك لم أذنت لهم وقال لولا كتاب من الله سبق الآية
ومنها الإكراه كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه إذا قلنا بجوازه فهو راجع إلى العفو كان الأمر والنهي باقيين عليه أو لا فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه
ومنها الرخص كلها على اختلافها فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح ورفع الحرج وحصول المغفرة ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلابد أن يكون نقيضه وهو الترك معفوا عنه وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما وهو محال ومرفوع عن الأمة
ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ولم يمكن الجمع فإذا ترجح أحد الدليلين كان مقتضى المرجوح في حكم العفو لأنه إن لم يكن كذلك لم (1/165)
يمكن الترجيح فيؤدي إلى رفع أصله وهو ثابت بالإجماع ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين وهو باطل وسواء علينا أقلنا ببقاء الإقتضاء في الدليل المرجوح وإنه في حكم الثابت أم قلنا إنه في حكم العدم لا فرق بينهما في لزوم العفو
ومنها العمل على مخالفة دليل لم يبلغه أو على موافقة دليل بلغه وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح لأن الحجة لم تقم عليه بعد إذ لا بد من بلوغ الدليل إليه وعلمه به وحينئذ تحصل المؤآخذة به وإلا لزم تكليف ما لا يطاق
ومنها الترجيح بين الخطابين عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بينهما لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم لأنه الممكن في التكليف بهما وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وهو مرفوع شرعا
ومنها ما سكت عنه فهو عفو لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته فهو دليل على العفو فيه وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به والله أعلم
فصل
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه
أحدها أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف وهو الإقتضاء أو التخيير أو لا تكون بجملتها داخلة فإن كانت بجملتها داخلة فلا زائد على الأحكام الخمسة وهو المطلوب وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب (1/166)
التكليف ولو في وقت أو حالة ما لكن ذلك باطل لأنا فرضناه مكلفا فلا يصح خروجه فلا زائد على الأحكام الخمسة
والثاني ان هذا الزائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا إنه مسمى بالعفو والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام وأيضا فإن العفو إنما هو حكم أخروى لا دنيوى وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا وأما إن كان العفو حكما شرعيا فإما من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع وأنواع خطاب التكليف محصورة في الخمسة
وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون وهذا ليس منها فكان لغوا
والثالث إن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسالة الأصولية وهي أن يقال هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا فالمسألة مختلف فيها فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل والأدلة فيها متعارضة فلا يصح اثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه وأيضا أن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة وما تقدم من الأدلة على اثبات مرتبة العفو لا دليل فيه فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لأمكان الجمع بينهما ولأن العفو أخروى وأيضا فإن سلم للعفو ثبوت ففي زمانه عليه السلام لا في غيره ولا مكان تأويل تلك الظواهر وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب وذلك (1/167)
يقتضي إثبات الإمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض فارتفع الحكم بمرتبة العفو وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة وفي هذا المجال أبحاث أخر
فصل
وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو إن قيل به نظر فإن الإقتصار به عل محال النصوص نزغة ظاهرية والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع والإقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول
فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع
أحدها الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وإن قوى معارضه
والثاني الخروج عن مقتضاه عن غير قصد أو عن قصد لكن بالتأويل
والثالث العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا فأما الأول فيدخل تحته العمل بالعزيمة وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا ان العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة وكذلك العمل بالرخصة وإن توجه حكم العزيمة فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف وكلاهما أصل كلي فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ففيه أن سافر في رمضان أقل من أربعة برد فظن أن الفطر مباح به (1/168)
فافطر فلا كفارة عليه وكذلك من أفطر فيه بتأويل وإن كان أصله غير علمى بل هذا جار فى كل متأول كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر وقاتل المسلم ظانا أنه كافر وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر وأشباه ذلك ومثله المجتهد المخطىء فى اجتهاده وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبى صلى الله عليه و سلم يخطب فسمعه يقول
اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبى صلى الله عليه و سلم فقال تعالى يا عبد الله ابن مسعود فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف مع مجرد الأمر وأن قصد غيره مسارعة إلى امتثال أوامره وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول اجلسوا فجلس فى الطريق فمر به النبى صلى الله عليه و سلم فقال
ما شأنك فقال سمعتك تقول أجلسوا فجلست فقال النبى صلى الله عليه و سلم زادك الله طاعة وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله ولذلك سأله النبى صلى الله عليه و سلم حين رآه جالسا فى غير موضع جلوس وقد قال عليه السلام
لا يصل أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأدركهم وقت العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه و سلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضى من مسائل الاجتهاد ثم يتبين له خطأه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع وكذلك الترجيح بين الدليلين فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر
فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح وهو فى الظاهر دليل يعتمد مثله وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد مثله فى الجملة فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور وإنما قلنا الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض فشرط فيه المعارضة لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو لأنه أمر أو نهى أو تخيير عمل على وفقه فلا عتب (1/169)
يتوهم فيه ولا مؤآخذة تلزمه بحكم الظاهر فلا موقع للعفو فيه وإنما قيل وإن قوى معارضه لأنه إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع بل من النوع الذي يليه على أثر هذا فإنه ترك لدليل وهنا وإن كان أعمالا لدليل أيضا فأعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو فى نفس الأمر كأعمال الدليل غير المعارض فلا عفو فيه
وأما النوع الثانى وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد لكن بالتأويل فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها أو لا يعلم أن غسل الجنابة واجب فيتركه وكما اتفق فى الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين وقد روى عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين فى الوضوء ويراه من التعمق حتى بلغه أن النبى صلى الله عليه و سلم كان يخلل فرجع إلى القول به وكما اتفق لأبى يوسف مع مالك فى المد والصاع حتى رجع إلى القول بذلك ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أونسيانا ومما يروى من الحديث
رفع أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإن صح فذلك وإلا فالمعنى متفق عليه ومما يجرى مجرى الخطأ والنسيان فى أنه من غير قصد وإن وجد القصد الا كراه المضمن فى الحديث وأبين (1/170)
من هذا العفو عن عثرات ذوى الهيآت فإنه ثتب فى الشرع اقالتهم فى الزلات وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم جاء فى الحديث
أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم وفى حديث آخر
تجافوا عن عقوبة ذوى المروءة والصلاح وروى العمل بذلك عن محمد بن أبى بكر بن عمرو بن حزم فإنه قضى به فى رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه فأرسله وقال أنت من ذوى الهيآت وفى خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال استادى على مولى لى جرحته يقال له سلام البربرى إلى ابن حزم فأتانى فقال جرحته قلت نعم قال سمعت خالتى عمرة تقول قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم فخلى سبيله ولم يعاقبه وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه فإنه قال ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش لا اللمم الآية لكنها أحكام آخروية وكلامنا فى الأحكام الدنيوية ويقرب (1/171)
من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت غلب حكمها ودخل صاحبها في حكم العفو وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل وهو من هذا النوع أيضا ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدي قال عمر ولم قال لأن الله يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله قال القاضي إسماعيل وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ في التأويل بخلاف من استحلها كما في حديث علي رضي الله عنه
ولم يأت في حديث قدامة أنه حد ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت قال في مختصر ما ليس في المختصر لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة اشهر ولا المستحاضة شهرا لم يقضيا ما مضى إذا تأولنا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم وقيل في المستحاضة إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا اعادته وإن كان كثيرا (1/172)
فليس عليها قضاؤه بالواجب وفي سماع أبي زيد عن مالك أنها إذا تركت الصلاة بعد الإستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام واستحب ابن القاسم لها القضاء
فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل فجعلوه من قبيل العفو ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب فلا كفارة هنا وإن خالف الدليل لأنه متأول وإسقاط الكفارة هو معنى العفو
وأما النوع الثالث وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه ففيه نظر فإن خلوا بعض الوقائع عن حكم لله مما اختلف فيه فأما على القول بصحة الخلو فيتوجه النظر وهو مقتضى الحديث
وما سكت عنه فهو عفو وأشباهه مما تقدم وأما علي القول الآخر فيشكل الحديث إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال بل هو إما منصوص وإما مقيس على منصوص والقياس من جملة الأدلة الشرعية فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم فانتفى المسكوت عنه إذا ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الإستفصال مع وجود مظنته وإلى السكوت عن مجارى العادات مع استصحابها في الوقائع وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام فالأول كما في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم وإذا نظر إلى المعنى اشكل لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال كله (1/173)
قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم يريد والله أعلم أن الآية لم يخص عمومها وإن وجد هذا الخاص المنافي وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم اللفظ ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة
وإلى نحو هذا يشير قوله عليه السلام
وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها وحديث الحج أيضا مثل هذا حين قال
أحجنا هذا لعامنا أو للأبد لأن اعتبار اللفظ يعطى أنه للأبد فكره عليه السلام سؤاله وبين له علة ترك السؤال عن مثله وكذلك حديث
أن أعظم المسلمين في المسلمين جرما الخ يشير إلى هذا المعنى فإن السؤال عما لم يحرم ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية وإن اختلفت فروعه في أنفسها أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ونحو حديث
ذروني ما تركتكم وأشباه ذلك
والثاني كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر فإنها كانت معتادة الإستعمال في الجاهلية ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل يسألونك عن الخمر والميسر فبين ما فيها من المنافع والمضار وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة والمفاسد ممنوعة فبان وجه المنع فيهما غير أنه لما لم ينص على المنع وإن ظهر وجهه تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجارى العادات ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى فاجتنبوه فحينئذ استقر حكم التحريم وارتفع العفو وقد دل على ذلك قوله تعالى ليس (1/174)
على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية فإنه لما حرمت قالوا كيف بمن مات وهو يشربها فنزلت الآية فرفع الجناح هو معنى العفو
ومثل ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم كبيع المضامين والملاقيح والثمر قبل بدو صلاحه واشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها وما سكت عنه فهو في معنى العفو والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء
والثالث كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ويطوفون بالبيت أسبوعا ويمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ويقفون بعرفات ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها ويغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم
ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة وقد نسخ منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى على المعهود الأول فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة وانضبطت والحمد لله على أقرب ما يكون أعمالا لأدلته الدالة على ثبوته إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا وإذا قيل حكم فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع هذا محتمل كله ولكن لما لم يكن مما (1/175)
ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد البيان فيه فكان الأولى تركه والله الموفق للصواب
المسألة الحادية عشرة
طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وما قالوه صحيح من جهة كلى الطلب
وأما من جهة جزئية ففيه تفصيل وينقسم أقساما وربما تشعب تشعبا طويلا ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ولا على البعض كيف كان ولكن على من فيه أهليةالقيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفرمن كل فرقة منهم طائفة الآية فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع وقوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية وقوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم الآية إلى آخرها وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع والثاني ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذ المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى فإنها إنما تتعين على من فيه (1/176)
أوصافها المرعية لا على كل الناس وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة وكلاهما باطل شرعا
والثالث ما وفع من فتاوي العلماء وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى
فمن ذلك ما روى عن محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قال لأبي ذر
يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم رواه مسلم وكلا الأمرين من فروض الكفاية ومع ذلك فقد نهاه عنها فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله وفي الحديث
لا تسأل الإمارة وهذا النهي يقتضى أنها غير عامة الوجوب ونهى أبو بكر رضي الله عنه بعض الناس عن الإمارة فلما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال نهيتني عن الإمارة ثم وليت فقال له وأنا الآن أنهاك عنها واعتذر له (1/177)
عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا وروى أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أن يقص فمنعه من ذلك وهو من مطلوبات الكفاية أعني هذا النوع من القصص الذي طلبه تميم وضي الله عنه وروى نحوه عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو فقال إما على كل الناس فلا يعنى به الزائد على الفرض العيني وقال أيضا أما من كان فيه موضع للامامة فالإجتهاد في طلب العلم عليه واجب والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه فقسم كما ترى فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ومن لا جعله مندوبا إليه وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس وقال سحنون من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه
وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول
لكن قد يصح أن يقال أنه واجب على الجميع على وجه من التجوز لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة فهم مطلوبون بسدها عل الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون (1/178)
على إقامة القادرين فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر واجباره على القيام بها فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر
فصل
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها وتتبين صحتها بحول الله
وذلك أن الله عز و جل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ألا ترى إلى قول الله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه وتارة بالتعليم فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية والمطالب الإلهامية لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم والإعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم وآخر لطلب الرياسة وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها وأخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ويتعين على الناظرين فيهم الإلتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها (1/179)
ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية فعند ذلك يحصل الإنتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية
فإذا فرض مثلا واحد من الصبيان ظهرعليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ميل به نحو ذلك القصد وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به ويعان عليه ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص وأحبه أكثر من غيره ترك وما أحب وخص بأهله فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ثم إن وقف هنالك فحسن وإن طلب الأخذ في غيره أوطلب به فعل معه فيه ما فعل فيما قبله وهكذا إلى أن ينتهي
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا فإنه الأحق بالتقديم فإنه يصرف إلى معلميها فصار من رعيتهم وصاروا هم راعة له فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم وصاروا هم رعاة له كذلك ومثله أن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فيمال به نحو ذلك ويعلم آدابه المشتركة ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير (1/180)
كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به وما ظهر له فيه نجابة ونهوض وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم
لأنه سير أولا في طريق مشترك فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية وفي التي يندر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد ولا هو على الكافة بأطلاق ولا على البعض بأطلاق ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ولا بالعكس بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه والله أعلم وأحكم
المسألة الثانية عشرة
ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا هل يكر على أصل الإباحة بالنقض أولا هذا محل نظر واشكال والقول فيه أنه لا يخلوا إما أن يضطر إلى ذلك المباح أم لا وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا فهذه أقسام ثلاثة
أحدها أن يضطر إلى فعل ذلك المباح فلا بد من الرجوع إلى ذلك (1/181)
الأصل وعدم اعتبار ذلك العارض لأوجه منها أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل ولم يبق على أصله من الإباحة وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه وليس فرض المسألة هكذا فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى فلا بد من الرجوع إليه وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ
والثاني أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع أعني أن إقامة الضرورة معتبرة وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية
والثالث إنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا وذلك غير صحيح كما سيأتي في - كتاب المقاصد من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب فإن البيع والشراء حلال فى الأصل فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط وإذا اعتبرت أد ى إلى ارتفاع ما اضطر إليه وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل فما نحن فيه مثله
القسم الثاني أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج كما سيأتي لإبن العربي في دخول الحمام وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الإمتناع من التصرف حرجا بينا وما جعل عليكم في الدين حرج وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج كالقرض الذي فيه بيع للفضة بالفضة ليس يدا بيد وإباحة العرايا (1/182)
وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح وعوارض مخالطةالناس وما أشبه ذلك وهو كثير هذا وإن ظهر ببادئ الرأي الخلاف ههنا فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم وهم أهل علم يقتدى بهم ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الإنكفاف واعتبار العوارض فهؤلاء إنما بتوا في المسألة على أحد وجهين إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم وإنه مما هو معتاد في التكاليف والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها
وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام وإما أنهم عملوا وافتوا باعتبار الإصطلاح الواقع في الرخص فرأوا ان كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان وإن لم يطرق في طريقه عارض فما ظنك به إذا طرق العارض والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص وربما اعترضت في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح وإن الحرج فيها أعظم منه في تركه وهذا أيضا مجال اجتهاد إلا أنه يقال هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى وهي (1/183)
المسألة الثالثة عشرة
فنقول لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه فإن كان هذا الثاني فإما أن يكون واقعا أو متوقعا فإن كان متوقعا فلا أثر له مع وجود الحرج لأن الحرج بالترك واقع وهومفسدة ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع ألبتة وأما ان كان واقعا فهو محل الإجتهاد في الحقيقة وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح وقد يكون الأمر بالعكس والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح وإن كان الأول فلا يصح التعارض ولا تساوي المفسدتين بل مفسدة فقد الأصل أعظم والدليل على ذلك أمور
أحدها أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف وقد مر بيان ذلك في موضعه وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم وفي المصلحة والمفسدة فكذا ما كان مثل ذلك
والثاني أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة وجود مصلحة المكمل
والثالث أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقو لأصل المصلحة ومؤكد لها ففوته إنما هو فوت بعض المكملات مع أن أصل المصلحة باق وإذا (1/184)
كان باقيا لم يعارضه ما ليس في مقابلته كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل وهو ظاهر
والقسم الثالث من القسم الأول وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج فهو محل اجتهاد وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية فإن هذا الأصل متفق عليه في الإعتبار ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع واشباهها وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه
ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب والخلاف فيه شهير ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي واثبات متفق عليهما فإن أصل التعاون على البر والتقوى أو الإثم والعدوان مكمل لما هو عون عليه وكذلك أصل الذرائع ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمل لا مكمل
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري إذ قد تقرر إن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات وهي أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا وإذا كان كذلك صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله
وهو خلاف الدليل وأيضا إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه المكمل وأطلق هذا النظر أو شك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته
إذ عوارض المباح كثيرة فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج فيصار إلى القسم الذي قبله وقد مر ما فيه ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو (1/185)
المؤدي إلى ذلك لم يسغ الميل إليه ولا التعريج عليه وأيضا فإذا كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل فيجب الوقوف إذا إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة وإما العفو وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن فكان هو الراجح
ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات وهي كذلك أبدا لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها وقد فرضت كذلك هذا خلف
وإذا تخير المكلف فيها فذلك قاض بعدم المفسدة في تحصيلها وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها وكلاهما صاد عن سبيل التخيير فلا يصح والحالة هذه أن تكون مخيرا فيها وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة
وأيضا فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع فنهى عن ملابستها وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال هذه المطالب وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة وأيضا فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت فإن المسألة مختلف فيها فمن قال إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر فلا نظر في اعتبار العوارض لأنها ترد الأشياء إلى أصولها فجانبها أرجح ومن قال الأصل الإباحة أن العفو فليس ذلك على عمومه باتفاق بل له مخصصات ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل وليست مسألتنا بمفقودة المعارض ولا يقال أنهما يتعارضان لامكان تخصيص أحدهما (1/186)
بالآخر كما لا يصح أن يقال أن قوله عليه السلام
لا يرث المسلم الكافر روي عن الستة الا النسائي معارض لقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وأوجه الإحتجاج من الجانبين كثيرة والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم والله أعلم القسم الثاني من قسمي الأحكام
وهو يرجع إلى خطاب الوضع وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع والصحة والبطلان والعزائم والرخص فهذه خمسة أنواع فالأول ينظر فيه في مسائل
المسألة الأولى
الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان أحدهما خارج عن مقدور المكلف والآخر ما يصح دخوله تحت مقدوره
فالأول قد يكون سببا ويكون شرطا ويكون مانعا فالسبب مثل كون الإضطرار سببا في إباحة الميتة وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء والسلس سببا (1/187)
في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك والشرط ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب وما كان نحو ذلك والمانع ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك
وأما الضرب الثاني فله نظران نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا كالبيع والشراء للإنتفاع والنكاح للنسل والإنقياد للطاعة لحصول الفوز وما أشبه ذلك وهو بين ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببا أو شرطا أو مانعا أما السبب فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الإستمتاع والذكاة سببا لحلية الإنتفاع بالأكل والسفر سببا في إباحة القصر والفطر والقتل والجرح سببا للقصاص والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات وما أشبه ذلك فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرع تلك المسببات وأما الشرط فمثل (1/188)
كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا والإحصان شرطا في رجم الزاني والطهارة شرطا في صحة الصلاة والنية شرطا في صحة العبادات فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات وأما المانع فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها والإيمان مانعا من القصاص للكافر والكفر مانعا من قبول الطاعات وما أشبه ذلك وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا كالإيمان هو سبب في الثواب وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها ومانع من القصاص منه للكافر ومثله كثير غير أن هذه الامور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له لما في ذلك من التدافع وإنما يكون سببا لحكم وشرطا لآخر ومانعا لآخر ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف
المسألة الثانية
مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من اباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها (1/189)
فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب وإذا نهى عنه لم يستلزم النهي عن المسبب وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه مثال ذلك الأمر بالبيع مثلا لا يستلزم الأمر بإباحة الإنتفاع بالمبيع والأمر بالنكاح لا يستلزم الامر بحلية البضع والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق ومن ذلك كثير
والدليل على ذلك ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطى الأسباب وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف وهذا يتبين في علم آخر والقرآن والسنة دالان عليه فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق كقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقوله وفي السماء رزقكم وما توعدون إلى آخر الآية وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق وليس المراد نفس التسبب إلى الرزق بل الرزق المتسبب إليه ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة لكن ذلك باطل باتفاق
فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه وفي الحديث
لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير حسن صحيح الحديث وفيه
اعقلها وتوكل رواه الترمذي وقال غريب
ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم ومما يبينه قوله تعالى أفرأيتم ما (1/190)
تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أفرأيتم ما تحرثون أفرأيتم الماء الذي تشربون أفرأيتم النار التي تورون وأتى على ذلك كله والله خلقكم وما تعملون والله خالق كل شيء وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ثم الحكم فيه لله وحده واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به وإذا كان كذلك دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لأنها ليست من مقدورهم ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق
وهو غير واقع كما تبين في الأصول ولا يقال أن الإستلزام موجود ألا ترى أن (1/191)
إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الإنتفاع الخاص بكل واحد منها وإذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الإنتفاع المسبب عنها وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة وتستلزم إباحة الإنتفاع فإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة واستلزمت منع الإنتفاع إلى أشياء من هذا النحو كثيرة
فكيف يقال أن الأمر بالأسباب والنهي عنها لا يستلزم الأمر بالمسببات ولا النهي عنها وكذلك في الإباحة
لأنا نقول هذا كله لا يدل على الاستلزام من وجهين
أحدهما أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام وقام الدليل على ذلك فما جاء بخلافه فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام
الثانى أن ما ذكر ليس فيه استلزام بدليل ظهوره فى بعض تلك الأمثلة
فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمور به فكما نقول فى الإنتقاع بالمبيع أنه مباح نقول فى النفقة عليه أنها واجبة إذا كان حيوانا والنفقة من مسببات العقد المباح وكذلك حفظ الأموال المتملكه مسبب عن سبب مباح وهو مطلوب
ومثل ذلك الذكاة فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت فى غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها مع أن الانتفاع محرم فى جميعها أو فى بعضها ومكروه فى البعض هذا فى الأسباب المشروعة وأما الأسباب الممنوعه فأمرها أسهل لأن معنى تحريمها أنها فى الشرع ليست بأسباب وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة وهذا كله ظاهر فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة وبالله التوفيق وينبنى على هذا الأصل (1/192)
المسألة الثالثة
وهى أنه لا يلزم فى تعاطى الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير أسبابا كانت أو غير أسباب معللة كانت أو غير معللة
والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب وإنها ليست من مقدور المكلف فإذا لم تكن راجعة إليه فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم وهو السبب وما سواه غير لازم وهو المطلوب
وأيضا فإن من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ وإلى جهته ميل فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب فقد كان عليه الصلاة و السلام لا يولى على العمل من طلبه والولاية الشرعية كلها مطلوبة إما طلب الوجوب أو الندب ولكن راعى عليه السلام فى ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ وشأن طلب الحظ فى مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره كما سيأتى بحول الله تعالى بل قد راعى عليه السلام مثل هذا فى المباح فقال
ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه اخرجه الشيخان الحديث فشرط فى قبوله عدم اشراف النفس فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك
وتفيسره فى الحديث الآخر
من يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع وأخذه بحقه هو أن لا ينسى حق الله فيه وهو من آثار عدم إشراف النفس وأخذه بغير حقه خلاف ذلك وبين (1/193)
هذا المعنى الرواية الأخرى
نعم صاحب المسلم هو من أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال
وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة
ووجه ثالث وهو أن العباد من هذه الأمة ممن يعتبر مثله ههنا أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن الشوائب الحظوظ حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها وأسسوها قاعدة بنوا عليها فى تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه أو ما ثقل عليها حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس وهم الحجة فيما انتحلوا لأن إجماعهم إجماع وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات فى الأسباب وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان
أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك رواه البخاري وكل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو عبادة والذى يعبد الله على المراقبة يعزب عنه إذا تلبس بالعبادة حظ نفسه فيها هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها وهو معنى بينه أهله كالغزالي وغيره فإذا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الإلتفات إلى المسببات
وهذا أيضا جار فى الأسباب الممنوعة كما يجرى فى الأسباب المشروعة ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب فى جريان الثواب والعقاب فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه والسبب هو المتضمن له فلا يفوته شىء إلا بفوت شرط أو جزء أصلى أو تكميلى فى السبب خاصة
المسألة الرابعة
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات أعنى الشارع والدليل على ذلك أمور (1/194)
أحدها أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هى موجودات فقط بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر وإذا كان كذلك لزم من القصد إلى وضعها أسبابا القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات والثانى أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد وهي مسبباتها قطعا فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل المسببات لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات
والثالث أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكهنا فرضت كذلك فهى ولابد موضوعة على أنها أسباب ولا تكون أسبابا إلا لمسببات فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها وإذا ثبت هذا وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن تكون المسببات كذلك
فإن قيل فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب
فالجواب من وجهين أحدهما أن القصدين متباينان فما تقدم هو بمعنى أن الشارع لم يقصد فى التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشرع يقصد وقوع المسببات عن أسبابها ولذلك وضعها أسبابا وليس فى هذا ما يقتضى أنها داخلة تحت خطاب التكليف وإنما فيه ما يقتضى القصد إلى مجرد الوقوع خاصة فلا تناقص بين الأصلين
والثانى أنه لو فرض توارد القصدين على شىء واحد لم يكن محالا (1/195)
إذا كانا باعتبارين مختلفين كما توارد قصد الأمر والنهى معا على الصلاة فى الدار المغصوبة بإعتبارين والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق
المسألة الخامسة
إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق وله القصد إليه أما الأول فما تقدم يدل عليه
فإذا قيل لك لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها قلت لأن الشارع ندبنى إلى تلك الأعمال فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به كما أنه أمرنى أن أصلي وأصوم وأزكى وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التى كلفنى بها فإن قيل لك إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح قلت نعم وذلك إلى الله لا إلي فإن الذى إلى التسبب وحصول المسببات ليس إلى فأصرف قصدى إلى ما جعل إلى وأكل ما ليس لي إلى من هو له
ومما يدل على هذا أيضا أن السبب غير فاعل بنفسه بل إنما وقع المسبب عنده لا به فإذا تسبب الملكف فالله خالق السبب والعبد مكتسب له والله خلقكم وما تعملون والله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل وما تشاءون إلا أن يشاء الله ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفى حديث العدوي قوله عليه الصلاة و السلام
فمن أعدى الأول رواه الشيخان وقول عمر فى حديث الطاعون
نفرمن قدر الله إلى قدر الله حين قال له عمرو بن العاصى
أفرارا من قدر الله وفى الحديث
جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه رواه الترمذي وصححه (1/196)
وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه
والأدلة على هذا تنتهى إلى القطع وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسبب فى فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون هذا وإن كانت مجارى العادات تقتضى أنه يكون فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضى أنه قد يكون وقد لا يكون ونقض مجارى العادات دليل على ذلك وأيضا فليس فى الشرع دليل ناص على طلب القصد المسبب فإن قيل قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين فى موضعه من هذا الكتاب
فإذا طابقه صح فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات وقد فرضناها مقصودة للشارع كان بذلك مخالفا له وكل تكليف قد خالف القصد فيه قصد الشارع فباطل كما تبين فهذا كذلك
فالجواب أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب وليس كذلك لما مر أن المسببات غير ملكف بها وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية فى الخلق وهو أن يكون خلق المسببات على أثر ايقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقى فإذا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له بالقصد (1/197)
التكليفى فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل ولا دليل عليه بل لا يصح ذلك لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنه غير مكلف بفعل الغير وإنما يكلف بما هو من فعله وهو السبب خاصة فهو الذى يلزم القصد إليه أو يطلب القصد إليه ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع
فصل
وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب فكما إذا قيل لك لم تكتسب قلت لاقيم صلبى وأقوم فى حياة نفسى وأهلى أو لغير ذلك من المصالح التى توجد عن السبب فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح لأنه التفات إلى العادات الجارية وقد قال تعالى الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله وقال ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله وقال فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب (1/198)
الذى هو الاكتساب وسيق مساق الامتنان من غير انكار أشعر بصحة ذلك القصد وهذا جار فى أمور الآخرة كما هو جار فى أمور الدنيا كقوله تعالى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب وأيضا فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهىء الله له بهذا السبب فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه فى أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ويصلح به حاله وهذا لا نكير فيه شرعا
وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد فالتكليف كله إما لدرء مفسدة وإما لجلب مصلحة أو لهما معا فالداخل تحته مقتض لما وضعت له
فلا مخالفة فى ذلك لقصد الشارع والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده مع أن هذا القصد لا ينبنى عليه عمل غير مقصود للشارع ولا يلزم منه عقد مخالف فالفعل موافق والقصد موافق فالمجموع موافق
فإن قيل هل يستتب هذان الوجهان فى جميع الأحكام العادية والعبادية أم لا فإن الذى يظهر لبادىء الرأى أن قصد المسببات لازم فى العاديات لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعانى المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد وهو ظاهرة فى العاديات (1/199)
وغير ظاهرة فى العباديات وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر فى العاديات ولا سيما فى المجتهد فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس وذلك غير صحيح فلابد من الالتفات إلى المعانى التى شرعت لها الأحكام والمعانى هى مسببات الأحكام أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعانى الخاصة بها والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء فى أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية فى التصرفات الشرعية
فالجواب أن الأمرين فى الالتفات وعدمه سواء وذلك أن المجتهد إذا نظر فى علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هى فيه لتقع المصلحة المشروع لها الحكم هذا نظره خاصة ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أوعدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد وفى الوجهين لا يفوته فى اجتهاده أمر كالمقلد سواء فإذا سمع قوله عليه السلام متفق عليه
لا يقضى القاضى وهو غضبان متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء فرآه الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك وكان قاضيا متنع من (1/200)
القضاء بمقتضى النهى فإن قصد بالانتهاء مجرد النهى فقط من غير التفات إلى الحكمة التى لأجلها نهى عن القضا حصل مقصود الشارع وأن لم يقصده القاضى وأن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد ا لقاضى إلى المسبب وعدم قصده وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال وما لم يفهم فهو كالعبادات بالنسبة إلى الجميع وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد فى الدنيا أو فى الآخرة على الجملة وأن لم يعلم ذلك على التفصيل ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والآخروية على الجملة فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم
المسألةالسادسة
إذا تقرر ما تقدم فلدخول فى الأسباب مراتب تتفرع على القسمين
فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب
أحدها أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له فهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله والسبب غير فاعل بنفسه والله خالق كل شىء والله خلقكم وما تعملون وفى الحديث
أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر بقية الحديث كما في التيسير عازيا له الى الستة الا الترمذي الحديث فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذى جعل الكوكب فاعلا بنفسه وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام والثانية أن يدخل فى السبب على أن المسبب يكون عنده عادة وهذا (1/201)
هو المتكلم على حكمه قبل ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا بإعتقاده الاستقلال بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب لأنه معقوله وإلا لم يكن سببا فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله فى خلقه ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب وعند عدمه فلا ينفى وجود السبب كونه خالقا للمسبب لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا وذلك لأن العادة غلبت على النظر فى السبب بحكم كونه سببا ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لامقتضيا بنفسه وهذا هو غالب أحوال الخلق فى الدخول فى الأسباب
والثالثة أن يدخل فى السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المسبب
فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته من غير تحكيم لكونه سببا فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف كالأسباب العقلية فلما لم يكن كذلك تمحض جانب التسبيب الربانى بدليل السبب الأول وهنا يقال لمن حكمه فالسبب الأول عماذا تسبب وفى مثله قال عليه الصلاة و السلام
فمن أعدى الأول فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله فالله هو المسبب لاهى إذ ليس له شريك فى ملكه وهذا كله مبين فى علم الكلام وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب فى المسبب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وذلك صحيح
فصل
وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب إحداها أن يدخل فى السبب (1/202)
من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم لينظر كيف يعملون من غير التفات إلى غير ذلك وهذا مبنى على أن الأسباب والمسببات موضوعة فى هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانا لهم فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة وهي على ضربين أحدهما ما وضع لابتلاء العقول وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه وصنعة يستدل بها على ما وراءها والثانى ما وضع لابتلاء النفوس وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ولتجرى أعمالهم تحت حكم الشرع ليسعد بها من سعد ويشقى من شقى وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذى لا مرد له فإن الله غني عن العالمين ومنزه عن الإفتقار فى صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها والأدلة على هذا المعنى كثيرة كقوله سبحانه هوالذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إلى قوله ويعلم الصابرين وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ثم صرفكم عنهم ليبتليكم إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب إنما هي للإبتلاء فإذا كانت كذلك فالآخذ لها من هذه (1/203)
الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها وهذا صحيح وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة
والثانية أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الإلتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة فضلا عن الإلتفات إلى المسببات بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة لأن بقاء الإلتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات وركون إلى الأغيار وهو تدقيق في نفي الشركة وهذا أيضا في موضعه صحيح ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة كقوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقوله فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وسائر ما كان من هذا الباب وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله رب العالمين كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه وصدق العبودية فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته فضلا عن أن ينظر في مسبباتها فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلي مسببها وواضعها إلي الترقي لمقام القرب منه فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة
والثالثة أن يدخل في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في (1/204)
غير ذلك وإنما توجهه في القصد إلى السبب تلبية للأمر لتحققه بمقام العبودية لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب
وقد تبين له أنه مسببه وأنه أجرى العادة به ولو شاء لم يجرها كما أنه قد يخرقها إذا شاء وعلى أنه ابتلاء وتمحيص وعلى أنه يقتضى صدق التوجه به إليه فدخل على ذلك كله فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره وقد علم قصده في تلك الأمور فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب مما علم ومما لم يعلم فهو طالب للمسبب من طريق السبب وعالم بأن الله هو المسبب وهو المبتلى به ومتحقق في صدق التوجه به إليه فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب لكن ذلك كله منزه عن الأغيار مصفى من الأكدار
المسألة السابعة
الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أولا فإن كان منهيا عنه فلا إشكال في طلب رفع التسبب سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا فإنه يتأتى منه الأمران فقد يقصد بالقتل العدوان ازهاق الروح فيقع وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع على مقتضى العادة لا على مقتضى الشرع وقد لا يقع ألبتة وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب والإلتفات إليه لعارض يطرأ غير العارض المتقدم الذكر ولا اعتبار به وإن كان غير منهى عنه فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها (1/205)
أما الأولى فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة فاعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب فلا يبطله
إلا إن قيل أن مثل هذه المقارنة مفسدة وأن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه كالصلاة فى الدار المغصوبة والذبح بالمدية المغصوبة وذلك مبين فى الأصول وأما الثانية فظاهر أن التسبب صحيح لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها وغلب على الظن ذلك كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو وكذلك إذا بلغ مبلغ القطع العادى فواجب عليه أن يتسبب ولأجل هذا قالوا فى المضطر أنه إذا خاف الهلكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت ولذلك قال مسروق ومن اضطر إلى شىء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار
وأما الثالثة فالتسبب أيضا ظاهر إلا أنه يبقى فيها بحث هل يكون صاحبها بمنزلة صاحب المرتبة الثانية أم لا هذا مما ينظر فيه وإطلاق كلام الفقهاء يقتضى عدم التفرقة وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضى ذلك هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين فى هذا الحكم كطريقة الفقهاء على تفصيل له فى ذلك فالذى يظهر فى المسألة نظر آخر وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية وتكون حالية والفرق بين العلم والحال معروف عند أهله فإذا كانت علمية فهي المرتبة الثانية إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها وإنما الفاعل فيها مسببها سبحانه لكن عادته فى خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة وقد يخرقها إذا (1/206)
شاء لمن شاء فمن حيث كانت عادة اقتضت الدخول فى الأسباب ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين فإن غلب الطرف الأول وهو العادى فهو ما تقدم وإن غلب الثانى فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة فسواء عليه اتسبب أم لا إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى فلم يغلب على ظنه والحال هذه أن تركه للسبب القاء باليد إلى التهلكة بل عقده فى كلتا الحالتين واحد فلا يدخل تحت قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فلا يجب عليه التسبب فى رفع ذلك لأن علمه بأن السبب فى يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعين بل السبب وعدمه فى ذلك سواء فكما أن أخذه للسبب لا يعد القاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب كذلك فى الترك
ولو فرض أن آخذ السبب أخذه باسقاط الإعتماد على المسبب لكان القاء باليد إلى التهلكة لأنه اعتمد على نفس السبب وليس فى السبب نفسه ما يعتمد عليه وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا فكذلك إذا ترك السبب لا لشىء فالسبب وعدمه فى الحالين سواء فى عقد الإيمان وحقائق الإيقان
وكل أحد فقيه نفسه وقد مر الدليل على ذلك وقد قال فى الحديث
جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وحكى عياض عن الحسن بن نصر السوسي من فقهاء المالكية أن ابنه قال له فى سنة غلا فيها السعر يا أبت اشتر طعاما فإنى أرى السعر قد غلا (1/207)
فأمر ببيع ما كان فى داره من الطعام ثم قال لابنه لست من المتوكلين على الله وأنت قليل اليقين كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك من توكل على الله كفاه الله
ونظير مسألتنا فى الفقه الغازى إذا حمل وحده على جيش الكفار فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة أو الهلكة أو يقطع بإحداهما فالذى اعتقد السلامة جائز له ما فعل والذى اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك ويستدلون على ذلك يقوله تعالى ولا تلقو بأيدكم إلى التهلكة وكذلك داخل المفازة بزاد أو بغير زاد إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام وإن غلب على ظنه الهكلة لم يجز وكذلك إذا غلب ظنه الوصول إلى الماء فى الوقت أمر بالتأخير ولا يتيمم وكذلك راكب البحر وعلى هذا يباح له التميم مع وجود الماء فى رحله أو يمنع وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء فى الوقت
وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم أفطر إلى غير ذلك من المسائل المبينة على غلبات الظنون وإن كانت موجبات الظنون تختلف فذلك غير قادح فى هذا الأصل فمسألتنا داخله تحت هذه القاعدة فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال إنه لايجب عليه التسبب فيه ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكه فلا يكون كذلك بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر وأسباب الهلكة يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة وقد حكى عياض عن أبي العباس الأيبانى أنه دخل عليه عطية الجزرى العابد فقال له (1/208)
أتيتك زائرا ومودعا إلى مكة فقال له أبو العباس لا تخلنا من بركة دعائك وبكى وليس مع عطية ركوة ولا مزود فخرج مع أصحابه ثم أتاه بأثر ذلك رجل فقال له أصلحك الله عندى خمسون مثقالا ولي بغل فهل ترى لي الخروج إلى مكة فقال له لاتعجل حتى توفر هذه الدنانير قال الراوي فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما فقال أبو العباس عطية جاءنى مودعا غير مستشير وقد وثق بالله وجاءنى هذا يستشيرنى ويذكر ما عنده فعلمت ضعف نيته فأمرته بما رأيتم فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم فى استعداد الأسباب والنظر فىمراعاتها وسلم لقوى اليقين فى طرح الأسباب بناء والله أعلم على القاعدة المتقدمة فى الإعتقادات وغلبات الظنون فى السلامة والهلكة وهو مظان النظر الفقهى ولذلك يختلف الحكم بإختلاف الناس فى النازلة الواحدة كما تقدم فإن قيل فصاحب هذه المرتبة أي الأمرين أفضل له الدخول فى السبب أن تركه فالجواب من وجهين أحدهما أن الأسباب فى حقه لا بد منها كما أنها كذلك فى حق غيره فإن خوارق العادات وإن قامت له مقام الأسباب فى حقه فهي فى أنفسها أسباب لكنها أسباب غريبة والتسبب غير منحصر فى الأسباب المشهورة فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لايحتسب إما من نبات الأرض وإما من جهة من يلقى من الناس فى البادية وفى الصحراء وإما من حيوان الصحراء أو من غير ذلك ولو أن ينزل عليه من السماء أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية يعرفها أربابها المخصوصون بها فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب ومنها الصلاة لقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية وروى أنه عليه الصلاة و السلام
كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا بسند صحيح وإذا كان كذلك فالسؤال غير وارد (1/209)
والثانى على تسليم وروده أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة واستيقنوها حالا وعلما ولكنه عليه السلام ندبهم إلى الدخول فى الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة ولم يتركهم مع هذه الحالة فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقوم فيه ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام
قيدها وتوكل رواه الطبراني وأيضا فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا أهل علم ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره
وأما المرتبة الرابعة وهى مرتبة الابتلاء فالتسبب فيها أيضا ظاهر فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذى سببها من حيث كانت مصروفة إليه كذلك الأسباب العادية ومن هنا لما قال عليه السلام
ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل قال لا اعملوا فكل ميسر لماخلق له ثم قرأ فأما من أعطى واتقى إلىآخرها فكذلك العاديات لأنها عبادات فهى عنده جارية على الأحكام الموضوعة
ونظر صاحب هذه المرتبة فى الأسباب مثل نظره فى العبادات يعتبر فيها مجرد الأسباب ويدع المسببات لمسببها (1/210)
وأما المرتبة الخامسة فالتسبب فيها صحيح أيضا لأن صاحبها وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب ولا إلى المسبب من باب أحرى فلا بد منه من جهة ما هو راق به وملاحظ للمسبب من جهته بدليل الأسباب العبادية
ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها فلا فارق بين العاديات والعباديات إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ فى تجريد الأغيار على الجملة فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري واقتصر على ما هو ضروري وضيق على نفسه المجال فيها فرارا من تكاثرها على قلبه حتى يصح له اتحاد الوجهة وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب فلا شك فى أخذها فى هذه الرتبة إذ من جهتها يصح المطلوب
وأما السادسة فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها غير أن ذلك فيها معتبرمن جهة صفة العبودية وامتثال الأمر لا من جهة أمر آخر فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه كان قصده فى امتثال الأمر شاملا له والله أعلم
المسألة الثامنة
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد ذلك المسبب أولا لأنه لما جعل مسببا عنه فى مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة ويشهد لهذا قاعدة مجارى العادات إذ أجرى فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام والإرواء إلى الماء والإحراق إلى النار والإسهال إلى السقمونيا وسائر المسببات إلى أسبابها فكذلك الأفعال التى تتسبب عن كسبنا منسوبة (1/211)
إلينا وإن لم تكن من كسبنا وإذ كان هذا معهودا معلوما جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان
وأدلته فى الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو الممنوعة كقول الله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس إلى قوله ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وفى الحديث
ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل وفيه
من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها ذكره في الترغيب والترهيب عن مسلم والنسائي والترمذي وكذلك
من سن سنة سيئة وفيه
ان الولد لوالديه ستر من النار وأن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة مسلم وكذلك الزرع والعالم يبث العلم فيكون له أجر كل من انتفع به ومن ذلك ما لا يحصى مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ليست من فعل المتسبب
فإذا كان كذلك فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل وإن كان غير محيط بجميع (1/212)
التفاصيل وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة لا على التفصيل وذلك أن ما أمر الله به فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله وما نهى عنه فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله فإذا فعل فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد ولا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما فإن الأمر قد تضمن أن فى إيقاع المأمور به مصلحة علمها الله ولأجلها أمر به والنهي قد تضمن أن فى إيقاع المنهى عنه مفسدة علمها الله ولأجلها نهى عنه فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد وإن جهل تفاصيل ذلك
فإن قيل أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل
فالجواب أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله وتعاطاه لا على ما لم يفعل لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد وقد بين الشرع ذلك وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنا أو مفسدته فجعله كبيرة وبين ما ليس كذلك فسماه فى المصالح إحسانا وفى المفاسد صغيرة وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله وما هو من فروعه وفصوله ويعرف ما هو من الذنوب كبائر وما هو منها صغائر فما عظمه الشرع فى المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك فمن فروعه وتكميلاته وما عظم أمره فى المنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة (1/213)
المسألة التاسعة
ما ذكر فى هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف وأن السبب هو المكلف به إذا اعتبر ينبنى عليه أمور
أحدها أن متعاطى السبب إذا أتى به بكمال شروطه وانتفاء موانعه ثم قصد أن لا يقع مسببه فقد قصد محالا وتكلف رفع ما ليس له رفعه ومنع ما لم يجعل له منعه فمن عقد نكاحا على ما وضع له فى الشرع أو بيعا أو شيئا من العقود ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد وقع قصده عبثا ووقع المسبب الذى أوقع سببه وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه فى الشرع ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك فهو قصد باطل ومثله فى العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر ثم قصد فى نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة وما أشبه ذلك فهو لغو و هكذا الأمر فى الأسباب الممنوعة وفيه جاء يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا الآية ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا من المأكول والمشروب والملبوس والنكاح وهو غير ناكح فى الحال ولا قاصد (1/214)
للتعليق فى خاص بخلاف العام وما أشبه ذلك فجميع ذلك لغو لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكف السبب فيه ومثله قوله عليه الصلاة و السلام
إنما الولاء لمن أعتق رواه الستة وقوله
من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط رواه الستة الحديث وأيضا فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل فهذا القصد باطل والمسألة واضحة
فإن قيل هذا مشكل من وجهين أحدهما أن اختيار المكلف وقصده شرط فى وضع الأسباب فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها بل مفقودة الشرط وهو الإختيار فلم تصح من جهة فقد الشرط فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الإختيار
والثانى أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما هو مذكور فى موضعه من هذا الكتاب وتعاطى الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة من حيث كان قصد الشارع التحصيل بوساطة هذه الأسباب فيكون إذا تعاطى هذه الأسباب باطلا (1/215)
وممنوعا كالمصلى قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة وما أشبه ذلك فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين وهو باطل
فالجواب عن الأول أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالإختيار لأن تكون أسبابا لكن مع عدم اختياره للمسبب وليس الكلام فى موقعها بغير اختيار والجمع بينهما ممكن عقلا لأن أحدهما سابق على الآخر فلا يتنافيان كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد أو اختار وضع البذر فى الأرض وكره نباته أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه وما أشبه ذلك فكما يمكن اجتماعهما فى العاديات فكذلك فى الشرعيات
والجواب عن الثانى أن فاعل السبب فى مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب وهذا ليس له فقصده فيه عبث بخلاف ما هو مذكور فى قاعدة مقاصد الشارع فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسبب لم يجعله الشارع مسببا له كنكاح المحلل عند القائل بمنعه فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا فلم يكن محللا لا للنكاح ولا للمحلل له لأنه باطل
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج فالأول لا ينتج له شيئا والآخر يتنج له لأنه ليس الإنتاج باختياره ولا عدمه فهذا لم يخالف قصد الشارع فى السبب من حيث هو سبب ولكن زعم أنه لا يقع مسببه وهذا كذب أو طمع فى غير مطمع (1/216)
والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع فاعرف الفرق بينهما فهو دقيق ويوضحه أن القصد فى أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه
فإن قيل لم لا يكون هذا فى الحكم كالرفض فى العبادات فإنه فى الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا فالطهارة مثلا سبب فى رفع الحدث فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث فهو معنى رفض النية فيه وقد قالوا إن رفض النية ينتهض سببا فى إبطال العبادة فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب لا إبطال المسببات
فالجواب أن الأمر ليس كذلك وإنما يصح الرفض فى أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر ثم أتمها على غير ذلك بل بنية أخرى ليست بعبادته التى شرع فيها كالمتطهر ينوي رفع الحدث ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو النتظف من الأوساخ البدنية وأما بعد ما تمت العبادة وكملت على شروطها فقصده أن لا تكون عبادة ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أواستباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها بل هى على حكمها لو لم يكن ذلك القصد فالفرق بينهما ظاهر
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم فى الرفض وقال أنه يؤثر ولم يفصل القول فى ذلك فإن كلام الفقهاء فى رفض الوضوء وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان فى النظر فمن نظر إلى فعلها على ما ينبغى قال أن استباحة الصلاة بها لازم ومسبب عن ذلك الفعل فلا يصح (1/217)
رفعه إلا بناقض طارئ ومن نظر إلى حكمها أعنى حكم استباحة الصلاة مستصحبا إلى أن يصلي وذلك أمر مستقبل فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة وهي بالنية المنافية منسوخة فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها لأن ذلك كالرفض المقارن للفعل ولو قارن الفعل لأثر فكذلك هنا فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة وتم حكمها لم يصح أن يقال إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة فكذلك من صلى ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها وقد كان أتى بها على ما أمر به فإن قال به فى مثل هذا فالقاعدة ظاهرة فى خلاف ما قال والله أعلم وبه التوفيق
هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء موانعها
وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغى ولا استكملت شرائطها ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره وأيضا فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا فالثمرة واحدة
وأيضا لو اقتضت الأسباب مسبباتها وهي غير كاملة بمشيئة الملكف أو ارتفعت اقتضاآتها وهى تامة لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة ولكان وضعه له عبثا لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا لم يكن لها وضع معلوم فى الشرع وقد فرضناها موضوعة فى الشرع على (1/218)
وضع معلوم هذا خلف محال فما يؤدي إليه مثله وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية
فإن قيل كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد أو بأنه يدل على الصحة أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا انتفت موانعه يفيد حصول المسبب وفي مذهب مالك ما يدل على ذلك فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع وأيضا فتفيد الملك بحوالة الأسواق وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا
فالجواب أن القاعدة عامة وإفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول وبيان ذلك لا يسع ههنا وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله
فصل
ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم أن الفاعل للسبب عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله تعالى والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها والخروج عن الأسباب المحظورة والشكر وغير ذلك من المقامات السنية والأحوال المرضية ويتبين ذلك بذكر البعض على أنه ظاهر (1/219)
أما الإخلاص فلأن المكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي خارج عن حظوظه قائم بحقوق ربه واقف موقف العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه فإنه عند الإلتفات إليه متوجه شطره فصار توجهه إلى ربه بالسبب بواسطة التوجه إلى المسبب ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص
وأما التفويض فلإنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك وهو الله سبحانه فصار متوكلا ومفوضا هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا فان كان ممن يلتفت إلى المسبب بالدخول فى السبب صار مترقبا له ناظرا الى ما يؤول إليه تسببه وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السبب استعجالا لما ينتجه فيصير توجهه الى ما ليس له وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه اليه وهنا تقع حكاية من سمع أن من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فأخذ بزعمه في الإخلاص لينال الحكمة فتم الأمد ولم تأته الحكمة
فسأل عن ذلك فقيل له إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب ربما غطت ملاحظاتها فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب وبذلك يصير العابد مستكثرا لعبادته والعالم مغترا بعلمه الى غير ذلك (1/220)
وأما الصبر والشكر فلأنه اذا كان ملفتا إلى أمر الآمر وحده متيقنا أن بيده ملاك المسببات وأسبابها وأنه عبد مأمور وقف مع أمر الآمر ولم يكن له من ذلك محيد ولا زوال وألزم نفسه الصبر على ذلك لأنه تحت حد المراقبة وممن عبد الله كأنه يراه فإذا وقع المسبب كان من أشكر الشاكرين اذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب وردا ولا صدرا ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ولا ضرا وإن كان علامة وسببا عاديا فهو سبب بالتسبب ومعتبر في عادى الترتيب ولم كان ملتفتا الى المسبب فالسبب قد ينتج وقد يعقم فاذا أنتج فرح وإذا لم ينتج لم يرض بقسم الله ولا بقضائه وعد السبب كلا شىء وربما مله فتركه وربما سئم منه فثقل عليه وهذا يشبه من يعبد الله على حرف وهو خلاف عادة من دخل تحت رق العبودية ومن تأمل سائر المقامات السنية وجدها في ترك الإلتفات إلى المسببات وربما كان هذا أعظم نفعا في أصحاب الكرامات والخوارق
فصل
ومنها أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره لله إنما همه السبب الذي دخل فيه فهو على بال منه في الحفظ له والمحافظة عليه والنصيحة فيه لأن غيره ليس إليه ولو كان قصده المسبب من السبب لكان مظنة لأخذ السبب على غير اصالته وعلى غير قصد التعبد فيه فربما أدى إلى الإخلال به وهو لا يشعر وربما شعر به ولم يفكر فيما عليه فيه ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة وهو أصل الغش في الأعمال العادية نعم والعبادية بل هو أصل في الخصال المهلكة أما في العاديات فظاهر فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح الذي يأمله في تجارته أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته أو ما أشبه ذلك
وأما في العبادات فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع له القبول في الأرض بعد ما يحبه أهل السماء فالتقرب بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى (1/221)
ثم من الملائكة ثم يوضع القبول في الأرض فربما التفت العابد لهذا المسبب بالسبب الذي هو النوافل ثم يستعجل ويداخله طلب ما ليس له فيظهر ذلك السبب وهو الرياء وهكذا في سائر الهلكات وكفى بذلك فسادا
فصل
ومنها أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس ساكن البال مجتمع الشمل فارغ القلب من تعب الدنيا متوحد الوجهة فهو بذلك طيب المحيا مجازى في الآخرة قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية وروى عن جعفر الصادق أنه قال في الحياة الطيبة هي المعرفة بالله وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله وقال ابن عطاء العيش مع الله والإعراض عما سوى الله
وأيضا ففيه كفاية جميع الهموم بجعل همه هما واحدا بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب فإنه ناظر إلى كل مسبب فى كل سبب يتناوله وذلك مكثر ومشتت وأيضا ففى النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال
وإذا أنتج فليس على وجه واحد فصاحبه متبدد الحال مشغول القلب فى أن لو كان المسبب أصلح مما كان فتراه يعود تارة باللوم على السبب وتارة بعدم الرضى بالمسبب وتارة على غير هذه الوجوه وإلى هذا النحو يشير معنى قوله عليه الصلاة و السلام
لا تسبو الدهر فإن الله هو الدهر رواه مسلم وأمثاله وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر فى غيره فمشتغل بأمر واحد وهو التعبد بالسبب أى سبب كان ولا (1/222)
شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة بل هم واحد ثابت خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه وقد جاء
أن من جعل همه هما واحدا كفاه الله سائر الهموم ومن جعل همه أخراه كفاه الله أمر دنياه ويقرب من هذا المعنى قول من قال من طلب العلم لله فالقليل من العلم يكفيه ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة وقد لهج الزهاد فى هذا الميدان وفرحوا بالإستياق فيه حتى قال بعضهم لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف وروى فى الحديث
الزهد فى الدنيا يريح القلب والبدن اسنده الطبراني لأبي هريرة والزهد ليس عدم ذات اليد بل هو حال للقلب يعبر عنها إن شئت بما تقرر من الوقوف مع التعبد بالأسباب من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها فى الأسباب فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة
فصل
ومنها أن النظر فى المسبب قد يكون على التوسط كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات وهو أسلم لمن التفت (1/223)
إلى المسبب وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر فيحصل بذلك للمتسبب إما شدة التعب و إما الخروج عما هو له إلى ما ليس له أما شدة التعب فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال فى السلوك وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف وأصل هذا تنبيه الله نبيه صلى الله عليه و سلم فى الكتاب العزيز حالة دعائه الخلق بشدة الحرص على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون إلى قوله وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الأرض أو سلما فى السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الآية وقوله لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين وقوله يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر الآية وقوله فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية إلى قوله إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل وقوله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إلى غير ذلك مما هو فى هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بقوله إنما أنت منذر إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل وأشباه ذلك
وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب والله هو المسبب وخالق المسبب ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم الآية وهو ينبهك (1/224)
على شدة مقاساته عليه الصلاة و السلام فى الحرص على إيمانهم ومبالغته فى التبليغ طمعا فى أن تقع نتيجة الدعوة وهي إيمانهم الذى به نجاتهم من العذاب حتى جاء فى القرآن عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ومع هذا فقد ندب عليه الصلاة و السلام إلى أمر هو أوفق وأحرى بالتوسط فى مقام النبوة وأدنى من خفة ما يلقاه فى ذلك من التعب والمشقة وأجرى فى سائر الرتب التي دون النبوة هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد فلا يقدح ذلك فى صحة الإستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الإستدال بأحواله وأحكامه فى أحكام أمته ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته
وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون كان مخالفا لمقصود الشارع إذ قد تبين أن المسبب ليس للمكلف ولم يكلف به بل هو لله وحده فمن قصده فالغالب عليه بحسب افراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين وهو إنما يجري علىمقتضى إرادة الله تعالى لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه فقد وصار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به وذلك خارج عن مقتضى الأدب ومعارضة للقدر أو ما هو ينحو ذلك النحو وقد جاء في - الصحيح التنبيه على هذا المعنى بقوله عليه الصلاة و السلام
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (1/225)
وفى كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وأن أصابك شىء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم صحيح فقد نبهك على أن
لو تفتح عمل الشيطان لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم عقلا بل ذلك قدر الله وما شاء فعل إذ لا يعينه وجود السبب ولا يعجزه فقدانه
فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر ويبقى السبب إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل فى مقدوره استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله فلا ينفتح عليه باب الشيطان وكثيرا ما يبالغ الإنسان فى هذا المعنى حتى يصير منه إلى ما هو مكروه شرعا من تشويش الشيطان ومعارضة القدر وغير ذلك
فصل
ومنها أن تارك النظر فى المسبب أعلى مرتبة وأزكى عملا إذا كان عاملا فى العبادات وأوفر أجرا فى العادات لأنه عامل على اسقاط حظه بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات فإنه عامل على الإلتفات إلى الحظوظ لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم كما فى حديث أبي ذر
إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها صحيح مسلم وأصله فى القرآن من عمل صالحا فلنفسه فالملتفت إليها (1/226)
عامل بحظه ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي عامل على إسقاط الحظوظ وهو مذهب أرباب الأحوال ولهذا بسط فى موضع آخر
فإن قيل على أي معنى يفهم اسقاط النظر فى المسببات وكيف ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك
فالجواب أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات القلب إليها جملة وهذا قليل وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن يتظر هل له مسبب أم لا وقد يكون غير ظاهر بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب إلا أنه التفت إليه من وراء الأمر أو النهي ويكون هذا مع الجريان على مجارى العادات مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء ويكون أيضا مع طلب المسبب بالسبب أي يطلب من المسبب مقتضى السبب فكأنه يسأل المسبب باسطا يد السبب كما يسأله الشىء باسطا يد الضراعة أو يكون مفوضا فى المسبب إلى من هو إليه فهؤلاء قد أسقطوا النظر فى المسبب بالسبب وإنما الالتفات للمسبب بمعنى الجريان مع السبب كالطالب للمسبب من نفس السبب أو كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب فهذا هو المخوف الذى هو حر بتلك المفاسد المذكورة وبين هذين الطرفين وسائط هي مجال نظر المجتهدين فإلى أيهما كان أقرب كان الحكم له ومثل هذا مقرر أيضا فى مسألة الحظوظ
المسألة العاشرة
ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا وأن الشارع (1/227)
يعتبر المسببات فى الخطاب بالأسباب يترتب عليه بالنسبة إلى الملكلف إذا اعتبره أمور
منها أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المسبب شرعا اقتضى أن يكون المكلف فى تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس فى حسابه فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه وكما يكون التسبب فى الطاعة منتجا ما ليس فى ظنه من الخير لقوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وقوله عليه السلام
من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها وقوله
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت حسن صحيح الحديث كذلك يكون التسبب فى المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر لقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا وقوله عليه الصلاة و السلام
ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها وقوله
ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها وقوله
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله الحديث إلى أشباه ذلك
وقد قرر الغزالي من هذا المعنى فى - كتاب الأحياء وفى غيره ما فيه كفاية (1/228)
وقد قال فى - كتاب الكسب ترويج الدرهم الزائف من الدراهم فى أثناء النقد ظلم إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف وإن لم يعرف وإن عرف فيروجه على غيره وكذلك الثاني والثالث ولا يزال يتردد فى الأيدي ويعم الضرر ويتسع الفساد ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه فإنه الذى فتح ذلك الباب ثم استدل بحديث
من سن سنة حسنة الخ
ثم حكى عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم قال لأن السرقة معصية واحدة وقد تمت وانقطعت وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده فيكون عليه وزرها بعد موته الى مائة سنة ومائتي سنة الى أن يفنى ذلك الدرهم ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة يعذب بها فى قبره ويسأل عنها إلى انقراضها وقال تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم أى نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما قدموه ومثله قوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر وإنما أخر أثر أعماله من سن سنة سيئة عمل بها غيره هذا ما قاله هناك وقاعدة ايقاع السبب أنه بمنزلة ايقاع المسبب قد بينت هذا
وله فى - كتاب الشكر ما هو أشد من هذا حيث قدر النعم أجناسا وأنواعا وفصل فيها تفاصيل جمة ثم قال بل أقول من عصى الله ولو فى نظرة واحدة بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر فقد كفر نعمة الله فى السموات والأرضين وما بينهما فان كل ما خلق الله حتى الملائكة والسموات والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها انتفاعه
ثم قرر شيئا من النعم العائدة الى البصر من الأجفان ثم قال قد كفر نعمة (1/229)
الله فى الأجفان ولا تقوم الأجفان الا بعين ولا العين إلا بالرأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ولا يقوم شىء من ذلك إلا بالسموات ولا السموات إلا بالملائكة فإن الكل كالشىء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض قال وكذلك ورد فى الأخبار أن البقعة التي يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم اذا تفرقوا أو تستغفر لهم
ولذلك ورد أن
العالم يستغفر له كل شئ حتى الحوت فى البحر رواه ابو داود والترمذي وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما فى الملك والملكوت
وقد أهلك نفسه إلى أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها فيتبدل اللعن بالإستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه ثم حكى غير ذلك ومضى فى كلامه فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء إذ يبدوا له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب والعياذ بالله
فصل
ومنها أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ربما ارتفعت عنه إشكالات ترد فى الشريعة بسببب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب أخر حاضرة وذلك أن متاطى السبب قد يبقى عليه حكمه وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب ولا يكون كذلك (1/230)
مثاله من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج منها فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ فى الإمتثال غير عاص ولا مؤآخذ لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا فى حالة واحدة ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة لأن ذلك تكليف مالا يطاق فلا بد أن يكون فى توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه
ولا يمكن مع بقاء حكم النهي فى نفس الخروج فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي فى الخروج
وقال أبو هاشم هو على حكم المعصية ولا يخرج عن ذلك إلا بإنفصاله عن الأرض المغصوبة ورد الناس عليه قديما وحديثا والإمام أشار فى البرهان إلى تصور هذا وصحته باعتبار أصل السبب الذى هو عصيان فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة ونظر ذلك بمسائل وهو صحيح باعتبار الأصل المتقدم فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره فلو نظر الجمهور إليها لم يستبعدوا اجتماع الإمتثال مع استصحاب حكم المعصية إلى الإنفصال عن الأرض المغصوبة وهذا أيضا ينبنى على الإلتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره فإنه إذا رأى ذلك وجد نفس الخروج ذا وجهين أحدهما وجه كون الخروج سببا فى الخلوص عن التعدى بالدخول فى الأرض
وهو من كسبه والثاني كونه نتيجة دخوله ابتداء وليس من كسبه بهذا الإعتبار إذ ليس له قدرة عن الكف عنه
ومن هذا مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس وقبل وصوله إلى الرمية ومن تاب من بدعة بعد ما بثها فى الناس وقبل أخذهم بها أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل (1/231)
الإستيفاء وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله وقبل تأثيره ووجود مفسدته أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها فقد اجتمع على المكلف هنا الإمتثال مع بقاء العصيان فإن اجتمعا فى الفعل الواحد كما فى المثال الأول كان عاصيا ممتثلا إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه فى هذا التصوير لأنه من جهةالعصيان غير مكلف به لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته فلا نهي إذ ذاك ومن جهة الإمتثال مكلف لأنه قادر عليه فهو مأمور بالخروج وممتثل به وهذا معنى ما أراده الإمام وما اعترض به عليه وعلى أبى هاشم لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملتها والله أعلم
فصل
ومنها أن الله عز و جل جعل المسببات فى العادة تجرى على وزان الأسباب فى الإستقامة أو الإعوجاج فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي كان المسبب كذلك وبالضد
ومن ههنا إذا وقع خلل فى المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب هل كان على تمامه أم لا فإن كان على تمامه لم يقع على المتسبب لوم وإن لم يكن على تمامه رجع اللوم والمؤآخذة عليه ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيرهم من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم إما بكونه غر من نفسه وليس بصانع وإما بتفريط بخلاف ما إذا لم يفرط فإنه لا ضمان عليه لأن الغلط فى المسببات أو وقوعها على غير وزان التسبب قليل فلا يؤآخذ بخلاف ما إذا (1/232)
لم يبذل الجهد فإن الغلط فيها كثير فلا بد من المؤآخذة
فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب فى الصحة أو الفساد لا من جهة أخرى فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة فى الشرع دليلا على ما فى الباطن فإن كان الظاهر منخرما حكم على الباطن بذلك أو مستقيما حكم على الباطن بذلك أيضا وهو أصل عام فى الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات بل الإلتفات إليها من هذا الوجه نافع فى جملة الشريعة جدا والأدلة على صحته كثيرة جدا وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة
فصل
ومنها أن المسببات قد تكون خاصة وقد تكون عامة ومعنى كونها خاصة أن تكون بحسب وقع السبب كالبيع المتسبب به إلى إباحة (1/233)
الانتقاع بالمبيع والنكاح الذى يحصل به حلية الإستمتاع والذكاة التى بها يحصل حل الأكل وما أشبه ذلك وكذلك جانب النهي كالسكر الناشىء عن شرب الخمر وإزهاق الروح المسبب عن حزالرقبة
وأما العامة فكالطاعة التى هى سبب فى الفوز بالنعيم والمعاصي التى هى سبب فى دخول الجحيم وكذلك أنواع المعاصي التى يتسبب عنها فساد فى الأرض كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق والحكم بغير الحق الفاشى عنه الدم وختر العهد الذى يكون عنه تسليط العدو والغلول الذى يكون عنه قذف الرعب وما أشبه ذلك ولا شك أن أضداد هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور اجتهد فى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات رجاء فى الله وخوفا منه ولهذا جاء الإخبار فى الشريعة بجزاء الأعمال وبمسببات الأسباب والله أعلم بمصالح عباده والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة
فصل
فإن قيل تقرر فى المسألة التي قبل هذه أن النظر فى المسببات يستجلب مفاسد والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب فى التسبب وتبين الآن أن النظر فى المسببات يستجر مصالح والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت (1/234)
إليها فإن كان هذا على الإطلاق كان نتاقضا وإن لم يكن على الإطلاق فلا بد من تعيين موضع الإلتفات الذي يجلب المصالح من الإلتفات الذي يجر المفاسد بعلامة يوقف عندها أو ضابط يرجع إليه
فالجواب أن هذا المعنى مبسوط فى غير هذا الموضع ولكن ضابطه أنه إن كان الإلتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة فى إكماله فهو الذي يجلب المصلحة وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به فهو الذي يجلب المفسدة
وهذان القسمان على ضربين أحدهما ما شأنه ذلك بإطلاق بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف وبالنسبة إلى كل زمان وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف والثاني ما شأنه ذلك لا بإطلاق بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض
وأيضا فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين أحدهما ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به والثاني مظنونا أو مشكوكا فيه فيكون موضع نظر وتأمل فيحكم بمقتضى الظن ويوقف عند تعارض الظنون وهذه جملة مجملة غير مفسرة ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي ظهر مغزاه وتبين معناه بحول الله ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين فإن على المجتهد أن ينظر فى الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين وبالله التوفيق (1/235)
فصل
وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه
فقد قالوا فى السكران إذا طلق أو أعتق أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص عومل معاملة من فعلها عاقلا اعتبارا بالأصل الثاني وقالت طائفة بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول على تفصيل لهم فى ذلك مذكور فى الفقه واختلفوا ايضا فى ترخص العاصي بسفره بناء على الأصلين أيضا واختلفوا فى قضاء صوم التطوع وفى قطع التتابع بالسفر الإختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله وكذلك اختلفوا فى أكل الميتة إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه وعليهما يجري الخلاف (1/236)
أيضا فى المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره فيمن توسط أرضا مغصوبة
المسألة الحادية عشرة
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد
مثال ذلك الأمر بالمعروف والنهي لن المنكر فإنه أمرمشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل على أي وجه كان
وليس بسبب فى الوضع الشرعى لإتلاف مال أو نفس ولا نيل من عرض وإن أدى إلى ذلك فى الطريق وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله وإن أدى إلى مفسدة فى المال أو النفس ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام وإن أدى إلى القتال كما فعله أبو بكر رضى الله عنه وأجمع عليه الصحابة رضى الله عنهم وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء وهو فى نفسه مفسدة وإقرار حكم الحاكم مشروع لمصلحته فصل الخصومات وإن أدى إلى الحكم بما ليس بمشروع
هذا فى الأسباب المشروعة وأما فى الأسباب الممنوعة فالأنكحة الفاسدة ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراث وغير ذلك من (1/237)
الأحكام وهي مصالح والغضب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب فى يد الغاصب أو غيره من وجوه الفوت
فالذى يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة ليست بناشئة عنها فى الحقيقة
وإنما هى ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها والدليل على ذلك ظاهر
فإنها إذا كانت مشروعة فإما أن تشرع للمصالح أو للمفاسد أو لهما معا أو لغير شىء من ذلك فلا يصح أن تشرع للمفاسد لأن السمع يأبى ذلك فقد ثبت الدليل الشرعى على أن الشريعة إنما جىء بالأوامر فيها جلبا للمصالح وإن كان ذلك غير واجب فى العقول فقد ثبت فى السمع وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل ولا لغير شىء لما ثبت من السمع أيضا
فظهر أنها شرعت للمصالح
وهذا المعنى يستمر فيما منع إما أن يمنع لأن فعله مؤد إلى مفسدة أو إلى مصلحة أو إليهما أو لغير شىء والدليل جار إلى آخره فإذا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع وأيضا فلا سبب ممنوعا إلا وفيه (1/238)
مفسدة لأجلها منع فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له فى الشرع إن كان مشروعا وما منع لأجله إن كان ممنوعا
وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس بل إعلاء الكلمة لكن يتبعه فى الطريق الإتلاف من حهة نصب الإنسان نفسه فى محل يقتضي تنازع الفريقين وشهر السلاح وتناول القتال والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك وحكم الحاكم سبب لدفع التشاجر وفصل الخصومات بحسب الظاهر حتى تكون المصلحة ظاهرة وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر من تقصير فى النظر أو كون الظاهر على خلاف الباطن ولم يكن له على ذلك دليل وليس بمقصود فى أمر الحاكم ولا ينقض الحكم إذا كان له مساغ ما بسبب أمر آخر وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم من الفصل بين الخصوم ورفع التشاجر فإن الفسخ ضد الفصل
وأما قسم الممنوع فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع لا من جهة كونه فاسدا حسبما هو مبين فى (1/239)
موضعه والبيوع الفاسدة من هذا النوع لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة وإن بقيت على غير تغير ولا وجه من وجوه الفوت فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين توادرت أنظار المجتهدين هل يكون ذلك فى حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا فبقى حكم المطالبة بالفسخ إلا أن فى المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السعلة إذا ردت عليه متغيرة مثلا كما أن فيها حملا على المشترى حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التى حصلت فى المبيع فكان العدل النظر فيما بين هذين فاعتبر فى الفوت حوالة الأسواق والتغير الذى لم يفت العين وانتقال الملك وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة فى كتب الفقهاء وحاصلها أن عدم الفسخ وتسليط المشترى على الإنتفاع ليس سببه العقد المنهي عنه بل الطوارئ المترتبه بعده
والغصب من هذا النحو أيضا فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا
والضمان يستلزم تعين المثل أو القيمة فى الذمة فاستوى فى هذا المعنى مع المالك بوجه ما فصار له بذلك شبهة ملك فإذا حدث فى المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة صار محل اجتهاد نظرا إلى حق صاحب المغصوب وإلى الغاصب إذ لا يجنى عليه غصبه أن يحمل عليه فى الغرم عقوبة له كما أن (1/240)
المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه فكان فى ذلك الإجتهاد بين هذين
فالسبب فى تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب بل التضمين أولا منضما إلى ما حدث بعد فى المغصوب فعلى هذا النوع أو شبهه يجرى النظر فى هذه الأمور
والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح إذ لا يصح ذلك بحال
فصل
وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل فى مذهب مالك وغيره ففى المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلىزمان كذا ثم خاف الحنث بعدم القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة ثم راجعها أن الحنث لا يقع عليه وأن كان قصده مذموما وفعله مذموما لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا فكانت المخالعة ممنوعة وإن أثمرت عدم الحنث لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة بل بسبب أنه حنث ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا
وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر فى رمضان أن له أن يقطر وإن كره له هذا القصد لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر لا بسبب نفس السفر المكروه وإن علل الفطر بالسفر فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر ويحقق ذلك أن الذى كره له السفر الذى هو من كسبه والمشقة خارجة عن كسبه فليست المشقة هى عين المكروه له بل سببها والمسبب هو السبب فى الفطر (1/241)
فأما لو فرضنا أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحته أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا ولا عن المنوع مصلحة تقصد شرعا وذلك كحيل أهل العينة فى جعل السلعة واسطة فى بيع الدينار بالدينارين إلى أجل فهنا طرفان وواسطة طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال كالحيلة المذكورة وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا كتغيير المغصوب فى يد الغاصب فيملكه على التفصيل المعلوم
وواسطة لم ينتف فيها السبب ألبتة ولا ثبت قطعا فهو محل أنظار المجتهدين
فصل
هذا كله إذا نظرنا إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر فإن تؤملت من جهة آخرى كان الحكم آخر وتردد الناظرون فيه لأنه يصير محلا للتردد وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب فى حكم إيقاع المسببات وإذا كان كذلك اقتضى أن المسبب فى حكم الواقع باختياره فلا يكون سببا شرعيا فلا يقع له مقتضى فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر لأن المشقة كأنها واقعة بفعله لأنها ناشئة عن سببه والمحتال للحنث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث بل يقع عليه إذا راجعها وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل وما أشبه ذلك فهنا إذا روجع الأصلان كانت المسائل فى محل الإجتهاد فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه والله أعلم (1/242)
فصل
ما تقدم فى هذا الأصل نظر فى مسببات الأسباب من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة أي من جهة ما هى داخلة تحت نظر الشرع لا من جهة ما هى أسباب عادية لمسبباب عادية فإنها إذا نظر إليها من هذا الوجه كان النظر فيها آخر فإن قاصد التشفي بقصد القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من أتعاب النفس وقصدا إلى الدعة والراحة بتركها فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق أو تارك بإطلاق متسبب فى درء المفاسد عن نفسه أو جلب المصالح لها كما كان الناس فى أزمان الفترات والمصالح والمفاسد هنا هى المعتبرة بملائمة الطبع ومنافرته فلا كلام هنا فى مثل هذا
المسألة الثانية عشرة
الأسباب من حيث هى أسباب شرعية لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهى المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان أحدهما ما شرعت الأسباب لها إما بالقصد الأول وهى متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأول (1/243)
أيضا وإما بالقصد الثانى وهي متعلق المقاصد التابعة وكلا الضربين مبين فى - كتاب المقاصد والثانى ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع لها فتجىء الأقسام ثلاثة
أحدها ما يعلم أن يظن أن السبب شرع لأجله فتسبب المتسبب فيه صحيح لأنه أتى الأمر من بابه وتوسل إليه بما أذن الشارع فى التوسل به إلى ما أذن أيضا فى التوسل إليه لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ثم يتبعة اتخاذ السكن ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة فى جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة وهذا كاف وقد تبين فى - كتاب المقاصد أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب
لا يقال إن القصد إلى الإنتفاع مجردا لا يغنى دون قصد حل البضع بالعقد أولا فإنه الذى ينبنى عليه ذلك القصد والشارع إنما قصده بالعقد أولا الحل ثم يترتب عليه الإنتفاع فإذا لم يقصد إلا مجرد الإنتفاع فقد تخلف قصده عن قصد الشارع فيكون مجرد القصد إلى الإنتفاع غير صحيح (1/244)
ويتبين هذا بما إذ أراد التمتع بفلانة كيف اتفق بحل أو غيره فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع وقصده أنه لو أمكنه لحصل مقصوده فإذا عقد عليها والحال هذه فلم يكن قاصدا لحله وإذا لم يقصد حلها فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا والحكم فى كل فعل أو ترك جار هذا المجرى
لأنا نقول هو على ما فرض فى السؤال صحيح وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه لكن ملجأ إلى ذلك
فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه ويبقى النظر فى قصده إلى المحظور الذى لم يقدر عليه فإن كان عند عزم على المعصية لو قدر عليها أثم عند المحققين وإن كان خاطرا على غير عزيمة فمغتفر كسائر الخواطر فلم يقترن إذا بالعقد ما يصيره باطلا لوقوعه كامل الأركان حاصل الشروط منتفى الموانع وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده الإستباحة بالوجه المقصود للشارع وهذا القصد الثاني موجود عنده لا محالة وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب فصح التسبب وأما إلزام قصد الحل فلا يلزم بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع وإن غفل عن وقوع الحل به لأن الحل الناشىء عن السبب ليس بداخل تحت التكليف كما تقدم
والثاني ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء فالدليل (1/245)
يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب فهو إذا باطل هذا وجه
ووجه ثان وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا لا يصح فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له
ووجه ثالث أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص فالأمر واضح فإذا قصد بالنكاح مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع وهكذا سائر الأعمال والتسببات العادية والعبادية
فإن قيل كيف هذا والناكح في المثال المذكور وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق وهو مباح في نفسه فيصح لكن كونه قصد مع ذلك التحليل الأول أمر آخر وإن كان مذموما فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما فلا تأثير لأحدهما في الآخر لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا كالصلاة في الدار المغصوبة
وفي الفقه ما يدل على هذا (1/246)
فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح والعتق قبل الملك فيقول للأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق وللعبد إن اشتريتك فأنت حر ويلزمه الطلاق إن تزوج والعتق إذا اشترى وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان له أن يتزوج المرأة وأن يشترى العبد وفي المبسوطة عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ثم يخاف العنت قال أرى له جائزا أن يتزوج ولكن إن تزوج طلقت عليه مع أن هذا النكاح وهذا الشراء ليس فيهما شىء مما قصده الشارع بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني إلا الطلاق والعتق ولم يشرع النكاح للطلاق ولا الشراء للخروج عن اليد وإنما شرعا لأمور أخر والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما
فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أوالعتق ثان عن حصول النكاح أو الملك وعن القصد إليه فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق والمشتري قاصد بشرائه العتق
وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين وإذا كان كذلك فأحد الأمرين جائز إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب وإما بطلان هذه المسائل
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا ففي المدونة فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق أنه ليس من نكاح المتعة فإذا إذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة وقال مالك إن النكاح حلال فإن شاء أن يقيم عليه أقام وإن شاء أن يفارق فارق وقال ابن القاسم وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا قال وهو عندنا نكاح ثابت الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها ولا ينوي ذلك على ذلك نيته واضماره في تزويجها فأمرهما (1/247)
واحد فان شاء آأن يقيما أقاما لأن أصل النكاح حلال ذكر هذه في - المبسوطة
وفي - الكافي في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته أن يطلقها بعد السفر أن قول الجمهور جوازه
وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة وأنه لا يجيزه بالنية كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ بذلك ثم قال وأجازه سائر العلماء ومثل بنكاح المسافرين قال وعندي أنا النية لا تؤثر في ذلك فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي لكان نكاحا نصرانيا
فإذا سلم لفظه لم تضره نيته ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة رجاء الأبدية فإن وجدها وإلا فارق كذلك يتزوج على تحصيل العصمة فإن اغتبط ارتبط وإن كره فارق وهذا كلامه في - كتاب الناسخ والمنسوخ وحكى اللخمي عن مالك فمن نكح لغربة أو لهوى ليقضي أربه ويفارق فلا بأس
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها وأشدها مسألة حل اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه وإنما قصد أن يبر في يمينه ولم يشرع النكاح لمثل هذا ونظائر ذلك كثيرة وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا ثم الفراق ثانيا (1/248)
وهما قصدان غير متلازمين فإن جعلتهما متلازمين في المسالة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر فليكن كذلك في هذ المسائل وحينئذ يبطل جميع ما تقدم فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله وإما بطلان ماتقدم
فالجواب من وجهين أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي فأما الإجمالي فهو أن نقول أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة وما اعترض به ليس بداخل تحتها ولا هي منها بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها فما اتفقوا منها على جوازه فلسلامته من مقتضى أصل المسألة وما اختلفوا فيه فلدخوله عند المانعين تحتها ولسلامته عند المجيزين لأن العلماء لا يتناقض كلامهم ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله ويورد على العالم من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف ويتأمل ويلتمس المخرج ولا يتعسف بإطلاق الرد
وأما التفصيلي فنقول إن هذه لمسائل لا تقدح فيما تقدم أما مسألة التعليق فقد قال القرافي إنها من المشكلات على الإمامين وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا قال وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة لكن العقد صحيح أجماعا فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد قال فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده قال وهذا موضع مشكل على أصحابنا انتهى قوله وهو عاضد (1/249)
لما تقدم ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه وهي
المسألة الثالثة عشرة
وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا فإن علم أو ظن ذلك فلا إشكال في المشروعية وإن لم يعلم ولا ظن ذلك فهو على ضربين أحدهما أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو لأمر خارجي
فإن كان الأول ارتفعت المشروعية أصلا فلا أثر للسبب شرعا البتة بالنسبة إلى ذلك المحل مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى والعقد على الخمر والخنزير والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية والعتق بالنسبة إلى ملك الغير وكذلك العبادات وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غيرالعاقل وما أشبه ذلك
والدليل على ذلك أمران الأول أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة لم يصح أن يكون مشروعا وقد فرضناه مشروعا هذا خلف والثاني أنه لو كان كذلك لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر والعبادات لغير قصد الخضوع لله وكذلك سائر الأحكام وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب وهي المسببات لأمر خارجي مع قبول المحل من حيث نفسه فهل يؤثر ذلك الأمرالخارجي في شرعية السبب (1/250)
أم يجري السبب على أصل مشروعيته هذا محتمل والخلاف فيه سائغ وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور
أحدها أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلف وسيأتي لهذا المعنى تقرير في موضعه إن شاء الله
والثاني وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط وإما أن تعتبر بوجودها فيه فإن اعتبرت بقبول المحل فقط فهو المدعي والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع وهو غير موجود وإن اعتبرت بوجودها في المحل لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع كسفر الملك المترفه فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين وكذلك إبدال الدرهم بمثله وإبدال الدينار بمثله مع أنه لا فائدة في هذا العقد وما أشبه ذلك من السائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته والحكمة غير موجودة
ولا يقال إن السفر مظنة المشقة بإطلاق وإبدال الدرهم بالدرهم مظنة (1/251)
لاختلاف الأغراض باطلاق وكذلك سائر المسائل التي في معناها فليجز التسبب باطلاق بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق فإنها ليست بمظنة للحكمة ولا توجد فيها على حال
لأنا نقول إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية باطلاق فإن قلتم باطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات
بخلاف نكاح القوابة ! المحرمة كالأم والبنت مثلا فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق فهذا من الضرب الأول وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها إذا كان المحل في نفسه قابلا لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا وهذا معقول
والثالث أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها و عدم وقوعها فكم ممن طلق على أثر ايقاع النكاح وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح (1/252)
توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة وهو دور محال فإذا لا بد من الإنتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة
أحدها أن قبول المحل إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن خاصة وإن فرض غير قابل في الخارج فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه
وإما بكونه توجد حكمته في الخارج فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا كان في نفسه قابلا لها ذهنا أولا فإن كان الأول فهو غير صحيح لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد وهي حكم المشروعية فما ليس فيه مصلحة ولا (1/253)
هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج من حيث المقصد الشرعي وإذا استويا امتنعا أو جازا لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه فلا بد من القول بمنعهما مطلقا وهو المطلوب
الثاني أنا لو أعملنا السبب هنا مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم لأن التسبب هنا يصير عبثا والعبث لا يشرع بناء على القول بالمصالح فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول وهذا هو معنى كلام القرافي
والثالث أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار وجود الحكمة فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق بل الظن بوجودها غالب غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته وجعل الإحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكيف لأنه غير منضبط في نفسه إلى أشياء من ذلك كثيرة وأما إبدال الدرهم بمثله فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب فأطلق الجواز لذلك وإذا كان ذلك (1/254)
كذلك فلا دليل فى هذه المسائل على مسألتنا
فصل
وقد حصل فى ضمن هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق وأما مسألة النكاح للبر فى اليمين وما ذكر معها فإنه موضع فيه احتمال للإختلاف وإن كان وجه الصحة هو الأقوى فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله فى محله القابل له كما تقدم بسطه لم يمنع ومن نظر إلى أنه لما كان له نية المفارقة أو كان منظة لذلك أشبه النكاح المؤقت لم يجز هذا وإن كان ابن القاسم لم يحك فى مسألة نكاح البر خلافا فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان
وهذا كاف فيما فيه من الشبهة فالموضع مجال نظر المجتهدين وإذا نظرنا إلى مذهب مالك وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود لكن على أن يرفع حكم اليمين وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذى تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده إلا أنه يتضمن رفع اليمين وهذا غير قادح وكذلك النكاح لقضاء الوطر مقصود أيضا لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذى جعل الشارع له وقد يبدو له فلا يفارق وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة فإنه فى نكاح المتعة بان على شرط التوقيت
وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح إنما قصد به تحليلها (1/255)
للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره لا بحقيقته فلم يتضمن غرضا من أغراضه التى شرع لها وأيضا فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره وأيضا فالنص بمنعه عتيد فيوقف عنده على أنه لو لم يكن فى نكاح المحلل تراوض ولا شرط وكان الزوج هو القاصد لذلك فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد الإستمتاع على الجملة ثم الطلاق فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة ويتضمن ذلك العود إلى الأول أن اتفق على قول ولا يتضمنه على قول وذلك بحكم التبعية وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة فلا يخلو من وجه من النظر
ومما يدل على أن حل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة من صلاة أو حج أو عمرة أو صيام أو ما أشبه ذلك من العبادات أنه يفعله ويصح منه قربة وهذا مثله فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا فى أصل العقد لكان قادحا فى أصل العبادة لأن شرط العبادة التوجه بها إلى (1/256)
المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه فكما تصح العبادة المنذورة أو المحلوف عليها وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين وإلا لم يبر فيه فكذلك هنا بل أولى
وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها فالعقد ببيعها صحيح وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين وكذلك أن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك
وهذا كله راجع إلى أصلين
أحدهما أن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة فى كل فرد من أفراد محالها وإنما يعتبر أن يكون مظنة لها خاصة
والثانى أن الأمور العادية إنما يعتبر فى صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع ولا يشترط ظهور الموافقة وكلا الأصلين سيأتى إن شاء الله تعالى
فصل
والقسم الثالث من القسم الأول هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود له وهذا موضع نظر وهو محل إشكال واشتباه وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره فعلى الأولى يكون التسبب غير مشروع وعلى الثاني يكون مشروعا وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع كان الإقدام على التسبب غير مشروع
لا يقال إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة فلم لا يتسبب به (1/257)
لأنا نقول إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شىء معين مفروض معلوم لا مطلقا وإنما كان يصح التسبب مطلقا إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها ولم تشرع لأمور وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها كالنكاح فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم
ولا يقال الأصل الجواز
لأن ذلك ليس على الإطلاق فالأصل فى الأبضاع المنع إلا بأسباب مشروعة والحيوانات الأصل فى أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا فإذا ثبت هذا وتبين مسبب لا ندرى أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع وهى مذكورة فى - كتاب المقاصد
المسألة الرابعة عشرة
كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا كالقتل يترتب عليه القصاص والدية فى مال الجاني أو العاقلة وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا والكفارة وكذلك التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة والسرقة يترتب عليها الضمان والقطع (1/258)
وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة فى خطاب التكليف المسببة لهذه الأسباب فى خطاب الوضع
وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها كالقتل يترتب عليه ميراث الورثة وإنفاذ الوصايا وعتق المدبرين وحرية أمهات الأولاد والأولاد وكذلك الإتلاف بالتعدى يترتب عليه ملك المتعدى للمتلف تبعا لتضمينه القيمة والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير فى يديه على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه وما أشبه ذلك
فأما الضرب الأول فالعاقل لا يقصد التسبب إليه لأنه عين مفسدة عليه لا مصلحة فيها وإنما الذى من شأنه أن يقصد الضرب الثاني وهو إذا قصد فالقصد إليه على وجهين
أحدهما أن يقصد به المسبب الذى منع لأجله لا غير ذلك كالتشفى فى القتل والإنتفاع المطلق فى المغصوب والمسروق فهذا القصد غير قادح فى ترتب الأحكام التبعية المصلحية لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت (1/259)
مسبباتها إلا من باب سد الذرائع كما فى حرمان القاتل وإن كان لم يقصد إلا التشفى أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه ولكن قالوا إذا تغير المغصوب فى يد الغاصب أو أتلفه فإن من أحكام التغير أنه إن كان كثيرا فصاحبه غير مخير فيه ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة على كراهية عند بعض العلماء وعلى غير كراهية عند آخرين
وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع فى ترتب هذه الأحكام لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما وإنما ناقضه فى إيقاع السبب المنهي عنه والقصد إلى السبب بعينه ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذى هو ناشىء عن الضمان أو القيمة أو مجموعهما وبينهما فرق وذلك أن الغضب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره
فتجب القيمة بسبب التغير الناشىء عن الغصب وحين وجبت القيمة وتعينت صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا لإطلاق فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه لا بسبب الغصب فانفك (1/260)
القصدان فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث وقصد الغاصب الإنتفاع غير قصده لضمان القيمة وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه
وإذا كان كذلك جرى الحكم التابع الذى لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه وترتب نقيض مقصوده فيما قصد مخالفته وذلك عقابه وأخذ المغصوب من يده أو قيمته وهذا ظاهر إلا ما سدت فيه الذريعة
والثانى أن يقصد توابع السبب وهي التى تعود عليه بالمصلحة ضمنا كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته ويتملكه وأشباه ذلك فهذا التسبب باطل لأن الشارع لم يمنع تلك الأشياء فى خطاب التكليف ليحصل بها فى خطاب الوضع مصلحة فليست إذا بمشروعة فى ذلك التسبب ولكن يبقى النظر هل يعتبر فى ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا فى القصد لقصد الشارع عينا حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب
فتنشأ من هنا قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ويطلق الحكم بإعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض وهو مقتضى الحديث فى حرمان القاتل الميراث ومقتضى الفقه فى حديث
المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة (1/261)
وكذلك ميراث المبتوته فى المرض أو تأبيد التحريم على من نكح فى العدة
إلى كثير من هذا أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة ولا يؤثر فى ذلك قصد هذا القاصد فيستوي فى الحكم مع الأول هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين فلنقبض عنان الكلام فيه
النوع الثانى فى الشروط والنظر فيه فى مسائل
المسألة الأولى
أن المراد بالشرط فى هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط أو فيما اقتضاه الحكم فيه كما نقول أن الحول أو امكان النماء (1/262)
مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى والإحصان مكمل لوصف الزنى فى إقتضائه للرجم والتساوي فى الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر والطهارة والإستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الإنتصاب للمناجاة والخضوع وما أشبه ذلك وسواء علينا أكان وصفا (1/263)
للسبب أو العلة أو المسبب أو المعلول أو لمحالها أو لغير ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له بحيث يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط وإن لم ينعكس
كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا ولا فائدة فى التطويل هنا فإنه تقرير اصطلاح (1/264)
المسألة الثانية
وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب فى الشرط فليذكر اصطلاحه فى السبب والعلة والمانع
فأما السبب فالمراد به ما وضع شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم كما كان حصول النصاب سببا فى وجوب الزكاة والزوال سببا فى وجوب الصلاة والسرقة سببا فى وجوب القطع والعقود أسبابا فى إباحة الإنتفاع أو انتقال الأملاك وما أشبه ذلك
وأما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التى تعلقت بها الأوامر أو الإباحة والمفاسد التى تعلقت بها النواهى فالمشقة علة فى إباحة القصر والفطر فى السفر
والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة فعلى الجملة العلة هى المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنها كانت ظاهرة أو غير ظاهرة منضبطة أو غير منضبطة وكذلك نقول فى قوله عليه الصلاة و السلام
لا يقضي القاضي وهوغضبان فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما
ولا مشاحة فى الاصطلاح
وأما المانع فهو السبب المقتضى لعلة تنافي علة ما منع لأنه إنما يطلق (1/265)
بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة ارتفع ذلك الحكم وبطلت تلك العلة لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذى نسب له المانع فيكون رفعا لحكمه فإنه إن لم يكن كذلك كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين وهذا بابه - كتاب التعارض والترجيح فإذا قلنا الدين مانع من الزكاة فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدى به دينه وقد تعين فيما بيده من النصاب فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب وهى الغنى الذى هى علة وجوب الزكاة فسقطت وهكذا نقول فى الأبوة المانعة من القصاص فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل العمد العدوان وما أشبه ذلك مما هو كثير
المسألة الثالثة
الشروط على ثلاثة أقسام أحدها العقلية كالحياة فى العلم والفهم فى التكليف
والثانى العادية كملاصقة النار الجسم المحرق فى الإحراق ومقابلة الرائي للمرئي وتوسط الجسم الشفاف فى الإبصار وأشباه ذلك والثالث الشرعية كالطهارة فى الصلاة والحول فى الزكاة والإحصان فى الزنى وهذا الثالث هو (1/266)
المقصود بالذكر فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين فمن حيث تعلق به حكم شرعى فى خطاب الوضع أو خطاب التكليف ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار فيدخل تحت القسم الثالث
المسألة الرابعة
افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف وليس بجزء والمستند فيه الإستقراء فى الشروط الشرعية ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة حصول النصاب وهى الغنى فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الإنتفاع به فى وجوه المصالح فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذى ظهر به وجه الغنى والحنث فى اليمين مكمل لمقتضاها فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفى الإقدام عليها جناية ما على اسم الله وان اختلفوا فى تقريرها فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث فعند ذلك كمل مقتضى اليمين والزهوق أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب للقصاص أو الدية ومكمل لتقرر حقوق الورثة فى مال المريض مرضا مخوفا
والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها
وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف والإيمان شرط فى صحة العبادات والتقربات فإن العقل إن لم يكن فالتكليف محال عقلا أو سمعا كتكليف العجماوات والجمادات فكيف يقال إنه مكمل بل هو العمدة فى صحة التكليف وكذلك لا يصح أن يقال أن الإيمان مكمل للعبادات فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان وكثير من هذا (1/267)
ويرتفع هذا الإشكال بأمرين أحدهما أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية وكلا منا فى الشروط الشرعية والثانى أن العقل فى الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف وهو الإنسان لا فى نفس التكليف
ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل وأما الإيمان فلا نسلم أنه شرط لأن العبادات مبنية عليه ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح وهذا فرع الإيمان فكيف يكون أصل الشىء وقاعدته التى ينبنى عليها شرطا فيه هذا غير معقول ومن أطلق هنا لفظ الشرط فعلى التوسع فى العبارة وأيضا فإن سلم فى الإيمان أنه شرط ففى المكلف لا فى التكليف ويكون شرط صحة عند بعض وشرط وجوب عند بعض فيما عدا التكليف بالإيمان حسبما ذكره الأصوليون فى مسألة خطاب الكفار بالفروع
المسألة الخامسة
الأصل المعلوم فى الأصول أن السبب إذا كان متوقف التاثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه ويستوي فى ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء
فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط وهذا من كلامهم ظاهر فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطا فيه وقد فرض كذلك هذا خلف وأيضا لو صح (1/268)
ذلك لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا وذلك محال وأيضا فإن الشرط من حيث هو يقتضى أنه لا يقع المشروط إلا عند حضوره فلو جاز وقوعه دونه لكان المشروط واقعا وغير واقع معا وذلك محال والأمر أوضح من الإطناب فيه
ولكنه ثبت فى كلام طائفة من الأصوليون أصل آخر وعزى إلى مذهب مالك أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا قولان اعتبارا باقتضاء السبب أو بتخلف الشرط
فمن راعى السبب وهو مقتض لمسببه غلب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط
ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوعه مسببه لم يراع حضور السبب بمجرده ألا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك فى اقتضائه وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف فى هذا الأصل مطلقا
ويمثلون ذلك بأمثلة منها أن حصول النصاب سبب فى وجوب الزكاة ودوران الحول شرطه ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف واليمين سبب فى الكفارة والحنث شرطها ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين وإنفاذ المقاتل سبب فى القصاص أو الدية والزهوق شرط ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب ولم يحكوا فى هذه الصورة خلافا وفى المذهب إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هى فى ملكه إن شاءت طلقت أو أبقت فاستأذنها فى التزويج فأذنت له فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه وقال مالك ليس لها ذلك بناء على أنها (1/269)
قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف فى التصرف فى أكثر من الثلث جاز مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت فالمرض هو السبب لتملكهم والموت شرط فينفذ إذنهم عند مالك خلافا لأبى حنيفة والشافعي وإن لم يقع الشرط ومن الناس من قال بإنفاذ إذنهم فى الصحة والمرض
فالسبب على رأى هؤلاء هو القرابة ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط وفى المذهب من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل ففى وجوب الغسل عليه ثانية قولان ونفى الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره وقد اغتسل فلا يغتسل له مرة أخرى هذه حجة سحنون وابن المواز فالسبب هو الإنفصال والخروج شرط ولم يتعبر إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل
وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول فإن الأول يقضى بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق والثانى يقضى بأنه صحيح عند بعض العلماء وربما صح باتفاق كما فى مسألة العفو قبل الزهوق ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق والمعلوم صحة الأصل الأول فلا بد من النظر فى كلامهم فى الأصل الثاني أما أولا فنفس التناقض بين الأصلين كاف فى عدم صحته عند العلم بصحة الأصل الأول
وأما ثانيا فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط فإنا نقول من أجاز تقديم الزكاة قبل حلول الحول مطلقا من غير أهل مذهبنا فبناء على أنه ليس بشرط فى الوجوب وإنما هو شرط فى الإنحتام فالحول كله كأنه وقت عند هذا القائل لوجوب الزكاة موسع ويتحتم فى آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة وأما الإخراج قبل الحول بيسير على مذهبنا فبناء (1/270)
على أن ما قرب من الشىء فحكمه حكمه فشرط الوجوب حاصل وكذلك القول فى شرط الحنث من أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط فى الإنحتام من غير تخيير لا شرط فى وجوبها
وأما مسألة الزهوق فهو شرط فى وجوب القصاص أو الدية لا أنه شرط فى صحة العفو وهذا متفق عليه إذ العفو بعده لا يمكن فلا بد من وقوعه قبله إن وقع ولا يصح أن يكون شرطا إذ ذاك فى صحته ووجه صحته أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال فجاز عفوه عنه مطلقا كما يجوز عفوه عن سائر الجراح وعن عرضه إذا قذف وما أشبه ذلك والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق ولو كان كما قالوه لكان فى هذه المسألة قولان
وأما مسألة تمليك المرأة فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه لم يبق لها ما تتعلق به بعده لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط وهو فقه ظاهر (1/271)
ومسألة إذن الورثة بينة المعنى فإن الموت سبب فى صحة الملك لا فى تعلقه والمرض سبب فى تعلق حق الورثة بمال الموروث لا فى تملكهم له فهما سببان كل واحد منها يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر فمن حيث كان المرض سببا لتعلق الحق وإن لم يكن ملك كان إذنهم واقعا فى محله لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث صارت لهم فيه شبهة ملك فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة لأنهم صاروا فى الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض كالأجانب فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق كالثلث
والقائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط لأنهم أذنوا قبل التمليك وقبل حصول الشرط فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها
وأما مسألة الإنزال فيصح بناؤها على أنه ليس بشرط فى هذا الغسل أو لأنه لا حكم له لأنه إنزال من غير اقتران لذة
فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط (1/272)
المسألة السادسة
الشروط المعتبرة فى المشروطات شرعا على ضربين
أحدهما ما كان راجعا إلى خطاب التكليف إما مأمورا بتحصيلها كالطهارة للصلاة وأخذ الزينة لها وطهارة الثوب وما أشبه ذلك وإما منهيا عن تحصيلها كنكاح المحلل الذى هو شرط لمراجعة الزوج الأول والجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة الذى هو شرط لنقصان الصدقة وما أشبه ذلك فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه فالأول مقصود الفعل والثاني مقصود الترك وكذلك الشرط المخير فيه إن اتفق فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف إن شاء فعله فيحصل المشروط وإن شاء تركه فلا يحصل والضرب الثاني ما يرجع إلى خطاب الوضع كالحول فى الزكاة والإحصان فى الزنى والحرز فى القطع وما أشبه ذلك فهذا الضرب ليس للشارع قصد فى تحصيله من حيث هو شرط ولا فى عدم تحصيله فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب علي إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه ولا مطلوب الترك أن يقال يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة وكذلك الإحصان لا يقال أنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى وأيضا فلو كان مطلوبا لم يكن من باب خطاب الوضع وقد فرضناه كذلك هذا خلف والحكم فيه ظاهر فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه من حيث هو فعل داخل تحت قدرته فلا بد من النظر فى ذلك وهى (1/273)
المسألة السابعة
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا فإن كان ذلك فلا إشكال فيه وتنبنى الأحكام التى تقتضيها الأسباب على حضوره وترتفع عند فقده كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة آخرى أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان إلى ما أشبه ذلك
وإن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الإقتضاء (1/274)
فى السبب أن لا يترتب عليه أثره فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا
فمن الأحاديث فى هذا الباب قوله اخرجه البخاري وابو داود صلى الله عليه و سلم
لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وقال صلى الله عليه و سلم
البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله روى ! عن احمد وقال
من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن تسبق (1/275)
فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار رواه في التيسير عن ابو داود
وقلل فى حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم
من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط الحديث ونهى عليه الصلاة و السلام عن بيع وشرط وعن بيع وسلف وعن شرط فى شرط وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها ومنه حديث
من اقتطع مال امرىء مسلم بيمينه رواه الطبراني والحاكم وقال صحيح الاسناد وحديث
إن اليمين على نية المستحلف رواه مسلم وابو داود والترمذي وعليه جاءت الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية وفى القرآن أيضا ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله الآية وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا وقال تعالى يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وما فى معنى ذلك من الأحاديث وقال فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وما جاء من أحاديث
لعن المحلل والمحلل له والتيس المستعار وحديث وذكره في التيسير عن ابي هريرة
التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة (1/276)
الدر وسائر أحاديث النهي عن الغش والخديعة والخلابة والنجش وحديث
امرأة رفاعة القرظي حين طلقها وتزوجها عبد الرحمن بن الزبير
والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا (1/277)
وأيضا فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة عبثا لا حكمة له ولا منفعة به وهذا مناقض لما ثبت فى قاعدة المصالح ومنها معتبرة فى الأحكام وأيضا فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد وحصل فى الوجود صار مقتضيا شرعا لمسببه لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع فى وضعه سببا وقد تبين أن مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل
فإن قيل المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده كان كما لو لم يقصد ذلك ولا تأثير للقصد وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا كالحول فى الزكاة فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط لا عند فقدها فإذا لم ينتهض سببا كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى من معاني الإنتفاع فلا تجب عليه الزكاة لأن السبب لم يقتض ايجابها لتوقفه على ذلك الشرط (1/278)
الذي ثبت اعتباره شرعا فمن حيث قيل فيه إنه مخالف لقصد الشارع يقال إنه موافق وهكذا سائر المسائل
فالجواب أن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب وأما مع القصد إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن االشرع شهد له بالإلغاء على القطع
ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهى عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الإفتراق ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرط يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج وكذلك قوله ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت له بسبب العقد وعن الإتيان بشرط الفرس المجلية للجعل بقصد أخذه لا بقصد المسابقة معه ومثله مسائل الشروط فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة فإن العقد (1/279)
على الكتابة اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه ومن ذلك الولاء فمن شرط أن الولاء له من البائعين فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه وإذا كان منهيا عنه كان مضادا لقصد الشارع
فيكون باطلا
فصل
هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا
الجواب أن فى ذلك تفصيلا وهو أن نقول لا يخلو أن يكون الشرط الحاصل فى معنى المرتفع أو المرفوع فى حكم الحاصل معنى أو لا
فإن كان كذلك فالحكم الذي اقتضاه السبب عى حاله قبل هذا العمل
والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى التفرقة أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت عليه وكالناكح لتظهر صورة الشرط ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا وأشباه ذلك لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ولا فائدة فيه تقصد شرعا
وإن لم يكن كذلك فالمسألة محتملة والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه (1/280)
أحدها أن يقال إن مجرد انعقاد السبب كاف فإنه هو الباعث على الحكم وإنما الشرط أمر خارجي مكمل وإلا لزم أن يكون الشرط جزء العلة والفرض خلافه وأيضا فإن القصد فيه قد صار غير شرعي فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع فهو فى حكم ما لم يعمل فيه واتحد مع القسم الأول فى الحكم فلا يترتب على هذا العمل حكم ومثال ذلك إن أنفق النصاب قبل الحول فى منافعه أو وهبه هبة بتلة لم يرجع فيها أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول وما أشبه ذلك فقد علمنا حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم أنه قاصد لثبوت الحكم به فإذا أخذ هذا يرفع حكم السبب مع انتهاضه سببا كان مناقضا لقصد الشارع وهذا باطل وكون الشرط حين رفع أو وضع على وجه يعتبره الشارع على الجملة قد أثر فيه القصد الفاسد فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا فكان كالمعدوم بإطلاق والتحق بالقسم الأول
والثاني أن يقال إن مجرد انعقاد السبب غير كاف فإنه وإن كان باعثا قد جعل فى الشرع مقيدا بوجود الشرط فإذا ليس كون السبب باعثا بقاطع فى أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه فإذا كان كذلك فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل فى رفع الشرط (1/281)
لم يناقض قصده قصد الشارع من كل وجه وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه وهو الشرط أو عدمه لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة قصد الشارع على الجملة لاعينا لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها
وأيضا فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا فى وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا فى منع صاحبه منه وفى تملك الغاصب له ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا فى ارتفاع ذلك الحكم
وعلى هذ 1 الأصل ينبنى صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر فى رمضان قصدا للإفطار أو أخر صلاة حضر عن وقتها الإختيارى ليصليها فى السفر ركعتين أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها قال فجميع ذلك مكروه ولا يجب على هذا في السفر صيام ولا أن يصلي أربعا ولا على الحائض قضاؤها وعليه أيضا يجري الحكم فى الحالف ليقضين فلانا حقه الى شهر وحلف بالطلاق الثلاث فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث فلما انقضى الأجل راجعها
فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث وليست بزوجة لأن الخلع ماض شرعا وإن قصد به قصد الممنوع
والثالث أن يفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين فيبطل العمل فى الشرط فى حقوق الله وإن ثبت له فى نفسه حكم شرعي كمسألة الجمع بن المفترق والفرق بين المجتمع ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول لأن الزكاة من حقوق الله وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله لغلبة حقوق الله فى النكاح على حقوق الآدميين وينفذ مقتضى الشرط فى حقوق الآدميين كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك (1/282)
هذا كله مالم يدل دليل خاص على خلاف ذلك فإنه ان دل دليل خاص على خلافه صير إليه ولا يكون نقضا على الأصل المذكور لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله أو إلى حق الأدميين
ويبقى بعد ما إذ اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد والله أعلم
المسألة الثامنة
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام
أحدها أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال كاشتراط الصيام فى الإعتكاف عند من يشترطه واشتراط الكفء والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان فى النكاح واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة فى الثمن فى البيع واشتراط العهدة فى الرقيق واشتراط مال العبد وثمرة الشجر وما أشبه ذلك وكذا اشتراط الحول فى الزكاة والإحصان فى الزنى وعدم الطول فى نكاح الإماء والحرز فى القطع فهذا القسم لا إشكال فى صحته شرعا لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضى حكما فإن الإعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على وجه لائق بلزوم المسجد كان للصيام فيه أثر ظاهر ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجيين والعصبة وأولى بمحاسن العادات كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح وهكذا الإمساك بمعروف وسائر تلك الشروط المذكورة تجري علىهذاالوجه فثبوتها شرعا واضح (1/283)
والثاني أن يكون غير ملاءم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته بل هو على الضد من الأول كما إذا اشترط فى الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب أو اشترط فى الإعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأى مالك أو اشترط فى النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين أو شرط فى البيع أن لا ينتفع بالمبيع أو إن انتفع فعلى بعض الوجود دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف وأن يصدقه فى دعوى التلف وما أشبه ذلك فهذا القسم أيضا لا إشكال فى إبطاله لأنه مناف لحكمة السبب فلا يصح أن يجتمع معه فإن الكلام فى الصلاة مناف لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له
وكذلك المشترط في الإعتكاف الخروج مشترط ما ينافى حقيقة الإعتكاف من لزوم المسجد واشترط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل وأضر بالزوجة فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤآلفة وهكذا سائر الشروط المذكورة إلا أنها إذا كانت باطلة فهل تؤثر فى المشروطات أم لا هذا محل نظر يستمد من المسألة التي قبل هذه
والثالث أن لا يظهر فى الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة وهو محل نظر هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا والقاعدة المستمرة فى أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة لأن الأصل (1/284)
فيها التعبد دون الإلتفات إلى المعاني والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن إذ لا مجال للعقول فى اختراع التعبدات فكذلك ما يتعلق بها من الشروط
وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة لأن الأصل فيها الإلتفات إلى المعاني دون التعبد والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه والله أعلم
النوع الثالث فى الموانع وفيه مسائل
المسألة الأولى
الموانع ضربان أحدهما مالا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب والثاني ما يمكن فيه ذلك وهو نوعان أحدهما يرفع أصل الطلب والثاني لا يرفعه ولكن يرفع انحتامه وهذا قسمان أحدهما أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه والآخر أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب
فهذه أربعة أقسام
فأما الأول فنحو زوال العقلي بنوم أو جنون أو غيرهما وهو مانع من أصل الطلب جملة لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه لأنه إلزام يقتضي التزاما وفاقد العقل لا يمكن إلزامه كما لا يمكن ذلك فى البهائم والجمادات
فإن تعلق طلب يقتضى استجلاب مصلحة أو درء مفسدة فذلك راجع (1/285)
إلى الغير كرياضة البهائم وتأديبها والكلام فى هذا مبين فى الأصول
وأما الثاني فكالحيض والنفاس وهو رافع لأصل الطلب وإن أمكن حصوله معه لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به ألبتة كالصلاة ودخول المسجد ومس المصحف وما أشبه ذلك وأما ما يطلب به بعد رفع المانع فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور لا حاجة لنا إلى ذكره هنا
والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان كذلك لاجتمع الضدان لأن الحائض ممنوعة من الصلاة والنفساء كذلك فلو كانت مأمورة بها أيضا لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شىء واحد وهو محال وأيضا إذا كانت مأمورة أن تفعل وقد نهيت أن تفعل لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا وهو محال وأيضا فلا فائدة فى الأمر بشىء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ولا بعد ارتفاعه لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق
وأما الثالث فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات الجارية فى الدين مجرى التحسين والتزيين لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا بحكم (1/286)
التبع فإن تمكنوا منها جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها وهم الأحرار الذكور وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها وأما مع عدم القدرة عليها فالحكم مثل الذي قبل هذا
وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الإنحتام بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره تركه للجمعة وما أشبه ذلك
المسألة الثانية
الموانع ليست بمقصودة للشارع بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها وذلك أنها على ضربين
ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجوب إخراج الزكاة وإن وجد النصاب فهو متوقف على فقد المانع وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما ومن الإعتداد بما طبق فى حال كفره إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض (1/287)
إلا بحقها فالنظر فى هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة
والضرب الثاني هو المقصود وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك فليس للشارع قصد فى تحصيله من حيث هو مانع ولا فى عدم تحصيله فإن المديان ليس بمخاطب برفع الدين إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة كما أن مالك الناصب غير مخاطب بتحصيل الإستدانة لتسقط عنه لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب والدليل على ذلك أن وضع السبب مكمل الشروط يقتضى قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه وإلا فلو لم يكن كذلك لم يكن موضوعا على أنه سبب وقد فرض كذلك هذا خلف وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب هذا خلف
فإن القصدين متضادان ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك لم يثبت فى الشرع مانعا وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع لم يثبت حصوله معتبرا شرعا وإذا لم يعتبر لم يكن مانعا من جريان حكم السبب وقد فرض كذلك وهو عين التناقض
فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه ففي ذلك تفصيل وهي
المسألة الثالثة
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أومنهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا فإن كان الأول فظاهر كالرجل يكون بيده له نصاب لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع وإن كان الثاني وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا قصدا (1/288)
لإسقاط حكم السبب المقتضى أن لا يترتب عليه ما اقتضاه فهوعمل غير صحيح
والدليل على ذلك من النقل أمور من ذلك من النقل أمور من ذلك قوله جل وعلا إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا الآية فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين بتحريهم المانع من إتيانهم وهو وقت الصبح الذى لا يبكر فى مثله المساكين عادة والعقاب إنما يكون لفعل محرم وقوله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا نزلت بسبب مضارة الزوجات بالإرتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا وأن لا تنقضى عدتها إلا بعد طول فكان الإرتجاع بذلك القصد إذ هو مانع من حلها للأزواج
وفى الحديث
قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها رواه الشيخان فباعوها وفى بعض الروايات وأكلوا أثمانها وقال عليه الصلاة و السلام
ليشربن (1/289)
ناس من أمتى الخمر ويسمونها بغير عن احمد اسمها وفى رواية
ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر رواه البخاري في التيسير والمعازف الحديث وفى بعض الحديث
يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنى بالنكاح والربا بالبيع فكأن المستحل هنا رأى أن المانع هو الإسم فنقل المحرم إلى اسم آخر حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له وقال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار فاستثنى الإضرار فإذا أقر فى مرضه بدين لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه كان مضارا والإضرار ممنوع باتفاق
وقال تعالى ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية قال أحمد بن حنبل عجبت مما يقولون فى الحيل والأيمان يبطلون الأيمان بالحيل وفى الحديث
لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ اخرجه الشيخان وفيه
إذا سمعتم به يعنى الوباء بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا (1/290)
تخرجوا فرارا منه رواه الترمذي
والأدلة هنا فى الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح رضى الله تعالى عنهم
وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب فى الشروط جار معناه فى الموانع ومن هنالك يفهم حكمها وهل يكون العمل باطلا أم لا فينقسم إلى الضربين
فلا يخلوا أن يكون المانع المستجلب مثلا فى حكم المرتفع أو لا فإن كان كذلك فالحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به وإن لم يكن كذلك بل كان المانع واقعا شرعا كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه فهو محل نظر على وزان ما تقدم فى الشروط ولا فائدة فى التكرار
النوع الرابع فى الصحة والبطلان وفيه مسائل
المسألة الأولى فى معنى الصحة
ولفظ الصحة يطلق باعتبارين أحدهما أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه فى الدنيا كما نقول فى العبادات إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة ومبرئة (1/291)
للذمة ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء وما أشبه ذلك من العبادات المنبئة عن هذه المعانى وكما نقول فى العادات إنها صحيحة بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك واستباحة الأبضاع وجواز الإنتفاع وما يرجع إلى ذلك والثانى أن يراد به ترتب آثار العمل عليه فى الآخرة كترتب الثواب فيقال هذا عمل صحيح بمعنى أنه يرجى به الثواب فى الآخرة ففي العبادات ظاهر وفى العادات يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع وقصد به مقتضى الأمر والنهى وكذلك فى المخير إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره لا من حيث قصد مجرد حظه فى الإنتفاع غافلا عن أصل التشريع فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى وهو وإن كان طلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره
وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون وتأمل ما حكاه الغزالي فى - كتاب النية والإخلاص من ذلك
المسألة الثانية فى معنى البطلان
وهو ما يقابل معنى الصحة فله معنيان
أحدهما أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه فى الدنيا كما نقول فى العبادات إنها غير مجزئة ولا مبرئة للذمة ولا مسقطه للقضاء فكذلك نقول إنها باطلة بذلك المعنى غير أن هنا نظرا فإن كون العبادة باطلة إنما هو (1/292)
لمخالفتها لما قصد الشارع فيها حسبما هو مبين فى موضعه ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة فيطلق عليها لفظ البطلان اطلاقا كالصلاة من غير نية أو ناقصة ركعة أو سجدة أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل
وقد تكون راجعة إلى وصف خارجى منفك عن حقيقتها وإن كانت متصفة به كالصلاة فى الدار المغصوبة مثلا فيقع الإجتهاد فى اعتبار الإنفكاك فتصح الصلاة لأنها واقعة على الموافقة للشارع ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف أو فى اعتبار الإتصاف فلا تصح بل تكون فى الحكم باطلة من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هى المنفكة عن هذا الوصف وليس للصلاة فى الدار المغصوبة كذلك وهكذا سائر ما كان فى معناها
ونقول أيضا فى العادات إنها باطلة بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا من حصول أملاك واستباحة فروج وانتفاع بالمطلوب ولما كانت العاديات فى الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين أحدهما من حيث هى أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا والثانى من حيث هى راجعة إلى مصالح العباد
فأما الأول فاعتبره قوم بإطلاق وأهملوا النظر فى جهة المصالح وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق كالعبادات المحضة سواء وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد وسيأتى فى - كتاب المقاصد بيان أن فى كل ما يعقل معناه تعبدا
وإذا كان كذلك فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج فى ذلك الفعل عن مقتضى خطابه والخروج فى الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير (1/293)
مشروعة وغير المشروع باطل فهذا كذلك كما لم تصح العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع
وأما الثاني فاعتبره قوم أيضا لا مع إهمال الأول بل جعلوا الأمر منزلا على اعتبار المصلحة بمعنى أن المعنى الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل بحيث لا يمكن التلافى فيه بطل العمل من أصله وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه لأن النهي يقتضى أن لا مصلحة للمكلف فيه وإن ظهرت مصلحته لبادىء الرأى فقد علم الله أن لا مصلحة فى الإقدام وإن ظنها العامل وإن لم يحصل مدة كان فى حكم الحاصل لكن أمكن تلافيه لم يحكم بإبطال ذلك العمل كما يقول مالك فى - بيع المدبر إنه يرد إلا أن يعتقه المشترق فلا يرد فإن البيع إنما منع لحق العبد فى العتق أو لحق الله فى العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير فإن البيع يفيته فى الغالب بعد موت السيد فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع فى العتق فلم يرد لذلك وكذلك الكتابة الفاسدة ترد مالم يعتق المكاتب
وكذلك بيع الغاصب للمغصوب موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده لأن المنع إنما كان لحقه فإذا أجازه جاز ومثله البيع والسلف منهي عنه فإذا (1/294)
أسقط مشترط السلف شرطه جاز ما عقداه ومضى على بعض الأقوال وقد يتلافى باسقاط الشرط شرعا كما فى حديث بريرة وعلى مقتضاه جرى الحنفية فى تصحيح العقود الفاسدة كنكاح الشغار والدرهم بالدرهمين ونحوهما إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي فصار العقد موافقا لقصد الشارع إما على حكم الإنعطاف إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول أو غير حكم الإنعطاف إن قلنا إن تصحيحه وقع الآن لا قبل وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد
والثاني من الإطلاقين أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه فى الآخرة وهو الثواب ويتصور ذلك فى العبادات والعادات
فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول فلا يترتب عليها جزاء لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا فالأول كالمتعبد رئاء الناس فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب والثاني كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى وقد قال تعالى يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس الآية وقال لئن اشركت ليحبطن عملك وفى الحديث (1/295)
أبلغى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لم يتب رواه احمد وضعفه الزرقاني على تأويل من جعل الإبطال حقيقة
وتكون أعمال العادات باطلة أيضا بمعنى عدم ترتب الثواب عليها سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا فالأول كالعقود المفسوخة شرعا
والثانى كالأعمال التى يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعى بحكم الإتفاق لا بالقصد إلى ذلك فهى أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن لما يترتب عليها من المصلحة فى الدنيا فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه وتبقى جهة قصد الإمتثال مفقودة فيكون ما يترتب عليها فى الآخرة مفقودا أيضا لأن الأعمال بالنيات والحاصل أن هذه الأعمال التى كان الباعث عليها الهوى المجرد إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت ما عندكم ينفد وما عند الله باق من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب أذهبتم (1/296)
طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر أو فيه إشارة إلى هذا المعنى فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم فى الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم فى الآخرة وانظر فى الإحياء وغيره
المسألة الثالثة
ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثانى يحتمل تقسيما لكن بالنسبة إلى الفعل العادى إذ لا يخلو الفعل العادى إذا خلا عن قصد التعبد أن يفعل بقصد أو بغير قصد والمفعول بقصد إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر فى موافقة قصد الشارع أو مخالفته وإما أن ينظر مع ذلك فى الموافقة فيفعل أو فى المخالفة فيترك إما اختيارا وإما اضطرارا
فهذه أربعة أقسام
أحدها أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير فليس فيه ثواب ولا عقاب لأن الجزاء فى الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته
والثانى أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك
كالأول وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الوادائع والأمانات والإنفاق على الأولاد وأشباه ذلك ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع لأن الأعمال بالنيات وقد قال فى الحديث رواه الشيخان
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ومعنى الحديث متفق عليه ومقطوع به فى الشريعة فهذا القسم والذى قبله باطل (1/297)
بمقتضى الإطلاق الثانى
والثالث أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثانى لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها فإنها صحيحة على الإطلاق الأول إذ كانت مسقطة للقضاء ومبرئة للذمة وباطلة على هذا الإطلاق الثانى وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها فى الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ولذلك كانت الحدود كفارات فقط فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا على حال وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات
والرابع أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه فى المباح أما المأمور به يفعله بقصد الإمتثال أو المنهى عنه يتركه بذلك القصد أيضا فهو من الصحيح بالإعتبارين كما أنه لو ترك المأمور به (1/298)
أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة فهو من الباطل بالإعتبارين فإنما يبقى النظر فى فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل فى النظر ثلاثة أوجه أحدها أن يكون صحيحا بالإعتبار الأول باطلا بالإعتبار الثاني وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم فى تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم
والثانى أن يكون صحيحا بالإعتبارين معا بناء على تحريه فى نيل حظه مما أذن له فيه دون مالم يؤذن له فيه وعلى هذا نبه رواه مسلم الحديث فى الاجر فى وطء الزوجة وقولهم
أيقضى شهوته ثم يؤجر فقال أرأيتم لو وضعها فى حرام وهذا مبسوط فى - كتاب المقاصد من هذا الكتاب والثالث أن يكون صحيحا بالإعتبارين معا فى المباح الذى هو مطلوب الفعل بالكل وصحيحا بالإعتبار الأول باطلا بالإعتبار الثاني فى المباح الذى هو مطلوب الترك بالكل وهذا هو الجاري على ما تقدم فى القسم الأول من قسمي الأحكام
ولكنه مع الذى قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح والأول بالنظر إليه فى نفسه
فصل
وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالإعتبار الثانى فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة فإن كان عبادة فلا تقسيم فيه على الجملة وإن كان عادة فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ أو لا والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا فهذه ثلاثة أقسام أحدها ما لا يصحبه حظ فلا إشكال فى صحته والثانى كذلك لأن الغالب هو الذى له الحكم وما سواه فى حكم المطرح والثالث محتمل لأمرين أن يكون صحيحا بالإعتبار الثانى أيضا إعمالا للجانب المغلوب واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح فى (1/299)
العاديات بخلاف العباديات وأن يكون صحيحا بالإعتبار الأول دون الثاني إعمالا لحكم الغلبة وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور فى - كتاب المقاصد من هذا الكتاب والحمد لله
النوع الخامس فى العزائم والرخص والنظر فيه فى مسائل
المسألة الأولى
العزيمة ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض ولا ببعض الأحوال دون بعض كالصلاة مثلا فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم فى كل شخص وفى كل حال وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائرالإسلام الكلية ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي فى الأصل كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة وسائر عقود المعاوضات وكذلك أحكام الجنايات والقصاص والضمان وبالجملة جميع كليات الشريعة ومعنى شرعيتها ابتداء أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر فلا يسبقها حكم شرعى قبل ذلك فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير كان هذا الأخير كالحكم الإبتدائى تمهيدا للمصالح الكلية العامة (1/300)
ولا يخرج عن هذا ما مكان من الكليات واردا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكاما كقوله تعالى يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية وقوله فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه وما كان مثل ذلك فإنه تمهيد لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة إلى ذلك فكل هذا يشمله اسم العزيمة فإنه شرع ابتدائي حكما كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا كقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقوله تعالى اقتلوا المشركين ونهى صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان هذا وما أشبهه من العزائم لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية
وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الإقتصار على مواضع الحاجة فيه فكونه مشروعا لعذر هو الخاصة التي ذكرها (1/301)
علماء الأصول
وكونه شاقا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة كشرعية القراض مثلا فإنه لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ويجوز حيث لا عذر ولا عجز
وكذلك المساقاة والقرض والسلم فلا يسمى هذا كله رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يسمى رخصة أيضا وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة فمشروع في حقه الإنتقال إلى الجلوس وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة لكن بسبب المشقة استثنى فلم يتحتم عليه القيام فهذا رخصة محققة فإن كان هذا المترخص إماما فقد جاء في الحديث
إنما جعل الإمام ليؤتم به ثم قال وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون اخرجه في التيسير الخمسة الا الترمذي فصلاتهم جلوسا وقع لعذر إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه فلا يسمى مثل هذا رخصة وإن كان مستثنى لعذر
وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبين لك أن الرخص ليست بمشروعه ابتداء فلذلك لم تكن كليات في الحكم وإن عرض لها ذلك فبالعرض فإن المسافرإذا أجزنا له القصر والفطر فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم هذا وإن كانت (1/302)
آيات الصوم نزلت دفعة واحدة فإن الإستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى فمن اضطر الآية
وكونه مقتصرا به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضا لابد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلى إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم والمريض إذا قدر على القيام فى الصلاة لم يصل قاعدا وإذا قدر على على مس الماء لم يتيمم وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الإصطلاح لأنه مشروع أيضا وإن زال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الإقتراض وأن يساقى حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالإستئجار عليه وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالإستئجار وكذلك ما أشبهه فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي
فصل
وقد تطلق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي يقتضى المنع مطلقا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد (1/303)
الصاع من الطعام في مسألة المصراة وبيع العرية بخرصها تمرا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وعليه يدل قوله
نهى عن بيع ما ليس عندك
وأرخص فى السلم وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل فيجري عليها حكمها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الإستثناء من أصل ممنوع وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا من أصل الحاجيات فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات كالمصلي لا يقدر على القيام فإن الرخصة في حقه ضرورية لاحاجية وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه وهذا كله ظاهر
فصل
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا وقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال (1/304)
التي كانت عليهم فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث روي في التيسير عن البخاري ومسلم
أنه عليه الصلاة و السلام صنع شيئا ترخص فيه ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر
إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة بالنسبة إلى ما حمله الأمم السالفة من العزائم الشاقة
فصل
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل المجهود في عبادته لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حظا ينالونه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم كانت الأوامر وجوبا أو ندبا والنواهي كراهة أو تحريما وترك (1/305)
كل ما يشغل عن ذلك من المباحات فضلا عن غيرها لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف
فالعزائم حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه وإثباتا لحظه وتصير المباحات عند هذا النظر تتعارض مع المندوبات على الأوقات فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله وحق الله هو المقدم والمقصود
فإن على العبد بذل المجهود والرب يحكم ما يريد
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال وعليه يربون التلاميذ ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما (1/306)
بان لك في هذا الإطلاق الأخير وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى
فصل
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس وما هو عام للناس كلهم فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول وعليه يقع التفريع في هذا النوع وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا إذ لا تفريع يترتب عليه وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي
وكذلك الثالث وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص
إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى
المسألة الثانية
حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة والدليل على ذلك أمور
أحدها موارد النصوص عليها كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم وقوله وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية وقوله من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية إلى آخرها وأشباه ذلك من (1/307)
النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله فلا إثم عليه وقوله فإن الله غفور رحيم ولم يرد في جميعها أمر يقتضى الإقدام على الرخصة بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة وهو الإثم والمؤآخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل كقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح وبجواز الإقدام خاصة وقال تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وفي الحديث
كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنا المقصر ومنا المتم ولا يعيب بعضنا على بعض والشواهد على ذلك كثيرة
والثاني أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه (1/308)
حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق متاعا لكم ولأنعامكم بعد تقرير نعم كثيرة وأصل الرخصة السهولة ومادة رخص للسهولة واللين كقولهم شىء رخص بين الرخوصة ومنه الرخص ضد الغلاء ورخص له في الأمر فرخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه فمال هو إلى ذلك وهكذا سائر استعمال المادة
والثالث أنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا والحال بضد ذلك فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه
والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها فإذا كان كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة
فإن قيل هذا معترض من وجهين
أحدهما أن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشىء أن يكون ذلك الشىء مباحا فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا أما أولا فقد قال تعالى إن الصفا والمروة (1/309)
من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وهما مما يجب الطواف بينهما وقال تعالى ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى والتأخر مطلوب طلب الندب وصاحبه أفضل عملا من المتعجل إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى ولا يقال إن هذه المواضع نزلت على أسباب حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة لأنا نقول مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب وهي توهم الجناح كقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقوله ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى آخرها وقوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص فينبغى أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي
والثاني أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة وأنه سنة وقيل في قصر المسافر إنه فرض أو سنة أو (1/310)
مستحب وفي الحديث
إن الله يحب أن تؤتى رخصه وقال ربنا تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر إلى كثير من ذلك فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل
فالجواب عن الأول أنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضى الإذن في التناول والإستعمال فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على إستقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم لإثم في الطواف بالبيت بالثياب وفي بعض المأكولات حتى نزل قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق وكذلك في الأكل من بيوت الآباء والأمهات وسائر من ذكر في الآية وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك فكذلك قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما يعطى معنى الإذن وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله إن الصفا والمروة من شعائر الله أو من دليل آخر فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه ولنا أن نحمله على خصوص السبب (1/311)
ويكون مثل قوله في الآية من شعائر قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع أما ماله سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه وعلى هذا الترتيب يجرى القول في الآية الأخرى وسائر ما جاء في هذا المعنى
والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخص بعينها وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه ردا لنفسه من ألم الجوع
فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه فلا شك أن الزوال عنه مطلوب وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ومثل هذا لا يسمى رخصة لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو ممور ! بإحياء نفسه فلا يسمى رخصة من هذا الوجه وإن سمى (1/312)
رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة وهذا فرد من أفراده ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج وهذا فرد من أفرادها
فلم تتحد الجهتان وإذا تعددت الجهات زال التدافع وذهب التنافى وأمكن الجمع وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة بل هو عزيمة متعبد بها عنده ويدل عليه حديث عائشة رضى الله عنها فى القصر
فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث اخرجه الستة الا النسائي كما في التفسير وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة لأنها شرعت فى السماء خمسين ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة وذلك لا يكون كما تقدم فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة وأما قوله
إن الله يحب أن تؤتى رخصة فسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى وأيضا فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه فى الأحكام التكليفية فلا تنافى وأما قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم (1/313)
العسر وما كان نحوه فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج وبالله التوفيق
المسألة الثالثة
إن الرخصة إضافية لا أصلية بمعنى أن كل أحد فى الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعى فيوقف عنده وبيان ذلك من أوجه
أحدها أن سبب الرخصة المشقة والمشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها وبحسب الأزمان وبحسب الأعمال فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة فى رفقة مأمونة وأرض مأمونة وعلى بطء وفى زمن الشتاء وقصر الأيام كالسفر على الضد من ذلك فى الفطر والقصر وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشتقاته يختلف فرب رجل جلد ضرى على قطع المهامة حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ولا يتألم بسببها يقوى على عباداته وعلى أدائها على كمالها وفى أوقاتها ورب رجل بخلاف ذلك وكذلك فى الصبر على الجوع والعطش ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة وغير ذلك من الأمور التى لا يقدر على ضبطها
وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة فى التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد فى جميع الناس ولذلك أقام الشرع فى جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر (1/314)
لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد أي إن كان قصر أو فطر ففى السفر وترك كثيرا منها موكولا إلى الإجتهاد كالمرض وكثير من الناس يقوى فى مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر وهذا لا مرية فيه فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلى ولا ضابطا مأخوذ باليد بل هو إضافى بالنسبة إلى كل مخاطب فى نفسه فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك هذا وجه
والثانى أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها طمعا فى رضى المحبوبين واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم بل لذة لهم ونعيم وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم
فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات
والثالث ما يدل على هذا من الشرع كالذى جاء فى وصال الصيام وقطع الأزمان فى العبادات فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ثم فعله من بعد النبى صلى الله عليه و سلم علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود فى حقهم ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ولايقطعهم عن سلوك طريقهم فلا حرج فى حقهم وإنما الحرج فى حق من (1/315)
يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها وهو غير منتهض إلا أن يجعله منضما إلى ما قبله فالإستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور فى فصل العموم فى - كتاب الأدلة
فإن قيل الحرج المعتبر فى مشروعية الرخصة إما أن يكون مؤثرا فى المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه وإذا كانت مأمورا بها فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة وإن كان الثانى فلا حرج فى العمل ولا مشقة إلا ما فى الأعمال المعتادة وذلك ينفى كونه حرجا (1/316)
ينتهض علة للرخصة وإذا انتفى محل الرخصة فى القسمين ولا ثالث لهما ارتفعت الرخصة من أصلها والإتفاق على وجودها معلوم هذا خلف فما انبنى عليه مثله
فالجواب من وجهين
أحدهما أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر لأنه يقتضى أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ولم يعتبر فى الإلزامات
والثانى أنه إن سلم فلا يلزم السؤال لأمرين أحدهما أن انحصار الرخص فى القسمين لا دليل عليه لإمكان قسم ثالث بينهما وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا فى العمل ولا يكون المكلف رخى البال عنده كل أحد يجد من نفسه فى المرض أو السفر حرجا فى الصوم مع أنه لا يقطعه عن سفره ولا يخل به فى مرضه ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل وكذلك سائر ما يعرض من الرخص جار فيه هذا التقسيم والثالث هو محل الإباحة إذ لا جاذب يجذبه لأحد الطرفين والآخر أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من (1/317)
جهة كونه رخصة بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدى إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا فالطلب من حيث النهى عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ومع مدافعة الأخبثين ونحو ذلك فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هى رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة والله أعلم
المسألة الرابعة
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هى من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك
فالذى يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر
وذلك ظاهر فى قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فى الآية الأخرى فإن الله غفور رحيم فلم يذكر فى ذلك أن له الفعل والترك وإنما ذكر أن التناول فى حال الإضطرار يرفع الإثم وكذلك قوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ولم يقل فله الفطر ولا فليفطر ولا يجوز له بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام آخر وكذلك قوله فليس عليكم جناح أن تقصروا (1/318)
من الصلاة على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ولم يقل فلكم أن تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا وقال تعالى فى المكره من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولم يقل فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق وفى الحديث
أكذب امرأتى قال له لا خير فى الكذب قال له أفأعدها وأقول لها قال لا جناح عليك ولم يقل له نعم ولا أفعل إن شئت اخرجه مالك
والدليل على أن التخيير غير مراد فى هذه الأمور أن الجمهور أو الجميع يقولون من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الاكراه مأجور وفى أعلى الدرجات
والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر فكذلك غيره من المواضع المذكورة وسواها (1/319)
وأما الإباحة التى بمعنى التخيير ففى قوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم يريد كيف شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب
فهذا تخيير واضح وكذلك قوله وكلا منها رغدا حيث شئتما وما اشبه ذلك وقد تقدم فى قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين فإن قيل ما الذى ينبنى على الفرق بينهما
قيل ينبنى عليه فوائد كثيرة ولكن العارض فى مسألتنا أنا إن قلنا الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير
وليس كذلك إذا قلنا إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ألا ترى أنه موجود مع الواجب وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره فى العمل بها فرق لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الإنتقال وسيأتى لهذا بسط إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة
الترخص المشروع ضربان
أحدهما أن يكون فى مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا كالمرض الذى يعجز معه استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا أو عن الصوم لفوت النفس أو شرعا كالصوم المؤدى إلى عدم القدرة على الحضور فى الصلاة أو على إتمام أركانها وما أشبه ذلك
والثانى أن يكون فى مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها وأمثلته ظاهرة (1/320)
فأما الأول فهو راجع إلى حق الله فالترخص فيه مطلوب ومن هنا جاء
ليس من البر الصيام فى السفر الخمسة الا الترمذي وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان
وإذا حضرالعشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء عن الشيخان إلى ما كان نحو ذلك فالترخص فى هذا الموضع ملحق بهذا الأصل ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم
ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف وأن من لم يفعل ذلك فمات دخل النار
وأما الثاني فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ إلا أنه على ضربين أحدهما أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها كالجمع بعرفة والمزدلقة فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم حتى عده الناس سنة لا مباحا
لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة إذ الطلب الشرعي فى الرخصة لا ينافى كونها رخصة كما يقوله العلماء فى أكل الميتة للمضطر فإذا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة وفى حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم والثاني أن لا يختص بالطلب بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج فهو على أصل الإباحة فاللمكلف الأخذ بأصل العزيمة وإن تحمل فى ذلك مشقة وله الأخذ بالرخصة
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة فلا حاجة إلى إيرادها (1/321)
فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فنقول
أما الأول فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها فالإتيان بما قدر عليها منها وهو مقتضى الرخصة هو المطلوب وتقرير هذا الدليل مذكور فى - كتاب المقاصد من هذا الكتاب
وأما الثاني فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب العمل بها على الخصوص خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة فى نفسها كما ثبت عند مالك طلب الجمع بعرفة والمزدلفة فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة ولا كلام فيه
وأما الثالث فما تقدم من الأدلة واضح فى الإذن فى الرخصة أو فى رفع الإثم عن فاعلها
المسألة السادسة
حيث قيل بالتخيير بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة (1/322)
فللترجيح بينهما مجال رحب وهو محل نظر فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من الأدلة
فأما الأخذ بالعزيمة فقد يقال إنه أولى لأمور
أحدها أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به
وورود الرخصة عليه وإن كان مقطوعا به أيضا فلا بد أن يكون سببها مقطوعا به فى الوقوع وهذا المقدار بالنسبة إلى كل مترخص غير متحقق إلا فى القسم المتقدم وما سواه لا تحقق فيه وهو موضع اجتهاد فإن مقدار المشقة المباح من أجلها الترخص غير منضبط ألا ترى أن السفر قد اعتبر فى مسافته ثلاثة أميال فأكثر كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن وعلة القصر المشقة وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم المشقة واعتبر فى المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الإسم فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه كما كان منهم من قصر فى ثلاثة أميال واعتبر آخرون ما فوق ذلك وكل مجال الظنون لا موضع فيه للقطع وتتعارض فيه الظنون وهو محل الترجح والإحتياط فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة مع بقاء إحتمال فى السبب
والثاني أن العزيمة راجعة إلى أصل فى التكليف كلي لأنه مطلق عام على (1/323)
الأصالة فى جميع المكلفين والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر وبحسب بعض الأحوال وبعض الأوقات فى أهل الأعذار لا فى كل حالة ولا فى كل وقت ولا لكل أحد فهو كالعارض الطارىء على الكلي والقاعدة المقررة فى موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي مقدم لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة كلية ولا ينخرم نظام فى العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها فمسألتنا كذلك إذ قد علم أن العزيمة بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه
والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية وحيث يتحقق الموجب وما فرضنا الكلام فيه لا يتحقق فى كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي ينازعه
فلا ينجى من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى الكلي وهو العزيمة
والثالث ما جاء فى الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردا والصبر على حلوه ومره وإن انتهض موجب الرخصة وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر من ذلك قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فهذا مظنة التخفيف فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به وقال تعالى إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر الى آخر القصة حيث قال رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمدحهم بالصدق (1/324)
مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر
وقد عرض النبي صلى الله عليه و سلم على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر فأبوا من ذلك وتعززوا بالله وبالإسلام فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم وارتدت العرب عند وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فكان الرأى من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أو من بعضهم غير أبي بكر استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم حتى يستقيم أمر الأمة ثم يكون ما يكون فأبى أبو بكر رضى الله عنه فقال والله لأقاتلهن حتى تنفرد سالفتي
والقصة مشهورة وأيضا قال الله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية فأباح التكلم بكلمة الكفر مع أن ترك ذلك أفضل (1/325)
عند جميع الأمة أو عند الجمهور وهذا جار فى قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الأمر مستحب والأصل مستتب وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس لكن يزول الإنحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك
ومن الأدلة قوله عله الصلاة والسلام
إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا اخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به فحمله الصحابة رضي الله عنهم على عمومه ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة ولم يأخذوه إلا على عمومه حتى اقتدى بهم الأولياء منهم أبو حمزة الخراساني فاتفق له ما ذكره القشيري وغيره من وقوعه فى البئر وقد كان هذا النمط مما يناسب استثناؤه من ذلك (1/326)
الأصل وقصة الثلاثة الذين خلفوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وصدقوه ولم يعتذروا له فى مواطن كان مظنة للإعتذار فمدحوا لذلك وأنزل الله توبتهم ومدحهم فى القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ففتح لهم باب القبول وسماهم صادقين لأخذهم بالعزيمة دون الترخص وقصة عثمان بن مظعون وغيره ممن كان فى أول الإسلام لا يقدر على دخول مكة إلا بجوار ثم تركوا الجوار رضي بجوار الله مع ما نالهم من المكروه ولكن هانت عليهم أنفسهم فى الله فصبروا إيمانا بقوله إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقال تعالى لتبلون فى أمولكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال لنبيه عليه الصلاة و السلام فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وقال ولمن انتصر بعد ظلمه فاؤلئك ماعليهم من سبيل ثم قال ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ولما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية شق ذلك على الصحابة فقيل لهم قولوا سمعنا وأطعنا فقالوها فألقى الله الإيمان فى قلوبهم فنزلت آمن الرسول بما أنزل إليه (1/327)
من ربه الآية وجهز النبى صلى الله عليه و سلم أسامة فى جيش إلى الشام قبيل موته فتوقف خروجه بمرضه عليه السلام ثم جاء موته فقال الناس لأبى بكر إحبس أسامة بجيشه تستعين به على من حاربك من المجاورين لك فقال لو لعب الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن سأل أسامة أن يترك له عمر ففعل وخرج فبلغ الشام ونكأ فى العدو بها فقالت الروم إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم وصارت تلك الحالة هيبة فى قلوبهم لهم وأمثال هذا كثيرة مما يقتضى الوقوف مع العزائم وترك الترخص لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون وهو
الوجه الرابع وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع (1/328)
للمكلفين من أنواع المشاق هي مما يقصدها الشارع فى أصل التشريع أعني أن المقصود فى التشريع إنما هو جار على توسط مجاري العادات وكونه شاقا على بعض الناس أو فى بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودا له لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب الإجتهاد والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي ولذلك لم يعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر فى غيره كالصنائع الشاقة فى الحضر مع وجود المشقة التى هى العلة فى مشروعية الرخصة فإذا لا ينبغى الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التى لا تطرد ولا تدوم لأن ذلك جار أيضا فى العوائد الدنيوية ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية فصار عارض المشقة إذا لم يكن كثيرا أو دائما مع أصل عدم المشقة كالأمر المعتاد أيضا فلا يخرج عن ذلك بالأصل
لا يقال كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة كقوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية
إن الله يحب أن تؤتى رخصه إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما فى معناه
لأنا نقول حالة الإضطرار قد تبين أنه الذى يخاف معه فوت الروح وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات وهو فى نفسه عذر أيضا (1/329)
وما سوى ذلك فمحمول على تحقق المشقة التى يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق وهو منتف سمعا وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل على دخوله تحت تلك النصوص وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدم فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه وسبب ذلك وهو روح هذا الدليل هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاء واختبارا لإيمان المؤمنين وتردد المترددين حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو فى شك ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت لانخرمت الكليات كما تقدم ولم يظهر لنا شىء من ذلك ولم يتميز الخبيث من الطيب فالإبتلاء فى التكاليف واقع ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة فيبتلى المرء على قدر دينه
قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم الآية
لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ثم قال وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين إلى آخرها فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها ولم يخرجوا بها عن أصل ما حملوه إلى غيره وقوله ولنبلونكم بشىء يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال كما تقدم فى أحوال التكليف فإذا كان المعلوم من الشرع فى مثل هذه الأمور طلب الإصطبار عليها والتثبت فيها حتى يجري التكليف على مجراه الأصلى كان (1/330)
الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر
والخامس أن الترخص إذا أخذ به فى موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين فى التعبد على الإطلاق فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات فى التعبد والأخذ بالحزم فيه
بيان الأول أن الخير عادة والشر لجاجة وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج إلى إقامة دليل والمتعود لأمر يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره كان خفيفا فى نفسه أو شديدا فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة فى يده كالشاقة الحرجة وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها وهذا ظاهر وقد وقع هذا المتوقع فى أصول كلية وفروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى فى اختلاف أقوال العلماء ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز وغير ذلك مما نبه عليه فى أثناء الكتاب أو لم ينبه عليه
وبيان الثانى ظاهر أيضا مما تقدم فإنه ضده
وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة فربما عدها شديدة وهى خفيفة فى نفسها فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة وليست كذلك إلا بمحض التوهم ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوص أو سباع إذا وجد الماء فى الوقت أعاد عند مالك لأنه عده مقصرا لأن هذا يعتري فى أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذى لا دليل عليه بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء فلا إعادة هنا ولا يعد هذا مقصرا ولو تتبع الإنسان الوهم لرمى به فى مهاو بعيدة (1/331)
ولأبطل عليه أعمالا كثيرة وهذا مطرد فى العادات والعبادات وسائر التصرفات
وقد تكون شديدة ولكن الإنسان مطلوب بالصبر فى ذات الله والعمل على مرضاته وفى - الصحيح
من يصبر يصبره الله وجاء فى آية الانفال فى وقوف الواحد للإثنين بعد ما نسخ وقوفه للعشرة والله مع الصابرين قال بعض الصحابة لما نزلت نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد هذا بمعنى الخبر وهو موافق للحديث والآية
والسادس أن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه كما تقرر فى - كتاب المقاصد من هذا الكتاب وكثيرا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة فالمتبع لهواه يشق عليه كل شىء سواء أكان فى نفسه شاقا أم لم يكن لأنه يصده عن مراده ويحول بينه وبين مقصوده فإذا كان المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه وتوجه إلى العمل بما كلف به خف عليه ولا يزال بحكم الإعتياد يداخله حبه ويحلو له مره حتى يصير ضده ثقيلا عليه بعد ما كان الأمر بخلاف ذلك فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض الملكف فرب صعب يسهل لموافقة الغرض وسهل يصعب لمخالفته
فالشاق على الإطلاق فى هذا المقام وهو ما لا يطيقهه من حيث هو مكلف كان مطيقا له بحكم البشرية أم لا هذا لا كلام فيه إنما الكلام فى غيره مما هو إضافى لا يقال فيه إنه مشقة على الإطلاق ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق وإذا كان دائرا بين الأمرين وأصل العزيمة حقيقى ثابت فالرجوع (1/332)
إلى أصل العزيمة حق والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه بحسب كل شخص وبحسب كل عارض فإذا لم يكن فى ذلك بيان قطعى وكان أعلى ذلك الظن الذى لا يخلو عن معارض كان الوجه الرجوع إلى الأصل حتى يثبت أن المشقة المعتبرة فى حق هذا الشخص حق ولا تكون حقا على الإطلاق حتى تكون بحيث لا يستطيعها فتلحق حينئذ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه هذا إذا لم يأت دليل من خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا كفطره عليه الصلاة و السلام فى السفر حين أبى الناس من الفطر وقد شق الصوم عليهم فهذا ونحوه أمر آخر إلى ما تقدم من الأقسام وإنما الكلام فى غيره فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى والأخذ بها فى محال الترخص أحرى
فإن قيل فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق أم ثم أنقسام
فالجواب أن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات وهي
المسألة السابعة
فالمشقات التي هى مظان التخفيفات فى نظر الناظر على ضربين أحدهما أن تكون حقيقية وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية وشبه ذلك مما له سبب معين واقع والثاني أن تكون توهمية مجردة بحيث لم يوجد السبب المرخص لأجله ولا وجدت (1/333)
حكمته وهى المشقة وإن وجد منها شىء لكن غير خارج عن مجاري العادات فأما الضرب الأول فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أوشرعا ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا فإن كان الأول فرجوعه إلى الرخصة مطلوب ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه لأن الرخصة هنا حق لله وإن كان الثاني وهو أن يكون مظنونا فالظنون تختلف والأصل البقاء على أصل العزيمة ومتى قوى الظن ضعف مقتضى العزيمة ومتى ضعف الظن قوي كالظل أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه ولكن إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين وهو أنه دخل فى الصوم مثلا فلم يطق الإتمام أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه
وإما أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ من الكثرة والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر ومثله لا يقدر معه على الصيام ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة من غير أن يجرب نفسه فى شىء من ذلك فهذا قد يلحق بما قبله ولا يقوي قوته أما لحوقه به فمن جهة وجود السبب وأما مفارقته له فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد عنده لأنه إنما يظهر عند التلبس (1/334)
بالعبادة وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب فى العزيمة حتى يتبين له قدرته عليها وعدم قدرته فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة إلى أن يظهر بعد ما ينبني عليه
وأما الضرب الثاني وهو أن تكون توهمية بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة فى أنه يوجد بعد أو لا فإن كان الأول فلا يخلو أن يوجد أو لا فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف أعني فى إجزاء العمل بالرخصة لا فى جواز الإقدام ابتداء إذ لا يصح أن يبني حكم على سبب لم يوجد بعد بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه وإن وجد السبب وهو المقتضى للحكم فكيف إذا لم يوجد نفس السبب وإنما الكلام فى نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته فى أدوارها فيفطر قبل مجيئها وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضها ستأتي ذلك اليوم وهذا كله أمر ضعيف جدا وقد استدل بعض العلماء على صحة هذا الإعتبار فى إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم بأن الغنائم ستباح لهم وهذا غير ما نحن فيه لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي بل هو أمر الهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه من قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة فلا إشكال هنا
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى (1/335)
قسم التوهمات وهي مختلفة وكذلك أهواء النفوس فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها
فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا فى المشقة المخلة الفادحة فإن الصبر أولى مالم يؤد ذلك إلى دخل فى عقل الإنسان أو دينه وحقيقة ذلك ان لا يقدر على الصبر لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه فأنت ترى بالإستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق فى كثير من الأحوال فإذا ليست المشقة بحقيقية والمشقة الحقيقية هى العلة الموضوعة للرخصة فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم إلا إذا قامت المظنة وهى السبب مقام الحكمة فحينئذ يكون السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التى هى العلة على كمالها فالأحرى البقاء مع الأصل وأيضا فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية والحقيقية ليست فى الوقوع على وزان واحد فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا فإنها ضد الأولى إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهواءها وعوائدها فلا تعتبر فى شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص كقوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى الآية لأن الجد بن قيس قال ائذن لى فى التخلف عن الغزو ولا تفتنى ببنات الأصفر فإنى لا أقدر على الصبر عنهن
وقوله تعالى وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا الآية ثم (1/336)
بين العذر الصحيح فى قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدوون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله الآيات فبين أهل الأعذار هنا وهم الذين لا يطيقون الجهاد وهم الزمنى والصبيان والشيوخ والمجانين والعميان ونحوهم وكذلك من لم يجد نفقة أصلا ولا وجد من يحمله وقال فيه إذا نصحوا لله ورسوله ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية فى طاعة الله ألا ترى إلى قوله تعالى انفروا خفافا و ثقالا وقال إلا تنفروا يعذبكم الآية فما ظنك بمن كان عذره هوى نفسه
نعم وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها
وقد وسع الله تعالى على العباد فى شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم على وجه لا يفضى إلى مفسدة ولا يحصل بها المكلف على مشقة ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم والقراض والمساقاة وغير ذلك مما هو توسعة عليه وإن كان فيه مانع فى قاعدة أخرى وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا وإليه سبيلا فلم يأته من بابه كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانفكاك عنه كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له ألبتة لأن الرخصة هنا هى عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة فإن لها فى الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها وإذا لم يوجد شرطها فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب وتارة تكون من باب الوجوب والله أعلم (1/337)
فصل
ومن الفوائد في هذه الطريقة الإحتياط فى اجتناب الرخص فى القسم المتكلم فيه والحذر من الدخول فيه فإنه موضع التباس وفيه تنشأ خدع الشيطان ومحاولات النفس والذهاب فى اتباع الهوى على غير مهيع ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم وهو أصل صحيح مليح مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات أو كان ابتدائيا كالمساقاة والقرض لأنه حاجي وما سوى ذلك فاللجأ إلى العزيمة
ومنها أن يفهم معنى الأدلة فى رفع الحرج على مراتبها فقوله عليه الصلاة و السلام
إن الله يحب أن تؤتى رخصة فالرخص التى هى محبوبة ما ثبت الطلب فيها فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التى قال فى مثلها رسول الله صلى الله عليه و سلم
ليس من البر الصيام فى السفر كان موافقا لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم بعد ما قال فى الأولى وأن تصوموا خير لكم وفى الثانية وأن تصبروا خير لكم فليتفطن الناظر فى الشريعة إلى هذه الدقائق ليكون على بينة فى المجارى الشرعيات ومن تتبع الأدلة الشرعية فى هذا المقام تبين له ما ذكر أتم بيان وبالله التوفيق هذا تقرير وجه النظر فى هذا الطرف (1/338)
فصل
وقد يقال إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه
أحدها أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا فأصل الترخص قطعي أيضا فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية فإن الشارع قد أجرى الظن فى ترتب الأحكام مجرى القطع فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للإعتبار فقد قام الدليل القطعى على أن الدلائل الظنية تجرى فى فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية
ولا يقال إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن
لأنا نقول إنما ذلك فى باب تعارض الأدلة بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص أو المطلق مع المقيد فلا ومسألتنا من هذا الثانى لا من الأول لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج فإن كان الحرج صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة
وأيضا فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق كما إذا كان الأصل التحريم فى الشىء ثم طرأ سبب محلل ظنى فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد وأن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره فالعمل على مقتضى الظن صحيح وإنما كان هذا لأن الأصل وإن كان قطعيا فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا بل مع الشك فكذلك ما نحن فيه (1/339)
وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقى للقطع المتقدم حكما وغلبات الظنون معتبرة
فلتكن معتبرة فى الترخص
والثاني أن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن تقدح فيما أمر به بالترخص بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي فهو معتبر فى نفسه لأنه من باب التخصيص للعموم أو من باب التقييد للإطلاق وقد مر فى الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني فهذا أولى وأيضا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني دون أصل العموم وهو قطعي فكذلك هنا وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته كما هو مقرر فى موضعه من هذا الكتاب فكذلك هنا وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها وذلك فاسد
فكذلك ما أدى إليه
والثالث أن الأدلة على رفع الحرج فى هذه الأمة بلغت مبلغ القطع كقوله تعالى وما جعل عليكم فى الدين من حرج وسائر ما يدل على هذا المعنى كقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى (1/340)
كانت عليهم وقد سمى هذا الدين الحنيفية السمحة لما فيها من التسهيل والتيسير وأيضا قد تقدم فى المسائل قبل هذا أدلة إباحة الرخص وكلها وأمثالها جارية هنا والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل ولا يقال إن المشقة إذا كانت قطعية فهى المعتبرة دون الظنية
فإن القطع مع الظن مستويان فى الحكم وإنما يقع الفرق فى التعارض ولا تعارض فى اعتبارهما معا ههنا وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى بل قد يقال الأولى الأخذ بالرخصة لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا فإن العبادة المأمر بها واقعة لكن على مقتضى الرخصة لا أنها ساقطة رأسا بخلاف العزيمة فإنها تضمنت حق الله مجردا والله تعالى غني عن العالمين وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد فى الدنيا والآخرة فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها
والرابع أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده بخلاف الطرف الآخر فإنه مظنة التشديد والتكلف والتعمق المنهى عنه فى الآيات كقوله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقوله ولا يريد بكم العسر وفى التزام المشاق تكليف وعسر وفيها روى عن ابن عباس فى قصة بقرة بني إسرائيل
لو ذبجوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم وفى الحديث
هلك المتنطعون اخرجه مسلم ابو داود ونهى صلى الله عليه و سلم (1/341)
عن التبتل وقال
من رغب عن سنتي فليس مني بسبب من عزم على صيام النهار وقيام الليل واعتزال النساء إلى أنواع الشدة التي كانت فى الأمم فخففها الله علهيم بقوله ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقد ترخص رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنواع من الترخص خاليا وبمرأى من الناس كالقصر والفطر فى السفر والصلاة جالسا حين جحش شقه وكان حين بدن يصلي بالليل فى بيته قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ شيئا ثم ركع وجرى أصحابه رضى الله عنهم ذلك المجرى من غير عتب ولا لوم كما قال
ولا يعيب بعضنا على بعض والأدلة فى هذا المعنى كثيرة
والخامس أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الإنقطاع عن الإستباق إلى الخير والسآمة والملل والتنفير عن الدخول فى العبادة وكراهية العمل وترك الدوام وذلك مدلول عليه فى الشريعة بأدلة كثيرة فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب أو قيل له فيه كره ذلك ومله وربما عجز عنه فى بعض الأوقات فإنه قد يصبر أحيانا وفى بعض الأحوال ولا يصبر فى بعض والتكليف دائم فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق وسد عنه ما سوى ذلك عد الشريعة شاقة وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا
وقد قال تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من (1/342)
الأمر لعنتم وقال يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا قيل إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس فسمى اعتداء لذلك وفى الحديث
خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا رواه الستة
وما خير عليه الصلاة و السلام بين أمرين إلا إختار أيسرهما ما لم يكن إثما البخاري الحديث ونهى عن الوصال فلما لم ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوأ الهلال فقال
لو تأخر الشهر لزدتكم اخرجه البخاري في اختلاف بعض اللفظ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا وقال
لو مد لنا فى الشهر لواصلت وصالا يعد المتعمقون تعمقهم وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص حين كبر
يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم وفى الحديث
هذه الخولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة و السلام
لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون الحديث اخرجه في التفسير عن عائشة بالفظ فلانه ولم يصرح بأسمها فأنكر فعلها كما ترى وحديث إمامة معاذ حين قال له النبى صلى الله عليه و سلم
أفتان أنت يا معاذ رواه الخمسة الا الترمذي وقال رجل والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال
إن منكم منفرين الحديث اخرجه البخاري وحديث الحبل المربوط بين ساريتين سأل عنه عليه الصلاة و السلام قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به (1/343)
فقال
حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وأشباه هذا كثير فترك الرخصة من هذا القبيل ولذلك قال عليه الصلاة و السلام
ليس من البر الصيام فى السفر فإذا كان كذلك ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى وإن سلم أنه ليس بأولى فالعزيمة ليست بأولى
والسادس أن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى كما تبين فى موضعه من هذا الكتاب فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم
والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة وليس كلامنا فيه
فإن كان موافقا فليس بمذموم ومسألتنا من هذا فإنه إذا نصب لنا الشرع سبب لرخصة وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه وعملنا بالرخصة فأين اتباع الهوى فى هذا وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي وليس أحدهما بأولىمن الآخر والمتبع للأسباب المشروعة فى الرخص والعزائم سواء فإن كانت غلبة الظن فى العزائم معتبرة كذلك فى الرخص وليس أحدهما أحرى من الآخر ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع هذا تقرير هذا الطرف (1/344)
فصل
وينبنى عليه أن الأولوية فى ترك الترخص إذا تعين سببه بغلبة ظن أو قطع وقد يكون الترخص أولى فى بعض المواضع وقد يستويان وأما إذا لم يكن ثم غلبة ظن فلا إشكال فى منع الترخص
وأيضا فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة على عمومها وإطلاقها من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة من غير اعتبار بالسبب الذي هو المظنة وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التى هي السبب كالسفر والمرض فعلى هذا إذا كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الإحتياط فإنه ثابت معتبر حسبما هو مبين فى موضعه (1/345)
فصل
فإن قيل الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة وذلك وضع إشكال فى المسألة فهل له مخلص أم لا
قيل نعم من وجهين أحدهما أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد فإنما أورد هنا استدلال كل فريق من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح فيبقى موقوفا على المجتهد حتى يترجح له أحدهما مطلقا أو يترجح له أحدهما فى بعض المواضع والآخر فى بعض المواضع أو بحسب الأحوال والثاني أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر فى - كتاب المقاصد فى تقرير أنواع المشاق وأحكامها
فإنه إذا تؤمل الموضعان ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله وبالله التوفيق
المسألة الثامنة
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء كما جاء فى الرخص شرعية المخرج من المشاق فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له كان ممتثلا لأمر الشارع آخذا بالحزم فى أمره وإن لم يفعل ذلك وقع فى محظورين أحدهما مخالفته لقصد الشارع كانت تلك المخالفة فى واجب أو مندوب أو مباح والثاني سد أبواب التيسير عليه وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له وبيان ذلك من أوجه (1/346)
أحدها أن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا ولولا أنها كذلك لم يكن فى شرعها زيادة على الأمور الإبتدائية ومن نظر فى التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل فإذا كان كذلك فالمكلف فى طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومالا على القطع فى الجملة فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا لا حالا ولا مآلا لا على الجملة ولا على التفصيل إذ لو كان كذلك لكان مشروعا أيضا والفرض أنه ليس بمشروع
فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له
والثاني أن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع فيكفيه فى حصول التخفيف طلبه من وجهه والقصد إلى ذلك يمن وبركة كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع يكفيه فى عدم حصول مقصوده شؤم قصده
ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا خرج إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر الجهد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم
اذهب فاصبر وكان ابنه أسيرا فى أيدي المشركين فأفلت من أيديهم فأتاه بغنيمة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم
طيبة فنزلت الآية ومن يتق الله الآية
وعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا فقال أرأيت إن أحلها له رجل فقال من يخادع يخدعه الله وعن الربيع بن خثيم فى قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال من كل شىء ضاق على الناس (1/347)
وعن ابن عباس من يتق الله ينجه من كل كرب فى الدنيا والآخرة
وقيل من يتق الله والمعصية يجعل له مخرجا إلى الحلال وخرج الطحاوي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا توتوا السفهاء أموالكم
ورجل داين بدين ولم يشهد ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع وأن لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره ولم يجب دعاؤه لأنه لم يأت الأمر من بابه والآثار فى هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى وقد روى عن ابن عباس أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتلا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن حتى بلغ يجعل له مخرجا وأنت لم تتق الله لم أجد لك مخرجا وخرج مالك فى البلاغات فى هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود فقال إني طلقت امرأتي ثمان تطليقات فقال ابن مسعود فماذا قيل لك قال قيل لي أنه قد بانت مني فقال ابن مسعود صدقوا من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه به لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون وتأمل حكاية أبى يزيد البسطامي حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه (1/348)
شهوة النساء ثم تذكر أن النبى صلى الله عليه و سلم لم يفعل ذلك فأمسك عنه فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر
والثالث أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدى طريق المخرج فكان قاصدا لضد ما طلب من حيث صد عن سبيله ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود
فهو إذا طالب لعدم المخرج وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الإستهزاء والمكر والخداع كقوله ومكروا ومكر الله وقوله الله يستهزىء بهم وقوله يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ومنه قوله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وقوله فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه أجرا عظيما من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها إلى سوى ذلك مما فى هذا المعنى وجميعه محقق كما تقدم من أن المتعدى على طريق المصلحة المشروع ساع فى ضد تلك المصلحة وهو المطلوب
والرابع أن الصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له فقد يكون ساعيا فى مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة أو يكون فيها مفسدة ترني فى الموازنة على المصلحة فلا يقوم خيرها بشرها
وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا ولا يجنى منه ثمرة أصلا وهو معلوم مشاهد بين العقلاء فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال بخلاف الرجوع إلى ما خالفه وهذه المسألة (1/349)
بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته ولكن سيق لتعلقه بالموضع فى طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه أو طلبه فى غير موضعه فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص وقد تقدم منه فى أثناء الكتاب فى هذا النوع مسائل كثيرة ومنها ما فيه ترخيص وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى وأيضا فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ولا يكون فى الشرع كذلك فربما ترخص بغير سبب شرعي ولهذا الأصل فوائد كثيرة فى الفقهيات كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود وغيرها من مسائل الحيل وما كان نحوها
المسألة التاسعة
أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولامقصودة الرفع لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية فهي إما موانع للتحريم أو التأثيم وإما أسباب لرفع الجناح أو إباحة ما ليس بمباح فعلى كل تقدير إنما هي موانع لترتب أحكام العزائم مطلقا وقد تبين فى الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب ففعله غير صحيح ويجري فيه التفصيل المذكور فى الشروط فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص من غير فرق
المسألة العاشرة
إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة (1/350)
صارت العزيمة معها من الواجب المخير إذ صار هذا المترخص يقال له إن شئت فافعل العزيمة وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه على وزان خصال الكفارة فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج فليست الرخصة معها من ذلك الباب لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الإنتقال إلى الرخصة
وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة فذلك بالقصد الثاني
والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان إحداهما في نفس الأمر عادلة والأخرى غير عادلة فإن العزيمة عليه أن يحكم بم أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى وأشهدوا ذوى عدل منكم وقال ممن ترضون من الشهداء فإن حكم بأهل العدالة أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين وإ ن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر وله أجر في اجتهاده وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين فكما لا يقال في الحاكم إنه مخير بين الحكم بالعدل والحكم بمن ليس بعدل كذلك لا يقال هنا إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة
فإن قيل كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني وقد ثبت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول كقوله تعالى وما جعل عليكم فى الدين (1/351)
من حرج وجاء بعد تقرير الرخصة يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
قيل كما يقال إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني مع قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وقوله وجعل منها زوجها ليسكن إليها
وأيضا فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه مع كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة فهو تيسير أيضا ورفع حرج وأيضا فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة وهو مقتضى قوله وما جعل عليكم فى الدين من حرج ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات
فكذلك نقول في محال الرخص إنها ليست بكليات وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة (1/352)
فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول
والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية إن قصده الشارع بالرخصة فمن جهة القصد الثاني والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
إذا اعتبرنا العزائم مع الرخص وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد
أما الأول فظاهر فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها وبالصيام في وقته المحدود له أولا وبالطهارة المائية على ما جرت به العادة من الصحة ووجود العقل والإقامة في الحضر ووجود الماء وما أشبه ذلك وكذلك سائر العادات والعبادات كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر ولا إشكال فيه
وأما الثاني فمعلوم أيضا من حيث علم الأول فالمرض والسفر وعدم الماء أو الثوب أو المأكول مرخص لترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه وقد مر تفصيل ذلك فيما مر من المسائل ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه - من كتاب المقاصد بحمد الله
إلا أن انخراق العوائد على ضربين عام وخاص فالعام ما تقدم
والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها فذلك إنما يكون في (1/353)
الأكثر على حكم الرخصة كانقلاب الماء لبنا والرمل سويقا والحجر ذهبا وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض فيتناول المفعول له ذلك ويستعمله فإن استعماله له رخصة لا عزيمة والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها كان الأمر فيها كذلك إذ كان مخالفة هذ الشرط مخالفة لقصد الشارع إذ ليس من شأنه أن يترخص ابتداء وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر فههنا أولى لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية وإنما وضعت لأمر آخر فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى
وأيضا فقد ذكر في - كتاب المقاصد أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة بمعنى أنها عامة في كل مكلف لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض والحمد لله
ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي صلى الله عليه و سلم لإظهار الخارق كرامة ومعجزة لأنه عليه الصلاة و السلام إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس وكذلك نقول إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بأن يكون بحسب القصد وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال حسبما دل عليه الإستقراء فأما إذا لم يكن هذا فالشرط معتبر بلا اشكال وليس بمختص بالعموم بل هو في الخصوص أولى
فإن قيل الولي إذا انخرقت له العادة فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة فإن الذي هيىء له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساو لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي إنه في التناول مترخص كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة إذا لا فرق بينهما وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط (1/354)
فالجواب من وجهين
أحدهما أن الأدلة المنقولة دلت على ترك أميثال هذه الأشياء لا إيجابا ولكن على غير ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم خير بين الملك والعبودية فاختار العبودية وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة فلم يختر ذلك وكان عليه الصلاة و السلام مجاب الدعوة فلو شاء له لدعا بما يحب فيكون فلم يفعل بل اختار الحمل على مجارى العادات يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر وكثيرا ما كان عليه الصلاة و السلام يرى أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين وكفاية من أزمات الأوقات
وكان عليه الصلاة و السلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية والطلبات محضرة له حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما أرى الله إلا يسارع في هواك
وكان لما أعطاه الله من شرف المنزلة متمكنا منها فلم يعول إلا على مجارى العادات في الخلق كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن (1/355)
لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء لم يكن حتما على الأولياء لأنهم الورثة في هذا النوع
والثاني أن فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين ويصحبها الإبتلاء الذي هو لازم للتكليف كلها وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه لأنها آيات من آيات الله تعالى برزت على عموم العادات حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيى الموتى الآية وكما قال نبينا محمد صلى الله عليه و سلم عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر
يرحم الله أخي موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما فإذا كانت هذه فائدتها كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج فهو في التناول والإستعمال بحكم الخيرة فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة وإن قبل الصدقة فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها
وأيضا فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا فإذاجاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب وتخفيف عنه فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف بالكسب وتخفيفا عنه فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شىء آخر وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله كما كانت النعم العادية الإكتسابية (1/356)
ابتلاء أيضا وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ الرخص كما تبين وجهه فهذا من ذلك القبيل فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين فلأجل هذا لم يستندوا إليها ولم يعولوا عليها من هذه الجهة بل قبلوها واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله وتركوا منها ما سوي ذلك إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة تضمنت تكليفا وابتلاء
وقد حكى القشيري من هذا المعنى
فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بفناء داره رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات قال فحملت معي شيئا وطلبته فلما وقعت عينه علي تبسم وأشار بيده إلى الأرض فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع ثم قال هات ما معك فناولته وهالني أمره وهربت وحكى عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال وعزتك لا أجوزها إلا في زورق وعن سعيد بن بحيى البصري قال أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل فقلت له لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل فقال ربي أعلم بمصالح عباده ثم أخذ حصى من الأرض ثم قال اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت فإذا هي والله في يده ذهب فألقاها إلي وقال أنفقها أنت فلا خير في الدنيا إلأ للآخرة
بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها والتشوف إليها كم يحكى عن أبي يزيد البسطامي ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات من حيث (1/357)
شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة وواردة من جهة مجرد الإنعام فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات فكيف يتشوف إلى خارقة ومن بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته مثلها مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد وعدوا من ركن إليها مستدرجا من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة
حكى القشيري عن أبي العباس الشرفي قال كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابنا أنا عطشان فضرب برجله الأرض فإذا عين ماء زلال فقال الفتى أحب أن أشربه بقدح فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا وما زال القدح معنا إلى مكة فقال لي أبو تراب يوما ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده فقلت ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها فقال من لا يؤمن بها فقد كفر إنما سألتك من طريق الأحوال فقلت ما أعرف لهم قولا فيه فقال بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق وليس الأمر كذلك إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين
وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة لا في حكم العزيمة
فليتفطن لهذا المعنى فيها فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد ولا تعد من المقامات ولا هي معدودة في النهايات ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية والإنتصاب للإفادة كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية ولا هي دليل على بلوغ النهاية والله أعلم
تم الجزء الأول (1/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم - كتاب المقاصد
والمقاصد التي ينظر فيها قسمان
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع والآخر يرجع إلى قصد المكلف
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء ومن جهة قصده في وضعها للإفهام ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة أنواع (2/5)
ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا وليس هذا موضع ذلك
وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة كما أن أفعاله كذلك وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة
والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال في أصل الخلقة وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (2/6)
الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وقال في الصيام كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وفي الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال في القبلة فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة وفي الجهاد أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وفي القصاص ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وفي التقرير على التوحيد ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين والمقصود التنبيه
وإذا دل الإستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ومن هذه الجملة ثبت القياس والإجتهاد فلنجر على مقتضاه ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه فنقول والله المستعان (2/7)
النوع الأول
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل
المسألة الأولى
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية
فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة
وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين
والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها
وذلك عبارة عن مراعتها من جانب الوجود والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان (2/8)
والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك
والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم
والعبادات والعادات قد مثلت والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب (2/9)
أو المنافع أو الأبضاع والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل والفطع والتضمين للمال وما أشبه ذلك
ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة
وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل (2/10)
على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة
وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات
ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع وما أشبه ذلك
وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق
وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان
ففي العبادات كإزالة النجاسة وبالجملة الطهارات كلها وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجاسات والمشارب المستخبثات والإسراف والاقتار في المتناولات وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة وسلب المرأة (2/11)
منصب الإمامة وإنكاح نفسها وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد
وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين
المسألة الثانية
كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية
فأما الأولى فنحو التماثل في القصاص فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ولكنه تكميلي وكذلك نفقة المثل وأجرة المثل وقراض المثل والمنع من النظر إلى الأجنبية وشرب قليل المسكر ومنع الربا والورع اللاحق في المتشابهات وإظهار شعائر الدين كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن وصلاة الجمعة والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في (2/12)
البيع إذا قلنا إنه من الضروريات
وأما الثانية فكاعتبار الكفء ومهر المثل في الصغيرة فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف
وأما الثالثة فكآداب الأحداث ومندوبات الطهارات وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة والإنفاق من طيبات المكاسب والإختيار في الضحايا والعقيقة والعتق وما أشبه ذلك ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصل المصالح حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله
المسألة الثالثة
كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها (2/13)
فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين
أحدهما أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غيرمزيد
والثاني أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت
وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى
وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها والإجارة محتاج (2/14)
إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الإطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما
وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه قال مالك لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري والعدالة فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه و سلم
وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة والجماعة من شعائر الدين المطلوبة والعدالة مكملة لذلك المطلوب ولا يبطل الأصل بالتكملة
ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلي كالمريض غير القادر سقط المكمل أو كان في اتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة وستر العورة من باب محاسن (2/15)
الصلاة فلو طلب على الإطلاق لتعذر أداؤها على من لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر كلها جار على هذا الأسلوب
وانظر فيما قاله الغزالي في - الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة واحمل عليه نظائره
المسألة الرابعة
المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية
فلو فرض إختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ولا يلزم من إختلالهما إختلال الضروري بإطلاق نعم قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق إختلال الحاجي بوجه ما وقد يلزم من إختلال الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي وأن الحاجي يخدم الضروري فإن الضروري هو المطلوب
فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها
أحدها أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي
والثاني أن إختلال الضروري يلزم منه إختلال الباقيين بإطلاق
والثالث أنه لا يلزم من إختلال الباقيين إختلال الضروري
والرابع أنه قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما (2/16)
والخامس أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري
بيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف
وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك
فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ولو عدم العقل لارتفع التدين ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ولو عدم المال لم يبق عيش وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة
وإذا ثبت هذا فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى إذ هي تتردد على الضروريات تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات وتميل بهم فيها إلى التوسط والإعتدال في الأمور حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط
وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا أو مضطجعا ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته وكذلك ترك المسافر الصوم (2/17)
وشطر الصلاة وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك فإذا فهم هذا لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية
وهكذا الحكم في التحسينية لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري
فإذا كملت ما هو ضروري فظاهر وإذا كملت ما هو حاجي فالحاجي مكمل للضروري والمكمل للمكمل مكمل فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه
بيان الثاني يظهر مما تقدم لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه لزم من اختلاله اختلال الباقيين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى
فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر
وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف وكما إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها أو التكبير أو الجماعة أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض فلا يصح أن يقال إن أصل الصلاة هو المرتفع وأوصافها بخلاف ذلك
وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا أو الصيام كذلك كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار والنهي عن الصيام في العيد فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك (2/18)
ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل
ولا يقال إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الإعتبار فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا وإذا لم تكن منيها عنها على الإطلاق لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له فلا يلزم من إختلال الأصل إختلال الفرع كما أصلت وأيضا فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة كالطهارة مع الصلاة وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد كجر الموس في الحج على رأس من لا شعر له فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل
لأنا نقول إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة واعتبار من حيث أنفسها فأما اعتبارها من الوجه الثاني فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا فكذلك ما كان في الإعتبار مثله فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل وهو المطلوب وكذلك الصوم وأشباهه
وأما مسألة الوسائل فأمر آخر ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها فتكون (2/19)
إذ ذاك مقصودة لنفسها وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموس على شعر من لا شعر له
وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموس على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه وإلا لم يصح فالقاعدة صحيحة وما اعترض به لا نقض فيه عليها والله أعلم بغيبه وأحكم
بيان الثالث أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه فكذلك في مسألتا لأنه يضاهيه
مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة
وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر لا يبطل أصل البيع كما في الخشب والثوب المحشو والجوز والقسطل والأصول المغيبة في الأرض كالجزر واللفت وأسس الحيطان وما أشبه ذلك
وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص لم يبطل أصل القصاص وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها كذلك ما نحن فيه اللهم إلا ان تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة من قواعد ذلك الأصل وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها هذا لا نظر فيه والوصف الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من (2/20)
الحاجيات ولا من الضروريات
لا يقال إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية أن لا تكون في دار مغصوبة وكذلك الذكاة من تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ومع ذلك فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف
لأنا نقول من قال بالصحة في الصلاة والذكاة فعلى هذا الأصل المقرر بني ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها من حيث كانت أركانها كلها التي هي أكوان غصبا لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها كالصلاة في طرفي النهار والصوم في يوم العيد
وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها لأن العمل بها غصب كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار
ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة
ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به
بيان الرابع من أوجه
أحدها أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات والتحسينات وكان مرتبطا بعضها ببعض كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ومدخل للإخلال به فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالمخل بما هو مكمل كالمخل بالمكمل من هذا الوجه (2/21)
ومثال ذلك الصلاة فإن لها مكملات وهي هنا سوى الأركان والفرائض ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان لأن الأخف طريق إلى الأثقل ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي الحديث
لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وقول من قال إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها
وهوأصل مقطوع به متفق عليه ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب
فالمتجرىء على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه فكذلك المتجرىء على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات فإذا قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما
ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها باطلاق بحيث لا يأتي بشيء منها وإن أتى بشيء منها كان نزرا أو يأتي بجملة منها إن تعددت إلا ان الأكثر هو المتروك والمخل به ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن وكانت إلى اللعب أقرب ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله وكذلك نقول في البيع إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود فكان وجود العقد كعدمه بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده وكذلك سائر النظائر
والثاني أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب (2/22)
إليه وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البنية وإحياء النفس كالنفل وكذلك كون المبيع معلوما ومنتفعا به شرعا وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة
وقد تقرر في - كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به فمن هذا الوجه أيضا يصح أن يقال إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما
والثالث أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف حتى يستحسن ذلك أهل العقول فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت واتصف بضد ما يستحسن في العادات فصار الواجب الضروري متكلف العمل وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة وذلك ضد ما وضعت عليه وفي الحديث
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكأنه لو فرض فقدان (2/23)
المكملات لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك وذلك خلل في الواجب ظاهر أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسيرمنه بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه فذلك لا يخل به وهو ظاهر
والرابع أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس به ومحسن لصورته الخاصة إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته
وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه وهكذا إلى آخرها فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجا للمصلي واستدعاء للحضور ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور فى الفريضة
وفى الإعتبار فى ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شىء واحد وهو الحضور مع الله فيها بالإستكانة والخضوع والتعظيم والإنقياد ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره لكان خللا فيها وعلى هذا (2/24)
الترتيب يجرى سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها
بيان الخامس ظاهر مما تقدم لأنه إذا كان الضروري قد يختل بإختلال مكملاته كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها كان من الأحق أن لا يخل بها
وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم فى المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات ومن هنالك كان مراعي فى كل ملة بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت فى الفروع فهى أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة
المسألة الخامسة
المصالح المثبوتة فى هذه الدار ينظر فيها من جهتين من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها
فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية من حيث هى موجودة هنا لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعما على الإطلاق وهذا فى مجرد الإعتياد لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكني والركوب والنكاح وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما (2/25)
من مفسدة تفرض فى العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير ويدلك عل ذلك ما هو الأصل وذلك أن هذه الدار وضعت على الإمتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق وأصل ذلك الأخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص قال الله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما فى هذا المعنى وقد جاء فى الحديث
حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص فى الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى
فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإذا غلبت الجهة الأخرى فهى المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة على ما جرت به العادات فى مثله فإن خرج عن مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة
هذا وجه النظر فى المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود فى الأعمال العادية
وأما النظر الثانى فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا فالمصلحة إذا كانت هى الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة فى حكم الإعتياد فهى المقصودة (2/26)
شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية فى الدنيا فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة فى شرعية ذلك الفعل وطلبه
وكذلك المفسدة إذا كانت هى الغالبة بالنظر إلى المصلحة فى حكم الإعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي فى مثلها حسبما يشهد له كل عقل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هى المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب فى المحل وما سوى ذلك ملغي فى مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة فى جهة الأمر
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هى خالصة غير مشوبة بشىء من المفاسد لا قليلا ولا كثيرا وإن توهم أنها مشوبة فليست فى الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري فى الإعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضى التفات الشارع إليها على الجملة وهذا المقدار هو الذى قيل إنه غير مقصود للشارع فى شرعية الأحكام
والدليل على ذلك أمران أحدهما أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع أعني معتبرة عند الشارع لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ومنهيا عنه من حيث المفسدة ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك (2/27)
وهذا يتبين فى أعلى المراتب فى الأمر والنهي كوجوب الإيمان وحرمة الكفر ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها وما أشبه ذلك فكان يكون الإيمان الذى لا أعلى منه فى مراتب التكليف منهيا عنه من جهة مافيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذى لا لذة فيه لها وكان الكفر الذى يقتضى إطلاق النفس من قيد التكليف وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمور به أو مأذونا فيه لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة وكل هذا باطل محض بل الإيمان مطلوب بإطلاق والكفر منهى عنه بإطلاق فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا
والثانى أن ذلك لو كان مقصود الإعتبار شرعا لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق وهو باطل شرعا أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا فمعلوم فى الأصول وأما بيان الملازمة فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة فى الطلب للجهة الراجحة وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة فهو مطوب بإيقاع الفعل ومنهى عن إيقاعه معا والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة فلا بد فى إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا فقد قيل له افعل ولا تفعل لفعل واحد أي من وجه واحد فى الوقوع وهو عين تكليف ما لا يطلق
لا يقال إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ولكن مأذونا فيها فلا يجتمع الأمر والنهي معا فلا يلزم المحظور
لأنا نقول إن هذا لا يطرد فى جميع المصالح فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها يصح أن تكون مأمورا بها وإن سلم ذلك فالإذن مضاد للأمر والنهي (2/28)
معا فإن التخيير مناف لعدم التخيير وهما واردان على الفعل الواحد فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به وهو ما أردنا بيانه وليس هذا كالصلاة فى الدار المغصوبة لإمكان الإنفكاك بأن يصلى فى غير الدار وهذا ليس كذلك
فإن قيل إن هذا التقدير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل وإنما االمقصود الخير فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره فالخير هو الذى خلق الخلق لأجله ولم يخلق لأجل الشر وإن كان واقعا به كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة وكذلك الإيلام بالقصد والحجامة وقطع العضو 8 المتأكل إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار فكذلك عندهم جميع ما فى الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت إن الشارع مع قصده التشريع لأجل المصلحة لا يقصد وجه المفسدة مع أنها لازمة للمصلحة وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو فى القصد الخلقي التكويني وليس كلامنا فيه وإنما كلامنا فى القصد التشريعي وقد تبين الفرق بينهما فى موضعه من - كتاب الأوامر والنواهى ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق (2/29)
بإطلاق حسبما تبين في موضعه فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك وإن كان واقعا بالوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع أو عدم الوقوع وإنما هذا قول المعتزلة وبطلانه مذكور في علم الكلام فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر لا ملازمة بينهما
فصل
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الإعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الإعتبار للشارع ففي ذلك نظر ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله
مثاله أكل الميتة للمضطر وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا وقتل القاتل وقطع القاطع وبالجملة العقوبات والحدود للزجر وقطع اليد المتأكلة وقلع الضرس الوجعة والإبلام بقطع العروق والقصد وغير ذلك للتداوي وما أشبه ذلك من الأمور التي انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة
فلا يخلو أن تتساوى الجهتان أو تترجح إحداهما على الأخرى
فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الاخر إذ اظهر التساوي بمقتضى الأدلة ولعل هذا غير واقع في الشريعة وإن فرض وقوعه (2/30)
فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا طرف الإقدام وطرف الإحجام فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا وهما علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ولم يتعين ذلك للمكلف فلا بد من التوقف
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى فيمكن أن يقال إن قصد الشارع متعلق بالجهة الأخرى إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ويمكن أن يقال إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع لا بما هو مقصوده في نفس الأمر فالراجحة وإن ترجحت لا تقطع إمكان (2/31)
كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين وغير مطرح في النظر ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين والثاني جار على طريقة المخطئين
وعلى كل تقدير فالذي يلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الإعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الرجحة إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد فكان تكليفا بما لا يطاق وكذلك يكون الحكم في المسائل الإجتهادية كلها سواء علينا أقلنا إن كل مجتهد مصيب أم لا فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الإعتياد أو خارجا عنه فالقياس مستمر والبرهان مطلق في القسمين وذلك ما أردنا بيانه فإن قيل أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى دينك هكذا وإن في الكتاب الضربين
فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول فإذا ناقضه لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق
المسألة السادسة
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين دنيوية وأخروية وتقدم الكلام على الدنيوية اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية فنقول إنها على ضربين
أحدهما أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر كنعيم أهل الجنان وعذاب أهل الخلود في النيران أعاذنا الله من النار وأدخلنا الجنة (2/32)
برحمته
والثاني أن تكون ممتزجة وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين في حال كونه في النار خاصة فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول وهذا كله حسبما جاء في الشريعة إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال وإنما تتلقى أحكامها من السمع
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ولا محل الإيمان وتلك مصلحة ظاهرة وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة من الإيمان والأعمال الصالحة ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما حاصلة له مع التعذيب فهي تنفس عنه من كرب النار إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة من استقراها ألفاها
وأما كون الأول محضا فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة كقوله تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وقوله فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية وقوله لا يموت فيها ولا يحيى وهو أشد ما هنالك إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة وفي الجنة آيات آخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا مفسدة كقوله إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين وقوله سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين إلى غير ذلك مما هو معلوم وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة أنت رحمتي وفي النار أنت عذابي (2/33)
فسمى هذه بالرحمة مبالغة وهذه بالعذاب مبالغة
فإن قيل كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها وإذا كانت دركات الجحيم أعاذنا الله منها بعضها أشد فالذي دون الأشد أخف من الأشد والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما وأيضا فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر فإن الجزاء على حسب العمل وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة كان الجزاء على تلك النسبة ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة وهذا معنى ممازجة المفسدة فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه هذا مقتضى نقل الشريعة نعم العقل لا يحيل ذلك فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما
ولذلك قال تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون فلا حالة هنالك ليستريحوا إليها وإن قلت كيف وهي دار العذاب عياذا بالله منها وما جاء في حرمان الخمر فذلك راجع إلى معنى المراتب فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها (2/34)
كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد أما المخرج إلى الضحضاح فأمر خاص كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الإستقرائية القطعية
غير أنه يجب النظر هنا فى وجه تفاوت الدرجات والدركات لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى
وذلك أن المراتب وإن تفاوتت لايلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ومعنى هذا أنك إذا قلت فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب فى حصول ذلك الوصف له على كماله فإذا قلت وفلان فوقه فى العلم فهذا الكلام يقتضى أن الثاني حاز رتبة فى العلم فوق رتبة الأول ولا يقتضى أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما فكذلك إذا قلت مرتبة الأنبياء فى الجنة فوق مرتبة العلماء فلا يقتضى ذلك للعلماء نقصا من النعيم ولا غضا من المرتبة بحيث يداخله ضده بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك فى النعيم الذي لا نقص فيه
وكذلك القول فى العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم كل فى العذاب لا يداخله راحة ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض
ولأجل ذلك لما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن خير دور الأنصار أجاب بما عليه الأمر فى ترتيبهم فى الخيرية بقوله خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة ثم قال وفى كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد من حيث كانت أفعل التفصيل (2/35)
قد تستعمل على ذلك الوجه كقوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ونحو ذلك فلم يكن تفضيله عليه الصلاة و السلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ولو قصد ذلك لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره فلحقنا سعد ابن عبادة فقال ألم تر أن نبي الله خير الأنصار فجعلنا خيرا فقال
أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا
وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص وبين الأنواع وبين الصفات
وقد قال الله تعالى تلك الرسل فصلنا بعضهم على بعض ولقد فضلنا بعض النبيين عل بعض وفي الحديث
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع وهذا معنى حسن جدا من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وزيادة الإيمان ونقصانه وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس
وبالله التوفيق (2/36)
المسألة السابعة
إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية
وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعا لها إذ ليس كونها مصالح إذا ذاك بأولى من كونها مفاسد لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله
وأيضا فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة لا تختص على الجملة وإن تنزلت إلى الجزئيات فعلى وجه كلي وإن خصت بعضا فعلى نظر الكلي كما أنها إن كانت كلية فليدخل تحتها الجزئيات فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليا وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح
المسألة الثامنة
المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية (2/37)
أو درء مفاسدها العادية والدليل على ذلك أمور
أحدها ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن الآية والثاني ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار (2/38)
عادة كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها أو اتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها كما جاء في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا كان إحياء النفوس الكثيرة أولى وكذلك إذا قلنا الأكل والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظاهرة مع أن فيه من المشاق والآلام فى تحصيله ابتداء وفى استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا
ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك هذا وإن كانوا بفقد الشرع عل غير شيء فالشرع لما جاء بين هذا كله وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم
والثالث أن المنافع والمضار عامتها أن تكون اضافية لا حقيقية ومعنا كونها اضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت دون وقت فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة ولكن عند وجود داعية الأكل وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مرا وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر (2/39)
عاجل ولا آجل ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل وهذه الأمور قلما تجتمع فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع أو تكون ضررا فى وقت أو حال ولا تكون ضررا في آخر وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة لا لنيل الشهوات ولو كانت موضوعة لذلك لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء ولكن ذلك لا يكون فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء
والرابع أن الإغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه فحصول الإختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا وافقت الأغراض أو خالفتها
فصل
وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد
منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية (2/40)
والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الإنتفاع المعين مأذونا فيه وقت أو حال أو بحسب شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل فى المنافع الإذن وفى المضار المنع
وأيضا فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشىء الواحد وكيف يقال إن فى الأصل فى الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الإنتشاء والتشجيع وطرد الهموم والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما لا ينفكان أويقال الأصل فى شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته والأصل فيه الإذن لأجل الإنتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل فى ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا وذلك محال
فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم وما سواه فى حكم المغفل المطرح
فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم إذ هو دليل على أن المنافع ليس أصلها الإباحة بإطلاق وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق بل الأمر فى ذلك راجع إلى ما تقدم وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة وإن كان فى الطريق ضرر ما متوقع أو نفع ما مندفع (2/41)
ومنها أن القرافي أورد إشكالا فى المصالح والمفاسد ولم يجب عنه وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد فقال
المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا فما من مباح إلا وفيه فى الغالب مصالح ومفاسد فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس وآلام ومفاسد فى تحصيلها وكسبها وتناولها وطبخها وإحكامها وإجادتها بالمضغ وتلويث الأيدي إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه فمن يؤثر وقد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة
وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة فليس بعضها أولى من بعض ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الإعتزال فإنه سفه
ولا يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة وما أهمله الله تعالى غير داخل فى مقصودنا فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال لأنا نقول الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ويجب (2/42)
عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لزم الدور ولو صحت الإستفادة فى المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذ فإن المعتبر هو التكليف فأي شىء كلف الله به كان مصلحة وهذا يبطل أصلكم قال وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع بل (2/43)
يقولون إن الله ألغى بعضها فى المباحات واعتبر بعضها وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب بل سبيلهم استقراء المواقع فقط
وهذا وإن كان يخل بنمط من الإطلاع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويعتبر الله يشاء ويترك ما يشاء لا غيره فى ذلك وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا فيكون هذا الأمر عليهم فى غاية الصعوبة لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الإعتزال
هذا ما قاله القرافي
وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها لم يبق لهذا الإشكال موقع أما على مذهب الأشاعرة فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك والدليل القاطع فى ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج فى جريانها على الصراط المستقيم وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام وفى وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة فى حدود الشرع وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع وكل أصل من أصول التكليف فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين حصل لهم به ضوابط فى كل باب (2/44)
علىما يليق به وهو مذكور فى كتبهم ومبسوط فى علم أصول الفقه
وأما على مذهب المعتزلة فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل فى زعمهم وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل فى المصالح أو ينخرم به فى المفاسد وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة فى محصول المسألة وإنما اختلفوا فى المدرك واختلافهم فيه لا يضر فى كون المصالح معتبرة شرعا ومنضبطة فى أنفسها
وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا فى كلامه على العزيمة والرخصة حين فسرها (2/45)
الإمام الرازي بأنها جواز الإقدام مع قيام المانع قال
هو مشكل لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة إذ يجوز الإقدام على ذلك كله وفيه مانعان ظواهر النصوص المانعة إلزامه كقوله تعالى وما جعل عليكم فى الدين من حرج وفى الحديث
لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب هذه الأمور والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله ولقد كرمنا بنىآدم لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ولا يلزمه المشاق والمضار
وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم والسلم كذلك والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ولم تعد منها واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس وإن قلت على العد كالكفر والإيمان فما ظنك بغيرهما
وعلى هذا ما فى الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي لأنه لا يمكن أن (2/46)
يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح فإن أكل الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح وحينئذ تندرج جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه
ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي - التنقيح - والمحصول العجز عن ضبط الرخصة
وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني فى الموضع مع ما ذكر فى الرخصة فى - كتاب الأحكام
ومنها أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا وقوله وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه وقوله قل (2/47)
من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق بل بقيود تقيدت بها حسبما دلت عليه الشريعة فى وضع المصالح ودفع المفاسد والله أعلم
ومنها أن بعض الناس قال إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات قال ومن أراد أن يعرف المناسبات فى المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به ثم يبنى عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها هذا قوله
وفيه بحسب ما تقدم نظر أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال وأما ما قال فى الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل فى الأحكام
ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج فى الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة وقد بث فى ذلك من التصرفات وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه
فالعادة تحيل استقلال العقول فى الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه (2/48)
المسألة التاسعة
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية لا بد عليه من دليل يستند إليه والمستند إليه فى ذلك إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا وكونه ظنيا باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو أصل أصولها وأصول الشريعة قطعية حسبما تبين فى موضعه فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا وهذا باطل فلا بد أن تكون قطعية
فأدلتها قطعية بلا بد
فإذا ثبت هذا فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا
فالعقلي لا موقع له هنا لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول فى الأحكام الشرعية وهو غير صحيح فلا بد أن يكون نقليا
والأدلة النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال أولا فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر فلا يصح استناد مثل هذا إليها لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع وإفادة القطع هوالمطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع إلا أنه متنازع فى وجوده بين العلماء
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد فى كل مسألة تفرض فى الشريعة بل يوجد فى بعض المواضع دون بعض ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي
والقائل بعدم وجوده فى الشريعة يقول إن التمسك بالدلائل النقلية إذا (2/49)
كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الإشتراك وعدم المجاز وعدم النقل الشرعي أوالعادي وعدم الإضمار وعدم التخصيص للعموم وعدم التقييد للمطلق وعدم الناسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي وجميع ذلك أمور ظنية
ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل فى أنفسها لا تفيد قطعا لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية وليس كذلك باتفاق وإذا كانت لا تلزم ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر فى جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر على قول المقرين بذلك وغير موجود على قول الآخرين
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين
ولا يقال إن الإجماع كاف وهو دليل قطعي
لأنا نقول هذا أولا مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ثم نقول ثانيا إن فرض وجوده فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ويجتمعون على أنه قطعي فقد يجتمعون على دليل ظني فتكون المسألة ظنية لا قطعية فلا تفيد اليقين لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على (2/50)
فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي فإن اجتمعوا على مستند ظني فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة
فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الإجتهاد من أهل الشرع وأن اعتبارها مقصود للشارع
ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الإستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع فى هذه القواعد على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات والمطلقات والمقيدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين لكان إخبار كل واحد منهم عل فرض عدالته مفيدا للظن فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن لكن للإجتماع خاصية ليست للإفتراق فخبر واحد مفيد للظن مثلا فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض فكذلك هذا إذ (2/51)
لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار
وهذا بين في - كتاب المقدمات من هذا الكتاب
فإذا تقرر هذا فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث
المسألة العاشرة
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات
ولذلك أمثلة أما في الضروريات فإن العقوبات مشروعة للإزدجار مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدحر عما عوقب عليه ومن ذلك كثير وأما في (2/52)
الحاجيات فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة والملك المترفه لا مشقة له والقصر في حقه مشروع والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة وأما في التحسينيات فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت
هذا شأن الكليات الإستقرائية واعتبر ذلك بالكليات العربية فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية كما نقول ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة ما ثبت للشيء ثبت لمثله
فإذا كان كذلك فالكلية في الإستقرائيات صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات
وأيضا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها (2/53)
أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن المصلحة ليست الإزدجار فقط بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زحرا أيضا على إيقاع المفاسد
وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح
المسألة الحادية عشرة
مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لاتختص بباب دون باب ولا بمحل دون محل ولا بمحل وفاق دون محل خلاف
وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الإستدلال على مطلق المصالح وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة
وقد زعم بعض المتأخرين وهو القرافي أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد لأن القاعدة العقلية أن الراجح (2/54)
يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض بل متى كان أحدهما راجحا كان الآخر مرجوحا وهذا يقتضى أن يكون المصيب واحدا وهو المفتي بالراجح وغيره يتعين أن يكون مخطئا لأنه مفت بالمرجوح فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس وأن الشرائع تابعة للمصالح
هذا ما قال
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية أما في مواطن الخلاف فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر بل فيما في الظنون فقط كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب (2/55)
أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى الأسباب للإتفاق على أن الخطأ يقع فيها وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى
هذا ما نقل عنه
ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة
فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده هي الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ماهو جائز وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة بل فيه مصلحة لأجلها أجيز وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة فحكم المصوب ههنا حكم المخطىء (2/56)
وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الأجماع فههنا اتفق الفريقان وإنما اختلفا بعد فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر بل هو ما ظهر الآن وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر
ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفصيلا وكذلك من قال إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان أو ليست من صفات الأعيان وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا وهو من مباحث أصول الفقه وإذا ثبت لم يفتقر إلى الإعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام وارتفع إشكال المسألة والحمد لله
وتأمل فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا (2/57)
وحكما وذلك يقتضى تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي وأن ذلك راجع إلى الذوات فكلام القرافي مشكل على كل تقدير والله أعلم
المسألة الثانية عشرة
إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه و سلم معصوم وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة
ويتبين ذلك بوجهين
أحدهما الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا كقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقوله كتاب أحكمت آياته وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له ودائرة حوله فهي منه وإليه ترجع في معانيها فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ويشد بعضه بعضا وقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال (2/58)
كنت يوما عند القاضي أبي إسحق إسماعيل بن إسحق فقيل له لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن فقال القاضي قال الله عز و جل في أهل التوراة بما استحفظوا من كتاب الله فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم وقال في القرآن إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فلم يجز التبديل عليهم قال علي فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال ما سمعت كلاما أحسن من هذا
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي صلى الله عليه و سلم ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء فكذلك في الأرض وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة من مثله وهو كله من جملة الحفظ والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة
فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل
والثاني الإعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الآن وذلك أن الله عز و جل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل
أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم
فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة إذ أوحاها الله إلى رسوله عل لسان العرب ثم
قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا (2/59)
ونصبا وجرا وجزما وتقديما وتأخيرا وإبدالا وقلبا وإتباعا وقطعا وإفرادا وجمعا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسوله صلى الله عليه و سلم في خطابه
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوي في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة وعما كان عليه السلف الصالحون وداوم عليه الصحابة والتابعون وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز اتباع الحق عن اتباع الهوى
وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس
ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه فنظروا في ملكوت السموات والأرض واستعملوا الأفكار وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا واتخذوا الخلوة أنيسا وفازوا بربهم جليسا حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سمواته وأرضه وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه فإن عارض دين الإسلام معارض أو جادل فيه خصم مناقض غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة فهم جند الإسلام وحماة الدين (2/60)
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة تارة من نفس القول وتارة من معناه وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو أحتيج في إيضاحها إليه
وهوعين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق
المسألة الثالثة عشرة
كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع
والدليل على ذلك أمور
منها ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر كترك الصلاة أو الجماعة أو الجمعة أو الزكاة أو الجهاد أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه كان العتب وعيدا أو غيره كالوعيد بالعذاب وإقامة الحدود في الواجبات والتجريح في غير الواجبات وما أشبه ذلك
ومنها أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث والأمر والنهي فيها قد جاء حتما وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم وحين كان ذلك كذلك دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها (2/61)
ومنها أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي فإنه مع الإهمال لا يجري كليا (2/62)
بالقصد وقد فرضناه مقصودا هذا خلف فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات وليس البعض في ذلك أولى من البعض فانحتم القصد إلى الجميع
وهو المطلوب
فإن قيل هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات
فالجواب أن القاعدة صحيحة ولا معارضة فيها لما نحن فيه فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي حتى إن تخلف الجزئي هنالك إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه ثم شرع القصاص حفظا للنفوس فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا وهو النفس المجني عليها فصار عين اعتبار الجزئي في كليه هو عين إهمال الجزئي لكن في المحافظة على كليه من وجهين
وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب (2/63)
فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض فلا يصح شرعا وإن كان لعارض فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى أو على كلي آخر فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي والثاني لا يكون تخلفه قادحا
النوع الثاني
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل
المسألة الأولى
إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية وهذا وإن كان مبينا في أصول الفقه وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب وجاء القرآن على وفق ذلك فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها فإن هذا البحث على هذا الوجه غير مقصود هنا
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول إنا أنزلناه قرآنا عربيا وقال بلسان عربي مبين وقال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين وقال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة هذا هو المقصود من المسألة (2/64)
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم أو لم يجىء فيه شىء من ذلك فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به وجرى فى خطابها وفهمت معناه فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم إلا إذا كانت حروفه فى المخارج والصفات كحروف العرب وهذا يقل وجوده وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب أو كان بعضها كذلك دون بعض فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله فى كلام العجم ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف فى كلامها وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال
ومع ذلك فالخلاف الذي يذكره المتأخرون فى خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ولا يستفاد منه مسألة فقهية وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية فى الأسماء الأعجمية
فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمه فيه فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود فى ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام فى وجه والخاص فى وجه وبالعام يراد به الخاص والظاهر يراد به غير الظاهر (2/65)
وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وتتكلم بالكلام ينبىء أوله عن آخره أو آخره عن أوله وتتكلم بالشىء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة وتسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة بإسم واحد وكل هذا معروف عندها لا ترتاب فى شىء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها
فإذا كان كذلك فالقرآن فى معانيه وأساليبه على هذا الترتيب فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب
والذي نبه علىهذا المأخذ فى المسألة هو الشافعي الإمام فى رسالته الموضوعة فى أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبه لذلك
وبالله التوفيق
المسألة الثانية
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة علىمعان نظران
أحدهما من جهة كونها ألفاظ وعبارات مطلقة دالة علىمعان مطلقة وهى الدلالة الأصلية
والثاني من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة علىمعان خادمة وهي الدلالة التابعة
فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أخرى فإنه إذا حصل فى الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتي له ما أراد من غير كلفة ومن هذه الجهة يمكن فى لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ويتأتى فى لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا لا إشكال فيه (2/66)
وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب فى تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضى فى هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار فى الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك
وذلك أنك تقول فى ابتداء الأخبار قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام وفى جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة إن زيدا قام وفى جواب المنكر لقيامه والله إن زيدا قام وفى إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه قد قام زيد أو زيد قد قام وفى التنكيت على من ينكر إنما قام زيد
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه وبحسب الكناية عنه والتصريح به وبحسب ما يقصد فى مساق الأخبار وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هى المقصود الأصلي ولكنها من مكملاته ومتمماته وبطول الباع فى هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة فى بعض السور على وجه وفى بعضها على وجه آخر وفى ثالثة على وجه ثالث وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل فى بعض ونص عليه فى بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت وما كان ربك نسيا (2/67)
فصل
وإذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين فى اعتباره عينا كما إذا استوى اللسانان فى استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه فإذا ثبت ذلك فى اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا وربما أشار إلى شىء من ذلك أهل المنطق من القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين ولكنه غير كاف ولا مغن فى هذا المقام
وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة فى القرآن يعني على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الإتفاق حجة فى صحة الترجمة على المعنى الأصلي
فصل
وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام وهل تعد معها كوصف من الأوصاف الذاتية أو هي كوصف غير ذاتي فى ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفروعية جملة إلا أن الإقتصار على ما ذكر فيها كاف فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة فالسكوت عن ذلك أولى وبالله التوفيق (2/68)
المسالة الثالثة
هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ويدل على ذلك أمور
أحدها النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى هو الذي بعث فى الأميين رسولا منهم وقوله فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته وفى الحديث
بعثت إلى أمة أمية لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره فهو على أصل خلقته التي ولد عليها وفى الحديث (2/69)
نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقد فسر معنى الأمية فى الحديث أي ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب
ونحوه قوله تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة فى الكتاب والسنة الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك
والثاني أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه و سلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها فلا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذا4 أمية
والثالث أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل (2/70)
ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم هذا على غير ما عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا وهذا ليس بمفهوم ولا معروف فلم تقم الحجة عليهم به ولذلك قال سبحانه ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمى وعربى فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ولما قالوا إنما يعلمه بشر رد الله عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربى مبين لكنهم أذعنوا لظهور الحجة فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مماثلته وأدلة هذا المعنى كثيرة
فصل
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه
فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الإهتداء فى البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها وتعرف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن فى مواضع كثيرة كقوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر وقوله وبالنجم هم يهتدون وقوله والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار الآية وقوله (2/71)
هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وقوله وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة الآية وقوله ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وما أشبه ذلك (2/72)
ومنها علوم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها فبين الشرع حقها من باطلها فقال تعالى هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده الأية
وقال أفرأيتم الماء الذى تشربون أانتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون وقال وأنزلنا من المعصرات ماءا ثجاجا وقال وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون خرج الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وفى الحديث
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث فى الأنواء وفى الموطأ مما انفرد به إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته كم بقى من نوء الثريا فقال له العباس بقي من نوئها كذا وكذا فمثل هذا مبين للحق من الباطل فى أمر الأنواء والأمطار
وقال تعالى وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه الآية وقال والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها إلى كثير من هذا
ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وفى القرآن من ذلك ما هو كثير وكذلك فى السنة ولكن القرآن احتفل فى ذلك وأكثره من الأخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون (2/73)
قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية وقال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا وفى الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فى بناء البيت وغير ذلك مما جرى
ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه كعلم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه كالكهانة والزجر وخط الرمل وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب فإن الكهانة والزجر كذلك وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل فجاء النبى صلى الله عليه و سلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام وأبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة
ومنها علم الطب فقد كان فى العرب منه شىء لا على ما عند الأوائل بل مأخوذ من تجاريب الأميين غير مبنى على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن وجه جامع شاف (2/74)
قليل يطلع منه على كثير فقال تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجاء فى الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء وأبطل من ذلك ما هو باطل كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا (2/75)
ومنها التفنن فى علم فنون البلاغة والخوض في وجوه الفصاحة والتصرف في أساليب الكلام وهو أعظم منتحلاتهم فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم قال تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
ومنها ضرب الأمثال وقد قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل إلا ضربا واحدا وهو الشعر فأن الله نفاه وبرأ الشريعة منه قال تعالى في حكايته عن الكفار أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ولذلك قال وما علمناه الشعر وما ينبغي له الآية وبين معنى ذلك في قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ولكنه هيمان على غير تحصيل وقول لا يصدقه فعل وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى
فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلىعلوم العرب الأمية
وأما ما يرجع إلى الإتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها فهو أول ما خوطبوا به
وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم وأجري على ما يتمدح به عندهم كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتآء ذي القربى إلى آخرها وقوله تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى انقضاء تلك الخصال وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده وقوله قل إنما حرم ربي (2/76)
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى
لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها كما قال تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان وتبعث البخيل على البذل وتنشط الكسالى والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين والعطف على المحتاجين وقد قال تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ولهذا قال عليه السلام
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين أحدهما ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي وهو الضرب الثاني وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة (2/77)
ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وإلحاق الولد بالقافة والوقوف بالمشعر الحرام والحكم في الخنثى وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء
ثم يقول لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونباب وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك
ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم هي تلك بعينها كقوله تعالى ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا وقوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا فجاء تقويمها من جهة محمد صلى الله عليه و سلم
وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي كقوله وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود إلى آخر الآيات وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة وقال تعالى (2/78)
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن فالقرآن كله حكمة وقد كانوا عارفين بالحكمة وكان فيهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله وكان فيهم أهل وعظ وتذكير كقس بن ساعدة وغيره ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب فى هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة
وسر فى جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر
وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب
المسألة الرابعة
ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد
منها أن كثيرا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أوالمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع مانظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ولم يبلغنا أنه (2/79)
تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدعي سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الإهتداء بإعلامه والإستنارة بنوره أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا
وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وقوله ما فرطنا فى الكتاب من شىء ونحو ذلك وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب وبما نقل عن الناس فيها وربما حكى من ذلك عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وغيره أشياء
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو (2/80)
المراد بالكتاب فى قوله ما فرطنا فى الكتاب من شىء اللوح المحفوط ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية
وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تاويلها إلا الله تعالى وغير ذلك وأما تفسيرها بما عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا وما ينقل عن علي أو غيره فى هذا لا يثبت فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ويجب الإقتصار فى الإستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة فبه يوصل إلى علم (2/81)
ماأودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه والله أعلم وبه التوفيق
فصل
ومنها أنه لابد فى فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب فى لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه فى فهم الشريعة وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى فى فهمها على ما لا تعرفه
وهذا جار فى المعانى والألفاظ والأساليب مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعانى وإن كانت تراعيها أيضا فليس أحد الأمرين عندها بملتزم بل قد تبنى على أحدهما مرة وعلى الآخر أخرى ولا يكون ذلك قادحا فى صحة كلامها واستقامته
والدليل على ذلك أشياء
أحدها خروجها فى كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة وجريانها فى كثير من منثورها على طريق منظومها وإن لم يكن بها حاجة وتركها لما هو أولى فى مراميها ولا يعد ذلك قليلا فى (2/82)
كلامها ولاضعيفا بل هو كثير قوي وإن كان غيره أكثر منه
والثانى أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد فيها أو يقاربها ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذ كان المعنى المقصود عل استقامة والكافى من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف وفى هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التى صحت عندهم مما وافق المصحف وأنهم فى ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال وإن كان بين القراءين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا فى المعنى لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب مالك و ملك وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم لنبوئنهم من الجنة غرفا لنثوينهم من الجنة غرفا إلى كثير من هذا لأن جيمع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب وهذا كان عادة العرب
ألا ترى ما حكى ابن جنى عن عيسى بن عمر وحكى عن غيره أيضا قال سمعت ذا الرمة ينشد ... وظاهر لها من يابس الشخث واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا ...
فقلت أنشدتنى من بائس فقال يابس وبائس واحد فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس لما كان معنى البيت قائما على الوجهين وصوابا على كلتا الطريقتين وقد قال فى رواية أبي العباس (2/83)
الأحول البؤس واليبس واحد يعنى بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة وعن أحمد بن يحيى قال أنشدنى ابن الأعرابي ... وموضع زير لا أريد مبيته ... كأنى به من شدة الروع آنس ...
فقال له شيخ من أصحابه ليس هكذا أنشدتنا وموضع ضيق فقال سبحان الله تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزير والضيق واحد وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة وبألفاظ متباينة يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص بحيث يعد مرادفة أو مقاربة عيبا أو ضعفا إلا فى مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها وإنما معهودها الغالب ما تقدم
والثالث أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ولم يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ فقبح قمت وزيد كما قبح قام وزيد وجمعوا فى الردف بين عمود ويعود من غير استكراه وواو عمود أقوى فى المد وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ فى قياسها النظري لسكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض وما ذلك إلا لعدم تعمقها فى تنقيح لسانها
والرابع أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف فى الأخذ عنه فقد كان الأصمعي يعيب الخطيئة واعتذر عن ذلك بأن قال وجدت شعره كله جيدا فدلنى على أنه كان يصنعه وليس هكذا الشاعر (2/84)
المطبوع إنما الشاعر المطبوع الذى يرمى بالكلام على عواهنه جيده على رديئة وما قاله هو الباب المنتهج والطريق المهيع عند أهل اللسان وعلى الجملة فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ومن زوال كلام العرب وقف من هذا على علم
وإذا كان كذلك فلا يستقيم للمتكلم فى كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتنى العرب به الوقوف عند ما حدته
فصل
ومنها أنه إنما يصح فى مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعانى فإن الناس فى الفهم وتأتى التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب إلا أنهم يتقاربون فى الأمور الجمهورية وما والاها وعلى ذلك جرت مصالحهم فى الدنيا
ولم يكونوا بحيث يتعمقون فى كلامهم ولا فى أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة التى تخفى عن الجمهور ولاتخفى عمن قصد بها وإلا كان خارجا عن حكم معهودها
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف واشتركت فيه اللغات حتى كانت قبائل العرب تفهمه (2/85)
وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط لأن الضعيف ليس كالقوى ولا الصغير كالكبير ولا الأنثى كالذكر بل كل له حد ينتهى إليه فى العادة الجارية فأخذوا بما يشترك الجمهور فى القدرة عليه وألزموا ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة ونحو ذلك ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ولكلفهم بغير قيام حجة ولا إتيان ببرهان ولا وعظ ولا تذكير ولطوقهم فهم ما لا يفهم وعلم ما لم يعلم فلا حجر عليه فى ذلك فإن حجة الملك قائمة قل فلله الحجة البالغة لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا وغذوا فى أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ويقوى به ضعيفهم وتنتهض به عزائمهم من الوعد تارة والوعيد أخرى والموعظة الحسنة أخرى وبيان مجارى العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية إلى غير ذلك مما فى معناه حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين بل هم مشتركون فى مقتضاه ولايكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله وزادهم تخفيفا دون الأولين وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم
وقد خرج الترمذى وصححه عن أبي بن كعب قال لقى رسول الله صلى الله عليه و سلم جبريل فقال
يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف (2/86)
فالحاصل أن الواجب فى هذا المقام إجراء الفهم فى الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذى يسع الأميين كما يسع غيرهم
فصل
ومنها أن يكون الاعتناء بالمعانى المبثوثة فى الخطاب هو المقصود الأعظم بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعانى وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها
وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد والمعنى هو المقصود ولا أيضا كل المعانى فإن المعنى الإفرادي قد لايعبأ به إذا كان المعنى التركيبى مفهوما دونه كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم
وأبين من هذا ما فى جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخارى عن أنس ابن مالك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرأ فاكهة وأبا قال ما الأب ثم قال ما كلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله فاكهة وأبا ما الأب فقال عمر نهينا عن التعمق والتكلف ومن المشهور تأديبه لضبيع حين كان يكثر السؤال عن المرسلات و العاصفات ونحوهما
وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي فرأى أن الإشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ولهذا أصل فى الشريعة صحيح نبه عليه قوله تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب إلى آخر الآية
فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا بل هو مضطر إليه كما روى عن عمر نفسه فى قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف (2/87)
فإنه سئل عنه على المنبر فقال له رجل من هذيل التخوف عندنا التنقص ثم أنشده ... تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن ...
فقال عمر أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول
فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب لأنه المقصود والمراد وعليه ينبنى الخطاب ابتداء وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذى ينبغى فتستبهم على الملتمس وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب فيكون عمله فى غير معمل ومشيه على غير طريق والله الواقى برحمته
فصل
ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمى تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها
أما الإعتقادية بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ولم تكن أمية وقد ثبت كونها كذلك فلا بد أن تكون المعانى المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ
وأيضا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور فى الأصول ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور (2/88)
الآلهية إلا بما يسع فهمه وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات وحضت على النظر فى المخلوقات إلى أشباه ذلك وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة وهو قوله تعالى ليس كمثله شىء وسكتت عن أشياء لا تهتدى إليها العقول نعم لا ينكر تفاضل الإداركات على الجملة وإنما النظر فى القدر المكلف به
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخواض فى هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة و السلام وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة بل الذى جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن أصحابه النهى عن الخوض فى الأمور الإلهية وغيرها حتى قال
لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شئ فمن خلق الله وثبت النهى عن كثرة السؤال وعن تكلف مالا يعنى عاما فى الاعتقادات والعمليات
وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل وإنما يريد ما كان من الأشياء التى لا تهتدى العقول لفهمها مما سكت عنه أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه
وعلى هذا فالتعمق فى البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور فى فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت فى ظلمة لا انفكاك لها منها ولله در القائل ... وللعقول قوى تستن دون مدى ... إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات ...
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها
وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل فى الأعمال والتقريبات فى الأمور بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم كتعريفها بالظلال وطلوع الفجر والشمس وغروبها وغروب الشفق وكذلك فى الصيام فى قوله تعالى حتى يتبين (2/89)
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها نزل من الفجر وفى الحديث
إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم وقال نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وقال
لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر فى المنازل لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ولدقة الأمر فيه وصعوبة الطريق إليه وأجرى لنا غلبة الظن فى الأحكام مجرى اليقين وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم وعفا عن الخطأ إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور فلا يصح الخروج عما حد فى الشريعة ولا تطلب ما وراء هذه الغاية فإنها مظنة الضلال ومزلة الأقدام (2/90)
فإن قيل هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر فى مواقع الأحكام ومظان الشبهات ومجارى الرياء والتصنع للناس ومبالغتهم فى التحرز من الأمور المهلكات التى هى عند الجمهور من الدقائق التى لا يهتدى إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل إليها الجمهور
وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس وقد كان فى الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة وكان للخاصة من الفهم فى الشريعة ما لم يكن للعامة وإن كان الجميع عربا وأمة أمية وهكذا سائر القرون إلى اليوم فكيف هذا وأيضا فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة وما يعرفه العلماء خاصة وما لا يعلمه إلا الله تعالى وذلك المتشابهات فهى شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق وما لا يوصل إليه على الإطلاق وما يوصل إليه البعض دون البعض فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة
فالجواب أن يقال أما المتشابهات فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور آلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت آية التنزيه وإما راجعة إلى قواعد شرعية فتتعارض أحكامها وهذا خاص مبنى على عام هو ما نحن فيه وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه
أحدها أنها أمور أضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة وإنما هى أمور تعرض لمن تمرن فى علم الشريعة وزاول أحكام التكليف وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها حتى زايل الأمية من وجه فصار تدقيقه فى الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي إلى ما فهمه (2/91)
والنسبة إذا كانت محفوظة فلا يبقى تعارض بين ما تقدم وما ذكر فى السؤال
والثانى أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ورفع بعضهم فوق بعض كما أنهم فى الدنيا كذلك فليس من له مزيد فى فهم الشريعة كمن لا مزيد له لكن الجميع جار على أمر مشترك
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك بل يدخلون مع غيرهم فيها ويمتازون هم بزيادات فى ذلك الأمر المشترك بعينه فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك
كما نقول إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم وهو منها عند قوم آخرين فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين فى القسم الأول على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته وهكذا سائر المسائل التى يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج (2/92)
عن هذا القانون فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة
والثالث أن ما فيه التفاوت إنما تجده فى الغالب فى الأمور المطلقة فى الشريعة التى لم يوضع لها حد يوقف عنده بل وكلت إلى نظر المكلف فصار كل أحد فيها مطلوبا بإداركه فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو المطلوب منه ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول فهو المطلوب منه وربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها بل بما هو دونها ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم
والله أعلم
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها أو إلى تعطيل عاداته التى يقوم بها صلاح دنياه ويتوسع بسببها فى نيل حظوظه وذلك أن الأمي الذى لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده بخلاف من كان له بذلك عهد ومن هنا كان نزول القرآن نجوما فى عشرين سنة ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة
وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له مالك لا (2/93)
تنفذ الأمور فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك فى الحق قال له عمر لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر فى القرآن مرتين وحرمها فى الثالثة وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة
وهذا معنى صحيح معتبر فى الاستقراء العادى فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس وكان أكثرها على أسباب واقعة فكانت أوقع فى النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب فكانت أوقع فى النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذى قبله قد صار عادة واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأسا فإذا نزل الثانى كانت النفس أقرب للانقياد له ثم كذلك فى الثالث والرابع
ولذلك أيضا أونسوا فى الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام كما يؤنس الطفل فى العمل بأنه من عمل أبيه يقول تعالى ملة أبيكم إبراهيم ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه إلى غير ذلك من الآيات فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الأثنين وفى الحديث
الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور فى قلبه وانشرح به صدره فلا يأتي فعل ثان إلا وفى النفس له القبول هذا فى عادة الله فى أهل الطاعة وعادة (2/94)
أخرى جارية فى الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ومن هنا كان عليه الصلاة و السلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه فكان يحب الرفق ويكره العنف وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل فى التشريع للجمهور
المسألة الخامسة
إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين من جهة دلالته على المعنى الأصلى ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذى هو خادم للأصل كان من الواجب أن ينظر فى الوجه الذى تستفاد منه الأحكام وهل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين معا
أما جهة المعنى الأصلي فلا إشكال فى صحة اعتبارها فى الدلالة على الأحكام بإطلاق ولا يسع فيه خلاف على حال ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهى والعمومات والخصوصات وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول
وأما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا هذا محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر
فللمصحح أن يستدل بأوجه
أحدهما أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه أولا ولا يمكن عدم اعتباره لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح فإذا كان هذا المعنى يقتضى حكما شرعيا لم يمكن إهماله واطراحه كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول فهو إذا معتبر وهو المطلوب (2/95)
والثاني أن الإستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها بلسان العرب لا من جهة كونها كلاما فقط وهذا الإعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى وما دل بالجهة الثانية هذا وإن قلنا إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص فذلك كله غير ضائر وإذا كان كذلك فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص وترجيح من غير مرجح وذلك كله باطل فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية فكان اعتبارهما معا هو المتعين
والثالث أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة
كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام
تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلى والمقصود الإخبار بنقصان الدين لا الإخبار بأقصى المدة ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ولو تصورت الزيادة لتعرض لها
واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام
إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها الحديث (2/96)
فقال لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب الإستحباب فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة لكنه لازم مما قصد ذكره وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله وفصاله فى عامين فالمقصد فى الآية الأولى بيان مدة الأمرين جيمعا من غير تفصيل ثم بين فى الثانية مدة الفصال قصدا وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر
وقالوا فى قوله تعالى فالآن باشروهن إلى قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الآية إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضى ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب
واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وأشباه ذلك من الآيات فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله وخصوصا للملائكة نفى اتخاذ الولد لا أن الولد لا يملك لكنه (2/97)
لزم من نفي الولادة وأن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا إذ لا موجود إلا رب أو عبد
واستدلوا على ثبوت الزكاة فى قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة و السلام
فيما سقت السماء العشر الحديث مع أن المقصود تقدير الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ومثله كل عام نزل على سبب فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود وإن كان السبب على الخصوص
واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى وذروا البيع مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع
وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد فى سراية العتق مع (2/98)
أن المقصود فى قوله عليه السلام
من أعتق شركا له فى عبد مطلق الملك لا خصوص الذكر إلى غير ذلك من المسائل التى لا تحصى كثرة وجميعها تمسك بالنوع الثانى لا بالنوع الأول وإذا كان كذلك ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به
وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه
أحدها أن هذه الجهة إنما هى بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هى مؤكدة للأولى ومقوية لها وموضحة لمعناها وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ومن العقول موقع الفهم كما نقول فى الأمر الآتى للتهديد أو التوبيخ كقوله اعملوا ما شئتم وقوله ذق إنك أنت العزيز الكريم فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر وإنما هو مبالعة فى التهديد أو الخزي فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم فى باب الأوامر ولا يصح أن يؤخذ وكما نقول فى نحو واسأل القرية التى كنا فيها إن المقصود سل أهل القرية ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة فى الاستيفاء بالسؤال وغير (2/99)
ذلك فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم وكذلك قوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يوخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها وإذا كان كذلك فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى
فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال
والثانى أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هى الأولى إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية وقد فرضناه من الثانية هذا خلف لا يمكن
لا يقال إن كونها دالة بالتبع لا ينفى كونها دالة بالقصد وإن كان القصد ثانيا كما نقول فى المقاصد الشرعية إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة والجميع مقصود للشارع ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية (2/100)
وينبنى على ذلك فى أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء الله فكذلك نقول هنا إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحييح ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى
لأنا نقول هذا إن سلم من أدل الدليل على ما تقدم لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا من حيث كان مؤكد للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح فى كونه مؤكدا فى قصد الشارع
فكذلك نقول فى مسألتنا إن الجهة الثانية من حيث القصد فى اللسان العربي إنما هى مؤكدة للأولى فى نفس ما دلت عليه الأولى وما دلت عليه هو المعنى الأصلي فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ويلزم من هذا أن لا يكون فى المعنى التبعى زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب
وأيضا فإن بين المسألتين فرقا وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد فى نيل مآربهم وقضاء أوطارهم ورفع الحرج عنهم وإذا دخل تحت أصل الحاجيات صح افراده بالقصد من هذه الجهة ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية بخلاف مسألتنا فإن الجهة التابعة لا يصح افرادها بالدلالة على معنى غير التأكد للأولى لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره
والثالث أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضى أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها وذلك غير صحيح ودلالتها على حكم زائد على ما فى الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى فيكون استفاده الحكم من جهتها على (2/101)
غير فهم عربي وذلك غير صحيح فما أدى إليه مثله وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم وإنما هى راجعة إلى أحد أمرين إما إلى الجهة الأولى وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك
فأما مدة الحيض فلا نسلم أن الحديث دال عليها وفيه النزاع ولذلك يقول الحنفية أن أكثرها عشرة أيام وأن سلم فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع وفيه الكلام ومسألة الشافعي فى نجاسة الماء من باب القياس أو غيره وأفل مدة الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية
وكذلك مسألة الإصباح جنبا إذ لا يمكن غير ذلك وأما كون الولد لا يملك فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع وما ذكر مسالة الزكاة فالقائل بالتعميم إنما بني على أن العموم مقصود ولم يبن على أنه غير مقصود وإلا كان تناقضا لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى وذروا البيع فهو عنده مقصود لا ملغى وإلا لزم (2/102)
التناقض فى الأمر كما ذكر وكذلك شأن القياس الجلى لم يجعلوا دخول الأمة فى حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه وهكذا سائر ما يفرض فى هذا الباب
فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت فلا يصح إعماله ألبتة وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث كذلك يمكن فى الأول والثانى فإن فى الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضى حكما شرعيا فلا يمكن إهماله وهذا عين مسألة النزاع والثانى مسلم ولكن يبقى النظر فى استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا والله أعلم
فصل
قد تبين تعارض الأدلة فى المسألة وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يقر بها كل ذي عقل سليم فيكون لها اعتبار فى الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة
أحدها أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ومن العباد لله سبحانه إما حكاية وإما تعليما فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضى للعبد ثابتا غير محذوف كقوله تعالى يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا فإذا أتى (2/103)
بالنداء من العباد إلى الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه فى الأصل والله منزه عن التنبيه وأيضا فإن أكثر حروف النداء للبعيد ومنها يا التي هي أم الباب وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب الآية ومن الخلق عموما لقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
فحصل من هذا التنبيه على أدبين أحدهما ترك حرف النداء والآخر استشعار القرب كما أن فى إثبات الحرف فى القسم الآخر التنبيه على معنين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد والدلالة على ارتفاع شأن المنادى وأنه منزه عن مداناة العباد إذ هو فى دنوه عال وفى علوه دان سبحانه
والثاني أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصح شأنه فأتى فى النداء القرآني بلفظ الرب فى عامة الأمر تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد فى دعائه بالإسم المقتضى للحال المدعو بها وذلك أن الرب فى اللغة هو القائم بما يصلح المربوب فقال تعالى فى معرض بيان دعاء العباد ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخرها ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وإنما أتى قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به بل هو مما ينافيه بخلاف (2/104)
الحكاية عن عيسى عليه السلام فى قوله قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا
والثالث أنه أتى فيه الكناية فى الأمور التي يسحبا من التصريح بها كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة وعن قضاء الحاجة بالمجىء من الغائط وكما قال فى نحوه كانا يأكلان الطعام فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل
والرابع أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبىء فى القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه كقوله تعالى الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم قال إياك نعبد وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا كقوله تعالى حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وتأمل فى هذا المساق معنى قوله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى حيث عوتب النبى صلى الله عليه و سلم بهذا المقدار من هذا العتاب لكن على حال تقتضى الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ثم رجع الكلام إلى الخطاب إلا أنه بعتاب أخف من الأول ولذلك ختمت الآية بقوله كلا إنها تذكرة
والخامس الأدب فى ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شىء كما قال بعد قوله قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء إلى قوله بيدك الخير ولم يقل بيدك الخير والشر وإن كان قد ذكر القسمين معا لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر نعم قال فى أثره إنك على كل شىء قدير تنبيها فى الجملة على أن الجميع خلقه حتى جاء فى الحديث عن النبى صلى الله عليه و سلم (2/105)
والخير في يديك والشر ليس إليك وقال إبراهيم عليه السلام الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الخ فنسب إلى رب العالمين الخلق والهداية والإطعام والسقي والشفاء والإماتة والإحياء وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض فإنه سكت عن نسبته إليه
والسادس الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة كما في قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وقوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين قل إن افتريته فعلى إجرامي وقوله قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية
والسابع الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية كقوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى لعلكم تتقون لعلكم تذكرون وما أشبه ذلك فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون
ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم دخولا في غمار العامة وإن بان عنهم (2/106)
بخاصية يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم بأخبار كثير من المنافقين ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون لإجتماعهم في عدم انخرام الظاهر فما نحن فيه نوع من هذا الجنس والأمثلة كثيرة
فإذا كان كذلك ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى وهو توهين لما تقدم اختياره
والجواب أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني وإنما استفيد من جهة أخرى وهي جهة الإقتداء بالأفعال
النوع الثالث
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقضاها
ويحتوي على مسائل
المسألة الأولى
ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ولا معنى لبيان ذلك ههنا فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ولكن نبني عليها ونقول
إذا ظهر من الشارع في بادىء الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه فقول (2/107)
الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقوله في الحديث
كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وقوله
لا تمت وأنت ظالم وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد وكان عليه الصلاة و السلام يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة
لا تشرف يا رسول الله لا يصيبوك الحديث فقوله لا يصيبوك من هذا القبيل
المسألة الثانية
إذا ثبت هذا فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإنه من تكليف ما لا (2/108)
يطاق كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار لاعتدال فيما يحل وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الإكتساب
المسألة الثالثة
إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان منها ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم ومنها ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ومثاله العجلة فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه لقوله تعالى خلق الإنسان من عجل وفي الصحيح أن
إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك وقد جاء أن
الشجاعة والجبن غرائز
وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها إلى أشياء من هذا القبيل وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات وجاء
يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب
وإذا ثبت هذا فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام
أحدها ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا وهذا قليل كقوله (2/109)
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به
والثاني ما كان داخلا تحت كسبه قطعا وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه والطلب المتعلق بها عل حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها
والثالث ما قد يشتبه أمره كالحب والبغض وما في معناها فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه
والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا إما لأنها من أصل الخلقة فلا يطلب إلا بتوابعها فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضى لذلك أفعالا أخر فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه فالطلب يرد عليه كقوله تهادوا تحابوا فيكون كقوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه مرادا به التوجه إلى النظر فى نعم الله تعالى على العبد وكثرة إحسانه إليه وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل وعين الشهوة لم ينه عنه وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبة فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الإنتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع (2/110)
فصل
ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه وما ينشأ عنها من آفات اللسان وما ذكره الغزالي فى ربع المهلكات وغيره وعليه يدل كثير من الأحاديث
وكذلك فقه الأوصاف الحميدة كالعلم والتفكر والاعتبار واليقين والمحبة والخوف والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا فليس تحصيله بمقدور أصلا فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات فهو حاصل ولا يمكنه الإنصراف عنه وإن كان غير ضرورى لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر وهو المكتسب دون نفس العلم لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هوالمكتسب فيكون المطلوب وحده وأما العلم على أثر النظر فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها كما هو رأى المحققين أم لم نقل ذلك فالجميع متفقون على أنه غير داخل تحت الكسب بنفسه وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال
وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل وإذا كانت على هذا الترتيب لم يصح التكليف بها أنفسها وإن جاء فى الظاهر ما يظهر منه ذلك فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها أويتأخر عنها أو يقارنها والله أعلم
المسألة الرابعة
الأوصاف التى لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين
أحدهما ما كان نتيجة عمل كالعلم والحب فى نحو قوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمة (2/111)
والثانى ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل كالشجاعة والجبن والحلم والأناة المشهود بهما فى أشج عبد القيس وما كان نحوها
فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها فى الجملة من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة وقد مر فى - كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض على ذلك الترتيب والثانى وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين أدهما من جهة ما هى محبوبة للشارع أو غير محبوبة له والثانية من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع
فأما النظر الأول فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام لأشج عبد القيس
إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وفى بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما
وفى بعض الحديث
الشجاعة والجبن غرائز وجاء
إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية وفى الحديث
الأرواح جنود مجندة فما (2/112)
تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وهذا معنى التحاب والتباغض وهو غير مكتسب وجاء فى الحديث
وجبت محبتى للمتحابين في وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه
المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر والضعف خلاف ذلك وجاء
إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها وجاء
يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب وقال تعالى خلق الإنسان من عجل وجاء فى معرض الذم والكراهية ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة
ولا يقال إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال
لأن ذلك أولا خروج عن الظاهر بغير دليل وثانيا أنهما يصح (2/113)
تعلقهما بالذوات وهى أبعد عن الأفعال من الصفات كقوله تعالى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية
أحبوا الله لماغذاكم به من نعمه و
من الإيمان الحب فى الله والبغض فى الله ولا يسوغ فى هذه المواضع أن يقال إن المراد حب الأفعال فقط فكذلك لا يقال فى الصفات إذا توجه الحب إليها فى الظاهر إن المراد الأفعال
فصل
وإذا ثبت هذا فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال كقوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم
أبغض الحلال إلى الله الطلاق
ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وهذا كثير وإذا قلت أحب الشجاع وأكره الجبان فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف نحو قوله تعالى والله يحب المحسنين والله يحب الصابرين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وفى القرآن أيضا إن الله لا يحب كل مختال فخور والله لا يحب الظالمين وفى الحديث
إن الله يبغض الحبر السمين فإذا الحب والبغض مطلق فى الذوات والصفات والأفعال (2/114)
فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل
وأما النظر الثانى وهو أن يقال هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف وهى غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها الثواب والعقاب أما لا يصح هذا يتصور في ثلاثة أوجه أحدها أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب والثانى أن يتعلقا معا بها والثالث أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر
أما هذا الأخير فيؤخذ النظر فيه من النظر فى الوجهين لأنه مركب منهما
فأما الأول فيستدل عليه بوجهين
أحدهما أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا لأنه تكليف بما لا يطاق وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا فالأوصاف المشار إليها لا ثواب عليها ولا عقاب
والثانى أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هى صفات أو من جهة متعلقاتها فإن كان الأول لزم فى كل صفة منها أن تكون مثابا عليها كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ومعاقبا عليها أيضا كذلك لأن ما وجب للشىء وجب لمثله وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة وذلك محال وإن كان من حيث متعلقاتها فالثواب والعقاب على المتعلقات وهى الأفعال والتروك لا عليها فثبت أنها فى أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب وهو المطلوب (2/115)
وأما الثانى فيستدل عليه أيضا بأمرين
أحدهما أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها والحب والبغض من الله تعالى إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين فى كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى وهذا رأي طائفة أخرى وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام وهما عين الثواب والعقاب
فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب
والثانى أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا فإن استلزم فهو المطلوب
وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات وهو محال وإما لأمر راجع إلى الله تعالى وهو محال لأن الله غني عن العالمين تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشىء بل هو الغني على الإطلاق وذو الكمال بكل اعتبار وإما للعبد
وهو الجزاء إذ لا يرجع للعبد إلا ذلك (2/116)
وأمر ثالث وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات أو لا فإن كان الجزاء متفاوتا فقد صار للصفات قسط من الجزاء وهو المطلوب وإن كان متساويا لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا فى الفعل
وذلك غير صحيح لما يلزم عليه أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب وبالعكس وهو محال فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء
فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها وذلك ما أردنا
وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل
أما الأول فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اظطرارا علم بها أو لم يعلم (2/117)
والثانى كشارب الخمر ومن أتى عرافا فإنه جاء
أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت أركانها وشروطها ولا خلاف أيضا فى وجوب الصلاة على كل مسلم عدلا كان أو فاسقا وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل
وأما الثانى فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء فقوله إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف فقد ثبت بطلانه
وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر فى الثواب والعقاب وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه
ولصاحبه المذهب الأول أن يعترض على الثانى فى أدلته
أما الأول فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور وهو الصفات والذوات المخلوق عليها
وأما الثانى فإن القسمة غير منحصرة إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح فى مجارى العادات
وأما الثالث فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات فوقوعها على حسبها فى الكمال أو النقصان فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال الصانع (2/118)
وبالضد فكذلك ههنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات وهو المطلوب
فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ولا حاجة إليه فى هذا الموضع وبالله التوفيق
المسألة الخامسة
تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف وبقى النظر فيما يدخل تحت مقدوره لكنه شاق فهذا موضعه فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفى التكليف بما لا يطاق أن نعلم منه نفى التكليف بأنواع المشاق ولذلك ثبت فى الشرائع الأول التكليف بالمشاق ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق وأيضا فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهما وأما المعتزلة فذلك أصلهم بخلاف التكليف بما يشق فإذا كان كذلك فلا بد من النظر فى ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة
ولا بد قبل الخوض فى المطلوب من النظر فى معنى المشقة وهى فى أصل اللغة من قولك شق على الشىء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ومنه قوله تعالى لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس والشق هو الإسم من المشقة وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية
أحدها أن يكون عاما فى المقدور عليه وغيره فتكليف ما لا يطاق (2/119)
يسمى مشقة من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا فى عناء وتعب لا يجدى كالمقعد إذا تكلف القيام والإنسان إذا تكلف الطيران فى الهواء وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل فى نفس المشقة سمي العمل شاقا والتعب فى تكلف حمله مشقة
والثانى أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد فى الأعمال العادية بحيث يشوش على النفوس فى تصرفها ويقلقها فى القيام بما فيه تلك المشقة
إلا أن هذا الوجه على ضربين
أحداهما أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها وهذا هو الموضع الذى وضعت له الرخص المشهورة فى اصطلاح الفقهاء كالصوم فى المرض والسفر والإتمام فى السفر وما أشبه ذلك
والثانى أن لا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا فى النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما إلا أنه فى الدوام يتعبه حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة فى الضرب الأول وهذا هو الموضع الذى شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة و السلام عن الوصال وعن التنطع والتكلف وقال
خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وقوله القصد القصد تبلغوا والأخبار هنا كثيرة وللتنبيه عليها موضع آخر فهذه مشقة ناشئة من أمر كلى وفى الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي (2/120)
والوجه الثالث أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير فى تعب النفس خروج عن المعتاد فى الأعمال العادية ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف وهو فى اللغة يقتضى معنى المشقة لأن العرب تقول كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به وتكلفة الشئ إذا تحملته على مشقة وحملت الشىء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ودخول فى أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا
والرابع أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء وذلك معلوم فى العادات الجارية فى الخلق
فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة فى نفسها انتظمت فى أربعة
فأما الأول فقد تخلص فى الأصول وتقدم ما يتعلق به
وأما الثانى وهى
المسألة السادسة
فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور
أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما (2/121)
حملته على الذين من قبلنا الآية وفى الحديث
قال الله تعالى قد فعلت وجاء لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وما جعل عليكم فى الدين من حرج يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الأنسان ضعيفا ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية وفى الحديث
بعثت بالحنيفية السمحة
وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما وإنما قال
ما لم يكن إثما لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما فى هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ولكان مريدا للحرج والعسر وذلك باطل
والثانى ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات فى الاضطرار فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة وكذلك ما جاء من النهى عن التعمق والتكليف والتسبب فى الانقطاع عن دوام الأعمال
ولو كان الشارع قاصدا للمشقة فى التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف
والثالث الإجماع على عدم وقوعه وجودا فى التكليف وهو يدل (2/122)
على عدم قصد الشارع إليه ولو كان واقعا لحصل فى الشريعة التناقض والاختلاف
وذلك منفى عنها فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا
وهى منزهة عن ذلك
وأما الثالث وهي
المسألة السابعة
فإنه لا ينازع فى أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ولكن لا تسمى فى العادة المستمرة مشقة كما لا يسمى فى العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل فى الغالب المعتاد بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ويذمونه بذلك فكذلك المعتاد فى التكاليف
وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التى لا تعد مشقة عادة والتى تعد مشقة وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وإلى وقوع خلل فى صاحبه فى نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وإن لم يكن فيها شىء من ذلك في الغالب فلا يعد فى العادة مشقة وإن سميت كلفة فأحوال الإنسان كلها كلفة فى هذه الدار فى أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات فكذلك التكاليف فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة
وإذا تقرر هذا فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة بل من جهة ما فى ذلك من (2/123)
المصالح العائدة على المكلف والدليل على ذلك ما تقدم فى المسالة قبل هذا فإن قيل ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة فى التكليف لأوجه
أحدها أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك إذ حقيقته فى اللغة طلب ما فيه كلفة وهى المشقة فقول الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة لتسمية الشرع له تكليفا
فهى إذا مقصودة له وعلى هذا النحو يتنزل قوله وما جعل عليكم فى الدين من حرج وأشباهه
والثانى أن الشرع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك فإذا يلزم أن (2/124)
يكون الشارع طالبا للمشقة بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسب عنه قاصد للمسبب وقد مر تقرير هذه المسألة فى كتاب الأحكام فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا
والثالث أن المشقة فى الجملة مثاب عليها إذا لحقت فى أثناء التكليف مع قطع النظر عن ثواب التكليف كقوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله إلى آخر الآية وقوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وما جاء فى كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا وما جاء فى إسباغ الوضوء على المكارة وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية وذلك لما فى القتال من أعظم المشقات حتى قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وأشباه ذلك
فإذا كانت المشقات من حيث هى مشقات مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف دل على أنها مقصود له وإلا فلو لم يقصدها لم يقع عليها ثواب
كسائر الأمور التى لم يكلف بها فأوقعها المكلف باختياره حسبما هو مذكور فى المباح فى - كتاب الأحكام فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف
وهو المطلوب
فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين أحدهما أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة والثانى أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا فأما الثانى فلا شك فى أنه مقصود الشارع بالعمل والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب وأما الأول فلا نسلم أنه قصد ذلك والقصد أن لا يلزم اجتماعهما فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع والإيلام بقصد (2/125)
العروق وقطع الأعضاء المتآكلة نفع المريض لا إيلامه وإن كان على علم من حصول الإيلام فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة
فالنزاع في قصده للمشقة وإنما سمى تكليفا باعتبار ما يلزمه على عادة العرب في تسمية الشيء لما يلزمه وإن كان في الإستعمال غير مقصود حسبما هو معلوم في علم الإشتقاق من غير أن يكون ذلك مجازا بل على حقيقة الوضع اللغوي
والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه أعني في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد وقد تقدم لهذا تقرير في - كتاب الأحكام
وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله
وأيضا لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا (2/126)
لرفع المشقة وإيقاعها معا وهو محال باطل عقلا وسمعا
وأيضا فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتآكلة وقلع الأضراس الوجعة وبط الجراحات وأن يحمي المريض ما يشتهبه وإن كان يلزم منه إذاية المريض لأن المقصود إنما هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإذاء التي هي بطريق اللزوم وهذا شأن الشريعة أبدا فإذا كان التكليف على وجه فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة لأن المقصود المصلحة
فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة
وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها
والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف وبها حصل العمل المكلف به ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود لا أنها مقصودة مطلقا فرتب الشارع فى مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيآته بسبب ما يلحقة من المصائب والمشقات كما دل عليه قوله عليه الصلاة و السلام
ما يصيب (2/127)
المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من سيئآته وما أشبه ذلك
وأيضا فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به وسيأتى تقريره إن شاء الله تعالى
فصل
ويترتب على هذا أصل آخر
وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها فى التكليف نظرا إلى عظم أجرها وله أن يقصد العمل الذى يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل
أما هذا الثانى فلأنه شأن التكليف فى العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر وذلك هو قصد الشارع يوضع التكليف به وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب (2/128)
وأما الأول فإن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة فى التصرفات كما يذكر فى موضعه إن شاء الله فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل
فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم فطلب الأجر بقصد الدخول فى المشقة قصد مناقض
فإن قيل هذا مخالف لما فى الصحيح من حديث جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم
إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفى رواية فقالوا ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا وفى رواية عن جابر قال كانت ديارنا نائية عن المسجد فأردنا أن نبيع بيوتنا فنتقرب من المسجد فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال
إن لكم بكل خطوة درجة
وفى رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري أنه كان فى سفينة فى البحر مرفوع شعراعها فإذا رجل يقول يا أهل السفينه قفوا سبع مرار فقلنا ألا ترى على أي حال نحن ثم قال فى السابعة لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه فى يوم من أيام الدنيا شديد الحر كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه (2/129)
وفى الشريعة من هذا مايدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه فى العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة و السلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل أحدهما سهل والآخر صعب فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر
وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء فإنهم ركبوا فى التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم وترك الرخص جملة فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم وفى الصحيح أيضا عن أبي بن كعب قال كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت فى المدينة فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فتوجعنا له فقلنا له يا فلان لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض فقال أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فحملت به حتى أتيت نبى الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته قال فدعاه فقال له مثل ذلك وذكر أنه يرجو له فى أثره الأجر فقال له النبى صلى الله عليه و سلم إن لك ما احتسبت
فالجواب أن نقول
أولا إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي والظنيات لا تعارض القطعيات فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات
وثانيا إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره فإنه زاد فيه
وكره أن تعرى المدينة قبل (2/130)
ذلك لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ثم نزل إلى المدينة وقيل له عند نزوله العقيق لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد فقال بلغني أن النبى صلى الله عليه و سلم كان يحبه ويأتيه وأن بعض الأنصار أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم
أما تحتسبون خطاكم فقد فهم مالك أن قوله ألا تحتسبون خطاكم ليس من جهة إدخال المشقة ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه
وأما حديث ابن المبارك فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه
ومع ذلك فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه (2/131)
كالوضوء عند الكريهات والظمأ والنصب في الجهاد فإذا اختيار أبي موسى رضى الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به وإنما فيه قصد الدخول فى عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها فالمشقة فى هذا القصد تابعة لا متبوعة وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة فى القصد غير تابعة وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد وإنما فيه دليل عى قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره وهكذا سائر ما فى هذا المعنى
وأما شأن أرباب الأحوال فمقاصدهم القيام بحق معبودهم مع اطراح النظر فى حظوظ نفوسهم ولا يصح أن يقال إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات لما تقدم من الدليل عليه ولما سياتي بعد إن شاء الله
وثالثا إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال الآخر أما أنا فلا آتي النساء فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله وقال
من رغب عن سنتي فليس مني وفى الحديث
ورد النبي صلى الله عليه و سلم التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لا ختصينا
ورد صلى الله عليه و سلم على من نذر أن يصوم قائما فى الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام فى الشمس (2/132)
وقال هلك المتنطعون ونهيه عن التشديد شهير فى الشريعة بحيث صار أصلا فيها قطعيا فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبالله التوفيق
فصل
وينبنى أيضا على ما تقدم أصل آخر
وهو أن الأفعال المأذون فيها إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها مشقة فإما أن تكون معتادة فى مثل ذلك العمل أو لا تكون معتادة فإن كانت معتادة فذلك الذى تقدم الكلام عليه وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هى مشقة وإن لم تكن معتادة فهى أولى أن لا تكون مقصودة للشارع ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله أو لا
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح فى التعبد به لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ومثال هذا حديث الناذر للصيام قائما فى الشمس ولذلك قال مالك فى أمر النبى صلى الله عليه و سلم له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال أمره أن يتم ما كان لله طاعة ونهاه عما كان لله (2/133)
معصية لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده
وهو ظاهر إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشره لا بسبب الدخول فى العمل كما فى المثال فالحكم فيه بين
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا إلا بمشقة خارجة عن المعتاد فى مثل العمل فهذا هو الذى جاء فيه قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وجاء فيه مشروعية الرخص
ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة فذاك ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه وإن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين
أحدهما أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه فى نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ويكره بسببه العمل فهذا أمر ليس له
وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ولكنه لما دخل فى العمل دخل عليه ذلك فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش وفى مثل هذا جاء
ليس من البر الصيام فى السفر وفى نحوه نهى عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان وقال
لا يقض القاضى وهو غضبان وفى القرآن لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء (2/134)
العمل المأذون فيه على كماله فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب والإبقاء عليه حتى يكون فى ترفه وسعة حال دخوله فى ربقة التكليف
والثانى أن يعلم أن يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ولكن فى العمل مشقة غير معتادة فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ويتفصل الأمر فيه فى - كتاب الأحكام والعلة فى ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت بل المشقة فى نفسها هى العنت والحرج وإن قدر على الصبر عليها فهى مما لا يقدر على الصبر عليه عادة
إلا أن هنا وجها ثالثا وهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ورب شىء هكذا فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى المعانين على بذل المجهود فى التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ألا ترى إلى قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فجعلها كبيرة على المكلف واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عيله وسلم فهو الذى كانت قرة عينه فى الصلاة حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا وقام حتى تفطرت قدماه فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته فى هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية
وهذا القسم يستدعى كلاما يكون فيه مد بعض نفس فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه مع تأكده فى أصول الشريعة (2/135)
فصل
فأعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين
أحدهما الخوف من الانقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه فى جسمه أو عقله أو ماله أو حاله
والثانى خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي فى الطريق فربما كان التوغل فى بعض الأعمال شاغلا عنها وقاطعا بالمكلف دونها وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة فى الاستقصاء فانقطع عنهما
فأما الأول فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحبها لهم بذلك فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ألا ترى إلى قوله تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتم إلى آخرها فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله وزينه فى قلوبنا بذلك وبالوعد الصادق بالجزاء عليه وفى الحديث
عليكم من (2/136)
الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وفى حديث قيام رمضان
أما بعد فإنه لم يخف على شأنكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها وفى حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة و السلام
لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا وحديث أنس دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد وحبل ممدود بين ساويتين فقال ما هذا قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال
حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة و السلام
أفتان أنت يا معاذ حين أطال الصلاة بالناس وقال
إن منكم منفرين فأيكم من صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ونهى عن الوصال رحمة لهم ونهى عن النذر وقال
إن الله يستخرج به من البخيل وإنه لا يغنى من قدر الله شيئا أو كما قال لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه ما تقدم من السآمة والملل والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن (2/137)
المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وقالت عائشة رضى الله عنها نهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك تواصل فقال
إنى لست كهيئتكم إني أبيت يطعمنى ربي ويسقيني
وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما فإذا وجد ما علل به الرسول صلى الله عليه و سلم كان النهي متوجها ومتجها وإذا لم توجد فالنهي مفقود إذ الناس فى هذا الميدان على ضربين
ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه فى العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد فيؤثر فيه أو فى غيره فسادا أو تحدث له ضجرا ومللا وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل كما هو الغالب فى المكلفين فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحسب ما شرع له فى الترخيص إن كان مما لا يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى التعليل ودليله قوله عليه الصلاة و السلام
لا يقض القاضى وهو غضبان وقوله
إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا وهو الذى أشار به عليه الصلاة و السلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم وقد قال بعد الكبر ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/138)
والضرب الثانى شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة أو حاد يسهل به الصعب أو لما له فى العمل من المحبة ولما حصل له فيه من اللذة حتى خف عليه ما ثقل على غيره وصارت تلك المشقة فى حقه غير مشقة بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش فى العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره كما جاء فى الحديث
أرحنا بها يا بلال وفى الحديث
حبب إلى من دنياكم ثلاث قال وجعلت قرة عيني فى الصلاة وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه
أفلا أكون عبدا شكورا وقيل له عليه الصلاة و السلام أنأخذ عنك فى الغضب والرضى قال نعم وهو القائل فى حقنا
لا يقضى القاضى وهو (2/139)
غضبان وهذا وإن كان خاصا به فالدليل صحيح وجاء فى هذا المعنى من احتمال المشقة فى الأعمال والصبر عليها دائما كثير
ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضى الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد كعمر وعثمان وأبي موسى الأشعري وسعيد بن عامر وعبد الله بن الزبير ومن التابعين كعامر بن عبد قيس وأويس ومسروق وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والربيع بن خثيم وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش وكمنصور بن زاذان ويزيد بن هرون وهشيم وزر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم فى اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم
ومما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة وسرد الصيام كذا وكذا سنة وروى عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام
وأجاز مالك صيام الدهر وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ويقول بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا ونحوه عن عبد الله بن الزبير وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه فى الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة يقول له ويحك لم تعذب هذا الجسد فيقول إن الأمر جد وعن ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت كان يصلى حتى تورمت قدماه فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه وعن الشعبي قال غشي على مسروق فى يوم (2/140)
صائف وهو صائم فقالت له ابنته أفطر قال ما أردت بي قالت الرفق
قال يا بنية إنما طلبت الرفق لنفسي فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التى لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين فى السابقين جعلنا الله منهم وذلك لأن العلة التى لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودة فى حقهم فلم ينتهض النهي فى حقهم كما أنه لما قال
لا يقض القاضي وهو غضبان وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر وانتفى عند انتفائه حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذى لا يشوش وهذا صحيح مليح
فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد والثانى حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فالخوف سوط سائق والرجاء حاد قائد والمحبة تيار حامل فالخائف يعمل مع وجود المشقة غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا والراجى يعمل مع وجود المشقة أيضا غير أن الرجاء فى تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ويفنى القوي ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ويرخص له فيه إن كان لازما له حتى لا يحصل فى مشقة ذلك لأن فيه تشويش النفس كما تقدم
ولكن العمل الحاصل والحالة هذه هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله
هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة الصلاة فى الدار المغصوبة (2/141)
وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي وأنه لا يجزئه إن فعل
ونقل المنع فى الطهارة عند خوف التلف والانتقال إلى التيمم وفى خوف المرض أو تفلف المال احتمال والشاهد للمنع قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات فالأمران مفترقان فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة فصارت ذات قولين
وأيضا فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى وهى أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله أم لأجل أنها حق للعبد فإن قلنا إنها حق لله فيتجه المنع حيث وجهه الشارع وقد رفع الحرج فى الدين فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع وإن قلنا إنه حق للعبد فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة
والذى يرجح هذا الثانى أمور
منها أن قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد لقوله تعالى إن الله كان بكم رحيما يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم وأيضا فقوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد
ومنها ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإردة اليسر فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ومما يخص مسألتنا قيام النبي صلى الله عليه و سلم حتى تفطرت قدماه أو تورمت قدماه والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ولكن المرفى طاعة (2/142)
الله يحلو للمحبين وهو عليه الصلاة و السلام كان إمامهم وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم وقد روى عن الحسن بن عرفة قال رأيت يزيد بن هرون بواسط وهو من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعين واحدة ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت له يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وما تقدم فى احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ولكن جعل ذلك إلى خيرته
فصل
وأما الثانى فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ولا محيص له عنها يقوم فيها بحق ربه تعالى فإذا أوغل في علم شاق فربما قطعة عن غيره ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به فيقصر فيه فيكون بذلك ملوما غير معذور إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ولا بحال من أحواله فيها
ذكر البخاري عن أبي جحيفة قال آخى النبي صلى الله عليه و سلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له كل فإني صائم فقال ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال نم فنام ثم ذهب ليقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصلينا (2/143)
فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدق سلمان
وقوله عليه الصلاة و السلام لمعاذ
أفتان أنت أو أفاتن أنت ثلاث مرات فلولا صليت فسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ سورة البقرة والنساء فانطلق الرجل انظره فى البخاري
وكذلك حديث
إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث
ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاةالصبح فى الجماعة لإطالة الصلاة من الليل وأيضا فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام
كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقيل لابن مسعود رضى الله عنه وإنك لتقل الصوم
فقال إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي منه ونحو هذا ما حكى (2/144)
عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا لأنه كان في الموقف يوما صائما وكان شديد الحر فاشتد عليه قال فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار وكره مالك إحياء الليل كله وقال لعله يصبح مغلوبا وفي رسول الله أسوة ثم قال لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا وإن كان وهو به فتور أو كسل فلا بأس به فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل وأنه يسبب تعطيل وظائف كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة نهي عن ذلك وإن لم يكن شئ من ذلك فالإيغال فيه حسن وسبب القيام بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أوالمحبة
فإن قيل دخول الإنسان فى العمل وإيغاله فيه وإن كان له وازع الخوف أو حادي الرجاء أوحامل المحبة لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل صائما النهار واطئا أهله إلى اشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد وإغاثة اللهفان وقضاء حوائج الناس وغير ذلك من الأعمال بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الإجتماع فيها وقد لا تضادها ولكن تؤثر فيها نقصا وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ولهذا جاء
من يشاد هذا الدين يغلبه وأيضا فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال (2/145)
ومسقطى الحظوظ فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها
فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان
أحدهما أرباب الحظوظ وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ولا يضر بحظوظهم
فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا وقطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه وذلك فساد كبير ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخر للإنسان
فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ويبقى في المندوب والمكروه على توازن فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلا وينهى عن المكروه الذى لاحظ فيه عاجلا كالصلاة في الأوقات المكروهة وينظر في المندوب الذي لاحظ له فيه وفي المكروه الذي له فيه حظ أعني الحظ العاجل فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي (2/146)
لما يكره شرعا أو لترك مندوب هو أعظم أجرا كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات حسبما نبه عليه حديث
إذارأى أحدكم امرأة فأعجبته الخ وكذلك ترك الصوم يوم عرفة أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن وفي الحديث
إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر اقوى لكم وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه غلب الجانب الأخف كما قال الغزالي إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات على التورع عنها مع عدم طاعتهما فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله فإن كان في تناولها رضى الوالدين رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية وهو مخالفة الوالدين ومثله ما روى عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس
فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال فيقع الترجيح بينها فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه
والثاني أهل إسقاط الحظوظ وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح (2/147)
بين الأعمال غير أن سقوط حظوظهم لعزوب أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الإنقطاع وكراهية الأعمال ووفقهم في الترجيح بين الحقوق وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة
فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة فمعتذر إلا في المنهيات فإنه ترك بإطلاق ونفي أعمال لا أعمال والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر كقوله إن لنفسك عليك حق وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه فحظه أيضا آخر الأشياء المستحقة وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا فدخل فيه من الأعمال كثير
وإذا عمل على حظه من حيث الأمر فهو عبادة كما سيأتي فصار عبادة بعد ما كان عادة فهو ساقط من جهته ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس بل يصير أكثر عمله في الواجبات وهنا مجال رحب له موضع غير هذا
فصل
ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من المأذون فيه فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه (2/148)
إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة كالقصاص والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة فإنها زجر للفاعل وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا
وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا فكما لا يقال للطبيب إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال فكذلك هنا فإن الشارع هو الطبيب الأعظم والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ويشبه هذا ما في الحديث من قوله
ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت لأن الموت لما كان حتما على المؤمن وطريقا إلى وصوله إلى ربه وتمتعه بقربه في دار القرار صار في القصد إليه معتبرا وصار من جهة المساءة فيه مكروها وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان الوفاء بها لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هى عبادات وإن شقت كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت كما إذا حلف بصدقه ماله فإنه يجزئه الثلث أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر فإنه يركب ويهدى أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك (2/149)
فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات
فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام فى المأمورات والمنهيات
ولا يقال إنه قد جاء فى القرآن فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فسمي الجزاء اعتداء وذلك يقتضى القصد إلى الاعتداء ومدلوله المشقة الداحلة على المعتدى
لأنا نقول تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز معروف مثله فى كلام العرب وفى الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى الله يستهزىء بهم ومكروا ومكر الله إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا إلى أشباه ذلك
فلا اعتراض بمثل ذلك
فصل
وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه ولا بسبب دخوله فى عمل تنشأ عنه فههنا ليس للشارع قصد فى بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها كما أنه ليس له قصد فى التسبب فى إدخالها على النفس غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وفهم من مجموع الشريعة الإذن فى دفعها على الإطلاق رفعا للمشقة اللاحقة وحفظا على الحظوظ التى أذن لهم فيها بل أذن فى التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه وحفظا على تكميل الخلوص فى التوجه إليه والقيام بشكر النعم
فمن ذلك الإذن فى دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد وفى التداوى عند وقوع الأمراض وفى التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها وهكذا سائر ما يقوم به عيشه فى هذه الدار (2/150)
من درء المفاسد وجلب المصالح ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله
وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة
إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه فلا إشكال فى علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ولا يعتبر هنا جهة التسليط والإبتلاء لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغي فى التكليف وإن كان ممتبرا فى العقد الإيماني كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء وإن كان فى نفسه ابتلاء لأنه طاعة أو معصية من جهة العبد خلق للرب فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله فى العبد فليس له فى الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر فكذلك هنا
وأما إن لم يثبت انحتام الدفع فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي فيستسلم العبد للقضاء ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح وأذن عليه الصلاة و السلام فى البقاء على حكم المرض كما فى حديث السوداء المجنونة التى سألت النبي صلى الله عليه و سلم أن يدعو لها فخيرها فى الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك وكما (2/151)
فى الحديث
ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب كما فى التداوى حيث قال عليه الصلاة و السلام
تداوو فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأما إن ثبت الإباحة فالأمر أظهر وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ وبقي الكلام على الوجه الرابع وذلك مشقة مخالفة الهوى وهى (2/152)
المسألة الثامنة
وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها وصعب خروجها عنه ولذلك بلغ أهل الهوى فى مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال ولم يرضوا بمخالفة الهوى حتى قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية وقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وما أشبه ذلك
ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا لله فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة فى التكليف وإن كانت شاقة فى مجاري العادات إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له وذلك باطل فما أدى إليه مثله وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله
المسألة التاسعة
كما أن المشقة تكون دنيوية كذلك تكون أخروية فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التى هي غير مخلة بدين واعتبار الدين مقدم على (2/153)
اعتبار النفس وغيرها فى نظر الشرع وكذلك هنا فإذا كان كذلك فليس للشارع قصد فى إدخال المشقة من هذه الجهة وقد تقدم من الأدلة التىيدخل تحتها هذا المطلوب ما فيه كفاية
المسألة العاشرة
قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده كالمسائل المتقدمة وقد تكون عامة له ولغيره وقد تكون داخلة على غيره بسببه
ومثال العامة له ولغيره كالوالى المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه إلا أن (2/154)
الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر ولحقه من ذلك ما يلحق غيره
ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام
وعلى كل تقدير فالمشقة من حيث هي غير مقصود للشارع تكون غير مطلوبة ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك وإن لم يمكن فلا بد من الترجيح فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة
وإن كان بالعكس فالعكس وإن لم يظهر ترجيح فالتوقف كما سيأتي ذكره في - كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله (2/155)
المسألة الحادية عشرة
حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضا والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل إما في نفس العمل المكلف به وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف وإما فيهما معا فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله وذلك غير صحيح فكان مما يستلزمه غير صحيح
إلا أن هنا نظرا وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة بإختلاف تلك الأعمال فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد إلى غير ذلك من أعمال التكليف
ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد في كل وقت في كل مكان وعلى كل حال فليس (2/156)
إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد مع فعله على خلاف ذلك
وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بعد قوله ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون إلى آخرها وقوله وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة تبوك ومنع رسول الله صلى الله وسلم من مكالمتهم وإرجاء أمرهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وكذلك ما جاء فى نكاح الإماء عند خشية العنت ثم (2/157)
قال وأن تصبروا خيرا لكم
إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ فى الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه فى الحقيقة معتاد ومشقته فى مثلها مما يعتاد إذ المشقة فى العمل الواحد لها طرفان وواسطة طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل وواسطه هى الغالب والأكثر فإذا كان كذلك فكثيرا مما يظهر مبادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد لم يكن للشارع قصد فى رفعها كسائر المشقات المعتادة فى الأعمال الجارية على العادة فلا يكون فيها رخصة وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف
فحيث قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا ثم قال إلا تنفروا يعذكم عذابا أليما كان هذا موضع شدة لأنه يقتضى أن لا رخصة أصلا فى التخلف إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل فى الأعمال المعتادة بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج وقد كان اجتمع فى غزوة تبوك أمران شدة الحر وبعد الشقة زائدا على مفارقة الظلال واستدرار الفواكه والخيرات
وذلك كله زائد فى مشقة الغزو زيادة ظاهرة ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد فلذلك لم يقع فى ذلك رخصة فكذلك أشباهها وقد قال تعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم
وقد قال ابن عباس فى قوله تعالى وما جعل عليكم فى الدين من حرج (2/158)
إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات وقال عكرمة ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وعن عبيد بن عمير أنه جاء فى ناس من قومه إلى ابن عباس فسأله عن الحرج فقال أولستم العرب ثم قال ادع لي رجلا من هذيل فقال ما الحرج فيكم قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج قال ابن عباس ذلك الحرج ما لا مخرج له فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات وأصل الحرج الضيق
فما كان من معتادات المشقات فى الأعمال المعتاد مثلها فليس بحرج لغة ولا شرعا كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية وهى التمحيص والاختبار حتى يظهر فى الشاهد ما علمه الله فى الغائب فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع وما ليس بمقصود الرفع والحمد لله
فصل
قال ابن العربي إذا كان الحرج فى نازلة عامة فى الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفى بعض أصول الشافعي اعتباره انتهى ما قال وهو مما ينظر فيه
فإنه إن عني بالخاص الحرج الذى فى أعلى مراتب المعتاد فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه وإلا لزم فى أصل التكليف فإن تصور وقوع اختلاف فإنما هو مبنى على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما وأيضا فتسميته خاصا يشاح فيه فإنه بكل اعتبار عام غير خاص إذ ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض
وأن عني بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم وقد شرع فيه التخفيف فهذا عام والمرض (2/159)
قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ومنهم من يقدر على ذلك ومنهم من يقدر على الصوم ومنهم من لا يقدر فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة فالظاهر أنه خاص ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص وإلا فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي صلى الله عليه و سلم أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك
فإن قيل لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم وما كان خاصا ببعض الأقطار أو بعض الأزمان أو بعض الناس وما أشبه ذلك فالجواب أن هذا أيضا مما ينظر فيه فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام فى ذلك الكلي لا خاص لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين أو بعض الأزمان المعينة أو الأمكنة المعينة وكل ذلك إنما يتصور فى زمان النبوة أو على وجه لا يقاس عليه غيره كنهيه عن (2/160)
ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة وكتخصيص الكعبة بالإستقبال والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد فتصور مثل هذا فى مسألة ابن العربي غير متأت
فإن قيل ففى النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره
قيل وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم بل جهة العموم أولى لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض وإن سقط سقط في البعض وهذا متفق عليه بين الإمامين فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك
فإن قيل لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا وهوم عام كالتراب والطحلب وشبه ذلك أو خاص كما إذا كان عدم الإنفكاك خاصا ببعض المياه فإن حكم الأول ساقط لعمومه والثاني مختلف فيه لخصوصه وكذلك اختلف في ماء البحر هل هو طهور أم لا لأنه متغير خاص وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط وإن كان خاصا ففيه خلاف كما إذا قال كل امرأة (2/161)
أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكر أتزوجها أو كل ثيب وما أشبه ذلك فهي طالق ومثله كل أمة اشتريتها فهي حرة هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص كما لو قال كل حرة أتزوجها طالق وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط فإن قال فيه كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا وجرى فيه الخلاف وأشباه ذلك من المسائل فالجواب أن هذا ممكن وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفى غيرها بالنسبة إلى علم الفقه لا بالنسبة إلى نظر الأصول إلا أنه إذا ثبت الخلاف فهو المراد ههنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال فإن الحرج العام هو الذى لا قدرة للانسان في الإنفكاك عنه كالأمثلة المتقدمة فأما إذا أمكن الانفكاك عنه فليس بحرج عام بإطلاق إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة لاختلاف أحوال الناس فى ذلك وأيضا فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة الطرف العام الذى لا انفكاك عنه فى العادة الجارية
ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتفير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد والله أعلم (2/162)
المسألة الثانية عشرة
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه الداخل تحب كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال بل هو تكليف جار على موازنة تقتضى في جميع المكلفين غاية الإعتدال كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل كقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون يسألونك عن الخمر والميسر وأشباه ذلك
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الإعتدال فيه فعل الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به فى جميع أحواله
أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف (2/163)
بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم وتكمل بها تصرفاتهم كقوله تعالى الذى جعل لكم الأرض فراشا والسمآء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقوله الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقوله هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون إلى آخر ما عد لهم من النعم ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران وشكوا في صدق ما قيل لهم أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أخبروا بحقيقتها وأنها في الحقيقة كلا شئ لأنها زائلة فانية وضربت لهم الأمثال في ذلك كقوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء الآية وقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون
بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى فقال عليه الصلاة و السلام (2/164)
إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة وقال يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم والوعيد فيه والتشديد وقال تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ولما قال عليه الصلاة و السلام
آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان شق ذلك عليهم إذ لا يسلم أحد من شئ منه ففسره عليه الصلاة و السلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر
وكذلك لما نزل وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية شق عليهم فنزل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقارف (2/165)
بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له فسئل فى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية ولما ذم الدنيا ومتاعها هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال
من رغب عن سنتي فليس مني ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة والمال والولد هي الدنيا واقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازى به المؤمنين فى الآخرة وأنه جزاء لأعمالهم فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله جزاء بما كانوا يعملون ونفى المنة به عليهم في قوله فلهم أجر غير ممنون فلما منوا بأعمالهم قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه لأنه مقطع حق وسلب عنهم ما أضاف إلى الآخرين بقوله أن هداكم للإيمان كذلك أيضا أى فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به (2/166)
وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار فقال عليه السلام
إسق يا زبير فأمره بالمعروف وأرسل الماء إلى جارك فقال الرجل إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله عليه وسلم ثم قال
إسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر واستوفى له حقه فقال الزبير إن هذه الآية نزلت فى ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية
وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها
وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر يعطي الغذاء ابتداء على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي أهو غذاء أم سم أم غير ذلك فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي والصحة المطلوبة
وهذا غاية الرفق وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه
فصل
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في االطرف الآخر
فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين (2/167)
وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها
والتوسط يعرف بالشرع وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات
النوع الرابع
في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى
المقصد شرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا (2/168)
والدليل على ذلك أمور
أحدها النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه كقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله وأولئك هم المتقون وهكذا إلى تمام ما ذكر فى السورة من الأحكام وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعباد على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله فى جميع الأحوال والانقياد إلى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله
والثانى ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله وذم من أعرض عن الله وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات والعذاب الآجل فى الدار الآخرة وأصل ذلك اتباع الهوي والإنقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة والشهوات الزائلة فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق وعده قسيما له كما فى قوله تعالى يا دواد إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وقال تعالى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وقال فى قسيمه وأما من خاف مقام ربه ونهىالنفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقد حصر الأمر فى شيئين الوحى وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق فى الوحى توجه للهوى (2/169)
ضده فاتباع الهوى مضاد للحق وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وقال أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به فى معرض الذم له ولمتبعيه وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال ما ذكر الله الهوى فى كتابه إلا ذمه فهذا كله واضح فى أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى
والثالث ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال فى اتباع الهوى والمشي مع الأغراض لما يلزم فى ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذى هو مضاد لتلك المصالح وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته وسار حيث سارت به حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه فى النظر العقلي
وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم وإطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا وهى التى يسمونها السياسة المدينة فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته فى الجملة وهو أظهر من أن يستدل عليه
وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعى على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهى العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار إذ يقال له افعل كذا كان لك فيه غرض أم لا ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض (2/170)
أم لا فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره فهى راجعة إلى إخراجها عن اختياره ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار بل فى رفعه مثلا كيف يقال إنه داخل تحت اختياره فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه كما يطرأ للمتنازعين فى حق وعلى تقدير أن اختياره وهواه فى تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر فى ذلك المباح بعينه على العكس فيحب الآن ما يكره غدا وبالعكس فلا يستتب فى قضية حكم على الإطلاق
وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشئ الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى فسبحان الذى أنزل فى كتابه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن فإذا إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان قضاء من الشارع وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعى لا بالاسترسال الطبيعي وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله
فإن قيل وضع الشرائع إما أن يكون عبثا أو لحكمة فالأول باطل باتفاق وقد قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (2/171)
ما خلقناهما إلا بالحق وإن كان لحكمة ومصلحة فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ورجوعها إلى الله محال لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين فى علم الكلام فإيبق إلا رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه فى دنياه وأخراه والشريعة تكلفت لهم بهذا المطلب فى ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا كان ما ينافيه باطلا
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهى عائدة علهيم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذى حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك
فالأوامر والنواهي مخرجة له عن داوعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو المراد وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض
أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف فى العاجل والآجل فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظر فى ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة وذلك ما أردنا ههنا (2/172)
فصل
فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد
منها أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع فى ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق لأنه خلاف الحق بإطلاق فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة وتأمل حديث ابن مسعود رضى الله عنه فى - الموطأ
إنك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون في الصلاة ويقصرون في الخطبة يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم
فأما العبادات فكونها باطلة ظاهر وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي فوجودها فى ذلك وعدمها سواء
وكذلك الإذن فى عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به كما تقدم فى - كتاب الأحكام وفى هذا الكتاب
وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أوالنهي أو التخيير فهو صحيح وحق (2/173)
لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ووافق فيه صاحبه قصد الشارع فكان كله صوابا وهو ظاهر
وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولا بهما فالحكم للغالب والسابق
فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع فلا إشكال فى لحاقه بالقسم الثانى وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعا فلا ضرر على العامل
إلا أن هنا شرطا معتبرا وهو أن يكون ذلك الوجه الذى حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع وبيان هذا الشرط مذكور فى موضعه
وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع فهو لاحق بالقسم الأول
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع وهواه تبع وإن لم يكف عند ورود النهي عليه فالغالب والسابق له الهوى والشهوة وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده
فواطىء زوجته وهى طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه أو لإذن الشارع
فإن حاضت فانكف دل على أن هواه تبع وإلا دل على أنه السابق
فصل
ومنها أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء فى ضمن المحمود لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة فحيثما زاحم مقتضاها فى العمل كان مخوفا (2/174)
أما أولا فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي لأنه مضاد لها
وأما ثانيا فإنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به حتى يسري معها فى أعمالها ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها فى الأمشاج فقد يكون مسبوقا بالإمتثال الشرعي فيصير سابقا له وإذ صار سابقا له صار العمل الإمتثالي تبعا له وفى حكمه فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا
وأما ثالثا فإن العامل بمقتضى الإمتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم وانفتاح مغاليق العلوم وربما أكرم ببعض الكرامات أو وضع له القبول فى الأرض فانحاش الناس إليه وحلقوا عليه وانتفعوا به وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة من الصلاة والصوم وطلب العلم والخلوة للعبادة وسائر الملازمين لطرق الخير فإذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما قال بعضهم لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف أو كما قال وإذا كان كذلك فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج فتكون سابقة للأعمال وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين فلا حاجة إلى تقريره ههنا (2/175)
فصل
ومنها أن اتباع الهوى فى الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لإقتناص أغراضه كالمرائى يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما فى أيدي الناس وبيان هذا ظاهر ومن تتبع مآلات اتباع الهوى فى الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا وقد تقدم فى - كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات فى أسبابها ولعل الفرق الضالة المذكورة فى الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها دون توخي مقاصد الشرع
المسألة الثانية
المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعة
فأما المقاصد الأصلية فهى التى لاحظ فيها للمكلف وهى الضروريات المعتبرة فى كل ملة وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هى ضرورية لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية وإلى ضرورية كفائية فأما كونها عينية فعلى كل مكلف فى نفسه فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب (2/176)
من ربه إليه وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه فى عمارة هذه الدار ورعيا له عن وضعه فى مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه
وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوما عليه فى نفسه وإن صار له فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي
وأما كونها كفائية فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم فى جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التى لا تقوم الخاصة إلا 2 بها إلا أن هذا القسم مكمل للأول فهو لاحق به فى كونه ضروريا إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائى وذلك أن الكفائى قيام بمصالح عامة لجميع الخلق فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط وإلاصار عينيا بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة الله فىعباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله فضلا عن أن يقوم بقبلة فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض فجعل الله الخلق خلائف فى إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك فى الأرض
ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به فى ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من (2/177)
ذلك فلا يجوز لوال أن يأخذ أجره ممن تولاهم على ولايته عليهم ولا لقاض أن يأخذ من المقضى عليه أوله أجره على قضائه ولا لحاكم على حكمه ولا لمفت على فتواه ولا لمحسن على إحسانه ولا لمقرض على قرضه ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التى للناس فيها مصلحة عامة ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة فى نصب هذه الولايات وعلى هذا المسلك يجرى العدل فى جميع الأنام ويصلح النظام وعلى خلافة يجرى الجور فى الأحكام وهدم قواعد الإسلام وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجازة عليها ولا قصد المعاوضة فيها ولا نيل مطلوب دنيوى بها وأن تركها سبب للعقاب والأدب وكذلك النظر فى المصالح العامة موجب تركها للعقوبة لأن فى تركها أي مفسدة فى العالم
وأما المقاصد التابعة فهى التى روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد (2/178)
الخلات وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره
فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب فى سد هذه الخلة بما أمكنه وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن
ثم خلق الجنة والنار وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس ههنا وأنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه فأخذ المكلف فى استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده لضعفه عن مقاومة هذه الأمور فطلب التعاون بغيره فصار يسعى فى نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع وإن كان كل أحد إنما يسعى فى نفع نفسه
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها
ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة وجعل الإكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولو شاء لمنعنا في الإكتساب الأخروى القصد إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغة ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به
فبهذا اللحظ قيل إن هذه المقاصد توابع وإن تلك هي الأصول فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد (2/179)
المسألة الثالثة
قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان
أحدهما ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله فى الإقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتممات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الإكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية
والثاني ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك أو من فروض الكفايات كالولايات العامة من الخلافة والوزارة والنقابة والعرافة والقضاء وإمامة الصلوات والجهاد والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام
فأما الأول فلما كان للانسان في حظ عاجل وباعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه بل جعل الإحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب بل كثيرا ما يأتي في معرض (2/180)
الإباحة كقوله وأحل الله البيع فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك مع أن لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والإكتساب فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الإكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية كما لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب وما أشبه ذلك
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان قسم يكون القيام باالمصالح فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرة وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والإكتساب بما للغير فيه مصلحة كالإجارات والكراء والتجارة وسائر وجوه الصنائع والإكتساب
فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر وهذه حكمة بالغة ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم بل هو على الضد من ذلك أكدت (2/181)
جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا والإبعاد بالنار في الآخرة كالنهي عن قتل النفس والزنى والخمر وأكل الربا وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة وأشباه ذلك فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه فإن عز السلطان وشرف الولايات ونخوة الرياسة وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها وأكد النظر في مخالفة الداعي فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها كقوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إلى آخرها وفي الحديث
لا تطلب الإمارة فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال وجاء النهي عن غلوم الأمراء وعن عدم النصح في الإمارة لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات (2/182)
وأما قسم الأعيان فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود اكد القصد إلى فعله بالإيجاب ونفيه بالتحريم وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات بل هي خالصة لله رب العالمين ألا لله الدين الخالص وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ونخوة الولاية وشرف الأمر والنهي وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع بل هو مطلوب متأكد فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك وقد قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك الآية وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي الحديث
من طلب العلم تكفل الله برزقه إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق
فصل
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه (2/183)
حظه بالقصد الثاني من الشارع وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحط
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامةالمعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السموات لهم ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم وما يخصون به من انشراح الصدور وتنوير القلوب وإجابة الدعوات والإتحاف بأنواع الكرامات وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة
من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة
وأيضا فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه وماله في الآخرة من النعيم أعظم
وأما الثاني فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر فإن أكل المستلذات ولباس اللينات وركوب الفارهات ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لاحظ فيه (2/184)
وأيضا فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير وإن كان في طريق الحظ فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه وهكذا نفقته على أولاده وزوجته وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب والله أعلم
فصل
وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام
قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة
وقسم اعتبر فيه ذلك وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير فى طريق مصلحة الإنسان فى نفسه كالصناعات والحرف العادية كلها وهذا القسم فى الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه فى خاصة نفسه وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض
وقسم يتوسط بينهما فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذى لاحظ فيه وهذا ظاهر فى الأمور التى لم تتمحض فى العموم وليست خاصة ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات والأذان وما أشبه ذلك فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان فى الاكتساب يدخلها الحظ ولا تنافض فى هذا فإن جهة الأمر بلاحظ غير وجه الحظ فيؤمر انتدابا أن يقوم به (2/185)
لحظ ثم يبذل له الحظ فى موطن ضرورة أو غير ضرورة حين لا يكون ثم قائم بالانتداب وأصل ذلك فى والي مال اليتيم قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وانظر ما قاله العلماء فى أجرة القسام والناظر فى الأحباس والصدقات الجارية وتعليم العلوم على تنوعها ففى ذلك ما يوضح هذا القسم
المسألة الرابعة
ما فيه حظ العبد محضا من المأذون فيه يتأتى تخليصه من الحظ فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد صار مجردا من الحظ كما أنه إذا لبى الطلب بالإمتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذى لاحظ فيه للمكلف
وإذا كان كذلك فهل يلحق به فى الحكم لما صار ملحقا به فى القصد هذا (2/186)
مما ينظر فيه ويحتمل وجهين من النظر
أحدهما أن يقال إنه يرجع فى الحكم إلى ما ساواه فى القصد لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق فى إصلاح أقواتهم ومعايشهم أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال فى أموال الخلق فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولى عليه ولا على ما تعبد به كذلك ههنا لا ينبغى له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف وما سوى ذلك يبذله من غير عوض إما بهدية أو صدقة أو إرفاق أو إعراء أو ما أشبه ذلك أو يعد نفسه فى الأخذ كالغير يأخذ الغير لأنه لما صار كالوكيل على (2/187)
غيره والقيم بمصالح عد نفسه مثل ذلك الغير لأنها نفس مطلوب إحياؤها علىالجملة
ومثل هذا محكى التزامه عن كثير من الفضلاء بل هو محكى عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم فإنهم كانوا فى الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات لكن لا ليدخروا لأنفسهم ولا ليحتجنوا أموالهم بل لينفقوها فى سبيل الخيرات ومكارم الأخلاق وما ندب الشرع إليه وما حسنته العوائد الشرعية فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال وهم فى كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم فهذا وجه يقتضى أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لاحظ فيه ألبتة
ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية وانتقاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم وهذا كله لاحظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به فقد خرج فى نفسه عن مقتضى حظه ثم إن معاملة الغير فى طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه فى المعاملة والمسامحة فى المكيال والميزان والنصيحة على الإطلاق وترك الغش كله وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان إلى غير ذلك من الأمور التى لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا فقد آل الأمر فى طلب الحظ إلى عدم الحظ (2/188)
هذا والإنسان بعد فى طلب حظه قصدا فكيف إذا تجرد عن حظه فى أعماله فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع فى الأعمال لا بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات وهو مجمع عليه فكذلك فيما صار بالقصد كذلك وأيضا فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ وإذا كان كذلك فهي داخلة فى حكم ما لا يتم الواجب إلا به فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضى سلب الحظ فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به سواء علينا أقلنا إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ ألبتة وهذا ظاهر فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا (2/189)
جازما بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله صلى الله عليه و سلم
الدين النصيحة وتوعد على تركه فى مواضع فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله فكونه معمولا به على عوض لا يتصور أن أن يكون إيثارا لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية فهذا وجه نظري فى المسألة يمكن القول بمقتضاه
والوجه الثانى أن يقال أنه يرجع فى الحكم إلى أصله من الحظ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه فى عمله وجعله المقدم على غيره حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا وكان له أن يدخره لنفسه أو يبذله لمصلحة نفسه فى الدنيا أو فى الآخرة فهى هدية الله إليه فكيف لا يقبلها وهو إن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ومن حيث جعل له وبالقصد الذى أبيح له القصد إليه وأيضا فالحدود الشرعية وإن لم يكن له فى العمل بمقتضاها حظ فهى وسيلة وطريق إلى حظه فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس (2/190)
له فى العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه
وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ويأخذون فى التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه فى أنفسهم خاصة ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب
ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون فى دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ويعملون في أخراهم كذلك فالجميع مبني على إثبات الحظوظ وهو المطلوب وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها
وأيضا فإنما حدث الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ولذلك قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة (2/191)
وقال فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وفي أخبار النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذكر الظلم وتحريمه
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه لقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
والأدلة على هذا تفوت الحصر فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة
وقد يمكن الجمع بين الطريقين وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب
منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه فيعمل العمل أو يكتسب الشئ فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى وإما قوة يقين بالله لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه أو عدم التفات إلى حطه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه أو أنفة من الإلتفات إلى حظه مع حق الله تعالى أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال وفي مثل هؤلاء جاء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (2/192)
وقد نقل عن عائشة رضى الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال فى غرارتين قال الرواى أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة فجعلت تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت يا جارية هلمى أفطري فجاءتها بخبز وزيت فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه فقالت لا تعنينى لو كنت ذكرتنى لفعلت
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس فى بيتها إلا رغيف فقالت لمولاه لها أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت ففعلت فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو انسان ما يهدى لنا شاة وكفنها فدعتنى عائشة فقالت كلي من هذا هذا خير من قرصك وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهى ترقع ثوبها وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ثم أفطرت على خبز الشعير وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة فلا يأخذ إلا من الملك لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه
فإذ دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها وهؤلاء هم أرباب الأحوال ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم إن استغنى استعف وإن احتاج أكل بالمعروف وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم فى منافعه فقد يكون فى الحال غنيا عنه فينفقه حيث يجب الإنفاق ويمسكه حيث يجب الإمساك وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار وهذا أيضا براءة من الحظوظ فى ذلك الإكتساب فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره وهو لم يفعل بل جعل نفسه كآحاد الخلق فكأنه قسام فى الخلق يعد نفسه واحدا منهم (2/193)
وفى الصحيح عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم فى ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم فى إناء واحد فهم مني وأنا منهم وفى حديث المواخاة بين المهاجرين والأنصار هذا وقد كان عليه الصلاة و السلام يفعل فى مغازيه من هذا ما هو مشهور فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة و السلام
ابدأ بنفسك ثم بمن تعول بل يحمل على الإستقامة فى حالتين (2/194)
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا فى حظ إذ للقصد إليه أثر ظاهر وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ولم يفعل هنا ذلك بل آثر غيره على نفسه أو سوى نفسه مع غيره
وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ وتجدهم فى الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له
ولذلك بالغوا فى النصيحة فوق ما يلزمهم لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم
فأين الحظ هنا بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم
فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء
ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن وامتنعوا مما منعوا منه واقتصروا على الانفاق فى كل ما لهم إليه حاجة فمثل هؤلاء بالإعتبار المتقدم أهل حظوظ لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها
فإن قيل فى مثل هذا إنه تجرد عن الحظ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي وهذا هو الحظ المذموم إذا لم يقف دون ما حد له بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي فى شهواتها ولا كلام فى هذا وإنما الكلام فى الأول وهو لم يتصرف إلا لنفسه فلا يجعل فى حكم الوالى على المصالح العامة على المسلمين بل هو وال على مصلحة نفسه وهو من هذا الوجه ليس بوال عام والولاية العامة هى المبرأة من الحظوظ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به لكن على نسبة القسمة ونحوها (2/195)
المسألة الخامسة
العمل إذا وفق المقاصد الشرعية فإنما على المقاصد الأصلية أو المقاصد التابعة وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع فلنضع فى كل قسم مسألة
فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها فى العمل فلا إشكال فى صحته وسلامته مطلقا فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لأنه مطابق لقصد الشارع فى أصل التشريع إذ تقدم أن المقصود الشرعي فى التشريع إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله وهذا كاف هنا
وينبنى عليه قواعد وفقه كثير
من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة وأبعد عن مشاركة الحظوظ التى تغبر فى وجه محض العبودية
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه على قولنا إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي فمجرد قصد الإمتثال للأمر والنهي أو الأذن كاف فى (2/196)
حصول كل غرض فى التوجه إلى مجرد خطاب الشارع فالعامل على وفقه ملبيا له برىء من الحظ وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه فى الجملة بل هو المقدم شرعا على الغير
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر أو اعتبارا بعلة الأمر وهوالقصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها كان هو المقدم شرعا
ابدأ بنفسك ثم بمن تعول أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا
ثم نظره فى ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها أو بحياة من تحت نظره وقد يتسع نظره فيكتسب ليحي به من شاء الله وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة وتقع نفقته حيث لم يقصد ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره أنه لم يكل التدبير إلى ربه وأما الثانى فقد جعل قصده وتصرفه فى يد من هو على كل شىء قدير وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره وهذا غاية فى التحقق بإخلاص العبودية ولا يفوته من حظه شىء
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك وهذا وإن كان جائزا فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد (2/197)
الشارع الأصلي وهو منجر معه ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا فيرجع إل التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم فإذا لم يراع لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة هذا وجه
ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر فى شىء سوى ذلك وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخله فيه وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده فى سخرة عبيدة فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر فهو عامل بمحض العبودية مسقط لحظه فيها فكأن السيد هو القائم له بحظه بخلاف العامل لحظة فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ولا من حيث فهم مقصود الأمر ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه (2/198)
فالإخلاص على كما له مفقود فى حقه والتعبد بذلك العمل منتف وإن لم يمتثل الأمر فذلك أوضح فى عدم القصد إلى التعبد فضلا عن أن يكون مخلصا فيه وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين إذا غلب عليه طلب حظه وذلك نقص ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ فى الغالب بل يطلب حظه بما هو أخف وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى يهدى الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف وقد قال تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد بخلاف طالب الحظ فإنه عامل بنفسه وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه فالأول محمول والثانى عامل بنفسه فلذلك فلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق فإن رأيت من يدعي تلك الحال فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام فإن أوفي به فهو ذاك وإلا علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول فذلك أثر من آثار الإخلاص وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه فإذا سقط حظه ثبت قصده فى المقاصد الأول وثبت له الإخلاص وصارت أعماله عبادات
فإن قيل فنحن نرى كثيرا ممن يسعى فى حظه وقد بلغ الرتبة العليا فى أهل الدين بل قد جاء عن سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم أنه كان يحب الطيب والنساء والحلواء والعسل وكان تعجبه الذراع ويستعذب له الماء وأشباه ذلك (2/199)
مما هو اتباع لحظ النفس إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال بل كان يستعمله
إذا وجده وقد بلغ الرتبة العليا فى أهل الدين وهو أتقى الخلق وأزكاهم وكان خلقه القرآن فهذا فى هذا الطرف ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو فى مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا فى عمله ومع ذلك فليس له فى الآخرة من خلاق ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله واتخذ العبادة والسعي فى حوائج الخلق دأبا وعادة حتى صار فى الناس آية وكل ما يعمله مبني على باطل محض وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين
فالجواب من وجهين
أحدهما أن ما زعمت ظواهر وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة
فانظر ما قاله الإسكاف فى فوائد الأخبار فى قوله عليه الصلاة و السلام
حبب إلى من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة وهى أعلى العبادات بعد الإيمان وهكذا يمكن أن يقال فى سواها
وأيضا فإنه لا يلزم من حب الشىء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال فمن أين لك أنه كان كان عليه الصلاة و السلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ دون أن يتناوله من حيث الأذن وهذا هو عين البراءة من الحظ وإذا تبين هذا فى القدوة الأعظم صلى الله عليه و سلم تبين نحوه فى كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته
وأما الكلام عن الرهبان فلا نسلم أنها مجردة من الحظ بل هى عين الحظ واستهلاك فى هوى النفس لأن الإنسان قد يترك حظه فى أمر إلى حظ هو أعلى منه كما ترى الناس يبذلون المال فى طلب الجاه لأن حظ النفس فى الجاه أعلى (2/200)
ويبذلون النفوس فى طلب الرياسة حتى يموتوا فى طريق ذلك وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم فإنها أعلى وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والإحترام والجاه القائم فى الناس من أعظم الحظوظ التى يستحقر متاع الدنيا فى جنبها وذلك أول منهى فى مسألتنا فلا كلام فيمن هذا شأنه
ولذلك قالوا حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين وصدقوا
والثانى أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا فإن كان أمر الشارع فهو الحظ المبرأ المنزه لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره فكما يكون فى مصالح غيره مبرءا عن الحظ كذلك يكون فى مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول وهذا شأن من ذكر فى السؤال ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلى كان فرعا من فروعه فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول فإنه سعى فى الحظ وليس ما نحن فيه هكذا
وأما شأن الرهبان ومن أشبههم فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع فينقطعون فى الصوامع والديارات ويتركون الشهوات واللذات ويسقطون حظوظهم فى التوجه إلى معبودهم ويعملون فى ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه وما يظنون أنه سبب إليه ويعاملونه فى الخلق وفى أنفسهم حسبما يفعله المحق فى الدين حرفا بحرف ولا أقول إنهم غير مخلصين بل هم مخلصون إلى من عبدوا ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم لا ينفعهم الله بشىء منه فى الآخرة لأنهم بنوا على غير أصل وجوه يومئذ خاشعة عامله ناصبة تصلى نارا حامية والعياذ بالله
ودونهم فى ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة وقد جاء فى الخوارج (2/201)
ما عملت من قوله عليه الصلاة و السلام في ذي الخويصرة
دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهرة لكنه مبني على غير أصل فلذلك قال فيهم يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية وأمر عليه الصلاة و السلام بقتلهم ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير وعلى الجملة فالإخلاص في الإعمال إنما يصح خلوصه مع إطرار الحظوظ لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله وإن كان على أصل فاسد فبالضد ويتفق هذا كثير فى أهل المحبة فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التى تتهيأ من الإنسان فإذا قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ولا أنفيه
فصل
ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا فى إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب (2/202)
أما باليد فظاهر فى وجوه الإعانات
وأما باللسان فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين وتعليم ما يحتاجون إليه فى ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم
وبالقلب لا يضمر لهم شرا بل يعتقد لهم الخير ويعرفهم بأحسن الأوصاف التى اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد
بل لا يقتصر فى هذا على جنس الإنسان ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها حتى لا يعاملها إلا بالتى هى أحسن كما دل عليه قوله عليه الصلاة و السلام
فى كل ذي كبد رطبة أجر وحديث تعذيب المرأة فى هرة ربطتها وحديث
إن الله كتب الإحسان على كل مسلم فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل فى هذه الأمور فى نفسه امتثالا لأمر ربه واقتداء بنبية عليه الصلاة و السلام فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها بخلاف من كان عاملا على حظه فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه وهذا ليس بعبادة على الإطلاق بل هو عامل فى مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه والمباح لا يتعبد إلى الله به وإن فرضناه قام على (2/203)
حظه من حيث أمره الشارع فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة وإن فرضته كذلك
فهو خارج عن داعيه حظه بتلك النسبة
فصل
ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال فى الغالب إلى أحكام الوجوب إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية فى الدين المراعاة باتفاق وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله فقد صار عاملا بالوجوب
فأما البناء على المقاصد التابعة فهو بناء على الحظ الجزئى والجزئي لا يستلزم الوجوب فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب فقد يكون العمل مباحا إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا وإما مباحا بالجزء مكروها أو ممنوعا بالكل
وبيان هذه الجملة في - كتاب الأحكام
فصل
ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع فى ا لعمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد وإما لمجرد امتثال الأمر وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد (2/204)
وأولها وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ كان المتلقى له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة
وأما القصد التابع فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ وأخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه وخص عمومه فلا ينهض نهوض الأول
شاهده قاعدة الأعمال بالنيات وقوله عليه الصلاة و السلام
الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله فأطال لها فى مرج أو روضة فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقى به كان ذلك له حسنات فهي له أجر فى هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول لأنه قصد بارتباطها سبيل الله وهذا عام غير خاص فكان أجره فى تصرفاته عاما أيضا غير خاص ثم قال عليه الصلاة و السلام
ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله فى رقابها ولا ظهورها فهى له ستر فهذا فى صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه كان حكمها مقصورا على ما قصد وهو الستر وهو صاحب القصد التابع ثم قال عليه الصلاة و السلام
ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهى على ذلك وزر فهذا فى الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ولا كلام فيه هنا
ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه (2/205)
وسلم أو بالصحابة أو التابعين لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدى فى الإقتداء
وشاهده الإحالة فى النية على نية المقتدى به كما فى قول بعض الصحابة فى إحرامه بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان حجة فى الحكم كذلك يكون فى غيره من الأعمال
فصل
ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم
أما الأول فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذى يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر وإذا فعل جوزي على كل نفس أحياها وعلى كل مصلحة عامة قصدها ولا شك فى عظم هذا العمل ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا وكان العالم يستغفر له كل شىء حتى الحوت فى الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده لأن الأعمال بالنيات فمتى كان قصده أعم كان أجره أعظم
ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلا على وزان ذلك وهو ظاهر
وأما الثانى فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر فالعامل على ضده يعظم به وزره ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحترمة لأنه أول من سن القتل وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (2/206)
فصل
ومن هنا تظهر قاعدة أخرى وهى أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت فى مخالفتها ويتبين لك بالنظر فى الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا فإنك تجده مطردا إن شاء الله
المسالة السادسة
العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية أولا
فأما الأول فعمل بالامتثال بلا إشكال وإن كان سعيا فى حظ النفس وأما الثانى فعمل بالحظ والهوى مجردا
والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلا هذا المأكول أو هذا الملبوس أو هذا الملموس أباح لي الشرع الاستمتاع به فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه وإما بالقوة ومثاله أن يدخل فى التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه لكن نفس الأذن لم يخطر بباله وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني فإذا توصل إليه منه فهذا فى الحكم كالأول إذا كان الطريق التى توصل إلى المباح من جهته مباحا إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى
ويجرى غير المباح مجراه فى الصورتين (2/207)
فإذا تقرر هذا فبيان كونه عاملا بالحظ والإمتثال أمران
أحدهما أنه لو لم يكن كذلك لم يجز لأحد أن يتصرف فى أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امنثال الأمر من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ وهذا غير صحيح باتفاق ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشئ من ذلك ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى فدل على ان القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافى أصل الأعمال
فإن قيل كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها
قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع لا يقصد بها عمل جاهلي ولا اختراع شيطاني ولا تشبه بغير أهل الملة كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك
كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسمعيل المخزومي أجرى عينا فقال له المهندسون عند ظهور الماء لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم وأمر فصيع له ولأصحابه منها طعام فأكل وأكلوا (2/208)
وقسم سائرها بين العمال فيها فقال ابن شهاب بئس والله ما صنع ما حل له نحرها ولا الأكل منها أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يذبح للجن لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح على النصب وسائر ما أهل لغير الله به
وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما يجاود به صاحبه فأكثرهما عقرا أجودهما نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان وأوان حوادث يتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور وخرج أبو داود
نهى عليه الصلاة و السلام عن (2/209)
عن طعام المتباريين أن يؤكل وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه فهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكا في المشروع ولحظا لغير أمر الله تعالى وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها إنها مما أهل لغير الله به وهو باب واسع
والثاني أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق وذلك باطل قطعا فيبطل ما يلزم عنه
أما بيان الملازمة فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ لا فرق بينه وبين طلب الإستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا مناسبة فيه ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا
وأما بطلان التالي فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي واعملوا يدخلكم الجنة واتركوا تدخلوا الجنة ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ومن يعمل كذا يجز بكذا وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم عنه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسئل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك وقد أخبر الله تعالى عمن قال إنما نطعمكم (2/210)
لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا بقولهم إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا وفى الحديث
مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث وهو نص فى العمل على الحظ وفى حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي صلى الله عليه و سلم اشترط لربك واشترط لنفسك فلما اشترط قالوا فما لنا قال الجنة الحديث
وبالجملة فهذا أكثر من أن يحصى وجميعه تحريض على العمل بالحظ وإن لم يقل اعمل لكذا فقد قال اعمل يكن لك كذا فإذا لم يكن مثله قادحا فى العبادات فأولى أن لا يكون قادحا فى العادات
فإن قيل بل مثل هذا قادح فى العمل بالنص والمعقول
أما المعقول فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل وقد فرضناه كذلك هذا خلف وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه وقد فرضناه أنه يعمله ليصل (2/211)
به إلى غيره وهو حظه فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة وقد تقرر أن الوسائل من حيث هى وسائل غير مقصودة لأنفسها وإنما هى تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار بل كانت تكون كالعبث وإذا ثبت هذا فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد فاشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها فإذا أخذت من جهة الحظوظ سقط كونها متعبدا بها فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ينبغي أن يسقط التعبد بها وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة فصار مهمل الإعتبار فى العبادة فبطل التعبد فيه وذلك معنى كون العمل غير صحيح
وأيضا فهذا المأمور أو المنهى بما فيه حظه يا ليت شعرى ما الذى كان يصنع لو ثبت أنه عرى عن الحظوظ هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه فالمأمور به والمنهى عنه بلا بد مقصود فى نفسه لا وسيلة وعلى هذا نبه القائل بقوله (2/212)
هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاجحة النار لم تضرم ... أليس من الواجب المستحق ... ثناء العباد على المنعم ...
ويعنى بالوجوب بالشرع فإذا جعل وسيلة أخرج عن مقتضى المشروع وصار العمل بالأمر والنهي علىغير ما قصد الشارع والقصد المخالف لقصد الشارع باطل والعمل المبنى عليه مثله فالعمل المبنى على الحظ كذلك
وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له فى نفسه مع ربه حق ولا حجة له عليه ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه بل لو عذب أهل السموات والأرض لكان له ذلك بحق الملك قل فلله الحجة البالغة فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه
وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله كقوله تعالى وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفى الحديث
أنا أغنى الشركاء عن الشرك وفيه
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرآة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه أي ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شىء فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء وفى الآثار من ذلك أشياء وقد جمع الأمر كله قوله تعالى ألا لله الدين الخالص (2/213)
وأيضا فقد عد الناس من هذا ما هو قادح فى الإخلاص ومدخل للشوب فى الأعمال فقال الغزالي كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وقل به إخلاصه
قال والإنسان منهمك فى حظوظه ومنغمس فى شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة ولذلك من سلم له فى عمره خطرة واحده خالصة لوجه الله نجا وذلك لعز الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص هو الذى لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى ثم قال وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه قال وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق للدنيا فى قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا بل تكون رغبته فيه كرغبته فى قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الحياة فلا يشتهى الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على العبادة ويتمنى لو كفى شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى فى قلبه حظ فى الفضول الزائدة على الضرورة ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية فلا يكون له هم إلا الله تعالى فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية فى جميع حركاته وسكناته فلو نام مثلا ليريح نفسه ويقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ومن ليس كذلك فباب الإخلاص فى الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور ثم تكلم على باقي المسألة وله فى الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله فإذا كان كذلك فالعامل الملتفت (2/214)
إلى حظ نفسه على خلاف ما وقع الكلام عليه
فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين أحدهما العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات
والثاني العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم
وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى والأول هو حق الله من العباد في الدينا والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم
فأما الأول فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا
فإن كان أخرويا فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم وإذا ثبت شرعا فطلبه من حيث أثبته صحيح إذ لم يتعد ما حده الشارع ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ولا قصد مخالفته إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي وذلك غير قادح في إخلاصه لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره لأنه عز و جل يقول إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم الآية فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره فهذا قد عمل على وفق ذلك وطلب الحظ ليس (2/215)
بشرك إذ لا يعبد الحظ نفسه وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب وهو الله تعالى لسكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد فهذا هو الذي أشرك حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل والله لا يقبل عملا فيه شرك ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا
فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى فذلك باعث له على الإخلاص قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك
وأيضا فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه والتلذذ بمناجاته وذلك حظ عظيم بل هو أعظم ما في الدارين وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك فإن الله تعالى غني عن العالمين
قال تعالى ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين
وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد والله عز و جل قد أمر الجميع بالإخلاص والإخلاص البرىء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص وذلك قليل فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق وهذا شديد
وعلى أن بعض الأئمة قال إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ومن ادعاه فهو كافر قال أبو حامد وما قاله حق ولكن القوم إنما أرادوا به يعني الصوفية البراءة عما يسميه الناس حظوظا وذلك الشهوات (2/216)
الموصوفة في الجنة فقط فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله العظيم فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظا بل يتعجبون منه قال وهؤلاء لو عرضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة الشهود للحضرة الآلهية سرا وجهرا نعيم الجنة لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم دون غيره هذا ما قال وهو إثبات لأعظم الحظوظ ولكن هؤلاء على ضربين أحدهما من يسبق له امتثال أمر الله الحظ فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ وأصحاب هذا الضرب على درجات ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ولا مقال فى صحة إخلاص هؤلاء والثاني من يسبق له الحظ الامتثال بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء وسبق له الخوف أو الرجاء فلبى داعي الله فهو دون الأول ولكن هؤلاء مخلصون أيضا إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم
فصل
وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا فهو قسمان قسم يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الناس بالعمل والآخر يرجع إلى المراءآة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك فهذه ثلاثة أقسام
أحدها يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة
فإن كان هذا القصد متبوعا فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله وهذا بين وإن كان تابعا فهو محل نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الأصل فوقع (2/217)
في العتبية في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره فكره ربيعة هذا وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير فيقول له إنك لمراء وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك وقد قال تعالى وألقيت عليك محبة مني وقال عن إبراهيم عليه السلام واجعل لى لسان صدق في الآخرين وفي حديث ابن عمر
وقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقولها فقال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وطلب العلم عبادة قال ابن العربي سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ما بينوا قال أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات
قلت ويلزم ذلك قال نعم لتثبت أمانته وتصح إمامته وتقبل شهادته
قال ابن العربي ويقتدى به غيره فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى
والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة
والثاني ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الغير وله أمثلة أحدها الصلاة في المسجد للأنس بالجيران أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال والثاني الصوم توفيرا للمال أو استراحة من عمل الطعام وطبخه أو احتماء لألم يجده أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له والثالث الصدقة (2/218)
للذة السخاء والتفضل على الناس والرابع الحج لرؤية البلاد والإستراحة من الأنكاد أو للتجارة أو لتبرمه بأهله وولده أو إلحاح الفقر والخامس الهجرة مخافة الضرر فى النفس أو الأهل أو المال والسادس تعلم العلم ليحتمى به عن الظلم
والسابع الوضوء تبردا والثامن الاعتكاف فرارا من الكراء والتاسع عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك والعاشر تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث والحادى عشر الحج ماشيا ليتوفر له الكراء وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة
وقد التزم الغزالي فيها وفى أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأن مجال النظر فى المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم أنفكاكهما فابن العربي يلتفت إلى وجه الإنفكاك فيصحح العبادات وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الإجتماع وجودا كان القصدان مما يصح انفكاكهما أولا وذلك بناء على مسألة الصلاة فى الدار المغصوبة والخلاف فيها واقع ورأي أصبغ فيها البطلان فإذا كان كذلك اتجه النظران وظهر مغزى المذهبين
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الإنفكاك أوجه لما جاء من الأدلة على ذلك ففى القرآن الكريم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعنى فى مواسم الحج وقال ابن العربي فى الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة إنه دأب المرسلين فقد قال الخليل عليه السلام
إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقال الكليم ففررت منكم لما خفتكم وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جعلت قرة عينه فى الصلاة فكان يستريح إليها من تعب الدنيا وكان فيها نعيمة ولذته أفيقال إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها (2/219)
كلا بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها وفى الصحيح
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء
ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد قال حضرت القاضى أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه على ما لم يكن يعهد من نفسه وسأله عن الدواء فقال اسرد الصوم تصلح معدتك فقال له يا أبا عبد الله على غير هذا دلنى ما كنت لأعذب نفسى بالصوم إلا لوجهه خالصا ولي عادة فى الصوم الإثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها قال أبو علي وذكرت فى ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة و السلام يعنى هذا الحديث وجبنت عن إيراد ذلك عليه فى ذلك المجلس وأحسبنى ذاكرته فى ذلك فى غير هذا المجلس فسلم للحديث
وقد بعث عليه الصلاة و السلام رجلا ليكون رصدا فى شعب فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة فى الشعب إلا الحراسة والرصد
والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة ويكفى من ذلك ما يراعيه الإمام فى صلاته من أمر الجماعة كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء فى (2/220)
الحديث وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره وكالتخفيف لأجل الشيخ والضعيف وذى الحاجة وقوله عليه الصلاة و السلام
إني لأسمع بكاء الصبي الحديث وكرد السلام فى الصلاة وحكاية المؤذن وما أشبه ذلك مما هو عمل خارج عن حقية الصلاة مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ومع ذلك فلا يقدح فى حقيقة إخلاصها
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح فى قصدها قصد شىء آخر سواه لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه وانتظار الصلاة والكف عن إذاية الناس واستغفار الملائكة له فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره وهذا غير صحيح بإتفاق بل كل قصد منها صحيح فى نفسه وإن كان العمل واحدا لأن الجميع محمود شرعا فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه لإشتراكهما فى الإذن الشرعي فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها كالحديث والأكل والشرب والنوم والرياء وما أشبه ذلك أما مالا منافاة فيه فكيف يقدح القصد إليه فى العبادة هذا لا ينبغى أن يقال غير أنه لا ينازع فى أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ويقع الترجيح فى المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد
والثالث ما يرجع إلى المراءآة فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه (2/221)
فهو الرياء المذموم شرعا وأدهى ما فى ذلك فعل المنافقين الداخلين فى الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا وحكمه معلوم فلا فائدة فى الإطالة فيه
فصل
وأما الثانى وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد كالنكاح والبيع والإجارة وما أشبه ذلك من الأمور التى علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد فى العاجلة فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه فى الأوامر والنواهى وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له وإذا علم ذلك بإطلاق فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع فكان حقا وصحيحا
هذا وجه
ووجه ثان أنه لو كان طلب الحظ فى ذلك قادحا فى التماسه وطلبه لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما فى اشتراط النية والقصد إلى الامتثال وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ لا يقدح فى الأعمال التى يتسبب عنها ذلك الحظ بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائى بتزوجه أو ليعد من أهل العفاف أو لغير ذلك لصح تزوجه من حيث لم بشرع فيه نية العبادة من حيث تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا
ووجه ثالث أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا لم يصح النص على الامتنان بها فى القرآن والسنة كقوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم (2/222)
أزواجا لتسكنوا إليها وقال هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا وقال الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقال ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله وقال وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا إلى آخر الآيات إلى غير ذلك مما لا يحصى
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه فى معرض الامتنان لأنه فى نفسه كلفة وخلاف للعادات وقطع للأهواء كالصلاة والصيام والحج والجهاد إلا ما نحا نحو قوله وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم بعد قوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقتضى به الأوطار وتفتح به أبواب التمتع واللذات النفسانية وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات وأضراب ذلك فإن الإتيان بها فى معرض الإمتنان مناسب وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا فى العبودية ولا نقصا من حق الربوبية لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذى امتن بها
وذلك صحيح
فإن قيل فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق لما تقدم (2/223)
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل فى ضمنه الحظ وبالتبعية لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل ثم أتبعه آثارا حسنة من التمتع باللذات والانغمار فى نعم يتنعم بها المكلف كاملة فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع فكان قصد هذا القاصد بريئا من الحظ وقد انجر فى قصده الحظ فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع فلا مخالفة للشارع من جهة القصد بل له موافقتان موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول وهو التمتع وموافقة من جهة أن أمر الشارع فىالجملة يقتضي إعتبار المكلف له في حسن الأدب فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف وأيضا ففى قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل فهو بامتثال الأمر ملب للشارع فى هذا القصد بخلاف طلب الحظ فقط فليس له هذه المزية
فإن قيل فطالب الحظ فى هذا الوجه ملوم إذ أهمل قصد الشارع فى الأمر من هذه الجهة
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا فأنه حين ألقى مقاليده فى نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي وأيضا فالداخل فى حكم هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي وأيضا فالداخل بحكم الشرط العادى على أنه لم يلد ويتكلف التربية والقيام بمصالح (2/224)
الأهل والولد كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها لكن لا يستوي القصدان قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن فثبت بالضمن فثبت أن قصد الحظ فى هذا القسم غير قادح فى العمل
فإن قيل فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال وإنما طلب حظه مجردا بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع فهل يكون القصد الأول فى حقه موجودا بالقوة أم لا
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل وقد مر بيان هذا فى موافقة قصد الشارع وأما العمل بالحظ والهوى بحيث يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه فليس من الحق في شىء وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر
فإن قيل أما كونه عاملا على قصد المخالفة فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق وأما عمله علىغير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق فقد تبين فى موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسى فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق وإذا وافق أمر الشرع جهلا فسيأتي أن يصح عمله على الجملة فلا يكون عمله بالهوى أيضا وإلى هذا فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول أنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر آنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة فلا يستلزم أن يكون موافقا له بل الحالات ثلاث (2/225)
حال يكون فيها قاصدا للموافقة
فلا يخلو أن يصيب بإطلاق كالعالم يعمل على وفق ما علم فلا إشكال أو يصيب بحكم الإتفاق أولا يصيب فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه لم يقصد مخالفة لكن فرط في الإحتياط لذلك العمل فيؤاخذ في الطريق وقد لا يؤآخذ إذا لم يعد مفرطا ويمضي عمله إن كان موافقا وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف لا اعتبار بما يخالف فيه لأنه مخالف القصد بإطلاق وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته كمن عقد عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا أو شرب جلابا يظنه خمرا إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم
وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة فهو العمل في مجرد الحظ أو الغفلة كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل أو يدري ولكنه إنما قصده مجرد العاجلة معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع وحكمه في العبادات عدم الصحة لعدم نية الإمتثال ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع وإلا فعدم الصحة
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال إن المقصد هنا لما انتفي فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة وقد يظر لهذا تأثير في تصرفات المحجور كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا وإن وافقت المصلحة وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة (2/226)
منها لا ما خالفها على تفصيل أصله هذا النظر وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض فهو بهذا القصد مخالف للشارع وقد يقال القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع فصح
فصل
حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من - كتاب الأحكام فكل ما خالف قصد الشارع فهو باطل على الإطلاق لكن بالتفسير المتقدم والله أعلم
المسألة السابعة
المطلوب الشرعي ضربان أحدهما ما كان من قبيل العاديات الجارية بين الخلق في الإكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية التي هي طرق الحظوظ العاجلة كالعقود على اختلافها والتصاريف المالية على تنوعها والثاني ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف من جهة توجهه إلى الواحد المعبود
فأما الأول فالنيابة فيه صحيحة فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه فيما لا يختص به منها فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه كالبيع والشراء والأخذ والإعطاء والإجارة والإستئجارة والخدمة والقبض والدفع وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا كالأكل والشرب واللبس والسكنى وغير ذلك مما جرت به العادات وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الإستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا فإن مثل هذا مفروغ من (2/227)
النظر فيه لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره ومثل ذلك وجوه العقوبات والإزدجار لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال فإن النيابة فيه تصح فإن كان دائرا بين الأمر المالي وغيره فهو مجال نظر واجتهاد كالحج والكفارات فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد فلا تصح النيابة فيه أو المال فتصح والكفارة بناء على أنها زجر فتختص أو جبر فلا تختص وكالتضحية في الذبح بناء على ما بني عليه فى الحج وما أشبه هذه الأشياء
فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف فلا نيابة وإلا صحت النيابة وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة دليل لوضوح الأمر فيه
وأما الثاني فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد ولا يغنى فيها عن المكلف غيره وعمل العامل لا يجتزى به غيره ولا ينتقل بالقصد إليه ولا يثبت إن وهب ولا يحمل إن تحمل وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا
فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور
أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وفي القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى في مواضع وفي بعضها وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل (2/228)
منه شيء ولو كان ذا قربى ثم قال ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وقال تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وقال وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء الآية
وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا كقوله يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها وقال واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وقال واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل الآية إلى كثير من هذا المعنى وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة و السلام عشيرته الأقربين
يا بني فلان إني لا أملك لكم من الله شيئا
والثاني المعنى وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله والتوجه إليه والتذلل بين يديه والإنقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ومراقبا له غير غافل عنه وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها إذا ناب عنه غيره في ذلك وإذا قام غيره في ذلك مقامة فذلك الغير هو الخاضع المتوجه والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية والإتصاف لايعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه فلا مطالبة (2/229)
للغريم بعد ذلك به وهذا فى التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب ولا نيابة إذ ذاك على حال
والثالث أنه لو صحت النيابة فى العبادات البدنية لصحت فى الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة ولصح مثل ذلك فى المصالح المختصة بالأعيان من العاديات كالأكل والشرب والوقاع واللباس وما أشبه ذلك وفى الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر
وكل ذلك باطل بلا خلاف من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر التعبدات
وما تقدم من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص لأنها (2/230)
محكمات نزلت بمكة احتجاجا على الكفار وردا عليهم فى اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا ولو كانت تحتمل الخصوص فى هذا المعنى لم يكن فيها رد عليهم ولما قامت عليهم بها حجة أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة فى الباقي الظاهر وأما على قول غيرهم فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة فى الكليات الشرعية ولا ينصرف عنها
فإن قيل كيف هذا وقد جاء فى النيابة فى العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير وعلى ما لم يعمل أشياء
أحدها الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم وهى جملة منها أن الميت يعذب ببكاء الحي عليه وأن
من سن سنة حسنة أو سيئة كان له أجرها أو عليه وزرها وأن
الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث وأنه
ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها وفى القرآن والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم وفى (2/231)
الحديث
إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وفى رواية
أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى
ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه
وقيل يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضيه قال تقضه عنها وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها وتبين أن ما تقدم فى الكلية المذكورة ليست على العموم فلا تكون صحيحة
والثانى أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها وهى قاعدة الصدقة عن الغير وهى عبادة لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره فإذا تصدق الرجل عن الرجل أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع به ولا سيما إن كان ميتا فهذه عبادة حصلت فيها النيابة ويؤكد ذلك ما كان (2/232)
من الصدقة فرضا كالزكاة فإن اخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير والزكاة أخية الصلاة
والثالث أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهى تحمل العاقلة للدية فى قتل الخطأ فإن حاصل الأمر فى ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو وليس ذلك إلا من باب النيابة فى أمر تعبدي لا يعقل معناه ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم فى القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام والنيابة عنه فى سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه وكذلك الدعاء للغير فإن حقيقتة خضوع لله وتوجه إليه والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الإستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما وقد استغفر النبي صلى الله عليه و سلم لأبويه حتى نزل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وقال في ابن أبي لأستغفرن لك ما أنه عنك حتى نزل استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ونزل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية وإن كان قد نهي عنه فلم ينه عن الإستغفار لمن كان حيا منهم وقال عليه الصلاة (2/233)
والسلام
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وعلى الجملة فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة
والرابع أن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات صحيحة وكذلك بعض العبادات البدنية وإن كانت واجبة على الإنسان عينا وكذلك المالية وأولها الجهاد فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل إذا أذن الإمام والجهاد عبادة فإذا جازت النيابة في مثل هذا فلتجز في باقي الأعمال المشروعة لأن الجميع مشروع
والخامس أن مآل الأعمال التكليفية أن يجازي عليها وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل خيرا كان الجزاء أو شرا وهو أصل متفق عليه في الجملة وذلك ضربان
أحدهما المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه فإنه إن كانت باكتساب كفر بها من سيآته وأخذ بها من أجر غيره وحمل غيره وزره ولم يعمل بذلك فضلا عن أن يجد ألمه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المفلس يوم القيامة وإن كانت بغير اكتساب فهي (2/234)
كفارات فقط أو كفارات وأجور وكما جاء فيمن غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه إنسان أو حيوان أنه له أجر وفيمن ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة أو شرب في نهر أو استن شرفا أو شرفين ولم يرد أن يكون ذلك فهي له حسنات وسائر ما جاء في هذا المعنى
والضرب الثاني النيات التي تتجاوز الأعمال كما جاء أن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عن عذر وكذلك سائر الأعمال حتى قال عليه الصلاة و السلام في المتمنى أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان
فهما في الأجر سواء وفي الآخر
فهما فى الوزر سواء وحديث
من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة
والمسلمان يلتقيان بسيفيهما (2/235)
الحديث إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره فأولى أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل
فالجواب أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة النيابة فإن للنظر فيها متسعا
أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة فليست من هذا الباب فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه
والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية ولا كلام فيها
وأما قاعدة الدعاء فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة لأنه شفاعة للغير فليس من هذا الباب
وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية فإنها مصالح معقولة المعنى لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه فله أجر ذلك فإن العبادة منه صدرت لا من النائب والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات فهي في الحقيقة معقولة المعنى كسائر فروض الكفايات التي هى مصالح الدنيا لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الآخروي إلا إذا (2/236)
قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله فإن قصد الدنيا فذلك حظه مع أن المصلحة الجهادية قائمة كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد شعبة منها
على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد بالجعل لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا فهذا الأصل لا اعتراض به أيضا
وأما قاعدة المصائب النازلة فليست من باب النيابة في التعبد وإنما الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك وكون حسنات الظالم تعطي المظلوم أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم فمن باب الغرامات فهي معاوضات لأن الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار إذ لا دينار هناك ولا درهم وقد فات القضاء في الدنيا
ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه
ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلىالجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى كما أنه لو تمنى أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر كان له وزر من عمل ولا يعد في الدنيا كمن عمل حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة فليست من النيابة في شيء وإن فرضت النيابة فالنائب هو المكتسب فعمله عليه أو له فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل
ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال فإنه عمدة من خالف في المسألة (2/237)
فحديث تعذيب الميت ببكاء الحي ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض إذا ظن الموت أهله على البكاء عليه وأما من سن سنة وحديث ابن آدم الأول وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث وما أشبه ذلك فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور لأنه الذي تسبب فيه أولا فعلى جريان سببه تجري المسببات والكفل الراجع إلى المتسبب ناشىء عن عمله لا عن عمل المتسبب الثاني وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم الآية لأن ولده كسب من كسبه فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب وبذلك فسر قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب أن ولده من كسبه فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة وذلك قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء
وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة وذلك الصيام والحج وأما النذر فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام
والذي يجاب به فيها أمور
أحدها أن الأحاديث فيها مضطربة نبه البخاري مذسلم على اضطرابها فانظره في الإكمال وهو مما يضعف الإحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا فكيف إذا عارضته وأيضا فإن الطحاوي قال في حديث
من مات وعليه صوم صام عنه وليه إنه لم يرو إلا من طريق عائشة وقد تركته فلم تعمل به وأفتت بخلافه وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر إنه لا يرويه إلا ابن عباس وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد (2/238)
والثاني أن الناس على أقوال في هذه الأحاديث منهم من قبل ما صح منها بإطلاق كأحمد ابن حنبل ومنهممن قبل من قال ببعضها فأجاز ذلك في الحج دون الصيام وهو مذهب الشافعي ومنهم من منع بإطلاق كمالك بن أنس فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح وذلك دليل على ضعف الأخذ بها فى النظر ويدل على ذلك أنهم اتفقوا فى الصلاة على ما حكاه ابن العربي وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف لأنهم تبع ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت وبيع العبد بماله واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية
والثالث أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا وذلك أنه قال سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه وقال هذا القائل لا يعمل أحد عن أحد شيئا فإن عمله فهو لنفسه كما قال تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
والرابع أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في في تلك الأعمال كما إذا أمر بأن يحج عنه أو أوصى بذلك أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وهو قول بعض العلماء
والخامس أن قوله صام عنه وليه محمول على ما تصح فيه النيابة وهو الصدقة مجازا لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضى وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره وذلك في الصيام الإطعام وفي الحج النفقة عمن يحج عنه أو ما أشبه ذلك (2/239)
والسادس أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي فلا يعارض الظن القطع كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة وهذا الوجه هو نكتة الموضع وهو المقصود فيه وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن وبالله التوفيق
فصل
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع وهي مسألة هبة الثواب وفيها نظر فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين
أحدهما أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص وهو المال
وأما في ثواب الأعمال فلا وإذا لم يكن لها دليل فلا يصح القول بها
والثاني أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب وقد نطق بذلك القرآن كقوله تعالى تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ثم قال ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وقوله جزاء بما كانوا يعملون ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو كثير وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات كاستباحة الإنتفاع بالمبيع مع عقد البيع واستباحة البضع مع عقد النكاح فلا خيرة للمكلف فيه هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل وإذا كان كذلك اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ولا في يده منه شيء
فإذا لا يصح فيه تصرف لأن التصرف من توابع الملك الإختياري وليس في الجزاء ذلك فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك كما لا يصح لغيره
وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين (2/240)
أحدهما أن أدلته من الشرع هي الأدلة على حواز الهبة في الأموال وتوابعها إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها وإما بالقياس عليها لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب لا يصح فيها غير ذلك فإذا كان كذلك صح وجود الدليل فلم يبق للمنع وجه
والثاني أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب وكالتوابع مع المتبوعات يقضي بصحة الملك لهذا العامل كما يصح في الأمور الدنيوية وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة
لا يقال أن الثواب لا يملك كما يملك المال لأنه إما أن يكون في الدار الآخرة فقط وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن
لأنا نقول هو وإن لم يملك نفس الجزاء فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى واستقر له ملكا بالتمليك وإن لم يحزه الآن ولا يلزم من الملك الحوز
وإذا صح مثل هذا في المال وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها صح فيما نحن فيه فقد يقول القائل ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ويقول إن اشترى لي وكيلي عبدا فهو حر أو هبة لأخي وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك (2/241)
في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله وإن لم يعلم به الموكل فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب والله الموفق للصواب
المسألة الثامنة
من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها والدليل على ذلك واضح كقوله تعالى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون وقوله يقيمون الصلاة وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة وجاء هذا كله في معرض المدح وهو دليل على قصد الشارع إليه وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وفي الحديث
أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل وقال
خذوا من العمل ماتطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وكان عليه الصلاة و السلام إذا عمل عملا أثبته وكان عمله ديمة وأيضا فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا فما رعوها حق رعايتها إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والإستمرار (2/242)
فصل
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين أحدهما من جهة شدة التكليف في نفسه بكثرته أو ثقله في نفسه والثاني من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا
وحسبك من ذلك الصلاة فإنها من جهة حقيقتها خفيفة فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت والشاهد لذلك قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق والرجاء الذي هو حاد وذلك ما تضمنه قوله الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم الآية فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ولأجل الدخول في الفعل على قصد الإستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ونهى عن التشديد وقد قال عليه الصلاة و السلام
إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وقال
من يشاد هذا الدين يغلبه وهذا يشمل التشديد بالدوام كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال والأدلة على هذا المعنى كثيرة (2/243)
المسألة التاسعة
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور
أحدها النصوص المتضافرة كقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا وقوله قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا وقوله عليه الصلاة و السلام
بعثت إلى الأحمر والأسود وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره لم يكن مرسلا للناس جميعا إذ يصدق على من لم يكلف (2/244)
بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا وذلك باطل فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن فلا اعتراض به وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع فظاهر الأمر فيه
والثاني أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة فلو وضعت على الخصوص لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله صلى الله عليه و سلم كقوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إلى قوله خالصة لك من دون المؤمنين وقوله ترجى من تشاء منهن الآية وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الإختصاص به بالدليل ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة فإنه راجع إليه عليه الصلاة و السلام (2/245)
أو غير راجع إليه كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق الجذعة وخصه بذلك قوله
ولن تجزىء عن أحد بعدك فهذا لا نظر فيه إذ هو راجع إلى جهة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأجله وقع النص على الإختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الإختصاص
والثالث اجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولذلك صيروا أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة للجميع في أمثالها وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم إما بالقياس أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي أو غير ذلك من المحاولات بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به وقد قال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج الآية فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة
والرابع أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر (2/246)
وهذا باطل فما لزم عنه مثله ولا أعنى بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها من القضاء والإمامة والشهادة والفتيا فى النوازل والعرافة والنقابة والكتابة والتعليم للعلوم وغيرها فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر فى شرط التكليف بها وجامع الشروط فى التكليف القدرة على المكلف به فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها فالتكليف عام لا خاص من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر فى كل ما كان موهما للخطاب الخاص كمراتب الإيغال فى الأعمال ومراتب الإحتياط على الدين وغير ذلك
فصل
وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة
منها أنه يعطى قوة عظيمة فى إثبات القياس على منكريه من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا فى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع فلا يصح (2/247)
مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد وليس فى القضية لفظ يستند إليه فى إلحاق غير المذكور بالمذكور فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد فى كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما فى معناها وهو معنى القياس وتأيد بعمل الصحابة رضى الله عنهم فانشرح الصدر لقبوله
ولعل هذا يبسط فى - كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله
ومنها أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة فى الشريعة مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب فى زكاة كذا فقال على مذهبنا أو على مذهبكم ثم قال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبكم فكذا وكذا
وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدق بهذا الظاهر مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هى أعلى مما بث فى الجمهور ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة وكلا الفريقين فى طرف وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة فى الخلق كما تبين آنفا ولكن روح المسألة الفقه فى الشريعة حتى يتبين ذلك والله المستعان
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين فى الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الإتصاف بطلبها والميل إليها فاستجازوا لمن ارتسم فى طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها واستجلاب النشاط فى الطاعة لا على قصد التلهي (2/248)
وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم إن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم فليعتن به وبالله التوفيق
المسألة العاشرة
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا ما خص به كذلك المزايا والمناقب
فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه و سلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منا أنموذجا فهي عامة كعموم التكاليف بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه وأشركهم معه فيه ثم ذكر من ذلك أمثلة
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء
أما أولا فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون ولكن الله من على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة و السلام إذ قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله وقال في الأمة لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهذا واضح فلا تطول به
وأما ثانيا فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة تقتصر منها على ثلاثين وجها
أحدها الصلاة من الله تعالى فقال تعالى في النبى عليه الصلاة و السلام إن الله وملائكته يصلون على النبى الآية وقال في الأمة هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وقال أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة (2/249)
والثاني الإعطاء إلى الإرضاء قال تعالى في النبي ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال في الأمة ليدخلنهم مدخلا يرضونه وقال رضي الله عنهم ورضوا عنه
والثالث غفران ما تقدم وما تأخر قال تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وفي الأمة ما روى أن الآية لما نزلت قال الصحابة هنيئا مريئا فما لنا فنزل ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم فعم ما تقدم وما تأخر وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وقال في الأمة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم الآية
وهو الوجه الرابع
والخامس الوحي وهو النبوة قال تعالى إنا أوحينا إليك وسائر ما في هذا المعنى ولا يحتاج إلى شاهد وفي الأمة الرؤيا الصالحة جزء من ستة (2/250)
وأربعين جزءا من النبوة
والسادس نزول القرآن على وفق المراد قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فقد كان عليه الصلاة و السلام يحب أن يرد إلى الكعبة وقال تعالى أيضا ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف فيهن على عدد معلوم وفي الأمة قال عمر وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه و سلم بعض نسائه فدخلت عليهم فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن الآية وحديث
التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي صلى الله عليه و سلم أن (2/251)
زوجي ظاهر مني وقد طالت صحبتي معه وقد ولدت له أولادا فقال عليه الصلاة و السلام
قد حرمت عليه فرفعت رأسها إلى السماء فقالت إلى الله أشكو حاجتي إليه ثم عادت فأجابها ثم ذهبت لتعيد الثالثة فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية ومن هذا كثير لمن تتبع ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت إذ قالت وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرءي ببرآءتي ولكن الله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها
وقال هلال ابن أمية والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد فنزل والذين يرمون أزواجهم الآية وهذا خاص بزمان رسول الله صلى الله عليه و سلم لانقطاع الوحي بانقطاعه
والسابع الشفاعة قال تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقد ثبت شفاعة هذه الأمة كقوله عليه الصلاة و السلام في أويس
يشفع في مثل ربيعة ومضر
أئمتكم شفعاؤكم وغير ذلك
والثامن شرح الصدر قال تعالى ألم نشرح لك صدرك الآية وقال في الأمة أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
والتاسع الإختصاص بالمحبة لأن محمدا حبيب الله ثبت ذلك في الحديث
إذ خرج عليه الصلاة و السلام ونفر من أصحابه يتذاكرون فقال بعضهم عجبا (2/252)
إن الله اتخذ من خلقه خليلا وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه الله تكليما وقال آخر فعيسى كلمه الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم وقال
قد سمعت كلامكم وعجبكم إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك وموسى نجي الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر وفي الأمة فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك
وهو العاشر
وأنه أكرم الأولين والآخرين وقد جاء في الأمة كنتم خير أمة أخرجت للناس
وهو الحادي عشر
والثاني عشر أنه جعل شاهدا على أمته اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام وفي القرآن الكريم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
والثالث عشر خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي صلى الله عليه و سلم وفي حق الأمة كرامات وقد وقع الخلاف هل يصح أن يتحدي الولي (2/253)
بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا وهذا الأصل شاهد له وسيأتي بحول الله وقدرته
والرابع عشر الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ففي القرآن ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد وسميت أمته الحمادين الجهادين
والخامس عشر العلم مع الأمية قال تعالى هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم وقال فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله الآية وفي الحديث
نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب
والسادس عشر مناجاة الملائكة ففي النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر وقد روى في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا
والسابع عشر العفو قبل السؤال قال تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وفي الأمة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم
والثامن عشر رفع الذكر قال تعالى ورفعنا لك ذكرك وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان وفي كلمة الأذان فصار ذكره عليه الصلاة و السلام مرفوعا منوها به وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير وجاء في بعض الأحاديث عن (2/254)
موسى عليه الصلاة و السلام أنه قال
اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم
والتاسع عشر أن معاداتهم معاداة لله وموالاتهم موالاة لله قال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله وفي الحديث
من آذاني فقد آذى الله وفي الحديث
من آذى وليا فقد بارزني بالمحاربة وقال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله
وتمام العشرين الاجتباء فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وفي الأمة هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام مصطفى من الخلق
وقال في الأمة ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
والحادي والعشرون التسليم من الله ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة و السلام وقال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم (2/255)
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة و السلام في خديجة
ا اقرأ عليها السلام من ربها ومني
والثاني والعشرون التثبيت عند توقع التفلت البشري قال تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وفى الأمة يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
والثالث والعشرون العطاء من غير منة قال تعالى وإن لك لأجرا غير ممنون وقال في الأمة فلهم أجر غير ممنون
والرابع والعشرون تيسير القرآن عليهم قال تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم أن علينا بيانه قال ابن عباس علينا أن نجمعه في صدرك ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه على لسانك وفي الأمة ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
والخامس والعشرون جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة إذ يقال في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (2/256)
والسادس والعشرون أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم
والسابع والعشرون أمر الله تعالى بالطاعة لهم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وهم الأمراء والعلماء وفي الحديث من أطاع أميري فقد أطاعني وقال
من يطع الرسول فقد أطاع الله
والثامن والعشرون الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان كقوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وفي الأمة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
والتاسع والعشرون العصمة من الضلال بعد الهدى وغير ذلك من (2/257)
وجوه الحفظ العامة فالنبي صلى الله عليه و سلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله وجاء فى الأمة
لا تجتمع أمتى على ضلالة وجاء
احفظ الله يحفظك وفى القرآن لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين تفسيره فى قوله
لا تجتمع أمتى على ضلالة وفى قوله
وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها
وتمام الثلاثين إمامة الأنبياء ففى حديث الإسراء أنه عليه الصلاة و السلام أم بالأنبياء قال
وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم
وفى حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض فى آخر الزمان
إن إمام (2/258)
هذه الأمة منها وأنه يصلى مؤتما بإمامها ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة والحمد لله على ذلك
فصل
وهذا الأصل ينبنى عليه قواعد
منها أن جميع ما اعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هى مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه و سلم لكن على مقدار الإتباع فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته كيف وهو السراج المنير الذى يستضىء به الجميع والعلم الأعلى الذى به يهتدى فى سلوك الطريق
ولعل قائلا يقول قد ظهرت على أيدى الأمة أمور لم تظهر على يدى النبي صلى الله عليه و سلم ولا سيما الخواص التى اختص بها بعضهم كفرار الشيطان من ظل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقد نازع النبي عليه الصلاة و السلام فى صلاته الشيطان وقال لعمر
ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وجاء فى عثمان بن عفان رضى الله عنه
أن ملائكة السماء تستحي منه ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجاء فى أسيد (2/259)
ابن حضير وعباد بن بشر
أنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فى ليلة مظلمة فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فافترق النور معهما ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة و السلام إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي صلى الله عليه و سلم
فيقال كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها فهى أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي ولا أن ذلك فى الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي إذ هو من حقيقته وداخل فى ماهيته فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي صلى الله عليه و سلم فهى كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة و السلام وكراماته
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الإتباع والإقتداء به ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والإستقلال لم تكن المتابعة شرطا فيها ويتبين هذا بالمثال المذكور فى شأن عمر (2/260)
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هى هروب الشيطان منه وذلك حفظ من الوقوع فىحبائله وحمله إياه على المعاصى وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول صلى الله عليه و سلم إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر
وأيضا فإن فرار الشيطان أو بعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة وقد زادت مزية النبي صلى الله عليه و سلم فيه خواص منها أنه عليه الصلاة و السلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد ثم تذكر قول سليمان عليه السلام هب لي ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى ولم يقدر عمر على شىء من ذلك ومنها أن النبي عليه الصلاة و السلام اطلع على ذلك من نفسه ومن عمر ولم يطلع عمر على شىء منه ومنها أنه عليه الصلاة و السلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه وعمر لم يكن آمنا وإن بعد عنه
وأما منقبة عثمان فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم بل نقول هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها
وأيضا فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهى شدة حيائه وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم أشد الناس حياء وأشد حياء من العذراء فى خدرها فإذا كان الحياء أصلها فالنبى عليه الصلاة و السلام هو الذى حواه على الكمال
وعلى هذا الترتيب يجري القول فى أسيد وصاحبه لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي فى الطريق ليلا بلا كلفة والنبي عليه الصلاة و السلام لم يكن الظلام يحجب بصره بل كان يرى فى الظلمة كما يرى فى الضوء بل (2/261)
كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة فكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهذا أبلغ حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة و السلام وكراماته التي ظهرت في أمته بعده وفي زمانه
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الإعتماد عليه والأخذ لهذه الأمور من جهته لاعلى الجملة فربما يقع للناظر فيها ببادىء الرأى إشكال ولا إشكال فيها بحول الله وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية
فصل
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة و السلام ومعجزاته فهي صحيحة وإن لم يكن لها أصل فغير صحيحة وإن ظهر ببادىء الرأى أنها كرامة إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة بل منها ما يكون كذلك ومنها ما لا يكون كذلك
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم والنقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض ليس لها في الصحة مدخل ولا يوجد لها في كرامات النبي صلى الله عليه و سلم منبع لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص فدعاء النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن على تلك النسبة ولا تجري فيه تلك الهيئة ولا اعتمد على قران في الكواكب ولا التمس سعودها أو نحوسها بل تحرى مجرد الإعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه معرضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها إذ قال
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث وإن تحرى (2/262)
وقتا أو دعا إلى تحريه فلسبب برىء من هذا كله كحديث التنزل وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار وأشباه ذلك والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم
وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره ولا مستعمل النبي عليه الصلاة و السلام والسلف الصالح والتي روعي فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفصل فذلك غير ثابت النقل ولا تجد له أصلا بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي هذا وإن كان الإنفعال الخارق حاصلا به فليس بدليل على الصحة كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك ولا يكون شاهدا على صحته بل هو باطل صرف وتعد محض وهذا الموضع مزلة قدم للعوام ولكثير من الخواص فليتنبه له
فصل
ومنها أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم حذر وبشر وأنذر وندب وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح والكشف الواضح والرؤيا الصالحة كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على طريق من الصواب وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع لكن مع مراعاة شرط ذلك ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران (2/263)
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا وتحذيرا وتبشيرا وإرشادا مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الإختصاص به دون غيره ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام
وقد قال عليه الصلاة و السلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين وقولهما له
نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل وقال عليه الصلاة و السلام لأبي ذر
إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقوله لثعلبة بن حاطبة وسأله الدعاء له بكثرة المال
قليل تودي شكره خير من كثير لا تطيقه وقال لأنس
اللهم كثر ماله وولده ودل عليه الصلاة الصلاة (2/264)
الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل واحد منهم عملا بالفراسة الصادقة فيهم وقال
لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه فأعطاها عليا رضي الله عنه ففتح الله على يديه وقال لعثمان بن عفان إنه
لعل الله أن يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه فرتب على الإطلاع الغيبي وصاياه النافعة وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدوأحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع بين يديه صحفه وترفع أخرى ثم قال آخر الحديث
وأنتم اليوم خير منكم يومئذ وأخبر بملك معاوية ووصاه وأن عمارا تقتله الفئة الباغية وبأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ثم وصاهم كيف يصنعون وأنهم سيلقون بعده أثرة ثم أمرهم بالصبر إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة و السلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق والتحذير والتبشير وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى (2/265)
والثانى عمل الصحابة رضى الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي كقول أبي بكر إنما هما أخواك وأختاك وقول عمر يا سارية الجبل فأعمل النصيحة التى أنبأ عنها الكشف ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس وقال أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان فقال مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة لا تلى عملا أبدا ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم ولكن يبقى هنا النظر فى شرط العمل على مقتضى هذه الأمور والكلام فيه يحتمل بسطا
فلنفرده بالكلام عليه وهى
المسألة الحادية عشرة
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق فى نفسه بل هو إما خيال أو وهم وإما من القاء الشيطان وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع وذلك أن التشريع الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم عام لا خاص كما تقدم فى المسألة قبل هذا وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذى نحن بصدده مضادا لما تمهد فى الشريعة فهو فاسد باطل
ومن أمثله ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد فى حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة فى أمر فرأى الحاكم فى منامه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له
لا تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها فى أمر ولا نهي ولا بشارة ولا نذارة لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة وكذلك (2/266)
سائر ما يأتي من هذا النوع وما روى أن أبا بكر رضى الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت فهى قضية عين لا تقدح فى القواعد الكلية لإحتمالها فلعل الورثة رضوا بذلك فلا يلزم منها خرم أصل
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس أو أن هذا الشاهد كاذب أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو أو ما أشبه ذلك فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمم ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لزيد على حال فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت فى الظاهر موجباتها وهذا غير صحيح بحال
فكذا ما نحن فيه
وقد جاء فى - الصحيح
إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث فقيد الحكم (2/267)
بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك وقد كان كثير من الأحكام التى تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ولكنه عليه الصلاة و السلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع لا على وفق ما علم وهو أصل فى منع الحاكم أن يحكم بعلمه
وقد ذهب مالك فى القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التى لا ريبة فيها لا من الخوارق التى تداخلها أمور والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق
ولذلك لم يعتبره رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الحجة العظمى وحكى ابن العربي عن قاضى القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة فى الأحكام جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا قال ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء فى الرد عليه هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها
فإن قيل هذا مشكل من وجهين
أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم فى الظاهر تناولها اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال فرأى بالبادية شجرة تين فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة أن (2/268)
لا تأكل منى فإنى ليهودي وعن عباس ابن المهتدى أنه تزوج امرأة فليلة الدخول وقع عليه ندامة فلما أراد الدنو منها زجر عنها فامتنع وخرج فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها هل هذا المتناول حلال أم لا كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق فى بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك فيمتنع منه
وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضى الله عنه وغيره فى قصة الشاه المسمومة وفيه فأكل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكل القوم وقال
ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث فبنى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك القول وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ وذلك فى قصة بقرة بنى إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله فرتب عليه الحكم بالقصاص وفى قصة الخضر فى خرق السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر فى هذا المعنى إلى غير ذلك مما يؤثر فى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكرامات الأولياء رضى الله عنهم
والثانى أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الإجتناب فكذلك ههنا إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة فى الماء ورؤيتها بعين الكشف الغيبي فلا بد أن يبني الحكم على هذا كما يبني على ذلك ومن فرق بينهما فقد أبعد (2/269)
فالجواب أن لا نزاع بيننا فى أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا وعملا بما هو مشروع على الجملة وذلك من وجهين
أحدهما الإعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه و سلم فيه فيلحق به فى القياس ما كان فى معناه إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي صلى الله عليه و سلم من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع وإنما يختص به من حيث كان معجزا وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ فى شريعتنا
على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناء على ما ثبت عنده من العادات أما قتل الغلام فلا يمكن القول به وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي فى قول المقتول دمي عند فلان
والثاني على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ الجارى عليها العمل بالقياس ولكن أن قدرنا عدمه فنقول إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذى هو الإثم وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر فيدخل فيها هذا النمط وقد قال عليه الصلاة و السلام
البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك فى صدرك فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند من (2/270)
فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ولكن ليس فى اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية وكلامنا إنما هو فى مثل مسألة ابن رشد وأشباهها وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله فى شريعتنا ألبتة فهو حكم منسوخ ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال فعمدة الشريعة تدل على خلافة فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به فى الأحكام خصوصا وبالنسبة إلى الاعتقاد فى الغير عموما أيضا فإن سيد البشر صلى الله عيله وسلم مع إعلامه بالوحي يجرى الأمور على ظواهرها فى المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم ولم يكن ذلك بمخرجة عن جريان الظواهر على ما جرت عليه
ولا يقال إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفا أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه فالعلة أمر آخر لا ما زعمت فإذا عدم ما علل به فلا حرج لأنا نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعى واليمين على من أنكر ولم يستثن من ذلك أحد حتى إن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتاج إلى البينة فى بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه فقال من يشهد لي حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعى واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد فالإعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي (2/271)
الشرعية ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع بل عدوا أنه من الشيطان وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة
وما ذكر من تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم كما لو وجد فى الفلاة صيدا فقال له إني مملوك وما أشبه ذلك لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك وكذلك سائر ما فى هذا الباب أو نقول كان المتناول مباحا له فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى فكذلك نقول فى الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي فى الظاهر بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر واعتمادا على الشرع فى معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ولا أن تعود على شىء منه بالنقض كيف وهى نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو يعود الفرع على أصله بالنقض هذا لا يكون ألبتة
وتأمل ما جاء فى شأن المتلاعنين إذ قال عليه الصلاة و السلام
إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان وإن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان فجاءت به على احدى الصفتين وهى المقتضية للمكروه ومع ذلك فلم يقم الحد عليها وقد جاء فى الحديث نفسه
لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تغرس به لا حكم له حين شريعة الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها
والجواب على السؤال الثانى أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس (2/272)
ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به وأيضا فإن الخوارق إن جاءت تقتضى المخالفة فهى مدخولة قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا غير الموافقة كمن يقال له لا تفعل كذا وهو مأمور شرعا بفعله أو إفعل كذا وهو منهي عنه وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب أو من سلك وحده بدون شيخ ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء
فإن قيل هذا يقتضى أن لا يعمل عليها وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها
قيل إن المنفى هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية فأما العمل عليها مع الموافقة فليس بمنفى
فصل
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها
فالقول فى ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التى فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم وذلك على أوجه
أحدها أن يكون فى أمر مباح كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده فى الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه فى إتيانه من موافقة أو مخالفة أو يطلع على ما فى قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلك فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضى ذلك لكن لا 8 يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم والثانى أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره والكرامة كما أنها خصوصية كذلك هى فتنة واختبار لينظر كيف تعملون (2/273)
وقد تقدم ذكره فإذا عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس
وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ومعلوم أنه عليه الصلاة و السلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك فى بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات وقد أخبر عليه الصلاة و السلام المصلين خلفه أنه يراهم من وراء ظهره لما لهم فى ذلك من الفائدة المذكورة فى الحديث وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك وهكذا سائر كراماته ومعجزاته فعمل أمته بمثل ذلك فى هذا المكان أولى منه فى الوجه الأول ولكنه مع ذلك فى حكم الجواز لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه والإخبار فى حق النبي عليه الصلاة و السلام مسلم ولا يخلو إخباره من فوائد ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به هي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا
والثالث أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته فهذا أيضا جائز كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة فله أن يجري بها مجرى الرؤيا كما روى عن أبي جعفر بن تركان قال كنت أجالس الفقراء ففتح على بدينار فأردت أن أدفعه إليهم ثم قلت فى نفسى لعلي أحتاج إليه فهاج بي وجع الضرس فقلعت سننا فوجعت الأخرى حتى قلعتها فهتف بي هاتف إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى فى فيك سن واحدة وعن الروذبارى قال فى استقصاء فى أمر الطهارة فضاق صدرى ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبى فقلت يارب عفوك فسمعت هاتفا يقول العفو فى العلم فزال عنى ذلك
وعلى الجملة فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره فى العمل بمقتضى الخوارق (2/274)
وهو المطلوب وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر فى هذا المجال إلى جهته وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر وهى
المسألة الثانية عشرة
إن الشريعة كما أنها عامة فى جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم فهى عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد إليها كل ما فى الظاهر والدليل على ذلك أشياء
منها ما تقدم فى المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة
والثانى أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم أو تقييد إطلاق أو تأويل ظاهر أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكما عليهما وصارت هي محكوما عليها بغيرها
وذلك باطل بإتفاق فكذلك ما يلزم عنه
والثالث أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها فى نفسها وذلك أنها قد تكون فى ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالا من أعمال الشيطان كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلى ويدعو ويتضرع وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ثم بدا له وجه كالقمر وقال له تملأ من وجهى يا أبا ميسرة فأنا ربك الأعلى فبصق فيه وقال له اذهب يا لعين عليك لعنة الله وكما يحكى عن عبد القادر الكيلانى أنه عطش عطشا شديدا فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ثم نودي من سحابة يا فلان أنا ربك وقد أحللت (2/275)
لك المحرمات فقال له اذهب يا لعين فاضمحلت السحابة وقيل له بم عرفت أنه إبليس قال بقوله قد أحللت لك المحرمات هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية
وقد نزعت إلى هذا المنزع فى ابتداء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة بنت خويلد زوجة رضى الله عنها فإنها قالت له أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك قال نعم قالت فإذا جاءك فأخبرنى به فلما جاء أخبرها فقالت قم يابن عم فاجلس على فخدى اليسرى
فجلس ثم قالت هل تراه قال نعم ثم حولته إلى فخدها اليمنى ثم إلى حجرها وفى كل ذلك تقول هل تراه فيقول نعم قال الرواي فتحسرت وألقت خمارها والنبي صلى الله عليه و سلم جالس فى حجرها ثم قالت هل تراه قال لا وفى رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها فذهب عند ذلك فقالت يا ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان
ولا يقال إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي لأنا نقول إن كان كما قلت على فرض تسليمة فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها وشاهد يشهد لها وإذ ذاك يلزم التسلسل وهو محال ولا يكتفى فى ذلك بدعوى الوجدان فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده لأن الآلام واللذات من المواجد التى لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ومذموما إذا كان لغير الله ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي إذ لا يصح أن يقال (2/276)
هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل فمن أين أدرك أنه محمود شرعا فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم لأن البحث جار فيه أيضا
وإنما الذى يشكل فى المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها إذ هى مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده فإذا وردت على صاحبها فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب
فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ولا يتعلق بها حكم شرعي كذلك فى مسألتنا بل أشبه شىء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا فى حال جنونه ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم فى استغراقهم فى الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ويقع منهم الوعد فيؤحذون عن أنفسهم فى المكاشفات والمنازلات فلا يفون ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك
فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم وهو داخل عليهم شاءوا أن أبوا فكيف ينكر فى نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف فى إثبات أصل المسألة وما اعترض به لا اعتراض به فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة لإنسان فى كسبها ولا دفعها فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات وقد مر أن الأسباب هى التى خوطب المكلف بها أمرا أونهيا ومسبباتها خلق لله فالخوارق من جملتها وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب لأجل (2/277)
أن عادة الله فىالمسببات أن تكون على وزان الأسباب فى الإستقامة والإعوجاج والإعتدال والإنحراف فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية فبقدر اتباع السنة فى الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها كذلك ما نحن فيه وقد قال تعالى إنما تجزون ما كنتم تعملون وقال هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها وهوعام فى الجزاء الدنيوي والأخروي وفروع الفقه فى المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات فالموضوع مقطوع به فىالجملة
وإذا ثبت هذا فما ظهر فىالخارقة من استقامة أو اعوجاج فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة والنتائج تتبع المقدمات بلا شك فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها فلا تسلم لصاحبها وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه كالشكر ونحوه فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها لا يخرج عن حكمه شىء منها والله أعلم
فصل
ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة فإن ساغت هناك فهى صحيحة مقبولة فى موضعها وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدى الأنبياء عليهم السلام فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا فلا يمكن فيها غير (2/278)
ذلك ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام فى ذبح ولده بمقتضى رؤياه وقال له ابنه يا أبت أفعل ما تؤمر وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم
وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجارى العادات فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا ساغت فى نفسها وإلا فلا كالرجل يكاشف بامرآة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وأن لم يكن مقصودا له أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها أو يكاشف بمولود فى بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شىء من اعضائها التى لا يسوغ النظر إليها فى الحسن أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف وهو يقول أنا ربك أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له أنا ربك أو يرى ويسمع من يقول له قد أحللت لك المحرمات وما أشبه ذلك من الأمور التى لا يقبلها الحكم الشرعي على حال ويقاس على هذا ما سواه وبالله التوفيق
المسألة الثالثة عشرة
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين وجب أن ينظر فى حكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول الملكف تحت حكم التكليف فمن ذلك أن مجارى العادات فى الوجود أمر معلوم لا مظنون وأعنى فى الكليات لا فى خصوص الجزئيات والدليل على ذلك أمور
أحدها أن الشرائع بالاستقراء إنما جىء بها على ذلك ولنعتبر بشريعتنا فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان (2/279)
واحد وعلى مقدار واحد وعلى ترتيب واحد لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر وذلك واضح فى الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهى أفعال المكلفين كذلك وأفعال المكلفين إنما تجرى على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتببه ولو اختلفت العوائد فى الموجودات لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب فلا تكون الشريعة على ما هى عليه
وذلك باطل
والثانى أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كالاخبار عن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال وأن سنة الله لا تبديل لها وأن لا تبديل لخلق الله كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال فإن الخلاف بينهما محال
والثالث أنه لولا أن اطراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه لأن الدين لا يعرف إلا عند الإعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الإعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة فى الحال والاستقبال كما (2/280)
اطردت فى الماضى ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدى لم يقع إلا على الوجه المعلوم فى أمثاله فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقة اضطرارا لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدى لكن العلم حاصل فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا وهو المطلوب
فإن قيل هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم بل إن كان فمظنون والدليل على ذلك أمران
أحدهما أن استمرار أمر فى العالم مساو لابتداء وجوده لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر والإمداد ممكن أن لا يوجد كما أن استمرار العدم على الموجود فى الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم فكذلك وجوده فى الزمان الثانى ممكن وعدمه كذلك
فإذا كان كذلك فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده هل هذا إلا عين المحال
والثانى أن خوارق العادات فى الوجود غير قليل بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدى الأنبياء عليهم السلام من ذلك وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفى الأمم قبلها من العادات والوقوع زائد على مجرد الإمكان فهو أقوى فى الدلالة فإذا لا يصح أن يكون مجارى العادات معلومة البتة
فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا وإنما اندفع بالسمع القطعي وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة لم يفد حكم الجواز العقلي (2/281)
ولا يقال إن هذا تعارض فى القطعيات وهو محال
لأنا نقول إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد وليس كذلك هنا بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه فى أصل الإمكان والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع وكم من جائز غير واقع وكذلك نقول العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم ويمكن أن يوجد فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد فواجب وجوده ومحال استمرار عدمه وإن كان فى نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ولذلك قالوا من الجائز تنعيم من مات على الكفر وتعذيب من مات على الإسلام ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون وأن المسلمين هم المنعمون فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد كذلك ههنا فالجواز من حيث نفس الجائز والوجوب أو الإمتناع من حيث أمر خارج فلا يتعارضان
وعن الثانى أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو فى كليات الوجود لا فى جزئياته وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التى لا تخرم كلية ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا فى العمل على مقتضى العادات ألبتة ولولا استقرار العلم بالعادات لما ظهرت الخوارق كما تقدم وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات وأصله للفخر الرازى رحمه الله تعالى فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي صلى الله عليه و سلم أن اقترنت بالتحدى أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ولا يقدح انخراقها فى علمنا باستمرار العادات الكلية كما إذا رأينا عادة جرت فى جزئية من هذا العالم فىالماضى (2/282)
والحال غلب على ظنوننا أيضا استمرارها فى الإستقبال وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ولا يقدح ذلك فى علمنا باستمرار العاديات الكلية وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي والعمل بخبر الواحد قطعي والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي إلى أشباه ذلك فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل ظنيا أو أخذت فى العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا وكذلك سائر المسائل ولم يكن ذلك قادحا فى أصل المسألة الكلية وهذا كله ظاهر
المسألة الرابعة عشرة
العوائد المستمرة ضربان أحدهما العوائد الشرعية التى أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا أو نهى عنها كراهة أو تحريما أو أذن فيها فعلا وتركا والضرب الثانى هى العوائد الجارية بين الخلق بما ليس فى نفيه ولا إثباته دليل شرعي
فأما الأول فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية كما قالوا فى سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات وطهارة التأهب للمناجاة وستر العورات والنهي عن الطواف بالبيت على العرى وما أشبه ذلك من العوائد الجارية فى الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا حتى يقال مثلا إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو إن كان كشف العورة الآن ليس (2/283)
بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم باطل فرفع العوائد الشرعية باطل
وأما الثانى فقد تكون تلك العوائد ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهى أسباب لأحكام تترتب عليها
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام والبطش والمشي وأشباه ذلك وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال فى اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما
والمتبدلة
منها ما يكون متبدلا فىالعادة من حسن إلى قبح وبالعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع فى الواقع فهو لذوى المروءات قبيح فى البلاد المشرقية وغير قبيح فى البلاد المغربية فالحكم الشرعي يختلف لإختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحا فى العدالة وعند أهل المغرب غير قادح ومنها ما يختلف فى التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة آخرى إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع فى صنائعهم مع اصطلاح الجمهور أو بالنسبة إلى غلبة الإستمعال فى بعض المعانى حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما وقد كان يفهم منه قبل ذلك شىء آخر أو كان مشتركا فاختص وما أشبه ذلك والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرا فى الإيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحا
ومنها ما يختلف فى الأفعال فى المعاملات ونحوها كما إذا كانت العادة (2/284)
فى النكاح قبض الصداق قبل الدخول أو فى البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة أو بالعكس أو إلى أجل كذا دون غيره فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور فى كتب الفقه
ومنها ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف كالبلوغ فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الإحتلام أو الحيض أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لدات المرأة أو قراباتها أو نحو ذلك فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة فى ذلك الإنتقال
ومنها ما يكون فى أمور خارقة للعادة كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى كالبائل أوالمتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد فى الناس بالنسبة إليه فى حكم العدم فإنه إن لم يصر كذلك فالحكم للعادة العامة وقد يكون الإختلاف من أوجه غير هذه ومع ذلك فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه
فصل
وأعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس فى الحقيقة بإختلاف فى أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج فى (2/285)
الشرع إلى مزيد وإنما معنى الإختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما فى البلوغ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ فإذا بلغ وقع عليه التكليف فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس بإختلاف فى الخطاب وإنما وقع الإختلاف في العوائد أو فى الشواهد وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج فى دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا بناء على نسخ تلك العادة ليس بإختلاف فى حكم بل الحكم أن الذى ترجح جانبه بمعهود أو أصل فالقول قوله بإطلاق لأنه مدعى عليه وهكذا سائر الأمثلة فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق والله أعلم
المسألة الخامسة عشرة
العوائد الجارية ضرورية الإعتبار شرعا كانت شرعية فى أصلها أو غير شرعية أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعا أمرا أو نهيا أو إذنا أم لا أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك فالعادة جرت بأن الزجر سبب الإنكفاف عن المخالفة كقوله تعالى ولكم فى القصاص حياة فلو لم تعتبر العادة شرعا لم ينحتم القصاص ولم يشرع إذ كان يكون شرعا لغير فائدة وذلك مردود بقوله ولكم فى القصاص حياة وكذلك البذر سبب لنبات الزرع والنكاح سبب للنسل والتجارة سبب لنماء المال عادة كقوله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم وابتغوا من فضل الله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وما أشبه ذلك مما يدل على (2/286)
وقوع المسببات عن أسبابها دائما فلو لم تكن المسببات مقصودة للشارع فى مشروعية الأسباب لكان خلافا للدليل القاطع فكان ما أدى إليه باطلا
ووجه ثان وهو ما تقدم فى مسألة العلم بالعاديات فإنه جار ههنا
ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع (2/287)
بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح والتشريع دائم كما تقدم فالمصالح كذلك وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع
ووجه رابع وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع وذلك أن الخطاب إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف أو لا فإن اعتبر فهو ما أردنا وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر وعلى غير العالم والقادر وعلى من له مانع ومن لا مانع له وذلك عين تكليف ما لا يطاق والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة
فصل
وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة وإنما ينظر في انخراقها
ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي فيخلفها في الموضع حالة إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس أو من غير ذلك فإن كانت منخرقة بعذر فالموضع للرخصة وإن كانت من غير ذلك فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي كما في البائل من جرح صار معتادا فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم وإما إلى غير عادة أو إلى عادة لا تخرم العادة الأولى فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص كالمرض (2/288)
المعتاد والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك
وإن انخرقت إلى غير معتاد فهل يكون لها حكمها في نفسها أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها
ولا بد من تمثيلها أولا ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق
فمن ذلك توقف عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه عن إكراه من منع الزكاة وقوله لمن كتب له بذلك دعوه وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره والأب عارف بما يراد من ابنه وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث وحديث أبي زيد مع خديمه لما خضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي فقالا للخديم كل معنا فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر صوم شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو زيد (2/289)
دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة وقطعت يده ومنه دخول البربة بلا راد ودخول الأرض المسبعة وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة
فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على مايسوغ شرعا
وعند ذلك فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريب من جنس العادي أو لا يكون من جنسه
فإن كان الأول لحق بجنس أحكام العادات
مثاله الأمر بالإفطار فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه وهم الأكثر فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى
ومثل هذا مخوف العاقبة لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة لعله كان نوعا من الإجتهاد إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به وكذلك وقع فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله حتى إذا أصر على الإمتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين
ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط فلذلك سأله الحجاج عن ابنه والصدق من عزائم العلم وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها بل هو أعظم أجرا كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس (2/290)
الكذب وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين بعد ما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو وقد قيل عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وهو أصل صحيح شرعي
ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم فإنه عقد على نفسه أن لايعتمد على غير الله فلم يترخص وهو أصل صحيح ودل على خصوص مسألته قوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه ووكالة الله أعظم من وكالة غيره وقد قال هود عليه الصلاة و السلام فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم الآية ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء لقوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وأيضا فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عيله وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه فقال أبو حمزة رب إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا قال فخرج حاجا من الشام يريد مكة إلى آخر الحكاية وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه فليس بجار على غير الأصل الشرعي ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال فهذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد فقد تبين في - كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها فمن كان هذا حاله فالأسباب عنده كعدمها فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ولا رجاء في مرجو مخلوق إذ لا مخوف ولا (2/291)
مرجو إلا الله فليس هذا إلقاء باليد إلى التكهله وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك وإن قارب السبع هلك وأما إذا لم يحصل ذلك فلا على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والإقتيات بالنبات وكل هذا راجع إلى حكم عادي
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم بحيث يرجع إلى الأحكام العادية بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك
فصل
وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي كالمكاشفة فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس أم يعاملون معاملة أخرى خارحة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس وإن كانت مخالفة في الظاهر لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة
والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربى بذلك حتما وقد مر مايستدل به على ذلك ومن الدليل عليه ايضا أوجه
أحدها أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها قاعدة ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب ولا عقاب ولا إكرام ولا إهانة ولا حقن دم ولا إهداره ولا إنفاذ حكم من حاكم وما كان هكذا فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح وهو الذي انبنت الشريعة عليه
والثاني أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه لأنها (2/292)
مخصوصة بقوم مخصوصين وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم ولا أيضا تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين أعني في نصب أحكام العامة إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه أو السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة ولا أيضا للوليين إذا ترافقا إلى الحاكم في قضية
وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال كيف وهم يقولون إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادىء الرأي منه أنه عصيان فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشروع لتطرق الإحتمالات
وهذا هو الوجه الثالث
والرابع أن أولى الخلق بهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الصحابة رضي الله عنهم ولم يقع منه عليه الصلاة و السلام شيء من ذلك إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد إلى غيره وما سوى ذلك فقد أنكر على من قال من له يحل الله لنبيه ما شاء ومن قال إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب وقال
إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي وقد كان عليه الصلاة و السلام يستشفى به وبدعائه ولم يثبت أنه مس بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين وكانت النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها وقد مر من هذا أشياء وهو الذي قعد القواعد ولم يستثن وليا من غيره وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي (2/293)
وأصحاب الخوارق وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان وهم الأولياء حقا والفضلاء صدقا
وفي قصة الربيع بيان لهذا حيث قال وليها أو من كان والله لا تكسر ثنيتها والنبي صلى الله عليه و سلم يقول
كتاب الله القصاص ولم يكتف عليه الصلاة و السلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فكان يرجيء الأمر حتى يبرز أثر القسم بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله فحينئذ قال عليه الصلاة و السلام
إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فبين أن ذلك القسم قد أبره الله ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي وهو العفو والعفو منتهض في ظواهر الحكم سببا لإسقاط القصاص
والخامس أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات ونقض لمصالحها الموضوعات ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الإعتبار فقال
لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فمثله يلغي في جريان أحكام الخوارق على أصحابها حتى لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفيه شريعة أخرى ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى رضي الله عنه فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام (2/294)
خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب أمورا يطلب بالتحرز منها شرعا فلا ينبغى أن يخضوا بزائد على مشروع الجمهور ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالبين فيهم مذهب الإباحة وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم وهذا تعريض لهم إلى سوء المقالة
وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا برآء من هذه الطوارق المنخرقة غير أن الكلام جرى إلىالخوض في هذا المعنى فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي المحافظون على اتباعها لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق
ولأجله وقع البحث في هذه المسائل حتى يتقرر بحول الله ما يفهم به عنهم مقاصدهم وما توزن به أحوالهم حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى نفعهم الله ونفع بهم
ثم نرجع إلى تمام المسألة فنقول
وليس الإطلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ما جرى عليه السلف الصالح وكذلك القول فى انخراق العادات لا بنبغى أن يبنى عليها فى الأحكام الظاهرة وقد كان عليه الصلاة و السلام معصوما لقوله تعالى والله يعصمك من الناس ولا غاية وراء هذا ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر ويتوقى ما العادة أن يتوقى ولم يكن ذلك نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها بل هى أعلى
وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها (2/295)
وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكل ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب ومع ذلك فلم يتركوا الدخول فى الأسباب العادية التى ندبوا إليها ولم يتركهم النبي صلى الله عليه و سلم مع هذه الحالة التى تسقط حكم الأسباب وتقضى بإنخرام العوائد فدل على أنها العزائم التى جاء الشرع بها لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام
قيدها وتوكل وقد كان المكملون من الصوفية يدخلون فى الأسباب تأدبا بآداب رسول الله صلى الله عليه و سلم ونظرا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره وأما قصة الخضر عليه السلام وقوله وما فعلته عن أمرى فيظهر به أنه نبي وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال وإن سلم فهى قضية عين ولأمر ما وليست جارية على شرعنا والدليل على ذلك أنه لا يجوز فى هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم وإن علم أنه طبع كافرا وأنه لا يؤمن أبدا وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وإن أذن له من عالم الغيب فى ذلك لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي وإنما الظاهر فى تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخر لا يعلمها هو
فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه بل هو على ضربين أحدهما ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها فهذا لا يصح العمل عليه ألبتة والثانى ما لم يخالف العمل به شيئا من (2/296)
الظواهر أو إن ظهر منه خلاف فيرجع بالنظر الصحيح إليها فهذا يسوغ العمل عليه وقد تقدم بيانه فإذا تقرر هذا الطريق فهو الصواب وعليه يربي المربي وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ وأولى برسوخ القدم وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدى به فيه والله أعلم
المسألة السادسة عشرة
العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها فى الوجود أحدهما العوائد العامة التى لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال كالأكل والشرب والفرح والحزن والنوم واليقظة والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المولمات والخبائث وما أشبه ذلك والثانى العوائد التى تختلف بإختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيآت اللباس والمسكن واللين فى الشدة والشدة فيه والبطء والسرعة فى الأمور والأناة والاستعجال وما كان نحو ذلك
فأما الأول فيقتضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى فى خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم فيكون ما جرى منها فى الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضى والمستقبل مطلقا كانت العادة وجودية أو شرعية
وأما الثانى فلا يصح أن يقضى به عل ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة وكذلك فى المستقبل ويستوي فى ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية (2/297)
وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها فى الخلق حسبما بين ذلك الإستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهى العادة التى تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة وأما الضرب الثانى فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية وهى التى يتعلق بها الظن لا العلم فإذا كان كذلك لم يصح أن يحكم بالثانية على من مضى لإحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى
وهذه قاعدة محتاج إليها فى القضاء على ما كان عليه الأولون لتكون حجة فى الآخرين ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها ورد القضاء بالعامة إليها وليس هذا الإستعمال بصحيح بإطلاق ولا فاسد بإطلاق بل الأمر فيه يحتمل الإنقسام كما تقدم وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه هل يلحق بالأول فيكون حجة أم لا فلا يكون حجة
المسألة السابعة عشرة
المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة (2/298)
أو المفسدة الناشئة عنها وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة فى كل ملة وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها
والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها كما فى الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد بخلاف ما كان راجعا إلى حاجى أو تكميلي فإنه لم يختص بوعيد فى نفسه ولا بحد معلوم يخصه فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري
والإستقراء يبين ذلك فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان أحدهما ما به صلاح العالم أو فساده كإحياء النفس فى المصالح وقتلها فى المفاسد والثانى ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد وهذا الثانى ليس فى مرتبة واحدة بل هو على مراتب
وكذلك الأول على مراتب أيضا فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ولذلك يهمل فى جانبه النفس والمال وغيرهما ثم النفس ولذلك يهمل فى جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقى نفسه به وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلاببذل بضعها جاز لها ذلك وهكذا سائرها ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل به على مراتب فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين فى بطن أمه الحاضرة الآن ولا بيع الجنين فى البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية (2/299)
والمعصية صغيرة من الصغائر وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا كما أن الجزيئات فى الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد بل لكل منها مرتبة تليق بها
المسألة الثامنة عشرة
الأصل فى العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الإلتفات إلى المعانى
وأصل العادات الإلتفات إلى المعاني
أما الأول فيدل عليه أمور
منها الإستقراء فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيآت مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات وأن الذكر المخصوص فى هيئة ما مطلوب وفى هيئة أخرى غير مطلوب وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر وهكذا سائر العبادات (2/300)
كالصوم والحج وغيرهما وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الإنقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه وهذا المقدار لا يعطى علة خاصة يفهم منها حكم خاص إذ لو كان كذلك لم يجد لنا أمر مخصوص بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا وليس كذلك باتفاق فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود وأن غيره غير مقصود شرعا
والثانى أنه لو كان المقصود التوسعة فى وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا واضحا كما نصب على التوسعة فى وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه فى المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ولكان ذلك يتسع فى أبواب العبادات ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود إلا أن يتبيى بنص أو إجماع معنى مراد فى بعض الصور فلا لوم (2/301)
على من اتبعه لكن ذلك قليل فليس بأصل وإنما الأصل ما عم فى الباب وغلب فى الموضع
وأيضا فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له كالمشقة فى قصر المسافر وإفطاره والجمع بين الصلاتين وما أشبه ذلك وإلى هذا فأكثر العلل المفهومة الجنس فى أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله سها فسجد وقوله
لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ونهيه عن الصلاة طرفي النهار وعلل ذلك بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان وكذلك ما يستعمله الخلافيون فى قياس الوضوء على التيمم فى (2/302)
وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها فتجب فيها النية قياسا على التيمم
وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع بل هو من المسمى شبها بحيث لا يتفق على القول به القائلون وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجدوا سواه فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة فالركن الوثيق الذى ينبغي الإلتجاء إليه (2/303)
الوقوف عند ما حد دون التعدي إلى غيره لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد فى باب العبادات فكان أصلا فيها
والثالث أو وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها والمشي على غير طريق ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها فافترقنا إلى الشريعة في ذلك ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في عدم اهتدائهم فقال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والحجة ههنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق والله أعلم فإذا ثبت هذا لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع وهو معنى التعبد
ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح وهو رأى مالك رحمه الله إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله
فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه وركنا يلجأ إليه (2/304)
فصل
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني
فلأمور
أولها الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات وقال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب وقال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وفي الحديث
لا يقضي القاضي وهو غضبان وقال
لا ضرر ولا ضرار وقال
القاتل لا يرث (2/305)
ونهى عن بيع الغرر وقال
كل مسكر حرام وفي القرآن إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني
والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك وقد توسع في (2/306)
هذا القسم مالك رحمه الله حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان ونقل عنه أنه قال إنه تسعة أعشار العلم حسبما يأتي إن شاء الله
والثالث أن الإلتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهي الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول وهي كثيرة وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام
فصل
فإذا تقرر هذا وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص كطلب الصداق في النكاح (2/307)
والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول والفروض المقدرة في المواريث وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها غيرها
فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك لتمييز النكاح عن السفاح وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ولكنها أمور جملية كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات وهذا المقدار لا يقضى بصحة القياس على الأصل فيها بحيث يقال إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ولا ما أشبه ذلك
فإن قيل وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا فالجواب أن يقال أمور التعبدات فعلتها المطلوبة مجرد الإنقياد من غير زيادة ولا نقصان ولذلك لما سئلت عائشة رضى الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة قالت للسائلة أحرورية أنت إنكار عليها أن يسئل عن مثل هذا إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ثم قالت كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وهذ يرجح التعبد على التعليل بالمشقة وقول ابن المسيب فى مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع هى السنة يا ابن أخي وهو كثير ومعنى هذا التعليل أن لا علة
وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا فلها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه (2/308)
المصالح إذ لو ترك الناس والنظر لا تنشر ولم ينضبط وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي والضبط أقرب إلى الإنقياد ما وجد إليه سبيل فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة وأسبابا معلومة لا تتعدى كالثمانين فى القذف والمائة وتغريب العام فى الزنا على غير إحصان وخص قطع اليد بالكوع وفى النصاب المعين وجعل مغيب الحشفة حدا فى أحكام كثيرة وكذلك الأشهر والقروء فى العدد والنصاب والحول فى الزكوات وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين وهو المعبر عنه بالسرائر كالطهارة للصلاة والصوم والحيض والطهر وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه
وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع لكن له نظران نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه كما فى مذهب مالك مثلا مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه ونظر من جهة أن له ظوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه وقد فهم من الشرع الإلتفات إلى كليه فليجر بحسب الإمكان فى مظانه وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهى عنه والتوسل بها إليه وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح فلا بد من اعتباره ومن الناس من توسط بنظر ثالث فخص هذا المختلف فيه (2/309)
بالظاهر فسلط الحكام على ما اطعلوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته
المسألة التاسعة عشرة
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه
أحدها أن معنى الإقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو (2/310)
مكلف عرف المعنى الذى لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم فإنه عبد مكلف فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء بخلاف المصلحة فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين وإذا كان كذلك فالتعبد لازم لا خيرة فيه واعتبار المصلحة فيه الخيرة وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا وإذا وقع الأمر والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا فإنه محال فالتعبد بالإقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح وأيضا فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقلبين فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هى علة الأمر بالعقل يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض فالأمران على مذهبهم لا زمان
ولا يقول أحد منهم إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد
والثانى أنا إذا فهمنا بالإقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة فى شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم يمقتضاها فى ذلك الذى ظهر
وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا إذ هو قطع على غيب بلا دليل وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان (2/311)
حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد
فإن قيل لو جاز ذلك لم نقض بالتعدى على حال فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التى جهلناها وإن وجدت فيه العلة التى علمناها فإذا أمكن ذلك لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد لأن القياس قد صح (2/312)
كونه دليلا شرعيا ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ولم نكلف أن ننفي ما عداها فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية أو صالح لكونه علة كاف في تعدي الحكم به وأيضا فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل وجميعها معلوم فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر فإذا ثبت هذا لم يبق للسؤال مورد فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ولا علينا
والوجه الثالث أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين أحدهما ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول إن شرعية الأحكام لأجله والثاني مالا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ولا يطلع عليه إلا بالوحي كالأحكام التي أخبر (2/313)
الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو وقذف الرعب والقحط وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة ألبتة لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل وإذ ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان
والرابع أن السائل إذا قال للحاكم لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان فأجاب بأني نهيت عن ذلك كان مصيبا كما أنه إذا قال لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم كان مصيبا أيضا والأول جواب التعبد المحض
والثاني جواب الالتفات إلى المعنى وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما جاز القصد إلى التعبد وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد فلما صح القصد مطلقا صح المقصود له مطلقا وذلك جهة التعبد
وهو المطلوب (2/314)
والخامس أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا
ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق لله خاصة وهو راجع إلى التعبد وما هو حق للعبد ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقا لله كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ولايقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة وإن كانت براءة رحمها حقا له وما أشبه ذلك من (2/315)
المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم فقد صار إذا كل تكليف حقا لله فإن ما هو لله فهو لله وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا
ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء إن النهي يقتضى الفساد بإطلاق علمت مفسدة النهي أم لا انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا وقوفا مع نهى الناهي لأنه حقه والإنتهاء هو القصد الشرعي في النهي فإذا لم يحصل فالعمل باطل بإطلاق فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد وإذا لم يخل فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة
ومنها ما لا يصح إلا بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله كالزكاة والزبائح والصيد والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها وكذلك التروك إذا تركت بنية وهذا متفق عليه ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق لما حصل الثواب فيها أصلا لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها والمأمور به متقرب إلى الله به وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة وكل عبادة مفتقرة إلى نية فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرةإلى نية
فإن قيل إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب لا من كونها طاعة متقربا بها
قيل هذا غير صحيح إذ لو كان كذلك لصح الثواب بدون النية لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية (2/316)
وأيضا فلو حصل الثواب بغير نية لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها وليس كذلك بإتفاق وإن حصل حق العبد فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة
وهو دليل سادس في المسألة
فإن قيل فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية وأن لا يصح عمل من لم ينو أو يكون عاصيا
قيل قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة فما كان المغلب فيه التعبد فمسلم ذلك فيه وما غلب فيه جهة العبد فحق العبد يحصل بغير نية فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله فإن راعى جهة الأمر فهو من تلك الجهة عبادة فلا بد فيه من نية أى لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم أو أقرض بقصد دنيوي وكذلك البيع والشراء والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يثابرون على إحضار النيات في الأعمال ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم
فصل
ويتبين بهذا أمور
منها أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا فليس كذلك (2/317)
بإطلاق بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية
كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ولذلك قال في الحديث
حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم وعادتهم في تفسير حق الله أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف كان له معنى معقول أو غير معقول وحق العبد ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا فإن كان من المصالح الأخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ومعنى التعبد عندهم أنه مالا يعقل معناه على الخصوص وأصل العبادات راجعة إلى حق الله وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد
فصل
والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام
أحدها ما هو حق لله خالصا كالعبادات وأصله التعبد كما تقدم فإذا طابق الفعل الأمر صح وإلا فلا
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى فإذا وقع طابق قصد الشارع أو لا خالف وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل وأيضا فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع (2/318)
فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه وعدم تحقق البراءة موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق لا بفعل غير مطابق
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهى عنه إما بناء على أن النهي يقتضى الفساد بإطلاق وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهى عنه غير مطابق لقصد الشارع إما بأصله كزيادة صلاة سادسة أو ترك الصلاة وإما بوصفه كقراءة القرآن في الركوع والسجود والصلاة في الأوقات المكروهة إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ولأمر به أو أذن فيه فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهى عنه بعد الوقوع أو المأمور به من غير المطابق فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك كالصلاة فى الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الإنفكاك وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح فيجرى على حكمه وقد مر أن هذا قليل وأن التعبد هو العمدة
والثانى ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد والمغلب فيه حق الله
وحكمه راجع إلى الأول لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا فهو كغير المعتبر إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر والفرض خلافة كقتل النفس إذ ليس للعبد خيرة فى إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها فإذا رأيت من يصحح المنهى أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع فذلك للأمور الثلاثة الأول (2/319)
ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب
والثالث ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب وأصله معقولية المعنى فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له وإن وقعت المخالفة فهنا نظر أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ أو لا فإن فرض غير حاصل فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل وإن حصل ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر أو غير السبب المخالف صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري لأن النهي لأجل فوت العتق فإذا حصل فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق الغير إذا أسقط ذو الحق حقه لأن النهي قد فرضناه لحق العبد فإذا رضي بإسقاطه فله ذلك
وأمثلة هذا القسم كثيرة فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع فذلك لأحد الأمور الثلاثة (2/320)
المسألة العشرون
لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى حسبما بين لنا الكتاب والسنة اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ألا ترى إلى قوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وقوله وهو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وقال فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون وقوله فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون وقال لئن شكرتم لأزيدنكم الآية والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم وهو راجع إلى الإنصراف إليه بالكلية ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الإستطاعة في كل حال وهو معنى قوله عليه الصلاة و السلام
حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (2/321)
ويستوى في هذا ما كان من العبادات أو العادات
أما العبادات فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة فهي مصروفة إليه
وأما العادات فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات فقد قال تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية فنهى عن التحريم وجعله تعديا على حق الله تعالى ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة و السلام
من رغب عن سنتي فليس مني وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وقوله وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم الآية فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها منها مجرد التحريم وهو المقصود ههنا
وأيضا ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ولا خيرة فيه للعبد فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير حتى يسقط حقه بإختياره في بعض الجزئيات لا في الأمر الكلي ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف
فإذا العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين أحدهما من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات والثاني من جهة الوضع التفصيلي (2/322)
الذي يقتضيه العدل بين الخلق وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة فصار الجميع ثلاثة أقسام وفيها أيضا حق للعبد من وجهين أحدهما جهة الدار الآخرة وهو كونه مجازى عليه بالنعيم موقى بسببه عذاب الجحيم والثاني جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا لكن بحسبه في خاصة نفسه كما قال تعالى قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة
وبالله التوفيق
القسم الثاني من الكتاب
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف وفيه مسائل
المسألة الأولى
أن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات
والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر (2/323)
ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ويقصد به شيء آخر فلا يكون كذلك بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم
وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون
وقد قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فاعبد الله مخلصا له الدين إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقال ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا بعد قوله فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلى قوله إلا أن تتقوا منهم تقاة وفي الحديث
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى إلى آخره وقال
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (2/324)
وفيه
أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي وتصديقه قول الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وأباح عليه الصلاة و السلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو يصد له وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه
لا يقال إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال والدليل على ذلك أشياء
منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه وهو لم ينو ذلك فيلزم أن أن لا يصح وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ويتسلسل أو يكون الإكراه عبثا (2/325)
وكلاهما محال أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب
ومنها أن الأعمال ضربان عادات وعبادات فأما العادات فقد قال الفقهاء إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء وكذلك الصوم والزكاة وهي عبادات وألزموا الهازل العتق والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة وفي الحديث
ثلاث جدهن وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة وفي حديث آخر
من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أن (2/326)
صومه صحيح ومن سلم من اثنتين فى الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة وأصل مسألة الرفض مختلف فيها فجميع هذا ظاهر فى صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة
ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الإمتثال عقلا وهو النظر الأول المفضى إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به فإن قصد الإمتثال فيه محال حسبما قرره العلماء فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية وإذ ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا
لأنا نجيب عن ذلك بأمرين
أحدهما أن نقول إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان
ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار وهنا يصح أن يقال إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به إمتثال أمر الشارع أولا وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية وعليه يدل ما تقدم من الأدلة فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا فلو فرضنا العمل مع عدم الإختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة فليس هذا النمط بمقصود للشارع فبقي ما كان مفعولا بالإختيار لا بد فيه من القصد 00000 وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة وكل ما أورد فى السؤال لا يعدو هذين القسمين فإنه (2/327)
إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالإعتبار وعدمه وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة وإن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا فى إسقاط القضاء أو فى صحة الصوم شرعا لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا وكذلك ما فى معناه
والضرب الثانى ليس من ضرورة كل فعل وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هى تعبديات فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الإختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شىء إلا النظر الأول لعدم إمكانه لكنه فى الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة بناء على منع التكليف بما لا يطاق أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال فى صحته لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل فإنه محال فصار فى عداد ما لا قدرة عليه فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا
والثانى من وجهى الجواب بالكلام على تفاصيل ما اعترض به فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدى الغصاب وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزىء (2/328)
فعلها بالنسبة إلى المكره فى خاصة نفسه حتى ينوى القربة كالإكراه على الصلاة
لكن المطالبة تسقط عنه فى ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد فلم يطلبوا بالشق عن القلوب
وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر فى الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات فى الثواب إلا مع قصد الإمتثال وإلا كانت باطلة وبيان بطلانها فى - كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى فالطهارة والزكاة من ذلك وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه قصد سواه ولهذا نظائر فى العاديات كنكاح الشغار فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه (2/329)
وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك وهو فى المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات وإما قاصد أن لا يقع وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل وهو الإباحة أو غيرها
وقد علل اللزوم فى هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله أو يقال إنه قاصد بالعقد الذى هو جد شرعي اللعب فناقض مقصود الشارع فبطل حكم الهزل فيه فصار إلى الجد
ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة فالنية الأولى مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي وهو لم يكن فصح الصوم ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية (2/330)
الأولى فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنقل لغوا لم يصادف محلا
وعلى هذا السبيل تجرى مسألة الرفض
وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال وقد تقدم بيانه فى الوجه الأول
وبالله التوفيق
المسألة الثانية
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده فى العمل موافقا لقصده فى التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة إذ قد مر أنها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجرى على ذلك فى أفعاله وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد فى وضع الشريعة هذا محصول العبادة فينال بذلك الجزاء فى الدنيا والآخرة وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله فى إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة و السلام
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه وإليه يرجع قوله تعالى إني جاعل فى الأرض خليفة وقوله ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون وهو الذى جعلكم خلائف فى الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم (2/331)
فيما آتاكم والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال
الأمير راع والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة
فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه يجري أحكامه ومقاصده مجاريها وهذا بين
فصل
وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في - كتاب الأحكام وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب إذ مر هنالك خمسة أوجه منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتي يتبين له ما أراد إن شاء الله (2/332)
المسألة الثالثة
كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل
أما أن العمل المناقض باطل فظاهر فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة
وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها فالدليل عليه أوجه
أحدها أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أوتروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهي عنه رحمة بالعباد فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع (2/333)
وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا وذلك مضادة للشريعة ظاهره
والثاني أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن وهذه مضادة أيضا
والثالث أن الله تعالى يقول ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية وقال عمر بن عبد العزيز
سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصير والأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة
والرابع أن الآخذ بالمشروع لم حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا وإذا لم يأت به ناقض الشارع فى ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به
والخامس أن الملكف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها (2/334)
في الأمر والنهي فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة بل قصد قصد آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده
وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه
والسادس أن هذا القاصد مستهزىء بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها ولا تتخذوا آيات الله هزوا والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجله ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهره والأدلة على هذا المعنى كثيرة
وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح والذبح لغير الله والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرآة ينكحها والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر فى الدنيا والسلف ليجربه نفعا والوصية بقصد المضارة للورثة ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها وما أشبه ذلك (2/335)
وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء منها ما تقدم فى المسألة الأولى كنكاح الهازل وطلاقه وما ذكر معهما فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما وقد تقدم جوابه ومن ذلك المكره بباطل فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حاله الإختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه إلى مسائل من هذا النحو ومنها أن الحيل فى رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا غير ذلك مقصود به خلاف ما قصده الشارع مع أنها عند القائل بها صحيحة ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا
والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بإنعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ثم يصححه لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شىء فكيف يقال إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع هل هذا إلا عين المحال وكذلك القول فى الحيل عند من قال بها مطلقا فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصد فى استجلاب المصالح ودرء المفاسد بل الشريعة لهذا وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن فى استجلاب مصلحة الزوجين فيه وكذلك سائر المسائل بدليل صحته فى النطق بكلمة (2/336)
الكفر خوف القتل أو التعذيب وفى سائر المصالح العامة والخاصة إذ لا يمكن إقامة دليل فى الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة وهو الذى يتفق عليه جيمع أهل الإسلام ويقع الإختلاف فى المسائل التى تتعارض فيها الأدلة
ولهذا موضع يذكر فيه فى هذا القسم إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أوتركه موافقا أو مخالفا وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته فالجميع أربعة أقسام أحدها أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها يقصد بها امتثال الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه وكذلك ترى الزنى والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال فلا إشكال فى صحة هذا العمل
والثانى أن يكون مخالفا وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك فهذا أيضا طاهر الحكم
والثالث أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده المخالفة وهو ضربان
أحدهما أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا والآخر أن يعلم بذلك
فالأول كواطىء زوجته ظانا أنها أجنبيه وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية فى ذمته وكان قد أوقعها وبرىء منها فى نفس الأمر
فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ويحكى الأصوليون فى هذا النحو الإتفاق على العصيان فى مسألة من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة (2/337)
فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطىء زوجته لم يختلط نسب من خلق من مائة ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطىء معرة وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة
فإن قيل فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان فى حقه لكنه عاص بإتفاق هذا خلف
وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر فكان يجب الحد على الواطىء والزجر على الشارب وشبه ذلك لكنه غير واجب باتفاق أيضا هذا خلف
فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي فهو عاص فى مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي كالغاصب لما يظن أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد (2/338)
ولا يقال إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره لأن المتوقع من ذلك غير موجود فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده خاصة
لأنا نقول لا يصح ذلك لأن العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر وهما مظنتان للإختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى فالله هو خالق الولد من الماء والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد تعاطيا السبب على كماله فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم وأما الإثم فعلى وفق ذلك وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ههنا
والثانى أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ومثاله أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك فهذا القسم أشد من الذي قبله وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التى جعلت مقاصد وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا فلا يصح جملة وقد قال الله تعالى إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار وقد تقدم بيان هذا المعنى (2/339)
والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا فهو أيضا ضربان
أحدهما أن يكون مع العلم بالمخالفة والآخر أن يكون مع الجهل بذلك
فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الإبتداع كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء فى القرآن والسنة والموضع مستغن عن إيراده ههنا وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء وقوله وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وفى الحديث
كل بدعة ضلالة وهذا المعنى فى لأحاديث كالمتواتر
فإن قيل إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة والمذموم منها بإطلاق هو المحرم وأما المكروه فهو الذم فيه بإطلاق وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا
فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه والمباح حسن باعتبار فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على (2/340)
المصحف العثماني والتجميع فى قيام رمضان فى المسجد وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على حسنها أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخله تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعى
فالجواب أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفيه قال عليه الصلاة و السلام
لا تماروا في القرآن فإن المرآء فيه كفر فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة و السلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد فلم يكن فيها مخالفة وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة وهو باطل باتفاق لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين (2/341)
وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا كيف وهو يقول
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع فقد خرج هذا الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله
وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان أحدهما كون القصد موافقا فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ونية هذا العامل على الموافقة لكن الجهل أوقعه في المخالفة ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق والثاني كون العمل مخالفا فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجه ولا طابق القصد العمل فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا فلا يحصل الامتثال (2/342)
وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا الحل غامضا فى الشريعة ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه
وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الإمتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد عارضك أن قصد الموافقة مقيد الإمتثال المشروع لا بمخالفته وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا فهو كالعبث وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق لأن القصد فى الأعمال ليس بمشروع على الإنفراد
فإن قلت إن المقاصد قد ثبت قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن فى الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت فى شرع بعد
قيل لك إن فرض أولئك فى زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع فى اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها (2/343)
التعبد فإن قلت بإعتبار القصد كيف كان لزم ذلك فى الأعمال وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك فى القصد وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح
فإن قيل قوله عليه الصلاة و السلام
إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تعتبر فإن المقاصد أرواح الأعمال فقد صار العمل ذا روح على الجملة وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل أو خالفا معا فإنه جسد بلا روح فلا يصدق عليه مقتضى قوله
الأعمال بالنيات لعدم النية فى العمل
قيل إن سلم فمعارض بقوله عليه الصلاة و السلام
كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة و السلام فلم يكن معتبرا بل كان مردودا وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح فى غير جسد لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة فهي في حكم العدم فبقيت النية منفردة في حكم عملي فلا اعتبار بها وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا
ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من (2/344)
العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ومال فريق إلى الفساد بإطلاق وأبطلوا كل عبادة أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف
وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور
أحدها أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ومخالفة الفعل لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة فى إسقاط الحد والعقوبة وأعمل مقتضى المخالفة فى عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الإعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافى فيه (2/345)
فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها فقد فاتت بمقتضى فتوى عمر ومعاوية والحسن وروى مثله عن علي رضى الله عنهم
ونظيرها فى مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها والثاني أولى بعد دخوله بها وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان وفى الحديث
إيما أمرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل باطل باطل فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها وعلى هذا يجري باب السهو فى الصلاة وباب الأنكحة الفاسدة فى تشعب مسائلها
والثاني أن عمدة مذهب مالك بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال (2/346)
جهلا على حكم الناسى ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه وليس الأمر كذلك
فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات وكذلك فى كثير من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة وغيرها
ولا يقال إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لأنا نقول الحكم في التضمين في الأموال آخر لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها
والثالث الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وفي الحديث
قال قد فعلت وقال لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي الحديث
رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح فإذا كان كذلك ظهر أن كل واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك والله أعلم (2/347)
المسألة الخامسة
جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين أحدهما أن لا يلزم عنه إضرار الغير والثاني أن يلزم عنه ذلك وهذا الثاني ضربان
أحدهما أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير والثاني أن لا يقصد إضرارا بأحد وهو قسمان أحدهما أن يكون الاضرار عاما كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره والثاني أن يكون خاصا وهو نوعان أحدهما أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر
والثاني أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع أحدهما ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك والثاني ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا وما أشبه ذلك والثالث ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا وهو على وجهين أحدهما أن يكون غالبا كبيع السلاح (2/348)
من أهل الحرب والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك
والثاني أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام
فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء
وأما الثاني فلا إشكال منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة وهو جارعلى مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا
وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أولا فإن كان كذلك فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير فحق الجالب أو الدافع مقدم وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال إن هذا تكليف بما لا يطاق فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار وهو داخل تحت الكسب لا ينفى الإضرار بعينه
وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أولا
فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي (2/349)
فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى
فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم من غيره مما رضي أهله ومالا لا وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة
وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين نظر من جهة إثبات الحظوظ ونظر من جهة اسقاطها فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من (2/350)
ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه وذلك لا يلزمه بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به
وقد سئل الداودي هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل قال نعم ولا يحل له إلا ذلك قيل له فإن وضعه السلطان على أهل بلدة وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم قال ذلك له قال ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحدالخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب
إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء قال ولست آخذ في هذا بما روى عن سحنون لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه فى ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق هذا ما قال ورأيت فى بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا وذكر عبد الغني فى - المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال (2/351)
قلت لحماد بن أبي سليمان إنى أتكلم فترفع عني النوبة فإذا رفعت عنى وضعت على غيري فقال إنما عليك أن تكلم في نفسك فإذا رفعت عنك فلا تبالي على من وضعت
ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولما نعى الحاج حتى يؤدوا خراجا
كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر أو قتل الكافر المسلم بل قال عليه الصلاة و السلام
وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث ولازم ذلك دخول قاتله النار وقول أحد إبني آدم إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك بل العقوبات كلها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى وقد تقدم الكلام على هذا قبل
فإن قيل هذا يشكل في كثير من المسائل فإن القاعدة المقررة أن
لا ضرر ولا ضرار وما تقدم واقع فيه الضرر فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى اضرار المضطر وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لا ضرار الغير وما أشبه ذلك
فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه وذلك أن إضرار الغير فى المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ودفع الدافع وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك (2/352)
والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار وكيف ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ألا ترى أنه إذا قصد الجالب أو الدافع الإضرار أثم وإن كان محتاجا إلى ما فعل فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار بل عن الإضرار نهى وهو الإضرار بصاحب اليد والملك
وأما مسألة المضطر فهي شاهد لنا لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه وهو عين مسألة النزاع وإنما يكره على البذل من لا يستنضر به فافهمه وأما المحتكر فإنه خاطىء بإحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة هذا كله مع اعتبار الحظوظ
وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان
أحدهما إسقاط الإستبداد والدخول فى المواساة على سواء وهو محمود جدا وقد فعل ذلك فى زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال عليه الصلاة و السلام
إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم فى ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم فى إناء واحد فهم مني وأنا منهم وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الإحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الإنفراد بالقوت دون أولاده فعلى هذا الترتيب كان (2/353)
الأشعريون رضي الله عنهم فقال عليه الصلاة و السلام
فهم مني وأنا منهم لأنه عليه الصلاة و السلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته وفي مسلم عن أبي سعيد قال
بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل على راحلة له قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان معه فضل ظهرفليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل وفي الحديث أيضا
أن في المال حقا سوى الزكاة ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أن أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقتضى استدادا وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة و السلام
المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وقوله
المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقوله
المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا (2/354)
عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن إعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها
والوجه الثاني الإيثار على النفس وهو أعرق في إسقاط الحظوظ وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين وإصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن خلقه المرضى وقد كان عليه الصلاة و السلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وقالت له خديجة إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه فكره النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فقال رجل منالأنصار يارسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم وعرف البشر في وجهه وقال بهذا أمرت ذكره الترمذي وقال أنس كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدخر شيئا لغد وهذا كثير
وهكذا كان الصحابة وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وما جاء في الصحيح في قوله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وما روى عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من - كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ (2/355)
وهو ضربان إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما فى حديث المواخاه المذكور فى - الصحيح وإيثار النفس كما فى - الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه و سلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم نحرى دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه و سلم فشلت وهو معلوم من فعله عليه الصلاة و السلام إذ كان فى غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عرى والسيف فى عنقه وهو يقول لن تراعوا وهذا فعل من آثر بنفسه وحديث علي بن أبي طالب فى مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور وفى المثل السائر والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ويدل على ذلك قول امرآة العزيز فى يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فآثرته بالبراءة على نفسها
قال النووي أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات فإن الحق فيها لله وهذا مع ما قبله على مراتب والناس فى ذلك مختلفون بإختلاف أحوالهم فى الإتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام وقد ورد أن النبي صلى الله عليه و سلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر هذا ما قال
وتحصل أن الإيثار هنا مبنى على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي فإن أخل بمقصد شرعي (2/356)
فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر آخر أو لغير شىء فكونه لغير شىء عبث لا يقع من العقلاء وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ هذا تمام الكلام فى القسم الرابع ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ
وأما القسم الخامس وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار لأنه فى فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي فلا قصد للشارع فى إيقاعه من حيث يوقع وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد فى وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر
وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين إما تقصير فى النظر المأمور به وذلك ممنوع وإما (2/357)
قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ويضمن ضمان المتعدى على الجملة وينظر فى الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدى وعلى هذه القاعدة تجرى مسألة الصلاة فى الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة وما لحق بهما من المسائل التى هى فى أصلها مأذون فيها ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي صحيحا ويكون عاصيا بالطرف الآخر وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد فى الأحكام لتعدد جهاتها ومن قال هنالك بالفساد يقول به هنا
وله فى النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة
وأما السادس وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور فى انخرامها إذ لا توجد فى العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر فى مجاري (2/358)
الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات فى الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا فى النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر
فالعمل إذا باق على أصل المشروعية
والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة فى الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط وإباحة القصر فى المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترف ومنعه فى الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة وكذلك إعمال خبر الواحد والأقيسة الجزئية فى التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة وهذا مقرر فى موضعه من هذا الكتاب
وأما السابع وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم فى السادس وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما وإن كان التخلف نادرا ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور (2/359)
أحدها أن الظن فى أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا والثانى أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل فى هذا القسم كقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم فإنهم قالوا لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك فنزلت وفى - الصحيح إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه وكان عليه الصلاة و السلام يكف عن قتل المنافقين لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه و سلم راعنا مع قصدهم الحسن لإتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه عليه الصلاة و السلام وذلك كثير كله مبنى على حكم أصله وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه
والثالث أنه داخل فى التعاون على الإثم والعدوان المنهى عنه والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه فإن حمل محمل التعدى فمن جهة أنه مظنه للتقصير وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه (2/360)
هل تقوم مظنة الشىء مقام نفس القصد إلى ذلك الشىء أم لا هذا نظر إثبات الحظوظ وأما نظر إسقاطها فأصحابه فى هذا القسم مثلهم فى القسم الخامس بخلاف القسم السادس فإنه لا قدرة للإنسان على الإنفكاك عنه عادة
وأما الثامن وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر وإلتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة
وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما فى العلم والظن لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره فى سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا وذلك أن القصد لا ينضبط فى نفسه لأنه من الأمور الباطنة لكن له مجال هنا وهو كثرة الوقوع فى الوجود أو هو مظنة ذلك فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد ولهذا أصل وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم (2/361)
وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر فإنه مشروع للزجر والإزدجار به كثير لا غالب فاعتبرنا الكثرة فى الحكم بما هو على خلاف الأصل فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه كما أن الأصل فى مسألتنا الإذن فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر وخرج على الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع
وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله فى وقوع المفسدة بكثرة فكما اعتبرت فى المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك
وأيضا فقد جاء فى هذا القسم من النصوص كثير فقد نهى عليه الصلاة و السلام عن الخليطين وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الإنتباذ فى الأوعية التى لا يعلم بتخمير النبيذ فيها وبين عليه الصلاة و السلام أنه إنما نهى عن بعض (2/362)
ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال لو رخصت فى هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعنى أن النفوس لا تقف عند الحد المباح فى مثل هذا ووقوع المفسدة فى هذه الأمور ليست بغالبة فى العادة وإن كثر وقوعها وحرم عليه الصلاة و السلام الخلوة بالمرأة الأجنبية وأن تسافر مع غير ذي محرم ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقال
إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى (2/363)
ذلك أدنى أن لا تعولوا وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها وحرم على المرأة فى عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعى النكاح وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم ونهي عن البيع والسلف وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين وحرم صوم يوم عيد الفطر وندب إلى تعجيل الفطر وتأخير السحور إلى غير ذلك مما هو ذريعة وفى القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الإحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل فليس العمل عليه ببدع فى الشريعة بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري أو حاجي أو تحسيني ولعله يقرر فى - كتاب الإجتهاد إن شاء الله تعالى
المسألة السادسة
كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الإختيار
والدليل على ذلك أوجه
أحدها أن المصالح إما دينية أخروية وإما دنيوية أما الدينية فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد وإنما النظر فى الدنيوية التى تصح النيابة فيها فإذا فرضنا أنه مكلف بها فقد تعينت عليه وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا (2/364)
والثانى أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا الملكف ولا كان مطلوبا بها ألبتة لأن المقصود حصول المصلحة أو درء المفسدة وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين هذا خلف لا يصح
والثالث أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين وإما على الكفاية وعلى كل تقدير فغير صحيح أما كونه على التعيين فكما تقدم وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا فى حالة واحدة وهو محال
اللهم إلا أن تلحقه ضرورة فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون وغسل الموتى ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر فى مصالحهم وما أشبه ذلك من المصالح التى لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التى لا يقدر على استدفاعها فعلى هذا يقال كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الإستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء الآية (2/365)
المسألة السابعة
كل مكلف بمصالح غيره فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أولا أعنى المصالح الدنيوية المحتاج إليها
فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه
والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجيمع وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصله من جهة هذا المكلف فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح لأنه طلب تحصيل الحاصل وهو محال
وأيضا فما تقدم فى المسألة قبلها جار هنا ومثال ذلك السيد والزوج والولد بالنسبة إلى الأمة أو العبد والزوجة والأولاد فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ويبقى النظر فى دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح فى هذا التقرير
وإن لم يقدر على ذلك ألبتة أو قدر لكن مع مشقة معتبرة فى إسقاط التكليف فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة أو عامة
فإن كانت خاصة سقطت وكانت مصالحه هى المقدمة لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم فى القسم الرابع من المسألة الخامسة فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا
وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه (2/366)
على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم فى مفسدة تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها وذلك أنه إما أن يقال للمكلف لا بد لك من القيام بما يخصك وما يعم غيرك أو بما يخصك فقط أو بما يعم غيرك فقط والأول لايصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا
والثانى أيضا لا يصح لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة فى نفسه فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع فى المسألة وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة فذلك واجب عليهم وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة وهو باطل بما تقدم من الأدلة وإذا وجب عليهم تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة وهو الثالث من الأقسام المفروضة
فصل
إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط فى قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر
وقد تعين ذلك فى زمان السلف الصالح إذ جعل الشرع فى الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا الملكف ذلك الوجه بعينه (2/367)
ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم وضرر على المقوم لهم
أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعيينوا فى القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات وقد اعتبر الشارع هذا المعنى فى مواضع كثيرة ولذلك شرطوا فى صحة الهبة وانعقادها القبول وقالت جماعة إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك وأصله قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة وما ذاك إلا لما فى المن من إيذاء المتصدق عليه وهذا المعنى موجود على الجملة فى كل ما فرض من هذا الباب هذا وجه ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز بإتفاق للقاضى ولا لسائر الحكام أن يأخذوا من الخصمين أو من أحدهما أجرة على فصل الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها عليه الصلاة و السلام من الغلول الذى هو كبيرة من كبائر الذنوب
وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين وقد يتيسر له ذلك فى وقت دون وقت أو فى حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط فى ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التى ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال هذا إلى ما يلحق فى ذلك من مضادة أصل المصلحة التى طلب ذلك المكلف بإقامتها إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ فى القيام بالمصلحة فيكون سببا فى إبطال الحق وإحقاق الباطل وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء فى القرآن نفي ذلك فى قوله تعالى وما أسألكم عليه من أجر قل ما سألتكم (2/368)
من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إلى سائر ما في هذا المعنى وبالوجه الآخرعلل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين وهذا كله في غاية الظهور والله أعلم
فصل
هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره
فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره فهي مسألة الترس وما أشبهها فيجرى فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف
وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة العامة ويدل عليه أمران أحدهما قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها فمثل هذا داخل تحت حكمها والثاني ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه وقوله نحري دون نحرك ووقايته (2/369)
له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وإيثار النبي صلى الله عليه و سلم غيره على نفسه في مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته صلى الله عليه و سلم بنفسه ظاهر لأنه كان كالجنة للمسلمين وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله وهو النبي صلى الله عليه و سلم وأما عدمه فتعم مفسدته الدين وأهله وإلى هذا النحو مال أبو الحسن النوري حين تقدم إلى السياف وقال أوثر أصحابي بحياة ساعة في القصة المشهورة
وإن كانت آخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا أو لا
فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا لأن الحرج وتكليف ما لا يطاق مرفوع ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع
وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كما لا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات كالخطرات في ذلك الشغل العام (2/370)
تخطر على قلبه وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه وينظر فيها بحكم الغلبة وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش وهو في الصلاة
ومن نحو هذا قوله عليه الصلاة و السلام
إني لأسمع بكاء الصبي الحديث
وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب وحب الرياسة وكذلك السلطان أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة فالقول هنا بتقديم العموم أولى لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات لأنها مجرد ترك والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله والأفعال إنما يلزمه منها الواجب وهو يسير فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر لأنه أمر قد تعين عليه فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت (2/371)
عليه الصلاة أو الجهاد عينا أو الزكاة فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب وما أشبه ذلك وإن فرض أنه يقع به بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع
فإن قيل كيف هذا وقد علم أنه لا يسلم من ذلك فصار كالمتسبب لنفسه في الهلكة فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه
فالجواب أنه لو كان كذلك وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات وذلك باطل بإتفاق نعم قد يقال إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم أو غضب أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف وإنما حاصل هذا أنه وقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته وهو على تلك الحال
وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض وقد يرجح جانب المصلحة العامة وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء فلا ينحتم عليه طلب وبين من له قوة في إقامة المصلحة وغناء ليس لغيره وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة فما رجح منها غلب وإن استويا كان محل إشكال وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية
فصل
وقد تكون المفسدة مما يلغي مثلها في جانب عظم المصلحة وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع
حكى عياض في - المدارك أن عضد الدولة فنا خسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر ابن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة فلما وصل كتابه إليهما قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه هؤلاء قوم كفر فسقة لأن الديلم (2/372)
كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ولبس غرض الملك من هذا إلا أن يقال أن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ولو كان خالصا لله لنهضت قال القاضي ابن الطيب فقلت لهم كذا قال المحاسب وفلان ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة
وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج فقال الشيخ إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج إلى آخر الحكاية فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد فلا يكون لها اعتبار وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله
المسألة الثامنة
التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال
أحدها أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه وإنما هي تابعة لمقصود التعبد فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد
وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي إذ يقل في كلام الشارع (2/373)
أن يقول مثلا لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم فإذا لم يثبت الحصر أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره
والثانى أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه أو لم يطلع عليه وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد والقصد إليه في التعبد فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق أو الوجاهة عنده أو نيل شيء من الدنيا أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر وقد يعمل هنالك لمجرد حظه فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد
والثالث أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة أو لم يفهم
فهذا أكمل وأسلم
أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبيا إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر وأيضا فإنه لما امتثل الأمر فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها بعض المصالح دون بعض
وأما كونه أسلم فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد بل لا يدخل عليه (2/374)
في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في - كتاب الأحكام وبالله التوفيق
المسألة التاسعة
كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة
أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت أو صلاة من الصلوات المفروضات أو زكاة أو صوما أو حجا أو غير ذلك لم يكن له ذلك وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها
وكذلك لو حاول استحلال مأكول حى مثلا من غير ذكاة أو إباحة ما حرم (2/375)
الشارع من ذلك أو استحلال نكاح بغير ولى أو صداق أو الربا أو سائر البيوع الفاسدة أو إسقاط حد الزنى أو الخمر أو الحرابة أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك لم يصح شيء منه وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله
فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله فى يده فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أولا فإن قلت لا وهو الفقه كان نقضا لما أصلت لأنه حقه فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير فى اسقاطه والفقه يقتضى أن ليس له ذلك وإن قلت نعم خالفت الشرع إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله فقد قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ثم توعد عليه وقال لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة وحجر على مبذر المال ونهى عليه الصلاة و السلام عن إضاعة المال فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة
لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى فى العباد لا من حقوق العباد وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذى به يحصل ما طلب به من القيام بما كلف به فلا يصح للعبد إسقاطه
اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشىء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد إذ إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه لأنه قد صار حقا مستوفى فى الغير كدين من الديون فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى ولمن صبر وغفر (2/376)
إن ذلك لمن عزم الأمور وقال فمن عفا وأصلح فأجره على الله وذلك أن القصاص والدية إنما هى جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده فإن حق الله قد فات ولا جبر له وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل فى ذلك مذكور فى الفقهيات وأما المال فجار على ذلك الأسلوب فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه وقد قال تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون بخلاف ما إذا كان فى يده فأراد التصرف فيه وإتلافه فى غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا وكذلك سائر ما كان من هذا الباب وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة
فإن قيل فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به فلا شىء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضى أن ليس للعبد اسقاطه فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد
فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل وقد (2/377)
تقدم هذا المعنى مبسوطا فى هذا الكتاب وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق
فأما ما هو لله صرفا فلا مقال فيه للعبد
وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الإختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جه أنه مستقل بالإختيار وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ويكفيك من ذلك اختياره فى أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق فله إسقاطها وله الإعتياض منها والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات وإنما الشأن كله فى فهم الفرق بين ما هو حق لله وما هو حق للعباد وقد تقدمت الإشارة إليه فى آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله
المسألة العاشرة
التحيل بوجه سائغ مشروع فى الظاهر أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل (2/378)
مشتمل على مقدمتين إحداهما قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض فى ظاهر الأمر والأخرى جعل الأفعال المقصود بها فى الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا وهو محل يجب الإعتناء به وقبل النظر فى الصحة أو عدمها لا بد من شرح هذا الإحتيال
وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك وحرم الزنى والربا والقتل ونحوها وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك وكتحريم المطلقة والإنتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه ذلك فإذا تسبب المكلف فى إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو فى إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب فى الظاهر أو المحرم حلالا فى الظاهر أيضا
فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه فى الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب فى إسقاطها كلها بشرب خمر أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت فقضى عليه بقيمتها فوطئها بذلك أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل أو أراد قتل فلان فوضع له فى طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك وكالفرار من وجوب الزكاة (2/379)
بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه وهكذا سائر الأمثلة فى تحليل الحرام وإسقاط الواجب ومثله جار فى تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث فى قالب الإقرار بالدين وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو فى الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع
المسألة الحادية عشرة
الحيل فى الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة فى الجملة والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة لكن فى خصوصات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع
فمن الكتاب ما وصف الله به المنفاقين فى قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر إلى آخر الآيات فذمهم وتوعدهم وشنع عليهم
وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم وأموالهم لا لما قصد له فى الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار وتصديق قلبي وبهذا المعنى كانوا فى الدرك الاسفل من النار وقيل فيهم إنهم يخادعون الله والذين آمنوا وقالوا عن أنفسهم إنما نحن مستهزئون لأنهم تحيلوا بملابسة الدين وأهله إلى أغراضهم الفاسدة وقال تعالى فى المرائين بأعمالهم كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب الآية وقال (2/380)
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وقال يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا فذم وتوعد لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه وقال تعالى فى أصحاب الجنة إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله فأصبحت كالصريم لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصد الصرام فى غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم وقال ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت الآية وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد فى غيره وقال تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله ولا تتخذوا آيات الله هزوا وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة (2/381)
وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها وقد جاء فى قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك أن أرادوا إصلاحا إلى قوله الطلاق مرتان إن الطلاق كان فى أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضى عدتها ثم يطلقها ثم يرتجعها كذلك قصد فنزلت الطلاق مرتان ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدى منه وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله وقال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار يعنى بالورثة بأن يوصى بأكثر من الثلث أو يوصى لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة وقال تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الآية إلى غير ذلك من الآيات فى هذا المعنى
ومن الأحاديث قوله عليه الصلاة و السلام
لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الإحتيال لإسقاط الواجب أو تقليله وقال
لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل وقال
من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار وقال
قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها (2/382)
وباعوها وأكلوا أثمانها وقال
ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ويروى موقوفا على ابن عباس ومرفوعا
يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنى بالنكاح والربا بالبيع وقال
إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد فى سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم وقال
لعن الله المحلل والمحلل له وقال
لعن الله الراشي والمرتشي ونهى عن هدية المديان فقال
إذا أقرض (2/383)
أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك وقال
القاتل لا يرث وجعل هدايا الأمراء غلولا ونهى عن البيع والسلف وقالت عائشة أبلغنى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لم يتب
والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل فى قلب الأحكام ظاهرا غير جائز
وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين (2/384)
المسألة الثانية عشرة
لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخر هى معانيها وهى المصالح التى شرعت لأجلها فالذى عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات
فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال ومطابقة القلب للجوارح فى الطاعة والإنقياد فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه وماله لا لغير ذلك أو المصلى رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به رتبة فى الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع فى شىء لأن المصلحة التى شرع لأجلها لم تحصل بل المقصود به ضد تلك المصلحة
وعلى هذا نقول فى الزكاة مثلا إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين وإحياء النفوس المعرضه للتلف فمن وهب فى آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هى الهبة التى ندب الشرع إليها لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا (2/385)
وجلب لمودته وموآلفته وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة فتأمل كيف كان القصد المشروع فى العمل لا يهدم قصدا شرعيا والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي
ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله فى زوجيتهما فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع فى المحظور فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها وبين زوجها وهو التسريح بإحسان وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مالا فإذا أضر بها لتفتدي منه فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله لأنه فداء مضطر وإن كان جائزا لها من جهة الإضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع
وكذلك نقول إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية فى الجملة وعلى مصلحة جزئية فى كل مسألة على الخصوص أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم فى خاصته وأما الكلية فهى أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع فى جميع حركاته وأقواله واعتقاداته فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع وقد مر بيان هذا فيما تقدم فإذا صار المكلف فى كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها (2/386)
هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى فىمتابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه وأمثال ذلك كثيرة
فصل
فإذا ثبت لهذا فالحيل التى تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا وناقض مصلحة شرعية فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع بإعتبارها فغير داخلة فى النهي ولا هى باطلة ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام
أحدها لا خلاف فى بطلانه كحيل المنافقين والمرائين
والثانى لا خلاف فى جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها فإن نسبة التحيل بها فى إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام فى إحراز الدم بالقصد الأول كذلك إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا فى الآخرة بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة فى الإعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية بإتفاق إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلا ومن هنا جاء فى ذم النفاق وأهله ما جاء وهكذا سائر ما يجرى مجراه وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع (2/387)
وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثانى ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف مصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه فصار هذا القسم هذا الوجه متنازعا فيه شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز أو مخالف فالتحيل ممنوع ولا يصح أن يقال إن من أجاز التحيل فى بعض المسائل مقر بأنه خالف فى ذلك قصد الشارع بل إنما أجازه بناء على تحري قصده وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذى علم قصد الشارع إليه لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى وعلماء الدين نفعنا الله بهم كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع فى الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها وبالله التوفيق
فمن ذلك نكاح المحلل فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق فى الظاهر قول الله تبارك وتعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فقد نكحت المرأة هذا المحلل فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثانى موافقا ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هى أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية وقوله عليه الصلاة و السلام
لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك ظاهر أن المقصود فى النكاح الثاني ذوق العسيلة وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه عليه الصلاة و السلام ولأن كونه حيلة لا يمنعها وإلا لزم ذلك فى كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق فإذا ثبت هذا وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع (2/388)
وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق وهو كنكاح النصارى وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك
وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة فهي طالق على رأي مالك فيهما وفي نكاح المسافر وغير ذلك
هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال بجواز الاحتيال هنا وأما تقرير الدليل على المنع فأظهر فلا نطول بذكره وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة فإليك النظر فيه
ومن ذلك مسائل بيوع الآجال فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل لكن بعقدين كل واحد منهما مقصود في نفسه وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد وإنما مقصوده الثاني فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل وهذا منها فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل
بل هنا ما يدل على صحة التسول في مسالتنا وصحة قصد الشارع إليه في (2/389)
قوله عليه الصلاة و السلام
بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد وعاقدين إذ لم يفصل النبي عليه الصلاة و السلام
وقول القائل إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا فإن الذرائع على ثلاثة أقسام منها ما يسد باتفاق كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه وحفر الأبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها
ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده بل كسائر التجارات فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها ومنها ما هو مختلف فيه ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه
وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة
وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله إذ كتب (2/390)
الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الإعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما
فصل
هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على - كتاب المقاصد بالبيان وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله
فإن للقائل أن يقول إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له
والجواب أن النظر ههنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام
أحدها أن يقال إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال وإما مع القول بمنع وجوب مراعة المصالح وإن وقعت (2/391)
في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام أو غير معروف ألبتة ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا وهو رأي الظاهريه الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في - كتاب القياس إن شاء الله فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على اطلاقه كما قالوا
والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان الأول دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها وإنما المقصود أمر آخر وراءه ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول وهو الضرب الثاني بأن يقال إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الاطلاق فإن خالف النص المعنى النظري اطرح وقدم المعنى النظري وهو إما بناء (2/392)
على وجوب مراعاة المصالح على الاطلاق أو عدم الوجوب لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية وهو رأي المتعمقين في القياس المقدمين له على النصوص وهذا في طرف آخر من القسم الأول
والثالث أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض
وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الإعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع فنقول وبالله التوفيق إنه يعرف من جهات
إحداها مجرد الأمر والنهي الإبتدائي التصريحي فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع
وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح وهو الأصل الشرعي
وإنما قيد بالإبتدائي تحرزا من الأمر أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهى عن الربى والزنى مثلا بل لأجل تعطيل السعي عند الإشتغال به وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في الدار المغصوبة وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح (2/393)
به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء فإن النهي والأمر ههنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر أو النهي المصرح به
فأما إن قيل بالنفي فلأمر أوضح في عدم القصد وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي
والثانية اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ولماذا نهي عن هذا الآخر والعلة إما ان تكون معلومة أولا فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الإنتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الإزدجار وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه ومن التسبب أو عدمه وإن كانت غير معلومة فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر
أحدهما أن لا نتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل وضلال على غير سبيل
ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أولا لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل (2/394)
والثاني أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ووضع له مسلكا ومسالك العلة معروفة وقد خبر بها محل الحكم فلم توجد له علة يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع
فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ويمكن أن لا يكون مقصودا له والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ويحكم به علما أو ظنا بأنه غير مقصود له إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ثم يطلع بعد على دليل ينسخ حزمه إلى خلافه
فإن قيل فهما مسلكان متعارضان لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه وهما في النظر سواء فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما فلا يبقى إلا التوقف وحده فكيف يتجهان معا
فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين أو مجتهد واحد في وقتين أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ومسلك النفي في (2/395)
مسألة أخرى فلا تعارض على الإطلاق
وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق وفي رفع الأحداث النية وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه
وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ومسلك التوقف متمكن في العادات
وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات وقد ظهر ظهرشيء فيجري الباقي عليه وهي طريقة الحنفية والتعبدات في باب العادات وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما تقدم
وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة
والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة
مثال ذلك النكاح فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ويليه طلب السكن والإزدواج والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو (2/396)
قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح فمنه منصوص عليه أو مشار إليه ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقرىء من ذلك المنصوص وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ومقو لحكمته ومستدع لطلبه وإدامته ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل
فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روى من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ومواصلة أرفع البيوتات وما أشبه ذلك فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ وأن قصد التسبب له حسن
وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك (2/397)
وهكذا العبادات فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام بل هو مقو للترك ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه فإن بعد عليه تركه قال الله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية
فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله وإن كان مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي من الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد يحصل له حفظ الدم والمال ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع
فإن قيل هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفي فيها بكونها لا تقتضي الموافقة وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا فلا يصح لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ونكاح القاصد لمضارة الزوجة أو لأخذ مالها أو ليوقع بها وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي (2/398)
المخالفة عينا إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح أو الحكم على الزوج أو زوال ذلك الخاطر السببي وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا
فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا فلا يصح أن يتعبد الله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر وكذلك لايصح له أن يتزوج بذلك القصد وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة وكنكاح التحليل عند من يصححه فإن هنا وجهين من النظر فإن القصد وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة فمن ترجح عنده جانب عدم الموافقة منع ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه وهر في البقاء أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق
فمن اعتبر هذا المقدار منع ومن لم يعتبره أجاز
فصل
وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا
أما في العادات فهو ظاهر وقد مر منه أمثلة وأما في العبادات فقد ثبت فيها
فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه وتذكير النفس بالذكر له قال تعالى وأقم الصلاة لذكرى وقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وفي الحديث
إن المصلي يناجي ربه (2/399)
ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا في الخبر
أرحنا بها يا بلال وفي الصحيح
وجعلت قرة عيني في الصلاة وطلب الرزق بها قال الله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وفي الحديث تفسير هذا المعنى وانجاح الحاجات كصلاة الإستخارة وصلاة الحاجة وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي الفائدة العامة الخاصة وكون المصلى في خفارة الله في الحديث
من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ونيل أشرف المنازل قال تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فأعطى بقيام الليل المقام المحمود
وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة في الحديث
من استطاع منكم الباءة فليتزوج ثم قال
ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال
الصيام جنة وقال
ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان
وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة وفوائد دنيوية
وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها وسواها وهي تابعة فينظر فيها بحسب (2/400)
التقسيم المتقدم فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام أو الخاص وضده كطلب المال والجاه فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي بل هو على خلاف ذلك والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام وسائر ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ وينبغي تحقيق النظر فيها وفي الثاني المقتضى لعدم التأكد وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا وما لا يقتضيه عينا
وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع وحلي يحليه بها وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء فقد مر الكلام عليه
ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد أو يعظم أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم وأيضا فإن عمله على غير أصالة إذ لا إخلاص فيه فهو عبث وإن فرض خالصا لله لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله بل هو مقو لترك الإخلاص
اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسال من الله العطاء ويسأل 8 له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس فلا إشكال في صحة هذا فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ومقو له وأصله قول الله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها وروى عن النبي صلى الله علية وسلم
أنه كان إذا اضطر أهله إلى (2/401)
فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله
وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه وعدم من يقوم ذلك المقام فلا بأس به عندهما لأنه قائم بما أمر به وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد ثبوت العدالة عند الناس أو الإمامة أو نحو ذلك فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة
ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية أو العلم أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ودليل الجواز قوله تعالى واجعلنا للمتقين إماما وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وانظر في مسألة العتبية فأرى أن اختلاف مالك وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين
ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة وخوارق العادات ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز وسائغ لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية وأن يكون من خواص الله ومن المصطفين من الناس وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق وقد يقال (2/402)
إنه خارج عن نمط ما تقدم فإنه تخرص على علم الغيب ويزيد بإنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين وقد روى أن بعض الناس سمع بحديث
من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله وهكذا يجري الحكم في سائر المعان المذكورة ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور الأمور بل ثم ما يدل على خلاف ذلك فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ثم يصير إلى حالته الأولى فنزلت يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه (2/403)
ولا يقال إن المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ومن جملتها العوالم الروحانية وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى
لأنا نقول إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات وما في عالم الشهادة كاف وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل وأيضا
إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرنى كيف تحيى الموتى الآية فإن الجواب عن ذلك من وجوه
أحدها أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية والعبادة إنما القصد بها التوجه لله وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد فكيف يجعلان مثلين أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ما أبعد ما بينهما لمن تأمل
والثاني انه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها (2/404)
في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات وأذل المخلوقات وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء افلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت إلى آخرها أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى تمام الآيات
ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب
والثالث أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي فإن الإعتناء بطلب تجريد النفس والإطلاع على العوالم التى وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين فى فنون البحث من المتألهين منهم ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التى لم تنقل فى الشريعة ولا وجد منها فى السلف الصالح عين ولا أثر كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم وكفى بذلك حجة فى أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى (2/405)
والرابع أن طلب الإطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات كطلب الإطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد وخراسان وأقصى بلاد الصين فكذلك لا ينبغى مثله فى الإطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات
والخامس أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ومقصودة وإنما هى ابتلاءات يبتلي الله بها عبادة لينظر كيف يعملون فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء وبين مفسدة ما يتعرض صاحبها كانت جهة العوارض أرجح فيصير طلبها مرجوحا
ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم بداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال فى طلب الثواب ما تقدم وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ونحوها مما يقتضى وضعها الإخلاص التام فلا يليق به طلب الحظوظ فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها وهذا لا يوجد وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه فسار كالمسافر ليري البلاد النائية والعجائب المبثوثة فى الأرض لا لغير ذلك وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة فى الأصل من التحقق بمحض العبودية فإن قيل فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ فقال ترك المعاصى
ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة وأن الخير لا يأتى إلا بالخير كما فى الحديث كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا فإن قلت لا كان على خلاف هذه القاعدة وإن قلت نعم خالفت ما أصلت (2/406)
فالجواب أن هذا نمط آخر وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذى يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذى يثاب عليه أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه وقد قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وقال وتعاونوا على البر والتقوى الآية ومسألة الحفظ من هذا وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص
فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ومعينا على أصل العبادة وغير قادح فى الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ وما لا فلا وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام
أحدها ما يقتضى تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها وحصول الرغبة فيها فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح
والثانى ما يقتضى زوالها عينا فلا إشكال أيضا فى أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا فلا يصح التسبب بإطلاق
والثالث ما لا يقتضى تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضى رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح فى العادات دون العبادات أما عدم صحته فى العبادات فظاهر وأما صحته فى العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب (2/407)
ويحتمل الخلاف فإنه قد يقال إذا كان لا يقتضى تأكيد المقصد الأصلي وقصد الشارع التأكيد فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع فلا يصح وقد يقال هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه وإنما قصد فى التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب فلذلك شرع فى النكاح الطلاق وفى البيع الإقالة وفى القصاص العفو وأباح العزل وإن ظهر لبادىء الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ومثله ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله
وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الإحتيال بالتسبب (2/408)
على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا فى أصل التسب وأما إذا أمكن أن لا ينخرم أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من وجه فهو محل اجتهاد ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم
والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين
أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالتوازل التى حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر فى كلياتها وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك (2/409)
مما لم يجر ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل
والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضى له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه
ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز و جل شكرا فقال لا يفعل ليس هذا مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم أسمع له خلافا فقيل له إنما نسئلك لنعلم رأيك فنرد ذلك به فقال نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني قد فتح على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى المسلمين بعده (2/410)
أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا إذا جاءك مثل هذا مما قد كان لناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم في شيء فعليك بذلك لأنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه هذا تمام الرواية وقد احتوت على فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم
وتقرير السؤال أن يقال فى البدع مثلا إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله أو ترك ما أذن فى فعله أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه أو ترك ما أذن فى فعله أو أمر خارج عن ذلك فالأول كسجود الشكر عن مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله والدعاء بهيئة الإجتماع فى أديار الصلوات والإجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة فى غير عرفات والثانى كالصيام مع ترك الكلام ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة والثالث كإيجاب شهرين متتابعين فى الظهار لواجد الرقبة
وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين وأما الضربان الأولان وهما فى الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع وهما (2/411)
لم يتواردا مع المشروع على محل واحد بل هما فى المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال أما القصد فمسلم بالفرض وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشىء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر بل حيققته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضى مخالفة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر فى وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة فى المعنى فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص (2/412)
وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان وهو غاية فى هذا المعنى قال ابن رشد الوجه فى ذلك أنه لم يره مما شرع فى الدين يعنى سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ قال وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم
فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه و سلم الزكاة منها كالسنة القائمة فى أن لا زكاة فيها فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه و سلم فى الشكر كالسنة القائمة فى أن لا سجود فيه ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه
والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق (2/413)
وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه عليه الصلاة و السلام المعنى المقتضى للتخفيف والترخيص للزوجين باجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها ودل على ان وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل تم الجزء الثاني (2/414)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم - كتاب الأدلة الشرعية
والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فالنظر إذا يتعلق بطرفين
الطرف الأول فى الأدلة على الجملة
والكلام فيها ( أ ) فى كليات تتعلق بها و ( ب ) فى العوارض اللاحقة لها
والأول يحتوى على مسائل
المسألة الأولى
لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات (3/5)
والحاجيات والتحسينات وكانت هذه الوجوه مبثوثة فى أبواب الشريعة (3/6)
وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى لأنها كليات تقضى على كل جزئي تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهى إليه بل هي أصول الشريعة وقد تمت فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره فهي الكافية فى مصالح الخلق عموما وخصوصا لأن الله تعالى قال اليوم أكملت لكم دينكم وقال ما فرطنا فى الكتاب من شيء وفى الحديث
تركتكم على الجادة الحديث وقوله
لا يهلك على الله إلا هالك ونحو ذلك من الأدلةالدالة على تمام الأمر وإيضاح السبيل
وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة (3/7)
من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها فى كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بنص مثلا فى جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه
وبيان ذلك أن تلقى العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود فى الخارج وإنما هو مضمن فى الجزئيات حسبما تقرر فى المعقولات
فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر (3/8)
العلم به بعد دون العلم بالجزئي والجزئي هو مظهر العلم به وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه فى الحقيقة وذلك تناقض
ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك فى الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي فى معرفة الكلي ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا فلا بد من اعتبارهما معا فى كل مسألة
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع فى النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك (3/9)
الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع
وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي
فإن قيل الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها أو أكثرها وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي لأن الاستقراء قطعي إذ تم فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء وفرض مخالفته غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف وجد أو لم يوجد فلا اعتبار به فى الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك
فإذا فرضت المخالفة فى بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل وأشباهها فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين أو النفس أو النسل أو المال أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الإطلاع عليه فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فما فائدة اعتبار (3/10)
الجزئي بعد حصول العلم بالكلي
فالجواب أن هذا صحيح على الجملة وأما في التفصيل فغير صحيح فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل وقد لا يدركها وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال أو زمان دون زمان أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا فى القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر به على حالة واحدة وهو القتل بالمحدد وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة فى قتل الواحد ومثله القيام (3/11)
فى الصلاة مثلا مع المرض وسائر الرخص الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض وأشباه ذلك فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظ على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ويخص بعضها بعضا فإذا كان كذلك فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها
وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة (3/12)
والنصفة المطلقة فى كل حين وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح وهو مناقض لمقصود الشارع ولأنه من جملة المحافظة على الكليات لأنها يخدم بعضها بعضا وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين فى - كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال
فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس
وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم فى مرامي الاجتهاد
وما قرر في السؤال على الجملة صحيح إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما والجزئي محكوم عليه بالكلي لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره فالكلي صحيح فى نفسه وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر فى الكلي بحسب جريانه فى الجزئي أو عدم جريانه وينظر فى الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك (3/13)
فكما لا يستقل الطبيب بالنظر فى الكلي دون النظر فى الجزئي من حيث هو طبيب وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله فى هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين وهي امتناع أن يأتي فى الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا فى غير الموضع المعارض لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء أو فيه له شفاء
ولا يقال إن هذا تناقض لأنه يؤدى إلى اعتبار الجزئي وعدم اعتباره معا
لأنا نقول إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي وفى كل حال بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم (3/14)
بالكلى فيه كالعرايا وسائر المستثنيات ويعتبر الكلي فى تخصيصه للعام الجزئي أو تقييده لمطلقه وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق
وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر وقد مر منه أمثلة فى أثناء المسائل فلا يصح إهمال النظر فى هذه الأطراف فإن فيها جملة الفقه ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ وحقيقتة نظر مطلق فى مقاصد الشارع وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار وبالله التوفيق
المسألة الثانية
كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا أو ظنيا فإن كان قطعيا فلا إشكال (3/15)
في اعتباره كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أولا فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان قسم يضاد أصلا وقسم لا يضاده ولا يوافقه فالجميع أربعة أقسام
فأما الأول فلا يفتقر إلى بيان
وأما الثاني وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر وعليه عامة أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ومثل ذلك ما جاء فى الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب
وكذلك ما جاء من الأحاديث فى النهي عن جملة من البيوع والربا وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا وقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ومنه أيضا قوله عليه الصلاة و السلام
لا ضرر ولا ضرار فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثوث منعه فى الشريعة كلها فى وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ولا تضاروهن (3/16)
التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغضب والظلم وكل ما هو فى المعنى إضرار وأضرار
ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى فى غاية العموم فى الشريعة لا مراء فيه ولا شك وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك
وأما الثالث وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ومن الدليل على ذلك أمران أحدهما أنه مخالف لأصول الشريعة ومخالف أصولها لا يصح لأنه ليس منها وما ليس من الشريعة كيف يعد منها والثاني أنه ليس له ما يشهد بصحته وما هو كذلك ساقط الاعتبار وقد مثلوا هذا القسم فى المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين ابتداء (3/17)
على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام فى الظهار إلا لمن يجد رقبة وهذا القسم على ضربين أحدهما أن تكون مخالفته للأصل قطعية فلا بد من رده
والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا وفى هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت فى الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق وهو مما لا يختلف فيه
والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع فى الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده فى ورود نص مخالف لنص آخر أو لقاعدة أخرى أما على اعتبار المصالح فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست فى الآخر علمناها أو جهلناها وأما على عدم اعتبارها فأوضح فإن للشارع أن يأمر وينهى كيف شاء فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير
فإذا تقرر هذا فقد فرضوا فى - كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على (3/18)
الكتاب أم لا فقال الشافعي لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث فى هذا المعنى وهو قوله
إذا روى لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإلا فردوه فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق وسيأتي تقرير ذلك فى دليل السنة إن شاء الله تعالى
وللمسألة أصل في السلف الصالح فقد ردت عائشة رضى الله تعالى عنها حديث
إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه لقوله تعالى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وردت حديث رؤية النبي صلى الله عليه و سلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى لا تدركه (3/19)
يناقض الآية وهو ثبوت رؤية الله تعالى فى الآخرة بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع ولا فرق فى صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة فى غسل اليدين قبل إدخالهما فى الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به وهو رفع الحرج وما لا طاقة به عن الدين فلذلك قالا فكيف يصنع بالمهراس وردت أيضا خبر ابن عمر فى الشؤم وقالت إنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث عن أقوال الجاهلية لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها فاستشار المهاجرين (3/20)
والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا وهو أن الأسباب من قدر الله ثم مثل ذلك برعى العدوة المجدبة والعدوة المخصبة وأن الجميع بقدر الله ثم أخبر بحديث الوباء الحاوى لاعتبار الأصلين
وفي الشريعة من هذا كثير جدا وفي اعتبار السلف له نقل كثير
ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار ألا ترى إلى قوله فى حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته وكان يضعفه ويقول يؤكل صيده فكيف يكره لعابه وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال بعد ذكره وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع فقد رجع إلى أصل إجماعي وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة (3/21)
قطعية وهى تعارض هذا الحديث الظني
فإن قيل فقد أثبت مالك خيار المجلس فى التمليك
قيل الطلاق يعلق على الغرر ويثبت فى المجهول فلا منافاة بينهما بخلاف البيع
ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه وقوله
أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى كما اعتبرته عائشة فى حديث ابن عمر وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التى طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذى يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج (3/22)
وفي مذهبه من هذا كثير
وهو أيضا رأي أبي حنيفة فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس إذ لا إجماع فى المسألة ورد خبر القرعة لأنه يخالف الأصول لأن الأصول (3/23)
قطعية وخبر الواحد ظني والعتق حل فى هؤلاء العبيد والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا وقال ابن العربي إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به أم لا فقال أبو حنيفة لا يجوز العمل به وقال الشافعي يجوز وتردد مالك في المسألة قال ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به وإن كان وحده تركه ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين أحدهما قول الله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم والثاني أن علة الطهارة هي الحياة وهي قائمة فى الكلب وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف
وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا قال ابن عبد البر كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول قال لأنه كان يذهب فى ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده وسماه شاذا وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف الشيء إنما يغرم مثله (3/24)
أو قيمته وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض فلا وقد قال مالك فيه إنه ليس بالموطأ ولا الثابت وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله
وأما الرابع وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر وبابه باب المناسب الغريب فقد يقال لا يقبل (3/25)
لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق لأنه فى محل الريبة فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود
ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت فى تفاصيل الشريعة وهذا فرد من أفراده وهو وإن لم يكن موافقا لأصل فلا مخالفة فيه أيضا فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ويسلم أصل العمل بالظن وقد وجد منه فى الحديث قوله عليه الصلاة و السلام
القاتل لا يرث وقد أعمل العلماء المناسب الغريب فى أبواب القياس وإن كان قليلا فى بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته
فصل
وأعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلا بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم فى حديث
لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه وهو معنى مخالف للمعنى الذى قصده الأصوليون والله أعلم (3/26)
المسألة الثالثة
الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول والدليل على ذلك من وجوه
أحدهما أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل أنها جارية على قضايا العقول وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت فى الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ولو نافتها لم تتلقها فضلا أن تعمل بمقتضاها وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الآلهية وعلى الأحكام التكليفية
والثاني أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره بل يتصور خلافه ويصدقه فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق وهو معنى تكليف ما لا يطاق وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول
والثالث أن مورد التكليف هو العقل وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا وعد فاقده كالبهيمة المهملة وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه (3/27)
لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا
والرابع أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كانوا يفترون عليه وعليها فتارة يقولون ساحر وتارة مجنون وتارة يكذبونه كما كانوا يقولون في القرآن سحر وشعر وافتراء وإنما يعلمه بشر وأساطير الأولين
بل كان أولى ما يقولون إن هذا لا يعقل أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك
فلما لم يكن من ذلك شيء دل على أنهم عقلوا ما فيه وعرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان ولم يعترضه أحد بهذا المدعى فكان قاطعا في نفيه عنه
والخامس أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة أو كارهة ولا كلام فى عناد معاند (3/28)
ولا فى تجاهل متعام وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة وبسط هذا الوجه مذكور في - كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
فإن قيل هذه دعوى عريضة يصد عن القول بها غير ما وجه
أحدها أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا كفواتح السور فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور وفيه ما لا يعرفه إلا العرب وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة وفيه ما لا يعرفه إلا الله فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول
والثاني أن فى الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس أو لا يعلمها إلا الله تعالى كالمتشابهات الفروعية وكالمتشابهات الأصولية ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول فلا تفهمها أصلا أو لا يفهمها إلا القليل والمعظم مصدودون عن فهمها فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول
والثالث أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا وتحزبوا أحزابا وصار كل حزب بما لديهم فرحون فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار عقله ودينه فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى فعلنا و قضينا و خلقنا
ثم من بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله عليه وسلم وكل (3/29)
ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول لما وقع فى الاعتياد هذا الاختلاف فلما وقع فهم أنه من جهة ماله خروج عن المعقول ولو بوجه ما
فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه وليس كلامنا فيه إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما لكن على خلاف المعقول وفواتح السور خارجة عن ذلك لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول وهو المطلوب
وعن الثاني أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن (3/30)
توهم بعض الناس فيها ذلك لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله لا أنه بناء على أمر صحيح فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها وهذا كما يأتي فى الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوى على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف وكذلك الأعجمي الطبع الذى يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا فإن القرآن والسنة لما كان عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة
ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال له
إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال فلا أنساب بينهم يومئذ (3/31)
الله حديثا ربنا ما كنا مشركين فقد كتموا في هذه الآية وقال بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله والأرض بعد ذلك دحاها فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال أئنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض فى يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى
فقال ابن عباس لا أنساب بنيهم فى النفخة الأولى ينفخ فى الصور فصعق من في السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ثم فى النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قوله ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض (3/32)
أي أخرج الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله
هذا تمام ما قال في الجواب
وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته وأتى من بابه وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون وما أشكل على الطالبين وما وقف فيه الراسخون ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله وقد ألف الناس فى رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه
المسألة الرابعة
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها وهذا لا نزاع فيه إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج (3/33)
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمه وهذا هو الاعتبار العقلي ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمةأو أو غير لازمة وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران وكذلك الطهارة والزكاة والحج وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع (3/34)
والإجارات وغيرها ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة أو الصلاة التى تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التى تنقص من كمالها وكذلك سائر الأفعال
فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو الجهة المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج هذا مجال نظر محتمل للخلاف بل هو مقتضى لخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين
فمما يدل على الأول أمور
أحدها أن المأمور به أو المنهى عنه أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء وهذا أمر ذهني في الاعتبار لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني فإن صدق عليه صح وإلا فلا
ولصاحب الثاني أن يقول إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمور ذهنية بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل بل الانقياد (3/35)
وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية وعند ذلك فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك
والثانى أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني فى الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة فى - كتاب الأحكام لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ويلقى فيه جميع ما تقدم وقد مر بطلانه
ولصاحب الثاني أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق وذلك باطل باتفاق فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة وهو من هذا النمط كذلك كل فعل سائغ في نفسه وفيه تعاون على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك (3/36)
ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند طلوع الشمس أو عند غروبها وهذا الباب واسع جدا
والثالث أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة لأنه ترك بها واجبا وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج وهو على خلاف قول الله تعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط خلط عملين بل صار عملا واحدا إما صالحا وإما سيئا ونص الآية يبطل هذا
وكذلك جريان العوائد فى المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل فى الذهن لا في الخارج
ولصاحب الثاني أن يقول أن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية (3/37)
لا تفعل وما لا يفعل لا يكلف به أما أن ما لا يفعل لا يكلف به فواضح وأما أن الأمور الذهنية لا تفعل مجردة فهو ظاهر أيضا أما في المحسوسات فكالإنسان مثلا فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة وعرض الأظفار ونحوها وخواص شخصية وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ولولا ذلك لم يظهر الإنسان فى الخارج ألبتة فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لودجود حقيقة الإنسان في الخارج وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا فإن حقيقتها المركبة من القيام والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات وأحوال وهيئات شتى وتلك الهيئات محكمة فى حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة والبطلان وهي متشخصات وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك إذ هي في الذهن كالمعدوم وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة وأمور على خلاف ذلك وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها وهو المطلوب فإن حصلت بزيادة وصف أو نقصانه فلم (3/38)
تحصل إذا على حقيقتها بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد
فإن قيل فيشكل معنى الآية إذا وهو قوله خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان وتصح مع ذلك وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة فى الجملة وهو الاعتبار الذهني
قيل أما الآية فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين وفى حالين وفى مثله نزلت الآية وإذا تلازمت حتى صار أحدها كالوصف للآخر فإن كان كالوصف السلبي فلا إشكال فى عدم التلازم لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية وأما إن كانت صفة وجودية أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية وأما الزيادة غير المبطلة أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب وينبنى عليه مسائل فقهية
فصل
ويتصدى النظر هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران وما لا يصير كذلك فلا يجريان فيه (3/39)
وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة إما أن يصير أحدها وصفا للآخر أو لا
فإن كان الثاني فلا تلازم كترك الصلاة مع ترك الزنى أو السرقة فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر لعدم التزاحم فى العمل إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع أو غير مشروع وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين على المكلف وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي والسلبيات اعتباريات لا حقيقية
وإن كان الأول فإما أن يكون وصفا سلبيا أو وجوديا فإن كان سلبيا فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعا على الخصوص أولا فإن كان الأول فلا إشكال فى اعتبار الصورة الخارجية كترك الطهارة فى الصلاة وترك الاستقبال
وإن كان الثاني فلا اعتداد بالوصف السلبي كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة فإن الصلاة وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا لا حقيقة له فى الخارج وإن كان الوصف وجوديا فهذا هو محل النظر كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها وما أشبه ذلك
فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج وكذلك الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ويرجع ذلك فى الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة وأما الأفعال مع الأفعال فهي التى تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل (3/40)
واحد موصوف فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم والله أعلم ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي
المسألة الخامسة
الأدلة الشرعية ضربان أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض وهذه القسمة هى بالنسبة إلى أصول الأدلة والافكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف فليحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما يتبين في موضعه من هذا الكتاب بحول الله (3/41)
فصل
ثم نقول إن الأدلة الشرعية فى أصلها محصورة في الضرب الأول لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل وإنما أثبتناه بالأول إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الاجماع حجة وعلى أن القياس حجة وأن قول الصحابي حجة وشرع من قبلنا حجة وما كان نحو ذلك
فصل
ثم نقول إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب وذلك من وجهين
أحدهما أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب لأن الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه و سلم المعجزة وقد حصر عليه الصلاة و السلام معجزته في القرآن بقوله وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلي هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله وأيضا فإن الله قد قال في كتابه يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقال وأطيعوا الله ورسوله في مواضع كثيرة وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته وقال وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال فليحذر الذين يخالفون عن أمره (3/42)
أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم إلى ما أشبه ذلك
والوجه الثاني أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى وانزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وذلك التبليغ من وجهين تبليغ الرسالة وهو الكتاب وبيان معانيه وكذلك فعل صلى الله عليه و سلم
فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب هذا هو الأمر العام فيها
وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد إن شاء الله فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى لأنه كلام الله القديم وأن إلى ربك المنتهى وقد قال تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وبيان هذا مذكور بعد إن شاء الله
المسألة السادسة
كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين إحدهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي فالأولى نظرية وأعنى بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعنى بالنظرية مقابل الضرورية والثانية نقلية وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي بل هذا جار في كل مطلب عقلي أو نقلي فيصح أن نقول الأولى (3/43)
راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية فإذا قلت إن كل مسكر حرام فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون فإذا شرع المكلف فى تناول خمر مثلا قيل له أهذا خمر أم لا فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال نعم هذا خمر فيقال له كل خمر حرام الاستعمال قيجتنبه وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا وذلك برؤية اللون وبذوق الطعم وشم الرائحة فإذا تبين أنه على أصل خلقته فقد تحقق مناطه عنده وأنه مطلق وهى المقدمة النظرية
ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز
وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا فإن تحقق الحدث فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء وإن تحقق فقده فكذلك فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء وهى المقدمة النقلية
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه (3/44)
مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد وهو مقتضى المقدمة النظرية
والمسألة ظاهرة في الشرعيات
نعم وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا وأردنا أن نعرف الذي يرفع من الأسمين وما الذي ينصب فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول
فإذا حققنا الفاعل وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية وهى أن كل فاعل مرفوع ونصبنا المفعول كذلك لأن كل مفعول منصوب وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية وهكذا فى سائر علوم اللغة وأما العقليات فكما إذا نظرنا فى العالم هل هو حادث أم لا فلا بد من تحقيق مناط الحكم وهو العالم فنجده متغيرا وهي المقدمة الأولى ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا كل متغير حادث
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية وهي المفيدة لتحقيق المناط وذلك مطرد في العقليات أيضا والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات هذا لا بد من تأمله
والذي يقال فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق أنها نقلية فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين وهي أن تكون مسلمة وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه وأيضا فى فصل السؤال والجواب له بيان آخر وبالله التوفيق (3/45)
المسألة السابعة
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد فى المنهيات وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها وكذلك في العوارض الطارئة عليها لأنها من جنسها وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية
وهذا القسم الثاني كثير فى الأصول المدنية لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ويتبين ذلك بايراد مسألة مستأنفة
المسألة الثامنة
فنقول إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه أو تكميلا لأصل كلي وبيان ذلك أن الأصول الكلية (3/46)
التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال
أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما وهو أول ما نزل بمكة
وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وأشباه ذلك
وأما العقل فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة فقد ورد فى المكيات مجملا إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما وكذلك منافعها فالعقل محفوظ شرعا فى الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة ثم يعود كأنه غطى ثم (3/47)
يوقع بينكم العداوة والبغضاء إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان
وأما النسل فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين
وأما المال فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال أو الميزان والفساد فى الأرض وما دار بهذا المعنى
وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن اذايات النفوس (3/48)
ولم ترد هذه الأمور فى الحفظ من جانب العدم إلاوحفطها من جانب الوجود حاصل ففى الأربعة الأواخر ظاهر وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح والتصديق بالقلب آت بالمقصود فى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا فى المدني فالأصل وارد فى المكي والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ويكون ما زاد على ذلك تكميلا وقد جاء فى المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة
وذلك يحصل به معنى الانقياد وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح (3/49)
منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشارعهم وكذلك الصيام أيضا فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء وكان النبي صلى الله عليه و سلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر فى حديث عائشة فى صيام يوم عاشوراء فأحكمهما التشريع المدني وأقرهما على ما أقرالله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذى هو أعظم أيامه حين قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية فلهما أصل في المكي على الجملة والجهاد الذى شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وما أشبه ذلك
المسألة التاسعة
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا (3/50)
إلا ما خصه الدليل كقوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين وأشباه ذلك والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليا أو جزئيا فإن كان كليا فهو المطلوب وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع فى الأصل بأدلة منها عموم التشريع فى الأصل كقوله تعالى يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة وعناق أبي بردة وقد جاء فى الحديث
بعثت للأحمر والأسود
ومنها أصل شرعية القياس إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى وهو معنى متفق عليه ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك
ومنها أن الله تعالى قال فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي فقال لكي لا ولذلك قال لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة هذا ورسول الله صلى الله عليه و سلم قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع
فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم وإن لم يكن لها صيغ عموم وهكذا الصيغ المطلقة تجرى فى الحكم مجرى العامة
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم بين ذلك بقوله وفعله فالقول كقوله
حكمي على الواحد حكمي على الجماعة وقوله فى قضايا خاصة سئل فيها أهي لنا (3/51)
خاصة أم للناس عامة بل للناس عامة كما فى قضية الذى نزلت فيه أقم الصلاة طرفي النهار وأشباهها وقد جعل نفسه عليه الصلاة و السلام قدوة للناس كما ظهر فى حديث الإصباح جنبا وهو يريد أن يصوم والغسل من التقاء الختانين وقوله
إني لأنسى أو أني لأسن وقوله
صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم وهو كثير
المسألة العاشرة
الأدلة الشرعية ضربان
أحدهما أن يكون على طريقة البرهان العقلي فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين وهو فى أول الأمر موضوع لذلك ويدخل هنا جميع البراهين العقلية وما جرى مجراها كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين وقوله ولو جعلناه قرآنا (3/52)
أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته وقوله أو ليس الذى خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وقوله قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب وقوله الله الذى خلقكم ثم رزقكم إلى قوله هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ وهذا الضرب يستدل به على الموالف والمخالف لأنه أمر معلوم عند من له عقل فلا يقتصر به على الموافق في النحلة
والثاني مبني على الموافقة في النحلة وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف ودلالة كتب عليكم القصاص في القتلى كتب عليكم الصيام أحل لكم ليلة الصيام الرفث فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين ولا أتى بها فى محل استدلال بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف
فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل انشائيا كأنه هو واضعه وإذا استدل بالضرب الثاني أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما وإلتزاما فإذا أطلق لفظ الدليل على الضر بين فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثانى فهو بالمعنى الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء وبالمعنى الثاني نتيجة انتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط
المسألة الحادية عشرة
إذا كان الدليل فى حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازى الأعلى (3/53)
القوم بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب فى مثل ذلك اللفظ وإلا فلا
فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين فى مثل قوله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه الآية وربما ادعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه
ولهذا الأصل أمثلة كثيرة
ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر النوم وهو مجاز فيه مستعمل وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما (3/54)
على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعلة ولا في مجازاتها وربما نقل فى قوله صلى الله عليه و سلم
تداووا فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء أن في إشارة إلى التداوى بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير معتبر فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله (3/55)
المسألة الثانية عشرة
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به فى السلف المتقدمين دائما أو أكثريا أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما أو لا يثبت به عمل
فهذه ثلاثة أقسام
أحدها أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا فلا إشكال فى الاستدلال به ولا في العمل على وفقه وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه و سلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة و السلام بقوله أو فعله أو اقراره ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه فلا إشكال فى صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم فى - كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية فلا معنى للأعادة
والثاني أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت من الأوقات أو حال (3/56)
من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائما أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه وفى العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معنى شرعي
وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه وإن لم يكن معارضا في الحقيقة فلا بد من تحرى ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضى مطلق التخيير بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى فى الجملة وأن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول فى المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه إذ لا حرج فى ترك المندوب على (3/57)
الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح فى الجملة فكذلك ما نحن فيه وإلى هذا فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها فى أنفسها وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ومن ذلك فى - كتاب الأحكام وما بعده فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين
أحدهما أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت أو أوقات عينت أو نحو ذلك
كما جاء فى حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه و سلم يومين وبيان رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال
صل معنا هذين اليومين فصلاته فى اليوم فى أواخر الأوقات وقع موقع البيان لأخر وقت الاختياري الذى لا يتعدى ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد فى شدة الحر والجمع بين الصلاتين فى السفر وأشباه ذلك (3/58)
وكذلك قوله
من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح الخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه فى حال الاختيار ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة و السلام
أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه وإن لم يصح فالأمر أوضح
وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبى مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة
أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان فعل يقتضي الكثرة بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه و سلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال بهذا أمرت وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على المنبر أية ساعة هذه وأشباهه (3/59)
وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان في المسجد ثم ترك ذلك مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه
وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الضحى قط وإني لأستحبها وفى رواية وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل وهو يحب أن يعلمه خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركها فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم للمداومة على الضحى فلا حرج على من فعلها
ونظير ذلك أنه عليه الصلاة و السلام كان يواصل الصيام ثم نهى عن الوصال (3/60)
وفهم الصحابة من ذلك عائشة وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات
وأمثلة هذا الضرب كثيرة وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد وما أشبهه فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك وأما غيره فكذلك أيضا ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة
فقيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان في المسجد ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم فإن هؤلاء منتصبون لأن يقتدى بهم فيما يفعلون وفى باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب وسد الذرائع مطلوب مشروع وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به (3/61)
الصحابة كما في قيام رمضان فلا بأس وسنتهم ماضية وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ويتحرونه أيضا فكان على قولهم وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه و سلم هو المقدم وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة
وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها وإنما داوم من دوام عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء
ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ونحوها وما سوى ذلك فقد بين عليه الصلاة و السلام أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل (3/62)
من صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى عليه الصلاة و السلام في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهرة فيهم ولا أكثر من ذلك بل كان عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما إنضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى وهو الذي أخذ به مالك فيما روى عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة في الرجلين والثلاثة ونحو ذلك وحيث لا يكون مظنة اشتهار وما سوى ذلك فهو يكرهه
وأما مسألة الوصال فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي انموذج من قوله عليه الصلاة و السلام
إني أبيت عند ربي يطعمني (3/63)
ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع وقد مر لهذا المعنى تقرير في - كتاب الأحكام فكان ا لأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة وما واظبوا عليه وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الصرب
والضرب الثاني ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه
منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب
كقيام الرجل للرجل إكراما له وتعظيما فإن العمل المتصل تركه فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أقبل عليهم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس فقال إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه و سلم لجعفر ابن عمه وقوله
قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم وأن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم (3/64)
أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم له أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر وذلك لا يقوى قوة معارضه
ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة فإن مالكا قال له كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين
فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي عليه الصلاة و السلام أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه
وكذلك تقبيل اليد أن فرضنا أو سلمنا صحة ما روى فيه فإنه لم يقع تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا نادرا ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته
ومن ذلك سجود الشكر أن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك إذ نزلت توبته فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم (3/65)
ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث وكان ممن أدرك التابعين وراقب أعمالهم وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو في قوة المستمر
وقد قيل لمالك أن قوما يقولون أن التشهد فرض فقال أما كان أحد يعرف التشهد فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك وما حاجتك إلى ذلك فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ثم قال له مالك وكيف الأذان عندكم فذكر مذهبهم فيه فقال من أين لكم هذا فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم فقال له مالك ما أدرى ما أذان يوم وما صلاة يوم هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولده من بعده يؤذنون في حياته وعند قبره وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في الإتباع وأولى أن يرجع إليه
وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يحل موقعه عند من نظر إلى مغزاه وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل
ليس مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأرى أن كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ثم قال قد فتح على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى (3/66)
المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه هذا ما قال وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير
ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به أو خاصا بحال من الأحوال فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه عليه الصلاة و السلام على ناصيته وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض وكذلك نهيه عليه الصلاة و السلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا وهو قوله
إنما نهيتكم لأجل الدافة
ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه و سلم مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه و سلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة و السلام في أمر فعمل (3/67)
فيه ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سوارى المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام
أما إنه لو جاءني لاستغفرت له وتركه كذلك حتى حكم الله فيه فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول صلى الله عليه و سلم وأما دواما فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه وهذا خاص بزمانه إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي وقد انقطع بعده فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينظر الحكم فيه وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا فيما بعده فإذا العمل بمثله أشد غررا إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته
ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه إذ كان في زمانه عليه الصلاة و السلام ولم يعلم به فيجيزه أو يمنعه لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روى عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا وهو صائم في رمضان فقيل له أتأكل البرد وأنت صائم فقال إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وإنه ليس بطعام ولا شراب قال الطحاوي ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة و السلام عليه فيعلمه الواجب عليه فيه قال وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ير ذلك عمر شيئا إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم وقف عليه فلم ينكره فكذلك ما روى عن أبي طلحة قال والذي كان من ذلك ما روى عن رفاعة بن رافع قال كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذا جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي عليه الصلاة و السلام برأيك (3/68)
فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب وأبي أيوب ورفاعة ابن رافع فالتفت إلى عمر فقال ما يقول هذا الفتى فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لا نغتسل قال أفسألتم النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقلت لا ثم قال في آخر الحديث
لئن أخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة فهذا أيضا من ذلك القبيل والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك
ومنها أن يكون عمل به قليلا ثم نسخ فترك العمل به جملة فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام
ومثاله حديث الصيام عن الميت فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس وهما أول من خالفاه فروى عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم فقالت أطعموا عنها وعن ابن عباس أنه قال لا يصوم أحد عن أحد قال مالك ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله
وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل وقيل له أتسجد أنت فيه (3/69)
فقال لا وقيل له إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيزفقال أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه وهذا مما لم يجتمع الناس عليه وإنما هو حديث من حديث الناس وأعظم من ذلك القرآن يقول الله منه آيات محكمات هن أم الكتاب فالقرآن أعظم خطرا وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث وهذا مما لم يجتمع عليه وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وروى عن ابن شهاب أنه قال أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسخة ومنسوخة وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل أو عدم صحة في الدليل أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور أحدها المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها والثاني (3/70)
استلزام ترك ما داوموا عليه إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه
والثالث أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه إذ الإقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدي به كان أشد
الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل مالكان الأولون أحق به
والله المستعان
والقسم الثالث أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد صلى الله عليه و سلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم الأصواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه و سلم نص على علي أنه الخليفة بعده لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ويغبرون بمشتبهاتهما فى وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء (3/71)
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاش لله من ذلك ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة و السلام
ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم الحديث والحديث الآخر
ما اجتمع قوم يذكرون الله الخ وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر
وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب وقوله عليه (3/72)
الصلاة والسلام لهم
دونكم يا بني أرفدة
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ككتب المصحف وتصنيف الكتب وتدوين الدواوين وتضمين الصناع وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك فيقال له أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه (3/73)
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ فلا مخالفة إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة قيل له بل هو مخالف لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين
أحدهما أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في - كتاب المقاصد والثاني أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل فى التعبدات ألبتة وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل فلا مزيد عليه وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره
فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر (3/74)
بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب لكن على وجه آخر فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين وكفى بذلك مزلة قدم وبالله التوفيق
فصل
وأعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة بل فيها ما هو خفيف ومنها ما هو شديد وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين أحدهما أن يكون من أهل الاجتهاد فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا فإن كان كذلك فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول والثاني أن لا يكون من أهل الاجتهاد وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو مغالطة إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف (3/75)
فيه الأولون أوفى مسألة موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل
أما القسم الثاني فأن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع فإنه نوع من الإجماع فعلى بخلاف ما إذا خالفه فإن المخالفة موهنة له أو مكذبة وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ومعين لناسخها من منسوخها ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ومن قال بقوله وقد تقدم منه أمثلة وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها
ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة وقد مر من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة وفى كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة وانظر في مسألة التداوي من الخمار في (3/76)
درة الغواص للحريري وأشباهها بل قد استدل بعض النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار وهي
المسألة الثالثة عشرة
فاعلم أن اخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود علي وجهين
أحدهما أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة
والثاني أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة (3/77)
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فليس مقصودهم الاقتباس منها وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم إذ هو السابق المعتبر وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقولون ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم وهو أصل الشريعة لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في - كتاب المقاصد وسيأتي تمامه في - كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى
المسألة الرابعة عشرة
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة وما أشبه ذلك والثاني الاقتضاء التبعي وهو الواقع على المحل مع اعتبار (3/78)
التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ووجوبه على من خشي العنت وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافعه الأخبثان وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي
فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضى للحكم الأصلي أم لابد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل
فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا فإن أخذه مجردا صح الاستدلال وأن أخذه بقيد الوقوع فلا يصح وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط المعين وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها إذ ليس موضع الحاجة بخلاف ما إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال فلا بد من اعتباره
فقول الله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابق فلم ينزل حكم أولى الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي (3/79)
من نوقش الحساب عذب بناء على تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز و جل فسوف يحاسب حسابا يسيرا لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين عليه الصلاة و السلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه
وقال عليه الصلاة و السلام
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه الخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا وتبين مناط الكراهية المرادة وقال الله تعالى وقوموا لله قانتين تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد وهو المرض بينه عليه الصلاة و السلام بقوله وفعله حين جحش شقه وقال عليه الصلاة و السلام
أنا وكافل اليتيم كهاتين ثم لما تعين مناط فيه نظر قال عليه الصلاة و السلام لأبي ذر
لا تولين مال يتيم (3/80)
والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته عليه الصلاة و السلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال
قل ربي الله ثم استقم وقال لآخر
لا تغضب وكما قبل من بعضهم جميع ما له ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنقاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال
فصل
ولتعين المناط مواضع
منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية أو جاء حديث على سبب فإن الدليل يأتي بحسبه وعلى وفاق البيان التمام فيه فقد قال تعالى (3/81)
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم وقوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم الآية إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا وما أشبه ذلك وفي الحديث
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله الحديث أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب وقال
ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ومن ذلك كثير
ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله عليه الصلاة و السلام
من نوقش الحساب عذب وقوله
من كره لقاء الله كره الله لقاءه ومثال الثاني قوله عليه الصلاة و السلام للمصلي
ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول الآية أو كما قال عليه الصلاة (3/82)
وأنفقوا مما رزقناكم فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله مبينة لذلك ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر وقصته في معنى قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة
فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين فلا بد من اعتبار توابعه وعند ذلك نقول لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار (3/83)
المناط المسئول عن حكمه لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين
لا يقال إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من أفراد عام أو مقيد من مطلق
لأنا نقول ليس الفرض هكذا وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص وما مثل هذا إلا مثل من سأل هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد أو ازداد فقد أربى
فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل إذ له أن يقول فهل ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه فأجابه كذلك لحصل المقصود لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب (3/84)
بذلك الكلام لكان مصيبا لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ويحتمل فرض صور كثيرة
وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي وإن سأل عن معين فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه
ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل وبالله التوفيق
وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة
فينحصر القول فيه في خمسة فصول
الأول في الإحكام والتشابه وله مسائل
المسألة الأولى
المحكم يطلق بإطلاقين عام وخاص فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة وهذه الآية منسوخة وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا وعلى هذا الثاني مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث من قول النبي صلى الله عليه و سلم
الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور (3/85)
مشتبهات فالبين هو المحكم وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم
المسألة الثانية
التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور
أحدها النص الصريح وذلك قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فقوله في المحكمات هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور وأم الشيء معظمه وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول فإذا كان كذلك (3/86)
فقوله تعالى وأخر متشابهات إنما يراد بها القليل
والثاني أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى كقوله تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وقوله تعالى هدى للمتقين وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء وهذا واضح
والثالث الاستقراء فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها يعني يشبه بعضه بعضا ويصدق أوله آخره وآخره أوله أعني أوله وآخره في النزول
فإن قيل كيف يكن المتشابه قليلا وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى والله بكل شيء عليم وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها (3/87)
الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى وأنحاء لا تنحصر وهكذا سائر ما ذكر مع العام
ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ومعلوم أن المتفق عليه واضح وأن المختلف فيه غير واضح لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه وإلى هذا فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي وقد اختلف فيه أولا في معناه ثم في صيغته ثم إذا تعينت له صيغة افعل أو لا تفعل فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع وما أعز ذلك
وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب وذلك عسير جدا وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجه باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة أو اختلف فيه ثم إن العموم مختلف (3/88)
فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا وإذا قلنا بوجودها فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط وأوصاف تعتبر وإلا لم يعتبر أو اختلف في اعتباره وكذلك المطلق مع مقيدة وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق
ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة وهى أكثر الأدلة ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا وإذا كانت حجه فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل أو اختلف في إعمالها ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم وكله مختلف فيه فلا مسألة تتفرع منه متفق عليها
ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ثم في أصنافه ثم في مسالك علله ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا
وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين إحداهما شرعية وفيها من النظر ما فيها ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة بل الغالب أنه نظري فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه
فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور (3/89)
وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها فلا تشابه فيها بحسب الواقع إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه وبين المراد به وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه ومثله سائر الأنواع وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عيله وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الإجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب
ولأجل ذلك عدت المعترلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وتركوا مبينه وهو قوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا الآية وقوله فابعثوا (3/90)
حكما من أهله وحكما من أهلها واتبع الجبرية نحو قوله والله خلقكم وما تعملون وتركوا بيانه وهو قوله جزاء بما كانوا يكسبون وما أشبهه
وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة وهي
المسألة الثالثة
وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين أحدهما حقيقي والآخر إضافي وهذا فيما يختص بها نفسها وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام
فالأول هو المراد بالآية ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة
ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل (3/91)
على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق بعد ما ذكر منهم جمله ووصف من شأنهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله لأنه كان يحيى الموتى و يبرىء الأ سقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفح فيه فيكون طيرا ويقولون هو ولد الله لأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال ألا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم قال ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدرة إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم
والثانى وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية وإن كان في المعنى داخلا فيه لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في إلإجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية
ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج وغيرهم ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير (3/92)
الحاكمين فقال جابر لم يجئ تأويل هذه الآية قال سفيان وكذب قال الحميدي فقلنا لسفيان ما أراد بهذا فقال إن الرافضة تقول أن عليا في السحاب فلا يخرج يعنى مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء تريد عليا أنه ينادى اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية وكذب
كانت في إخوة يوسف فهذه الآية أمرها واضح ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية
وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه لكن جاء الدليل المقتضى لحكمه في اشتباهه وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر وهو أيضا واضح لا تشابه فيه وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل فلا مدخل له في المسألة (3/93)
فصل
فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول
قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص وما ذكر معه قليل وأن ما عد منه غير معدود منه وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة
وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها وهو ظاهر القرآن لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك بل من جهة نظر المجتهد فى مخارجها ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما فى نفس الأمر بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعة (3/94)
والأنظار تختلف بإختلاف القرائح والتبحر فى علم الشريعة فلكل مأخذ يجرى عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما فى نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها بهذا الاعتبار وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني أو إلى التشابه الثالث
ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم فى نفسه وما حصل له من علم الشريعة فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل لأنه أخذ الشريعة مأخذ اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف فى المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف فى مسائلها ومعترف بأن قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات على ظاهره من غير شك فيه فيستقرى من هذا إجماع على أن المتشابه فى الشريعة قليل وإن اعترفوا بكثرة الخلاف
وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد فى الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا وهكذا ما جرى مجراها فى الخروج عن الجادة وإلى ذلك فإن من الخلاف ما هو راجع فى المعنى إلى الوفاق وهذا مذكور فى - كتاب الاجتهاد فسقط (3/95)
بسببه كثير مما يعد فى الخلاف وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه فى علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه فى الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي وأبي حنيفة ومن قبلهم أو بعدهم وأمثالهم فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف
ومن استقرى مسائل الشريعة وجد منها فى كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا
وقد مر فى المقدمات تنبيه على هذا المعنى وفى - كتاب الإجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل وأن المحكم هو الأمر العام الغالب
المسألة الرابعة
التشابه لا يقع فى القواعد الكلية وإنما يقع فى الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين أحدهما الاستقراء أن الأمر كذلك والثانى أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه وهذا باطل وبيان ذلك أن الفرع مبنى على أصله يصح بصحته ويفسد بفساده ويتضح باتضاحه ويخفى بخفائه وبالجملة فكل وصف فى الأصل مثبت فى الفرع إذ كل فرع فيه (3/96)
ما في الأصل وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شئ من أمهات الكتاب
فإن قيل فقد وقع في الأصول أيضا فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم
فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة وإنما في فروعها فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة وهي الأكثر فإذا اعتبر هذا المعنى لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي (3/97)
فعند ذلك فرق بين الأصول والفروع في ذلك ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود ههنا ولا هو مقصود صريح اللفظ وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم لأنه تعالى قال منه آيات محكمات الآية فأثبت فيه متشابها وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة وإن نسب إليه فبالمجاز
المسألة الخامسة
تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي أو من الإضافي فإن كان من الإضافي فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي وما أشبه ذلك لأن مجموعهما هو المحكم وقد مر بيانه وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف أن كان موحدا لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح أو بالحديث الصحيح (3/98)
منه الآية ثم قال والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وقد ذهب جملة من متأخرى الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى - بإلجام العوام فطالعه من هنالك
المسألة السادسة
إذ تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ويكون اللفظ (3/99)
المؤول قابلا له وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أولا فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه فلا يقبل التأويل وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا فإن جرى على ذلك فلا إشكال في اعتباره لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فإطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله أو مرجوحيته وأما إن لم يجر على مقتضى العلم فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ورميا في جهالة فهو ترك للدليل لغير شيء وما كان كذلك فباطل
هذا وجه
ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه (3/100)
فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة وإما أن لا يبطله ويعتمد القول به على وجه فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك وإن لم يصح فهو نقض الغرض لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل وذلك يقتضى بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا هذا خلف
ووجه ثالث وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه وهو جمع بين النقيضين ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا بالفقير فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله وعصى آدم ربه فغوى أنه من غوى (3/101)
المعنى لا يختص بباب التأويل بل هو جار في باب التعارض والترجيح فإن الإحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما والدليل في الموضعين واحد
الفصل الثاني في الأحكام والنسخ
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى
اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه و سلم بمكة ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر كالافتراءآت التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله وسائر ما حرموه على أنفسهم أو أوجبوه من غير (3/102)
أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ونحوها ونهى عن مساوى الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنى والقتل والوأد وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر
ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود وتحريم المسكرات وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية وما يكملها ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص وما أشبه ذلك كله تكميل للأصول الكلية (3/103)
فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام
وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب العهد بالإسلام واستئلاف لهم مثل كون الصلاة كانت صلاتين ثم صارت خمسا وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ثم صار محدودا مقدرا وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ثم صارت الكعبة وكحل نكاح المتعة ثم تحريمه وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ثم أزيل أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ثم أحكم
المسألة الثانية
لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا (3/104)
ويدل على ذلك الاستقراء التام وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وجميع ذلك لم ينسخ منه شئ بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويحكمها ويحصنها وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ لكلي ألبتة ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها والجزئيات المكية قليلة
وإلى هذا فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فدخول النسخ في الفروع المكية قليل و هي قليلة فالنسخ فيها قليل فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر
ووجه آخر وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق فرفعها بعد العلم (3/105)
بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما
فصل
وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية
ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ووجه ثالث وهو أن غالب ما ادعى فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ومحتملا وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل أو تخصيصا لعموم أو تقييدا لمطلق وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة
وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ثم اختلفوا في نسخها قال ابن النحاس فلما ثبتت بالإجماع وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها ولم يأت من ذلك شيء انتهى المقصود منه
ووجه رابع يدل على قلة النسخ وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم (3/106)
الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ومثله رفع براءة الذمة بدليل وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين
وروى أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون قالوا وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه وأكثر القرآن على ذلك معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية فإذا اجتمعت هذه الأمور ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها (3/107)
إلا ما هو نادر على أن ههنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ
وهي
المسألة الثالثة
وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جئ به آخرا فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به
وهذا المعنى جار في تقييد المطلق فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا إعمال له في إطلاقه بل المعمل هو المقيد فكأن المطلق لم يفد مع مقيدة شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص وبقي السائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كان كذلك استسهل إطلاق (3/108)
لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد
ولا بد من أمثلة تبين المراد فقد روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد إنه ناسخ لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله نؤته منها مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة وهو قوله في الأخرى لمن نريد وإلا فهو إخبار والأخبار لا يدخلها النسخ
وقال في قوله والشعراء يتبعهم الغاوون إلى قوله وأنهم يقولون ما لا يفعلون هو منسوخ بقوله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية قال مكي وقد ذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال منسوخ قال وهو مجاز لا حقيقة لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول والناسخ منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه وهو بغير (3/109)
على أهلها إنه منسوخ بقوله ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة الآية وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله ليس عليكم جناح يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة
وقال في قوله انفروا خفافا وثقالا إنه منسوخ بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع
وقال في قوله تعالى قل الأنفال لله والرسول منسوخ بقوله واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله لله والرسول وقال في قوله وما على الذين يتقون من حسابهم من شىء إنه منسوخ بقوله وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الآية وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار لا تنسخ ولا تنسخ
وقال في قوله وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين (3/110)
وقال في قوله وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه الآية إنه منسوخ بآية المواريث وقال مثله الضحاك والسدى وعكرمة
وقال الحسن منسوخ بالزكاة وقال ابن المسيب نسخه الميراث والوصية والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال حمل الآية على الندب والمراد بأولى القربى من لا يرث بدليل قوله وإذا حضر كما ترى الرزق بالحضور فإن المراد غير الوارثين وبين الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم
وقال هو وابن مسعود في قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء إنه منسوخ بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة إذ تقدم قوله (3/111)
يحاسبكم به الله الآية فحصل أن ذلك من باب تخصيص العموم أو بيان المجمل
وقال في قوله ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه منسوخ بقوله (3/112)
وقال في قوله ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه منسوخ بقوله والقواعد من النساء الآية وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم
وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أنه ناسخ لقوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم وإن كان المراد أن طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول وفي الثاني بالعكس
وقال عطاء في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إنه منسوخ بقوله (3/113)
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى آخر الآيتين وإنما هو تخصيص وبيان لقوله ومن يولهم فكأنه على معنى ومن يولهم وكانوا مثلى عدد المؤمنين فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير وقال في قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وهذا من باب تخصيص العموم
وقال وهب بن منبه في قوله ويستغفرون لمن في الأرض نسختها الآية التي في غافر ويستغفرون للذين آمنوا وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها وقال ابن النحاس هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون وهب ابن منبه أراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى قال وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأولوا عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه قال والدليل على ما قلناه ما حدثناه أحمد بن محمد ثم أسند عن قتادة فى قوله ويستغفرون لمن في الأرض قال للمؤمنين منهم
وعن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب أن قوله والذين يكنزون الذهب والفضة الآية منسوخ بقوله خذ من أموالهم صدقة وإنما هو بيان لما يسمى كنزا (3/114)
فاتقوا الله ما استطعتم وقاله الربيع ابن أنس والسدى وابن زيد وهذا من الطراز المذكور لأن الآيتين مدنيتان ولم تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم وهو معنى قوله فاتقوا الله ما استطعتم فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن
وقال قتادة أيضا في قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر إلى قوله أن يضعن حملهن
وقال عبد الملك بن حبيب في قوله اعملوا ما شئتم وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وقوله لمن شاء منكم أن يستقيم إن ذلك منسوخ بقوله وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره بل هي مقيدة بمشيئة الله سبحانه
وقال في قوله الأعراب أشد كفرا ونفاقا وقوله ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما إنه منسوخ بقوله ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر الآية وهذا من الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن
وقال أبو عبيد وغيره إن قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك (3/115)
هم الفاسقون منسوخ بقوله إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآية وقد تقدم لابن عباس مثله
وقيل في قوله إن الله يغفر الذنوب جميعا منسوخ بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ وفي قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم إنه منسوخ بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وكذلك قوله تعالى وإن منكم إلا واردها منسوخ بها أيضا وهو إطلاق النسخ في الأخبار وهو غير جائز قال مكي وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون الله كلهم النار لأن النسخ إزالة الحكم الأول وحلول الثاني محله ولا يجوز زوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص وبيان وفي قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الآية إنه منسوخ بقوله ذلك لمن خشى العنت منكم وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات (3/116)
والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره أشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهو أعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا وبالله التوفيق
المسألة الرابعة
القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس
بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات وقد قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال تعالى فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقال تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله الآية وكثير من الآيات أخبر (3/117)
إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى وقال كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقال إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآيات في منع الإنفاق وقال وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات
وكذلك الحاجيات فأنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ومثل ذلك التحسينيات فقد قال تعالى أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر وقوله فبهداهم اقتده يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن وغير ذلك
وأما قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فإنه يصدق على الفروع الجزئية وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار فإذا كانت الشرائع قد انفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها وثبتت ولم تنسخ فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى والله تعالى أعلم (3/118)
الفصل الثالث في الأوامر والنواهي
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر فالأمر يتضمن طلب المأمور به وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهى عنه وإرادة لعدم إيقاعه ومع هذا ففعل المأمور به وترك المنهى عنه يتضمنان أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل أو الترك أو لا يقع
وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين أحدهما الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه أو تقول وما لم يرد أن يكون فلا سبيل إلى كونه (3/119)
والثاني الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به وعدم إيقاع المنهى عنه ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه ويحب أن يفعله المأمور ويرضاه منه من حيث هو مأمور به وكذلك النهي يحب ترك المنهى عنه ويرضاه
فالله عز و جل أمر العباد بما أمرهم به فتعلقت إرادته بالمعنى الثانى بالأمر إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا وإلا لم يكن إلزاما ولا تصور له معنى مفهوم وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول
والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر فقد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد وأما بالمعنى الثانى فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد
والإرادة على المعنيين قد جاءت فى الشريعة فقال تعالى فى الأولى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية وفى حكاية نوح عليه السلام لا ينفعكم نصحي (3/120)
شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله ولكن الله يفعل ما يريد وهو كثير جدا وقال فى الثانية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وهو كثير جدا أيضا
ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا وأثبتها في الأمر مطلقا ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق والإرادة القدرية هي إرادة التكوين فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية (3/121)
أشير وهي أيضا إرادة التكليف وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ويعنون بالمعنى الثاني الذين يجرى ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان
المسألة الثانية
الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها
وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا
ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا هذا خلف ولصح (3/122)
انقلاب الأمر نهيا وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل أو عدمه فيكون المأمور به أو المنهى عنه مباحا أو مسكوتا عن حكمه وهذا كله محال
والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهى عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه
فإن قيل هذا مشكل من أوجه
أحدها أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك وإن لم يقع فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا وتجويز العبث على الله محال فكل ما يلزم عنه محال وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به (3/123)
والثاني أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك فإنه يأمر العبد وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به وكذلك النهي حرفا بحرف وهو المطلوب
والثالث أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم وما أشبه ذلك إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة
فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشئ إلا على قول من يقول إن الأمر إرادة الفعل وهو رأي المعتزلة وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة وإلا وقعت المأمورات كلها وأيضا (3/124)
لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم القصد إلى أن يفعل فإذا علم ذلك فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول وبينهما فرق واضح
وهكذا القول في جميع الأسئلة فإن السيد إذا أمر عبده فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول
وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر وإن قيل أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم إذ الأمر وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا (3/125)
فيتصور وجه المجاز وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه
المسألة الثالثة
الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد والدليل على ذلك أمور (3/126)
أحدها أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق وقد فرضناه كذلك هذا خلف فإنه إذا قال الشارع أعتق رقبة فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة
والثاني أن الأمر من باب الثبوت وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية
والثالث أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا أو غير معين فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور وهذا محال وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتصحل به امتثال فالتكليف به محال وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون (3/127)
قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد فلا يكون مقصودا له لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن قصده إيقاع المطلق هذا خلف لا يمكن
فإن قيل هذا معارض بأمرين
أحدهما أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا لأن المطلق لا يوجد في الخارج وإنما هو موجود في الذهن والمكلف به يقتضى أن يوجد في الخارج إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله فى الخارج وإذ ذاك يصير مقيدا فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو ممتنع فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد وحينئذ يمكن الأمثال فوجب المصير إليه بل القول به
والثاني أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو فكان يكون الثواب على تساو أيضا وليس كذلك بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم وقد سئل عليه الصلاة و السلام عن أفضل الرقاب فقال
أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها (3/128)
أفضل وأكثر ثوابا من غيره فإذا كان التفاوت فى أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع وإن حصل الأمر بالمطلقات
فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ لو أطلق عليه اللفظ صدق وهو الاسم النكرة عند العرب فإذا قال أعتق رقبة فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية
وعن الثاني أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب أو الندب الذي اقتضاه الأمر (3/129)
بالمطلق وإنما وقع التفاوت فى أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم المطلق وهذا صحيح والثاني مسلم فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ولذلك كان ندبا لا وجوبا وإن كان الأصل واجبا لأنه زائد على مفهومه
فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق بل من دليل خارج فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد
بخلاف الواجب المخير فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن فإذا أعتق المكلف رقبة أو ضحى بأضحية أو صلى صلاة ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي وهو مطلق أيضا وإذا كفر بعتق فله أجر العتق أو أطعم فأجر الإطعام أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك
وقد اندرج هنا أصل آخر وهي
المسألة الرابعة
وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها
المسألة الخامسة
المطلوب الشرعي ضربان
أحدهما ما كان شاهد الطبع خادما له ومعينا على مقتضاه بحيث (3/130)
يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم وما أشبه ذلك
وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنى ونحوه مما يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب
والثاني ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة وما أشبه ذلك
فأما الضرب الأول فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية (3/131)
والعادات الجارية فلا يتأكد الطلب تأكد غيره حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن أو مندوب إليها أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا فلا إعادة عليه إلا استحسانا ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك
وأما الضرب الثاني فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه وينازعه كالعبادات لأنها مجرد تكليف وكما يكون ذلك في الطلب الأمري كذلك يكون في النهي فإن (3/132)
المنهيات على الضربين فالأول كتحريم الخبائث وكشف العورات وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ومحاسن العادات فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم
فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها (3/133)
في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة الشيخ الزاني وأخويه ما جاء وكذلك فيمن قتل نفسه
بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب فكان الأمر فيه أشد ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع بخلاف ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعا عنه فإنه لم يجعل له حد محدود
فصل
هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل فوقع التنبيه عليه لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتا إليه فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها فيقع الشك في كونها من الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعا وربما وجد الأمر بالعكس (3/134)
من هذا فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم والقاعدة التي لا تنخرم فكل أحد وما رأى والله المستعان وقد تقدم التنبيه على شيء منه في - كتاب المقاصد وهو مقيد بما تقيد به هنا أيضا والله أعلم
المسألة السادسة
كل خصلة أمر بها أو نهى عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو من الأخلاق والإعراض عن الجاهل والصبر والشكر ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء والاقتصاد في الإنفاق والإمساك والدفع بالتي هي أحسن والخوف والرجاء والانقطاع إلى الله والتوفية في الكيل والميزان واتباع الصراط المستقيم والذكر لله وعمل الصالحات والاستقامة والاستجابة لله والخشية والصفح وخفض الجناح للمؤمنين والدعاء إلى سبيل الله والدعاء للمؤمنين والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو وحفظ الأمانة وقيام الليل والدعاء والتضرع والتوكل والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة والإنابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقوى والتواضع والافتقار إلى الله والتزكية والحكم بالحق واتباع الأحسن والتوبة والإشفاق والقيام بالشهادة والاستعاذة عند نزغ الشيطان والتبتل وهجر الجاهلين وتعظيم الله والتذكر والتحدث بالنعم وتلاوة القرآن والتعاون على الحق والرهبة والرغبة وكذلك الصدق والمراقبة وقول المعروف والمسارعة إلى الخيرات وكظم الغيظ وصلة الرحم والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع والتسليم لأمر الله والتثبت في الأمور والصمت والاعتصام بالله (3/135)
وإصلاح ذات البين والإخبات والمحبة لله والشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين والصدقة
هذا كله في المأمورات
وأما المنهيات فالظلم والفحش وأكل مال اليتيم واتباع السبل المضلة والإسراف والإقتار والإثم والغفلة والاستكبار والرضى بالدنيا من الآخرة والأمن من مكر الله والتفرق في الأهواء شيعا والبغي واليأس من روح الله وكفر النعمة والفرح بالدنيا والفخر بها والحب لها ونقص المكيال والميزان والإفساد في الأرض واتباع الآباء من غير نظر والطغيان والركون للظالمين والإعراض عن الذكر ونقض العهد والمنكر وعقوق الوالدين والتبذير واتباع الظنون والمشي في الأرض مرحا وطاعة من (3/136)
من اتبع هواه والإشراك في العبادة واتباع الشهوات والصد عن سبيل الله والإجرام ولهو القلب والعدوان وشهادة الزور والكذب والغلو في الدين والقنوط والخيلاء والاغترار بالدنيا واتباع الهوى والتكلف والاستهزاء بآيات الله والاستعجال وتزكية النفس والنميمة والشح والهلع والدجر والمن والبخل والهمز واللمز والسهو عن الصلاة والرياء ومنع المرافق وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله ولبس الحق بالباطل وكتم العلم وقسوة القلب واتباع خطوات الشيطان والإلقاء باليد إلى التهلكة وإتباع الصدقة بالمن والأذى واتباع المتشابه واتخاذ الكافرين أولياء وحب الحمد بما لم يفعل والحسد والترفع عن حكم الله والرضى بحكم الطاغوت والوهن للأعداء والخيانة ورمي البريء بالذنب وهو البهتان ومشاقة الله والرسول واتباع غير سبيل المؤمنين والميل عن الصراط المستقيم والجهر بالسوء من القول والتعاون على الإثم والعدوان والحكم بغير ما أنزل الله والارتشاء على إبطال الأحكام والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله والنفاق وعبادة الله على حرف والظن والتجسس والغيبة والحلف الكاذبة وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن على ضربين (3/137)
أحدهما أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء وعلى كل حال لكن بحسب كل مقام وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزان واحد ولا حكم واحد ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف فيزن بميزان نظره ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف آخذا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وإنفاق عفو المال وأشباه ذلك ألا ترى إلى قوله في الحديث
إن الله كتب الإحسان على كل شيء (3/138)
فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث الخ فقول الله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء بل ينقسم بحسب المناطات ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال وغيرها فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان إنه أمر إيجاب أو أمر ندب حتى يفصل الأمر فيه وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى وخفائه
والضرب الثاني أن تأتي في أقصى مراتبها ولذلك تجد الوعيد مقرونا (3/139)
بها في الغالب وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين والمنهى عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين ويعين ذلك أيضا أسباب التنزيل لمن استقراها فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير
وقد روى في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع (3/140)
آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني أخشى أن أكون منهم وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم هذا ما نقل وهو معنى ما تقدم فإن صح فذاك وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء وقد روى أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فيقول قائل من أين أدرك درجتهم فيجتهد والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضا يتنزل على المساق المذكور فإذا كان الطرفان مذكورين كان الخوف والرجاء جائلا بين هاتين الأخيتين المنصوصتين في محل مسكوت عنه لفظا منبه عليه تحت نظر العقل ليأخذ كل على حسب اجتهاده ودقة نظره ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر
وأيضا فمن حيث كان القرآن آتيا بالطرفين الغائبين حسبما اقتضاه المساق فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير فكما يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق كذلك قد يدل (3/141)
اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ويرجو مثال ذلك أنه إذا نظر فى قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان فوزن نفسه في ميزان العدل عالما أن أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ثم شكره عليها وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه والخروج عن الكفر وإطراح توابعه فإن وجد نفسه متصفا بذلك فهو يرجو أن يكون من أهله ويخاف أن لا يكون يبلغ في هذا المدى غايته لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة فإن نظر بالتفصيل فكذلك أيضا فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل كالعدل بين الخلق إن كان حاكما والعدل في أهله وولده ونفسه حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ونحوه كما أن هذا جار في ضده وهو الظلم فإن أعلاه الشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ثم في التفاصيل أمور كثيرة أدناها مثلا البدء بالمياسر وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك
فلأجل هذا قيل إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في المأمورات ومنها ما يكون من المحرمات أو من المكروهات في المنهيات لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور
كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم ويتحرجون عن أن يقولوا حلال أو حرام هكذا صراحا بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه لا أحب هذا وأكره هذا ولم أكن لأفعل هذا وما أشبهه لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها غير محدودة في الشرع تحديدا يوقف عنده لا يتعدى وقد قال تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة (3/142)
إيمانهم بظلم الآية فإنها لما نزلت قال الصحابة وأينا لم يظلم فنزلت إن الشرك لظلم عظيم وفي رواية لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
ليس بذلك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم وفي - الصحيح
آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان فقال ابن عباس وابن عمر وذكرا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما أهمهما من هذا الحديث فضحك عليه الصلاة و السلام فقال
ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين ما قولي إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله علي إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل علي ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الآيات الثلاث أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا ائتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال الآية فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ويصوم ويصلي في السر والعلانية (3/143)
والمنافق لا يفعل ذلك أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك براء
ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل
وبالله التوفيق
المسألة السابعة
الأوامر والنواهي ضربان صريح وغير صريح فأما الصريح فله نظران أحدهما من حيث مجردة لا يعتبر فيه علة مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي كقوله أقيموا الصلاة مع قوله
اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة وقوله فاسعوا إلى ذكر الله مع قوله وذروا البيع وقوله ولا تصوموا يوم النحر مثلا مع قوله لا تواصلوا وما أشبه ذلك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين
وهذا نحو ما في الصحيح أنه عليه الصلاة و السلام خرج على أبي ابن كعب وهو يصلي فقال عليه الصلاة و السلام
يا أبي فالتفت إليه ولم يجبه وصلى ف (3/144)
لما يحييكم قال بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المعلى وأنه صاحب القصة فهذا منه عليه الصلاة و السلام إشارة إلى النظر لمجرد الأمر وإن كان ثم معارض وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب فسمعه يقول اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه و سلم فقال له تعال يا عبد الله وسمع عبد الله ابن رواحة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بالطريق يقول اجلسوا فجلس بالطريق فمر به عليه الصلاة و السلام فقال ما شأنك فقال سمعتك تقول اجلسوا
فقال له زادك الله طاعة وفي البخاري قال عليه الصلاة و السلام يوم الأحزاب
لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلى حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلى ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى وذروا البيع
وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به (3/145)
به عاما وإن كان غيره أرجح منه وله مجال في النظر منفسح فمن وجوهه أن يقال لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهى المصالح أولا فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل فقد علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه في المحصن الرجم دون ضرب العنق أو الجلد إلى الموت أو إلى عدد معلوم أو السجن أو الصوم أو بذل مال كالكفارات وفى غير المحصن جلد مائة وتغريب عام دون الرجم أو القتل أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها وهكذا يجرى الحكم في سائر ما يعقل معناه (3/146)
أما التعبدات فهي أحرى بذلك فلم يبق لنا إذا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهى وكثيرا ما يظهر لنا ببادىء الرأي للأمر أو النهي معنى مصلحي ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى وأيضا فقد مر في - كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى تعبدي وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه فإذا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كر عليه بالإهمال فلا سبيل إليه وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي وهو المطلوب
ولا يقال إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان فإن كان قد (3/147)
بال في إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به
لأنا نقول هذا أيضا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعانى مع إلغاء الصيع كما قيل في قوله عليه الصلاة و السلام
في أربعين شاة شاة إن المعني قيمة شاة لأن المقصود سد الخلة وذلك حاصل بقيمة الشاة فجعل الموجود معدوما والمعدوم موجود وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة وهو عين المخالفة وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع أنفس الصيغ التى هى الأصل واجب لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر
والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهى قصد شرعي بحسب الاستقراء وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان (3/148)
المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات فإن المفهوم من قوله أقيموا الصلاة المحافظة عليها والإدامة لها ومن قوله
اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة أو ترك الدوام على التوجه لله وكذلك قوله فاسعوا إلى ذكر الله مقصودة الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها لا الأمر بالسعي إليها فقط وقوله وذروا البيع جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر أو بيع الربا أو نحوهما وكذلك إذا قال
لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ومن قوله
لا تواصلوا أو قوله
لا تصوموا الدهر الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان عليه الصلاة و السلام يواصل ويسرد الصوم (3/149)
الصلاة فانتشروا في الأرض إذ علم قطعا أن مقصود الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصودة أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام
فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا وقد مر منه أمثلة
وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا وأن الأوامر والنواهى مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر وذلك أن الوصال (3/150)
وسرد الصيام قد جاء النهي عنه وقد واصل عليه الصلاة و السلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي أحدهما أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة وقابلوه بالعصيان صراحا وفي القول بهذا ما فيه والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا وحاشى لله من ذلك وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد عليه الصلاة و السلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة و السلام هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم
وأيضا فإن النبي عليه الصلاة و السلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذى يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوى الأخلاق وسائر المناهي المطلقة وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني وقد نهى عليه الصلاة و السلام عن بيع الغرر وذكر منه أشياء كبيع الثمرة قبل أن تزهى (3/151)
وبيع حبل الحبلة والحصاة وغيرها وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثى كلها بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا لأن الغرر المنهى عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده (3/152)
وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعانى والنظر الى للمصالح وفي أي مرتبة تقع وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة وإلالزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهى كذلك أيضا بل نقول كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلاصار ضحكة وهزءة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلب وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه
وقد حكى أمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني (3/153)
في القول بالظاهر فقال له ابن سريج أنت تلتزم الظواهر وقد قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وانقطع وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر فالعمل بالظواهر أيضا على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضا كما تقدم في آخر - كتاب المقاصد وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى
فصل
فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي فهو جار على السنن القويم موافق لقصد الشارع في ورده وصدره ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالإجتهاد في العبادة والتحري في الأخذ بالعزائم وقهروها تحت مشقات التعبد فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهى لينظر كيف تعملون وليبلوكم أيكم أحسن عملا لكن لما كان المكلف ضعيفا في نفسه ضعيفا في عزمه ضعيفا في صبره عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في الدخول في الأعمال وأدخل في قلبه حب الطاعة وقواه عليها وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة والخواطر المشغبة وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف استقبالا بذلك ثقل المداومة حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه فإذا داخل العبد حب الخير وانفتح له يسر المشقة صار الثقيل عليه خفيفا فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله وتبتل إليه تبتيلا وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فكأن (3/154)
فصل
وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب
أحدها ما جاء مجيء الأخبار عن تقرير الحكم كقوله تعالى كتب عليكم الصيام والوالدات يرضعن أولادهن ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فكفارته إطعام عشرة مساكين وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر فهذا ظاهر الحكم وهو جار مجرى الصريح من الأمر والنهي
والثاني ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر أو ذمه أو ذم فاعله في النواهي وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر وترتيب العقاب في النواهي أو الإخبار بمحبة الله في الأوامر والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي وأمثلة هذا الضرب ظاهرة كقوله والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون وقوله بل أنتم قوم مسرفون وقوله ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا وقوله والله يحب المحسنين وقوله إنه لا يحب المسرفين ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم وما أشبه ذلك فإن هذه الأشياء دالة (3/155)
على طلب الفعل في المحمود وطلب الترك في المذموم من غير إشكال
والثالث ما يتوقف عليه المطلوب كالمفروض في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وفي مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده وكون المباح مأمورا به بناء على قول الكعبي وما أشبه ذلك من الأوامر والنواهي التى هى لزومية للأعمال لا مقصودة لأنفسها وقد اختلف الناس فيها وفي اعتبارها
وذلك مذكور في الأصول ولكن إذا بنينا على اعتبارها فعلى القصد الثاني لا على القصد الأول بل هى أضعف في الاعتبار من الأوامر والنواهى الصريحة التبعية كقوله وذروا البيع لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار أصلا وقد مر في - كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعة فهذا القسم في الأوامر والنواهى مستمد من ذلك وفي (3/156)
الفرق بينهما فقه كثير ولا بد من ذكر مسألة تقررها في فصل يبين ذلك حتى تتخذ دستورا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله
فصل
الغصب عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب
فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب فهو منهى عن ذلك آثم فيما فعل من جهة ما قصد وهو لم يقصد إلا الرقبة فكان النهي أولا عن الاستيلاء على الرقبة وأما التعدي على المنافع فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد وهو لم يقصد إلا المنافع لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر بالحكم التبعي وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول (3/157)
فإذا كان غاصبا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب لا بأرفع القيم لأن الانتفاع تابع فإذا كان تابعا صار النهي عن الانتفاع تابعا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة فلذلك لا يضمن قيمة المنافع إلا على قول بعض العلماء بناء على أن المنافع مشاركة في القصد الأول والأظهر أن لا ضمان عليه لعموم قوله عليه الصلاة و السلام
الخراج بالضمان وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الإنتفاع غير مقصود لنفسه بل هو تابع للنهي عن الغصب وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه فأولى أن يصح مع النهي الضمني
وهذا البحث جار في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا فإن قلنا غير واجب فلا إشكال وإن قلنا واجب فليس وجوبه مقصودا (3/158)
في نفسه وكذلك مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه مقصودا بالقصد الأول وليس كذلك
وأما إذا كان متعديا فضمانة ضمان التعدي لا ضمان الغصب فإن الرقبة تابعة فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعا للنهي عن الاستيلاء على المنافع فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقا ويضمن ما قل وما كثر وأما ضمان الرقبة في التعدي فعند التلف خاصة من حيث كان تلفها عائدا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء
ولو كان أمرهما واحدا لما فرق بينهما مالك ولا غيره قال مالك في الغاصب والسارق إذا حبس المغصوب أو المسروق عن أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن (3/159)
ربه أن يضمنه وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك وأصحابه وإلا فإذا بنينا على غيره فالمأخذ آخر والأصل المبني عليه ثابت
فالقائل باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ
منها القاعدة التي يذكرها أهل المذهب وهي هل الدوام كالابتداء فإن قلنا ليس الدوام كالابتداء فذلك جار على المشهور في الغصب فالضمان يوم الغصب والمنافع تابعة وإن قلنا إنه كالابتداء فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب فهو ضامن في كل وقت ضمانا جديدا فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك قال ابن شعبان لأن عليه أن يرده في كل وقت ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ
ومنها القاعدة المتقررة وهي أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى وإنما للعبد منها المنافع وإذا كان كذلك فهل القصد إلى ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا فإن قلنا هو منصرف إليها إذ أعيان الرقاب لا منفعة (3/160)
فيها من حيث هي أعيان بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي لاضمان المنافع وإن قلنا ليس بمنصرف فهو بمقتضى التفرقة
ومنها أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة فهل يتقرر له عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا فإن قلنا أنه يتقرر عليها شبهة ملك كالذي في أيدى الكفار من أموال المسلمين كان داخلا تحت قوله عليه الصلاة و السلام
الخراج بالضمان فكانت كل غلة وثمن يعلو أو يسفل أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان كالاستحقاق والبيوع الفاسدة وإن قلنا إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك بل المغصوب على ملك صاحبه فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له فلا بد للغاصب من غرمها لأنه قد غصبها أيضا وأما ما يحدث من انقص فعلى الغاضب بعدائه لأن نقص الشيء المغصوب إتلاف لبعض ذاته فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع لأن قيام الذات من جملة المنافع هذا أيضا مما يصح أن يبني عليه الخلاف
ومنها أن يقال هل المغصوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه يعد كالمتعدي فيه لأن الصورة فيهما معا واحدة ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد وإلغائه الوسائط أم لا يعد كذلك فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرا وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق (3/161)
إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته قال ابن القاسم لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري
فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك وغيره عليها مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها وهى أن ما كان من الأوامر أو النواهى بالقصد الأول فحكمه منحتم بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف وربما خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان ولا تنقض أصل القاعدة والله أعلم وأعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عرضت على هذا الأصل تبين منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها ووجه مذهب ابن حنبل وأصبغ وسائر القائلين ببطلانها
وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع إلى هذا المعنى وهي (3/162)
المسألة الثامنة
الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين فكان أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه عند فرض الانفراد وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجودا أو عدما فإن المعتبر من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغى وساقط الاعتبار شرعا والدليل على ذلك أمور
أحدها ما تقدم تقريره في المسألة قبلها هذا وإن كان الأمر والنهي هنالك غير صريح وهنا صريح فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية ولذلك نقول إن القائل ببطلان البيع وقت النداء لم يبن على كون النهي تبعيا وإنما بنى البطلان على كونه مقصودا
والثاني أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين إما أن يردا معا عليهما (3/163)
أو لا يردا ألبتة أو يرد أحدهما دون الآخر والأول غير صحيح إذ قد فرضناهما متلازمين فلا يمكن الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي فمن حيث أخذ في العمل صادمه النهي عنه ومن حيث تركه صادمه الأمر فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فعل أو ترك وهو تكليف بما لا يطاق وهو غير واقع فما أدى إليه غير صحيح والثاني كذلك أيضا لأن الفرض أن الطلبين توجها فلا يمكن ارتفاعهما معا فلم يبق إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني وقد فرضنا أحدهما متبوعا وهو المقصود أولا والآخر تابعا وهو المقصود ثانيا فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع دون ما تعلق بالتابع ولا يصح العكس لأنه خلاف المعقول
والثالث الاستقراء من الشريعة كالعقد على الأصول مع منافعها وغلاتها والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه فللإنسان أن يتملك الرقاب ويتبعها منافعها وله أيضا أن يتملك أنفس المنافع خاصة وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع ويصح القصد إلى كل واحد منهما فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها وذلك أن العقد في شراء الدار أو الفدان أو الجنة أو العبد أو الدابة أو الثوب وأشباه ذلك جائز بلا خلاف وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها لأن المنافع قد تكون موجودة والغالب أن تكون وقت العقد معدومة وإذا كانت معدومة (3/164)
امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ومن كل طريق إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها للنهي عن بيع الغرر والمجهول بل العقد على الأبضاع لمنافعها جائز ولو انفرد العقد على منفعة البضع لامتنع مطلقا إن كان وطئا ولامتنع فيما سوى البضع أيضا إلا بضابط يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم كالخدمة والصنعة وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد والعكس كذلك أيضا كمنافع الأحرار يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة باتفاق ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق ومع ذلك فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد وذلك أثر كون الرقبة معقودا عليها لكن بالقصد الثاني (3/165)
وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه وهو على الجملة يعطى أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة
فإن قيل هذا مشكل بأمور
أحدها أن العلماء قالوا إن الرقاب وبالجملة الذوات لا يملكها إلا الله تعالى وإنما المقصود في التملك شرعا منافع الرقاب لأن المنافع هى التي تعود على العباد بالمصالح لا أنفس الذوات فذات الأرض أو الدار أو الثوب أو الدرهم مثلا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات وإنما يحصل المقصود بها من حيث إن الأرض تزدرع مثلا والدار تسكن والثوب يلبس والدرهم يشترى به ما يعود عليه بالمنفعة فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه وإذا كان كذلك فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة والرقاب لا تدخل تحت الملك فلا تابع ولا متبوع وإذا لم يتصور فيما تقدم وأشباهه تابع ومتبوع بطل فكل ما فرض (3/166)
من المسائل خارج عن تمثيل الأصل المستدل عليه فلا بد من إثباته أولا واقعا في الشريعة ثم الاستدلال عليه ثانيا
والثاني إن سلمنا أن الذوات هي المعقود عليها فالمنافع هي المقصود أولا منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات فصار المقصود أولا هي المنافع وحين كانت المنافع لا تحصل على الجملة إلا عند تحصيل الذوات سعى العقلاء في تحصيلها فالتابع إذا في القصد هى الذوات والمتبوع هو المنافع فاقتضى هذا بحكم ما تحصل أولا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم المعدوم وذلك باطل إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم منافعه باتفاق بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء يتبعه ذات ذلك الشيء فاكتراء الدار يملك منفعتها ولا يتبعه ملك الرقبة وكذلك كل مستأجر من أرض أو حيوان أو عرض أو غير ذلك فهذا أصل منخرم إن كان مبنيا على أمثال هذه الأمثلة (3/167)
والثالث أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك فإنه قال
من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع وقال
من باع عبدا وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع فهذان حديثان لم يجعلا المنفعة للمبتاع بنفس العقد مع أنها عندكم تابعة للأصول كسائر منافع الأعيان بل جعل فيهما التابع للبائع ولا يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكما وهو يعطى في الشرع انفصال التابع من المتبوع وهو معارض لما تقدم فلا يكون صحيحا
والرابع أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء وأرباب العوائد وإن فرض الأصل مقصودا فكلاهما مقصود ولذلك يزاد في ثمن الأصل بحسب زيادة المنافع وينقص منه بحسب نقصانها وإذا ثبت هذا فكيف تكون المنافع ملغاة وهي مثمونة معتد بها في أصل العقد مقصودة فهذا يقتضى القصد إليها وعدم القصد إليها معا وهو محال
ولا يقال إن القصد إليها عادي وعدم القصد إليها شرعي فانفصلا فلا تناقض
لأنا نقول كون الشارع غير قاصد لها في الحكم مبني على عدم القصد (3/168)
إليها عرفا وعادة لأن من أصول الشرع إجراء الأحكام على العوائد ومن أصوله مراعاة المصالح ومقاصد المكلفين فيها أعنى في غير العبادات المحضة وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع وأن المنافع مقصودة عادة وعرفا للعقلاء ثبت أن حكم الشرع بحسب ذلك وقد قلتم إن المنافع ملغاة شرعا مع الأصول فهي إذا ملغاة في عادات العقلاء لكن تقرر أنها مقصودة في عادات العقلاء
هذا خلف محال
فالجواب عن الأول أن ما أصلوه صحيح ولا يقدح في مقصودنا لأن الأفعال أيضا ليس للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ماله في الصفات والذوات فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك تضاف إليهم الصفات والذوات ولا فرق بينهما إلا أن من الأفعال ما هو لنا مكتسب وليس لنا من الصفات ولا الذوات شيء مكتسب لنا وما أضيف لنا من الأفعال كسبا فإنما هي أسباب لمسببات هي أنفس المنافع والمضار أو طريق إليها ومن جهتها كلفنا في الأسباب بالأمر (3/169)
والنهي وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى حسبما تقرر في - كتاب الأحكام فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا وإن كانت غير داخلة تحت قدرتنا كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق بنا
ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف والتغيير كذبح الحيوان وقتلة للمأكلة وإتلاف المطاعم والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس وما أشبه ذلك وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيا أو لم يكن مؤذيا وكان إتلافه تكملة لما ليس بضروري ولا حاجي من المنافع كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك وما أشبه ذلك فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغيير وغيرهما دليل على صحة تملكها شرعا ولا يبقى بيننا وبين من أطلق تلك العبارة أن الذوات لا يملكها إلا الله سوى الخلاف في اصطلاح وأما حقيقة المعنى فمتفق عليها وإذا ثبت ملك الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها صح كون المنافع تابعة وتصور معنى القاعدة
والجواب عن الثاني أنه إن سلم على الجملة فهو في التفصيل غير مسلم أما أن المقصود المنافع فكذلك نقول إلا أن المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها وذلك أن منافع الأعيان لا تنحصر وإن انحصرت الأعيان فإن العبد مثلا قد هيئ في أصل خلقته إلى كل ما يصلح له الآدمي من الخدم (3/170)
والحرف والصنائع والعلوم والتعبدات وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد تفوت الحصر وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى هذا وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور فدخوله في جنس واحد معرفا فيه أو في بعض أصنافه يكفى في حصر ما لا يتناهى من المنافع بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤآجرته عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره وكذلك كل رقبه من الرقاب وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها فالنظر إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع وأما إذا نظرنا إلى المنافع فلا يمكن حصرها في حيز واحد وإنما يحصر منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال والإمكان فحصل القصد من جهتها جزئيا لا كليا ولم تنضبط المنافع من جهتها قصدا لا في الوقوع وجودا ولا في العقد عليها شرعا لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى حد محدود وشئ معلوم وذلك كله جزئي لا كلي فإذا النظر إلى المنافع خصوصا نظر إلى جزئيات المنافع والكلي مقدم على الجزئي طبعا وعقلا وهو أيضا مقدم شرعا كما مر
فقد تبين من هذا على تسليم أن المقصود المنافع أن الذوات هي المقدمة المقصودة أولا المتبوعة وأن المنافع هي التابعة وظهر لك حكمة الشارع في إجازة (3/171)
ملك الرقاب لأجل المنافع وإن كانت غير معلومة ولا محصورة ومنع ملك المنافع خصوصا إلا على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع فهو معلوم من جهة الكلية الحاصلة بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها فإنها غير منضبطة في أنفسها ولا معلومة أمدا ولا حدا ولا قصدا ولا ثمنا ولا مثمونا فإذا ردت إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها والقصد في العادة إليها فإن أجازه الشارع جاز وإلا امتنع
وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هى المقصودة فالرقاب تابعة إذ هي الوسائل إلى المقصود فإن أراد أنها تابعة لها مطلقا فممنوع بما تقدم وإن أراد تبعية ما فمسلم ولا يلزم من ذلك محظور فإن الأمور الكلية قد تتبع جزئياتها بوجه ما ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقا وأيضا فالإيمان أصل الدين ثم إنك تجده وسيلة وشرطا في صحة العبادات حسبما نصوا عليه والشرط من توابع المشروط فيلزم إذا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هى الأصول والإيمان تابع لها أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصانها لكن ذلك باطل فلا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية (3/172)
وكذلك نقول إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول من حيث إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول فلا تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها وتحجيرها عن انتفاع صاحبها بها كالعقد على الأصول سواء وهو معنى الملك إلا أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها ومنقض بانقضائها فلم يسم في الشرع ولا في العرف ملكا وإن كان كذلك في المعنى لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي الذي لا ينقطع إلا بالموت أو بانتفاع صاحبها بها أو المعاوضة عليها وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي لأنه لما ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته وامتنع شراء الشيء على شرط فيه تحجير كشراء الأمة على أن يتخذها أم ولد أو على أن لا يبيع ولا يهب وما أشبه ذلك لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة فكأنه لم يملكها ملكا تاما وليس بشركة لأن الشركة على الشياع وهذا ليس كذلك وانظر في تعليل مالك المسألة في باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في - الموطأ فقد تبين أن هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم والحمد لله
والجواب عن الثالث أن ما ذكر فيه شاهد على صحة المسألة وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها على حكم التبعية للأصل فلما صار الأصل للمشترى ولم (3/173)
يكن ثم اشتراط وكانت قد أبرزت وتميزت بنفسها عن أصلها لم تنتقل المنفعة إليه بانتقال الأصل إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل إليه فلو صارت للمشتري إعمالا للتبعية لكان هذا العمل بعينه قطعا وإهمالا للتبعية بالنسبة إلى البائع وهو السابق في استحقاق التبعية فثبتت أنها دون المشتري وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل عنه أشبه الثمرة مع الأصل فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له فإن اشترطه المشترى فلا إشكال وإنما جاز اشتراطه وإن تعلق به المانع من أجل بقاء التبعية أيضا فإن الثمرة قبل الطيب مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه فأشبهت وصفا من أوصاف الأصل وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه وإن لم يجز شراؤه وحده لأنه ملك العبد وفي حوزه لا يملكه السيد إلا بحكم الانتزاع كالثمرة التى لم تطب
فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق غير أن مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية جهة البائع وجهة المشتري فكان البائع أولى لأنه المستحق الأول فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية وهذا واضح جدا
والجواب عن الرابع أن القصد إلى المنافع لا إشكال في حصوله على الجملة ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى النظر هل مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال أم هى مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه (3/174)
فإن قلت إنها مقصودة على حكم الاستقلال فغير صحيح لأن المنافع التي لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة ويجوز العقد عليها مع الأصل ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل فالقصد راجع إلى الأصل فالشجرة إذا اشتريت أو العبد قبل أن يتعلم خدمة أو صناعة ولم يستفد مالا والأرض قبل أن تكرى أو تزدرع وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع وغيرها لكن من جهة الأعيان والرقاب لا من جهة أنفس المنافع إذ هي غير موجودة بعد فليست بمقصودة إذا قصد الاستقلال وهو المراد بأنها غير مقصودة وإنما المقصود الأصل فالمنافع إنما هى كالأوصاف في الأصل كشراء العبد الكاتب لمنفعة الكتابة أو العالم للانتفاع بعلمه أو لغير ذلك من أوصافه التى لا تستقل في أنفسها ولا يمكن أن تستقل لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات قد (3/175)
زيد في أثمان الرقاب لأجلها فحصل لجهتها قسط من الثمن لا من حيث الاستقلال بل من حيث الرقاب وقد مر أن الرقاب هي ضوابط المنافع بالكلية وإذا ثبت اندفع التنافي والتناقض وصح الأصل المقرر والحمد لله وحاصل الأمر أن الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة وإنما توجه الطلب إلى المتبوع خاصة
فصل
وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم وهو أن منافع الرقاب وهى التى قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام
أحدها ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكما ولا وجودا كثمرة الشجر قبل الخروج وولد الحيوان قبل الحمل وخدمة العبد ووطء قبل حصول التهيئة وما أشبه ذلك فلا خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا غير مستقلة في الحكم إذ لم تبرز إلى الوجود فضلا عن أن تستقل فلا قصد إليها هنا ألبتة (3/176)
وحكمها التبعية كما لو انفردت فيه الرقبة بالاعتبار
والثاني ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودا وحكما أو حكما عاديا أو شرعيا كالثمرة بعد اليبس وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه ومال العبد بعد الانتزاع وما أشبه ذلك فلا خلاف أيضا أن حكم التبعية منقطع عنه وحكمه مع الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا لا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقا
والثالث ما فيه الشائبتان فمباينة الأصل فيه ظاهرة لكن على غير الاستقلال فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني وهو ضربان
الأول ما كان هذا المعنى فيه محسوسا كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة الأصل والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه وولد الحيوان قبل الاستغناء عن أمه ونحو ذلك والآخر ما كان في حكم المحسوس كمنافع العروض والحيوان والعقار وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات الفعلية كاللبس والركوب والوطء والخدمة والإستصناع والازدراع والسكنى وأشباه ذلك فكل واحد من الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه وانفرد عنه من وجه ولكن الحكم فيهما واحد فالطرفان يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم ولكن لما ثبتت التبعية (3/177)
على الجملة ارتفع توارد الطلبين عنه وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه ومن جهة أخرى لما برز التابع وصار مما يقصد تعلق الغرض في المعاوضة عليه أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة ولا ينازع في هذا أيضا إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال ولا العبد الكاتب كالعبد غير الكاتب فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه
وأيضا فليس تجاذب الطرفين على حد واحد بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال ولا يقوى في حال أخرى وأنت تعلم أن الثمرة حين برزوها الإبار ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار وقبل بدو الصلاح ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح وقبل اليبس فإنها قبل الإبار للمشترى فإذا أبرت فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له عند الأكثر فإذا بدا صلاحها فقد قربت من الاستقلال وبعدت من التبعية فجاز بيعها بانفرادها ولكن من اعتبر الاستقلال قال هي مبيعة على حكم الجذ كما لو يبست على رءوس الشجر فلا جائحة فيها ومن اعتبر عدم الاستقلال وأبقى (3/178)
حكم التبعية قال حكمها على التبعية لما بقي من مقاصد الأصل فيها ووضع فيها الجوائح اعتبارا بأنها لما افتقرت إلى الأصل كانت كالمضمونة إليه التابعة له فكأنها على ملك صاحب الأصل وحين تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها لأن اليسير في الكثير كالتبع ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح هل هو على البائع أم على المبتاع فإذا انتهى الطيب في الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة من بقاء النضارة وحفظ المائية اختلف هل بقي فيها حكم الجائحة أم لا بناء على أنها استقلت بنفسها وخرجت عن تبعية الأصل مطلقا أم لا فإذا انقطعت المائية والنظارة اتفق الجميع على حكم الاستقلال فانقطعت التبعية وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل تحت هذه الترجمة
فصل
وعلى هذا الأصل تتركب فوائد
منها أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جار في الحكم مجرى التابع (3/179)
والمتبوع المتفق عليه ما لم يعارضه أصل آخر كمسألة الإجارة على الإمامة مع الأذان أو خدمة المسجد ومسألة اكتراء الدار تكون فيها الشجرة أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض اليسير ومسألة الصرف والبيع إذا (3/180)
كان أحدهما يسيرا وما أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس أو في القصد أو في المعنى ويكون بينها قلة وكثرة فإن للقليل مع الكثير حكم التبعية ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدا فكان كالملغى حكما
ومنها أن كل تابع قصد فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة على الجملة لا على التفصيل أم هي مقصودة على الجملة والتفصيل والحق الذي تقتضيه التبعية أن يكون القصد جمليا لا تفصيليا إذ لو كان تفصيليا لصار إلى حكم الاستقلال فكان النهي واردا عليه فامتنع وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد فإن كان جمليا صح بحكم التبعية وإذا ثبت حكم التبعية فله جهتان جهة زيادة الثمن لأجله وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه فإذا فات ذلك التابع فهل يرجع بقيمته أم لا يختلف في ذلك ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط كالعبد إذا رد بعيب وقد كان أتلف ماله فهل يرجع (3/181)
على البائع بالثمن كله أم لا وكذلك ثمرة الشجرة وصوف الغنم وأشباه ذلك
ومنها قاعدة الخراج بالضمان فالخراج تابع للأصل فإذا كان الملك حاصلا فيه شرعا فمنافعه تابعة سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أو لا فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك كان كانتقال الملك على الاستئناف وتأمل مسائل الرجوع بالغلات في الاستحقاق أو عدم الرجوع تجدها جارية على هذا الأصل
ومنها في تضمين الصناع ما كان تابعا للشيء المستصنع فيه هل يضمنه الصانع كجفن السيف ومنديل الثوب وطبق الخبز ونسخة الكتاب (3/182)
المستنسخ ووعاء القمح ونحو ذلك بناء على أنه تابع كما يضمن نفس المستصنع أم لا فلا يضمن لأنه وديعة عند الصانع
ومنها في الصرف ما كان من حلية السيف والمصحف ونحوهما تابعا وغير تابع ومسائل هذا الباب كثيرة
فصل
ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه وما فيه منفعة أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام
أحدها أن يكون جميعها حراما أن ينتفع به فلا إشكال في أنه جار (3/183)
مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة والثاني أن يكون جميعها حلالا فلا إشكال في صحة العقد به وعليه وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيد أن يوجدا في الخارج إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في - كتاب المقاصد فلا بد من هذا الاعتبار وهو ظاهر بالاستقراء فيرجع القسمان إذا إلى القسم الثالث وهو أن يكون بعض المنافع حلالا وبعضها حراما فههنا معظم نظر المسألة وهو أولا ضربان
أحدهما أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفا والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص وعلى خلاف العادة فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف والآخر لا حكم له لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأجل منافعه لأن فيه منافع محرمة وهو من الأدلة على سقوط الطلب في جهة التابع وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب فكذلك ههنا (3/184)
اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص فإن هذا يحتمل وجهين
الأول اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع وإن كان مقصودا فيرجع إلى الضرب الأول والآخر اعتبار القصد الطارئ إذ صار بطريانه سابقا أو كالسابق وما سواه كالتابع فيكون الحكم له ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسبا به وشراء الغلام للفجور به وشراء العنب ليعصر خمرا والسلاح لقطع الطريق وبعض الأشياء للتدليس بها وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع (3/185)
ذلك وشراء السرقين لتدمين المزارع وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس وما أشبه ذلك
والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من على الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم فوجه التحليل والتحريم على أنفس الأعيان لأن المقصود مفهوم وكذلك قال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وأشباهه وإن كان ذلك محرما في غير الأكل لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع ومالا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها وقيل للنبي عليه الصلاةوالسلام في شحم الميتة إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس فأورد ما دل على منع البيع ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات لأن المقصود هو الأكل محرم وقال
لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها (3/186)
وقال في الخمر
إن الذي حرم شربها حرم بيعها وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم وما سواه تبع لا حكم له
ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ولم يكن قصده البقاء لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ولا تعتبر في أنفسها وإنما تعتبر من حيث هي توابع ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة بل لم يجز النكاح لأن الرجل إذا نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ولخصوص الحديث (3/187)
في سؤالهم عن شحم الميتة وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام
فإن صار التابع غالبا في القصد وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى يعود ما كان بالإصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ولكن أن فرض اتفاقه انقلب الحكم والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير (3/188)
فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع وكثرة ذلك في ضم العقدين ومن لا يراها بني على أصل القصد في انفكاك العقدين عرفا وأن القصد الأصلي خلاف ذلك
والضرب الثاني أن لا يكون أحد الجانبين تبعا في القصد العادي بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلى والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي لأن متعلقيهما متلازمان فلا بد من انفراد أحدهما وإطراح الآخر حكما أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع وأما على عدم اعتباوها فيصير التابع عفوا ويبقى التعيين فهو محل اجتهاد وموضع إشكال ويقل وقوع (3/189)
مثل هذا في الشريعة وإذا فرض وقوعه فكل أحد وما أداه إليه اجتهاده
وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع ينبغي أن يلحق بالممنوع لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة فمنع الكل لاستحالة التمييز وإن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولا لو قدر انفراده بالعقد هذا ما قال وهو متوجه
وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ههنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا لأن درء المفاسد مقدم ولأن قاعدة التعاون هنا تقضى بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدا وشراء السلاح لقطع الطريق وشراء (3/190)