ص -542-…كانت سببًا في وصولها إليك، والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم؛ فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببًا فيها كذلك أيضًا.
وهذا النظر ذكره الغزالي في "الإحياء"1، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا [بين] نهي ونهي؛ فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق، ثم أوجه أخر يكفي منها ما2 ذكر، وهذا النظر3 راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه؛ إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقوله4 الجمهور بحسب التصور5 النظري، وإنما أخذوا في نمط آخر، وهو أنه لا يليق بمن يقال له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مساحة العبد لسيده في طلب حقوقه، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئًا في6 الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد، بل عليه بذل المجهود، والرب يفعل ما يريد.
فصل
ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعًا؛ ثبت أن المخالف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "4/ 88".
2 في "ط": "لما".
3 أي: الذي بنى عليه هذه المسألة كلها وهو الاعتبار الصوفي. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يقول".
5 أو كما قال في صدر المسألة: "بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر". "د".
6 في "د": "لا في...".(7/279)
ص -543-…مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة، من حيث هي مخالفة الأمر1 أو النهي، أو من حيث ناقضت التقرب، أو من حيث ناقضت وضع المصالح، أو من حيث كانت كفرانًا للنعمة.
ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص، ومذهبهم الأخذ بالعزائم، وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف؛ فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه، وإذا كان مرجوحا؛ فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة؛ فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة2 في الجملة، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة.
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة".3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب للطريق الأول في كلامه أن يقول: "مخالفة الأمر والنهي"، كما يناسب أن يزيد بعد قوله: "ناقضت وضع المصالح"؛ فيقول: "أو من حيث لم يأتِ بالفرائض على كمالها المطلوب" ليكون تفريعًا على الشق الثاني من الاعتبار الثاني من الطريق الثاني". "د".
2 أي: فيحتاج هذا المباح إلى التوبة. "د". وفي "ط": "الوجه مخالف".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات: باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، 11/ 101/ رقم 6307" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "والله؛ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وأخرجه بلفظ المصنف النسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 431" عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي آخره "مائة مرة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، 4/ 2075-2076" عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".(7/280)
ص -544-…وقوله: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله" الحديث1.
ويشمله عموم قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31].
ولأجله أيضًا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصًا وحرمانًا؛ فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقضيه المرتبة التي دونها، والعاقل لا يرضى بالدون، ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقًا، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين [وأصحاب الشمال والسابقين، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين]2، وقال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ3، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منة، 4/ 2075" عن الأغر المزني مرفوعًا: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
وأخرجه من حديثه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 260"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، رقم 1515"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 442"، والطبراني في "الكبير" "رقم 888، 889".
ومعنى "ليغان" ما قاله "ف": "أي: ليغطى عليه، من قولهم: غين على الرجل كذا أي: غطى عليه".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط" و"م"، وسقط من الأصل و"د".(7/281)
3 أي: وهم السابقون كما قال في أول السورة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11]؛ فالمقربون لهم روح وريحان وجنة نعيم، ولم نضف مثل ذلك لأصحاب اليمين، وإنما اضاف إليهم السلامة من العذاب من جهة أنهم من أصحاب اليمين؛ فدل على تفاوت مراتب الكمال وفضل السابقين المقربين مع أن الكل من أصحاب اليمين، هذا بالنظر للآية التي جمع فيها أصحاب اليمين مع السابقين الذين هم المقربون، وإن كان أسند في أول السورة إلى أصحاب اليمين أنهم: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 28-29] إلى آخر النعم التي أعدها لهم. "د".(7/282)
ص -545-…الآية: [الواقعة: 88-89]؛ فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان1 الفضائل، حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصًا، ومن لم يعمر أنفاسه بطالًا2.
وهذا مجال لا مقال فيه، وعليه أيضًا نبه حديث الندامة يوم القيامة3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ميزان"، وفي "ط": "يتجاوزوا في الميدان".
2 في الأصل: "باطلًا".
3 أخرج الترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب منه، 4/ 603-604/ رقم 2403"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2660"، والدارمي في "السنن" "رقم 11"، وابن الشجري في "الأمالي" "2/ 35"، والبغوي في "التفسير" "4/ 247"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 178" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يموت إلا ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع"، قال "د": "وبتطبيقه على عبارته تجد تفاوتا في المعنى؛ فالحديث فيه الندم لكل شخص عند موته، وأما كون ذلك يوم القيامة للجميع دفعة؛ فيحتاج إلى دليل غير هذا الحديث، وأيضًا معنى "نزع" غير معنى "أحسن"؛ فلعله اطلع على غير هذا الحديث، أما الأخذ بالمعنى في هذا؛ فلا يصح الجواب به لأنه يشترط فيه اتحاد المعنى وإن لم يكن مستوفيًا لجميع مضمون الحديث، ومع ذلك؛ فحديث الترمذي بنفسه كاف في غرضه".
قلت: حسرة أهل النار يوم القيامة ثابتة واردة في القرآن، أما أهل الجنة؛ فورد في ذلك أحاديث مرفوعة، أصرحها ما أخرجه الخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 164 – بتحقيقي" بسنده إلى معاذ بن جبل رفعه: "ما يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت لم يذكروا الله فيها".
وإسناده ساقط، فيه عبد الله بن الحسين المصيصي، قال ابن حبان: "يسرق الأخبار ويقلبها، لا يحتج بما انفرد به".(7/283)
وأصحها ما أخرجه أحمد "2/ 463"، وابن حبان "2322 – موارد" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة للثواب"، وإسناده صحيح.
وأخرج نحوه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "321"، والنسائي في "الكبرى" –كما في "تحفة الأشراف" "3/ 349"، والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" "55" عن أبي سعيد الخدري، وتمام التخريج تجده في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم.(7/284)
ص -546-…حيث تعم الخلائق كلهم؛ فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن، والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانًا.
فإن قيل: هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال، وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها.
فالجواب: أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق، وإنما هو إثبات راجح وأرجح، وهذا موجود.
وقد ثبت أن الجنة مائة درجة1، ولا شك في تفاوتها2 في الأكملية والأرجحية، وقال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم} [البقرة: 253].
[وقال: {فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض} [الإسراء: 55]3.
ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة؛ إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها؛ فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، 6/ 11/ رقم 2790، وكتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، 13/ 404/ رقم 7423" ضمن حديث طويل عن أبي هريرة، فيه: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض...".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، 6/ 320/ رقم 3256"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يُرى الكوكب في السماء، 4/ 2177/ رقم 2831" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم".
3 سقط من "ط".(7/285)
ص -547-…المراتب مع إمكان الرقي، وتتحسر إذا رأت شفوف1 ما فوقها عليها، كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال؛ كالكفار، وأصحاب الكبائر من المسلمين، وما أشبه ذلك.
ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار وقال: "في كل دور الأنصار خير"2. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! خُيِّر دور الأنصار فجُعِلنا3 آخرًا. فقال: "أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟"4.
وفي حديث آخر: "قد فضلكم على كثير"5.
فهذا يشير إلى رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال، وإن كان لها مراتب أيضًا؛ فلا تعارض بينهما، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فضل ما فوقها عليها زيادة ما هو فيه من نعمة وخير. "ف".
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949-1950/ رقم 2511" عن أبي سعيد الساعدي رضي الله عنه مرفوعًا.
وفي الباب عن أبي حميد كما سيأتي قريبًا. وفي "ط": "وفي كل...".
3 الرواية كما في البخاري في مناقب الأنصار بصيغة المبني للمجهول في خير وجعل، وهذا هو ما يقتضيه سياق الكلام، لا بصيغة الأمر كما في أصل النسخة؛ أي: فمع أنهم من الخيار لم يقنعوا بذلك، ولم يرضوا بمرتبة دون ما فوقها، وبهذا صح الاستدلال به على فضل تطلب المراتب العالية. "د". وفي هذا رد على "ف" حيث قال: "ولعله واجعلنا" طلب المفاضلة، ولو بجعله آخرًا". وضبط ناسخ "ط": "خير" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3791"عن أبي حميد الساعدي به.(7/286)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789" عن أبي أسيد مرفوعًا، وهو قطعة من الحديث قبل السابق.(7/287)
ص -548-…وقد يقال: إن قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"1 راجع2 إلى هذا المعنى، وهو ظاهر [فيه]3، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته "التوبة" "ص45" بعد كلام: "وبهذا يعرف قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، مع أن هذا اللفظ ليس محفوظًا عمن قوله حجة؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو كلام وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى فاسد.
أما معناه الصحيح؛ فوجهان:
أحدهما: أن الأبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات، وهذا الاقتصار سيئة في طريق المقربين، ومعنى كونه سيئة أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين؛ فيحرم درجاتهم، وذلك مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين؛ فكل من أحب شيئًا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه ساءه ذلك؛ فالمقربون يتوبون من الاقتصار على الواجبات، لا يتوبون من نفس الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار، بل يتوبون من الاقتصار عليها، وفرق بين التوبة من فعل الحسن وبين التوبة من ترك الأحسن والاقتصار على الحسن.
الثاني: أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنًا منه؛ إما واجبًا، وإما مستحبًّا لأن ذلك مبلغ علمه وقدرته، ومن يكون أعلم منه وأقدر لا يؤمر بذلك، بل يؤمر بما هو أعلى منه، فلو فعل هذا ما فعله الأول كان ذلك سيئة"، ثم قال بعد أن ذكر أمثلة:(7/288)
"وأما المعنى الفاسد؛ فأن يظن الظان أن الحسنات التي أمر الله بها أمرًا عاما يدخل فيه الأبرار ويكون سيئات للمقربين، مثل من يظن أن الصلوات الخمس ومحبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله ونحو ذلك هي سيئات في حق المقربين؛ فهذا قول فاسد غلا فيه قوم من الزنادقة المنافقين المنتسبين إلى العلماء والعباد؛ فزعموا أنهم يصلون إلى مقام المقربين الذي لا يؤمرون فيه بما يؤمر به عموم المؤمنين من الواجبات، ولا يحرم عليهم ما يحرم على عموم المؤمنين من المحرمات؛ كالزنا، والخمر، والميسر، وكذلك زعم قوم في أحوال القلوب التي يؤمر بها جميع المؤمنين أن المقربين لا تكون هذه حسنات في حقهم، وكلا هذين من أخبث الأقوال وأفسدها".
2 أي: يعتبرها المقربون سيئات لنقص رتبتها عن مراتب فوقها، وهو من هذا الباب. "د".
3 سقط من "ط".(7/289)
ص -549-…المسألة السابعة عشرة:
تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق1 لله [وما هو حق للعباد وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله]2 كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله؛ فنقول: الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله تعالى مجردا3 عن النظر في غير ذلك، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلًا بقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]؛ فلامتثاله هذا الأمر مأخذان:
أحدهما: وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى [قدرته على] قطع الطريق، وإلى زاد يبلغه، وإلى مركوب يستعين به، وإلى الطريق إن كان مخوفا أو مأمونا، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها4، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة، فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات؛ انتهض للامتثال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: صرف، والله غني عنه؛ فهو راجع إلى مصلحة العباد دنيا أو أخرى، وهو العبادات والتحليل والتحريم وحفظ الضروريات الخمس وغير ذلك، ومنها ما كان حقا لله والعبد، ولكن حق الله مغلب؛ كحفظ النفس؛ إذ ليس للعبد إسلام نفسه للقتل، والثالث ما اشترك فيه الحقان، وحق العبد مغلب؛ كالعتق للعبد مثلا، هذا ولكنه في التفريع أجمل، ومع كونه أطلق في العبادات أنها حق الله؛ فإنه هنا جعل شروط الوجوب من حق المكلف، وهذا معقول. "د".
2 سقط من "ط".
3 أي: فلا يعتبر حق العبد مطلقًا بجانب حق الله، بل كأنه ليس للعبد حق أصلًا، ولا يقال: إنه تتعارض الأوامر التعلقة بحق الله تعالى حينئذ مع الأوامر المتعلقة بحق العبد؛ لأن هذه تعتبر رخصًا والأولى عزائم، ولا تعارض بينهما. "د".
4 في "د": "وغرورها".(7/290)
ص -550-…وإن تعذر عليه ذلك؛ علم أن الخطاب لم ينحتم1 عليه.
والثاني: أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى، غافلا ومعرضا2 عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه، لا يثنه عنه إلا العجز الحالي3 أو الموت آخذا للاستطاعة4 أنها باقية ما بقي من رمقه بقية، وأن الطوارق5 العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقط، أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني، حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام.
وهكذا سائر الأوامر والنواهي.
فأما المأخذ الأول: فجارٍ على اعتبار حقوق العباد؛ لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا نظر في تحقق شروط الوجوب في نفسه وعدم تحققها ولم يجدها متحققة، أو بعضها عرف أن الطلب لم ينحتم، يعني: ولكنه لا يزال متوجهًا بدليل أنه إذا عالج الذهاب للحج مثلًا حتى أداه صح وكان طاعة، ولا يكون كذلك إلا والطلب الأصلي متوجه، ويكون عدم إثمه بعدم الفعل رخصة، وإن كانت بالمعنى الأعم؛ لأن قيام السبب لحكم الوجوب ليس كاملًا. "د".
2 في "ط": "أو معرضًا".
3 أي: الحاصل بالفعل، لا ما يطرأ في تقديره باعتبار؛ فقد بعض الشروط والأسباب العادية. "د".
4 هو حال من فاعل ينتهض والمعنى معتبرًا وملاحظا أن الاستطاعة باقية ما بقي فيه رمق. "ف".
5 لعلها: "الطوارئ" بالهمز؛ فإنها بالقاف من الطرق أو الطروق وهو القدوم ليلًا مثلًا لا تناسب، وكثيرًا ما تقدمت في كلامه بالهمز لا بالقاف، وقوله: "أو ليست بطوارئ" نظر أرقى مما قبله. "د".
6 فكأن الحق لله في هذه العبادة يثبت حتما عند استيفاء شروطها، فإذا لم تستوفِ؛ كان من حق العباد التخلي عنها. "د". وفي "ط": "في الاستطاعة راجع في الاستطاعة المشروعة راجع إليها".(7/291)
ص -551-…وأما الثاني؛ فجارٍ على إسقاط اعتبارها، وقد تقدم1 ما يدل على صحة ذلك الإسقاط، ومن الدليل أيضًا على صحة هذا المأخذ أشياء:
أحدها: ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق، وأن على الله ضمان الرزق، كان ذلك مع تعاطي الأسباب أو لا2؛ كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57].
[وقوله]3: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد؛ فالمقدم حق الله، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى، والرزق من أعظم حقوق العباد؛ فاقتضى الكلام أن من اشتغل4 بعبادة الله كفاه الله مؤنة الرزق، وإذا ثبت هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة السابعة من الأسباب، وأن ذلك لصاحب الحال الذي يغلب عليه أن الأسباب والمسببات بيد الله، وأنه لا أثر مطلقا لهذه الأسباب، ويغفل عن العادة الموضوعة في الأسباب. "د".
2 تقدم في المسألة الثانية من الأسباب أن قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132]، وأمثاله مما ضمن فيه الرزق ليس راجعًا إلى التسبب، بل إلى الرزق المتسبب فيه، ولو كان المراد التسبب؛ لما طلب المكلف بتكسب على حال، ولو بجعل اللقمة في الفم أو ازدراع الحب... إلخ، لكن ذلك باطل باتفاق، وقوله: "فهذا واضح... إلخ" هو من الخفاء بمكان؛ لأنه أين التعارض في الآيتين، وأين الترجيح بعد ما قال سابقا: إن ضمان الرزق لا شأن له بالتسبب كما عرفت؟ وكما سيأتي لنا في الدليل الثالث في آية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132].
3 سقط من "ط".(7/292)
4 يعني: دون أن يدخل في الأسباب الموضوعة لذلك، لكن أين هذا من الآيات ولم يكن في الآيات تعليق؟ ولو ضمنيًّا يقتضي أن تترك الأسباب رأسًا؛ فيأتي الرزق بمجرد الاشتغال بالعبادة والواقع والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا رابطة بين الرزق والإيمان، فضلًا عن سائر الطاعات، =(7/293)
ص -552-…في الرزق؛ ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة، وذلك لأن الله قادر على الجميع.
وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}1 [يونس: 107].
وفي الآية الأخرى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 71].
وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}2 [الطلاق: 3] بعد قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
فمن اشتغل بتقوى الله تعالى؛ فالله كافيه، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بل ربما كان الآمر بالعكس، وأن سعة الرزق لغير المؤمنين، ويدل عليه حديث عمر: "ادع الله أن يوسع على أمتك"، فقال له: "أفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم..." إلخ، وأما آيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]؛ فمحل الجزاء قوله: {مِنْ حَيْثُ} كما يدل عليه الحديث في قصة رجل أشجع المتقدمة في المسألة الثانية في الرخص، وسيأتي لنا كلام آخر في الدليل الثالث يتعلق بهذا المبحث. "د".
1 أي: أيُّ ضر وأيُّ خير أراده لك؟! فليس لغيره دفعه عنك ولا جلبه إليك، لا يغالبه أحد، هذا ظاهر، ولكنه كلفنا فيما وضع له أسبابًا بالأخذ فيها وإن لم يكن لها تأثير في الفعل. "د".
2 نعم، وقد ورد "اعقلها وتوكل"*، و: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا"**؛ فالطير التي شبه بها من يتوكل نهاية التوكل تأخذ في الأسباب فتغدو وتروح؛ فلا منافاة بين التوكل واعتقاد أن الأسباب لا أثر لها رأسا، وأنه تعالى خالق السبب والمسبب معًا مع امتثال الأمر بالأخذ في السبب. "د".(7/294)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه "1/ 304".
** انظر تخريجه "1/ 303".(7/295)
ص -553-…والثاني: ما جاء في السنة من ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئًا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئًا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه"1 الحديث؛ فهو كله نص في ترك الاعتماد2 على الأسباب، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"، والبيهقي في "الأسماء" "رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ 2516" –قال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41-43" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم الليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره". وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح.(7/296)
2 ترك الاعتماد على الأسباب ليس تركًا للأسباب؛ لأن الاعتماد عليها عند المؤمن معناه النظر إليها بأنها إن لم تكن لا يوجد الله المسبب، كما هو مجرى العادة، وعدم الاعتماد عليها بهذا المعنى لا ينافي الأخذ بها امتثالًا للأمر مع إغفال مجرى العادة، كما هو دأب من يغلب عليهم شهود التوحيد في الأفعال. "د".(7/297)
ص -554-…وأحاديث الرزق والأجل1؛ كقوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد"2.
وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد: "إن يَكُنْهُ؛ فلا تطيقه"3.
وقال: "جف القلم بما أنت لاقٍ"4.
وقال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح فإن لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وغيرهما؛ فالحديثان الأولان فيهما، والباقي في أمور أخرى تتعلق بالقدر أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، 2/ 325/ رقم 844، وكتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، 11/ 306/ رقم 6473" مختصرًا و"كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 414-415/ رقم 593" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا.
قال "ف": "الجَد؛ بالفتح: الغنى والحظ، ومنك معناه عندك، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه عمله بالطاعات كما قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]" ا. هـ.
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، 4/ 2240/ رقم 2924" عن عبد الله بن مسعود بلفظ: "إن يكن الذي ترى؛ فلن تستطيع قتله".
وأخرجه "4/ 2244/ رقم 2930" عن عمر بلفظ: "إن يكنه فلن تسلط عليه".
قال "د": "أي: إنه مهما كان لديك من قوة السبب والقدرة على قتل مثله فلن تقتله؛ لأن ما في قدر الله ليس كذلك".(7/298)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، 9/ 117/ رقم 5076" عن أبي هريرة؛ قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت له مثل ذلك؛ فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة!..." وذكره.(7/299)
ص -555-…ما قدر لها"1.
وقال في العزل: "ولا عليكم أن لا تفعلوا؛ فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة"2.
وفي الحديث: "المعصوم من عصم [الله]3.
وقال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}، 11/ 494/ رقم 6601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، 2/ 1033/ رقم 1413" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العتق، باب من ملك من الأعراب رقيقا... 5/ 170/ رقم 2542، وكتاب النكاح، باب العزل، 9/ 305/ رقم 5210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب حكم العزل، 2/ 1061/ رقم 1438" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب المعصوم من عصم الله، 11-501/ رقم 6611، وكتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته، 13/ 189/ رقم 7198" عن أبي سعيد مرفوعًا، ونصه: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفته؛ إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمر بالمعروف وتخضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله تعالي". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 29، 88" وغيره. وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاستئذان، باب زنى الجوارح دون الفرج، رقم 6243، وكتاب القدر، باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}، رقم 6612"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القدر القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، 4/ 2046/ رقم 2657" عن أبي هريرة رضي الله عنه.(7/300)
قال "د": "وهو وما قبله من الأحاديث التي تذكر في باب القدر، وهو مقام آخر غير طلب التسبب المطلوب في العبادات والعادات، ولذلك لما ورد معناها على الصحابة فهموا منها ترك الأسباب، وقالوا: أفلا نتكل؟ قال عليه الصلاة والسلام: "اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له"1، فلماذا تأتي بها دليلًا على خصوص ترك الأسباب في العادات مع أنها عامة كما ترى؟ ولو أخذت كذلك؛ لوقف التسبب في الطاعات أيضًا، وبالجملة؛ فالمأخذان المذكوران غير ظاهرين لأنهما في مقام آخر لا ينافي الأخذ بالأسباب" "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تخريجه: "1/ 334".(7/301)
ص -556-…إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب، وأنها لا تملك شيئًا، ولا ترد شيئًا، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى.
والثالث: ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم [وسلامه]1؛ فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم، فقد قام عليه الصلاة والسلام حتى تفطرت2 قدماه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل.
2 الشواهد التي ساقها المؤلف هنا محل بحث، أما قيامه عليه السلام حتى تفطرت قدماه؛ فإنما يصح أن يكون دليلًا إذا ثبت أنه في ذلك زاد عما طلب منه حتمًا على وجه الخصوصية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1]، وقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا؟" جوابا لمن قال له: لِمَ تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ لا ينافي أن يكون الشكر بالامتثال، وأما تبليغه رسالة ربه على خوف من قومه؛ فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ حتمًا، {قُمْ فَأَنْذِرْ...} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 2-7]، وهذا في أول الأوامر بالتبليغ جاء حتما، ومثله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، واقترن الأمر الحتم بكفالة التأييد {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 94-95]، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ....} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36-37]، وما وصل إليه الأمر بالتبليغ إلا بعد أن ثبته الله تعالى وطمأنه باطلاعه على باهر قدرته، وعظيم جنده المالئين للسماوات =(7/302)
ص -557-…..................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والأرض، وأن واحدا من الجند كجبريل الذي أراه له قبل ذلك1 على هيئته الأصلية يستطيع سحق الأرض ومن عليها، بعد هذا كله جاء له الأمر الحتم بالتبليغ مع قرنه بالتأييد على ما عرفت، وقد سبق للمؤلف أنه لا ينحصر التسبب في الأسباب المشهورة، وأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد قوتا أمر أهله بالصلاة"2 أخذا من قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ...} [طه: 132]، وأن ذلك سبب خاص للرزق من باب الكرامة له عليه السلام وهو يحقق ما قلناه في الدليل الأول؛ فلا تؤخذ الآية عامة للاستدلال بها على ما يريد؛ فكيف يعد هذا مما نحن فيه، وأنه مع دواعي خوفه وعدم استكمال الشروط أو الأسباب بلغ الرسالة؛ لكنه لو قال: إنه في تبليغ الرسالة زاد عما طلب منه؛ فكان شديد الحرص على إيمان قومه وتلبية دعوته، وكان يعمل لذلك فوق الجهد والطاقة، ويألم أشد الألم لعدم مسارعتهم إلى الإيمان وإجابة الدعوة؛ حتى وردت الآيات لتخفف عنه ما كان يجد مثل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 99]، وأمثال ذلك، وقد لاحظ صلى الله عليه وسلم أصل الأمر بالدعوة جادا فيه معرضا عما سوى ذلك، نعم، هذا هو الذي يصح أن يعد دليلا على مدعاه، وآية: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] تؤيد ما ذكرنا؛ فإن عدم خشية غيره تعالى ما جاء إلا من التأييد بالقوة التي عرفوها واطمأنوا إليها مع الوعد بذلك؛ ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما عرضت عليه الرسالة لفرعون طلب أولا تقويته بهارون الأفصح منه، وأنه يخاف قتله قصاصا لمن قتله من قوم فرعون، فلما ضم إليه هارون؛ قالا معا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}(7/303)
[طه: 45]، فلما سمعا التأييد بقوله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] سارعا إلى تنفيذ المطلوب بدون خوف من جند فرعون وصولته، وقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] أبلغ دليل على أنه مأمور عالم أنه مؤيد غاية التأييد؛ فليس مما نحن فيه أيضًا، وإلا لكان إلقاء باليد إلى التهلكة بدون موجب، وليس هناك فائدة تعود على هداية قومه التي ندبه الله لها من تسليط أمته بأجمعها على كيده والفتك به، نعم، إن مسألتي ابن أم مكتوم وجندع بن ضمرة وأخيه3 مما نحن فيه؛ فإنهم أخذوا بالأمر: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] بدون نظر إلى الرخصة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، وذلك داخل في الرخصة بالإطلاق الأول المشهور؛ إذ أن ذلك جاء بلفظ رفع الحرج أي مع بقاء أصل الطلب متوجها وإن لم يكن حتما. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما هو ثابت في "صحيح البخاري" "رقم 3232، 4856، 4857" وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 انظر تخريجه "1/ 333".
3 سيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف قريبًا.(7/304)
ص -558-…وقال: "أفلا أكون عبدا شكورا"1.
وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف2 [من قومه حين تمالئوا على إهلاكه]، ولكن الله عصمه وقال الله له: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].
وقال له: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48].
فأمره باطراح ما يتوقاه؛ فإن الله حسبه3.
وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819" وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2 لو قال: على ما تراكم حوله من دواعي الخوف من قومه مثلا؛ لكان أليق؛ فسيأتي في وصف الرسل: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، فلم يبلغها وعنده شيء من الخوف. "د". وما بين المعقوفتين بعدها سقط من "ط".
3 أي: كافيه شرهم وأذاهم؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. "ف".(7/305)
ص -559-…وقال قبل ذلك: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].
وقال هود عليه السلام لقومه وهو يبلغهم الرسالة: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الآية [هود: 55-56].
وقال موسى وهارون عليهما السلام: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45].
فقال الله لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وكان عبد الله بن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، ولكنه كان بعد ذلك يقول: إني أعمى لا أستطيع أن أفر؛ فادفعوا إليَّ اللواء وأقعدوني بين الصفين1. فيترك ما منح من الرخصة، ويقدم حق الله على حق نفسه.
ورُوي عن جندع2 بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا، فلما أمروا بالهجرة وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه، ولا تكليف بما لا يطاق؛ قال لبنيه: "إني أجد حيلة فلا أعذر، احملوني على سرير". فحملوه، فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله ويقول: "هذا لك وهذا لرسولك"3 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه عبد الله بن المبارك في كتابه "الجهاد" "رقم 110"، وفي إسناده ضعف.
2 أوله جيم مضمومة بعدها نون ساكنة، ودال مهملة مفتوحة، انظر: "الإكمال" "3/ 125"، و"المؤتلف والمختلف" "ص933" للدارقطني، وفي الأصل: "جندب".
3 أخرج ابن جرير في "التفسير" "5/ 240"، وأبو يعلى في "المسند" "5/ 81/ رقم 2679" والواحدي في "أسباب النزول" "132"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 372"- وابن منده وعبد الغني بن سعيد في "تفسيره" -وهو الثقفي، أحد الضعفاء- كما في "الإصابة" "1/ 252-253" من طريقين عن ابن عباس نحوه، وفي كل منهما ضعف؛ =(7/306)
ص -560-…وعن بعض الصحابة أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخٌ لي أحدا، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو؛ قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل؛ فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عُقْبة1 ومشى عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وفى النقل من هذا النحو كثير، وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية.
فإن قيل: إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة، أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد، وهذا غير صحيح؛ لأن الشارع وضعها وأمر بها، واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه2 والتابعون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ففي أحدهما أشعث بن سوار وعبد الرحمن بن زياد المحاربي وهما ضعيفان، وفي الأخرى شريك، وهو ضعيف لسوء حفظه.
وأخرجه الفاكهي "4/ 62/ رقم 2382"، والأزرقي "2/ 212"، كلاهما في "أخبار مكة"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 239"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 14"، وعبد الرزاق في "التفسير" "1/ 171"، وعبد بن حميد وابن المنذر -كما في "الدر المنثور" "2/ 208"- بإسناد صحيح إلى عكرمة نحوه.
وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" "رقم 2384" عن ابن جريج نحوه، وأخرجه البلاذري والسراج من طريق سعيد بن جبير نحوه؛ كما في "الإصابة" "1/ 252".
فالقصة مدارها على المراسيل، والمرفوع منها ضعيف، وفيها يذكر سبب نزول قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء: 100].
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 352-352".
1 عُقْبة؛ بضم فسكون: النوبة والشوط، وانظر إلى هذه النية الخالصة والجهاد العظيم رضي الله عنهم، ولذلك كانوا خير القرون. "ف".(7/307)
2 في "ط": "والصحابة".(7/308)
ص -561-…بعده وهي عمدة ما حافظت عليه الشريعة.
وأيضًا؛ فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب؛ فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة، ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات؛ فكيف يقال: إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد، وإن كانت واجبة؟ هذا [مما] لا يستقيم في النظر.
وأيضًا؛ فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر؛ كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}1 الآية [البقرة: 197].
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعد الأسباب لمعاشه وسائر أعماله من جهاد وغيره، ويعمل بمثل ذلك أصحابه، والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات، وما تقدم لا يقتضيه2؛ فلا بد من صحة أحدهما، وإن صح بطل الآخر، وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه، والترجيح من غير دليل تحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يقال: إن هذه الآية على تفسيرها بالنهي عما يؤدي بالنفس إلى هلاكها لا تصلح دليلا هنا؛ لأن هذا ليس من حقوق العباد، بل من حق الله تعالى؛ كما تقدم للمؤلف أن حفظ النفس من حق الله تعالى، وكما قال هنا: "وسائر الضروريات المراعاة... إلخ"؛ فلا يجوز للشخص أن يسلم نفسه للهلاك، وكذا يقال في آية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}؛ فإنها وإن كان ظاهرها طلب الأخذ بأسباب حفظ النفس من الأعداء؛ فهي في الحقيقة طلب إعداد آلة الجهاد في سبيل الله؛ فهو واجب مكمل لواجب الجهاد الذي هو من حق الله تعالى قطعا. "د".
2 يريد: بل يقتضي خلافه، أما مجرد كونه لا يقتضيه؛ فلا يقتضي أنه ينافيه ويعارضه حتى يطلب التخلص منه. "د".(7/309)
ص -562-…فالجواب: أن ما نقدم لا يدل على اطراح الأسباب، بل يدل على تقديم1 بعض الأسباب خاصة2 -وهى الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى- على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد، على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه؛ فليس بين ذلك وبين أمره عليه الصلاة والسلام بالأسباب واستعماله لها تعارض، ودليل ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام فعل من اطرحها عند التعارض، وعمله عليه الصلاة والسلام على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة، وندبه3 إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة.
وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان، عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب، هذا جواب الأول.
وأما الثاني؛ فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم، وإذا كان كذلك؛ فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض.
وأيضًا؛ فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينيات، [وقد مر أن أصل التحسينيات] خادم للضروريات، وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل؛ فلأجل هذا كله قد يسبق4 إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن المأخذ الثاني ليس مبينا على إسقاط الأسباب رأسا، بل إسقاط الأسباب التي تتعلق بحق العبد، والاحتفاظ بالأسباب المتعلقة بحق الرب؛ فقوله: ليس هناك تعارض؛ أي: لأن الأمر بها والأخذ لا يقتضي الدلالة على تقديمها حتما على الأسباب المتعلقة بحق الله تعالى؛ فهذه مقدمة باعتبار هذا النظر وأدلته. "د".
2 في "ط": "الأسباب على بعض وهي...".
3 في "ط": "وندب".
4 هو كما ترى من الخطابة. "د".(7/310)
ص -563-…وأما الثالث؛ فلا معارضة فيه، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله1 أصلا وإذا لم تدل عليها لم يكن [فيها]2 معارضة أصلا وإلى هذا كله؛ فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث3 يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلًا لمرضه، ولكنه صام؛ فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها، وإدامة الحضور فيها، أو ما أشبه ذلك؛ عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه، فلم يكن له ذلك، فأما إن لم يكن كذلك؛ فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة، بل هو الأحق على الإطلاق، وهذا فقه في المسألة حسن جدًّا4، وبالله التوفيق.
فصل
واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما5 يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره، أما ما كان من حق غيره من العباد؛ فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى، وقد تبين هذا في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"ط": "حقوق الله على حقوق العباد" بتقديم وتأخير، وهو خطأ.
وفي هذا الموضع من حاشية الأصل قال المحشي: "يعني أن الأدلة السابقة تدل على جواز اطراح حظ العبد وتقديم حد الله، وأن الجواز ليس بمستوي الطرفين، بل تقديم حق الله أولى، وأدلة حقوق العباد تدل على جواز مراعاة حظ العبد، وهذا لا ينافي الأول؛ فلا تعارضها، وبالجملة؛ فأدلة الجانبين متفقة على الجواز، وتزيد الجانب الأول؛ فإن الأولى والأرجح تقديم حق الله، وهذا واضح جدًّا في عدم التعارض؛ فتأمل".
2 سقط من "ط".
3 وفي الحقيقة يرجع إلى تقديم حق الله تعالى. "د".
4 نعم، فقه حسن، ولكن هذه المسألة ينقصها بسط التفريع على مسألة الحقوق كما أشرنا إليه، كما ينقصها أكثر من هذا تحرير الأدلة وإحكامها، كما تعودناه من المؤلف رحمه الله. "د".
5 في "ط": "مما".(7/311)
ص -564-…المسألة الثامنة عشرة:
الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل1، والآخر راجع إلى جهة التعاون، [هل يعتبر الأصل أو جهة التعاون]2؟ أما اعتبارهما معا من جهة واحدة؛ فلا يصح3، ولا بد من التفصيل؛ فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل أو التعاون.
فإن كان الأول4؛ فحاصله راجع5 إلى قاعدة سد الذرائع؛ فإنه منع الجائز6، لئلا يتوسل به إلى الممنوع، وقد مر ما فيه7، وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: اعتبار الأصل؛ إذ هو الطريق المنضبط، والقانون المطرد.
والثاني: اعتبار جهة التعاون؛ فإن اعتبار الأصل مؤدٍ إلى المآل8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو إقامة الضروري أو الحاجي، وقوله إلى جهة التعاون؛ أي: بأن يكون الفعل في ذاته غير مطلوب، ولكن يتوصل به إلى المطلوب. "ف".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لأنه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق وقوعًا، مع الاتفاق على عدمه. "د".
4 ومثاله مشتري الأغذية من الأسواق لاحتكارها؛ فأصل الشراء مأذون فيه لكسب المعاش، ولكنه قد يؤدي إلى التضييق على الجمهور، والاحتكار ممنوع إذا أدى إلى ذلك كما رواه مالك* عن عمر؛ قال: "لا حكرة في سوقنا..." الحديث. "د".
5 فمنهم من يعملها مطردة فيمنع الأصل كمالك، ومنهم من يخصها بمواضع قد يكون منها هذا وقد لا يكون، وقوله: "فإنه منع الجائز" مبني على إعمالها. "د".
6 أي: المأذون فيه؛ لأن الموضوع الأمر. "د".
7 وأنه متفق عليه في الجملة، وأنه حصل اختلاف في بعض التفاصيل. "د".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "الملال"، وكتب "د": "صوابه: "المآل" كما يعينه المقام =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "الموطأ" "404 - رواية يحيى و2/ 356/ رقم 2598 - وراية أبي مصعب".(7/312)
ص -565-…...................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولاحق الكلام، أو كما سيأتي في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد.
وتلخيص المسألة أنه إذا ورد أمر ونهي على فعل باعتبارين: اعتبار أصله وذاته بقطع النظر عما يؤول إليه ويترتب عليه، ويعين هو عليه واعتبار المآل والتعاون، وكان أصل الفعل من الضروريات أو الحاجيات؛ فإما أن يرد الأمر على أصله والنهي على ما يؤدي إليه، أو بالعكس.
فإن كان الأول؛ ففيه خلاف:
1- اعتبار الأصل وقطع النظر عما يؤول إليه، ووجهه أن الأصل هو المطرد والمنضبط.
2 اعتبار جهة التعاون والمآل لأن اعتبار الأصل وقطع النظر عن المآل يؤدي إلى هذا المآل المنهي عنه، وأيضًا يفتح باب الحيل لأن الحيل مبنية على أن يكون الشيء مستوفيا في ذاته شرائط الحل ولو صورة، ويقطع فيها النظر عما يؤول إليه من المفسدة الشرعية المنهي عنها، كما هو معروف في مثل حيل العقود المؤدية إلى الربا، فإن ظاهرها الحل باعتبار ذاتها وإن أدت إلى الربا.
3- التفصيل، إن غلبت جهة التعاون الممنوعة روعي الأصل؛ لأنه إن لم يراع بطل العمل بالأصل المأذون فيه، وهو ضروري أو حاجي؛ فيؤدي إلى تكليف ما لا يطاق أو إلى الحرج -ويساعده ما تقدم في الفصل الأول من المسألة الخامسة عشرة؛ فراجعة برمته- وإن لم تغلب؛ فالاجتهاد.(7/313)
وإن كان الثاني وهو توجه النهي إلى الأصل والطلب إلى التعاون؛ فالحكم اعتبار النهي الذي في الأصل لئلا يؤدي إلى إلغاء النهي، والتوسل بالممنوع شرعا إلى مطلوب ضعيف استحساني وهو من جهة التعاون؛ كالمثل الذي ذكره المؤلف: "يسرق ليتصدق"، وهو باطل: "ليتها لم تزن ولم تتصدق"، ومحل اعتبار النهي ما لم يكن فيه معارضة مصلحة الخاصة مع مصلحة العامة؛ فتقدم المصلحة العامة، وذلك كتلقي الركبان؛ فإنه ضروري أو حاجي لكسب الشخص لعياله، وإهمال هذا الكسب وتركه منهي عنه، ولكنه يؤدي إلى مصلحة العامة، حيث يشترون من السوق حاجاتهم بدون تعنت الوسيط الذي يرفع الأثمان؛ فهو منهي عنه، يؤدي إلى مطلوب هو إرفاق العامة؛ فقدمت مصلحة العامة، ومثله بيع الحاضر للبادي هو من الضروري أو الحاجي، وهو نصح مطلوب، وتركه منهي عنه، لكن هذا الترك فيه "تعاون ورفق بأهل الحضر؛ لأن البدوي يبيع لهم حسبما يفهم هو في الأسعار، ولكن الحاضر إذا باع له يقف على الأسعار الجارية في الحضر، وفيه تضييق عليهم؛ فألغي النهي عن ترك النصح، وروعي المطلوب وهو التعاون رفقا بالحضر، وتقديما للمصلحة =(7/314)
ص -566-…الممنوع، والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها، ولأنه فتح باب الحيل1.
والثالث: التفصيل؛ فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة أو لا، فإن كانت غالبة؛ فاعتبار الأصل واجب؛ إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة، وهو باطل وإن لم تكن غالبة؛ فالاجتهاد.
وإن كان الثاني؛ فظاهره شنيع لأنه إلغاء لجهة النهي2 ليتوصل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العامة، وكذا تضمين الصناع -والصانع أمين كالوكيل، والمودع بالفتح- وأصل الحكم إلى الضمان فيما بأيديهم للناس، وجعلهم ضامنين منهي عنهن حفظا لحقوقهم، لكنه يؤدي إلى مصلحة عامة المسلمين؛ فألغى النهي في الأصل، وروعي جانب التعاون والمآل، وهو المصلحة العامة لأنه نزل منزلة الضروري والحاجي.
هذا وباب الحكم على الخاصة لأجل العامة واسع، ومنه نزع الملكية الخاصة للمنافع العامة، ومنه ما وقع في زمن معاوية رضي الله عنه من نقل قتلى أحد من مقابرهم إلى جهة أخرى لإجراء العين الجارية بحانب أحد، وكان ذلك بمحضر الصحابة ولم ينكروا عليه، وقد يكون منه تشريح جثث الأموات لفائدة طب الأحياء، إلى غير ذلك، وبهذا التلخيص تعلم ما كتبه بعضهم هنا".
قلت: يعني بذلك "ف" حيث قال هنا: "فتحتاج النفس إلى ما ينشطها بفعل ما ليس بمطلوب لتستعين به على الفعل المطلوب" انتهى.
وانظر في تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي: "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"فتح القدير" "6/ 106"، وانظر في نزع الملكية الخاصة: "الاختيار شرح المختار" "3/ 483-484"، و"المدخل الفقهي" "1/ 227"، وانظر في التشريح: "شفاء التباريح والأدواء" لليعقوبي، و"أحكام الجراحة الطبية" "ص169 وما بعدها" للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، و"أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية" "2/ 5-70".(7/315)
1 لأن الحاجة إلى الخروج عما في التزامه مشقة تستوجب البحث عن الحيلة للتخلص منه كما يقال: "الحاجة تفتق الحلية". "ف".
2 إذ لا أثر له حينئذ، وظاهره طلب المنهي عنه ليتوصل به إلى المأمور به، وهو شنيع، ولكنه قد يصح إذا كان في المنهي عنه ما في المأمور به، فينزل منزلته ويترجح عليه كما في منع تلقي الركبان، وهم التجار الذين يجلبون البضائع لمنفعة العامة؛ فإنه مأمور به لأجل منفعة أهل السوق ومنهي عنه لأنه من باب منع الارتفاق المطلوب، ورجح الجانب الأول لأنه من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كما قال؛ فتدبر. "ف". وفي "ط": "النهي للتوصل إلى...".(7/316)
ص -567-…المأمور به تعاونا، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي، وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين أو يبني قنطرة، ولكنه صحيح إذا نزل منزلته، وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، كالمنع من تلقي الركبان1؛ فإن منعه في الأصل ممنوع؛ إذ هو من باب منع الارتفاق وأصله ضروري أو حاجي لأجل أهل السوق، ومنع بيع الحاضر للبادي2 لأنه في الأصل منع من النصيحة؛ إلا أنه إرفاق لأهل الحضر، وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل، وله نظائر كثيرة؛ فإن جهة التعاون هنا أقوى.
وقد أشار الصحابة على الصديق؛ إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال3 لأجل ما هو أعم في التعاون، وهو القيام بمصالح المسلمين، وعوضه4 من ذلك في بيت المال، وهذا5 النوع صحيح كما تفسر، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، 4/ 370/ رقم 2158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، 3/ 1157/ رقم 1521" عن ابن عباس؛ قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمسارًا". وفي الباب عن غيره.
2 انظر الحديث المتقدم.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 184-185"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 104"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص44-45 الشيخان أبو بكر وعمر وولدهما"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "1/ 202، 252" من طرق به.
4 في الأصل و"ط": "عوضوه".
5 في "ط": "فهذا".(7/317)
ص -569-…الاستدراكات:
الاستدراك1:
قلت: مقوله مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، ونقلها القرافي في "الذخيرة" "1/ 183"، وابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 270"، والراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص286"، وفيها: "نكره" بالنون، وكذا في "ط"، وفي غيره بالياء آخر الحروف.
قال المازري في "المعلم" "1/ 242": "اختلف في غسل الإناء من ولوغ الكلب؛ هل هو تعبد، أو لنجاسته؟ فعندنا أنه تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة، واختلف عندنا؛ هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام من قوله: "إذا ولغ الكلب"؛ هل هي للعهد، أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص بذلك بالمنهي عن اتخاذه، لأنه قد قيل: إنما سبب الأمر بالغسل التغليظ عليهم لينتهوا عن اتخاذها، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؟ فيه أيضًا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام".
وألزم العراقي في "طرح التثريب" "2/ 122" مالكًا بالقول فيه؛ فقال متعقبا قوله:(7/318)
ص -570-…"ما أدري ما وجه ضعفه، وقد أنكر مالك على أهل العراق ردهم لحديث المصراة، وهو بهذا الإسناد من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة؛ فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: وهل في هذا الإسناد لأحد مقال؟ وصدق رحمه الله، وقد قال البخاري: إن هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة" ا. هـ.
ويروي ابن القاسم عن مالك أكثر أقواله المخالفة للأحاديث الثابتة؛ فلا أدري كيف وقع هذا؟ وقد علل بعض المعاصرين أن ذلك راجع إلى كون أن ابن القاسم كان صاحب رأي، ولم يكن صاحب حديث كما قال مسلمة بن قاسم، كذا!! ولا يخلو من نظر إلا إن كان لا ينقل نص مالك، إنما ينقل فهمه، والله أعلم.
تنبيه:
قال الشيخ محمود شلتوت في "الفتاوى" "ص86-78":
"وقد فهم كثير من العلماء أن العدد في الغسل مع الترتيب مقصودان لذاتهما؛ فأوجبوا غسل الإناء سبع مرات، كما أوجبوا أن تكون إحداهن بالتراب، ولكن الذي نفهمه هو الذي فهمه غيرهم من العلماء، وهو أن المقصود من العدد مجرد الكثرة التي يتطلبها الاطمئنان على زوال أثر لعاب الكلب من الآنية، وأن المقصود من التراب استعمال مادة مع الماء من شأنها تقوية الماء في إزالة ذلك الأثر، وإنما ذكر التراب في الحديث لأنه الميسور لعامة الناس ولأنه كان هو المعروف في ذلك الوقت مادة قوية في التطهير، واقتلاع ما عساه يتركه لعاب الكلب في الإناء من جراثيم، ومن هنا نستطيع أن نقرر الاكتفاء في التطهير المطلوب بما عرفه العلماء بخواص الأشياء من المطهرات القوية، وإن لم تكن ترابًا، ولا من عناصرها التراب" ا. هـ.
قلت: وكلامه متعقب كما تراه في تعليقي على المجلد الثالث من "الخلافيات" للبيهقي.(7/319)
ص -571-…الموضوعات والمحتويات
الموضوع الصفحة
المسألة الأولى:
الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في العبادات والعادات 7
نظرية الدافع والباعث وأهميتها 7-8
أهمية النيات في التفريق بين أحكام العبادات وأحكام غيرها 8-9
تخريج حديث صيد البر والبحر وذكر علله 10-12
فإن قيل: المقاصد معتبرة في الجملة وليس على الإطلاق، أدلة ذلك 12
- منها: الإكراه الواجب على الأعمال شرعا 12
التسلسل والإكراه 12
العبث في الأحكام 12
- منها: الأعمال ضربان: عادات وعبادات والأولى لا تحتاج إلى نية وذكر أمثلة على ذلك 13
من لم يشترط النية في الوضوء وغيرها 13-15
- منها: من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا وهو النظر الأول
الإجابة على ذلك بأن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان: 16-17
ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار يصح أن يقال
فيه أن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا 17
وضرب آخر: ليس من ضرورة كل فعل، وإنما هو ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات 18(7/320)
ص -572-…ووجه آخر في الإجابة الرد على تفاصيل ما ذكروا 18
الرد على مسألة الإكراه 18-19
الرد على مسألة النية في العادات 19
الخلاف في الصوم وغيرهما 19-21
المسألة الثانية: 23
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا
لقصده في التشريع ودليله واضح 23
بيع الشيء المباح لمن يستعمله في حرام 23
مبدأ سد الذرائع 23
مبدأ نظرية الباعث 23-24
قصد الشارع وضع الشريعة لمصالح العباد 23-24
المحافظة على الضروريات 24
الخلافة في الأرض؛ والتنبيه على خطأ شائع 24
الخلافة العامة والخاصة 25-26
فصل: المقاصد والتروك والأفعال والأحكام الخمسة 26
دخول المكلف في الأسباب 26
القصد الموافق والمخالف 26
المسألة الثالثة: 27
كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد
ناقض الشريعة، وكل مناقضة باطلة 27-28
الاجتهاد فرض كفائي 28
الدليل على أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو
مناقض: 28
الأول: الأفعال والتروك من حيث هي متماثلة عقلا 28
مسألة التحسين والتقبيح العقليين 28-29
الثاني: حاصل القصد أن ما رآه الشارع حسنا فهو
عند هذا القاصد ليس بحسن وهكذا العكس 29
الثالث: الأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى
تحصيل المصلحة أو(7/321)
ص -573-…درء المفسدة مشاقة ظاهرة 29-30
الرابع: أنه آخذ في غير مشروع حقيقة 30
الخامس: أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة
قصد الشارع بها في الأمر والنهي 30-31
التمثيل على ذلك في الحاشية بالنكاح إذا قصد به تحليل الزوجة لغيره 30
السادس: هذا استهزاء بآيات الله وأحكامه من آياته 31
أمثلة من المصنف على ذلك 31
الاعتراض على المسألة بأمثلة من الشرع 31
منها: نكاح الهازل وطلاقه، وقد سبقت في المسألة الأولى وكذلك المكره 31-32
ومنها: الحيل 32
الإجابة عن ذلك 32-33
المسألة: الرابعة: 34
أقسام الفعل والترك مع القصد:
الأول: أن يكون "الفعل أو الترك" موافقا للشرع والقصد عنده الموافقة 34
الثاني: أن يكون مخالفا وقصده المخالفة 34
الثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده المخالفة وهو ضربان:
الأول منهما: أن يعلم الموافقة في الفعل والترك 34
الثاني: أن لا يعلم 34
ذكر الأمثلة: على الضرب الأول مثل: الواطئ لزوجته وهو ظان أنها أجنبية
وغيرها من أمثلة 34-35
توضيح الأمر الأصولي وتجاذب طرفيه 35
أمثلة على الضرب الثاني 37
القسم الرابع منها: وهو ضربان كالسابق:
أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا، بالعلم والجهل 37
فأما مع العلم فهو الابتداع 37-38
ذكر الأدلة على حرمة البدع بعموم، ثم الاستشكال بأن من البدع
ما هو غير مذموم بل هو إما مندوب أو واجب 38-39
الجواب عن هذا الإشكال بنقض الأمثلة واحدا واحدا 39(7/322)
ص -574-…التفريق بين المصالح المرسلة والبدع 41
- ومع الجهل فله وجهان: 42
الأول: كون القصد موافقا، أي مع مخالفة الفعل أو الترك
الثاني: كون العمل مخالفا 42
النية والقصد في هذا الضرب 42-45
إعمال جانب القصد وجانب الموافقة في الفعل أو الترك معا في المسألة لأمور: 45
الأول: اجتمع في متناول المحرم غير عالم بالتحريم؛ موافقة القصد ومخالفة الفعل 45-46
توضيح ذلك بالأمثلة من السنة وحياة السلف 46
النكاح بغير إذن الولي وتخريج حديثها 48-50
الثاني: اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان 50
الثالث: الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة 51
الاختلاف فيما تعلق به رفع المؤاخذة 51
المسألة الخامسة: 53
جلب المصلحة أو دفع المفسدة المأذون فيه على ضربين:
أحدهما: أن لا يلزم عنه إضرار الغير 53
الثاني: لزوم ذلك عنه وهو ضربان أيضًا: 53
قصد ذلك وعدم قصده وهذا ضربان أيضًا 53
الضرر العام والخاص وهذا ضربان: 53
متابعة التقسيم 55
ثم توضيح أحكام الأقسام هذه 55
الأقسام الثمانية وسردها من حاشية الأصل 55
الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير
الثاني: ما يلزم عليه الإضرار ويقصد الفاعل الإضرار
الثالث: ما لا يقصد فيه، وكان الإضرار اللازم عاما
الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه.
الخامس: ما كان كذلك والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا
السادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور(7/323)
ص -575-…السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي
الثامن: ما لزومها غير أغلبي
الأول: باقٍ على أصله من الأذن 55
الثاني: لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار 55
النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق والتعسف فيه 56
الثالث: لا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا 57
مسألة الترس التي فرضها الأصوليون 57
الرابع: الموضع يحتمل نظرين:
نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها وأمثلة مهمة 58
أمثلة في القسم الرابع 59
ذكر أمثلة لظلم عام تخلص منه فرد 59
ومناقشة بالعودة على مسألة الإضرار ورد الإشكال 61
وجهان في المسألة مع ردها إلى المسألة الثالثة: 62
الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على السواء 62
أمثلة على ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف 62
الثاني: الإيثار على النفس؛ وأمثلة من سيرة السلف 66
إيثار بالملك من المال 68
وبالنفس 69
الصوفية والإيثار 70
الإيثار مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة، وتحمل المضرة اللاحقة بلا عتب،
دون إخلال بمقصد شرعي 71
القسم الخامس: وله نظران
الأول: من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا، من غير قصد إضرار بأحد 72
الثاني أن يكون عالما بلزوم المضرة 72
القبول والإجزاء والصحة لا تسلتزم الثواب عليها عند القرافي 73-74
القسم السادس: وهو على أصله من الإذن 74
القسم السابع: وهذا يحتمل الخلاف، وهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع،(7/324)
ص -576-…اعتبار الظن أرجح لأمور: 75
الأول: أن الظن في أبواب العمليات جارٍ مجرى العلم 75
الثاني: أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم 75-76
الثالث: أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه 76
القسم الثامن: وهذا القسم موضع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على
الأصل من صحة الإذن، باستدلالات أخرى غير مرتبة عند المصنف 77
مناقشة المصنف في بعض ما أورده من أمثلة 81
سد الذرائع والاحتياط والأخذ بالحزم 85
المسألة السادسة: 86
كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار
والدليل على ذلك أوجه 86
الاستثناء في ذلك 87
المسألة السابعة: 88
كل مكلف بمصالح غيره الدنيويه، إما أن يكون قادرا على مصالحه الخاصة
مع مصالح الغير، وإما أن لا يقدر فإن كانت مصالح الغير عامة فعليهم أن يقوموا
بمصالحه إن صح أن يقوموا بها عنه؛ وإن كانت خاصة سقطت 88-89
تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة 89
فصل: قيام الغير بمصالح المكلف بوجه لا يخل بمصالحهم ولا يضر به 89
يقوم بمصلحة المكلف بيت المال أو الأوقاف 90
لا يعطى مباشرة لخوف المنة وإعطاء الأمثلة المشابهة لذلك 90
لا يجوز له القيام بنفسه لكلفة القيام بالوظيفتين 91
منع أخذ الأجرة من الخصمين 91
فصل: إذا كانت المصلحة الدنيوية العامة لا يمكن أن يقوم بها غيره تعارض في
المسألة "قاعدة منع التكليف بما لا يطاق" و"قاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة" 92
الخلاف حاصل، وإذا أسقط المكلف حظوظه قدمت المصلحة العامة 92
ويدل عليه قاعدة الإيثار، وقصص الإيثار الواردة عن السلف 92-93
أما الأخروية كالعبادات العينية أو النواهي المخاطب بها عينا فلها تفصيل إن كان هناك(7/325)
ص -577-…إخلال بالمصلحة العامة أو الخاصة 94-96
فصل: قد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة 96
المسألة الثامنة: 98
التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها، فللمكلف في الدخول تحتها ثلاث أحوال:
الأول: أن يقصد بها ما فهم من قصد الشارع في شرعها دون أن يخليه من قصد
التعبد وإلا حرم خيرا كثيرا 98
الثاني: أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع وهذا أكمل من الأول 98-99
الثالث: أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة أو لم يفهم وهذا أكمل وأسلم 99
المسألة التاسعة: 101
كل ما كان من حقوق الله، فلا خيرة فيه للمكلف على حال وأما ما كان من حق العبد
في نفسه، فله فيه الخيرة 101
حقوق الله لا تسقط ولا ترجع لاختيار المكلف 101
ثبت ذلك بالاستقراء 101
إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من خلق الله في العباد 102-103
تقدم أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، وحق العبد ثبت بإثبات الشارع له 103-104
حق العبد له فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك دون الاستقلال 104
المسألة العاشرة: 106
الحيل: هو التوسط لإسقاط حكم أو قلبه ولا ينقلب ولا يسقط إلا بالواسطة فهو مشتمل
على مقدمتين: 106
الأولى: قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر 106
الثانية: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام 106
هل يصح العمل على وفقه؟ 106
توضيح الحيل قبل الإجابة 106-108
المسألة الحادية عشرة: 109
الحيل بالمعنى السابق غير مشروعة في الجملة، لكن في خصوصيات يفهم من(7/326)
ص -578-…مجموعها منعها، والنهي عنها على القطع 109
سرد الأدلة 109-119
المسخ والقذف 113
استحلال السحت 114
تعقب الحافظ ابن حجر 115
الربا والرشاوي والتحليل 116
المسألة الثانية عشرة: 120-163
الحيل: مقدمة – الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها المصالح
التي شرعت لأجلها فإن كان الفعل موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل
غير صحيح وغير مشروع 120
الأمثلة:
الشهادتان وسائر العبادات 121
الزكاة 121-122
فدية الزوجة خوف أن لا يقيما حدود الله 123
اشتمال الشريعة على مصلحة كلية ومصلحة جزئية 123
فصل: عودة إلى الحيل 124
الحيل الباطلة ما هدم أصلا شرعيا وناقض مصلحة شرعية 124
الحيل ثلاثة أقسام الأوليان قطعيان: 124
الأول: لا خلاف في بطلانه، كحيل المنافقين والمرائين 124
الثاني: لا خلاف في جوازه، كالنطق للمكره على كلمة الكفر 124
تقديم المصالح والمفاسد الأخروية على الدنيوية 124
الثالث: محل إشكال وغموض لعدم تبين دليل واضح قطعي مثل:
وجود مقصد للشارع واضح أو لم يثبت أنه على خلاف مصلحة شرعية 125
حسن الظن بالعلماء 125
نكاح المحلل 125-126
هل يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من(7/327)
ص -579-…أفرادها عينا 126
الحيل والبيوع والبنوك الإسلامية وكلمة عن الربا 127
العينة 128
الذرائع وأقسامها: 131
الأول: ما يسد باتفاق كسب الأصنام 131
الثاني: ما لا يسد باتفاق 131
الثالث: المختلف فيه، كمسألة الحيل 131
خلاصة كلام المصنف فيه فائدة عظمى في أنه جاء بأدلة مجيزي
الحيل لتقريب المذاهب الفقهية للطلاب حتى لا يكون هناك تعصب 131-132
فصل: خاتمة لكتاب المقاصد تكون بيانا له 132
معرفة مقصود الشارع، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: 132
الأول: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به 132
الثاني: في الطرف الآخر من الأول إلا أنه ضربان: 133
الأول: دعوى أن مقصود الشارع ليس في هذه الظواهر، ولا ما يفهم منها، وإنما
المقصود أمر آخر 133
الضرب الثاني: أن يقال: إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ، بحيث لا
تعتبر الظواهر والنصوص 133
الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، بحيث لا يخل المعنى بالنص ولا بالعكس
وهذا الذي أخذ به فحول العلماء ويعرف من أكثر من جهة: 134
الجهة الأولى: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي 134
توضيح هذه الجملة 134-135
الجهة الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، والعلل تعرف بمسالكها المعروفة غير
المعلومة لا بد فيه من التوقف، وهنا له نظران: 135
الأول: أن لا تتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين 136
الثاني: أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى
يعرف قصد الشارع لذلك التعدي 136
وهما مسلكان متعارضان لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه والمجتهد(7/328)
ص -580-…أهل لهذا الموضع فلا يبقى تعارض 137
الالتفات إلى المعاني في العادات هو الأصل، والتعبد في جهة العبادات
والخروج عن هذا المقتضى نادر والتمثيل عليه من مذهب مالك 138
الجهة الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد
أصلية ومقاصد تابعة 139
مضادة مقصد العامل لمقصد الشارع وضرب أمثلة على ذلك:
التمثيل على ذلك بالنكاح 139-141
التمثيل في باب العبادات 140-141
فصل: إثبات المقاصد التابعة في العبادات 142
الحديث عن الاستخارة الشرعية والبدعية 143
الفوائد الدنيوية والأخروية في العبادات 144
المواهب التي يهبها الله للعبد في الدنيا والآخرة 145
الاضطرار إلى السؤال 145
إظهار الأعمال للاتباع 146
التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة 147
الخوارق 147
تخريج حديث: "من أخلص لله أربعين صباحا..." وقصة حوله 148-149
سؤال الصحابة عن الهلال، وما نزل فيها 149
العلم والعمل، والمعرفة بالله وبصفاته وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته
والعالم الروحاني 150
الخوارق:
أولا: طلب الخوارق بالدعاء ولفتح البصيرة لا نكير فيه، إنما فيمن عبد لتحصيلها فقط 150-151
ثانيا: أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله، لكان لنا بعض العذر في التخطي
عن عالم الغيب والشهادة إلى عالم الغيب 151
ثالثا: أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي 152
رابعا: أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات(7/329)
ص -581-…كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية 152
خامسا: أنه لو فرض كونه سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة 152
الابتلاء 152-153
فعل الطاعات لأغراض دنيوية 153-154
أقسام المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية: 154
الأول: ما يقتضي تأكيدها 154
الثاني: ما يقتضي نقضها 154
الثالث: ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا، ولا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا 155
صحة ذلك في العادات دون العبادات 155
العزل عن النساء 155
الجهة الرابعة: السكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى
المقتضي له 156
سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
الأول: السكوت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقدر لأجله 157
الثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم 157
سجود الشكر عند مالك 158
تعريف البدع وتمثيلها 159-163
كتاب الأدلة الشرعية
النظر فيها على الجملة والتفصيل 165
الأدلة ومعناها 165
بحث الأصولي في الأدلة الشرعية 165
النظر في الأدلة الشرعية على الجملة والكلام فيها في كليات تتعلق بها
وفي العوارض اللاحقة لها 167
المسألة الأولى: 171
لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات
والحاجيات والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في جميع أبواب الشريعة وأدلتها 171-172
أهمية هذه المسألة في مسائل الأصول 171(7/330)
ص -582-…النظر في الأدلة التفصيلية مع القواعد الكلية وارتباطهما في فهم الشريعة 171-172
هل يجوز للمجتهد استنباط الأحكام من القواعد دون الأدلة 172-174
سرد مجموعة من الأدلة على أصل المسألة 172
كتاب رزين من مظان الضعف 173
معنى: "لا يهلك على الله إلا هالك..." 173
اعتبار الجزئيات بالكليات والعكس 173-174
التفريق بين المجتهد الذي استقرأ الأدلة، والمجتهد الذي تابع غيره 174
القدح في الكلي أو الجزئي مؤثر في الآخر 175
مخالفة جزئي للكلي 176
حكم الأكثري حكم الأغلب 176
إذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات، فليس لجزئي من الكلي 177
الحكم بالقاعدة دون الأدلة 177
التمثيل له بحفظ النفس، كالقصاص بالمثقل وكقتل الجماعة بالفرد 177-178
الرخص في الصلاة، مثل فيه 178
والصوم في السفر 178-179
الرخص عموما 178-179
البيوع والمستثنيات من القواعد 179
تبيان اعتبار المصالح في الشرع، وما لا يفهم منها بالعقل وتعارض قواعد المصالح
والترجيح فيها 179-180
النظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي، والنظر في الجزئي من حيث
يرد إلى الكلي 181
العسل وتوضيح معنى الشفاء فيه 181
امتناع وجود خبر في الشريعة بخلاف مخبره 181
اعتبار الجزئي وعدم اعتباره جهتان هنا 182
وظيفة المجتهد مع الأدلة 183
المسألة الثانية: 184
أقسام الأدلة الشرعية(7/331)
ص -583-…الأول: الدليل القطعي كأدلة وجوب الطهارة 184
الثاني: الدليل الظني الراجع إلى أصل قطعي وعليه عامة أخبار الآحاد وما
فيه تبيان لنص الكتاب 184
الثالث: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو مضاد للشرع 184
الرابع: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو غير مضاد للشرع ولا موافق له 184
مناقشة المصنف في قوله: "قطعي" وإخراج القياس من أدلته 184
الأول: لا يحتاج إلى بيان والثاني: من أمثلته:
ما جاء في النهي عن جملة من البيوع 185
النهي عن الإضرار والتعدي والجنايات على الأغيار 185-186
الثالث: الظني المعارض للأصل القطعي، ولا يشهد له أصل قطعي 186
الدليل على ذلك:
الأول: مخالفته لأصول الشريعة، فلا يعد منها ما هو مخالف لها 186
الثاني: عدم وجود ما يشهد له بصحته 186
مثال على ذلك في المناسب الغريب وقصة من أفتى بإيجاب شهرين متتابعين على من
ظاهر امرأته أو جامعها في نهار رمضان كحكم ابتدائي 186-188
توضيح للمناسب الغريب 186
توضيح أن أخبار الآحاد ليس كلها مما يشهد لها أصل قطعي 186
هذا القسم على ضربين
الأول: أن تكون مخالفته للأصل قطعية، فيرد 188
الثاني: أن تكون ظنية: 188
أ- إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني 188
ب- وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا 188
هذا مجال المجتهدين 188
دخول الظاهرية في هذا الباب في باب معارضة نص بنص آخر أو قاعدة أخرى
إذ لا يوجد تناقض في هذا لأسباب 188
مسألة فرعية خبر الواحد إذا كملت شروط صحته، هل يجب عرضه على الكتاب 189
تخريج حديث في الباب 189(7/332)
ص -584-…رد خبر الواحد بالقياس وكشف غلط على مالك وأبي حنيفة 190
أمثلة من سيرة السلف فيمن رد حديثا لمخالفته ما عنده من أحاديث أو غيرها من النصوص، أو لمخالفته قاعدة ثابتة عنده
رد عائشة لحديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه 190-191
وردها لحديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء 191-192
وردت هي وابن عباس حديث غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء 192
تفسير المهراس 192
تبيان وجه الصواب فيمن اعترض على أبي هريرة 193
رد عائشة لحديث ابن عمر في الشؤم 194
قصة عمر مع وباء الطاعون في سفره إلى الشام تعود إلى هذا الأصل 194
مالك يتوقف في حديث ولوغ الكلب 195-196
حديث خيار المجلس 196-197
معارضة مالك في المسألة 197-198
حديث: صيام الولي عن الميت 198
حديث إكفاء قدور الطبخ في الحرب قبل تقسيم الغنيمة 198-199
صيام ست من شوال 199
الرضعات وبيان وجه لم يظهر للشيخ دراز 199-200
سد الذرائع والمصالح المرسلة عند مالك 199-200
ومثله عند أبي حنيفة:
قدم خبر القهقهة على القياس 200
رد خبر القرعة في المماليك الستة 200-201
خبر الواحد المعارض لقاعدة 201
عودة إلى ولوغ الكلب في مذهب مالك 201
حديث العرايا وقاعدة الربا 201
قاعدة الربا في بيع الرطب بالتمر 202
أبو حنيفة وأهل الحديث 203
أهل العراق ومالك وحديث المصراة 204-205(7/333)
ص -585-…النهي عن بيع كتب الفقه 205
الرابع: الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو من
باب المناسب الغريب 206-207
التمثيل عليه بالقاتل لموروثه، ومطلق زوجته في مرض الموت 206-207
فصل: المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي 207
المسألة الثالثة: 208
الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول: 208
الوجه الأول: أنها لو نافتها، لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره 208
الوجه الثاني: أنها لو نافتها، لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق 208
الوجه الثالث: أن مورد التكليف العقل، وبفقدانه يرتفع التكليف رأسا 209
الوجه الرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به، وهذا
معلوم من حرصهم على ذلك 209
الوجه الخامس: أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول 210
مناقشة الدعوى في أصل المسألة: 210
أولا: أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا 210
ثانيا: المتشابهات الموجودة في الشريعة 211
ثالثا: فيها ما اختلفت فيه العقول حتى اختلفت فرقا 211
الإجابة عن المناقشات واحدا واحدا
الإجابة عن فواتح السور 212
الإجابة عن المتشابهات 212
احتجاج النصارى بالتثليث من القرآن 213
مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس 213-216
المسألة الرابعة: 217
ارتباط هذه المسألة بمسألة: "يستحيل كون الشيء واحدا واجبا حراما من جهة واحدة"... ومسألة: "إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب..." 217
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها وأفعال المكلفين لها اعتباران: 217(7/334)
ص -586-…اعتبار من جهة معقوليتها، ومن جهة وقوعها في الخارج 218
توضيح المسألة بمسألة الدار المغصوبة وسبب الاختلاف فيها وأماكن الخلاف بين العلماء 217-218
الأدلة على اعتبار 219
أحدها: في الأول؛ أن المأمور به أو المنهي عنه أو المخير فيه، إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء 219
تعلق الأوامر والنواهي بالمطلق 219
الاعتبار الثاني: أن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها، ولا تكون أمورًا ذهنية 219
ثانيها: في الأول؛ أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال؛ لزمت شناعة مذهب الكعبي؛ لأن كل من فعل أو قول فمن لوازمه ترك الحرام 220
والثاني من الاعتبارين: لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية، لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق وهو باب واسع 220
النيات في العادات 220
ثالثها: في الأول؛ أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط، لم يصح للمكلف عمل
إلا في النادر 221
أما الثاني: فإن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية تعقل وما لا يعقل لا يكلف به 222
خلط العمل الصالح بالعمل السيء 221، 223-224
فصل: ويتصدى النظر فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفًا لصاحبه حتى يجري فيه النظران، وما لا يصير كذلك، فلا يجريان فيه 224
المسألة الخامسة: 227
الأدلة الشرعية ضربان: ما يرجع إلى النقل المحض، وما يرجع إلى الرأي المحض 227
قد يكون ما يرجع باتفاق وما يرجع باختلاف 227-228
فصل: الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول؛ لأن الثاني ثبت عن طريقه 228
ما كان يرجع إلى النقل المحض فهو مستند الأحكام التكليفية من جهتين: 228(7/335)
ص -587-…الأولى: من جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية 228
الثانية: من جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام
الجزئية الفرعية 228
فصل: أن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب من وجهين: 229
الأول: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب
من وجهين: 229
الأول: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب 230
الثاني: أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه 231
المسألة السادسة: 231
كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين: 231
الأولى: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، وهذه نظرية 231
والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهذه نقلية 231
ضرب الأمثلة في الفقه على الخمر والطهارات 232
وفي اللغة والعقليات 233
المسألة السابعة: 235
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون، ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف 235
وكل ما ثبت مقيدًا... فهو راجع إلى معنى تعبدي 235
المسألة الثامنة: 236
الأصول الكلية المدنية جزئية بالنسبة إلى ما هو أعم منه أو تكميلًا 236
بيان ذلك في الضروريات الخمس: 236
الدين 236
الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 236
النفس 236
العقل: وتبيان ذلك في مسألة الخمر 237-238
النسل: وتبيان أهمية ذلك في تحريم الزنا 238
المال 238
العرض 238
تبيان ذلك في الأصل المكي 239
وفي صيام عاشوراء، وفي الجهاد 240(7/336)
ص -588-…المسألة التاسعة: 241
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا سواء كان كليا أو جزئيا 241
وكذلك عموم التشريع 242
أصل شرعية القياس 242
ومنها أن الله قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره 242
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله وفعله 243
تخريج حديث "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" 243-244
تخريج حديث "إني لأنسى أو أنسى لأسن" 245
المسألة العاشرة: 247
الأدلة الشرعية ضربان: 247
الأول: أن يكون على طريقة البرهان العقلي 247
الثاني: مبني على الموافقة في النحلة، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية 248
المسألة الحادية عشرة: 249
إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازي إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ 249
توضيح ذلك بالأمثلة 249-251
المسألة الثانية عشرة: 252
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون له ثلاث حالات من حيث عمل السلف به:
الأول: أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا 252
الثاني: أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال 252-253
الترجيح بين العمل الأكثري وغيره، وهناك مسائل ترجيح أخرى 253
قضايا الأعيان وحجيتها 254
وهذا القسم ضربان: 254
أحدهما: أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة 254
ذكر الأمثلة مثل إمامة جبريل وغيرها 255-256(7/337)
ص -589-…تعقب السيوطي في "الأزهار المتناثرة" في حديث "أسفروا بالفجر" 257
المحافظة على الأوقات 258
الاغتسال يوم الجمعة 259
قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان 259-260
توضيح للأمثلة التي ذكرها المصنف 263
مشروعية الجماعة للنافلة 264
الثاني: ما كان على خلاف ذلك، ولكنه يأتي على وجوه:
منها: أن يكون محتملا في نفسه 267
مثل القيام للقادم 267-268
إذا احتمل الموضوع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر 269
قصة المعانقة وتقبيل اليد 269-270
سجود الشكر عند مالك 270
العمل على شيء أقوى من الحديث عند مالك 270
التشهد والأذان عند مالك 271
سجود الشكر وعودة إليه 271-272
ووجه آخر: أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به 272
ومنها: أن يكون مما فعل فلتة، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره 273
ومنها: أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه 274
كأكل أبي طلحة البرد وهو صائم 274
أمثلة أخرى 275
ومنها: أن يكون عمل به قليلًا ثم نسخ فترك العمل به جملة؛ مثل الصيام عن الميت 276
والسجود في المفصل 278
أما من عمل بالقليل فيلزمه لوازم منها 280
الأول: المخالفة للأولين 280
الثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه ومخالفتهم 280
الثالث: أن ذلك ذريعة إلى اتدراس أعلام ما داموا عليه واشتهار ما خالفه 280(7/338)
ص -590-…والقسم الثالث من أقسام المسألة:
أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال، فهو أشد مما قبله 280
كلمة في التحذير من مخالفة السلف 280-281
السنة والرافضة والخلافة 281
الباطنية وفرق الاعتقادات الأخرى 281-282
قراءة القرآن بالإدارة 283
دعاء المؤذنين بالليل 283
كلمة جامعة عن الابتداع والمصالح المرسلة عند السلف 283-284
وفيه التحذير من أن اختراع البدع والاحتجاج بأن السلف أحدثوا أمورا لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كجمع المصحف بأنه من تتبع المتشابه 283-284
احتجاجه بأن ذلك من المسكوت عنه لا دليل فيه؛ لأن المسكوت عنه
على وجهين: 284-285
الوجه الأول: أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد 285
الثاني: أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد، فيشرع له أمر زائد....
وهو المصالح المرسلة 285
المطلق إذا وقع العمل به على وجه 285
فصل المخالفة لعمل الأولين مختلفة المراتب، ولكنها تقع من أحد شخصين: إما مجتهد بذل غاية الوسع فلا حرج، وإن لم يبذل فهو آثم 286
قد لا يكون مجتهدا وأدخل لنفسه خطأ 286-287
أهل الاجتهاد لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون 287
العمل مخلص للأدلة من شوائب الاحتمالات المقدرة الموهنة 288
الفرق وأهل الضلالات لا يعجزون عن الاستدلال لمذاهبهم وذكر أمثلة على ذلك 288-289
وكذلك النصارى 289
التحري لعمل السلف وفهمهم هو الصواب 289
المسألة الثالثة عشرة:
أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين: 290
الأول: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه(7/339)
ص -591-…النازلة 290
الثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة 290
وهذا شأن أهل البدع 290
المسألة الرابعة عشرة: 290
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: 292
أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردا
عن التوابع والإضاقات 292
الثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات 292
هل يصح الاقتصار في الاستدلال على الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها 292
أخذ المستدل الدليل على الحكم مفردًا مجردًا عن اعتبار الواقع صح الاستدلال،
وإلا فلا يصح 292
توضيح ذلك بالأمثلة 292
{لَاْ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ} ونزول {غَيْر أُولِيْ الْضَّرَرِ} 293
حديث: "من نوقش الحساب عذب" 293
"ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" 294
والأمثلة لا تحصى 295
فصل: مواضع تعين المناط: 296
الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كنزول الآيات على سبب 296
أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم 297
ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء 298
إذا لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع 300
النظر الثاني في عوارض الأدلة 303
فينحصر في خمسة فصول:
الفصل الأول: الإحكام والتشابه 305
المسألة الأولى 305
إطلاق المحكم على وجهين خاص وعام 305(7/340)
ص -592-…المسألة الثانية: في التشابه 307
فوائد هذه المسألة 307
ثبت التشابه بقلة في النصوص "الأدلة" لأمور: 307
الأول: النص الصريح 307
الثاني: أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا 308
الثالث: الاستقراء 308
فإن قيل كيف يكون المتشابه قليلا؟ وهو كثير على الوجه الذي أراده المصنف 309
القواعد الكلية لا تجري على الاطراد 309
ثم إن المسائل المتفق عليها قليلة والمختلف عليها كثيرة 309
الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص من القوادح العشرة المذكورة 310
الكلام في أخبار الآحاد وضعف الأسانيد، والاختلاف فيها 311
وهناك القياس 311
مقدمتا الاستدلال الشرعي؛ "الشرعية"؛ و"نظرية" تتعلق بتحقيق المناط 311
الجواب عن هذه الإشكالات وأن التشابه إنما هو بحسب الواقع قبل البيان 311-312
لا بد من جمع النصوص في المسألة وعدم أخذ طرف منها 312
مثل المعتزلة في اتباع المتشابه 313
وجميع أهل الطوائف 313
المسألة الثالثة 313-314
المتشابه الواقع في الشريعة حقيقي وإضافي 315
فالأول: هو المراد بالآية، وهو قليل، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق
به تكليف سوى مجرد الإيمان 315
اختلاف النصارى في شأن سيدنا عيسى عليه السلام وبالتالي
إفكهم وافتراؤهم على الله جل وعلا 315-316
الهوى والفساد عند النصارى 316-317
الثاني: وهو الإضافي، وسبب ذم من اتبع هذا النوع 317
طرح أمثلة على النوع الثاني 317
الثالث: التشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، إنما على مناطها
كالاشتباه في الميتة والذكية 318(7/341)
ص -593-…فصل: المتشابه هو الحقيقي فقط 318
إخراج مسائل الخلاف من المتشابهات بإطلاق 318
انتقاد المصنف في أسلوبه 318
مسائل العقيدة التي تكلم فيها السلف أو سكتوا عنها 319
نظر المجتهد في الأدلة وإصابة الحق 319
الإجماع والقياس 319-320
الخلاف في الأمة فرقا ومذاهب فقية 320
دخول علوم إلى الشرع لا يحتاج إليها 320-321
المسألة الرابعة: 322
التشابه الحقيقي لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية بالاستقراء، ولأن الأصول لو دخلها التشابه، لكان أكثر الشريعة كذلك، وهو باطل 322
بيان عن الفرق الضالة وانحرافها في الأصول 323
تمييز الكلام بين الأصول والقواعد الكلية 323
عودة مجددة إلى آيات الصفات وإيهامها للتشبيه 323
الوقوف في قوله تعالى: 323
{وَمَا ْيَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ والْرَاسِخُوْنَ فِيْ العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهْ} 324
هل في القرآن كلمات لا معنى لها 325
المنسوخ والمتشابه 325-326
أخبار يوم القيامة، وفواتح السور 326
التفويض في الصفات 326
اختلاط الميتة بالذكية 326
المسألة الخامسة: 328
التأويل في المتشابه 328
الإضافي والحقيقي 328
المسألة السادسة: 330
ما يشترط في المؤول به أو ما يراعى في وصفه: 330
أولا: أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين 330(7/342)
ص -594-…ثانيا: أن يكون وضع اللفظ قابلا له بوجه من الوجوه 330
معرفة مراد المتكلم بكلامه 330
التأويل يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه 331
معنى التأويل أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة 332
أمثلة من التأويلات الفاسدة: 332
تأويل "الخليل" 332
و"غوى" 332
فصل: جريان ما سبق على باب التعارض والترجيح 333
التأويل الصحيح والفاسد 333
الفصل الثاني في الإحكام والنسخ 335
المسألة الأولى: 335
القواعد المكية والأحكام المدنية 335
ذكر بعض الأحكام الإسلامية التي شرعت في مكة، وبعض المعاصي
التي كانت عند عرب الجاهلية 335
الأصول المكية كثيرة والأحكام قليلة 335
إكمال الأحكام في المدينة 336
النسخ والرخص في المدينة أكثر منها في مكة 336
النسخ وقع على أحكام كانت استئلافا للناس 336
المسألة الثانية: 336-337
النسخ في الكليات -مكية، أو مدينة- لا يقع، ثبت ذلك بالاستقراء من تتبع الناسخ والمنسوخ، ولأن الأحكام التي ثبتت على المكلف لا ترفع إلا بما هو ثابت قبلها 338
الأحكام المكية أكثرها كليات فالنسخ فيها قليل على عكس المدنيات 339
نسخ القرآن بخبر الآحاد أو بالمتواتر 339
فصل: إسقاط كثير من النسخ المدعى على جملة آيات وأحكام -ليست كليات- بالتأمل والجمع بين النصوص 340
مناقشة "الجلالين" في ادعاء النسخ 340
التمثيل على زكاة الفطر 340(7/343)
ص -595-…تحريم المباح ليس بنسخ 341
تعريف النسخ 341
تمثيل على ما حرم بعد الإباحة: الخمر، والكلام في الصلاة 341
نقد المصنف في النقل عن الآخرين وفي عدم تمحيصه للأخبار 342
عبارات لتحريم ما هو مباح 342
المسألة الثالثة: 344
معاني النسخ عن المتقدمين: 344
تقييد ما أطلق وتخصيص ما عمم وتبيين ما أبهم 344
النسخ الذي عرف سابقا 344-345
هل النسخ يدخل على الأخبار وثمراتها؟ وبحث هام فيها! 345
نسخ التلاوة ونسخ التكليف 345-346
أمثلة على معاني النسخ عند الأقدمين ومناقشتها وتفسيرها
على الوجه الأفضل 345
الهمم والخواطر 352
التخصيص والنسخ ومثال يخرج عليهما 354
الفرار من المعركة 355
حسن الظن بالعلماء 356
النسخ في الأخبار 356
النسخ في التهديد والوعيد 359
شهادة التائب من القذف 360-361
التيمم 360
المسألة الرابعة: 365
القواعد الكلية وما يحفظها ثابتة لا يدخلها نسخ 365
الضروريات مراعاة في كل ملة 365
مراعاة الحاجيات، والتكليف بما لا يطاق 365
اختلاف الأحكام الجزئية بين الشرائع 367
الفصل الثالث في الأوامر والنواهي 369
المسألة الأولى: 369(7/344)
ص -596-…الطلب والإرادة من الآمر في الأمر والنهي 369
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في إرادة الله الأمر ووقوعه 369
معاني الإرادة في الشريعة: الخلقية القدرية الكونية والأمرية 370
ذكر آيات وأحاديث على الإرادتين 372
تأويل الإرادة 372
عدم التمييز بينهما سبب للوهم 373
ذكر اصطلاح المصنف بكلمة "قصد الشارع" والقصد 373
المسألة الثانية: 374
الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي
يستلزم قصده لترك إيقاعها 374
ثلاثة أوجه للاستدلال على هذه المقولة 374
إشكالات عليها 375
الإجابة عليها 376
مناقشة للمصنف في بعض الإجابات 377
المسألة الثالثة: 379
الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد 379
مناقشة وتوضيح لرأي المصنف 379
الوجه الأول: لولا ذلك لانتفى أن يكون أمرًا بالمطلق 379
الثاني: ثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص 379
الثالث: أن التقييد تعيين ولكان تكليفا بما لا يطاق 380
معارضة ما سبق 381
والجواب عنه 383
الواجب المخير 384
المسألة الرابعة: الأمر بالمخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده
المطلقة المخير فيها 385
المسألة الخامسة: 385
المطلوب الشرعي ضربان: 385
الأول: ما كان شاهد الطبع خادما له ومعينا على مقتضاه 385(7/345)
ص -597-…الثاني: ما لم يكن كذلك كالعبادات 385
في الأول يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية
والعادات الجارية 386
إطلاق كثير من العلماء على أمور أنها سنن أو مندوبات
أو مباحات ومعناها 386
النصوص الجازمة غير موجودة في طلب الأمور العادية 387
أما الضرب الثاني: فإن الشارع قرره على مقتضاه 388
يكون ذلك في الأوامر والنواهي، ويلحق بها اقتحام المحرمات
لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبيعي 388
الكلام عن لحم الخنزير وفصحه عند الكفار 388
العصيان بسبب الشهوة 389
المعاند المجاهر 389
فصل: هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل 390
المسألة السادسة: 392
كل خصلة أمر بها أو نهي عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير، فليس الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها 392
ذكر جملة من الأوامر والخصال الحسنة 392
ذكر جملة من المنهيات والخصال السيئة 393
الإسراف والتبذير والفرق بينهما 393
ألفاظ المنكر والإثم والإجرام 393
ما سبق في الأوامر والنواهي جاءت في القرآن على ضربين: 395
الأول: أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء وعلى كل حال لكن
بحسب كل المقام 395-396
سرد لمعاصٍ أخرى 395
توضيح للضرب الأول بالأمثلة 396
الضرب الثاني: أن تأتي في أقصى مراتبها، مقرونة بالوعيد في النواهي وبالمدح لفاعلها وبالنعيم في الأوامر 397
توقف السلف بالجزم بالتحريم 401
المسألة السابعة: 404(7/346)
ص -598-…الأوامر والنواهي على ضربين: صريح وغير صريح 404
والصريح له نظران: 404
الأول: من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية 404
الخلاف بين الصحابة في صلاة العصر في بني قريظة 407
احتجاج المبتدعة به على أهل السنة 407
رد التنازع إلى الكتاب والسنة 407
المحافظة على الأوقات 408
إصابة الحق 408
اعتبار المصالح وتحقيقها في الأحكام 409
الالتفات إلى المعاني 410
البول في الماء الراكد 411
القيم في الزكاة 411
النظر الثاني: هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي
بحسب الاستقراء في خصوصها 411
اعتبار المصالح في الأحكام 412
الوصال في الصيام 413-416
بيوع منهي عنها 416-418
تساوي الأوامر والنواهي من جهة اللفظ في دلالة الاقتضاء 419
اعتبار السياق في كلام العرب 419
الظاهرية هل هي بدعة 420
فصل: عمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي 421
قيام السلف بالعبادات والاجتهاد فيها 421
تيسير الرب العبادات على المكلفين 421
المشتقات والرخص 421-422
فصل: ضروب الأوامر والنواهي غير الصريحة: 422
أحدها: ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم 422
الثاني: ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر، أو ذمه أو ذم فاعله في النواهي(7/347)
ص -599-…وترتيب الثواب والعقاب والمحبة والكره 422-423
الثالث: ما يتوقف عليه المطلوب كالمفروض في مسألة
ما لا يتم الواجب إلا به 423-424
فصل: معاني الغصب والتعدي عند العلماء واختلافهم فيه وهل يختص ذلك بالمنافع دون الرقاب وبحث مباحث أخرى تحتها 425-432
المسألة الثامنة: 433
توارد الأمر والنهي على متلازمين عند فرض الانفراد، مع حكم تبعية أحدهما للآخر المعتبر ما انصرف إلى المتبوع 433
أدلة ذلك: 433
الأول: الفرق الأول بين القصد الأصلي والتابع وإن كان الأمر والنهي
هناك غير صريح وهنا صريح 433
الثاني: أنهما إما أن يردا معا أو لا يردا ألبتة أو أحدهما دون الآخر والأول والثاني غير صحيحين والثالث أحدهما تابع والآخر متبوع 434
الثالث: الاستقراء 434
الإشكالات الواردة على ما سبق 436
الأول: ما قيل أن الرقاب والذوات لا يملكها إلا الله والمنافع للعباد 436
الثاني: إن سلمنا أن الذوات هي المعقود عليها فالمنافع هي المقصودة 437
الثالث: ما وجد من النصوص الشرعية 438
الرابع: قصد المنافع عند العقلاء 439
الإجابة عن الإشكالات 439
الجواب عن الأول 440
الجواب عن الثاني 441
الجواب عن الثالث 445
الجواب عن الرابع 446
القصد إلى المنافع 447
ضوابط المنافع بالكلية 447
فصل: أقسام منافع الرقاب: 448
الأول: ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكمًا ولا موجودًا 448(7/348)
ص -600-…الثاني: ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودًا وحكمًا أو حكمًا عاديًّا أو شرعيًّا 449
الثالث: ما فيه الشائبتان، وهو ضربان: 449
أحدها: ما كان هذا المعنى فيه محسوسا 449
ثانيها: ما كان في حكم المحسوس 449
تبيان وجه الخلاف بمثال السقي بعد بدو الصلاح 451
فصل: فوائد تتركب على هذا الأصل 452
منها: أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جارٍ في الحكم التابع والمتبوع المتفق عليه ما لم يعارضه أصل آخر 452
ذكر أمثلة على ذلك وتوضيحها 452
ومنها: أن كل تابع قصد، فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة
على الجملة لا على التفصيل 454
ومنها: قاعدة الخراج بالضمان فالخراج تابع للأصل 455
ومنها: تضمين الصناع ما كان تابعًا للشيء المستصنع فيه 455
ومنها: في الصرف ما كان من حلية السيف والمصحف 456
التنبية على أن مسائلها كثيرة 456
فصل: ومن الفوائد: 456
أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه
وما فيه منفعة أو منافع فهو أحد ثلاثة أقسام: 457
الأول: أن يكون جميعها حرامًا أن ينتفع به 457
الثاني: أن يكون جميعها حلالًا 457
التنبيه على بعد هذين القسمين عن الواقع 457
الثالث: ما اختلطا 457
وهو قسمان: 457
الأول: أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفًا والجانب
الآخر تابع غير مقصود بالعادة 457
قصد العاقد إلى المحرم على الخصوص وهو يحتمل وجهين: 458
الوجه الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع 458(7/349)
ص -601-…الوجه الثاني: اعتبار القصد الطارئ 458
فائدة حول اختلاط المنافع المحللة بالمحرمة 458
بدء ذكر الأمثلة وتوضيحها بالأصل السابق بما يشفي العليل 458
توجيه الوجه الأول وتقويته 459
القسم الثاني: أن لا يكون أحد الجانبين تبعًا في القصد العادي، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة 459-460
ذكر بعض القواعد تحت هذه المسألة 465
المسألة التاسعة: 467
حال الاجتماع وحال الانفراد في الشرع 467
ورود الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري؛ إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معًا في
عمل واحد وفي غرض واحد 467
توضيح تأثير الاجتماع وتأثير التفرق وأن للاجتماع ما ليس
للانفراد والعكس 468
سرد أمثلة من الكتاب والسنة على تأثير الاجتماع 468
كلمة عن الاجتماع والجماعة والفرقة 473
ذكر معاني الافتراق التي لا تزيلها حالة الاحتجاج 473
ذكر أمثلة في توضيح وتثبيت هذا الأصل 473
التأكيد على معاني الانفراد التي ليست في الاجتماع
ومعاني الاجتماع التي ليست في الانفراد 474 -475
المسألة العاشرة: 477
الأمران يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعهما في عمل واحد أو في غرض واحد فقد تقدم أن للجمع تأثيرًا، وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد، كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع 477
حالة حصول تنافي بين الأعمال ضمن القاعدة السابقة 477
بيع وسلف وتطبيق ما سبق عليه 478
مسألة الانفكاك في النيات واجتماعها 478
جمع العقود عند مالك 480(7/350)
ص -602-…المسألة الحادية عشرة: 484
الأمران يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما
راجعًا إلى الأمر المطلق، والآخر راجع إلى بعض تفاصيلها،
أو إلى بعض أوصافها أو إلى بعض
جزئياتها فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول 484
سرد مجموعة من الأمثلة 484
الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع 486
التوسعة ورفع الحرج 487
المسألة الثانية عشرة: 488
الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى بعض أوصافها أو
جزئياتها أو نحو ذلك 488
صورتا المسألة 488
الأول: أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها... وذكر أمثلة توضيحية 488
الثاني: أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها.. وذكر أمثلة توضيحية 488
المسألة الثالثة عشرة: 491
تفاوت الطلب فيما كان متبوعًا مع التابع له، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلا رتبة وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل أو الأوصاف أو خصوص الجزئيات 491
جريان الأوامر في الشريعة في التأكيد على أكثر من مجرى أو قصد واحد 492
إطلاق القول في الأمر... هل هو للوجوب أو غيره 492
ترجيح الأمر للوجوب 493
المسألة الرابعة عشرة 495
الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمرًا بالتوابع 495
دليل ذلك وما ينبني عليه في أداء المكلف للمطلقات 495
مثال ذلك في الإعتاق المطلق 496
بيان أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع 496
تمثيل ذلك بما يوضح معنى من معاني البدعة 497(7/351)
ص -603-…فائدة المسألة: التزام الخصوصيات في الأوامر المطلقة
مفتقر إلى دليل وإلا كان قولًا بالرأي 502
المسألة الخامسة عشرة: 503
المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب
الترك بالقصد الثاني، كما أن المطلوب الترك
بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول 503
توضيح الأول وهو المطلوب الفعل: 503
الأول: أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه وهو الأصل 503
النعم والإسراف والاقتصاد فيها وكذلك شكرها 504
الثاني: أن جهة الامتنان لا تزول أصلا وقد يزول الإسراف أيضًا 506
الثالث: أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى 507
ذكر بعض الآيات والأحاديث 507-508
باب سد الذرائع أيضًا 509
معارضة ما سبق - بأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض 510
التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار 511
الجواب على الاعتراض من وجهين 511
توضيح الثاني وهو المطلوب الترك للكل 515
أولا: لأنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل فصار مطلوب الترك 515
الثاني: أن الغناء -وهو المضروب مثلًا- من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلًا 515
الثالث: أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به، ولا جاء في معرض تقرير النعم 516
معارضة ما سبق بأن حصول اللذة وراحة النفس مقصود للإنسان وطلبها مع اللذات جائز... فليكن اللهو واللعب... جائز 517
دليل المعارضة: الأول بثها في القسم الأول 518
الثاني: نصوص القرآن 518
الثالث: أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل فهي خادمة
للمأمور به أيضًا 519
الجواب عليها وجهًا وجهًا 519
فصل: فائدة بحث المسألة: 525(7/352)
ص -604-…منها: الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد، وما لا يطلب الخروج عنه 526
النظر في تعارض الأصل والغالب 528
تحذير السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد 529
فصل: ومنها: الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة
وما لا ينقلب 531
ومنها: بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال مع
علمه بسوء عاقبتهم فيه 534
المسألة السادسة عشرة: 536
الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب
الفعلي أو التركي، وإنما ذلك بحسب
تفاوت المصالح
والمفاسد الناشئة 536
الصوفية وإطراح الدنيا ومساواة الواجب بالمندوب والمحرم بالمكروه 536
المباحات والرخص 536
مأخذهم في الأمر من طريقين: 536
الأول: من جهة الأمر، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي
إلا مجرد الاقتضاء 537
الثاني: من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات: 537
أحدها: النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها 538
الثاني: النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح
ودرء المفاسد عند الامتثال 538
الثالث: النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران 541
فصل: ويقتضي ما سبق التوبة عن كل مخالفة تحصل
بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه 542
الصوفية ومراتبهم 544
مراتب الناس في الدنيا وفي الآخرة 544
المسألة السابعة عشرة: 549
الأوامر والنواهي وإمكانية أخذها امتثالا من جهة ما هو حق لله مجردا عن النظر في غير ذلك، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد 549(7/353)
ص -605-…مأخذ الامتثال في مثل قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 549
الأول: النظر في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق
، وإلى زاد يبلغه... وما يعود عليه من الأمور التي
تعود عليه في قصده
بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة 549
الثاني: أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله،
غافلا ومعرضا عما سوى ذلك 550
المأخذ الأول: مأخذ جارٍ على اعتبار حقوق العباد -
وهو ما يخص الفقهاء 550
والثاني: جارٍ على إسقاط اعتبارها والدليل على صحته: 551
الأول: ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب
من العبد التعبد بإطلاق 551
التقوى لله وكفاية الله له 551
الثاني: ما جاء في السنة من ذلك 553
الثالث: ما ثبت من هذا العمل من الأنبياء صلوات الله عليهم فقدموا
طاعة الله على حقوق أنفسهم 556
مناقشة المصنف فيما ذهب إليه من استدلالات وما نقله
من نصوص عن الصحابة والسلف 556
إطراح الأسباب جملة 558
التنبيه على أن حقوق الله ليست على وزان واحد 561
مناقشة المصنف لنفسه ثم الإجابة على الإشكالات 561
ما تقدم يدل على تقديم بعض الأسباب التي يقتضيها حق الله 562
حقوق الله أعظم من حقوق العباد 562
فصل: تأخير حقوق العباد يرجع إلى المكلف لا إلى غيره 562
المسألة الثامنة عشرة 564
توارد الأمر والنهي على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل
والآخر راجع إلى جهة التعاون 564
إذا اعتبر الأول الراجع إلى سد الذرائع فهو منع الجائز 564
ويحتمل ثلاثة أوجه: 564
الأول: اعتبار الأصل 564(7/354)
ص -606-…الثاني: اعتبار جهة التعاون 564
"تفصيل المسألة وتوضيحها" 564-565
الثالث: التفصيل وترجيح الغالب 564-565
الاستدراكات 569
الموضوعات والمحتويات 571(7/355)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الرابع
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(8/1)
ص -7-…تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة عامة
الفصل الرابع: في العموم والخصوص
ولا بد من مقدمة تبيّن المقصود من العموم والخصوص ههنا، والمرادُ العموم المعنوي، كان له صيغة مخصوصة أو لا، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره: إنه عام فإنما معنى1 ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم، بدليل فيه صيغة عموم أو لا، بناء على أن الأدلة المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية، المحصِّلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات والخصوص بخلاف العموم، فإذا ثبت مناط النظر وتحقق؛ فيتعلق به مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي ذكره في المسألة السادسة، ويستدل عليه هناك بجملة وجوه. "د".(8/2)
ص -8-…المسألة الأولى:
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة1. فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان، ولا حكايات2 الأحوال، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض؛ لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه.
والثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها3 إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة؛ لإمكان أن تكون4 على غير ظاهرها، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة5 من ذلك الأصل؛ فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.
والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم ترد مقيدة، وقوله: "قضايا الأعيان" كما ورد مسحه -صلى الله عليه وسلم- على عمامته*، فلا يؤثر ذلك في قاعدة وجوب مسح نفس الرأس في الوضوء، ويكون مسح العمامة متى كانت روايته قوية مستثنى للعذر بجرح أو مرض بالرأس يمنع من مباشرة المسح عليها، وكما سيأتي في الفصل التالي في قضية قتل موسى للقبطي. "د".
قلت: انظر عن تخصيص العام بقضايا الأعيان: "البحر المحيط" "3/ 405" للزركشي.
2 كالحكايات التي [ستأتي "ص59"]** عن عثمان وعمر من تركهم في بعض الأحيان ما هو مشروع باتفاق كالأضحية خوفًا من اعتقاد الناس فيه غير حكمه كالوجوب مثلًا. "د".
3 أي: فالأدلة القطعية التي أنتجت هذه القاعدة حددت معناها بحيث صارت لا تحتمل إرادة غير ظاهرها. "د".
4 في "ط": "لأن تكون...".
5 أي: مع بقاء العموم في الباقي بعد الاستثناء. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه والتعليق عليه في "3/ 272".
** بدلها في المطبوع: "تقدمت".(8/3)
ص -9-…الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السفرية1 بالنسبة إلى الملك المترف، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني.
والرابع: أنها لو عارضتها؛ فإما أن يُعملا معًا، أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر، أعني في محل المعارضة؛ فإعمالهما معًا باطل2، وكذلك إهمالهما؛ لأنه إعمال3 للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة؛ فلم يبقَ إلا الوجه الرابع، وهو إعمال الكلي دون الجزئي، وهو المطلوب.
فإن قيل: هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد؛ فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جارٍ فيها؛ فيلزم إما بُطلان ما قالوه، وإما بطلان هذه القاعدة، لكن ما قالوه صحيح؛ فلزم إبطال هذه القاعدة.
[فالجواب]4 من وجهين:
أحدهما5: أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال؛ فإن ما نحن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن العلة للرخصة بالإفطار أو القصر المشقة، وليست متحققة في الملك الذي يستعمل وسائل الترف في سفره، وهكذا ما بعده في الغنى بالنسبة إلى تحديد النصاب فيمن لا يجعله النصاب غنيًّا، وعكسه. "د". وفي "ط": "المشقة السفرية".
2 لأنه يستلزم التكليف بالضدين معًا، وهو لا يجوز. "د".
3 لأن إهمال الدليلين أو التوقف فيهما فرع عن تعارضهما مع عدم الترجيح لأحدهما، والواقع خلافه؛ لأنه لا معارضة إلا عند التساوي. "د". وفي "ط": "إهمال".
4 سقط من "ط".
5 أين ثانيهما؟ "د".(8/4)
ص -10-… فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضًا وفي الحقيقة ليس بمعارض؛ فإن القاعدة إذا كانت كلية، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها، مع إمكان أن يكون معناها موافقًا لا مخالفًا فلا إشكال في أن لا معارضة1 هنا، وهو هنا محل التأويل لمن تأول، أو محل عدم2 الاعتبار إن لاق بالموضع الاطراح والإهمال كما3 إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليًّا عامًّا ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: والعموم معتبر ويؤول الجزئي بما يليق به من المحامل التي تقبلها اللغة والأصول الدينية، وذلك حيث يكون الجزئي لا يليق به أن يطرح، بأن كان كتابًا أو سنة متواترة ولو معنى، وقوله: "أو محل عموم الاعتبار" لعل الأصل: "اعتبار العموم" هكذا بالتقديم والتأخير، أي: مع طرح الدليل الجزئي وعدم الاعتداد به إذا لم يكن كسابقه، بأن كان سنة دخلتها علة من العلل، كأن كانت مرسلة أو موقوفة أو مقطوعة أو كذب الأصل فيها الفرع، وكل من المحلين العموم فيه معتبر قطعًا لا رائحة للتخصيص فيه، إلا أن الأول لقوة الجزئي سندًا وعدم إمكان طرحه كان محل التأويل، والثاني لضعف سنده لا حاجة فيه إلى التأويل بدون ضرورة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "عموم".
3 تقدم لك تمثيل قضايا الأعيان بالمسح على العمامة* وليس في مسألة التنزيه قضايا أعيان ولا حكاية حال، إنما فيها أدلة شرعية جزئية ربما يدل ظاهرها على المعارضة، كحديث: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا... إلخ"، وكما في آية: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح: 10]، وهكذا، وأصل الكلام في قضايا أصول الفقه أو قضايا الفقه نفسه؛ كمثالي الملك المترف والنصاب لا في أصول العقائد.(8/5)
وبالجملة؛ فالمقام مشكل لأنا إذا جرينا على التقرير الماضي جميعه من أول المسألة إلى أول الجواب من أن الكلام في مسألة من أصول الفقه ورد عليه أن الأدلة لا سيما الرابع لا تظهر في كليات فروع الفقه، وأيضًا؛ فالجواب ضعيف لأنه ما الذي يعرف به أن في الجزئي ليس معارضًا في الحقيقة وإن فهم فيه المعارضة، فإما أن تئوله، وإما نسقطه، وأنه في هذه الحالة غير ما أريد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال، وأيضًا؛ فلا معنى للتمثيل بمسألة التنزيه وعصمة الأنبياء، ولا يقال: إن هذا مجرد تشبيه وليس تمثيلًا لما نحن فيه؛ فهو تشبيه يقرب الغرض من الفرق بين ما يتوهم فيه التخصيص وليس بتخصيص وبين ما يكون المراد ظاهر المخصص لأنا نقول: البعد =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليس الأمر كذلك؛ فقد ثبت فيه أحاديث، كما قدمناه.(8/6)
ص -11-…خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره، على ما أعطته قاعدة التنزيه، فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة، وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب، ثم جاء قوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"1 ونحو ذلك؛ فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم2 ذلك الأصل، وأما تخصيص العموم؛ فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال؛ فحينئذ يعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شاسع بين المقامين؛ لأن التنزيه وعصمة الأنبياء من المقطوع في عمومه بالأدلة القطعية والنقلية، فكل ما ورد مخالفًا لذلك من جزئيات الأدلة يعلم أنه ليس بمخصص، فيجري فيه أحد الأمرين المذكورين: إما التأويل، أو الإهمال، ولا كذلك القضايا العامة في الفروع لأنها جميعها قابلة للتخصيص حتى بخبر الآحاد، فلا طريق لمعرفة ما يراد منه ظاهره ليكون مخصصًا وما لم يرد حتى تئوله أو نطرحه، وإن جرينا على أن هذه المسألة في قضايا العقائد -وهو الذي يناسب ما يذكره في الفعل بعده تفريعًا على هذه المسألة- خرجت عما نحن فيه، ولم يناسبها التقرير السابق في قوله: "مقتطعة مستثناة من ذلك الأصل"، وقوله: "ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية... إلخ"، وبالجملة؛ فلا بد أن أن يكون لسقوط الوجه الثاني أثر في التباس الجواب، وربما كان قوله: "كما إذا ثبت... إلخ" مرتبطًا بما سقط من الوجه الثاني، والله أعلم، وقد يقال: إن المسألة الأولى يراد بها ما هو أعم من الأصوليين، فعليك بتتبع التقرير من أول المسألة والتمثيل والإشكال والجواب بناء على التعميم في الأصول المذكورة، فلعلك تصل إلى إزالة بعض ما أشرنا إليه من إشكالات المسألة. "د".
قلت: وانظر ما قدمناه "2/ 195، 257 و3/ 319، 323" من قواعد وكليات تخص تأويل الصفات؛ ففيه ما يثلج الصدر، ويريح الفؤاد.(8/7)
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 388/ رقم 3357، 3358 وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام- 4/ 1840/ رقم 2371" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 في الأصل: "لا يخرج".(8/8)
ص -12-…فصل:
وهذا الموضع كثير الفائدة1، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات [وقضايا الأعيان2]، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة3 في الكلي؛ فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات، ولا توفيق إلا بالله.
ومن فوائده سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين.
ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس، وقد ورد على "غرناطة" بعض "طلبة"4 العدوة الأفريقية؛ فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه -عليه السلام- بقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15].
وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفوائد التي ذكرت في هذا الفصل إنما تبنى على الكليات المقطوع بها التي لا تقبل تخصيصًا ولا استثناء، ومعلوم أن ذلك في أصول العقائد لا في أصول الفقه. "د".
2 مثلوا لها بإذنه -صلى الله عليه وسلم- بلبس الحرير للحكة، وللحنابلة قولان في صحة التخصيص بتلك القضايا، ولكن التحقيق أن التخصيص إنما هو بالعلة المصرح بها التي لأجلها ورد الإذن، فإذا لم تكن مصرحة؛ فلا تخصيص. "د" وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 لأن الكلي على ما تقدم غير محتمل، بل متحدد المعنى لا يقبل تأويلًا، فإذا اعتبر ظاهر الجزئي؛ فلا مناص من المعارضة. "د". وفي "ط": "به الخيرة".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(8/9)
ص -13-…فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية1 بمجردها، وما ذكر فيها من التأويلات بإخراج2 الآيات عن ظواهرها، وهذا المأخذ لا يتخلص، وربما وقع الانفصال على غير وفاق؛ فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك: [أن] المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل، وهي مسألة عصمة الأنبياء -عليهم السلام- فيقال له: الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة، وعن الصغائر باختلاف، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام؛ فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة، وإن قيل: أنهم معصومون أيضًا من الصغائر، [وهو صحيح]3؛ فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبًا، فلم يبق4 إلا أن يقال: إنه ليس بذنب5، ولك في التأويل السعة6 بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك، ورأى ذلك7 مأخذًا علميًّا في المناظرات، وكثيرًا ما يبني عليه النظار، وهو حسن، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تفاصيل ألفاظ الأئمة...".
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "إخراج".
3 في الأصل: "الصحيح"، وسقط ما بين المعقوفتين من "ط".
4 في الأصل: "يتبين".
5 لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم؛ ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع القتل مترتبًا عليه من غير قصد. "ف".
6 منه أنه -عليه السلام- بعد أن وقع منه ما وقع تأمل؛ فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز، وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب؛ فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله، فقال ما قال على عادة المقربين في استفظاعهم، خلاف الأولى. "ف".
7 في الأصل و"ف" و"ط": "ورأى مثله".(8/10)
ص -14-…المسألة الثانية:
ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة1 وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع؛ كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما.
أما كون الشريعة على ذلك الوضع؛ فظاهر، ألا ترى أن وضع التكاليف عام؟ وجعل على ذلك علامة البلوغ، وهو مظنة لوجود العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم؛ إذ لا يطرد ولا ينعكس كليًّا على التمام؛ لوجود من يتم عقله قبل البلوغ، ومن ينقص وإن كان بالغًا، إلا أن الغالب الاقتران.
وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة2، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها3، ومع ذلك؛ فلم يعتبر الشارع تلك النوادر، بل أجرى القاعدة مجراها، ومثله حد الغنى بالنصاب، وتوجيه الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لا يتأتى ذلك من الجزئيات لاستحالة حصرها؛ فلا بد في التشريع العام من قواعد عامة. "د".
أما "ف"؛ فقال: "أي: برجوعهم إليها أو إلى بمعنى الباء".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207"، و"البحر المحيط" "6/ 92" للزركشي.
2 جعل المشقة علة نظرًا إلى أنها المترتب عليها الترخيص في الأصل، ولكن لما كانت غير منضبطة لاختلافها بحسب الأشخاص والأحوال؛ نيط الترخيص بمظنتها، وهو السفر؛ فهو العلة، أي: الوصف الظاهر المنضبط، وهذا هو المشهور عند الأصوليين. "ف".
3 الأنسب تذكير الضمير لرجوعه إلى السفر. "ف".(8/11)
ص -15-…بالبينات1، وإعمال2 أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف؛ فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية.
وعلى هذا الترتيب تجد سائر القواعد التكليفية.
وإذا ثبت3 ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية، من حيث هي منضبطة بالمظنات، إلا إذا ظهر معارض4؛ فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه، كما إذا عللنا القصر بالمشقة؛ فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل5؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أن البينة قد تخطئ، وقد تكذب، ومع ذلك يجب ترتيب الحكم على الشهادة؛ فقد يكون الحكم في الواقع خطأ، لكنه نادر لا يعتد به؛ لأنه لا طريق غيره لإجراء العدالة بين الناس، حسبما جرت به العادة الإلهية فيهم. "د".
2 في الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، مع أنها محتملة لما يجعلها غير صالحة للأخذ بها، وبناء الأحكام الشرعية العملية عليها، ومثله أو أشد منه يقال في القياسات، وكلها ظنية بين ضعيفة وقوية، كما هو معروف من أنه يتوجه على القياس نحو أربعة وعشرين اعتراضًا تجعل الأخذ به غير مقطوع بصحته في الواقع، ولكن الشرع مع ذلك اعتبره بناء على أنه يوصل إلى الصواب عادة. "د".
3 في "ط": "وإذ ثبت".
4 وذلك كما إذا ظهر كذب الشهود فيرد وينقض، وكما إذا ظهر نص في مقابلة القياس فيرجع للنص لفساد اعتبار القياس حينئذ؛ فقوله: "كما إذا... إلخ" راجع لما قبل إلا. "د".(8/12)
5 لا يخفى أن الكيل وصف طردي ليس فيه المناسبة التي يترتب عليها الحكم عند ذوي العقول السليمة، وقيل: العلة الوزن كما هو رأي أبي حنيفة، ورواية عند أحمد وعند مالك والشافعي أن العلة القوت، ورجحه ابن القيم، وأما الدراهم والدنانير؛ فمذهب أبي حنيفة أن العلة كونهما موزونين، وعند مالك والشافعي أن العلة الثمنية، وقال ابن القيم: إنه الصواب؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي جعل ضابطًا لقيم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا محدودًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كانت ترتفع وتنخفض لكانت كالسلع؛ ففسد أن تكون أصلًا =(8/13)
ص -16-…فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله1 لقلة أو غيرها؛ كالتافه من البر، وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنًا لقلته، أو عللناه في الطعام بالاقتيات؛ فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات؛ كالحبة الواحدة، وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر؛ كاللوز، والجوز، والقثاء، والبقول، وشبهها، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادًا مقيمًا للصلب على الدوام وعلى العموم2، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يرجع إليه في تقويم الأموال وحاجة الناس إلى أصل ترد إليه القيم حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بما يستمر على حالة واحدة حتى ترتفع المنازعات وتنقطع الخصومات بالرجوع إليه، ولو أبيح دراهم بدراهم متخالفة في وصف ككون إحداهما صحيحة والأخرى مكسرة أو صغيرة وكبيرة وهكذا؛ لصارت الدراهم متجرًا وجر إلى ربا النسيئة فيها ولا بد, والأثمان لا تقصد لأعيانها، بل ليتوصل بها إلى السلع، فإذا صارت هي سلعًا تقصد لأعيانها فسدت مصالح الناس، وهذا أمر معقول يختص بالنقدين، لا يتعداه إلى كل موزون كما يقول أبو حنيفة، وبالجملة؛ فقد منع ربا الفضل في النقدين لأنه مفوت لمصلحة انضباط القيم ونقض لأساس التعامل؛ ولأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، ومنع في الطعام سدًّا لهذه الذريعة في الأقوات التي تشتد حاجة الناس إليها ولتفاضل في النقدين والطعام حرام ووسيلة للحرام. "د".
قلت: انظر في علة الربا: "المغني" "4/ 125, مع الشرح الكبير"، و"إعلام الموقعين" "2/ 137"، و" الفروع" "5/ 148", و"المبسوط" "12/ 113"، و"عمدة القاري" "11/ 253"، و"المجموع" "9/ 445"، و"حاشية الخرشي" "3/ 412"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 473"، و"الربا والمعاملات المصرفية" "ص94 وما بعدها".(8/14)
1 الكيل والثمنية والقوت ليست علة بمعنى الحكمة كالمشقة في السفر، وإنما هي الأوصاف المنضبطة التي نيط بها الحكم وجعلت علامة على وجود الحكمة، فإذن الذي يقال: إنه متى وجد الكيل أو الثمنية أو القوت حرم التفاضل، سواء أوجدت الحكمة وهي سد الذريعة وحفظ ما تشتد إليه حاجة الناس في الأقوات والأثمان، أم لم توجد، ولا يقال: وجد الكيل أم لم يوجد، كما لا يقال: وجد السفر أم لم يوجد؛ لأن الوصف الذي نيط به الحكم لا بد منه؛ فتأمل. "د".
2 بحيث لا تفسد البنية بالاقتصار عليه. "د".
3 كأنه يقول أيضًا: إنه لا يلزم أن تكون العادة عادة في جميع الأقطار، وهذا يرجع إلى تقييد أصل المسألة، وأن العموم العادي الذي يقول: إنه مبنى الأحكام الشرعية لا يلزم اتحاده في جميع الأقطار؛ إلا أن ذلك إن صح؛ ففي مثل الاقتيات والثمنية اللذين يختلفان في بعض الأقطار، بحيث يكون الثمن فيها غير الذهب والفضة، وبحيث يكون القوت فيها غير هذه الأصناف أو غير بعضها، أما العادة في جعل البلوغ مظنة للعقل الذي هو مناط التكليف والشهادات، وفي مسألة الخمر قليله وكثيره، وفي مسألة مجرد الإيلاج؛ فالعادة فيه مطردة لا فرق بين قطر وآخر. "د".(8/15)
ص -17-…وكذلك نقول: إن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظًا على العقل، ثم إنه أجرى الحد في القليل الذي لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارًا بالعادة في تناول1 الكثير، وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب؛ فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال، وكثير من هذا.
فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أن العادة أن من يتناول القليل يتناول الكثير؛ فتحريم القليل والحد فيه من مكملات ضروري حفظ العقل. "د".(8/16)
ص -18-…المسألة الثالثة:
لا كلام في أن للعموم صيغًا وضعية، والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضًا، ولكنه أكيد التقرير ههنا، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين:
أحدهما:
باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أهل وضعها على الإطلاق1، وإلى هذا النظر قصد2 الأصوليين فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل3 والحس4 وسائر5 المخصصات المنفصلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 442/ 442-445".
2 ويتضح بما أثبته الآمدي في كتاب "الأحكام" "2/ 460" في قسم التخصيص بالمنفصل ومناقشته بالأوجه الثلاثة التي تقتضي أنه لا يصح التخصيص به، ثم تخلص بالجواب بأنه إذا نظر إلى أصل وضع الألفاظ من العموم صح التخصيص، وإذا نظر إلى عدم إرادة العموم من اللفظ، فإنه لا تخصيص، وأنه لا منافاة بين كون اللفظ دالا على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ. "د".
3 كما مثلوا له بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 162]، فالعقل دليل على تخصيص الخلق بغير ذلك وصفاته، وكذلك القدرة. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 73"، و"المستصفى" "2/ 100"، و"العدة" "2/ 547"، و"البرهان" "1/ 408"، و"التمهيد" "2/ 101"، و"المسودة" "ص118".
4 كما في قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]؛ فالحس دليل على أنها لم تدمر الجبال والأنهار وغيرها مما أتت عليه؛ فإنه خلاف المشاهد. "د".(8/17)
قلت: انظر: "المحصول" "3/ 75"، و"المستصفى" "2/ 99"، و"نهاية السول" "2/ 141"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص215". 5 كتخصيص الكتاب والسنة بغير الاستثناء والشرط والوصف والغاية. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 71 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 722 وما بعدها".(8/18)
ص -19-…والثاني:
بحسب1 المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك.
وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي.
والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي.
وبيان ذلك هنا أن العرب [قد] تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي؛ كما أنها [أيضًا]2 تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال؛ فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم3 مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا يريد4 أنه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفًا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما5 أنه قد يقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "باعتبار".
2 سقط من "ط".
3 لما حصروا التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي؛ قال القرافي: "الحصر غير ثابت؛ فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك: رأيت الناس فما رأيت أكرم من زيد، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس"، ولا يخفى أن ما قاله القرافي إجمال ما بسطه المؤلف، ونقل بعض أمثلته ابن خروف، ولا يخفى أن التخصيص إن كان لدليل شرعي؛ لزم أن تكون العادة مشتهرة في عهد النبوة، أما العادات الطارئة؛ فإنها تخصص ما يجري بين أهل تلك العادة من المحاورات في التعبير. "د".
4 في "ط": "ولا يقصد".
5 هذا من باب التشبيه لا التمثيل لما نحن فيه؛ لأنه عكس الموضوع، لكنه يقرره ويوضحه. "د".(8/19)
ص -20-…ذكر البعض في لفظ1 العموم، ومراده من ذكر البعض الجميع؛ كما تقول: فلان يملك المشرق والمغرب2، والمراد جميع الأرض، وضرب زيد الظهر والبطن، ومنه {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن} [الرحمن: 17].
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}3 [الزخرف: 84].
فكذلك إذا قال: من دخل داري أكرمته؛ فليس المتكلم بمراد، وإذا قال: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار، فإنما المقصود من لقي منهم؛ فاللفظ عام فيهم خاصة، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال.
قال ابن خروف4: "ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه؛ لبر ولم يلزمه شيء، ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم؛ فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب".
قال: "فكذلك5 لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى: {خَلَقَ كُلَّ شَيْء} [الزمر: 62] لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه، ومثله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وإن كان عالمًا بنفسه وصفاته، ولكن الإخبار إنما وقع عن6 جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر".
قال: "فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا، فلا تعرض فيه لدخوله تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في مكان لفظ العموم؛ فيكون اللفظ دالًّا على البعض، وهو يريد الجميع. "د".
2 وهذا من باب الكناية التي تفيد المطلوب بدليل؛ فهي أوقع في باب الإفادة لأن من ملك حدي الشيء فقد ملك جميعه إلى نهايته. "د".
3 فهو إله معبود فيهما وفيما يتبعهما أيضًا لا في خصوصهما. "د".
4 له شرح على كتاب سيبويه لم يطبع، ولعل النقل منه.
5 في "ط": "وكذلك".
6 في "ط": "على".(8/20)
ص -21-…المخبر عنه؛ فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب، وهذا معلوم من وضع اللسان".
فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات1 الأحوال التي هي ملاك البيان؛ فإن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة، ولذلك قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25].
وقال في الآية الأخرى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42].
ومن الدليل على هذ [أيضًا] أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان؛ فلا يقال: من دخل داري أكرمته إلا نفسي، أو أكرمت الناس إلا نفسي، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم، ولا ما كان نحو ذلك، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار، أو ممن لقيت2 من الكفار، وهو الذي يتوهم3 دخوله لو لم يستثن، هذا كلام العرب في التعميم؛ فهو إذًا الجاري في عمومات الشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل مقتضيات الأحوال سوى القرائن التي يدركها العقل والحس؟ كما في الأمثلة المذكورة ومثالي الكتاب الكريم اللذين ذكرهما بعد؛ إلا أن الكلام ابن خروف صريح في تأييد المؤلف في أنه لا يعد مثل هذا من باب التخصيص، لأن الخارج بالعقل والحس لم يدخل حتى يبحث عن إخراجه فيكون مخصصًا، وقد نسب ذلك إلى وضع اللسان واللغة. "د".
2 في "ط": "لقيت".
3 أي: ما يقع في الوهم دخوله، وذلك إنما يكون فيما يصح شمول اللفظ المخرج منه له حسب الاستعمال، أما طريقة الأصوليين؛ فمبنية على أن كل ما يدخل وضعًا يصح إخراج بعضه بالعقل وغيره؛ فيكون تخصيصًا. "د".(8/21)
ص -22-…وأيضًا، فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه، إلا مع الجمود على مجرد1 اللفظ، وأما المعنى؛ فيبعد أن يكون مقصودًا للمتكلم؛ كقوله, صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر"2.
قال الغزالي3: "خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو الغريب المستبعد".
وكذا قال غيره أيضًا، وهو موافق4 لقاعدة العرب، وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار أصل الوضع، أما مع مراعاة المعنى والقرائن ومقتضى الحال، فما لا يخطر بالبال لا يصح أن يعد داخلًا، فلا يحتاج إلى إخراج؛ فلا تخصيص. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، 1/ 277/ رقم 366" عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "إذا دبغ...".
وقد وهم بعضهم؛ فنسبه لمسلم بلفظ: "أيما إهاب..."؛ كما تراه مبسوطًا في "نصب الراية" "1/ 116"، و"تحفة الأشراف" "5/ 53"، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" للإمام البيهقي "1/ 194-198"، فراجعه إن أردت الاستزادة.
3 يريد الغزالي أن استثناء الشافعي لجلد الكلب من الطهارة بالدباغ لا يحتاج إلى مخصص منفصل ولا متصل، وهو يؤيد الأصل الذي يعمل المؤلف لإثباته هنا. "د".
قلت: انظر "المستصفى" "2/ 60".(8/22)
4 وقد يعد من ذلك مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ...} إلى أن قال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، مع أن من شروط المعاهدة أن من جاء إلى المسلمين يرد إلى الكفار، وهو لفظ عام يشمل النساء بحسب أصل الوضع الإفرادي، ولا يقال: إن التخصيص ورد على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن التخصيص في معاهدة مثل هذا لا يكون إلا برضا الطرفين واطلاعهما، حتى إنهم لما لم يرضوا عن تخصيص أبي جندل؛ لم يقبله -صلى الله عليه وسلم- ولما قبل النساء المؤمنات لم يبد منهم اعتراض، وذلك دليل على أن خروج النساء عن ذهن المتعاقدين كافٍ، مع =(8/23)
ص -23-…فإن قيل: إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق1 على جميع ما وضع له في الأصل حالة الإفراد، فإذا حصل التركيب والاستعمال؛ فإما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الانفراد2، أو لا، فإن كان الأول3؛ فهو مقتضى وضع اللفظ، فلا إشكال، وإن كان الثاني؛ فهو تخصيص للفظ العام، وكل تخصيص لا بد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما، وهو مراد الأصوليين.
ووجه آخر، وهو أن العرب4 حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة، مع أن معنى5 الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف ما فهموا، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرًا [في التعميم]6 حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم، بحيث صار كوضع ثانٍ، بل هو باقٍ على أصل وضعه، ثم التخصيص آتٍ من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن الوضع الإفرادي يشملهن، وما هذا إلا من تعويلهم على مقتضى الحال وما يفهم بالقرائن، ولا ينافي ذلك أنه لما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن معيط إليه -صلى الله عليه وسلم- مهاجرة بعد عقد الهدنة خرج أخواها عمار والوليد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليردها؛ فلم يردها، ونزلت الآية في ذلك، لا ينافي هذا ما قلنا؛ لأنهم لم يعترضوا بدخولهما في عقد الهدنة بلفظ: "من جاء" الشاملة وضعًا للنساء، كما اعترضوا في أبي جندل والموضع يحتاج إلى شيء من الدقة، وبهذا يتخلص من بعض ما قيل في كتب التفسير في هذه الآية. "د".
1 كذا في جميع الأصول، ولعلها "ينطبق".
2 في "ط": "الإفراد".
3 كما في قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}؛ فليس محل إشكال ولا نزاع. "د".
4 أخذ عنوان "العرب" ولم يقل الصحابة مثلًا؛ لما سيجيء في آية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون...} إلخ، وليتأتى انفصاله وتميزه عن الاعتراض الآتي في الفصل في قوله: "فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح... إلخ". "د".(8/24)
5 يأتي إيضاح هذه الجملة في قوله بعد: "إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي... إلخ". "د".
6 سقطت من "ط".(8/25)
ص -24-…ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]؛ شق ذلك عليهم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم1؟ فقال, عليه الصلاة والسلام: "إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" [لقمان: 13]2، وفي رواية3: "فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" [لقمان: 13].
ومثل4 ذلك أنه لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال بعض الكفار: فقد عبدت الملائكة، وعبد المسيح، فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}5 الآية [الأنبياء: 101].
إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عمومًا أخص من عموم اللفظ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه6، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع7 له اللفظ في الأصل؛ لم يقع منهم فهمه.
فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي؛ فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى، فإن بقيت فلا تخصيص، وإن لم تبق دلالته؛ فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل، وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي، وربما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد أبقوا اللفظ على عمومه الذي كان له في الإفراد، ولم يتغير معناه عند استعماله، حتى احتاجوا إلى المخصص وهو قوله: "ليس بذاك... إلخ"، مع أن سياق الآية وما قبلها من الآيات في أهل الشرك. "د".
2 مضى تخريجه "3/ 402"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.
3 الرواية الأولى أقعد في الفهم، وأوضح في الغرض. "د".
4 في الأصل: "ومثال".
5 مضى تخريجه "3/ 362".
6 في "ط": "إليه".
7 لعله: "لما وضع". "ف".(8/26)
ص -25-…أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ "الحقيقة اللغوية" إذا أرادوا أصل الوضع، ولفظ "الحقيقة العرفية"1 إذا أراد الوضع الاستعمالي؟
والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ2 العربي أصالتين: أصالة قياسية، وأصالة استعمالية؛ فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وهي التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا؛ فالعام إذًا في الاستعمال لم يدخله3 تخصيص بحال.
وعن الثاني أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وللشريعة بهذا النظر مقصدان:
أحدهما: المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه، وقد تقدم القول فيه.
والثاني4: المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحقيقة العرفية عندهم كالحقيقة اللغوية في أنهما ينظر فيهما إلى اللفظ باعتبار الإفراد، كما قالوه في لفظ دابة، وأن استعماله في خصوص ذوات الأربع منظور فيه للفظ الإفرادي، يقع النظر عن معنى الكلام الذي تقضي العوائد بالقصد إليه ويفهم بمعونة سياق الكلام؛ فهناك فرق بين الحقيقة العرفية وبين الأصالة الاستعمالية التي يقررها في هذا المقام. "د".
2 في "ط": "من اللفظ".
3 أي: فهو وإن لم تبق دلالته الوضعية؛ إلا أنه دل على عموم آخر اقتضاه الاستعمال، ودلالته حقيقية أيضًا لا مجاز، وليس هذا تخصيصًا حتى يقال: "وكل تخصيص لا بد له من مخصص متصل أو منفصل" كما هو الاعتراض. "د".(8/27)
4 أي: فهناك ثلاثة أوضاع: الوضع الإفرادي المعبر عنه بالأصالة القياسية، والوضع الاستعمالي المعبر عنه بالحقيقة العرفية، وهذا ما أثبته في الجواب الأول، والوضع الثالث الوضع الشرعي المسمى بالحقيقة الشرعية، والجواب عن الإشكال الأول يكفي فيه ملاحظة الوضع الثاني، أما الجواب عن الثاني؛ فلا بد فيه من ملاحظة وضع الحقيقة الشرعية والاستعمالات الواردة في الشريعة، حتى يتأتى تفاوت العرب في فهمها: بين من اتسع فهمه في إدراك الشريعة، وبين مبتدئ قد لا يعرف هذه الاستعمالات الشرعية؛ فيحصل له التوقف نظرًا لوقوفه عند الوضعين الأولين. "د".
قلت: انظر في هذه الأوضاع: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "12/ 113-115 و19/ 235-236"، و"الإيمان" "10-112" لابن تيمية، و"نزهة الخاطر العاطر" "2/ 10-11" لابن بدران، ط دار الكتب العلمية، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص246" لعلي حسب الله، و"الحقيقة الشرعية" "ص13 وما بعدها" لعمر بازمول.(8/28)
ص -26-…بحسب تقرير قواعد الشريعة، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالى العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري؛ كما نقول في الصلاة: إن أصلها الدعاء لغة، ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص، وهي فيه حقيقة لا مجاز؛ فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي: إنها إنما تعم [الذكر] بحسب مقصد الشارع فيها، والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك، مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية.
فأما الأول؛ فالعرب فيه شرع سواء؛ لأن القرآن نزل بلسانهم.
وأما الثاني؛ فالتفاوت في إدراكه حاصل؛ إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]؛ فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه؛ حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره، واتسع في ميدانها باعه؛ زال عنه ما وقف من الإشكال1 واتضح له القصد الشرعي على الكمال، فإذا تقرر وجه الاستعمال؛ فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاتصال".(8/29)
ص -27-…الحقيقة الشرعية؛ فإن الموضع يستمد منها1، وهذا الموضع2 وإن كان قد جيء به مضمنًا في الكلام العربي؛ فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضًا، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب؛ فكل ما سألوا عنه فمن [هذا]3 القبيل إذا تدبرته.
فصل:
ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول4.
فأما قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]؛ فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم -عليه السلام- في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، فبيَّن أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين5 وظهر أنهما المعني6 بهما في سورة الأنعام إبطالًا بالحجة، وتقريرًا لمنزلتهما في المخالفة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الصواب: "الثاني". "د".
2 في "ط": "الخصلتين".(8/30)
3 أي: عنى بهما في هذه الصورة إبطالًا لهما بالأدلة، وتقريرًا لبعدهما عن الحق، وتوضيحًا لما هو الحق في الواقع الذي هو ضدهما، وقوله: "فكأنه السؤال... إلخ" يقتضي أن الآية نزلت قبل ظهور العناية في الكتاب -أو على الأقل في سورة الأنعام- بإبطال هاتين الخلتين، ولكن هذا يتوقف على أن الآية المذكورة كان نزولها سابقًا على تلك الآيات، حتى توقفوا فيها ولم يدركوا مقصد الشرع منها؛ فسألوا، ولو كانت الآيات المقررة لهذه المعاني سابقة عليها لفهموا مقصد الشرع بالظلم ولم يتوقفوا، هذا كلامه، وهو توجيه إذا تم سبق الآية لغيرها كما أشرنا إليه. "د".
4 استمداد غير مباشر على ما سيتضح بعد، وإلا، فليس هذا من الحقيقة الشرعية كالصلاة مثلًا. "د".
5 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "الوضع".
6 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"ط"، وسقط من "ف" و"د".(8/31)
ص -28-…وإيضاحًا للحق الذي هو مضاد لهما؛ فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى.
وأيضًا، فإن ذلك لما كان تقريرًا لحكم شرعي بلفظ عام؛ كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم، دق أو جل؛ فلأجل هذا سألوا وكان1 ذلك عند نزول السورة، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات2 الأحكام.
وسبب احتمال3 النظر ابتداء أن قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] نفي على نكرة، لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم، بل هو كقوله: لم يأتني رجل؛ فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه، وهي كلها نفى لموجب مذكور أو مقدر، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة؛ إلا مع الإتيان بمن وما يعطي معناها، وذلك مفقود هنا، بل في السورة4 ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف، وهو ظلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكل".
2 أي: التي منها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. "د".
3 أي: فالآية باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الآيات الآخرى السابقة واللاحقة نراها باعتبار الاستعمال مجملة، لا نص فيها على الاستغراق الوضعي ولا على غيره؛ فجاء الاحتمال المقتضي للسؤال. "د".
4 لا حاجة إليه في هذا المقام؛ لأنا في مقام سبب الإجمال كما قال بعد: "فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر... إلخ".(8/32)
ص -29-…الافتراء على الله والتكذيب بآياته؛ فصارت الآية من جهة إفرادها1 بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضًا في مساق تقرير الأحكام مجملة2 في عمومها فوقع الإشكال فيها، ثم بين لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم، وذلك ما دلت عليه السورة، وليس فيه تخصيص3 على هذا بوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإفرادها بالنظر وعدم الالتفات إلى سياقها وسباقها -أي: حتى على فرض أنها نزلت بعد الآيات التي تقرر فيها المعنى المشار إليه سابقًا- وكونها في مساق تقرير الأحكام الذي هو مظنة عموم الظلم لما جل وما دق، هذا وذاك جعل العموم محتملًا وجعل الآية مجملة، فاحتاجت إلى السؤال والجواب للبيان لا للتخصيص. "د".
قلت: وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 434": "إن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك -أي: إن معنى الظلم في الآية هو الشرك- فإنه الله سبحانه لم يقل: ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم}، ولبس الشيء بالشيء تغطيته به، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر".
وانظر حول تفسير الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 79-82".
2 في "ط": "محتملة".(8/33)
3 كأنه يقول: إن هذا النوع أو النوعين من الظلم هما اللذان اختصا بالعناية في هذه السورة إبطالًا لهما بالحجة... إلخ ما سبق، فلما جاء ذكر الظلم في آية: {الَّذِينَ آمَنُوا....} إلخ [الأنعام: 82] جاء نازلًا من أول الأمر على معناه المذكور؛ فلا حاجة به إلى تخصيص، وهو في ذاته ظاهر إلا أنه لا يظهر فيه كونه وضعًا شرعيًّا، وعده من نوع الحقيقة الشرعية التي قال فيها: "إن نسبتها إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري"، فإنما يظهر ذلك بالنسبة لمثل لفظ صلاة وصوم وحج وزكاة، أما الظلم، فلم يوضع في الشرع وضعًا خاصًّا، بل لا يزال بالمعنى الذي يقتضيه الوضع الأصلي والوضع الاستعمالي العربي بحسب المقام والقرائن، نعم، الاستعمال الشرعي في هذه الآية فهم من الآيات السابقة، ومن عناية الكتاب في هذه السورة بهذا النوع من الظلم، فكان قرينة على المراد منه؛ فلا حاجة به إلى تخصيص آخر منفصل أو متصل، وما وجد من السؤال والجواب إزاحة لإجمال فقط، والحاصل أن قوله سابقًا: "والثاني المقصد في الاستعمال الشرعي الوارد في القرآن بحسب تقرير الشريعة" =(8/34)
ص -30-…وأما قول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية [الأنبياء: 98]؛ فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها، وما روي في الموضع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ما أجهلك بلغة قومك يا غلام"1؛ لأنه جاء في الآية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= واضح في ذاته، وعليه يتمشى هذا الكلام، ولكن قوله: "وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع...إلخ"، وكذا قوله: "مع ما ينضاف إلى ذلك في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية"، وقوله بعد ذلك: "والموضع يستمد منها"، أي: من وضع الحقيقة الشرعية كل هذا لا يرتبط بالجواب عن آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82]، ولا الآية الثانية، فإن الكلام فيهما إنما يرتبط بالمقصد الشرعي في الاستعمال، وهذا يستعان على فهمه بالآيات وبما يتقرر من الأحكام العامة في الشريعة، ولا دخل لهذا في مسألة الوضع الشرعي الذي ينقل معنى الكلمة إلى معنى أخص، بحيث لا تطلق في استعمال الشرع حقيقة إلا بهذا المعنى الخاص، اللهم إلا أن يكون مراده بذكر الوضع الشرعي وما أطال به فيه, مجرد التقريب والتشبيه فقط، وليس مراده أن الظلم انتقل في الوضع الشرعي إلى هذا النوع منه, وإن كان على كل حال ليس لذكره كبير فائدة. "د".
1 قال ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص111-112": "اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه القصة لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، فإني قلت: وما تعبدون، وهي لما لا يعقل، ولم أقل: ومن تعبدون"، وهو شيء لا أصل له، ولا يوجد لا مسندًا ولا غير مسند".
وقال في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 175": "وهذا لا أصل له من طريق ثابتة ولا واهية"، ثم ذكر منشأ وهم من ذكر هذا الحديث.
وفي "تفسير الآلوسي" "17/ 86" نقلًا عنه زيادة على المذكور: "والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدثين".(8/35)
وحكم قبله ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" مثل هذا الحكم؛ فقال: "هذا خبر موضوع لا أصل له في السقيم؛ فكيف في الصحيح؟ ولا في الضعيف فضلًا عن القوي، ويدفعه القرآن؛ فإنه لو كان كما وضع هذا الملحد لما افتقرنا إلى الجواب بالآيات الثلاث، ولكان فيما وبخهم به كفاية، وأيضًا فإنه كان يجب أن يقال: "إن من سبقت لهم منا الحسنى"، فتكون الآية مطابقة للحديث، ولكنه جاء بكلمة "الذين" التي هي معنى كلمة "ما"؛ فيكون معنى الآية الأولى: إنكم والذين تعبدون من دون الله، وتكون الآية الثانية تخصيصًا صحيحًا باللفظ للفظ، وبالمعنى للمعنى، ونحن لا نحتاج إلى هذا كله، ونعوذ بالله من التكلف للحق؛ فكيف بالتكلف للباطل؟!". وانظر: "المعتبر" "ص187" للزركشي، و" تفسير ابن كثير" "3/ 199".(8/36)
ص -31-…ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
2 خلاصة الجواب على طريقة غير المؤلف أن لفظ "ما" لا يشمل عيسى ولا الملائكة بقطع النظر عن مساق الآية، وعلى طريقة المؤلف -من اعتبار المساق وكونها في كفار قريش- يكون الجواب بالنظر إلى الواقع وهو أن قريشًا لم تعبد عيسى ولا الملائكة؛ فلا يتصور دخولهما ولو كان لفظ "ما" صالحًا للشمول، وقد وجه المؤلف الأثر على كلتا الطريقتين، والواقع أنه صالح للتنزيل عليهما. "د".
3 انظر الحاشية في الصفحة السابقة.
4 أي: التي لا بد من الاسترشاد فيها بما يساق الكلام له. "د".
5 هكذا في الأصل، وفي غيره: "يتهدى".
6 مضى تخريجه "3/ 362".
7 أي: لزيادة بيان جهل المعترض؛ كما في "شرح المنهاج". "د".(8/37)
ص -32-…لجهله.
ومثله ما في "الصحيح"1 أن مروان قال لبوابه2: "اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل3 معذبًا؛ لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي4 -صلى الله عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء، فكتموه إياه وأخبروه بغيره؛ فأروه أن قد استحمدوا إليه5 بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا6 من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]"؛ فهذا7 من ذلك المعنى أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}، 8/ 233/ رقم 4568".
2 فاهمًا أن الموصول في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية على عمومه شامل لكل من يؤتى شيئًا أو يأتي شيئًا، كما قيل: فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يحمده الناس بما هو عار عنه من الفضائل. "ف".
3 في "الصحيح": "يعمل".
4أي: إن الآية نزلت في شأن خاص بأهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}؛ فليس الموصول على عمومه شاملًا لما ذكر."ف".
5 في "ط": "عليه".
6 في "الصحيح": "أتوا".(8/38)
7 فمروان أفرد الآية عما قبلها، فظن العموم؛ فبين له الحبر في جوابه ما يتنزل عليه هذا العموم، بمساعدة سياق الآية والقصة التي نزلت فيها، ومن أدب المؤلف مع مروان قوله: "فهذا من ذلك المعنى"، ولم يقل لعدم تمكن مروان من فهم مقاصد الشريعة، وقوله: "فجوابهم"؛ أي: الأجوبة التي سبقت عن توقفهم في الآيات الثلاث. "د".
قلت: وانظر "البرهان في علوم القرآن" "1/ 27-28". قال "ف": ""أوتوا" قرئ بضم الهمزة؛ أي: أو أعطوا، وبفتحها مقصورة وممدودة".(8/39)
ص -33-… وبالجملة، فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة، وإن ثم قصدًا آخر سوى القصد العربي1 لا بد من تحصيله، وبه يحصل فهمها، وعلى طريقه يجرى سائر العمومات، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل2 ألبتة، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم، ولنورد هنا فصلًا هو مظنة لورود الإشكال3 على ما تقرر، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحًا أكمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: العربي البحت الذي لم يستند إلى تعرف مقاصد الشرع، والوقوف على مقتضى الحال من مثل سبب النزول، والرجوع إلى كليات الشريعة لفقه جزئياتها من الأدلة بمقارنتها للكليات، وهكذا سائر القرائن التي تعين على فهم المقصود من الألفاظ، وتكشف عن المراد منها وما استعملت فيه في الآية؛ فتكون تلك القرائن كبيان للمجمل، لا تخصيص وإخراج لبعض ما أريد من اللفظ. "د".
2 وسيأتي أنه لا تخصيص بالمتصل أيضًا. "د".(8/40)
3 الإشكال في هذا الفصل وارد على الجواب عن الإشكال السابق القائل: إن العرب حملت الألفاظ على عمومها الإفرادي، مع أن سياق الاستعمال يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد أجاب عنه بأن فهم عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وأن فهم المقصد الشرعي مما يتفاوت الأمر فيه بين الطارئ الإسلام والقديم العهد، والمشتغل بتفهمه وتحصيله ومن ليس كذلك، فمن تبحر أدرك الاستعمال الشرعي ومقصد الشارع على الكمال فتوقف الصحابة في مثل آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] إنما هو هو راجع إلى ذلك، لأن الآية في الأنعام وهي من أول ما أنزل، ولم تكن كليات الشريعة قد تم تقريرها؛ فهذا هو عذرهم في التوقف، ويريد بهذا الفصل أن يورد على هذا الجواب أنه غير حاسم للإشكال؛ لأن السلف الصالح المتبحرين في فهم مقاصد الشريعة كعمر بن الخطاب، ومعاوية، وعكرمة، وابن عباس، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، أخذوا بعموم الألفاظ، وإن كان سياق الاستعمال ومقتضيات الأحوال تعارض هذا العموم، وما ذاك إلا لأن المعتبر عندهم هو العموم الإفرادي؛ فتكون هذه الأمثلة المذكورة في هذا الفصل وغيره مما خص بالمنفصل، لا أنها مما وضع في الاستعمال الشرعي على العموم، وأن عمومها باق لم يمسه تخصيص كما تقول، وبهذا يتبين الفرق بين الإشكال والجواب هنا وبين ما تقدم، وأن قوله: "والجواب عنه" معطوف على لفظ: "ما"؛ فالإشكال الآتي وارد على ما قرره في رأس المسألة ووارد على الجواب عنه بما تقدم كما عرفت، قوله: "يتضح" واقع في جواب الأمر، ولا مانع أن يكون سقط الباء من قوله: "والجواب" كما قاله بعضهم، وإن جعله هو الصواب. "د".
قلت: يريد بقوله: "بعضهم": "ف"؛ فإن العبارة هذه: "والجواب عنه" وقال: "صوابه: "وبالجواب عنه"".(8/41)
ص -34-…فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربًا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك، وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ1 عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما2 خص بالمنفصل، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى.
ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام، كما كان يلبس المرقع في خلافته؛ فقيل له: لو اتخذت طعامًا ألين من هذا. فقال: أخشى أن تعجل طيباتي، يقول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}3 [الأحقاف: 20] الحديث.
وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئًا: "أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}4 الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الوضع".
2 في "ط": "كما".
3 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 695-696"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 279"، وابن المبارك في "الزهد" "204"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص187, أخبار أبي بكر وعمر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص253-254, ترجمة عمر" من وجوه عن عمر، وفي بعضها انقطاع.
وانظر: "مسند الفاروق" "2/ 505-506" لابن كثير، و"كنز العمال" "12/ رقم 35955".
4 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 696-697"، وابن عساكر في تاريخ دمشق" "ص255, ترجمة عمر".(8/42)
ص -35-…[الأحقاف: 20]"، وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، ولذلك قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}، ثم قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]؛ فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين، ومع ذلك؛ فقد أخذها عمر مستندًا في ترك الإسراف مطلقًا، وله أصل في "الصحيح" في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال عمر للنبي, صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يوسع على أمتك؛ فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه. فاستوى جالسًا؛ فقال: "أوفي شك [أنت] يابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"1.
فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه.
وفي حديث الثلاثة2 الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، 5/ 114-116/ رقم 2468، وكتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، 9/ 278-279/ رقم 5191", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، 2/ 1111-1113/ رقم 1479 بعد 34" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
وما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط".(8/43)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة، 4/ 591-593/ رقم 2382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23 و24" عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال علام، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيه لك. قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار". لفظ مسلم.
وتفرد الترمذي بذكر مقولة معاوية عقبه.(8/44)
ص -36-…معاوية قال: صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] إلى آخر الآيتين.
فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلًا تحت عموم الآية، وهي في الكفار؛ لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 16] إلخ، فدل على الأخذ بعموم "من" في غير الكفار أيضًا.
وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن؛ قال: "قطع على أهل المدينة بعث؛ فاكتتبت، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته؛ فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله؛ أو يضرب فيقتل فأنزل الله, عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [النساء: 97]"1.
فهذا أيضًا من ذلك؛ لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم2 من ذلك.
وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة...}، 8/ 262/ رقم 4596".
2 فجعلها شاملة لمن يعين على حرب ظالمة بين المسلمين. "د".(8/45)
ص -37-…{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} الآية [البقرة: 284]، دخل قلوبهم منه شيء [لم يدخل من1 شيء]، فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قولوا سمعنا وأطعنا". فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فأنزل الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. قال: "قد فعلت". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. قال: "قد فعلت" الحديث2 إلخ، فهموا من الآية العموم، وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزل بعدها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] على وجه النسخ أو غيره مع قوله3 تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواية لمسلم، وأصلها: "دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء"، وفي "تفسير ابن جرير": "لم يدخلها"، وهذه الجملة صفة لشيء، أي: دخل قلوبهم من الآية الكريمة شيء من الفزع والخوف لم يدخلها من أجل شيء آخر من الآيات. "د".
قلت: وفي "م": "مثله شيء"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(8/46)
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 221-222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210-211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص228".
واقتصار المصنف في العزو على النسائي والترمذي وإهماله لمسلم قصور، والله الهادي، وأول الآية سقط من "م".
3 أي: وهو قرينة على أن الله لم يكلف بما يجري في النفس من الخواطر لأنه حرج، ومع أنه يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد كان معولهم على العموم الإفرادي لا الاستعمال الشرعي الذي يمنع من هذا الفهم، وقد أقرهم -صلى الله عليه وسلم- على ما فهموا حتى نزل ما يخصص، وهو {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، إلا أن قوله: "على وجه النسخ" من باب تكميل المقام في ذاته؛ لأنه عليه لا بد أن يكون مقصودًا ابتداء ثم نسخ، ويكون فهمهم في محله؛ فيخرج عما نحن فيه، وقوله "أو غيره" بناء على أنه تخصيص كما تقدم للمؤلف الكلام فيه في باب النسخ على اصطلاح المتقدمين، ولو ذكره واقتصر عليه لكان أنسب بالمقام، وهذا كله على بعض التفاسير في آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} [البقرة: 284]؛ أي: على أنها راجعة للشهادة وكتمانها؛ فيكون فيه شاهد لما نحن فيه. "د".(8/47)
ص -38-…قاعدة مكية كلية؛ ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية، فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة1 وأن مخالفه عاصٍ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود: 5] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود: 5]، أي: من الله تعالى أو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال ابن عباس: "إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا2 فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء؛ فنزل ذلك فيهم"3؛ فقد عم4 هؤلاء في حكم الآية مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 243" في ترجمة "محمد بن عقيل الفريابي" حكاية عن الإمام الشافعي فيها استدلال بهذه الآية على حجية الإجماع، وقال: "سند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه".
2 يتخلوا: يدخلوا الخلاء المعروف. "ف".
3 أخرجه البخاري في "التفسير" "كتاب التفسير، باب {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}، 8/ 349/ رقم 4681، 4682، 4683".
4 ابن عباس يقول صراحة: "إنها نزلت في الذين يستحيون"، ولا يلزم من الاستخفاء بمعنى الاستحياء النفاق أو الكفر؛ فهو يخالف غيره في سبب النزول؛ فلا يجعلها في الكفار ثم يسحب حكمها على بعض المؤمنين حتى تجعل الآية مما نحن فيه، فما لم يقل ابن عباس صراحة أنها نزلت في الكفار وأنها تشمل من استحيا... إلخ، ثم يكن لذكرها ههنا وجه. "د".(8/48)
ص -39-…أن المساق لا يقتضيه.
ومثل هذا كثير، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب.
ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] مع أنها نزلت1 في اليهود والسياق يدل على ذلك، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار، وقالوا: كفر دون كفر2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة؛ كما قال ابن عباس فيما أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 246"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب النفس بالنفس، 4/ 168/ رقم 4494، وكتاب الأقضية، باب الحكم بين أهل الذمة، 3/ 303/ رقم 3590، 3591"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب تأويل قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، 8/ 18"، والدارقطني في "السنن" "3/ 198"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1738, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 366"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 24"، وهو صحيح بتعدد طرقه.
2 كما هو ثابت عن ابن عباس، أخرجه من طرق عنه: ابن جرير في "التفسير" "6/ 256، 257"، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" "رقم 569، 570، 571، 572، 573، 574"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 237"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 313"، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 20"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 97"، وسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 87".
ولأخينا الفاضل علي بن حسن الحلبي جزء مفرد في تصحيحه، وهو مطبوع بعنوان: "القول المأمون"؛ فانظره غير مأمور.
وانظر: "مدارج السالكين" "1/ 336 ط الفقي".(8/49)
ص -40-…فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب1، وفيه من الخلاف ما علم2؛ فقد رجعنا إلى [أن]3 أحد القولين هو الأصح، ولا فائدة زائدة4.
والجواب: أن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية؛ لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودًا يفهمه الراسخون في العلم، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم، والمؤمنين بأحسن أعمالهم؛ ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم؛ فيجتهد رجاء أن يدركهم، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم؛ فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه، وفيما يشبهه، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم؛ فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتًا عنه؛ لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ5 الجانبين كمحال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن من المخصص المنفصل سبب النزول، يعني وما شاكله، فإن ما ذكره المؤلف في هذا المقام لا يقتصر مقتضى الحال فيه على خصوصية السبب، كما هو ظاهر، فإن كلامه فيما هو أوسع من ذلك، كما في كلام عمر وكلام معاوية. "د".
2 وهو أن الجمهور على القول باعتبار عموم اللفظ، ولا اعتبار بخصوص السبب، والنزاع فيما إذا بنى عام مستقل عل سبب خاص،مثاله أنه سئل -صلى الله عليه وسلم- عن بئر بضاعة التي تلقى فيها الجيف، فقال: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء... إلخ"، وكما في قصة مروره بشاة ميمونة ميتة، فقال: "أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر"، وقد نقل عن الشافعي أن العبرة بخصوص السبب مخالف للجمهور الذين حجوه بالأدلة المتضافرة على أن العبرة بعموم اللفظ. "د".
3 سقطت من "ط".(8/50)
4 قد يقال: وكيف لا تكون الفائدة زائدة، وقد صحح بناء على فهمك غير ما صححه الجمهور، من أن العبرة بالعموم لا بالخصوص؛ إلا أن يقال: إنه يريد الفائدة التي يعنيها المؤلف ويكد للحصول عليها، وهي أنه لا تخصيص بالمنفصل أصلًا. "د".
5 أي: يتجاذبه الطرفان، ويأخذه كل منهما إلى جهته؛ فهو مأخوذ لكل منهما؛ فالعبارة مستقيمة. "د".
قلت: في هذا رد على "ف" حيث قال: "لعله مأخذ الجانبين، أي: جانبي تدبر الخوف والرجاء" ا. هـ.(8/51)
ص -41-… الاجتهاد لا فرق، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي، وهو ظاهر1 في آية الأحقاف وهود والنساء في آية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الآية]2 [النساء: 97]، ويظهر أيضًا في قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وما سوى3 ذلك؛ فإما من تلك القاعدة، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص، بل بيان جهة4 العموم، وإليك النظر في التفاصيل، والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الآيات المذكورة لا يتأتى فيها اندراج المؤمنين في عمومها اللفظي، لا سيما الآيات الثلاث الأول، وعلى ما هو الظاهر في الآية الرابعة من قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115]، ولذا أفردها بقوله: "ويظهر أيضًا". "د". وفي "ط": "وهذا ظاهر".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"م" و"ط".
3 أي: من الآيات السابقة المستشكل بها، وقوله: "من تلك القاعدة"، أي: المتقدمة في هذا الجواب، ويمكن اطرادها في الجميع، وأما أنه من المجيبين, كابن عباس في آية {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا} [آل عمران: 188], بيان وتقرير لطريقة أخذ الجزئيات الفقهية من الكليات، وأنه يلزم أن يوقف بها عند الحد الاستعمالي في المقاصد الشرعية، ولا يرجع بها إلى الوضع على الإطلاق، وليس مقصودهم أن الآيات كانت في قصد الشارع عامة ثم خصصت، بل غرضهم بيان أن عمومها ليس بحسب ما فهم السائل عمومًا ينظر فيه للوضع العربي الإفرادي، بل الاستعمالي بحسب مقاصد الشارع في مثله، وما يعين عليه المقام وما يقتضيه الحال، وعليه يكون قوله: "وما سوى ذلك" راجعًا إلى ما سبق من أول الفصل، وظاهر أن صحة العبارة: "لا أن المقصود" وليست "لأن" كما في أصل النسخة. "د".(8/52)
4 أي: وإنه عموم بقدر مقاصد الشرع فيه، يعد فهم قواعد الشريعة؛ أي: فلم يفهموا العموم من الوقوف عند حد اللفظ العام نفسه، ولم يفهموا الخصوص باعتبار أنه تخصيص وإخراج لما كان داخلًا حتى يكون المخصص منفصلًا بطريق من طرقه. "د". =(8/53)
ص -42-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محور الكلام في هذه المسألة هو أن خصوص السبب هل يصلح أن يكون قرينة مخصصة أم لا؟ اختلفوا في هذه، وبناء على هذا الاختلاف اختلفت مناهج المؤلفين في تصنيف هذه المسألة، فمنهم من وصفها ضمن مباحث العام وجعل لها عنوانًا مستقلًّا، ومنهم من وصفها ضمن مباحث التخصيص بالمنفصل.
فالآمدي في "الإحكام "2/ 459 و477" جعل الخطاب الوارد على سبب بنوعيه, أعني: ورود الخطاب جوابًا لسؤال، ووروده في قضية عين ذكرت فيه علة الحكم, في مباحث العلم، فجعل النوع الأول في المسألة السادسة، وجعل النوع الثاني في المسألة الثالثة عشرة.
وليس في سلوك هذا المنهج ما يدل على أن الآمدي يرى في الحكم العام الوارد على سبب أن العبرة بعموم اللفظ، لأنه في الأصل متردد في صحة التخصيص بالمنفصل، وذكر أوجهًا ثلاثًا تقتضي منع التخصيص المنفصل، ثم حاول تطويع هذه الأوجه لتوافق القول بجواز التخصيص بالمنفصل.
وأما الرازي في "المحصول" "2/ 183"؛ فعقد له هذا العنوان: القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم، مع أنه ليس كذلك وضمنه الخطاب الوارد على سبب، وقصر السبب على سؤال السائل.(8/54)
وانفرد في ذلك الشاطبي؛ فإنه لا يرى أصلًا التخصيص بالمنفصل ولا بالمتصل؛ لأن اللفظ العام بوضعه الاستعمال يدل دون ما يدل عليه ذلك اللفظ بوضعه اللغوي، والعموم إنما يفيد بالاستعمال، ووجوه الاستعمالات كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان، وهذه المقتضيات كالقرائن تعين على فهم المقصود من الألفاظ وتبين المجمل، وبهذا الفهم لا يكون إذ ذاك تخصيص بمنفصل, فالنصوص العامة التي وردت فيها مقتضيات أحوال ظاهرها أنها مخصصة للعموم ليست في الحقيقة مخصصة، بناء على هذه القاعدة: "المقصد الاستعمالي للفظ العام"، أو أن هذه المقتضيات وردت لبيان "فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم".
ويجعل الأحكام العامة الواردة على سبب باقية على عمومها، وإنما الأسباب اقتضت أحكامًا خاصة، يقول رحمه الله فيما مضى "1/ 465": "ولا يخرج عن هذا -أي: إن الأحكام الكلية مشروعة على الإطلاق والعموم- ما كان من الكليات واردًا على سبب، فإن الأسباب قد تكون مفقودة =(8/55)
ص -43-…فصل:
إذا تقرر ما تقدم؛ فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل.
فإن كان بالمتصل؛ كالاستثناء، والصفة، والغاية، وبدل البعض، وأشباه ذلك؛ فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه: "زيد الأحمر" عند من لا يعرفه "كزيد" وحده عند من يعرفه، وبيان ذلك أن زيدًا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما، وهكذا إذا قلت: "الرجل الخياط" فعرفه السامع؛ فهو مرادف "لزيد"؛ فإذًا المجموع هو1 الدال، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت: "عشرة إلا ثلاثة"؛ فإنه مرادف لقولك: "سبعة"؛ فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قبل ذلك، فإذا وجدت اقتضت أحكامًا".
والفرق بين الشاطبي وبين الأصوليين في حقيقة التخصيص أن التخصيص عنده بيان المقصود في عموم الصيغ؛ فهو يرجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص؛ فالشاطبي جعل التخصيص بيانًا لوضع اللفظ، والأصوليون قالوا: إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه. انظر "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص22-23" لمحمد العروسي عبد القادر.(8/56)
1 ولا تخصيص فيه، وهو حقيقة فيه، وهذا رأي أبي الحسين أن ما خص بغير مستقل كالشرط والاستثناء والصفة؛ فالباقي يكون اللفظ فيه حقيقة، وذلك لأن هذه المذكورات صارت كالجزء من الدال على المعنى المقصود، وصار الدال معها لمعنى غير ما وضع له أولًا، وقوله: "ويظهر ذلك في الاستثناء"؛ لأن العام الذي أخرج منه البعض كقولك: أكرم بني تميم إلا البخلاء منهم باق على عمومه دلالة وإرادة، وليس من العام المخصص في شيء، ومثل هنا بعشرة، وليست أسماء العدد من العموم في شيء؛ إلا أن غرضه إفادة أن الاستثناء كجزء من الكلام الدال على السبعة، وهو أظهر من الصفة. "د".(8/57)
ص -44-…وإذا كان كذلك؛ فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظًا ولا قصدًا1، ولا يصح أن يقال: إنه مجاز أيضًا2 لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك: "ما رأيت أسدًا يفترس الأبطال"، وقولك: "ما رأيت رجلًا شجاعًا"، وأن الأول مجاز، والثاني حقيقة، والرجوع في هذا إليهم، لا إلى ما يصوره العقل3 في مناحي الكلام.
وأما التخصيص بالمنفصل؛ فإنه كذلك أيضًا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ، حسبما تقدم في رأس المسألة، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون.
فإن قيل: وهكذا يقول الأصوليون: إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة؛ فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع، وليس بمراد الدخول تحتها، وإلا كان التخصيص نسخًا فإذًا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت؛ فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون؟
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص؛ فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا: إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يترتب الثاني على الأول لأنه إذا كان اللفظ بقيده آتيًا على قدر المراد؛ فلا محل للتخصيص قصدًا. "د".
قلت: انظر "المسودة" "154"، و"مجموع الفتاوى" "31/ 116".
2 انظر تفصيل ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 488-490 و31/ 116".
3 كأن يصور أن الرجل في سياق النفي عام عمومًا قصره الوصف على نوع منه، وهو أقل مما كان يتناوله قبل الوصف؛ فهو غير ما وضع له "رجل"؛ فيكون مجازًا. "د".(8/58)
ص -45-…وبينهما فرق؛ فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي1 سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، والذي للأصوليين نظير2 البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز؛ كقولك: رأيت أسدًا يفترس الأبطال.
فإن قيل: أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلًا، أم لا؟ فإن كان باطلًا؛ لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ، والأمة3 لا تجتمع على الخطأ، وإن كان صوابًا وهو الذي يقتضيه إجماعهم؛ فكل ما يعارضه خطأ، فإذًا كل ما تقدم بيانه خطأ.
فالجواب: أن إجماعهم أولًا غير ثابت على شرطه، ولو سلم أنه ثابت؛ لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام؛ رجعوا إلى اعتباره: كل على اعتبار رآه، أو تأويل ارتضاه؛ فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال، بلا4 خلاف بيننا وبينهم؛ إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علمًا بمقاصدهم، ولا يجود محصول كلامهم، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو لا يخرج الصيغ عن وضعها، وإنما يكشف عن الوضع المراد من بين الأوضاع. "د".
قلت: في "ط" و"ف": "نظير بيان الذي"، وقال "ف": "لعله: "نظير البيان" بأداة التعريف" انتهى، وكذا في الأصل و"م" و"د".
2 وإنما قال: "نظيره" أي: شبيهه للفرق الظاهر بين المعنى المجازي المنقول إليه وبين المعنى الباقي بعد التخصيص؛ فإن الأول ليس بعضًا مما وضع له اللفظ حقيقة، بل معنى آخر مناسب له فقط، أما الثاني؛ فإنه بعض ما وضع له اللفظ؛ ولذا قال بعضهم: إنه لا يزال اللفظ فيه حقيقة. "د". وفي "ط": "الواقع هنا نظير...".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 109".
3 أي: والأصوليون أمة في فنهم. "د".
4 في الأصل و"ط": "فلا".(8/59)
ص -46-…فصل:
فإن قيل: حاصل1 ما مر أنه بحث في عبارة، والمعنى متفق عليه، ومثله لا ينبني عليه حكم.
فالجواب أن لا، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام:
- منها: أنهم اختلفوا في العام إذا خص؛ هل يبقى2 حجة أم لا؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين؛ فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضًا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص؛ صار معظم الشريعة مختلفًا فيها: هل هو حجة أم لا؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات3 فانظر فيه، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور؛ لم يبق4 الإشكال المحظور، وصارت العمومات حجة على كل قول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: يؤخذ من جوابه السابق أن المآل واحد، وأنهم وإن سموه تخصيصًا وإخراجًا لبعض ما دخل في العام؛ إلا أنهم عند الاستنباط وأخذ الأحكام اعتبروا الصيغ بالوضع الاستعمالي لا الوضع الإفرادي؛ فالمآل واحد، والخلاف في العبارة، وهذا ما رتب عليه هذا السؤال ليدفعه. "د". وفي "ط": "حاصل هذا أنه".
2 أي: العام الذي خصص بمبين كاقتلوا المشركين، المخصص بالذمي مثلًا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص، أو لم يرد به ما يتناوله؛ فليس بحجة اتفاقًا، والجمهور على أن المخصص بمبين حجة في الباقي مطلقًا، وقال البلخي: "حجة إن خص بمتصل لا منفصل". "د".
3 أي: يوجد فيها. "ف".
4 أي: لأن من قال بعدم الحجية يقول في دليله: إن الصيغة إذا خصت صارت في بقية =(8/60)
ص -47-…ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة1 أخرى، وهي أن عمومات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المسميات مجازًا، بل كان ما تحتها من المسميات مراتب في المجاز متعددة، فكان اللفظ فيها مجملًا، فلا بد من دليل على ما يراد منها؛ فأنت ترى أن الإشكال في كون الباقي حجة ما نشأ إلا من دعوى أن التخصيص يجعل الباقي مجازًا، وعلي رأي المؤلف لا يكون مجازًا؛ فلا إشكال في أن العام حقيقة في جميع ما قصد؛ فهو حجة فيه، وسقط سبب الخلاف في الحجية، وقوله: "صارت العمومات حجة على كل قول" يعني أنه يلزم ذلك، وأن من خالف لو اطلع على ما قلنا وعرف سقوط سبب مخالفته ليقال بالحجية مع الجمهور. "د".
قلت: وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442" في منكري حجية العموم من المواقفة والمخصصة: "وهو مذهب سخيف"، و"كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر، وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام"، وانظر منه "29/ 166-167"، و"إجابة السائل" للصنعاني "ص309 وما بعدها".(8/61)
1 تعلم أن المسألة آلت إلى أنه يقول: إن الذي يسمونه تخصيصًا بالمتصل أو المنفصل ليس تخصيصًا، وإن هذه العمومات وإن لم تبق بمعناها الوضعي الإفرادي الشامل لأكثر من المراد للشارع؛ فهي بحسب الاستعمال ومقاصد الشرع إنما تنطبق على ما يراد فقط، بحسب مقتضى المقام وقرائن الأحوال، وهي حقيقة فيما يراد لا مجاز، وأن هذه القرائن تعتبر كمبين المجمل لا كقرائن المجاز الذي يقتضيه القول بالتخصيص، وعليه فالمقدار الذي يتناوله العام المقصود للشارع لا يختلف على رأيه ورأي الأصوليين، والاعتداد بالعمومات القرآنية فيما أراده منها القرآن واحد، متى درجنا على القول بالحجية في الباقي الذي بالغ عليه، والقرائن العقلية والحسية وغيرها مما يسميه هو كبيان للمجمل ويسمونه مخصصًا لا بد منها عند الطرفين؛ فإنا إذا قلنا: لا يعمل بالعام إلا بعد الاستقصاء عن المخصص؛ فكذلك نقول: لا يعمل بالمجمل إلا بعد التحقق من المبين؛ فأين هو إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال بها إلا على جهة التساهل وتحسين الظن على رأيهم، وعدم ذلك على رأيه؟ ثم أين الإخلال بجوامع الكلم على رأيهم، وعدم الإخلال بها على رأيه؟ مع أن المقدار الذي يتناوله العام واحد بعد التخصص أو بعد البيان، وكيف نقول على رأيهم بافتقار الجوامع إلى قرائن ومخصصات، ولا نقول بذلك فيها على رأيه؟ وقد قال بعد: "فالحق أنها على عمومها الذي يفهمه العربي الفهم المطلق على مقاصد الشرع"، فإذًا ليست باقية على وضعها الإفرادي، ولا هي غير مفتقرة إلى فهم العربي المطلع على مقاصد الشرع لتكون قرينة له يفهم بها =(8/62)
ص -48-…القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية، وإسقاط الاستدلال به جملة؛ إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية، وتضعيف الاستناد إليها، وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس؛ أنه قال: ليس في القرآن عام إلا مخصص، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}1 [البقرة: 282]، وجميع ذلك مخالف لكلام العرب، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقًا، بحسب قصد العرب في اللسان، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام.
وأيضًا, فمن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث بجوامع الكلم2، واختُصر له الكلام اختصارًا على وجه هو أبلغ ما يكون، وأقرب ما يمكن في التحصيل، ورأسُ هذه الجوامع في التعبير العمومات3، فإذا فرض أنها ليست بموجودة في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مقدار ما تناوله العام؛ فليست مستغنية عن القرائن والمقيدات على ما قاله أيضًا، غايته أنه لا يسميه تخصيصًا بل بيانًا لا بد منه، وهلا قال في الفائدة الثانية وبذلك أيضًا انحسمت مادة الشناعة الناشئة من وجود خلاف في حجية العام المخصص؛ لأنه مهما كان الخلاف ضعيفًا فإن هذا النزاع يوهن الاستدلال بهذه العمومات وهي معتمد الشريعة، ويجعل الأخذ بها من طريق تحسين الظن، لا من باب تحقيق النظر والقطع بالحكم، وتبنى الفائدة الثالثة عليه أيضًا؛ لأن العمومات إنما تكون جوامع إذا كان معناها محددًا محررًا، وهو إنما يكون كذلك إذا كان اللفظ فيه حقيقة، لا مجازًا محتملًا كما تقدم بيانه عند من يذهب إلى أنه ليس بحجة لإجماله في المراتب التي يحتملها المجاز. "د".
1 مضى "3/ 309" بنحوه، وهو مما لا يصح عنه ألبتة.(8/63)
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر"، 6/ 128/ رقم 2977" وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب؛ فبينما أنا نائم أوتيتُ خزائن الأرض...".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207".(8/64)
ص -49-…القرآن جوامع، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر؛ فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة، وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح؛ فيحتمل التأويل.
فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع؛ فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل، وبالله التوفيق.(8/65)
ص -50-…المسألة الرابعة:
عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها1؛ فليست بمخصصة لها في الحقيقة، بل العزائم باقية على عمومها، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها؛ فإطلاق مجازي لا حقيقي.
والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة؛ إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق، أو لا.
فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة؛ إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها، وإنما يقال هنا: إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق؛ فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام؛ فليس بمخاطب بالقيام، بل صار فرضه الجلوس أو على جَنْبٍ أو ظَهْرٍ، وهو العزيمة عليه، وإن كان الثاني؛ فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف؛ فلا جناح عليه، لا أنه سقط2 عنه فرض القيام.
والدليل على ذلك [أنه]3 إن تكلف فصلى قائمًا؛ [فإما]3 أن يقال: إنه أدى الفرض على كمال العزيمة، أو لا؛ فلا يصح4 أن يقال: إنه لم يؤده على كماله؛ إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق؛ فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل؛ فلا بد أنه أداه على كماله، وهو معنى كونه داخلًا تحت عموم الخطاب بالقيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حتى يقال مثلًا: الظهر أربع إلا على المسافر، وصوم رمضان واجب إلا على المسافر، وهكذا؛ فتكون الرخص مخصصة لأدلة العزائم. "د".
2 ويدل على عدم سقوطه قولهم في الرخصة: "مع قيام السبب للحكم الأصلي". "د".
3 سقط من "ط".
4 الأنسب ولا يصح، وهو إبطال للاحتمال الثاني لإثبات الأول. "ف".(8/66)
ص -51-…فإن قيل: [إذا قلت]: إن العزيمة مع الرخصة من [باب]1 خصال الكفارة بالنسبة إليه؛ فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب، وإذا كان [ذلك] كذلك؛ فعمله بالعزيمة عمل على كمال، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة؛ فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا2 التقرير؛ فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك.
وأيضًا3، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين؛ لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتمًا، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتمًا، وهما قضيتان متناقضتان، لا تجتمعان على موضوع واحد؛ فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة.
وأمر ثالث، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم؛ لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن؛ فما أدى إليه مثله.
فالجواب: أن العزيمة مع الرخصة ليستا4 من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها؛ فلا جناح عليه خاصة، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص، وإذا ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 وكأنه يقول: الظهر تجب أربعًا وجوبًا منحتمًا إلا على المسافر؛ فإن أدى اثنتين أو أربعًا صح وارتفع انحتام الأربع الذي كان على غير المسافر، وهذا تخصيص لعموم دليل العزيمة. "د".(8/67)
3 هذا الوجه وما بعده مبنيان على الوجه الأول ومتوقفان عليه فمتى بطل بطلا، ولذا كان الجواب بإبطال الأول كافيًا في إبطال الاعتراضين، ويبقى الكلام على ما جعله المؤلف جوابًا عن الثاني ليدفع التناقض به وسيأتي ما فيه. "د". وفي "ط": "وأيضًا؛ فإن الجميع...".
4 في "ط": "العزيمة بالرخصة ليست...".(8/68)
ص -52-…ذلك؛ فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها، وللمخالفة حكم1 آخر.
وأيضًا؛ فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة، بل من جهتين مختلفتين، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال2 التناقض المتوهم في الاجتماع، ونظير تخلف العزيمة للمشقة3 تخلفها للخطأ، والنسيان، والإكراه، وغيرها من الأعذار التي يتوجه4 الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها5, وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن6 المخالف فيها لعذر من الأعذار، فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص؛ وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها؛ فعلى المجاز لا على الحقيقة، ولنعدها مسألة على حدتها، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رفع الإثم. "د".
2 كيف والمخاطب واحد؟ على كل حال هو الله تعالى؛ فسواء أكان الخطابان من جهة حق الله، أم من جهة حق الآدمي، أم موزعين كما يقول؛ فالإشكال باقٍ لا يرتفع بهذا الجواب لأن الله كلفه بالعزيمة تكليفًا متحتمًا، وإن كان لحقه تعالى، وكلفه بها تكليفًا غير منحتم لحق العبد، والتكليف في قضية واحدة بالوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض؛ فمهما اختلف سبب التكليف فإن التناقض حاصل، لا يدفعه إلا التخصص أو الجواب بأن العزيمة مع الرخصة ليست من باب خصال الكفارة كما قال: "هل هي" هي. "د".
3 أي: لا يعدم الطاقة الذي جعله لا تكليف معه؛ فيبقى الكلام في أن النسيان وما معه مما لا يطاق أم مما فيه المشقة فقط؟ فإن كان من الأول؛ لزم أن يسقط التكليف بلا فارق بينهما، وسيأتي تتميم الكلام. "د".
4 ويكون معنى رفعها في الحديث رفع الإثم لا رفع التكليف، بدليل مطالبته بالأداء بعد زوال النسيان وما معه. "د".
5 وإن لم يكن مما يسمى رخصة. "د".
6 في "ط": "على".(8/69)
ص -53-…المسألة الخامسة:
والأدلة على صحتها ما تقدم1، والمسألة وإن كانت مختلفًا فيها على وجه آخر؛ فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص، ولنفرض المسألة في موضعين:
أحدهما2:
فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم؛ ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما؛ كشارب المسكر يظنه حلالًا، وآكل مال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في الدليل الأول هناك: لا يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها؛ فالخطاب مرفوع من الأصل لرفع التكليف بما لا يطاق، فإجراء هذا الدليل لا يناسب ما نحن فيه؛ لأنه ينتج عكس مطلوبه ويقتضي أنه لا تكليف مع النسيان والخطأ، وأيضًا قالوا: إن الفهم والقدرة على الامتثال شرطان في التكليف، وأجابوا عن مثل اعتبار طلاق السكران الفاقد للشرط بأنه من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فهو من خطاب الوضع لا من التكليف، وهذا يشكل على المسألة هنا، وعلى قوله سابقًا: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب... إلخ"؛ إلا أن يقال: إنه جارٍ على القول بتوجه التكليف إلى هؤلاء جميعًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "وإن كان مختلفًا فيها"، ويكون معنى الشرط على هذا القول أنه شرط في المؤاخذة لا في أصل توجه التكليف، هذا وقد سبق له في باب الأحكام الإفاضة في مرتبة العفو وأنها زائدة عن الأحكام الخمسة، وأقام الأدلة عليها إثباتًا ونفيًا، وذكر مواضعها على القول بثبوتها، وختم المبحث هناك بما ختمه به هنا من أن هذا مبحث لا ينبني عليه فقه، وأن الأولى تركه؛ فراجعه إن شئت. "د".(8/70)
2 فرض المسألة في هذين الموضعين من باب التمثيل لا الاستقصاء؛ لأنها أوسع من ذلك، وقد سبق له في النوع الأول من الأنواع الثلاثة لمرتبة العفو المذكور هناك -وهو الوقوف مع الدليل المعارض قصد نحوه- أن أدرج فيه العمل بالعزيمة مع وجود مقتضى الرخصة، كما أدرج فيه المتأول كشارب المسكر يظنه حلالًا، وأدرج فيه خطأ القاضي في مسائل الاجتهاد ما لم يكن أخطأ نصًّا أو إجماعًا أو بعض القواطع، وإنما قيده بقوله: "ظهرت... إلخ" حتى يتأتى له قوله بعد: "فهل يسوغ أن يقال... إلخ" يعني، ومع مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها لا يمكن أن يقال ذلك، وكذا يقال في الموضع الثاني. "د".(8/71)
ص -54-…اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه، أو قاتل1 المسلم يظنه كافرًا، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته، وما أشبه ذلك؛ فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله2 الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه؛ فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال: إن الله أذن فيها وأمر3 بها؟ كلا، بل4 عذر الخاطئ5 ورفع الحرج والتأثيم بها، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة؛ كالغرامة، والضمان في المال، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ، وما أشبه ذلك [ف] {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ف": "قتل"، وقال "ف": "الأنسب: "أو قاتل المسلم" كما يقتضيه السياق".
2 في "ط": "أخذ له".
3 المناسب "أو" لينفي الإباحة والأمر؛ فيبقى النهي متوجهًا كما سيقول: "رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم"، وقوله بعد: "مأمورًا بما أخطأ فيه أو مأذونًا له فيه" يؤيد أن المقام لأوجه. "د".(8/72)
4 يعني: بل نهى عنها، غايته أنه عذر الخاطئ؛ فلم يؤاخذه، يريد أن المكلف في كل عمل يتوجه عليه من الله؛ إما الإباحة لفعله، وإما الأمر، وإما النهي؛ فهنا في هذه الأمور لا يتأتى الإباحة ولا الأمر؛ فيبقى أن يتوجه النهي، غايته أنه لا يؤاخذه لفقد شرط المؤاخذة، وقد يذكر هذا دليلًا على أنه قد تخلو وقائع من حكم الله فيها, ودليلًا على ثبوت مرتبة العفو، وكلا هذين مبني على أنه لا تكليف رأسًا عند فقد الشرطين المذكورين آنفًا، خلافًا لما جرى عليه هو في هذه المسألة وما قبلها في قوله: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة... إلخ" "د".
5 بمعنى المخطئ لا الآثم.(8/73)
ص -55-…والموضع الثاني:
إذا أخطأ الحاكم في الحكم1، فسلم المال إلى غير أهله، أو الزوجة إلى غير زوجها، أو أدب من لم يستحق تأديبًا وترك من كان مستحقًّا له، أو قتل نفسًا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود، أو نحو ذلك؛ فقد قال2 تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة: 49].
وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله فكيف يقال: إنه مأمور بذلك؟ أو أشهد ذوي زور؛ فهل يصح أن يقال: إنه مأمور3 بقبولهم وبإشهادهم؟ هذا لا يسوغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن العربي في "القبس" "3/ 878": فإن أخطأ القاضي -وهي مسألة عظيمة- فإن ذلك لا يلزمه ضمانًا، ولا يوجب عليه ملامًا، والأصل في ذلك أن خالد بن الوليد لما أخطأ في بني جذيمة لم يعلق به النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، اللهم إلا أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، 9/ 91"، ثم قال: "والمعنى يعضده، فإن القاضي لو نظر بشرط سلامة العاقبة وهو لا يعول على النص، إنما بنى حكمه على الاجتهاد، لكان ذلك باطلًا من وجهين، أحدهما أنه يكون تكليف ما لا يطاق، الثاني أنه يكون تنفيرًا للخلق عن الولاة؛ فتتعطل الأحكام".
وانظر: "قواعد الأحكام" "1/ 90 و2/ 165"، و"الأصول والضوابط من التحرير" "ص356-357 و419-420"، و"المبسوط" "9/ 64 و25/ 132"، و"بدائع الصنائع" "7/ 16"، و"شرح السير الكبير" "3/ 869"، و"تبيين الحقائق" "4/ 204-205".
2 أي: فهو مما ظهرت علة تحريمه بنص. "د".(8/74)
3 يريد: بل هو منهي عن ذلك، ولم لا يقال: إنه مأمور به في نظر المكلف وفي اجتهاده هو، وهو لا يكلف إلا بهذا القدر لا أنه مأمور به على التحقيق، ولهذا توجه الأمر الجديد بتلافي ما أفسده كما سيشير إليه بعد: "وقوله: لا فرق بين أمر وأمر... إلخ" الفرق ظاهر يقتضيه نفس بناء الأحكام على المصالح؛ فإن التكليف للفاعل وللحاكم، إنما هو يطيقه ويظنه صوابًا، فإذا ظهر الخطأ في ظنه؛ فترتب عليه فساد أو ظلم للغير ورد تكليف جديد بإزالة الظلم، وهذا من لوازم مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها، فإذا جرينا على أن هذا من مرتبة العفو أو أنه لا يلزم لله في كل واقعة حكم؛ كان الأمر أشد وضوحًا. "د".(8/75)
ص -56-…بناء على مراعاة المصالح في الأحكام، تفضلًا كما اخترناه، أو لزومًا كما يقوله المعتزلة، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر، والأمثلة في ذلك كثيرة.
ولو كان هذا الفاعل1 وهذا الحاكم مأمورًا بما أخطأ فيه، أو مأذونًا له فيه، لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة؛ إذ لا فرق بين أمر وأمر، وإذن وإذن؛ إذ الجميع ابتدائي؛ فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح.
فإن التزم أحد هذا الرأي، وجرى2 على التعبد المحض، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج3 أو تكليف بما لا4 يستطاع، وإنما يكلف بما يظنه صوابًا، وقد ظنه كذلك؛ فليكن مأمورًا به أو مأذونًا فيه، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد؛ فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي، ولولا أنها مسألة عرضت5؛ لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لو كان كل من الفاعل في الموضع الأول والحاكم في الموضع الثاني مأمورًا... إلخ. "ف". وفي "ط": "فاعل أو هذا...".
2 وليس بلازم على ما عرفت، وقد يشكل على كلامه من أن خطأ الحاكم منهي عنه ما هو متفق عليه من إثابة المجتهد إذا أخطأ، وأن له أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين، وهذا في كل مجتهد في حكم سواء أكان قاضيًا به أم مفتيًا أم غيرهما؛ فهل يثاب على المنهي عنه؟ وسيأتي له في أول مسألة في كتاب الاجتهاد أن هذا النوع من الاجتهاد يسمى تحقيق المناط، وأنه يحتاج إلى بذل الوسع في تقدير قيمة شهادة الشاهد وعدالته وغير ذلك؛ فكيف يثاب على قضائه الخطأ وهو على رأيه منهي عنه؟ فشناعة هذا اللازم على ما اختاره لا انفصال له عنها. "د".(8/76)
3 وهل هذا إلا اعتبار المصالح؟ فكيف نقول معه جرينا على التعبد المحض؛ إلا أن يقال: إنه لذلك سماه ترشيحًا لا دليلًا؟ "د".
4 في "ط": "ما لا".
5 المسائل التي تعرض في طريق المباحث الأصلية كثيرة؛ فلو تم له هذا لاتسع المجال لذكر ما لا ينبني عليه فقه، وقد أنكر ذلك في مقدمات الكتاب، وقد علمت أنه ذكر هذه المسألة بتفصيل أوسع في كتاب الأحكام في مسألة مرتبة العفو؛ فذكرها هنا لمجرد مناسبتها للتخصيص، وأنها تعد منه أو لا تعد. "د".(8/77)
ص -57-…المسألة السادسة:
العموم إذا ثبت؛ فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط، بل له طريقان:
أحدهما: الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول.
والثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام؛ فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه:
أحدها: أن الاستقراء هكذا شأنه؛ فإنه تصفُّح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام؛ إما قطعي1، وإما ظني2، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية؛ فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقًا في كل فرد يقدر3، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع.
والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه؛ فإن وجود حاتم مثلًا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود؛ حتى حصلت للسامع معنى كليًّا حكم به على حاتم وهو الجود، ولم يكن خصوص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا كان تامًّا. "د".
2 إذا كان في غالب الجزئيات فقط. "د".
3 أي: يفرض وإن لم يجئ فيه نص، ولا يخفى عليك أن هذا يكون من نوع الظني حينئذ. "د".(8/78)
ص -58-…الوقائع قادحًا في هذه الإفادة، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلًا مفقود فيه صيغة عموم؛ فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعدًا عند مشقة القيام1، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف2 التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة كانت3 لعسر استخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جدًّا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج؛ فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها، عملًا4 بالاستقراء، فكأنه عموم لفظي، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد في "د" هنا: "طلب" القيام، وليست في النسخ الأخرى.
2 المراد بالإباحة: الإذن, وبخوف التلف ما هو أعم من موجب ألم المسغبة ألمًا شاقًّا، وإلا؛ فالإباحة بمعنى استواء الطرفين أو ما لا حرج فيه على ما تقدم له، إنما تكون لما يدفع المشقة الفادحة، لا ما يوجب التلف وإلا كان واجبًا. "د".
3 في "د": "كان" وفي "ط": "وجهة كانت".(8/79)
4 جمع بين نتيجة الدليل الأول والثاني كما ترى لاشتباكهما هنا على ما قرره؛ فإنه جعل الاستقراء طريقًا لإثبات التواتر المعنوي، وذلك لأن هذه الجزئيات تتضمن الكلي المراد إثباته، ولتعددها وكثرة تنوعها يفهم منها ثبوت القدر المشترك، وإنما قال: "ثبت في ضمنه"، ولم يقل: ثبت ما نحن فيه؛ لأن ما هنا ليس تواترًا معنويًّا بالمعنى المعروف؛ كجود حاتم؛ لأن ذلك وصف لجزئي هو حاتم، فكل جزئية من أخبار كرمه تعود على هذا الوصف مباشرة بالإثبات، بخلاف إثبات العموم أو الكلي باستقراء الجزئيات؛ فليس كل جزئي مثبتًا لعموم العام مباشرة حتى يتكون من المجموع تواتر معنوي بالمعنى المعروف، بل ذلك إنما جاء من تضمن تلك الجزئيات للمعنى العام الكلي؛ فيفهم بسبب تعددها وتنوعها أن الحكم ليس لخصوصية في الجزئي، هذا توضيح كلامه، نقول: ومتى تم له هذا أمكن أن يقال في كل استقراء ولم جزئيًّا أنه تواتر معنوي بهذا المعنى، وقد يقال: إنه ينافي قولهم: إن الحاصل من التواتر علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس كوجود مكة مثلًا، فلذا لا يقع في العموم بالذات، لأن مسائلها كليات، ونحن نثبت به هنا كليًّا وعامًّا؛ فتأمل. "د".(8/80)
ص -59-…ثبت في ضمنه ما نحن فيه.
والثالث: أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية1 مع القدرة عليها، وكإتمام2 عثمان الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم8139"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا" -كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، والطبراني في "الكبير", كما في "مجمع الزوائد" "4/ 18"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295" و"الخلافيات" "3/ ق 279", وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358" بسند صحيح عن أبي سريحة الغفاري؛ قال: "ما أدركت أبا بكر، أو رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كنا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يقتدى بهما".
قال البيهقي: "أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله, صلى الله عليه وسلم" وروى عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "إني لأدع الأضحى، وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ"، وإسناده صحيح أيضًا، وانظر: "إرواء الغليل" "4/ 354-355/ رقم 1139".(8/81)
2 إتمام عثمان -رضي الله عنه- ثابت في "صحيح البخاري" "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 2/ 563/ رقم 1082، 1084، وباب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090، وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، 3/ 509/ رقم 1657"، و"صحيح مسلم" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، 1/ 482/ رقم 694-695", و"سنن أبي داود", "كتاب المناسك, باب الصلاة بمنى 2/ 199/ رقم 1960"، و"المجتبى" للنسائي "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 3/ 120"، و"مسند أحمد" "1/ 416، 425، 464"، و"مسند الطيالسي" "رقم 1091"، و"مسند أبي عوانة" "2/ 340", و"مسند أبي يعلى", "9/ 123, 255-256/ رقم 5194, 5377", و"سنن الدارمي", "2/ 55"، و"شرح معاني الآثار" للطحاوي "1/ 416"، و"المعجم الكبير" "1/ 268"، للطبراني، وسيأتي تصريح المصنف "ص102" بسبب إتمام عثمان, رضي الله عنه.(8/82)
ص -60-…في حجه بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وفي الحديث: "مِن أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"1 وأشباه ذلك.
وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال.
فإن قيل: اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بيِّن، من أوجه:
أحدها: أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات؛ لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل2 التركيب، ومتفقة لا تقبل الاختلاف؛ فيحكم العقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90" وغيرهما، وتتمته: "وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".(8/83)
2 أي: بحيث لا تزيد الماهيات ولا تنقص؛ فيجب أن تكون الجزئيات فيها متفقة الأحكام؛ فالمثلان هما المشتركان في جميع الصفات النفسية التي لا تحتاج في وصف الشيء بها إلى أمر زائد عليها كالإنسانية والحقيقة والشيئية للإنسان، وتقابلها الصفات المعنوية، وهي التي تحتاج في الوصف بها إلى تعقل أمر زائد على ذات الموصوف؛ كالتحيز والحدوث للجسم، ويلزم في كل مثلين اشتراكهما فيما يجب ويمكن ويمتنع؛ فكل ما يحكم به على أحدهما يحكم به على الآخر في كل ما يرجع إلى مقتضى التماثل، أما ما يخرج عن ذلك من كل ما كان تابعًا للوجود الخارجي الزائد عن الحقيقة؛ فاختلاف المتماثلين فيه جائز؛ فيحكم على زيد بأنه طويل وجاهل، وعلى عمرو بأنه قصير وعالم مثلًا، وهكذا، وهو ما يشير إليه بقوله في الثاني: "إن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا، وإذ ذاك... إلخ"؛ فهذا جار في العقليات باعتبار الوجود الخارجي الذي فيه المعاني الخاصة. "د".(8/84)
ص -61-…فيها على الشيء بحكم مثله شاهدًا وغائبًا؛ لأن فرض خلافه محال عنده، بخلاف الوضعيات؛ فإنها لم توضع وضع النقليات، وإلا كانت هي [هي]1 بعينها؛ فلا تكون وضعية، هذا خلف، وإذا لم توضع وضعها، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه؛ لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص.
والثاني: أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا على ذلك المعنى العام، أو معاني كثيرة، وهذا واضح2 في المعقول؛ لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام3 دون التعلق بالخاص على الانفراد، أو بهما معًا؛ فلا يتعين متعلق الحكم، وإذا لم يتعين؛ لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره، وذلك لا يكون إلا بدليل، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى4 تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام؛ للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل.
والثالث5: أن التخصيصات6 في الشريعة كثيرة؛ فيخص محل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "أوضح".
3 أي: المعنى المشترك. "د".
4 في الأصل و"ط": "يبقى".
5 هذا الثالث ليس وجهًا مستقلًّا عن الوجهين قبله، بل هو تفصيل وإيضاح لقوله في الأول: "وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه.. إلخ"، فإن قيل: إن ما تقدم في تجويز ذلك وهذا في وقوع ذلك بالفعل في هذه الأمثلة، قلنا: نعم، ولكنه لم يأت بمعنى جديد، ويمكنه أن يصله بالأول على طريق ضرب الأمثلة له، وقد يقال: إنه فصله وجعله مستقلًّا لأن جوابه غير جواب الأول؛ كما أشار إليه المؤلف، وإن كان بينهما هذا الاتصال الذي أشرنا إليه. "د".(8/85)
6 في "إعلام الموقعين" "المجلد الثاني إلى ص 130" أجوبة سديدة عن أكثر ما ذكره هنا، وأثبت فيه بما لا مزيد عليه أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.(8/86)
ص -62-…بحكم، ويخص مثله بحكم آخر، وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد.
ولذلك أمثلة كثيرة؛ كجعل التراب طهورًا كالماء، وليس بمطهر1 كالماء، بل هو بخلافه، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها، والمعنى واحد، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس، والجلد بقذف الزنى دون غيره، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق، وحالُ الرحم لا يختلف فيهما، واستبراء الحرة بثلاث حيض، والأمة بواحدة، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى2 والمعفو عنه في دم العمد، وبين المرتد والقاتل، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم3، وبين قتل المحرم الصيد عمدًا أو خطأ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمزيل للنجاسات وآثارها كالماء، ومع ذلك جعل مثله في رفع الحديث. "د".
2 فلم يقبل العفو في الزنى، لا من الزوج ولا من أهل المرأة، بخلاف قتل العمد إذا عفا عنه الأولياء؛ فيقبل، ولعل هذا مؤخر من تقديم، ومحله قبل قوله: "وكالتسوية" لأن سائر ما قبله فرق فيها بين المتماثلات، وسائر ما بعده جمع فيه بين المختلفات، وهذا على ما قررنا من الأول. "د".
3 بجماع فيه إيلاجٌ.(8/87)
ص -63-…وأيضًا؛ فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة، ومفترقان بالتكليف1 اللائق بكل واحد منهما؛ كالحيض، والنفاس، والعدة، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة، والاختصاصُ في مثل هذا لا إشكال فيه.
وأما الأول2؛ فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع؛ كالجمعة3، والجهاد، والإمامة ولو في النساء4، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير؛ ففرق بين بول الصبي والصبية، إلى غير ذلك من المسائل، مع فقد الفارق في القسم المشترك، ومثل ذلك العبد؛ فإن له اختصاصات في القسم المشترك5 أيضًا، وإذا ثبت هذا؛ لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة.
فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة، كما تقدم التنبيه عليه، فإذا وقع مثله؛ فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل6 للعقلي الاضطراري؛ لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع.
وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في التكليف".
2 وهو القسم المشترك. "د".
3 يعني: وهذه الأمور لائقة بكل منهما، ووقع فيها الاختصاص والتفرقة وكان يجدر بها التسوية؛ فهي مما فرق فيه الحكم كالقسم الأول، ولكنه نوع آخر جعل فيه محل الفرق أصناف الإنسان، وقد كان النظر سابقًا إلى جعل محل الفرق نفس الأفعال، بقطع النظر عن الذكورة والأنوثة مثلًا، فلذا فصله عن نوعي الأمثلة السابقين؛ فقال: "وأيضًا... إلخ". "د".
4 في "ط": "ولو للنساء".
5 كفرضية الجمعة مثلًا. "د".
6 ويبقى قوله: "لم توضع وضع العقليات، وإلا كانت هي هي بعينها"، ولما كانت هذه مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ لم يلتفت إليها في الجواب، فإن مجرد شبه شيء بآخر في أمر من الأمور لا يجعلهما من باب واحد؛ إن عقليًّا فعقلي، وإن شرعيًّا فشرعي. "د".(8/88)
ص -64-…أن الخصوصيات وما به الامتياز غير1 معتبرة، وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسًا، وذلك باطل؛ فما أدى إليه مثله.
وعن الثالث أنه الإشكال المورد2 على القول بالقياس؛ فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا.
فصل:
ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها، أصلية وفرعية، وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد، ثم استقرى معنى عامًّا من أدلة خاصة، واطرد له ذلك المعنى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويبقى قوله: "وعند وجود ذلك الدليل لا يبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء عنها بعموم صيغة الدليل"، ولم يلتفت إليه في الجواب؛ لأنه لا يلزم للعلم بأن هذه الخصوصيات غير معتبرة أن يكون ذلك مأخوذًا من دليل لفظي بصيغة فيها العموم، بل قد يكون بالاستقراء المشار إليه سابقًا، وهو مكون من جزئيات ليس فيها لفظ عام. "د".
2 وحاصله أن المنكرين للقياس قالوا: كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المفترقات، وذكروا لذلك أمثلة كما هنا، ثم قالوا: وكيف يتجاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق؟ وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكو ذلك تحكمًا وتعبدًا.
والجواب: بالمنع وأن الأحكام الشرعية ثلاثة أقسام: قسم لا يعلل أصلًا، وقسم يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي؛ فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه.
ونحن لا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وما عدا ذلك لا يقاس فيه، والجواب هنا كذلك.(8/89)
فإن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية والقطع بأخذ عموماتها من وقائع مختصة إنما هو فيما عدا ما وجد من فارق من الجزئيات، وعلم بالقرائن بناء على حكمه عليه؛ وهذا بظاهره مستثنى من العام وفي الحقيقة ليس من جزئياته؛ فتدبر. ا. هـ. "ف".(8/90)
ص -65-…لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن1، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره؛ إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة؛ فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه.
ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي2 الذي أورده على أهل مذهب مالك، حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا} [الأنعام: 108].
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65].
وبحديث: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها"3 إلخ.
وقوله: "لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعرض. "ف".
2 في كتابه "الفروق" "3/ 266، الفرق الرابع والتسعون والمائة".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1027/ رقم 1581"، عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
4 أخرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 396", وأبو عبيد في "الغريب" "2/ 155" بسند رجاله ثقات إلى طلحة بن عبد الله بن عوف عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لخصم ولا ظنين"، ولفظ أبي عبيد ما أورده المصنف وهو مرسل؛ فهو ضعيف.
ويشهد له ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 181، 204، 208، 225". وأبو داود في "السنن" "4/ 24/ رقم 2600"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 792/ رقم 2366"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 15364"، والدارقطني في "السنن" "4/ 243"، وابن جميع في "معجم الشيوخ" "ص108"، وابن مردويه في "ثلاثة مجالس من أماليه" "رقم 28"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 155" من طرق عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر =(8/91)
ص -66-…قال: "فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد؛ فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها؛ فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع، وإلا؛ فهذه لا تفيد".
قال: وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها؛ فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق، ويكون دليلهم شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون ذلك، بل يعتقدون أن مدركهم النصوص، وليس كذلك، بل ينبغي أن يذكروا نصوصًا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها؛ كحديث1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على أخيه، ولا موقوف على حد"، وبعضها طرفه حسنة، وقواه ابن حجر في "التلخيص الحبير"، وفي الباب عن أبي هريرة عند البيهقي في "الكبرى" "10/ 201"، وبعضهم أرسله كما في "الغيلانيات" "رقم 599"، وعن عائشة كما عند أبي عبيد، ومن طريقه البغوي في "التفسير" "1/ 410, ط دار الفكر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "18/ ق 282-283"، و"ذو الغمرة" الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة؛ فرد شهادته للتهمة، فهو بمعنى "خصم" في الحديث الذي أورده المصنف، و"القانع" الخادم والتابع، والمنقطع إلى القوم لخدمتهم، ويكون في حوائجهم، كالأجير والوكيل ونحوه، ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعًا؛ فهي مردودة، وهذا يشهد لكلمة "ظنين" في الحديث السابق.(8/92)
1 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور, كما في "نصب الراية" "4/ 16"، والدارقطني في "السنن" "2/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 330-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة؛ فسألتها؛ فقالت: "يا أم المؤمنين, كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة؛ فنقدته الستمائة؛ وكتبت عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد =(8/93)
ص -67-… أم ولد زيد بن أرقم".
هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال.
وهو غير وارد على ما تقدم بيانه؛ لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقًا عامًّا، وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة، ولا خلاف أبي حنيفة.
أما الشافعي؛ فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلامًا بعدم وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة، وذلك عند الشافعي ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب".
وفي رواية البيهقي: "إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أبضع؛ كما عند الدارقطني".
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما"، وكذا ابن حزم في "المحلى" "9/ 60"، وأما محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق", كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها. قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260"، و"إعلام الموقعين" "3/ 216"، وصححاه.(8/94)
ص -68-…بحجة1، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال [دليل آخر راجح2 على غيره فأعمله؛ فترك سد الذريعة لأجله، وإذا تركه لمعارض راجح]3؛ لم يعد مخالفًا [في أصله]4.
وأما أبو حنيفة، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل؛ لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح؛ إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها، وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان كذلك؛ فلا إشكال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهذا دليل على أنه أخذ فيه بسد الذرائع. "د".
قلت: انظر -لزامًا- ما سيأتي في التعليق على "458" من تحرير لمذهب الشافعي في حجية قول الصحابي، ومنه تعلم ما في قول المصنف هنا، والله الموفق.
2 هكذا في الأصل فقط، وفي النسخ المطبوعة: "رجح".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.(8/95)
ص -69-…المسألة السابعة:
العمومات إذا اتحد معناها، وانتشرت في أبواب1 الشريعة، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص؛ فهي مجراة2 على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل.
والدليل على ذلك الاستقراء؛ فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة، ولم تستثن منه موضعًا ولا حالًا؛ فعده علماء الملة أصلًا مطردًا وعمومًا مرجوعًا إليه من غير استثناء3، ولا طلب مخصص4، ولا احتشام من إلزام الحكم به، ولا توقف في مقتضاه، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام.
وأيضًا قررت أن {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه، وردوا ما خالفه5 من أفراد الأدلة بالتأويل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من مثل العبادات والمعاملات والأنكحة؛ فهو غير التكرر الذي بعده الصادق بالتكرر ولو في باب من هذه الأبواب. "د".
2 أي: بدون توقف ولا بحث عن وجود معارض، هذا هو الغرض الذي ترمي إليه المسألة كما سيشير إليه قبيل الفصل وفيه أيضًا. "د". وفي "ط": "فهو مجراة...".
3 وعليه؛ فقولهم: "ما من عام إلا وخصص" يخرج منه هذا أيضًا، كما أخرجوا منه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} على رأي الأصوليين، ولا يقال: إن المشاق والحرج الذي يعتري أرباب الحرف والصناعات لم يرفعه الشارع ويبن عليه الفطر في الصوم والقطر في السفر مثلًا؛ لأنا نقول: تقدم له أن ذلك من المشاق المعتادة التي لا تبنى عليها الأحكام المذكورة. "د".
4 في الأصل: "مخصوص".
5 من مثل ضرب الدية على العاقلة، وما قيل في هذه الآية يقال مثله في آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مع ما خالفها من أفراد الأدلة كالصوم والحج عن الميت الواردين في الأحاديث، وتقدم الكلام فيها في مبحث النيابة في الأعمال والعبادات. "د".(8/96)
ص -70-…وغيره، وبينت بالتكرار أن "لا ضرر ولا ضرار"1؛ فأبى أهل العلم من تخصيصه، وحملوه2 على عمومه، وأن "من سن سنة حسنة [أو سيئة]؛ كان [له] ممن اقتدى به حظ إن حسنًا وإن سيئًا"3 وأن "من مات مسلمًا دخل الجنة، ومن مات كافرًا دخل النار"4.
وعلى الجملة؛ فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه وأكثر الأصول5 تكرارًا الأصول المكية؛ كالأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والبغي، وأشباه ذلك.
فأما إن لم يكن العموم مكررًا ولا مؤكدًا ولا منتشرًا في أبواب الفقه؛ فالتمسك بمجرده فيه نظر؛ فلا بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه؛ وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين؛ لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه، بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات؛ فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
2 في "ط": "وعملوا".
3 أخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير -رضي الله عنه- وتقدم نصه وتخريجه "1/ 222"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، 3/ 109/ رقم 1238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94/ رقم 150" عن ابن مسعود مرفوعًا: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، قال: "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة".(8/97)
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 151"، عن جابر مرفوعًا: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار".
5 في "ط": "وأكثر الأول".(8/98)
ص -71-…فصل:
وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم، وهل يصح من غير [بحث عن]1 المخصص، أم لا؟ فإنه إذا عرض على هذا التقسيم؛ أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث؛ إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد2 بعضها بعضًا.
فإن قيل: قد حكى الإجماع في أنه يمنع3 العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص، أم لا؟ وكذلك دليل مع معارضه؛ فكيف يصح القول بالتفصيل؟
فالجواب: أن الإجماع إن صح4؛ فمحمول على غير القسم المتقدم جمعًا بين الأدلة.
وأيضًا5؛ فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة؛ فغير مخصص، بل هو على عمومه، فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث6 بناء على ما ثبت من الاستقراء، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، ولكن في "ط": "بحث على"، وسقط من النسخ المطبوعة.
2 كما هو الحال بين الإجماع المحكي بعد وبين هذه القاعدة الخاصة بالقسم الأول "د".
3 في "ط": "يمتنع".
4 إشارة إلى مخالفة الصيرفي فيه، قال إمام الحرمين: "وهذا ليس معدودًا من العقلاء، وإنما هو قول صدر عن غباوة وعناد". "د".
5 ليست في "م".
6 أي: فيكون البحث عبثًا. "د". وسقطت "دون بحث" من "ط".(8/99)
ص -73-…الفصل الخامس: في البيان والإجمال1
ويتعلق به مسائل
المسألة الأولى:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مبينًا بقوله وفعله وإقراره؛ لما كان مكلفًا بذلك في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ2 إِلَيْهِم} [النحل: 44].
فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام؛ كما قال في حديث الطلاق: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي [في "الإحكام" "3/ 11"]: "والحق أن المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"، وذكر من أسبابه سبعة أمور؛ منها: أن يكون في لفظ مشترك كالعين للذهب والشمس، والقرء للطهر والحيض، وقد يكون بسبب الابتداء والوقف؛ كما في آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وقد يكون في الأفعال أيضًا. "د".
قلت: وانظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على "3/ 324" حول الوقف والابتداء في الآية.
2 أي: من القرآن والسنة. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 294-296 و19/ 155-174".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء....}، 9/ 345-346/ رقم 2151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها...2/ 1093/ رقم 1471" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.(8/100)
ص -74-…وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]: "إنما ذلك العرض"1.
وقال لمن سأله عن قوله "آية المنافق ثلاث"2: "إنما عنيت بذلك كذا وكذا"3.
وهو لا يحصى كثرة.
وكان أيضًا يبين بفعله4: "ألا أخبرته5 أني أفعل ذلك"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، عن عائشة, رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان, باب علامة المنافق, 1/ 89/ رقم 23" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة مرفوعًا.
3 مضى تخريجه "2/ 282، 3/ 402".
4 ومنه أيضًا شربه قدح لبن وهو على بعيره بعرفة يوم عرفة، بيانًا لعدم مشروعية الصوم في عرفة يومها، ومضى تخريجه.
5 في "ط": "أخبرتيه".
6 قطعة من حديث أخرجه مالك في "المؤطأ" "1/ 291-292" عن عطاء بن يسار مرسلًا مطولًا، فيه ذكر جواز التقبيل للصائم، قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 54-55": "هذا الحديث مرسل عند جميع رواة "الموطأ" عن مالك"، قال: "والمعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وحديث أم سلمة وحفصة".
قلت: وبعضها في "الصحيحين"، ورواه الشافعي في "الرسالة" "رقم 1109" من طريق مالك، وقال: "وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله". =(8/101)
ص -75-…وقال الله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا1 يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 50].
وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله، وقال عند ذلك: "صَلوا كما رأيتموني أصلي"2، "وخذوا عني مناسككم"3.
إلى غير ذلك.
وكان إقراره بيانًا أيضًا، إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلًا أو حرامًا، حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره4، وهذا كله مبين في الأصول، ولكن نصير منه إلى معنى آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال الزرقاني في "شرح الموطأ" "2/ 92": "وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار".
قلت: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 184/ رقم 184", ومن طريقه أحمد في "المسند" "5/ 434"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 207", وليس فيه اللفظ المذكور.
ويغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، 2/ 779/ رقم 1108" بسنده إلى عمر بن أبي سلمة، أنه سأل رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "سل هذه, لأم سلمة". فأخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك.
وانظر: "ص94، 117" مع التعليق عليه.
وقال "ف" وتبعه "م": "ألا: أداة تنبيه، أي: كما في قوله: ألا أخبرته".
1 وفيه البيان بالقول أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره.
4 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب القائف، 12/ 56/ رقم 6770، 6771"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القافة بالولد، =(8/102)
ص -76-…المسألة الثانية:
وذلك أن العالم وارث النبي؛ فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هو عالم، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
ما ثبت من كون العلماء ورثة1 الأنبياء2، وهو معنى صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 2/ 1081/ رقم 1459" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليّ مسرورًا، تبرق أسراير وجهه؛ فقال: "ألم تر أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد؟" فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض.
وقال "ف": "مجزز: رجل من بني مدلج مشهور بالقيافة، ومسألته أن المنافقين لما أنكروا نسب زيد لأسامة قال وقد رأى أقدامهما: هذه الأقدام بعضها من بعض. فاستبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ومنه أخذ الشافعية إثبات النسب بالقيافة؛ لأن الاستبشار تقرير ولم يعتبره الحنفية دليلًا في الحادثة" اهـ، ونحوه عند "م".
وأضاف "د": "والحنفية قالوا: إن بشره -صلى الله عليه وسلم- إنما كان بقيام الحجة على المنافقين بناء على اعتقادهم في صحة القيافة، وترقبه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا بسبب ذلك عن الطعن في نسب أسامة، لا أن هذا منه تقرير لصحة الأخذ بالقيافة في الأنساب".
قلت: انظر "الطرق الحكمية" "ص8/ 246-271"، و"بدائع الفوائد" "3/ 130"، و"زاد المعاد" "5/ 418"، و"الذخيرة" "10/ 241, ط دار الغرب" للقرافي.
1 أي: في وظيفة النبوة معنى، وقوله: "في الإتيان بها"؛ أي: في تبليغها، وهذه الجملة بمعنى قوله في نهاية الدليل الثاني: "والبيان يشمل البيان الابتدائي... إلخ". "د".(8/103)
2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، 3/ 317/ رقم 3641"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة, باب فضل العلماء والحث على طلب العلم, 1/ 81/ رقم 223" وأحمد في "المسند" "5/ 196"، والدارمي في "السنن" "1/ 98"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 429"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 88, الإحسان"، والبزار في "المسند" "رقم 136, زوائده"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 275-276/ رقم 129"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 1188"، والخطيب في "الرحلة" "77-78"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 169، 170، 171، 172"، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من سلك طريقًا يطلب فيه =(8/104)
ص -77-…ثابت، ويلزم من كونه وارثًا قيامه مقام موروثه في البيان، وإذا كان البيان فرضًا على الموروث لزم أن يكون فرضًا على الوارث أيضًا، ولا فرق في البيان بين1 ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها؛ فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ.
والثاني:
ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء، فقد قال2: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159].
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140].
والآيات كثيرة.
وفي الحديث: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"3.
وقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا؛ فسلطه على هلكته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= علمًا..". وفيه: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وفي بعض أسانيده ضعف وبعضها حسن في الشواهد، وللحديث شواهد يتقوى بها كما قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 160"، قال ابن حبان عقب الحديث: "في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يعلمون علم النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من سائر العلوم؛ ألا تراه يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"؟ والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا -صلى الله عليه وسلم- سنته، فمن تعرى عن معرفتها, لم يكن من ورثة الأنبياء".
1 في "ط": "وبين".
2 فالآية الأولى ظاهرة في البيان بأصل التبيلغ، والثانية ظاهرة في بيان المبلغ، والثالثة ظاهرة في العموم. "د".(8/105)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، 1/ 157-158/ رقم 67"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، 3/ 1305-1306" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.(8/106)
ص -78-…في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة؛ فهو يقضى بها ويعلمها"1.
وقال: "من أشراط الساعة أن يرفع2 العلم ويظهر الجهل"3.
والأحاديث في هذا كثيرة، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء، والبيان يشمل البيان الابتدائي [والبيان]4 للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة؛ فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم، وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر، وهي5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، 3/ 276/ رقم 1409، وكتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، 13/ 120/ رقم 7141، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، 13/ 298/ رقم 7316"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، 1/ 559/ رقم 816" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ المصنف.
2 يعني: ولو كان العلم موجودًا بوجود العلماء؛ لأظهروه في الناس بمقتضى واجبهم، فلا يظهر الجهل؛ فيدل على أن واجب العلماء إظهار العلم. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب إثم الزناة، 12/ 113-114/ رقم 6808", ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم, باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2056/ رقم 2671" عن أنس بن مالك بلفظ المصنف.
4 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
5 في "ط": "وهو".(8/107)
ص -79-…المسألة الثالثة:
فنقول: إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل؛ فلا بد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم، كما حصل بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس، دل على ذلك المنقول عنهم، حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله؛ فلا نطول به ههنا لأنه تكرار.
المسألة الرابعة:
إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول؛ فهو الغاية في البيان، كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضًا؛ إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر.
فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي1؛ ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته، كما فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحال المصنف على هذا المبحث في كتابه "الاعتصام" "2/ 595, ط ابن عفان"، فقال: "... والفعل أغلب من القول من جهة التأسي، كما تبين في كتاب "الموافقات"، وانظر لطائف وفوائد في هذا عند ابن القيم في "مدارج السالكين "1/ 446 وما بعدها, ط الفقي".
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اجتماع أنواع أخرى من البيان مع القول والفعل يكون به أقوى، وأهم ذلك التقرير؛ فإنه يدل على رضا المبين عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبين له؛ فإن البيان قد يكون وافيًا، ولكن أفهام بعض السامعين تقصر أو تغفل، فإن عمل المبين له بما بين؛ فوافقه المبين، وأقره فذلك أقوى ما يكون البيان. انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 105".(8/108)
ص -80-…به جبريل حين صلى به1، وكما بين2 الحج كذلك، والطهارة3 كذلك، وإن جاء فيها بيان بالقول؛ فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقى بالفعل من الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان المدرك بالحس من الفعل4 فوق5 المدرك بالعقل من النص لا محالة، مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم.
وهبه -عليه الصلاة والسلام- زاد بالوحي الخاص أمورًا لا تدرك من النص على الخصوص؛ فتلك الزيادات6 بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها؛ فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله -عليه الصلاة والسلام- في الوضوء شمله بلا شك، وكذلك آية الحج مع فعله -عليه الصلاة والسلام- فيه، ولو تركنا والنص؛ لما حصل لنا منه كل ذلك، بل أمر أقل منه، وهكذا نجد الفعل7 مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى لفظه وتخريجه في التعليق على "3/ 255".
2 في حديث جابر الطويل وغيره، وفيه: "خذوا عني مناسككم"، وقد مضى تخريجه "3/ 246"، وقد جمع طرقه وألفاظه شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في جزء مفرد مطبوع.
3 كما ثبت في غير حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع ركعتين لم يحدث فيهما نفسه؛ غفر له ما تقدم من ذنبه".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، 1/ 259/ رقم 159، وكتاب الصيام، باب سواك الرطب واليابس للصائم، 4/ 158/ رقم 1934"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، 1/ 205/ رقم 226" عن عثمان مرفوعًا، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 1، 2، 3".
4 في الأصل: "العقل".(8/109)
5 أي: أوسع بسطًا وأوضح معنى منه، فإذا فرض أنه -صلى الله عليه وسلم- زاد بفعله الذي أدركه بالوحي غير القرآني تفاصيل في الفعل لم تدرك من أصل النص القرآني؛ فهذه الأجزاء والتفاصيل الزائدة بهذا البيان الفعلي المفهوم له من الوحي الخاص إذا قيست وطبقت على النص القرآني لم ينابذها ولم ينافها، بل كان يحتملها وغيرها. "د".
6 في "ط": "الزيادة".
7 فإن القول مهما كان مستطيلًا في البيان لا يفي ببيان الهيئات الجزئية والكيفيات =(8/110)
ص -81-…القول أبدًا، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول؛ كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول1 الذي معناه الفعلي بسيط، ووجد له نظير في المعتاد، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد؛ فبه حصل البيان لا بمجرد القول2، وإذا كان كذلك؛ لم يقم القول هنا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(8/111)
= المخصوصة التي تظهر من الفعل، ومن ذلك تجد لزوم التمرين في مثل الصناعات عمليًّا، ولا يكتفي بالقول والشرح فيها، وقوله: "بل يبعد" ترقّ لإيضاح ما قبله بتحديد المحل الذي لا يفي فيه القول، وفاء الفعل في ضبط كيفياته ضبطًا لا يدع نقصًا ولا زيادة، وذلك في الأعمال المركبة من أركان وشروط ومستحسنات، وتلحقها مبطلات وعوارض غير مستحسنة، ولم تجر بها عادة بين الناس تحددها تحديدًا وافيًا، وذلك كالصلاة والحج؛ فمجرد القول فيهما لا يفي بهما وفاء تامًّا، بحيث إذا اقتصر عليه لا يحصل زيادة عن المطلوب ولا نقص عنه، وإن كانت بسائطهما معتادة في شريعتنا ثم ورد تعديل ونسخ في كيفياتهما، أو معتادة باعتبار شرائع متقدمة؛ فكلي الصلاة والحج معتاد، ومجرد هذا لا يكفي القول فيه لضبط تفاصيل كيفياته للتفاوت بين الصلوات الخمس عددًا وكيفية، وسرًّا وجهرًا، وبسورة وغير سورة، كذلك نفس النوافل وصلاة العيدين والكسوف والخسوف والجنازة والوتر والضحى وهكذا؛ فتفاصيل هذه الصلوات لا يكفي فيه القول لضبطه، وإن كان أصل الصلاة معتادًا في شريعتنا، وإنما يقرب في العادة أن يؤدي القول مؤدى الفعل فيما كان معناه بسيطًا، أو وجد له نظير في المعتاد ولو كان مركبًا؛ فإنك إذا وصفت للخياط الحالة التي تريد أن يكون عليها الثوب وكان ما وصفت معتادًا؛ فلا مانع أن يجيء الثوب حسبما وصفت، بدون زيادة ولا نقص، ويكون البيان إذ ذاك حاصلًا بالفعل المعتاد لا بالقول، وعليه يكون قوله: "ووجد له نظير" الواو فيه بمعنى أو كما هو ظاهر، وكما يؤخذ من كلام المؤلف حيث جعل التركيب قيدًا، وكونه لا نظير له في الأفعال معتادة قيدًا آخر، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن الواو على معناها الأصلي، وأن الذي يقرب أن يؤدي القول فيه مؤدى الفعل صورة واحدة، وهي ما كان بسيطًا بقيد أن يكون مثله معتادًا، ولك أن تقول كما قررنا: إن المعتاد ولو كان مركبًا يفي القول فيه وفاء الفعل،(8/112)
والشواهد عليه كثيرة. "د".
1 في "ط": "في القول".
2 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 106" للشيخ محمد الأشقر.(8/113)
ص -82-…البيان مقام الفعل من كل وجه؛ فالفعل أبلغ من هذا الوجه.
وهو يقصر عن القول من جهة أخرى: وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص، في الأحوال والأزمان والأشخاص؛ فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها، بخلاف الفعل، فإنه مقصور على فاعله، وعلى زمانه، وعلى حالته، وليس له تعدّ عن محله ألبتة، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا؛ لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين، وعلى هذه الحالة المعينة.
فيبقى علينا النظر: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة، أو في هذه الحالة، أو يختص بهذا الزمان، أو هو عام في جميع الأزمنة، أو يختص به وحده، أو يكون حكم أمته حكمه؟
ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله: من أي نوع هو من الأحكام الشرعية؟
وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل؛ فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان؛ فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه، وهذا بين بأدنى تأمل، ولأجل ذلك جاء1 قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال حين بين بفعله العبادات: "صلوا كما رأيتموني أصلي"2، و"خذوا عني مناسككم"3، ونحو ذلك؛ ليستمر البيان إلى أقصاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ففعله لم يكف في طلب الاقتداء به فيه؛ لأن الفعل لا يدل على انسحابه على أمته كما قال؛ فاحتاج الأمر لبيان ذلك بالقول بهذه الآية، وبالأحاديث التي تذكر في مواضعها ليتبين الأمر من الجهتين أنه عام لهم، وأن كيفيته كما رأوا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإمامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره.(8/114)
ص -83-…فصل:
وإذا ثبت هذا، لم يصح إطلاق1 القول بالترجيح بين البيانين؛ فلا يقال: أيهما أبلغ في البيان؛ القول، أم الفعل؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق؛ فيقوم أحدهما2 مقام الآخر، وهنالك يقال: أيهما أبلغ، أو أيهما أولى؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلًا؛ فإنه بين من جهة الفعل3 ومن جهة القول4 عند من جعل هذه المسألة من ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما ذكره الأصوليون؛ فقائل يرجع الفعل لأنه أقوى في الدلالة على المقصود وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة، وقائل بل يقدم القول لأنه يدل بنفسه على المقصود، أما الفعل؛ فلا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة تفيد أن الفعل بيان للمجمل هي العقل، أو النص على أن هذا الفعل بيان للمجمل، أو أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، هذا إذا اجتمع القول والفعل واختلفا، أما إذا اجتمعا وتوافقا؛ فالسابق منهما هو البيان، والثاني مؤكد له، هذا محصول كلامهم، ولم ينح نحو مبحثه الذي تجلى به أن كلًّا منهما له جهة يكون فيها أقوى بيانًا من الآخر. "د".
قلت: رجح أبو الحسين البصري الفعل بقوله في "المعتمد" "340": "إن الفعل أكشف" لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة، وانظر تفصيلًا حسنًا مع الأدلة حول القوة والوضوح بين البيان القولي والبيان الفعلي في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 99-103"، وانظر: "تيسير التحرير" "3/ 148-149"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" 2/ 100"، و" إحكام الأحكام" "3/ 34" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123، 124"، و"أصول السرخسي" "2/ 27".
2 على أن القول في هذه الصورة إنما قام مقام الفعل لأن مثله معتاد؛ فحصول البيان فيه بالفعل مع القول أو بالفعل نفسه كما قال سابقًا. "د".(8/115)
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل".(8/116)
ص -84-…والذي وضع إنما1 هو فعله ثم غسله؛ فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة [به]2 فيه؛ فيختص3 بالقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن هذا المقدار فقط هو الذي يقوم فيه كل من القول والفعل فيه مقام صاحبه، أما كون الغسل إذا ذاك واجبًا أو مندوبًا؛ فلا يستفاد إلا من القول، وقوله: "والذي وضع" لعل الأصل: "والذي وضح". [قلت: وفي الأصل: "وقع"، وقد احتملها "ف"]؛ أي: الذي استبان بهذا القول والفعل إنما هو مجرد حصول الفعل ثم الغسل، وكلمة "وضح" ذكرها شارح "المنهاج" في مبحث البيان والإجمال. "د".
قلت: وفي "ط": "والذي في الموضع".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "فمختص".(8/117)
ص -85-…المسألة الخامسة:
إذا وقع القول بيانًا؛ فالفعل شاهد له ومصدق، أو مخصص أو مقيد، وبالجملة عاضد للقول حسبما1 قصد بذلك القول، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم، إذا كان موافقًا غير مناقض، ومكذب له2 أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفًا إن كان على خلاف ذلك.
وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه؛ قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله، وإذا أخبر عن تحريمه مثلًا، ثم تركه فلم ير فاعلًا له ولا دائرًا3 حواليه؛ قوي عند متبعه ما أخبر به عنه، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله؛ فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى، بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة؛ إما من تطريق4 احتمال إلى القول، وإما من تطريق4 تكذيب إلى القائل، أو استرابة في بعض مآخذ القول، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان؛ فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل؛ فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به، أو عدم ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاده ليشمل المخصص والمقيد، ولذلك قال: "وبالجملة". "د".
2 الأحوال الأربعة تختلف باختلاف القرائن والأشخاص الذين يقع في أنفسهم أحدها، وستأتي بعد في كلامه من تكذيب القائل، أو وجود ريبة وشك في صدقه، أو احتمال أن قوله لا يؤخذ على ظاهره، أو أن دليله ليس كما ينبغي، وإلا لما ساغ لنفسه تركه. "د".
3 لأن فعل ما يشبه مقدمات الحرام يوجه الظنون إلى أن هذا العالم بصدد أن يفعله؛ فلذلك زاده المؤلف هنا، وليس في الواجب مثله؛ فقوله بعد: "ثم فعله" أي: أو دار حوله. "د".(8/118)
4 في "ط": "تطرق".(8/119)
ص -86-…ولذلك كان الأنبياء -عليهم السلام- في الرتبة القصوى من هذا المعنى، وكان المتبعون لهم أشد اتباعًا، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون، مع1 ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة، ومن جملتها ما نحن فيه، فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه؛ فالطبيب2 إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه، ثم أخذ في تناوله دونك، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه؛ دل هذا كله على خلل في الإخبار، أو في فهم الخبر؛ فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله، وقد قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 44].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} الآية [الصف: 2].
ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد؛ فقد قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
وقال في ضده: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ...} إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التوبة: 75-77].
فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين؛ فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم؛ فإنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فتطريق التكذيب لا يتأتى بالنسبة لهم، وكذا الاسترابة في مأخذ القول؛ فلم يبق إلا احتمال ألا يؤخذ القول على ظاهره، كما سيأتي في مثالي التحلل من العمرة والإفطار في السفر. "د".
2 المثال بعينه في "مدارج السالكين" "1/ 446, ط الفقي".(8/120)
3 فقوله: {أَفَلا تَعْقِلُون} [البقرة: 44]؛ إما محذوف المفعول، أي: ألا تدركون قبح الجمع بين المتنافيين؟ فطلب البر والإحسان من الغير هو تحقيق لكونه برًّا وإحسانًا، ونسيانهم أنفسهم منه ينافي كونه كذلك في اعتقادهم، أو أنه منزل منزلة اللازم، أي: أفقدتم العقل رأسًا حتى يصدر منكم هذا، وعلى كل؛ فهو غاية التشنيع على ارتكابه. "د".(8/121)
ص -87-…يريد على كل مكلف وأنا منهم فإن وافق صدق وإن خالف كذب1.
ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله؛ فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثًا على الحقيقة، ومعلوم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله؛ فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول؛ فهو ذلك، وصار من اتبعه على هدى، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى، لكن بسببه.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع -عليه الصلاة والسلام- ولم يفعله هو، حرصًا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله؛ لاحتمال أن يكون تركه أرجح، ويستدلون على ذلك بتركه -عليه الصلاة والسلام- له؛ حتى إذا فعله اتبعوه في فعله، كما في التحلل من العمرة2، والإفطار في السفر3، هذا وكل صحيح؛ فما ظنك بمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تفصيل ذلك عند المصنف "5/ 269".(8/122)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 5/ 322" عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه-، وذكر صلح الحديبية، وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال: "فوالله ما قام منهم رجل"؛ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله, أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا...". وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 328-331"، وانظر "5/ 264".
3 ورد في ذلك أحاديث عديدة؛ منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، =(8/123)
ص -88-…ليس بمعصوم من العلماء؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به.
ولا يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم؛ فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل، بخلاف من ليس بمعصوم.
لأنا نقول: إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل؛ فليعتبر في ترك اتباع القول، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح، وخرق لا يرقع؛ فلا بد أن يجرى الفعل مجرى القول، ولهذا تستعظم شرعًا زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء، فإذا زل؛ حملت زلته عنه قولًا كانت أو فعلًا لأنه موضوع منارًا يهتدى به، فإن علم كون زلته زلة؛ صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيًا به، وتوهموا1 فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به، وإن جهل كونها زلة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب غزوة الفتح في رمضان/ رقم 4279"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 784/ رقم 113" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
وما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1114" عن جابر؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه؛ حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة".(8/124)
وما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 21"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 3550، 3556, الإحسان" عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نهر من ماء السماء وهو على بغلة له والناس صيام، فقال: اشربوا فجعلوا ينظرون إليه، فقال: "اشربوا؛ فإني راكب وإني أيسركم، وأنتم مشاة"، فجعلوا ينظرون إليه؛ فحول وركه فشرب، وشرب الناس، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
1 في "ط": "أو توهموا".(8/125)
ص -89-…فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه.
وقد جاء في الحديث: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلة العالم, ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"1.
وقال عمر بن الخطاب: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"2.
ونحوه عن أبي الدرداء3 ولم يذكر فيه الأئمة المضلين.
وعن معاذ بن جبل: "يا معشر العرب, كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "17/ 17/ رقم 14"، والبزار في "مسنده" "رقم 182, زوائده"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 830"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1865" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا، وإسناده ضعيف، فيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف.
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 71"، والآجري في "تحريم النرد والشطرنج" "رقم 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص71"، وابن المبارك في "الزهد" "ص520"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 234"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 833"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 641، 643"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1867، 1869، 1870"، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في "المواعظة"، والبغوي والإسماعيلي ونصر المقدسي في "الحجة"؛ كما في "كنز العمال" "10/ رقم 29405، 29412"، و"مسند الفاروق" "2/ 660-661" من طرق عن عمر, بعضها إسناده صحيح, قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 662"، بعد أن ساق طرقه: "فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف؛ فهي صحيحة من قول عمر -رضي الله عنه- وفي رفع الحديث نظر، والله أعلم".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء، وسيسوق المصنف لفظه "ص327".(8/126)
ص -90-…أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟"1.
ومثله عن سلمان أيضًا2.
وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير3.
وعن ابن عباس: "ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد4 من هو أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه؛ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع"5.
وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين، أما زلة العالم؛ فكما تقدم، ومثال كسر السفينة واقع فيها، وأما الحكم الجائر؛ فظاهر أيضًا، وأما الهوى المتبع؛ فهو أصل ذلك كله وأما الجدال بالقرآن؛ فإنه من -اللسن الألد- من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب6 جدًّا، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقًّا7،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1872" بسند حسن، وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، والموقوف هو الصحيح؛ كما قال الدارقطني في "العلل" "6/ 81/ رقم 992".
2 يشير إلى ما أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1873" بسنده إلى سلمان, رضي الله عنه: "كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟".
3 قول المصنف: "وشبه العلماء زلة العلم..." من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 982".
4 ومن ذلك كان مالك يكره كتابة العلم عنه؛ أي: الفروع خشية أن ينشر عنه في الآفاق، وقد يرجع عنه. "د".
5 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 835، 836"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 14" وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1877".
قال "ف" شارحًا معناه: "أي على ما قال العالم برأيه مع أنه قد تركه لظهور مخالفته" ا. هـ.
6 فتتقي مخالفته ولو على الوجه الذي يزينه المنافق بسلاطة لسانه. "د".
7 في الأصل و"ف": "أسأل كونه حقًّا" وفي "ط": "أحال كونه حقًّا"، وتفردت نسخة الأصل بحذف الواو بعدها.(8/127)
ص -91-…وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة؛ إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل1 لها؛ فصاروا فتنة على الناس، وكذلك الأئمة المضلون؛ لأنهم -بما ملكوا2 من السلطنة على الخلق- قدروا3 على رد الحق باطلًا والباطل حقًّا، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان، وأما الدنيا؛ فمعلوم فتنتها للخلق.
فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم4، بل يقال: إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين؛ ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع؛ فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين5:
أحدهما: من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة.
والثاني: من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانًا وتقريرًا لما شرع الله -عز وجل- إذا انتصب في هذا المقام؛ فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم، ولا ثالث لهما؛ لأنه من هذه الجهة مبين، والبيان واجب لا غير، فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ف": "أي: بزعمهم موافقة العقل لها، وإلا؛ فالعقول السليمة تنبو عنها".
قلت: هي في "ط": "الفعل"، ولكنها في الأصل: "العقل"، وهو أظهر.
2 في "ط": "يملكون".
3 في "د": "وقدروا" بزيادة واو في أوله. وفي "ط": "قروا".
4 ترق على ما فرض فيه الكلام أولًَا من الواجب والحرام إلى التعميم في الأحكام الخمسة، ومن خصوص البيان بالأفعال إلى البيان مطلقًا بالأقوال والأفعال. "د".
5 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 137-138".(8/128)
ص -92-… كان مما يفعل1 أو يقال؛ كان واجب الفعل على الجملة، وإن كان مما لا يفعل؛ فواجب الترك، حسبما يتقرر بعد بحول الله، وذلك هو تحريم الفعل.
لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان؛ إما عند الجهل بحكم الفعل أو[الترك، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم]2، أو مظنة اعتقاد خلافه3.
فالمطلوب فعله بيانه بالفعل، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبًا، وكذلك إن كان مندوبًا مجهول الحكم، فإن كان مندوبًا [و] مظنة لاعتقاد الوجوب؛ فبيانه بالترك أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك، كما فعل في ترك الأضحية وترك4 صيام الست من شوال، وأشباه ذلك، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك5؛ فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة؛ كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة.
والمطلوب تركه بيانه بالترك، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حرامًا، وإن كان مكروهًا؛ فكذلك إن كان مجهول الحكم، فإن كان مظنة لاعتقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مأذونًا فيه بأقسامه الثلاثة؛ حتى المباح يصير في حقه واجبًا، ومثله يقال فيما لا يفعل بقسميه. "د".
2 سقط من "ط".
3 مثاله: أن يجهل قوم الحديث الوارد في الندب إلى التطوع قبل صلاة المغرب بعد الأذان، ويستنكروا ذلك؛ فعلى المبين أن يفعل ذلك ليحصل البيان لأن البيان في حقه واجب، ولعل من هذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طلب أن يطعم من غير صيد غير المحرم، وطلب أن يطعم من الجعل الذي أخذوه على الرقية؛ قيامًا بواجب البيان، والله أعلم.
4 خشية اعتقاد وجوبها ملحقة برمضان, أو اعتقاد أنها نافلة مكملة له كالنوافل البعدية في الصلاة؛ كما روي عن مالك فيها. "د".
5 أي: لإهماله وعدم العناية به مع معرفتهم له؛ فبيانه بالفعل أي بقدر ما تزول الفكرة المخالفة أو ينشط الناس لفعله وإحيائه. "د".(8/129)
ص -93-…التحريم وترجح1 بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به2، وقد قال3 الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وقال4: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 50].
وفي حديث المصبح جنبًا قوله: "وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام"5.
وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة: "يا عبد الرحمن, أترغب عما كان رسول الله يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا والله, قالت عائشة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" والأصل، وفي غيرها: "وترجيح".
2 قد يظن أن في هذا تقريرًا من المصنف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل فعلًا حكمه الكراهة بشرط "على أقل ما يمكن"؛ أي: يقتصر على القدر الذي يحصل به البيان أن الفعل المبين ليس بحرام، وإنما هو مكروه، وسيأتي في المسألة الثانية ما يفيد شرطًا آخر وهو أن لا يكثر ولا يواظب عليه، ولا سيما أن لا يكون في مواطن الاجتماعات العامة، والحق أن فعله الذي أطلق عليه المصنف مكروهًا، إنما هو في حقه من باب تعارض المصلحة والمفسدة؛ فإن في فعله مصلحة البيان، ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح، وعليه يدل السياق، وانظر في المسألة: "المسودة في أصول الفقه" "ص74"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" "2/ 96"، و"البحر المحيط" "4/ 176" للزركشي.
3 و4 الآيتان باجتماعهما، الأولى بعمومها في طلب الاقتداء، والثانية في هذا الفعل الخاص تفيدان جواز تزوج الرجل بزوجة متبناة، وهذا كان مظنة اعتقاد التحريم أو وجود الاعتقاد فعلًا، وتقدم لنا أنه بيان بالفعل والقول معًا. "د".(8/130)
5 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 781/ رقم 1110"، ومالك في "الموطأ" "1/ 289", والمذكور لفظه، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 67، 156، 245"، والشافعي في "الأم" "1/ 258"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصيام، باب فيمن أصبح جنبًا في شهر رمضان/ رقم 2389"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 106"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 213" عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده صحيح.(8/131)
ص -94-…فأشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم"1.
وفي حديث أم سلمة: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك..."2 إلى آخر الحديث.
وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه؛ قال: "رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول:
وهن يمشين بنا هميسا…إن تصدق الطير نفعل لميسا
قال: فذكر الجماع باسمه؛ فلم يكن عنه. قال: فقلت: يابن عباس! أتتكلم بالرفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبًا، 4/ 143/ رقم 1925، 1926"، وباب اغتسال الصائم، 4/ 153/ رقم 1930، 1931، 1932"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 779-780/ رقم 1109"، ومالك في "الموطأ" "1/ 290-291" والمذكور لفظه.
2 مضى تخريجه "ص74"، وسيأتي "ص117"، وانظر تعليقنا عليه.
3 أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 806/ رقم 345"، وابن أبي شيبة في "المصنف", كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 115"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 276"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 263-264"،والبخاري في "تاريخه" "3/ 3", مشيرًا إلى متنه دون ذكره، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 67"، وابن عبد البر في "التمهيد" "19/ 54"، و"الاستذكار" "13/ رقم 7910" من طرق عن ابن عباس لا تسلم واحدة منها من ضعف، ولكن مجموعها يدل على أن للأثر أصلًا، وبه يصل إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.
وذكروه بألفاظ، والذي عند المصنف لفظ البيهقي، وذكره جمهرتهم بلفظ: "ننك لميسًا", وكذا سيورده المصنف "ص118"، وانظر: "علل ابن أبي حاتم" "1/ 277".
قال في "النهاية في غريب الحديث" "2/ 241": "كأنه -أي: ابن عباس- يرى الرفث =(8/132)
ص -95-…كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد؛ فنفاه بذلك القول بيانًا لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوق} الآية [البقرة: 197]، وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله؛ فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل؛ كما في سجود1 الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح، وستأتي2 إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي نهى الله عنه: ما خوطبت به المرأة، فأما ما يقوله ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة".
قلت: وقوله: "إن تصدق الطير" فيريد به أنه زجر الطير، فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله، أفاده الشيخ أحمد أو محمود شاكر في التعليق على "تفسير ابن جرير" "4/ 126"، و"اللميس": اسم امرأة، ويقال للمرأة اللينة الملمس: اللميس، انظر: "اللسان" "6/ 209-210، مادة لمس"، والهميس: قال السرقسطي في "غريبه": "الهميس: ضرب من السير لا يسمع له وقع".
قلت: وهو صوت نقل أخفاف الإبل كما أفاده ابن منظور في "اللسان" "6/ 250"، ونحوه عند "ف".
وقد ورد عن ابن عباس أكثر من تفسير للرفث في آية "197" من سورة البقرة، وانظر عدا "سنن سعيد"، والتعليق عليه: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" "1/ 85-88" للشيخ عبد العزيز الحميدي.
1 تقدم إنكار مالك لأصله وإنكاره ما روي عن أبي بكر فيه. "د".
قلت: ورد ذلك بثبوت أحاديث وآثار صحت فيه، جمعها السخاوي في كتابه "تجديد الذكر في سجود الشكر"؛ كما في "الضوء اللامع" "8/ 19"، و"فهرس ابن غازي" "ص169" وغيره؛ كما في كتابنا: "مؤلفات السخاوي" "رقم 69" ولله الحمد والمنة.
2 في المسألة السابعة "ص114".(8/133)
ص -96-…وعلى الجملة؛ فالمراعى ههنا1 مواضع طلب2 البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات، والراد إلى الصراط المستقيم، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى؛ تبين ما تقرر بحول الله، ولا بد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في التفاصيل السابقة من ترك الفعل جملة أو الفعل على الدوام وهكذا، إنما هو في المواطن التي يطلب فيها البيان الشافي، أما المواطن الأخرى؛ فيكفي فيها القول مثلًا. "د".
2 في "ط": "الطلب".(8/134)
ص -97-…المسألة السادسة:
المندوب من حقيقة استقراره مندوبًا أن لا يسوى بينه وبين الواجب، لا في القول ولا في الفعل، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد، فإن سوى بينهما في القول أو الفعل؛ فعلى وجه1 لا يخل بالاعتقاد، وبيان ذلك بأمور:
أحدها:
أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق2 التسوية وجب أن يفرق بينهما، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبًا.
والثاني:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث هاديًا ومبينًا للناس ما نزل إليهم، وقد كان من شأنه ذلك3 في مسائل كثيرة؛ كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فلا وجه"، وفي حاشيته: "لعل الصواب: "فلا بد من وجه لا يخل بالاعتقاد"، وترجمة المسألة على هذا هو أن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استويا في القول والفعل مطلوب من كل فرقة، هذا حاصل المسألة، ويعني بذلك أن الأمر إذا كان للندب وجب بيانه لئلا يلتبس بالواجب، لأنه مساوٍ له في الدلالة القولية الأمرية، وكذا إذا واظب القدرة على فعلين وكان أحدهما واجبًا والآخر مندوبًا؛ وجب عليه بيان المندوب منهما خيفة اعتقاد وجوبه" ا. هـ.
2 أي: التسوية المطلقة؛ أي: التامة التي يدخل فيها المساواة في الاعتقاد، أما التسوية في القول والفعل فقط؛ فجعلها صحيحة، إذا كانت على وجه لا يخل بالاعتقاد في المندوب بجعله واجبًا، لكنه قال في صدر المسألة: "إن التسوية بين المندوب والواجب ليست من حق المندوب، لا في القول، ولا في الفعل أيضًا" فيؤخذ من آخر الكلام بيان معنى صدره، وأن كونها ليست من حقه لا يقتضي بطلانها مطلقًا. "د".
قلت: انظر "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 91" للأستاذ محمد الأشقر.(8/135)
3 أي: البيان بالقول كما في المسلك الأول، وبالفعل كما في المسلك الثاني. "د".(8/136)
ص -98-…بقيام1، وقوله: "لا يجعل أحدكم للشيطان حظًّا في صلاته"2، بينه حديث ابن عمر، قال واسع بن حبان: "انصرفت من قبل شقي الأيسر، فقال لي عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: رأيتك فانصرفت إليك. قال: أصبت، إن قائلًا يقول: انصرف عن يمينك، وأنا أقول: انصرف كيف شئت، عن يمينك وعن يسارك"3.
وفي بعض الأحاديث بعدما قرر حكمًا غير واجب: "من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/ رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144"، والترمذي في "الجامع" "أبواب القيام، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده، 2/ 123/ رقم 740"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب الصيام" كما في "تحفة الأشراف" "10/ 351"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيام، باب في صيام الجمعة، 1/ 549/ رقم 1723"، وأحمد في "المسند" "2/ 495" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، لفظ مسلم.
2 مضى تخريجه "3/ 500"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا. وفي "ط": "من صلاته"!!
3 مضى تخريجه "3/ 501".(8/137)
4 أخرج أبو داود في "السنن" "1/ 9/ رقم 35", ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ 84-85/ رقم 367, بتحقيقي"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 118/ رقم 3204"، وأحمد في "المسند" "2/ 371"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 121/ 122"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 94، 104"، من طريق عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد =(8/138)
ص -99-…...........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا حرج".
وأخرجه من طرق أخرى عن ثور به: ابن ماجه في "السنن" "1/ 121-122 و2/ 1157/ رقم 337، 338, 3498", والدارمي في "السنن" "1/ 169-170"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "1/ 122"، و"مشكل الآثار" "1/ 127/ رقم 138"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 137", وابن حبان في "الصحيح" "4/ 257-258".
وإسناده ضعيف، فيه حصين الحبراني، ويقال: الحميري، وحبران بطن من حمير، قال ذلك أبو بكر بن أبي داود، وهو مجهول؛ كما في "التقريب"، وفي "الكاشف" "1/ 239": "لا يعرف"، وانظر: "الجرح والتعديل" "9/ رقم 1758".
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 103": "مداره على أبي سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل"". ا. هـ.
قلت: انظر كلام الدارقطني في "العلل" "8/ 283-285/ رقم 1570"، وقال البيهقي في "المعرفة" "1/ 201"، "ليس بالقوي"، وكلام ابن حجر السابق هو ما تقتضيه قواعد المصالح، بخلاف ما قرره بعد في "الفتح" "1/ 257" عندما حسن إسناد أبي داود، وتبعه العيني في "عمدة القاري" "1/ 722"، وأقره البنوري في "معارف السنن" "1/ 115"، وسبقه النووي في "المجموع" "2/ 55"؛ فقال عنه: "هذا حديث حسن" وانظر: "خلاصة البدر المنير" "1/ رقم 117"، و"تحفة المحتاج" "1/ رقم 39"، و"السلسلة الضعيفة" "3/ رقم 1028".
والعجب من "د"؛ فإنه اقتصر في الهامش على قوله: "جزء من حديث أخرجه في "التيسير" عن الستة؛ إلا الترمذي".(8/139)
قلت: يغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، 2/ 790/ رقم 1121 بعد 107" عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر؛ فهل عليَّ جناج؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".(8/140)
ص -100-…وقال الأعرابي: هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"1.
وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب: "لا حرج". قال الراوي: فما سُئِل يومئذ عن شيء قدم أو أخر؛ إلا قال: "افعل ولا حرج"2 مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب، لكن لا على الوجوب 3.
ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين4.
وحرم5 صيام يوم العيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الزكاة في الإسلام، 1/ 106/ رقم 46"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 40-41/ رقم 11" عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، 1/ 180/ رقم 83، وكتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة, 3/ 569/ رقم 1736", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج, باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الحلق، 2/ 948/ رقم 1306"، عن عبد الله بن عمرو, رضي الله عنهما.
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
5 قال في "الاعتصام" "1/ 509-510, ط ابن عفان": "إن ذلك النهي علله العلماء بخوف أن يعد ذلك من رمضان"، يعني: فيحسب واجبًا، وأصله تطوع مندوب، ومثله يقال في نهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام، وقد جعله هناك من باب ما يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزء منها، قال: "فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع"، وقوله: "وحرم صيام يوم العيد" لا يظهر وجه اندراجه هنا؛ لأنه منهي عنه نهي استقلال. "د".
قلت: ومضى تخريج النهي عن صيام يوم العيد "3/ 469".(8/141)
ص -101-… ونهى1 عن التبتل2 مع قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].
ونهى عن الوصال3، وقال: "خذوا من العمل ما تطيقون"4 مع أن الاستكثار من الحسنات خير، إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب، ولكن تركه وبينه خوفًا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد.
ومسلك آخر، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم5، قالت عائشة: "وما سبح النبي -صلى الله عليه وسلم- سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها"6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص، وفيه أنه رده على عثمان بن مظعون وهو في "الصحيحين" وغيرهما، ومضى تخريجه "2/ 228".
2 وهو الانقطاع الصرف عن شئون هذه الحياة كرهبانية النصارى، أما التبتل في الآية، فبمعنى الإخلاص في العبادة أو نحوه، والمقام مستوفى في كتاب "الاعتصام" "1/ 436, ط ابن عفان"، وهذا وما بعده لم يتبين فيه معنى الذريعة إلى اعتقاد الوجوب، ولذلك قال: "مع أن الاستكثار من الحسنات خير"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في رد التبتل لعثمان بن مظعون ومن معه: "فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني"، ويؤخذ منه أنه ليس بمشروع، فضلًا عن كونه مندوبًا يخشى من الاستدامة عليه اعتقاد الوجوب، كما هو أصل الموضوع، فقوله: "مما خلافه مطلوب" لا يظهر في التبتل ولا يظهر في الوصال أيضًا. "د".
3 كما في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وانظر ما مضى "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782" عن عائشة, رضي الله عنها.
5 مضى تخريجه "3/ 260".
6 مضى تخريجه "3/ 260"، وهو في "الصحيحين".(8/142)
وقد ثبت في "الصحيح" أن معاذة سألت عائشة: "كم كان يصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله". وجمع الحديث مع سابقه أن ذلك العلم من طريق غير الرؤية. "د".(8/143)
ص -102-…وقد قام ليالي من رمضان في المسجد؛ فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته، ثم كثروا فترك ذلك، وعلل بخشية الفرض1.
ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يفرض بالوحي، وعلى هذا جمهور الناس.
والثاني: في معناه، وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب، وهو تأويل متمكن2.
والثالث: أن الصحابة عملوا على3 هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة، وكانوا أئمة يقتدى بهم؛ فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة؛ فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته، وقال: "إني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين؛ فيقولون: هكذا فرضت"4، وأكثر المسلمين على أن القصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "3/ 260".
2 يريد أنه قوي وحال محله متمكن فيه، وبه يستغني عن الوجه الأول الذي أوردوا عليه ثم أجابوا عنه بما فيه ضعف، قال القاضي أبو الطيب: "يحتمل أن يكون أوحى إليه أنه إن داوم معهم على هذه الصلاة فرضت عليهم؛ فالمؤلف يرى قوة هذا الوجه، ويبني عليه استدلاله، ولا يريد أنه ممكن كما قال بعضهم؛ لأن مجرد الإمكان الضعيف لا يصحح له جعله من مسالك استدلاله". "د".
وكتب "ف" هنا: "لعله ممكن".
3 سقط من "ط".
4 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 518-519/ رقم 4277"، وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 425" نحوه عن الزهري، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 144" من =(8/144)
ص -103-… مطلوب1.
وقال حذيفة بن أسيد: "شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة"2، وقال بلال: "لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك"3.
وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحمًا بدرهمين يوم الأضحى، ويقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: "إن القصر سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، ولكنه حدث طغام -يعني: فتح الطاء والمعجمة- فخفت أن يستنوا"، وعن ابن جريج أن أعرابيًّا ناداه في منى: "يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين"، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، قاله ابن حجر في "الفتح" "2/ 571"، وزاد: "ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام".
وما ذكره المصنف عند أبي شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص182-183"، والطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص38-39, ط التونسية"، ومنه نقل المصنف كما صرح في "الاعتصام" "2/ 106"، وانظره: "2/ 31-32"، وانظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "ص24"، وما قدمناه في التعليق على "ص59".
قلت: في غير الأصل: "فنظر".
1 أي: سنة وليس واجبًا كما هو مذهب الحنفية، ولا هو رخصة بمعنى لا حرج في فعله، وبهذا يتم استدلاله على الموضوع. "د".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم 8139"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265"، و"الخلافيات" "3/ ق 279"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358"، والطبراني في "الكبير", كما في "المجمع" "4/ 18"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145", عن أبي سريحة الغفاري, واسمه حذيفة بن أسيد, به، وإسناده صحيح.
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 385/ رقم 8156"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358" من طريقين عن عمران بن مسلم الجعفي عن سويد بن غفلة عن بلال به، وإسناده صحيح.(8/145)
ص -104-…لعكرمة: "من سألك؛ فقل هذه أضحية ابن عباس، وكان غنيًّا"1.
وقال بعضهم2: "إني لأترك أضحيتى وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة"3.
وقال أبو أيوب الأنصاري: "كنا نضحي عن النساء وأهلينا؛ فلما تباهى الناس بذلك تركناها"4، ولا خلاف [في]5 أن الأضحية مطلوبة.
وقال ابن عمر في صلاة الضحى: "إنها بدعة"6، وحمل على أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 382-383/ رقم 8146"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265" و"الخلافيات" "3/ ق 279، 280"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358".
2 هو ابن مسعود, رضي الله عنه. "د".
قلت: بل القائل هو أبو مسعود الأنصاري.
3 أخرجه السرقسطي في كتابه من طريق سعيد بن منصور ثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل عن أبي مسعود الأنصاري، قاله الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 206-207".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 383/ رقم 8148، 8149"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295"، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، وعزاه لـ"سنن سعيد بن منصور".
4 ذكره أبو شامة في "الباعث" "ص182".
وقد نقل المصنف هذه الأثار عن الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص39"؛ كما صرح هو بذلك في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 602, ط ابن عفان". وانظر: "الاستذكار" "15/ 162-163".
5 سقطت من "ط".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي, صلى الله عليه وسلم 3/ 599/ رقم 1775" بسنده إلى مجاهد؛ قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم؛ فقال: بدعة".
وانظر: "فتح الباري" "3/ 52"؛ ففيه عنه -رضي الله عنه- آثار عديدة.(8/146)
ص -105-…وجهين: إما أنهم كانوا يصلونها جماعة، وإما أفذاذًا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض1، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"2؛ لما3 أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن.
والرابع: أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل؛ فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال4، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "الاعتصام" "1/ 447, ط ابن عفان" للمصنف.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، 2/ 347/ رقم 865، وباب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، 2/ 351/ رقم 873، وكتاب الجمعة، باب منه، 2/ 282/ رقم 899، 900، وكتاب النكاح، باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، 9/ 337/ رقم 5238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، 1/ 326-327/ رقم 442" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
3 فليس لما يخشى من اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب، ولا لبيان أن تركها ليس بقادح وإن كانت مطلوبة، بل لهذين المعنيين اللذين ذكرهما، وحينئذ؛ فما وجه إدراج هذا في المقام؟ "د".
قلت: وجه قول المصنف في "الاعتصام" "1/ 511, ط ابن عفان": "وبالجملة؛ فكل عمل أصله ثابت شرعًا؛ إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه مطلوب في الجملة أيضًا من باب سد الذرائع".
4 قال مالك في "الموطأ" "1/ 311" في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، وأراهم يعملون ذلك".(8/147)
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 604, ط ابن عفان" عقبه: "فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه، لكنه لم ير العمل عليه، وإن كان مستحبًّا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة =(8/148)
ص -106-…للعلة المتقدمة، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح1؛ لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان.
قال القرافي2: "وقد وقع3 ذلك للعجم". [وقال]4 الشافعي في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -رضي الله عنهم- في الأضحية، وعثمان في الإتمام في السفر".
وانظر لزامًا: "الاستذكار" "10/ 258-259" لابن عبد البر، و"الذخيرة" "2/ 530" للقرافي، و"رفع الإشكال" للعلائي "ص77 وما بعدها"، و"المفهم شرح صحيح مسلم" "4/ 1950-1951" لأبي العباس القرطبي.
أما مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فنقل المصنف عنه الكراهة، وهو المنقول عنه في كتب أصحابه.
قال ابن الهمام في "فتح القدير" "2/ 349": "صوم ستة من شوال، عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأسًا".
1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر".
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا.
وقد ضعف ابن دحية الكلبي في كتابه "العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور"، هذا الحديث، ورد عليه الحافظ العلائي في كتاب مفرد طبع حديثًا، وعنوانه: "رفع الإشكال عن صيام ستة أيام من شوال"، وانظر: "لطائف المعارف" "ص389, ط المحققة عن دار ابن كثير" لابن رجب.
2 قلت: وعبارة القرافي في "الفروق" "2/ 191، الفرق الخامس والمائة": "قال لي الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث, رحمه الله تعالى: إن الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى- قد وقع بالعجم؛ فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد"!! وانظر: "إيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك" "ص221-222" للونشريسي، و"ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين" "ص97-98"، وانظر: "الاعتصام" "2/ 604, ط ابن عفان".(8/149)
3 فلينظر هذا الشوكاني الذي شنع على الإمامين لقولهم بالكراهة خشية هذا المحظور. "د".
4 سقط من "ط".(8/150)
ص -107-…الأضحية بنحو من ذلك، حيث استدل1 على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم.
والمنقول عن مالك من هذا كثير، وسد الذريعة أصل عنده متبع، مطرد في العادات والعبادات؛ فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعًا، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعًا2 كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادًا.
فصل:
والتفرقة بينهما تحصل بأمور: منها بيان القول إن اكتفى به، وإلا؛ فالفعل [وهو أحرى] بل هو في هذا النمط مقصود، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه3، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه.
وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص، وأما المنصوصة؛ فلا كلام فيها، فالفعل أقوى إذًا في هذا المعنى؛ لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد اعتمد على فعل الصحابة فيه وتعليلهم؛ فهو قد سلم أن الترك للعلة التي هي خوف مظنة الوجوب؛ فهو من الباب نفسه وإن لم يصرح بكراهتها إذا وجدت العلة؛ فلذا قال المؤلف: "بنحو من ذلك". "د".
2 ينزل معناه على مقتضى قوله في صدر المسألة: "فإن سوى بينهما في القول أو الفعل؛ فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد"، وذلك بإخفائه عن العامة من المقتدى به مثلًا. "د".
3 ففي ترك القيام في رمضان بعد حصوله ليالي بيان باللواحق، وفي استخفائه بصلاة الضحى حتى لم تره السيدة عائشة بيان بالمقارن. "د".(8/151)
ص -108-…فصل:
وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان؛ فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم، ولم يفهم كون المندوب مندوبًا، هذا وجه1.
ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالًا بأمر كلي فيه ومن المندوبات ما هو واجب بالكل؛ فيؤدي تركه مطلقًا إلى الإخلال بالواجب، بل لا بد [فيه] من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به، وهذا مطلوب ممن يقتدى به، كما كان شأن السلف الصالح.
وفي الحديث الحسن عن أنس؛ قال قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يا بني! إن قدرت أن تصبح و[تمسي] ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني! وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي؛ فقد أحبني، ومن أحبني؛ كان معى في الجنة"2؛ فجعل العمل بالسنة إحياء لها؛ فليس بيانها مختصًّا بالقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 436 و22/ 407".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 46/ رقم 2678"، وإسناده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال: "وعلي بن زيد صدوق؛ إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره"، قال: "وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رفاعًا، ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله، وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب". قال: "وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه, ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع الطبعات، واستدركناه من "جامع الترمذي".(8/152)
ص -109-…وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة، وهو الأبطح: "أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به؛ فإن ذلك من1 حقهم لأن ذلك2 أمر قد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه والقيام به3 لئلا يترك هذا الفعل جملة، ويكون4 للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع، لا فضيلة للنزول به، بل لا يجوز النزول به على وجه القربة". هكذا نقل الباجي5.
و[هو] ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب6 لا بد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب، وذلك بفعله وإظهاره.
وقال بعضهم7 في حديث عمر "بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر"8: في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة، وأنه موضع للقدوة، يعني: فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل، وصار ذلك أصلًا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر الصلاة، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب.
وفي9 الحديث: "واعجبًا لك يابن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في النسخ كلها، وفي مطبوع "المنتقى" للباجي: "في".
2 عند الباجي: "لأن هذا أمر".
3 في مطبوع "المنتقى": ".... سنته والقيام بها".
4 أي: ينسى حتى يصير هكذا في اعتقاد الناس. "د". وفي "ط": "ويكون النزول".
5 في "المنتقى" "3/ 44".
6 سقطت "في" من "د" وسقط "هو" من جميع النسخ إلا من "ط"، وسقطت من "ط" كلمة "مذهب" وقال "ف": "صحته أن في المندوب"!!
7 هو الباجي، وكلامه الآتي في "المنتقى شرح الموطأ" "1/ 103".
8 مضى تخريجه "3/ 502".
9 لو قال: "ولذلك في الحديث: واعجبًا... إلخ"؛ لكان أجود سبكًا وأظهر في ضم أجزاء الحديث بعضها بعضًا. "د".(8/153)
ص -110-…الناس يجد ثيابًا! والله لو فعلتها لكانت سنة"1 الحديث.
ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده2؛ ففي "العتبية" قيل لعمر بن عبد العزيز: أخرت الصلاة شيئًا. فقال: "إن ثيابي غسلت"3.
قال ابن رشد: "يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعًا لله ليقتدى به في ذلك، ائتساء بعمر بن الخطاب؛ فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال"4.
ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن [صار]5 ترك الصلاة في الجماعة له إلفًا وعادة، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به، إن للحاكم أن يزجره، واستشهد على ذلك بقول النبي, صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبًا"6 الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من الأثر السابق، ومضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.
2 لأن عمر بن الخطاب جد عمر بن عبد العزيز لأمه. "د".
3 "العتبية" "1/ 456, مع "شرحه" ونحوه عند ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص43".
4 "البيان والتحصيل" "1/ 456-457"، وانظر فيه: "18/ 555" عن اتباع عمر بن عبد العزيز لجده, رضي الله عنهما.
5 سقط من "ط".
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644، وباب فضل العشاء في الجماعة، 2/ 141/ رقم 657"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 1/ 451/ رقم 651" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
وقال "د": "وسيأتي له أن ذلك كان خاصًّا بالمنافقين لبيان ابن مسعود الآتي في المسألة الثانية من الكتاب العزيز".
قلت: قوله ضعيف لثلاثة أوجه، ذكرها ابن القيم في "الصلاة وحكم تاركها" "ص115-117"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "23/ 228"، وانظر كتابنا: "القول المبين" "ص291-293".(8/154)
ص -111-…وقال: "أيضًا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم". قال: "لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه".
وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلفت في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها1، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة؛ لئلا ينشأ الصغير على تركها، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.
وهذا الباب يتسع، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه، ثم قال: "هذه غرتني منك -لسجدته التي بين عينيه-، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي؛ لأمرت بموضع السجود فقور"2.
وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلًا يطرد، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل؛ كقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا3 وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الحاوي الكبير" "2/ 383".
2 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص114"، وابن رشد في "البيان والتحصيل" "1/ 486".
3 كان اليهود يذكرون الكلمة سبًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يريدون بها, لعنهم الله: اسمع لا سمعت؛ فنهوا عنها.(8/155)
كما روي أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- سمعها منهم فقال: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده؛ لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأضربن عنقه. قالوا: أَوَلستم تقولونها؟ فنزلت الآية نهيًا للمؤمنين عن قولها؛ سدًّا للباب، وقطعًا للألسنة، وبعدًا عن المشابهة. ا. هـ. "ف".(8/156)
ص -112-…وقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وقد منع1 مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به2، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثًا ولم يفعل؛ فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس3.
وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم4 إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب؛ فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد، وقال: "لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة"5.
ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على "الموطأ" فنهاه مالك عن ذلك من هذا6 القبيل أيضًا7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط"، وفي غيرها: "رأى مالك... أن لا يفطر".
2 قال مالك في "الموطأ" "1/ 287": "ومن رأى هلال شوال وحده؛ فإنه لا يفطر لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونًا، ويقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال".
3 انظر: "الذخيرة" "10/ 262-263, ط دار الغرب" للقرافي.
4 في "ط" زيادة: "كانوا".
5 ذكره في "الاعتصام" "2/ 108"، وقال عقبه: "وهذا في مباح؛ فكيف به في المكروه أو الممنوع؟"، وصرح أنه نقل هذه الحكاية عن الماوردي، وكذا سيفعل هنا في "ص120".
6 لأنه إذا تطاول الزمان على الاقتصار عليه في العمل يظن الناس أنه لا يصح العمل بغيره من الأحاديث والسنن. "د".(8/157)
7 نحوه في "جامع بيان العلم" "رقم 870" لابن عبد البر، و"ذيل المذيل" "107" لابن جرير، و"السير" "8/ 70"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 209" للذهبي، و"التزيين" "41" للسيوطي، و"كشف المغطى في فضل الموطا" "53-55" لابن عساكر، و"ترتيب المدارك" "1/ 192، 193، 2/ 72" للقاضي عياض، و"إعلام الموقعين" "2/ 296-297"، و"انتصار الفقير السالك" "ص191-192، 207-208"، و"مفتاح السعادة" "2/ 87"، و"الديباج المذهب" "1/ 119"، و"إتحاف السالك" "رقم 224" لابن ناصر الدين، وفي ثبوت هذه القصة نظر؛ كما في كتابنا: "قصص لا تثبت"، يسر الله إتمامه بخير.(8/158)
ص -113-…ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور؛ فقال له: "انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه"1.
ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكًا في ذلك؛ فقال له مالك: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره؛ إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس"2. فصرفه عن رأيه فيه؛ لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره؛ فلا يثبت على حال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه خليفة في "تاريخه" "1/ 183"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1223-1224"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 1/ 45"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص359, ترجمة عثمان"، والخبر في "التمهيد والبيان" "ق 114".
2 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 213, ط بيروت"، وفيه المهدي وليس المنصور.(8/159)
ص -114-…المسألة السابعة:
المباحات من حقيقة استقرارها1 مباحات أن لا يسوى2 بينها وبين المندوبات ولا المكروهات3؛ فإنها إن سوى بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير4 ذلك؛ توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود5، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به6.
وقد حكى عياض7 عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة؛ فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام، فقال: "ابدءوا بأبي عبد الله. فقال مالك: إن أبا عبد الله -يعني نفسه- لا يغسل يده. فقال: لم؟ قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، إنما هو من رأى الأعاجم، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد الله؟ قال: إي والله, فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك: ولا نأمر الرجل أن لا يغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "من حيث استقرارها"، وقال: "لعله هنا وفي المسألة الثامنة الآتية من حقيقة استقرارها كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه".
2 أي: في الفعل والقول، بل يفرق بهما أو بأحدهما؛ كما سيأتي أنه وإن داوم على ترك أكل الضب والفوم؛ إلا أنه بين حكمهما ببيان سبب امتناعه عن تعاطيهما. "د".
3 واقتصر عليهما؛ لأن لا يرتقي الوهم في المباحات إلى توهمهما واجبات أو محرمات، بخلاف المكروهات كما يأتي بعد. "د".
4 عطف على قوله "بالدوام"؛ فترك عمر المباح من استبدال ثوب آخر بثوبه في هذا المقام، وهو يظن الاستنان ترك لما فيه تسوية للمباح بالمسنون. "د".
5 انظر: "ص112".
6 انظر: "3/ 502، 4/ 109".
7 في "ترتيب المدارك" "1/ 210, ط مكتبة دار الحياة, بيروت".(8/160)
ص -115-…يده، ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه؛ فلا، أميتوا سنة العجم، وأحيوا سنة العرب، أما سمعت قول عمر: تمعددوا، واخشوشنوا، وامشوا حفاة، وإياكم وزي العجم"1.
وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات؛ ربما توهمت مكروهات فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول: "لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه"2، وأكل على مائدته؛ فظهر حكمه.
وقدم إليه طعام فيه ثوم لم3 يأكل منه، قال له أبو أيوب, وهو الذي بعث به إليه: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: "لا ولكنى أكرهه من أجل ريحه"4 وفي رواية [أخرى]5, أنه قال لأصحابه: "كلوا؛ فإني لست كأحدكم، إني أخاف أن أؤذي صاحبي"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" "رقم 1030، 1031"، وأبو عوانة في "مسنده" "5/ 456، 459، 460" بإسناد صحيح.
قال "ف": "التمعدد: الصبر على عيش معد بن عدنان، وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش، يقول: فكونوا مثلهم، ودعوا التنعم وزي العجم".
وانظر في شرحه والتعليق عليه: كلام ابن القيم في "الفروسية" "ص120، 121, بتحقيقي"، وترى تخريجه أوعب مما هنا.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
3 في "ط": "ولم.... فقال له...".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه وكذا ما في معناه، 3/ 1623/ رقم 2053" عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعًا.
5 زيادة من "م".(8/161)
6 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في الرخصة في الثوم مطبوخًا، 4/ 262/ رقم 1810"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب أكل الثوم والبصل والكراث، 2/ 1116/ رقم 3364"، والحميدي في "المسند" "1/ 162/ رقم 339"، والدارمي في "السنن" "2/ 102" عن أم أيوب -رضي الله عنها- مرفوعًا بألفاظ، واللفظ المذكور لفظ الترمذي؛ إلى أن أوله: "كلوه"، وهو حسن، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، خرجتها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان"، وهو مطبوع ولله الحمد.(8/162)
ص -116-…وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل؛ فنزلت1: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا2 بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الآية [النساء: 128]؛ فكان هذا تأديبًا وبيانًا بالقول والفعل لأمر3 ربما استقبح بمجرى العادة؛ حتى يصير كالمكروه، وليس بمكروه.
والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء، 5/ 249/ رقم 3040" عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به بهذا اللفظ، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
قلت: إسناده ضعيف؛ لأن رواية سماك عن عكرمة خاصة مضطربة؛ كما في "التهذيب" "4/ 204-205".
وله شاهد في "صحيح البخاري" "كتاب التفسير، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا...}، 8/ 265/ رقم 4601، وكتاب النكاح، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا...}، 9/ 304/ رقم 5206، وباب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، 9/ 312/ 5212", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع, باب جواز هبتها نوبتها لضرتها, 2/ 1085/ رقم 1463" عن عائشة -رضي الله عنها- بدون ذكر نزول الآية.
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو: "يصَّالحا" بفتح الياء والتشديد، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يُصْلِحَا} بضم الياء والتخفيف، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "238".
3 هو النزول عن حق المرأة في القسم لزوجة أخرى؛ فبين بهذا جوازه ولو لم يحصل هذا البيان لفهم من ترك هذا المباح جريًا على العادة كراهته شرعًا. "د".(8/163)
ص -117-…المسألة الثامنة:
المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات.
أما الأول:
فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات، وربما طال العهد فيصير الترك واجبًا1 عند من لا يعلم.
ولا يقال: إن في بيان ذلك ارتكابًا للمكروه وهو منهي عنه؛ لأنا نقول: البيان آكد، وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة؛ ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم2 على الزاني، وما جاء في الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام- له: "أنكتها"3 هكذا من غير كناية، مع أن ذكر [هذا] اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع؟ غير أن التصريح هنا آكد، فاغتفر لما يترتب عليه؛ فكذلك هنا، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التقاء الختانين4، وقوله, عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"5، مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم أنه إذا أدى الفعل أو الترك إلى اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب وجب البيان بالقول أو الفعل. "د".
2 لو قال: "تقرير الزاني"؛ لكان أخصر وأوضح. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، 12/ 35/ رقم 6824" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص83".
5 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص74"، وأوهم صنيع المصنف في "ص94" أن الحديث في الإصباح جنبًا في الصوم، وأوهم كلامه هنا أن الحديث لعائشة وأنه في التقاء الختانين، مع أنه صرح هناك أنه لأم سلمة، وهو كما في مصادر تخريجه في ذكر جواز التقبيل للصائم.(8/164)
ص -118-…وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله:
......... ..........................…إن تصدق الطير ننك لميسا1
مثل هذا لا حرج2 فيه.
وأما الثاني:
فلأنها إذا عمل بها دائمًا وترك اتقاؤها توهمت مباحات؛ فينقلب حكمها عند من لا يعلم، وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق3 به في الإنكار، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننًا، وذلك المكروهات4 المفعولة في المساجد، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية، والمحاضر الجمهورية، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من هذه المكروهات، بل ومن المباحات5؛ كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر6، وما أشبه ذلك.
فصل:
ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه مع شرحه في التعليق على "ص94".
2 بل هو مطلوب متى كان للبيان والفرق بين المكروهات والمحرمات كما هو أصل المسألة. "د".
قلت: معنى ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ما فيه الإثم في قوله السابق، بل المصلحة الراجحة ألغت التحريم؛ فعاد الفعل مباحًا، بل واجبًا في تلك الحالة الخاصة.
3 فالزجر عن المكروه لا يبلغ به مبلغ الزجر عن الحرام. "د".
4 في الجزء الثاني من "الاعتصام" شيء كثير من أمثلتها. "د".
5 أي: التي يتوهم أنها قربة. "د".
6 ستأتي القصة بتمامها.(8/165)
ص -119-…الجاهل منها الوجوب، إذا كان منظورًا إليه مرموقًا، أو مظنة لذلك، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة؛ لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته، بحيث لا يتخلف عنه، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب؛ فحمله على الوجوب، ثم استمر على ذلك؛ فضل.
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه؛ فيثابر فيه على وجه واحد تحريًا له ويترك ما سواه، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع.
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس، قرأها في كرة أخرى، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود؛ فلم يسجدها، وقال: "إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء"1.
وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء؛ فقال: "أيحب أن يذبح؟"2 إنكارًا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود، 2/ 557/ رقم 1077".
2 المشهور عن مالك أنه كان يقول هذه المقولة في الجهر بالتسمية في الصلاة، وليس في الوضوء؛ إذ هي مستحبة عنده فيه، ثم رأيت القرافي في "الذخيرة" "1/ 284" يقول عن التسمية في الوضوء: "استحسنها مالك -رحمه الله- مرة، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحدًا يفعل"، وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 44".(8/166)
ص -120-…ونقل عن عمر؛ أنه قال: "لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا"1 يعني: في الوضوء، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله2.
ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم3 تحريك الرجلين في القيام للصلاة4. "استدراك*".
ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود5، وحديث عمر مع عمرو: "لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر"6.
ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال: "لا، الوضوء مرتان مرتان، أو ثلاث ثلاث"، مع أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشهور في هذه العبارة أنها لعلي لا لعمر -رضي الله عنهما- كما قال المصنف، وأخرجها عنه أحمد في العلل ومعرفة الرجال "1/ 205, رواية عبد الله"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 324, بتحقيقي"، والدارقطني في "السنن" "1/ 88-89"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 42" بإسناد منقطع، لم يسمع عبد الله بن عمرو بن هند من علي، مع ضعف في عبد الله بن عمرو بن هند، قال الدارقطني: "ليس بالقوي". "استدراك*".
2 ودليله ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، 2/ 523/ رقم 426"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، 1/ 226/ رقم 268" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 196"، و"الاعتصام" "2/ 542, ط ابن عفان".
4 قال ابن رشد: "كره مالك أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، وهو من محدثات الأمور". "د".
5 وقد تقدمت "ص112".
6 مضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.(8/167)
ص -121-…لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ.
قال اللخمي: "وهذا احتياط وحماية؛ لأن العامي إذا رأى من يقتدى به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به"1.
والأمثلة كثيرة، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به؛ فلا بأس، كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال: إن من فعل ذلك في نفسه معتقدًا وجه الصحة؛ فلا بأس، وكذا قال مالك في المرة الواحدة: "لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء"، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به؛ فلا بأس، وهو جار على المذهب؛ لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت2.
فأما إن أحب الالتزام، [وأن]3 لا يزول عنه ولا يفارقه؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس، لأنه إن كان كذلك؛ فربما عده العامي واجبًا أو مطلوبًا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك، ولا يكون كذلك شرعًا؛ فلا بد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات، ولا بد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات، وذلك على الشرط4 المذكور في أول كتاب الأدلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الذخيرة" "1/ 286-287, ط دار الغرب" للقرافي.
2 على التحديد بالعدد، وأن المقصود الإسباغ. "د".
3 سقط من "ط".(8/168)
4 وهو المحافظة على قصد الشارع، وأنه لا بد من اعتبار الكلي والجزئي معًا في كل مسألة؛ فلا تهمل القواعد الكلية، كما لا تهمل الأدلة الجزئية إذا حصل تعارض، لا يحري الأعمال بالطريق المرسومة لذلك، وعلى هذا؛ ففي مسألتنا وجدت أدلة جزئية تدل على أن بعض المطلوبات غير الواجبة أظهرها -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليها، وذلك كالإقامة لصلاة الفرض ورفع اليدين عند تكبيرة الإحرام والبدء بالسلام على اليمين وهكذا؛ فهذه وأمثالها لا بد من استثنائها من هذه القاعدة حتى لا تهمل هذه الأدلة الجزئية المتفق عليها، ولا يضر هذا في تأصيل المسألة كما تقدم له في كتاب الأدلة. "د".(8/169)
ص -122-…ولا يقال: إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملًا أثبته1؛ لأنا نقول: كما يطلق الدوام على ما لا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال، فإذا ترك في بعض الأوقات؛ لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات: إنهم غير مداومين عليها؛ فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسًا، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقًا حقيقيًّا في اللغة.
ولما كانت الصوفية2 قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص؛ إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم3 أسرارهم وعدم إظهارها، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفًا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبًا، أو ما هو4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 526 و2/ 405"، وهو صحيح.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإنما كانت"، وفي "م": "التزمت السلوك".
3 وبذلك كانوا جارين على مقتضى القواعد المتقدمة؛ فلم يخالفوا الشريعة بعملهم. "د".
4 في "ط": "وما هو".(8/170)
ص -123-…جائز غير جائز أو مطلوبًا، أو تعريضهم لسوء القال1 فيهم؛ فلا عتب عليهم في ذلك، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم؛ لأنهم إلى هذا الأصل2 يستندون، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل؛ إما لحال غالبة، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح3، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه، وهذا كله محظور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي النسخ المطبوعة: "السؤال القال"!! وكتب "د" ما نصه: "صوابه: "لسوء القال فيهم"، وهو مصدر قال، يغلب ذكره في الشر".
2 وهو أن الالتزام للأعمال الندبية إنما يمنع حيث أمكن الاقتداء فيما يفعل بحضرة الناس. "د".
3 وهذا حالهم وديدنهم، ولذا شكا منهم كبار علماء الملة، وللطرطوشي فتوى مهمة فيهم، انظرها في "تفسير القرطبي" "11/ 237-238".(8/171)
ص -124-…المسألة التاسعة1:
الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام؛ فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام؛ فلا تفعل ولا يسامح في فعلها، وهذا ظاهر، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي2، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضًا حكم في الدنيا، ولا كلام في مترتبات الآخرة؛ لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد.
كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما3 حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها.
فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم؛ فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر؛ لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها؛ فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا، لا فرق بين ذلك، والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا.
ويتبين هذا الموضع أيضًا بأن يقال: إذا وضع الشارع حدًّا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف؛ كان الحكم الشرعي [فيه] مقررًا مبينًا، فإذا لم يقم؛ فقد أقر على غير ما أقره الشارع، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم، ووقع بيانه مخالفًا؛ فيصير المنتصب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 686-687".
2 في "ط": "ديني".
3 في "ط": "عليه".(8/172)
ص -125-…لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله؛ فيجري1 فيه ما تقدم، فإذا رأى الجاهل ما جرى؛ توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر؛ حصلت الريبة، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه، وكل ذلك فساد، وبهذا المثال2 يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها؛ في أنفسها، وفي لواحقها، وسوابقها، وقرائنها، وسائر ما يتعلق بها شرعًا؛ حتى يكون دين الله بينًا عند الخاص والعام، وإلا؛ كان من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فجرى".
2 في الأصل: "المثل".(8/173)
ص -126-…المسألة العاشرة:
لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية، بل هو لازم أيضًا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع؛ فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية، لازم بيانها قولًا وعملًا، فإذا1 قررت الأسباب قولًا، وعمل على وفقها إذا انتهضت؛ حصل بيانها للناس، فإن2 قررت، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل، أو مع فقدانها فلم يعمل؛ وافق القول الفعل، فإن عكست القضية وقع الخلاف؛ فلم ينتهض القول بيانًا، وهكذا الموانع وغيرها.
وقد أعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة3 والإفطار في السفر4، وأعمل الأسباب، ورتب الأحكام حتى في نفسه، حين أقص من نفسه -صلى الله عليه وسلم-5, وكذلك في غيره، والشواهد [على هذا] لا تحصى، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة، والتنبيه كافٍ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن"، وكتب "ق": "لعله: "وإن"".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإن".
3 في عمرة الحديبية أحل هو والصحابة، وأما في عمرة حجته؛ فالصحيح أنه كان قارنًا وساق الهدي، فلم يحل هو لذلك، ولكنه أمر من لم يسق الهدي بالإحلال من العمرة، سواء أكان مهلًّا بالعمرة فقط أم كان مهلًّا في أول أمره بالحج ثم فسخه في عمرة؛ كما فعله أكثر الصحابة. "د".
قلت: وإحلاله في عمرة الحديبية مضى لفظه، وتخريجه في التعليق على "ص87".
4 مضى تخريجه "ص87-88".
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الديات، باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، 4/ 183/ رقم 4537"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب القصاص من السلاطين، 8/ 34"، وأحمد في "المسند" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 480"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 174-175/ رقم 196"، والبيهقي في =(8/174)
ص -127-…المسألة الحادية عشرة:
بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان صحيح لا إشكال في صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44], ولا خلاف فيه1.
وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه؛ فلا إشكال في صحته أيضًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "السنن الكبرى" "9/ 29، 42" و"الشعب" "5/ 555/ رقم 2379"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 170، 172-173"، والآجري في "أخلاق أهل القرآن" "رقم 26"، ومسدد كما في "المطالب العالية" "ق 75/ ب"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 439" عن أبي فراس, وهو مقبول, أن عمر -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 468/ رقم 18040"، والبزار في "مسنده" "رقم 285"، والدارقطني في "الأفراد" "ق20/ 1, الأطراف" من وجه آخر عنه، وفيه ضعف.
وقد وردت قصص كثيرة تشهد لهذا الحديث، منها:
عند الطبراني: عن عبد الله بن جبير الخزاعي، واختلف في صحبته، والراجح أنه ليس له صحبة، ولذا قال عنه في "التقريب": "مجهول".
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 465-466/ رقم 18037": عن أبي سعيد الخدري، وإسناده واهٍ جدًّا، فيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جوين، وهو متهم.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 469/ رقم 18042" من مرسل سعيد بن المسيب.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 466، 467/ رقم 18038، 18039"، من مرسل الحسن البصري.
وكذا عند ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 278"، وعبد الرزاق كما في "الإصابة" "3/ 218" عن سواد بن غزية، وإسنادهما ضعيف.
ومجموع هذه الطرق صالح لصحة معنى ما قال المصنف، والله أعلم.
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 236".(8/175)
ص -128-…كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وإن لم يجمعوا1 عليه؛ فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:
أحدهما: معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة.
والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية2 وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه صواب، وهذا3 إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن اختلفوا، أو بين بعضهم ولم ينقل بيان عن غيره يخالفه، وقد فصل فجعل الأول محل اجتهاد، بمعنى أنه لا يترجح الوقوف عند بيانهم لهذا الاختلاف، وجعل الثاني محل الاعتماد والترجح على بيان غيرهم. "د".
قلت: انظر في ذلك "المسودة" "ص315-317، 321"، و"البرهان" "2/ 1359"، و"شرح اللمع" "2/ 749"، و"أصول السرخسي" "2/ 105"، و"التمهيد" "3/ 217"، و"الإحكام" "4/ 149" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 132"، و"شرح تنقيح الفصول" "445"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 14، 573-576".
2 أي: التي تجيء من جهة الحوادث والنوازل المقتضية لنزول الآية والحديث، أما القرائن المقالية؛ فيشترك فيهما معهم غيرهم من أهل الفهم في ذلك، وإن كان مقتضى الوجه الأول أن بيانهم أرجح من جهة اللغة أيضًا. "د".
3 في "ط": "هذا" بغير واو.(8/176)
ص -129-…مثاله قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"1؛ فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة، ويحتمل أن لا؛ فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا، ثم يفطران بعد الصلاة2 بيانًا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة، بل إذا كان بعد الصلاة؛ فهو تعجيل أيضًا، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق3 شيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعًا.
2 أخرجه مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى و128, رواية محمد بن الحسن ورقم 774, رواية أبي مصعب"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 238"، وقد صحح نحوه ابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23-24".
3 يشير المصنف "وهو من أهل القرن الثامن الهجري" إلى تأخير أهل المشرق الفطر في زمانه وأوانه إلى بعد الغروب, وقد شكا الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ" من هذا الصنيع؛ فقال في "فتح الباري" "4/ 199" في آخر شرحه "باب تعجيل الإفطار" من "صحيح البخاري"، قال ما نصه: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان... وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت، زعموا! فأخروا الفطر، وعجلوا السحور، وخالفوا السنة؛ فلذلك قل عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان".(8/177)
وكتب "د" هنا ما نصه: "من هم أهل المشرق الذين كان عمر وعثمان يقصدان مخالفتهم، وبيان أنهم متعمقون؟"، وهذا ينبئ عن عدم فهم عبارة المصنف، وقد أخرج مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى ورقم 773, رواية أبي مصعب", ومن طريقه الفريابي في "الصيام" "رقم 57"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 491/ رقم 3631"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 12" عن سعيد بن المسيب رفعه: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ولم يؤخروه تأخير أهل المشرق".
وأخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 46-48"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225/ رقم 7589" عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن عمر قوله: "لن يزالوا -أي: أهل الشام- ما عجلوا الفطر، ولم يتنطعوا تنطع أهل العراق، وفيه قصة، وإسناده قوي، ويظهر لي أن مرسل سعيد السابق عند مالك في آخره إدراج، وهو "ولم يؤخروه..."، وأهل العراق هم المرادون به، وذكر ابن عبد البر مرسل سعيد وحذف آخره، وتكلم عمن وصل أوله فحسب على غير عادته، ولم يفطن للإدراج الذي فيه، راجع "التمهيد" "20/ 22"، و"الاستذكار" "10/ 40".(8/178)
ص -130-…آخر داخل في التعمق المنهي عنه1، وكذلك2 ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار3؛ فندب المسلمون إلى التعجيل.
وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه"4 احتمل أن تكون الرؤية مقيدة5 بالأكثر، وهو أن يرى بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضت بعض النصوص "1/ 522 و2/ 228". وفي "ط": "وداخل...".
2 يعني: وبيانًا لأن ندب التعجيل لمخالفة اليهود المتعمقين في التأخير لا يستدعي أن يكون الإفطار قبل الصلاة؛ فينتظم هذا في سلك ما قبله. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر، 2/ 305/ رقم 2353"، والنسائي في "الكبرى", كما في "التحفة" "11/ 5/ رقم 15024"، وأحمد في "المسند" "2/ 450"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 11"، والفريابي في "الصيام" "رقم 36، 37"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2060"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 273-274/ رقم 3503، 3509, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 431"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 237" و"الشعب" "7/ 492/ رقم 3633"، وابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23" بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر, إن اليهود والنصارى يؤخرون".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1906"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.(8/179)
5 أي: فيكون فطر اليوم التالي للرؤية إذا وقعت بعد الغروب، أما إذا رئي على غير الأكثر وهو الرؤية قبل الغروب؛ فإن الفطر لليوم نفسه لا للتالي؛ فبين عثمان أن هذا التقييد غير لازم، وأن الفطر لليوم التالي للرؤية مطلقًا قبل الغروب وبعده، فلم يفطر حتى أمسى، والمسألة خلافية؛ فأبو يوسف يقول: إن الرؤية نهارًا قبل الزوال للماضي، وبعده للمستقبل، وأبو حنيفة ومالك والشافعي كعثمان يرون أنها لا يعتد بها للماضي مطلقًا قبل الزوال وبعده. "د".(8/180)
ص -131-…غروب الشمس؛ فبين عثمان [بن عفان] أن ذلك غير لازم، فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس1.
وتأمل؛ فعادة مالك بن أنس في "موطئه" وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينًا بها السنن، وما يعمل به منها وما لا يعمل به، وما يقيد به مطلقاتها، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره.
ومما بين كلامهم اللغة أيضًا، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس2، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب3، أعني قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وفي معنى الإخوة أن السنة مضت4 أن الإخوة اثنان فصاعدًا5، كما تبين بكلامهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 480, ط دار الفكر"؛ قال: "حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة أن الناس رأوا هلال الفطر حين زاغت الشمس؛ فأفطر بعضهم، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: أما أنا؛ فمتم صيامي إلى الليل". وقال مالك في "الموطأ" "1/ 287, رواية يحيى": "بلغني أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان بعشي، فلم يفطر عثمان حتى أمسى، وغابت الشمس". وانظر: "الاستذكار" "10/ 19".
2 انظر: "الموطأ" 33, رواية يحيى و1/ 10، 11, رواية أبي مصعب".
3 انظر: "الموطأ" "87, رواية يحيى و1/ 174-175, رواية أبي مصعب"، و"معجم ابن الأعرابي" "رقم 1134"، و"البرهان في علوم القرآن" "1/ 222".
قال "ماء": "أي: امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، والمراد بذكر الله هنا الخطبة، والصلاة وذروا البيع؛ أي: اتركوا المعاملة، على أن البيع مجاز عن ذلك؛ فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات".
4 في "الموطأ" والأصل و"ط": "مضت"، وفي جميع النسخ المطبوعة: "قضت".
5 انظر: "الموطأ" "313, رواية يحيى و2/ 524, رواية أبي مصعب".(8/181)
ص -132-…معاني الكتاب والسنة.
لا يقال: [إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف1؛ لأنا نقول:]2 نعم، هو تقليد، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه؛ إلا لهم لما3 تقدم من أنهم عرب، وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة، [وبين]2 من تعرب.
.................................…غلب التطبع شيمة المطبوع4
وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمعتذر؛ فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه؛ انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر، ولما جاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تقليده، وكذا في حجية مذهبه؛ فقد أجمعوا على أنه ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين مقدمًا على القياس، والمختار أنه ليس بحجة، راجع: "الأحكام" "4/ 201" للآمدي، والمؤلف اختار طريقًا وسطًا يؤيد فيه القول بالحجية في نوع منه، وهو ما احتاج إلى القرائن الحالية التي هم أعرف بها من غيرهم، وكذا ما يحتاج إلى القوة في معرفة لغة العرب، وإذا قرأت مسألتي مذهب الصحابي في "الأحكام" حكمت بأنهما مأخذ المؤلف وأصله الذي استنبط منه مسألته لهذه، وكما أن الخلاف حاصل في حجية مذهب الصحابي على من بعده، كذلك الخلاف في تقليده حاصل، والمختار المنع أيضًا إلا للعامي إذا عرف حقيقة مذهب الصحابي؛ فيجوز له تقليده. "د".
2 في "د": "كما".
3 سقط من "ط".
4 عزاه الشريشي في "شرح المقامات" "2/ 507" للشريف الرضي، وهو في "شعره" "ص78" جمع ضحى عبد العزيز، وهو ضمن قصيدة طويلة في الغزل، وأوله:(8/182)
هيهات لا تتكلفن في الهوى…...............................(8/183)
ص -133-…السنة من اتباعهم والجريان على سننهم، كما جاء في قوله, عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1، وغير ذلك من الأحاديث؛ فإنها عاضدة لهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 126، 127"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200-201/ رقم 6407"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44/ رقم 2676"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15-16 و16، 17/ رقم 42-44"، وابن جرير في "جامع البيان" "10/ 212"، والدارمي في "السنن" "1/ 44"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 205/ رقم 102"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 17، 18، 19، 20، 29، 30"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص21، 22"، والحارث بن أبي أسامة في "المسند" "ق 19, مع بغية الباحث"، والآجري في "الشريعة" "ص46، 47"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 104/ رقم 45, مع الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير "18/ 245، 246، 247، 248، 249، 257"، والمعجم الأوسط" "رقم 66"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 222، 224"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95، 96، 97"، و"المدخل إلى الصحيح" "1/ 1"، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" "2/ 423"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 176-177"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 10-11"، و"الاعتقاد" "ص113"، و"دلائل النبوة" "6/ 541-542"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "ص115-116/ رقم 50 و51"، و"السنن الكبرى" "10/ 114"، وابن وضاح في "البدع" "ص23، 24"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "5/ 220، 221 و10/ 114، 115"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 69"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 74، 75"، والهروي في "ذم الكلام" "69/ 1-2"، وابن عساكر في(8/184)
"تاريخ دمش" "11/ 265/ 1-266/ 1"، وأحمد بن منيع في "المسند"؛ كما في "المطالب العالية" "3/ 89" من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية, رضي الله عنه.
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الهروي: "وهذا من أجود حديث في أهل الشام"، وقال البزار: "حديث ثابت صحيح"، وقال البغوي: "حديث حسن"، وقال ابن عبد البر: "حديث ثابت"، وقال الحاكم: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم: "هو حديث جيد من صحيح الشاميين"، وصححه الضياء المقدسي في "جزء في اتباع السنن واجتناب البدع" "رقم 2"، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" "رقم 36": صححه الحاكم وقال: ولا أعلم له علة، وصححه أيضًا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه".
وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 107/ رقم 2455"، و"جامع العلوم والحكم" "ص187"، و"المعتبر" للزركشي "187/ 1" مخطوط.(8/185)
ص -134-…المعنى في الجملة1.
أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين؛ فهم ومن سواهم فيه شرع سواء؛ كمسألة العول، والوضوء من النوم، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب: "مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا آية الربا؛ فدعوا الربا والريبة"2، أو كما قال؛ فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين، وفيه خلاف3 بين العلماء أيضًا؛ فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر؛ كالأحاديث والاجتهادات النبوية، وهو مذكور في كتب الأصول؛ فلا يحتاج إلى ذكره ههنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما قال: "في الجملة"؛ لأنه لا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدي فيه، فيمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عنه -صلى الله عليه وسلم- وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه كما قال الآمدي. "د".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 36"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، 2/ 764/ رقم 2276"، وابن حزم في "المحلى" "8/ 477"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 365" لابن جرير وابن المنذر، وهو من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وله طرق أخرى به يصح، انظر: "مسند الفاروق" "2/ 571"، لابن كثير، و"صحيح سنن ابن ماجه" "2/ 28".
3 قد علمته، وقوله: "كالأحاديث"؛ أي: فيقدم مذهبه على القياس، وممن ذهب إليه مالك والشافعي وابن حنبل في قول لهما وهو رأي الرازي وبعض أصحاب أبي حنيفة. "د".(8/186)
ص -135-…المسألة الثانية عشرة:
الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف، وإما غير1 واقع في الشريعة.
وبيان ذلك من أوجه:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية2 [المائدة: 3].
وقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ3 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2]، {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} [لقمان: 3]، وإنما كان هدى لأنه مبين، والمجمل لا يقع به بيان، وكل ما في هذا المعنى من الآيات.
وفي الحديث: "تركتكم على البيضاء, ليلها كنهارها"4.
وفيه: "تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا قلنا: إن الراسخين يعلمون المتشابه، أما إن قلنا: إنهم لا يعلمونه؛ فليس التكليف واقعًا إلا بالإيمان به على أنه من عند الله، وأنه على ما أراده منه حق. "د".
2 لا حاجة إلى بقية الآية فيما هو بصدده. "د".
3 أي: فإذا بقي شيء مجمل بدون بيان لم يكن أدى وظيفته، وحاشاه, صلى الله عليه وسلم. "د".
4 هو الجزء الأول من حديث العرباض المتقدم قريبًا "ص133"، وفيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء..."، وهو صحيح.(8/187)
ص -136-…وسنتي"1.
ويصحح هذا المعنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ويدل على أنهما بيان لكل مشكل، وملجأ من كل معضل.
وفي الحديث: "ما تركت2 شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئًا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه"3.
وهذا المعنى كثير، فإن كان في القرآن شيء مجمل؛ فقد بينته السنة؛ كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال، وللحج إذ قال:
"خذوا عني مناسككم"4، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد من حديث مجموعة من الصحابة، وهي بمفرداتها لا تخلو من ضعف، ولكنها تجبر بتعدد طرقها، انظر تفصيل ذلك في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1761".
2 وهل هذا يقتضي أن كل ما أمر به أو نهى عنه لا إجمال فيه؟ ومثله يقال في الآية الأولى؛ إلا أن إتمام النعمة فيها يرشح استقامة الاستدلال بها؛ لأنه إذا بقي إجمال وعدم فهم لبعض الشريعة لا تكون النعمة فيها تامة، وأيضًا؛ فإن كمال الدين لا يقال إذا بقي منه شيء غير مفهوم المراد، أما الحديث؛ فالسؤال فيه لا يزال متوجهًا. "د".
3 أخرجه الشافعي في "المسند" "7, بدائع المنن"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "3/ رقم 100" ,كما في "الصحيحة" "رقم 1803"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 92-93" عن المطلب بن حنطب به مرفوعًا، وهو مرسل حسن، وله شاهد عن أبي ذر، أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 153، 162"، والطبراني في "الكبير" "1647"، والبزار في "المسند" "رقم 147, زوائده"، وإسناد أحمد صحيح.
4 مضى تخريجه "3/ 246".(8/188)
ص -137-…ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما1 لم ينص عليه في القرآن، والجميع بيان منه عليه, الصلاة والسلام.
فإذا ثبت هذا، فإن وجد في الشريعة مجمل2، أو مبهم المعنى، أو ما لا يفهم؛ فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال، وطلب ما لا ينال، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} [آل عمران: 7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كزكاة الفطر، وأكثر المناهي في البيع كالنجش والغرر وتحريم لحوم الحمر الأهلية كما قال, صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". "د".
قلت: وسيأتي تخريجه في "ص190-191، 322-323"، وهو صحيح.
2 "مجمل" كالمشترك "أو مبهم" خفي المعنى، كالأب نوع من النبات خفي معناه على عمر كما سبق، "أو ما لا يفهم"؛ أي: لا يعقل معناه المتبادر منه وضعًا؛ كالوجه، واليد، والمجيء المنسوبة لله سبحانه، هذا هو مقتضى التعبير بأو، ويصح أن يكون تنويعًا في العبارة، والكل مجمل بالمعنى العام أي الذي لم يتضح المراد منه بسبب من الأسباب المشار إليها آنفًا؛ فلا تكون متقابلة، وقوله بعد: "فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به" يقتضي احتمالًا ثالثًا، وأن المراد منها واحد وهو المتشابه؛ فلا يدخل فيه مثل الأب الذي وإن توقف فيه عمر؛ فقد عرفه غيره. "د".
قلت: انظر لزامًا ما تقدم "2/ 195، 257 و3/ 319، 323"، حول مذهب السلف في الصفات؛ فقد أخطأ المعلق هنا، ولم يصب الحق في هذا الباب، والله الموفق للصواب، وقرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 391-392" أن لفظ المجمل في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم، سواء لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين, وأخطأ في ذلك, بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به, وإن كان ظاهرًا حقًّا.(8/189)
وانظر: "مباحث في المجمل والمبين من الكتاب والسنة" لعبد القادر شحاتة "ص10 وما بعدها"، دار البيان للنشر والتوزيع، و"بيان النصوص التشريعية؛ طرقه وأنواعه" لبدران أبو العينين بدران "ص729".(8/190)
ص -138-…ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابهًا؛ بين أيضًا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه، لا على ما يفهم المكلف منه، فقد قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ....} إلى قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
والناس في المتشابه1 المراد ههنا على مذهبين2: فمن قال: إن الراسخين يعلمونه؛ فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب، أو على غير العلماء من الناس، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]؛ فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق؛ فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به، وهكذا إذا قلنا: إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم؛ فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه، ما دام مشتبهًا عليهم؛ حتى يتبين باجتهاد أو تقليد، وعند ذلك يرتفع تشابهه؛ فيصير كسائر المبينات.
فإن قيل: قد أثبت القرآن متشابهًا في القرآن، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"3، وهذه المشتبهات متقاة4 بأفعال العباد لقوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو المتشابه الحقيقي، وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم حقيقة المراد منه ولا نصب دليل على ذلك. "د".
2 انظر لزامًا ما قدمناه "3/ 319".
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه.
4 في الأصل: "متلقاة" وفي "ط": "متعلقات".(8/191)
ص -139-…وعرضه"1؛ فهي إذًا مجملات وقد انبنى عليها التكليف2، كما أن قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] قد انبنى عليها التكليف، وذلك قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فكيف يقال: إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان3 بما ينبني عليه تكليف؟
فالجواب: أن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده، وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع، وتشابه الحديث في مناط الحكم، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل4 التشابه، وإن سلم؛ فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد، ولذلك قال: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه"5.
ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد؛ كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وفي الحديث: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"6، وأشباه ذلك.
هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف، وإلا؛ فالتكليف متعلق بكل موجود، من حيث يعتقد على ما هو عليه، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه، إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحاشية رقم "3" في الصفحة السابقة.
2 أي: باتقائها واجتنابها. "د".
3 في "ط": "يعلقان".
4 في النوع الثالث من المتشابه من المسألة الثالثة هناك؛ فراجعه. "د".
5 مضى تخريجه قريبًا.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، 3/ 29/ رقم 1145"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعًا.
وفي الباب أحاديث كثيرة جدًّا.(8/192)
ص -140-…غير ذلك من وجوه النظر.
الوجه الثاني: أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم، وهذا يستلزم كونه بينًا واضحًا لا إجمال فيه ولا اشتباه، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال؛ لناقض أصل مقصود الخطاب، فلم تقع فائدة، وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح؛ تفضلًا، أو انحتامًا، أو عدم1 رعيها؛ إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود.
والثالث: أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة2؛ إلا عند من يجوز تكليف المحال، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعًا فبقي3 الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته، وإذا ثبت ذلك؛ فمسألتنا من قبيل4 هذا المعنى؛ لأن خطاب التكليف في وروده مجملًا غير مفسر، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه، أو لا، فإن لم يقصد؛ فذلك ما أردنا، وإن قصد؛ رجع إلى تكليف ما لا يطاق، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة.
وعلى هذين الوجهين -أعني5: الثاني والثالث- إن جاء في القرآن مجمل؛ فلا بد من خروج معناه عن تعلق التكليف به، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حتى مع قطع النظر عن رعاية المصالح هو ممنوع؛ لأنه غير معقول في ذاته. "د".
2 انظر في هذا: "البحر المحيط" "3/ 46، 93"، و"العدة" "3/ 724"، و"البرهان" "1/ 166"، و"المستصفى" "1/ 368"، و"الإحكام" "1/ 75" لابن حزم، و"الإحكام" "3/ 32" للآمدي.
3 في "ط": "فيبقى".
4 نقول: بل هي أشد؛ لأن ذاك كان مجرد تأخير للبيان، يعني مع حصول البيان بعد الوقت، أما هذا فلا بيان رأسًا، لا في عهده -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده. "د".
5 وإنما قيده بهما لأنه ذكر مثله في الأول؛ فلم يحتج لربط هذا التفريع به أيضًا. "د".(8/193)
ص -143-…الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل
وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي1.
ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما؛ اقتصرنا على النظر فيهما.
وأيضًا؛ فإن في أثناء الكتاب2 كثيرًا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما، مع أن الأصوليين تكلفوا3 بما عداهما كما4 تكلفوا بهما؛ فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي، والاقتصار على الكتاب والسنة، والله المستعان.
فالأول أصلها، وهو الكتاب، وفيه مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشمل الباقي من قياس وغيره. "د".
2 لعل فيه سقط كلمة "والسنة" كما يفيده السابق واللاحق، أي: إنه تعرض لكثير من المباحث المتعلقة بغير الكتاب والسنة أثناء تعرضه لمباحثهما. "د".
3 في "ط": "تكلفوا".
4 كان يقتضي الذكر لا السكوت عن الكتاب والسنة أيضًا. "د".(8/194)
ص -144-…الدليل الأول: الكتاب
المسألة الأولى:
إن الكتاب قد تقرر أنه1 كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة2، وإذا كان كذلك؛ لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي؛ نظرًا وعملًا، لا اقتصارًا على أحدهما؛ فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرعيل الأول3، فإن كان قادرًا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا؛ فكلام الأئمة السابقين، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة.
وأيضًا4؛ فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله؛ فذلك لا يخرجه عن كونه عربيًّا جاريًا على أساليب كلام العرب، ميسرًا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي، كما تبين في كتاب الاجتهاد؛ إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه؛ لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن الأمة، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه؛ إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "أن".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 332 و19/ 76-92 و20/ 499".
3 أي: الطائفة المتقدمة. "ف".
4 تتميم لبيان ما يعينه على فهمه، كأنه قال: "من السنة والدربة في اللسان العربي، ولا يمنع من ذلك كونه معجزًا... إلخ". "د".(8/195)
ص -145-…ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال، أعجز ما كانوا عن معارضته، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22].
وقال1: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97].
وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [فصلت: 3].
وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195].
وعلى أي وجه2 فرض إعجازه؛ فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]؛ فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم، وكذلك ما كان مثله، وهو ظاهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورد في "ط" بدل هذه الآية {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].
2 ذكروا في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ كما يعلم من الكتب المؤلفة خصيصة بذلك؛ فعلى جميع الوجوه لا يمنع إعجازه من فهمه على وجهه. "د".(8/196)
ص -146-…المسألة الثانية:
معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك1 وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها2 المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه:
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وغيرهما".
2 لعله "على معناه المراد". "ف".
3 الخطاب الذي جاء بسبب لا يمكن في بعض الحالات فهمه، ولا إدراك معناه إلا من معرفة الواقعة، أو السؤال الذي تسبب في وروده؛ ففائدة معرفة السبب الذي ورد عليه الخطاب تعين على فهم المراد، فمن قرأ قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا....} [المائدة: 93]، ولم يطلع على نزولها؛ فقد يقول بجواز شرب الخمر كما تأولها من تأولها في زمن عمر, رضي الله عنه [وسيأتي تخريج ذلك قريبًا]، وكذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ =(8/197)
ص -147-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]؛ فإنه لو أخذنا بمدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرًا ولا حضرًا، وهو خلاف الإجماع، فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها، وذلك أنها نزلت وكان الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية؛ فأدركتهم الصلاة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة؛ فتوجه كل منهم إلى ناحية، فلما أصبحوا أخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم صلوا إلى غير القبلة؛ فنزلت الآية، على ما ذكره ابن كثير في "تفسيره" "1/ 159"، وعزاه لابن جرير والترمذي "رقم 2958"، وقال: "هذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا".
وقد تكون معرفة أسباب نزول الآية أو أسباب ورود الحديث ضرورية؛ لأن الحكم الوارد على سبب قد يكون لفظًا عامًّا، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورة ذلك السبب؛ فإن دخول صورة السبب قطعي، وإخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ممنوع بالاتفاق؛ كما قاله الباقلاني في "التقريب", ونقله عنه السيوطي في "الإتقان" "1/ 28"، والغزالي في "المستصفى" "2/ 61"، وقد ذكر علاء الدين الكناني في "سواد الناظر وشقائق الروض الناضر" "2/ 427, مضروبة على الآلة الكاتبة، رسالة دكتوراه" من فوائد نقل السبب أمورًا أخرى غير التي ذكرها المصنف، منها بيان أخصية السبب بالحكم؛ فيمتنع تخصيص الحكم بالسبب؛ لأن دخول السبب في العام قطعي، ولا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص لأمرين:
أحدهما: أنه يلزم من تأخير البيان عن وقت الحاجة، ذكر هذا الزركشي في "البرهان" "1/ 23".
الثاني: فيه عدول عن محل النازلة أو محل السؤال، وهذا يؤدي إلى التباس الحكم على السائل أو من ورد في حقه الحكم.(8/198)
- ومنها: معرفة تأريخ الحكم بمعرفة تأريخ السبب ليعرف الناسخ والمنسوخ.
- ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيفتح ثواب المصنفين في تأريخ النزول، وثواب المجتهدين بالنظر في ذلك، والرجوع إلى حكم الناسخ وترك المنسوخ.
- ومنها: التأسي بوقائع السلف؛ فيخف أمر اللعان مثلًا على من أراده تأسيًا بهم.
- ومنها: أن معرفة السبب تساعد على معرفة المراد من النص، قال في "المسودة" "ص231": "فجهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة في كلام الشارع وكلام العباد: =(8/199)
ص -148-…ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي؛ قال: "خلا عمر ذات يوم؛ فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، [وقبلتها واحدة]؟ [فأرسل إلى ابن عباس؛ فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟]. فقال: ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر وانتهره؛ فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال؛، فعرفه فأرسل إليه؛ فقال: أعد علي ما قلت. فأعاده عليه؛ فعرف عمر قوله وأعجبه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب، وتخصيص العموم.
الثاني: سبب الكلام وحال المتكلم.
الثالث: وضع اللفظ والقرائن اللفظية.
- ومنها: أن معرفة السبب ينتفع بها في معرفة جنس الحكم تارة، أو في صفته أخرى، وفي محله آخر.
وانظر غير مأمور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339"، و"مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص26-29"، و"أسباب نزول القرآن، دراسة منهجية" "60-72".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص45-46"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 176/ رقم 42, ط الجديدة", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 230-231/ رقم 2086"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "2/ 194/ رقم 1587", عن هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به، والتيمي لم يدرك زمن عمر؛ فإسناده منقطع.
وأخرجه ابن ديزيل في "جزئه" "رقم 26" من طريق هشيم عن إبراهيم التيمي به؛ دلس في هذا الإسناد وأرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" "11/ 217-218/ رقم 20368", ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" رقم "198"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 516-517" عن علي بن بذيمة الجزري عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس به نحوه، وإسناده صحيح.(8/200)
وما بين المعقوفتين الأولى ليست في الأصل ولا في "ط"، والثانية ليست "إلا" فيهما.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأهوال عن ابن عمر -لا عن عمر- نحوه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وانظر: "تخريج الزيلعي على الكشاف" "3/ 204".(8/201)
ص -149-…وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
فقد روى ابن وهب عن بكير؛ أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: "يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين"1.
فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال: "قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا؛ لنعذبن أجمعون.
فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم"2، ثم قرأ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 282" تعليقًا، قال: "وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم انطلقوا..."، وذكر الأثر.
ووصله ابن جرير في "تهذيب الآثار" -كما في "تغليق التعليق" "5/ 259"، و"الفتح" "12/ 286"- من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج؛ أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ فذكره، قال ابن حجر: "وسنده صحيح".
انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى" "1/ 36-37" لابن تيمية، و"الاعتصام" "2/ 692" للمصنف؛ وعزاه لابن وهب أيضًا، وكذا ابن عبد البر في "الاستذكار" "8/ 90/ رقم 10576".
2 مضى تخريجه "ص32".(8/202)
ص -150-…أُوتُوا الْكِتَابَ...} إلى قوله: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 187-188]؛ فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان.
والقنوت يحتمل وجوهًا1 من المعنى يحمل عليه قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]، فإذا عرف السبب؛ تعين المعنى المراد.
وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين؛ فقدم الجارود على عمر، فقال: "إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول". وذكر الحديث؛ فقال عمر: "يا قدامة! إني جالدك. قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93]... إلخ. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله".
وفي رواية: فقال: "لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله. فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] إلى آخر الآية؛ فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالخشوع، وعدم الالتفات، والذكر وغيرها، وقوله: "تعين المعنى المراد"؛ أي: وهو عدم تكليم بعضهم بعضًا كما كان يحصل قبل نزول الآية. "د".
أما "ف"؛ فتوسع وقال: "كالانقياد وكمال الطاعة والذكر والخشوع وطول الركوع وأن لا يلتفت، ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء، ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في "صحيحه" بالسكوت عن الكلام...، ثم احتج له بما يناسبه".
قلت: انظر معاني القنوت عند ابن القيم في "الزاد" "1/ 283".(8/203)
ص -151-…هؤلاء الآيات أنزلن عذرًا للماضين، وحجة على الباقين؛ فعذر الماضين1 بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90]، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت"2 الحديث.
وحكى إسماعيل القاضي؛ قال: "شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: 93]، قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال: فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك. فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به...." إلى آخر الحديث3.
ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "الماضون".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه، 7/ 319/ رقم 4011" مختصرًا، وأخرجه مطولًا عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 240-242/ رقم 17076"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-849"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315-316" بأسانيد وألفاظ، وكذا ساقه الجصاص في "أحكام القرآن" "4/ 128-129"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "4/ 199"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "3/ 248"، وابن حجر في "الإصابة" "3/ 220"، والنويري في "نهاية الأرب" "19/ 364"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "2/ 45" بنحوه.
3 نحوه في "أحكام القرآن" "4/ 128" للجصاص، وعزاه المصنف في "الاعتصام" "2/ 527, ط ابن عفان" للقاضي إسماعيل.(8/204)
ص -152-…وجاء رجل إلى ابن مسعود؛ فقال: تركت في المسجد رجلًا يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]؛ قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم [منه] كهيئة الزكام. فقال ابن مسعود: "من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشًا استعصوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية [الدخان: 10]..." إلى آخر القصة1.
وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب؛ لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات، وقد قال, عليه الصلاة والسلام: "خذوا القرآن من أربعة"2، منهم عبد الله بن مسعود، وقد قال في خطبة خطبها: "والله؛ لقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب سورة الروم، 8/ 511/ رقم 4774، وباب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم}، 8/ 571/ رقم 4821، وباب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون}, 8/ 573/ رقم 4822, وباب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}، 8/ 573/ رقم 4823"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب الدخان، 4/ 2155-2157/ رقم 2798" عن ابن مسعود به.(8/205)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود، 7/ 102/ رقم 3760، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب، 7/ 126/ رقم 3808، وكتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 9/ 46/ رقم 4999"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله تعالى عنهما- 4/ 1913/ رقم 2464" عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.(8/206)
ص -153-…علم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أني من أعلمهم بكتاب الله"1، وقال في حديث آخر: "والذي لا إله غيره؛ ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا [و] أنا أعلم فيما أنزلت, ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه"2، وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالمًا بالقرآن.
وعن الحسن؛ أنه قال: "ما أنزل الله آية؛ إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما أراد بها"3، وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين؛ قال: "سألت عبيدة عن شيء من القرآن؛ فقال: اتق الله، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن"4.
وعلى الجملة؛ فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 9/ 46-47/ رقم 5000"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1912/ رقم 4262"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 343-344"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 1007"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 22"، وابن أبي داود في "المصاحف" "ص22-23".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 9/ 47/ رقم 5002"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1913/ رقم 2463"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 342"، وابن أبي داود في "المصاحف" "23-24"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 80/ رقم 83"، والخطيب في "الرحلة" "94-95".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وفي النسخ المطبوعة: "فيم أنزلت".
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص42".(8/207)
4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 185/ رقم 44, ط الجديدة"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 830"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 86/ رقم 97"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 230/ رقم 2085"، والواحدي في "أسباب النزول" "4-5"- وذكره السيوطي عنه في "الإتقان" "1/ 41"، و"لباب النقول" "13"-، وبعض أسانيده صحيحة على شرط الشيخين.(8/208)
ص -154-…فصل:
ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة، ويكفيك [من ذلك]1 ما تقدم2 بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد؛ فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام، ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهومًا:
أحدها: قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به، لكن على تغيير بعض الشعائر، ونقص جملة منها؛ كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا، فجاء الأمر بالإتمام لذلك، وإنما جاء إيجاب الحج نصًّا في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وإذا عرف هذا؛ [تبين]3 هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة4، أم لا؟
والثاني: قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.
2 وهو أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود العرب. "د".
3 بدلها في "ط": "علم بيسر".
4 انظر: "الذخيرة" "3/ 181، 373-374, ط دار الغرب"، و"أحكام القرآن" "1/ 118-119" لابن العربي.(8/209)
ص -155-…فيريد أحدهم التوحيد، فيُهمّ فيخطئ بالكفر؛ فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه، قال: "فهذا على الشرك، ليس على الإيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم".
والثالث: قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق؛ فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهًا على نفي ما ادعوه في الأرض؛ فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة1؛ ولذلك قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}2 [النحل: 26]؛ فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث.
والرابع: قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49]3؛ فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته، وهم خزاعة، ابتدع ذلك لهم أبو كبشة، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها؛ فلذلك عينت.
فصل:
وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة، إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك، ومنه أنه نهى عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارنه لزامًا بما عند ابن تيمية في "نقض تأسيس الجهمية" "1/ 520"، و"التدمرية" "ص45"، وانظر أيضًا: "مختصر العلو" "286-287"، و"البيهقي وموقفه من الإلهيات" "353"، وكتابنا: "الردود والتعقبات" "ص168-170".
2 أي: فليست الفوقية لتخصيص الجهة؛ لأن السقف لا يكون إلا فوق، إنما ذلك ذكر للمعهود فيه. "د". قلت: انظر الهامش السابق.
3 قال العلماء: إن هذا النجم قطره عشرة أمثال قطر كوكب الشمس؛ فهو أكبر ما عرفه العرب من الكواكب فعبدوه. "د".(8/210)
ص -156-…والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فلما كان بعد ذلك؛ قيل [له]: لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، ويحملون منها الودك1، ويتخذون منها الأسقية. فقال: "وما ذاك؟". قالوا: نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفت عليكم؛ فكلوا، وتصدقوا، وادخروا"2.
ومنه حديث3 التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة؛ فإن حديث ابن مسعود يبين أنه [مختص] بأهل4 النفاق، بقوله: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"5.
وحديث: "الأعمال بالنيات"6 واقع عن7 سبب، وهو أنهم لما أمروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتحتين: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. "ف".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد -رضي الله عنه- مرفوعًا.
قال "ف" في معنى "الدافة": "بتشديد الفاء: قوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يريد أنهم قدموا المدينة عيد الأضحى؛ فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها ويتصدقوا بها وينتفع أولئك القادمون بها؛ فالنهي لسبب خاص إذا لم يوجد جاز الأكل والتصدق والادخار؛ كما جاء في الحديث" ا. هـ.
3 مضى تخريجه "ص110".
4 كذا في "ط"، وفي "د": "أنه بأهل"، وفي غيرهما: "أنه من أهل".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدي، 1/ 453/ رقم 654" عن ابن مسعود؛ قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض". وفي لفظ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".
6 مضى تخريجه "1/ 459"، وهو في "الصحيحين"؛ إلا أن سبب الورود الذي ذكره =
7 في "ط": "على".(8/211)
ص -157-…بالهجرة هاجر ناس للأمر، وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر؛ فكان بعد ذلك يسمى: مهاجر أم قيس, وهو كثير1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصنف لا صلة له بهذا الحديث، خلافًا لما هو مشهور، وقد وقع فيه ابن دقيق العيد في "الإحكام" "1/ 79-81"، ونبه على هذا الخطأ ابن رجب؛ فقال في "جامع العلوم والحكم" "1/ 74-75": "وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا بإسناد صحيح، والله أعلم"، وقال ابن حجر في "الفتح" "1/ 10": "لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك".
وقد أخرج سعيد بن منصور في "سننه"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "رقم 8540" عن الأعمش عن شقيق؛ قال: خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال: فقال عبد الله, يعني ابن مسعود: "من هاجر يبتغي شيئًا؛ فهو له". وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر.
وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان في عهد ابن مسعود، ولكن روي من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها؛ فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال ابن مسعود: "من هاجر لشيء؛ فهو له"، ورجاله ثفات؛ كما في "طرح التثريب" "2/ 25"، وعلى فرض ثبوت ذلك؛ فليس فيه أنه سبب ورود حديث عمر: "إنما الأعمال بالنيات"، ومنه تعلم القصور في صنيع المصنف، والله الموفق.
وانظر: "شرح شاكر لألفية السيوطي" "ص214".(8/212)
1 اعتنى بمفردات "أسباب الورود": ابن حمزة الحسيني في كتابه "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"، وقبله السيوطي في "اللمع في أسباب ورود الحديث"، وكلاهما مطبوع، وللبلقيني في "محاسن الاصطلاح" "633 وما بعدها" كلام جيد نحو ما عند المصنف، وانظر "أسباب ورود الحديث, تحليل وتأسيس" لمحمد رأفت سعيد "كتاب الأمة، رقم 37، ص102 وما بعدها"، ولصديقنا الشيخ طارق الأسعد دراسة مسهبة قيد الإعداد بعنوان: "علم أسباب ورود الحديث، ومنزلته في تفسير النصوص الشرعية، ومجال تطبيقه عند المحدثين والأصوليين"، وانظر في فائدة عيان النص: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 163" لابن العربي، وفي ضرورة معرفة أسباب الورود أيضًا: "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص28-30".(8/213)
ص -158-…المسألة الثالثة:
كل حكاية وقعت في القرآن؛ فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها1 وهو الأكثر رد لها، أو لا فإن وقع رد؛ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد؛ فذلك دليل صحة المحكي وصدقه.
أما الأول فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
فأعقب بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الآية [الأنعام: 91].
وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآية [الأنعام: 136].
فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله: {بِزَعْمِهِمْ}، وبقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
ثم قال: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] إلى تمامه.
ورد بقوله: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُون} [الأنعام: 138].
ثم قال: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} الآية [الأنعام: 139].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو قبلها وبعدها معًا، كما في آية: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] مع قوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]، ولا يكون الشريك ولا الولد مملوكًا. "د".(8/214)
ص -159-…فنبه على فساده بقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] زيادة على ذلك.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4].
فرد عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].
ثم قال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الآية [الفرقان: 5].
فرد بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الآية [الفرقان: 6].
ثم قال: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرفان: 8].
ثم قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الفرقان: 9].
وقال تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا...} إلى قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 4-8].
ثم رد عليهم بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8].
إلى آخر ما هنالك.
وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116، وغيرها].
ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن؛ كقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون} [الأنبياء: 26].
وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 116].
وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} الآية [يونس: 68].(8/215)
ص -160-…وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ}1 [مريم: 90] إلى آخره، وأشباه ذلك.
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.
وأما الثاني؛ فظاهر أيضًا، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها، فإن القرآن سمي فرقانًا، وهدى، وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه.
وأيضًا2؛ فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه؛ فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا، ويمنعه قوم، لا من جهة قدح فيه، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك؛ فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا، ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط، ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول؛ كقوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} الآية[البقرة: 75].
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "وتنشق الأرض" سقط من الأصل.
2 هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة؛ فإن الأول ليس من الشرائع، وهذا من الشرائع، وما في حكمها وما دخل عليها من تحريف وغير ذلك؛ فهو معطوف على قوله: "كل حكاية... إلخ"، ويحتمل أن يكون دليلًا على الثاني، ويؤيده قوله بعد: "ولو نبه على أمر فيه... إلخ"، وقوله: "فصار هذا من النمط الأول"، ويكون قوله أولًا: "كل حكاية" أعم مما يتعلق بالشرائع والقصص. "د".
قلت: انظر في هذا "كشف الأسرار" "3/ 933-936"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص27، 28" لعلي حسب الله، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 155-156" للأشقر.(8/216)
ص -161-…فَخُذُوهُ}1 الآية [المائدة: 41].
وكذلك قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}2 [النساء: 46]؛ فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقًّا؛ كحكايته عن الأنبياء والأولياء، ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى, عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف، وأشباه ذلك.
فصل:
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار3؛ فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع، بقوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}4 الآية [المدثر: 43-44]؛ إذ لو كان قولهم باطلًا لرد عند حكايته.
واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وأنهم: {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، أعقب ذلك بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]؛ أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئًا، ولما حكى قولهم: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]؛ لم يتبعه بإبطال بل قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "عن مواضعه"، وهو خطأ.
2 في النسخ المطبوعة: "من بعد مواضعه"، وهو خطأ.
3 في "ط": "... الفصل اعتمده الناظر...".
4 أي: فقد سلم تعليلهم ودخولهم بهذا. "د".(8/217)
ص -162-…وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: "أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم"1.
ورأيت منقولًا عن سهل بن عبد الله2 أنه سئل عن قول إبراهيم, عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]؛ فقيل له: أكان شاكًّا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان3، ألا تراه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]، فلو عمل شكًّا منه لأظهر4 ذلك؛ فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان.
بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]؛ فإن الله تعالى رد عليهم بقوله5: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع الزوائد" "7/ 53"-، والواحدي في "الوسيط" "3/ 142" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن أبي روق، وقد صححه المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 793"؛ فأخطأ، وأخرجه من طرق أخرى عنه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 400"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 143"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 226-227"، والفريابي -كما في "الدر المنثور" "5/ 375"-، وصححه ابن كثير في "تفسيره" "3/ 83".
2 المذكور في "تفسيره" "ص27" المطبوع سنة "1326هـ-1908م" بمطبعة السعادة بمصر.
3 في "تفسير سهل": "طالبًا زيادة يقين إلى إيمان كان معه، فسأل كشف غطاء العين بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينًا في قدرة الله، وتمكينًا في خلقه، ألا تراه...".
4 أي: لنبه الله إليه كما هو الشأن في الكتاب. "د".
قلت: عبارة سهل في "تفسيره" "ص27" تدل على هذا المعنى، وتصرف بها المصنف، وهذا نصها: "فلو كان شاكًّا لم يجب ببلى، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك؛ إذ كان مثله مما لا يخفى عليه؛ فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه".
5 في "ف" و"م": "بقولهم"، وهو خطأ.(8/218)
ص -163-…وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو منها حق مما هو باطل.
فقد قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] إلى آخرها فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخبارًا عن المعتقد وهو غير مطابق؛ فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] تصحيحًا لظاهر القول، وقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] إبطالًا لما قصدوا به.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [الزمر: 67]، وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس؛ قال: مر يهودي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي: "حدثنا يا يهودي". فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي بخنصره أولًا، ثم تابع حتى بلغ الإبهام, فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]1.
وفي رواية أخرى: جاء يهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3240", وفيه: "يا يهودي! حدثنا..."، و"الأرض"، وابن خزيمة في "التوحيد" "78"، وأحمد في "المسند" "1/ 151"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 26"، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وهو مختلط.
وفي الباب عن ابن مسعود في "الصحيحين" وغيرهما، وسيأتي.(8/219)
ص -164-…والخلائق على أصبع، ثم يقول: "أنا الملك". فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}1 [الزمر: 67].
وفي رواية: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وتصديقًا2.
والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]؛ فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة، وذلك قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية، وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه؛ فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]. وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61]؛ أي: يسمع الحق والباطل، فرد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، 8/ 550-551/ رقم 4811، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}, 13/ 393/ رقم 7414، 7415، وباب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، 13/ 438/ رقم 7451، وباب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، 13/ 474/ رقم 7513"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب منه، 4/ 2147/ رقم 2786"، والترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3238" والمذكور لفظه، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 236-237/ رقم 270-471، وكتاب النعوت" -كما في "التحفة" "رقم 9404"- عن ابن مسعود, رضي الله عنه.(8/220)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}، 13/ 393/ رقم 7414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2147/ رقم 2786"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 470"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3239" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.(8/221)
ص -165-…الله عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فقال: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم}، [{وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}] الآية [التوبة: 61] ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]؛ فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء؛ فرد عليهم بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]؛ لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر، وجواب {أَنْفِقُوا} أن يقال: نعم أو لا، وهو الامتثال أو العصيان، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض؛ انقلب1 عليهم من حيث لم يعرفوا؛ إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة؛ بالمشيئة2 المطلقة؛ لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف3 يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة.
وقال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ...} إلى قوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78]؛ فقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته -عليه السلام- في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود -عليه السلام- لكن لما كان المجتهد معذورًا مأجورًا بعد بذله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(8/222)
1 أي: حيث إن المشيئة الإلهية لا تعارض، فكان يجب الامتثال وعدم المعارضة فيها؛ فانقلبت الحجة عليهم لأنهم عارضوها فلم يمتثلوا مشيئة الطلب الموجه إليهم، وهذا على أن قوله: "إن أنتم" موجه إليهم من قبل الله أو المؤمنين، أما إذا كان موجهًا منهم إلى المؤمنين يخطئونهم في طلب النفقة على فقراء المسلمين أقاربهم على طريق الاستهزاء؛ أي: ما لكم تقولون: إن الله يرزق من يشاء ثم تطلبون النفقة منا؟ فهذا تناقض، وهو غاية الضلال؛ فلا يكون من هذا الباب. "د".
2 على حد قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]. "د".
3 وتوجيه هذا يتمكن منه بمراجعة الفخر الرازي [26/ 74] في الآية: "د".(8/223)
ص -166-…الوسع؛ قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وهذا من البيان الخفي1 فيما نحن فيه.
قال الحسن: "والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده"2.
والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق.
فصل:
وللسنة مدخل في هذا الأصل؛ فإن القاعدة المحصلة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يسكت عما يسمعه أو يراه من الباطل؛ حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه، فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه، والمسألة مذكورة في الأصول3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لم يصرح بخطأ داود، إنما يفهم من قصر التفهيم على سليمان. "د".
2 أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره"؛ كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 195-196" نحوه، وذكره عنه القرطبي في "تفسيره" "11/ 309" بنصه وحرفه.
3 في مسألة "إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا على إنكاره؛ فإن كان معتقد كافر؛ فلا أثر لسكوته عنه لما علم أنه منكر له؛ فلا دلالة له على صحته... إلخ"، راجع "تحرير الأصول". "د".
قلت: وانظر "البحر المحيط" "3/ 488 و4/ 204" للزركشي.(8/224)
ص -167-…المسألة الرابعة:
إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه1 وبالعكس، وكذلك الترجية مع التخويف، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله، ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار، وبالعكس؛ لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية، وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفًا؛ فهو راجع إلى الترجية والتخويف.
ويدل على هذه الجملة عَرْض الآيات على النظر؛ فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه، وقد وقع فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6-7] إلى آخرها.
فجيء بذكر الفريقين، ثم بُدئت سورة البقرة بذكرهما أيضًا؛ فقيل: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2].
ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6].
ثم ذُكر بإثرهم المنافقون، وهو صنف من الكفار، فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى، ثم بالتخويف بالنار، وبعده بالترجية؛ فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ...} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البقرة: 24-25].
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في الآيات المشتملة عليهما معًا، ومن أظهرها في ذلك قوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ...} إلى قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنساء: 5-11]. "د".(8/225)
ص -168-…آمَنُوا} الآية [البقرة: 26].
ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا، ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم؛ قيل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا...} إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 62-81].
ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، وهذا تخويف.
ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} الآية [البقرة: 103]، وهو ترجية.
ثم شرع في ذكر ما كان من شأن1 المخالفين في تحويل القبلة، ثم قال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية [البقرة: 112].
ثم ذكر من شأنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].
ثم ذكر قصة إبراهيم -عليه السلام- وبنيه، وذكر في أثنائها التخويف والترجية، وختمها بمثل ذلك، ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران؛ فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود، والرجوع بعد إلى ما تقرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد بذلك قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، أو قوله: {وَدَّ كَثِير....} إلخ [البقرة: 109] بدليل قوله، ثم قال: بلى من أسلم، والواقع أن آية: {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] وما بعدها من ذكر إبراهيم والثناء عليه بأنه إمام للناس، وبنائه للبيت، وتعظيم البيت وبانيه، كل هذا كتوطئة وتمهيد لذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء...} إلخ [البقرة: 142]. "د".(8/226)
ص -169-…وقال تعالى في سورة الأنعام، وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ....} إلى قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وذكر البراهين التامة، ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه، إلى أن قال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام: 12].
فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف، وذلك يعطي التخويف تصريحًا، والترجية ضمنًا.
ثم قال: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]؛ فهذا تخويف.
وقال: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} الآية [الأنعام: 16]، وهذا ترجية.
وكذا قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الآية [الأنعام: 17].
ثم مضى في ذكر التخويف، حتى قال: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32].
ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36].
ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} الآية [الأنعام: 39].
ثم [جرى]1 ذكر ما يليق بالموطن إلى لأن قال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} الآية [الأنعام: 48].
واجر في النظر على هذا الترتيب، يلح1 لك وجه الأصل المنبه عليه، ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(8/227)
ص -170-…فصل:
وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال:
فيرد التخويف ويتسع مجاله1، لكنه لا يخلو من الترجية، كما في سورة الأنعام؛ فإنها جاءت مقررة للحق2، ومنكرة على من كفر بالله، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصد عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر، ولد3 فيه وخاصم، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف، وإطالة التأنيب والتعنيف؛ فكثرت مقدماته ولواحقه، ولم يخلُ مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق، وقد تقدم الدعاء، وإنما هو مزيد تكرار إعذارًا وإنذارًا، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية؛ لأن درء المفاسد آكد.
وترد الترجية أيضًا ويتسع مجالها، وذلك في مواطن القنوط ومظنته4؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية [الزمر: 53]؛ فإن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا؛ فأتوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن الذي تقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فمثلًا سورة الرحمن ثلثها الأول تقريبًا آيات دالة على الصانع المبدع سبحانه توطئة لما يجيء بعد من التخويف والترغيب، وأنه بعلمه وقدرته وإبداعه لا يعجزه ما خوف منه وما رغب فيه، والثلث الثاني غاية التخويف والوعيد، والثالث غاية الترغيب والترجية. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للخلق"!!
3 اللدة: شدة الخصومة. "ف".
4 في "ط": "أو مظنته".(8/228)
ص -171-…وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة؟ فنزلت1.
فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط؛ فجيء فيه بالترجية غالبة2، ومثل ذلك الآية الأخرى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما3.
ولما كان جانب الإخلال4 من العباد أغلب؛ كان جانب التخويف أغلب، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق؛ فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 165/ رقم 3855، وكتاب التفسير، باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَاب}، 8/ 494/ رقم 4764"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2318/ رقم 3023" بعد "19" عن ابن عباس نحوه.
وأخرجه من حديثه أيضًا بلفظ المصنف: البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة الزمر، 8/ 549/ رقم 4810"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، 1/ 113/ رقم 122"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 484"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 403"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 98".
2 لأنه أطلق الذنوب، فلم يقيد بصغيرة ولا كبيرة، ولم يشترط شرطًا ما؛ فلم يقل: "لمن يشاء"، ثم أكد الأمر بقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 53]، ومثله يقال في إذهاب الحسنات للسيئات في الآية الآتية بعدها. وفي "ط": "بالترجية فيه غالبة".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات}، 4/ 2115-2116" عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له؛ فنزلت...(8/229)
وأخرجه أيضًا البخاري في "صحيحه" "رقم 526، 4687"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 267"، والترمذي في "جامعه" "رقم 3114"، وابن ماجه في "سننه" "رقم 1398، 4254".
4 في "ط": "الانحلال".(8/230)
ص -172-…هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلًا، وقد مر لهذا المعنى بسط في كتاب المقاصد، والحمد لله.
فإن قيل: هذا لا يطرد؛ فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر، فيأتي التخويف من غير ترجية، وبالعكس.
ألا ترى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ...} [الهمزة: 1-9] إلى آخرها؛ فإنها كلها تخويف.
وقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى...} [العلق: 6-19] إلى آخر السورة.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ...} [الفيل: 1-5] إلى آخر السورة.
ومن الآيات قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} إلى قوله: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57-58].
وفي الطرف الآخر قوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى...} [الضحى: 1-11] إلى آخرها.
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ...} [الشرح: 1-8] إلى آخرها.
ومن الآيات قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية [النور: 22].
وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو؛ فقال ابن عباس: "أي آية أرجى في كتاب الله؟ فقال عبد الله: قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ} الآية [الزمر: 53]. فقال ابن(8/231)
ص -173-…عباس: لكن قول الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال ابن عباس: فرضي منه بقوله: {بَلَى}".
قال1: "فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان"2.
وعن ابن مسعود؛ قال: "في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له". وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] إلى آخر الآية، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن عبد الله قال لابن عباس: إن هذا في موضوع آخر؛ كحديث القائل له, صلى الله عليه وسلم: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إليَّ من أن أتكلم به. فقال له, صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"1؛ فليس راجعًا إلى أصل الإيمان أو قبول فيه حتى تكون الآية أرجى الآيات كما فهمت. "د".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص149" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم أبو صالح المصري، كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "149-150"، والطبراني في "مسند الشاميين" "2/ 334-335/ رقم 1444" بإسناد ضعيف، فيه أبو الفرات مولى صفية وهو مجهول، انظر عنه: "الاستغناء" لابن عبد البر "3/ 1511-1512"، ونحوه عن ابن مسعود في "تفسير القرطبي" "5/ 380"، وفيه: "وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة؛ قالا: قال ابن مسعود... وذكره".(8/232)
وقلت: ظفرت به من طريق أبي الأحوص سلَّام بن سُلَيم عن أبي إسحاق السبيعي به، أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 1091/ رقم 526" ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 241/ رقم 9035"، وابن المنذر في "تفسيره" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 68 =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نحوه في "5/ 34".(8/233)
ص -174-…وعن ابن مسعود: "إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها1 قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية [النساء: 31].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية [النساء: 40].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48].
وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية [النساء: 64].
وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}2 [النساء: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= /أ" وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 328/ رقم 9572"، كلاهما عن أبي الأحوص به.
وإسناده رجاله ثقات، وأبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وقد اختلط، ولكن روى عنه سفيان قبل اختلاطه، وظفرتُ برواية سفيان -التي أشار إليها القرطبي- في "تفسير عبد بن حميد" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 180/ أ".
وأخرجه سعيد بن منصور بنحوه في "سننه" "4/ 1371/ رقم 687" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250-251/ رقم 9070"- بإسناد ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، ومجموع هذه الطرق تنبئ على أن للأثر أصلًا، وبها إن شاء الله يصل إلى درجة الحسن.
1 في الأصل و"ط": "ما يعرفونها"، وكذا في جميع الطبعات، والصواب حذف "ما" كما في مصادر التخريج.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص150"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1297/ رقم 659", ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250/ رقم 9069"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 361/ رقم 2203"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 305" ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 360-361/ رقم 2202"، جميعهم من طريق مسعر بن كِدَام عن معن بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال: قال عبد الله بن مسعود به.(8/234)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "7/ 11-12": "رجاله رجال الصحيح".
قلت: نعم، ولكنه منقطع، لم يسمع عبد الرحمن من أبيه إلا حديثين؛ ولذا قال الحاكم عقبه, ووافقه الذهبي: "هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه؛ فقد اختلف في ذلك".
ولهذا الأثر طرق تدل على أن له أصلًا؛ فأخرج عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 155-156" ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "8/ 256-257/ رقم 9233" عن معمر عن رجل عن ابن مسعود به نحوه.
وأخشى أن يكون هذا الرجل المبهم هو عبد الرحمن، والحكم على هذا الإسناد متوقف على معرفته.
وأخرج هناد في "الزهد" "2/ 454-455/ رقم 903" نحوه عن ابن مسعود، وفي إسناده بشير الأوديّ، وهو مجهول.(8/235)
ص -175-…وأشياء من هذا القبيل كثيرة، إذا تتبعت وجدت؛ فالقاعدة لا تطرد، وإنما الذي يقال: إن كل موطن له ما يناسبه، ولكل مقام مقال، وهو الذي يطرد في علم البيان، أما هذا التخصيص؛ فلا.
فالجواب: أن ما اعترض به غير صادٍّ عن سبيل ما تقدم، وعنه جوابان: إجمالي، وتفصيلي:
فالإجمالي أن يقال: إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم؛ فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية؛ لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، واعتمدت في الحكم بها وعليها، شأن الأمور العادية1 الجارية في الوجود، ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل، يدل عليه الاستقراء؛ فليس بقادح فيما تأصل.
وأما التفصيلي؛ فإن قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قضية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فمع كونها أغلبية اعتبرها الشارع في إجراء الأحكام عليها، كما في أحكام السفر، وبناء التكليف على البلوغ الذي هو مظنة العقل، وهكذا، كما تقدم في "المقاصد" في المسألة العاشرة من النوع الأول والخامسة عشرة من النوع الرابع. "د".(8/236)
ص -176-…عين في رجل معين1 من الكفار، بسبب أمر معين، من همزة النبي -عليه الصلاة والسلام- وعيبه إياه؛ فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح، لا أنه أجرى مجرى التخويف؛ فليس مما نحن فيه، وهذا الوجه جار في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}2 [العلق: 6-7]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيتين [الأحزاب: 57-58] جار3 على ما ذكر.
وكذلك سورة والضحى، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] غير ما نحن فيه، بل هو أمر من الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح.
وقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] قضية عين لأبي بكر الصديق، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة؛ فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها، بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة والهجرة، ولم يكن ذلك واجبًا على أبي بكر، ولكن أحب الله له معالي الأخلاق.
وقوله: {لا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53] وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه، بل النظر في معاني آيات على استقلالها، ألا ترى أن قوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] أعقب بقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الآية [الزمر: 54]، وفي هذا تخويف عظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو العاصي بن وائل، أو هم جميعًا لأنهم كانوا أغنياء عيابين في النبي -صلى الله عليه وسلم- تنطبق عليهم الأوصاف التي في السورة. "د".
2 نزل في أبي جهل وإن كان المراد الجنس، وقد نزلت الآيات بعد ما قبلها من السورة بزمن طويل. "د".(8/237)
3 لأنهما نزلتا في أبي بن سلول ومن معه في قضية الإفك، أو فيمن طعنوا عليه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية بنت حيي بن أخطب. "د".(8/238)
ص -177-…مهيج للفرار من وقوعه، وما تقدم1 من السبب من نزول الآية يبين المراد، وأن قوله: {لا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53] رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف.
وقوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] نظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها، وإلا؛ فقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260] تقرير فيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنًا، فلما قال: "بلى" حصل المقصود.
وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] كقوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53].
وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ...} إلى قوله: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 107-109].
وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك؛ كأكل مال اليتيم، والحيف في الوصية، وغيرهما، فذلك مما يرجى به [بعد] تقدم2 التخويف.
وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]؛ فقد أعقب بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا} الآية [النساء: 42]، وتقدم قبلها قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...} إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37]، بل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] جمع التخويف مع الترجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ص170".
2 لعل الأصل: "تقدمه"؛ أي: فقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} الآية مما يرجي به، لكن سبقه التخويف. "د". قلت: قاله بسبب سقوط "بعد".(8/239)
ص -178-…وكذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ}1 الآية [النساء: 64] تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم؛ فهو مما نحن فيه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48] جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة، ولم يرد ابن مسعود بقوله: "ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها" أنها آيات ترجية خاصة، بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات، قد احتوت على علم كثير، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين، ولذلك قال: "ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها"2، وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه [وإن الذي يناسبه] إنزال القرآن إجراؤه3 على البشارة والنذارة، وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر، وهو المطلوب، وبالله التوفيق.
فصل:
ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء، لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما، وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ....} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 57-60].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "جاءوك" سقطت من الأصل.
2 كذا في الأصول كلها، وسبق التنبيه قريبًا "ص174" أن الأثر في كتب التخريج دون "ما".
3 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، ولذا كتب "د": "إجراؤه بدل من إنزال"، وقال "ف": "لعل العبارة: ما يناسب إنزال القرآن وإجراؤه". قلت: وكذا أثبتها "م".(8/240)
ص -179-…وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} [الإسراء: 57].
وهذا على الجملة، فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة؛ فجانب الخوف عليه أقرب، وإن غلب [الخوف]1 عليه طرف التشديد والاحتياط؛ فجانب الرجاء إليه أقرب، وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه2، ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53].
وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض3 الأمور، فخوفوا وعوتبوا كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [الأحزاب: 57].
فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته؛ فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من "م" فقط.
2 تجد طائفة من الأحاديث الواردة في ذلك في "التذكرة" للقرطبي، يسر الله إتمامه ونشره.
3 تقدم أن الآية نزلت في أبي بن سلول أو فيمن طعنوا فيه وعابوه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية، وسواء أكان هذا أم ذاك؛ فقد نزلت في شأن قوم من الكفار، والموضع الآن لذكر المؤمنين الذين غلب عليهم أحد الطرفين وطريقة تأديبهم، فلو ذكر في تأديب من غلب عليه جانب الإهمال في بعض الأمور مثل آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16]؛ لكان ظاهرًا وصح تسميته عتابًا، أما الذين يلعنون في الدنيا والآخرة؛ فلا يعد هلاكهم الأبدي عتابًا. "د".(8/241)
ص -180-…المسألة الخامسة:
تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي1 لا جزئي، وحيث جاء جزئيًّا؛ فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار2، أو بمعنى3 الأصل؛ إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي, صلى الله عليه وسلم.
ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج4 إلى كثير من البيان؛ فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وفي الحديث: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى الكلية هنا أنه لا يختص بشخص دون آخر، ولا بحال دون حال، ولا زمان دون آخر، وأيضًا ليس مفصلًا مستوعبًا لشروط وأركان وموانع ما يطلب أو ما ينهى عنه، وهو المسمى بالمجمل، وإنما حملنا الكلية على هذين المعنيين معًا لتنزيل كلامه الآتي عليه، ألا ترى إلى قوله: "إلا ما خصه الدليل"، وإلى قوله: "ويدل على هذا المعنى أنه محتاج إلى كثير من البيان"، وقوله: "وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة... إلخ"؟ "د".
قلت: بين هذه الكليات ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 452-453, ط الفقي".
2 أي: باعتبار المآلات، وهو المسمى بالاستحسان. "د".
3 وهو القياس. "د".
4 لمعرفة التفاصيل والشروط والموانع وأركان الماهيات الشرعية وغير ذلك، وهذه الحاجة هي علامة الكلية. "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع =(8/242)
ص -181-…وإنما1 الذي أعطي القرآن، وأما السنة؛ فبيان له، وإذا كان كذلك؛ فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3].
وأنت2 تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن، إنما بينتها3 السنة، وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. وفي "ط": "ما من الأنبياء من نبي...".
قال "ف" شارحًا "ما مثله آمن عليه البشر": "أي: لأجله، بحيث إذا شاهده اضطر إلى التصديق به؛ فموسى -عليه السلام- أعطي آية العصا وقلبها حية لأن الغلبة إذ ذاك للسحرة؛ فجاءهم بما يوافق السحر، فاضطرهم إلى الإيمان بذلك، وكذلك عيسى أعطي آية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ لأن الغلبة في زمانه للطب، فجاءهم بما هو أعلى منه، وهو إحياء الموتى.
وفي زمان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت الغلبة للبلاغة والبيان؛ فجاءهم بالقرآن من جنس ما تناهوا فيه مما عجز عنه البلغاء الكاملون في عصره؛ فاضطرهم إلى التصديق بمعجزاته، وهكذا كل نبي أعطي من المعجزات ما يناسب أهل زمانه مما إذا شوهد اضطر الشاهد إلى التصديق به بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، ولا يقدر على الإتيان بمثله" ا. هـ.(8/243)
1 لأنه المشتمل على ما آمن لأجله الناس من المعجزة، وليس هذا في السنة، وإذا كان الذي أعطيه هو القرآن؛ فلا يتأتى أن يكون جامعًا لحاجة البشر في دينهم ودنياهم؛ إلا إذا كان مشتملًا على التفاصيل في معاملة الخلق والخالق، ولكنه يبقى أن يقال: إنه ورد في الحديث الآخر: "أعطيت القرآن ومثله معه"؛ فهذا الحصر غير مسلم إلا باعتبار الإعجاز الذي في الحديث؛ فلا يظهر وجه الاستدلال بالحديث على الكلية لتعريفه للأحكام الشرعية. "د".
2 من تتمة الدليل قبله. "د".
3 وسيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان ذلك بتفصيل. "د".(8/244)
ص -182-…وأيضًا1، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها2 القرآن على الكمال، وهي3 الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضًا4؛ فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن، وقد عد الناس قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] متضمنًا للقياس، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] متضمنًا للسنة، وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] متضمنًا للإجماع، وهذا أهم ما يكون.
وفي "الصحيح" عن ابن مسعود؛ قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات...."5 إلخ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استدلال آخر على كلية تعريف الكتاب للأحكام الشرعية. "د".
2 في "ط": "تضمنت".
3 انظر بيانه الوافي في المسألة الرابعة من دليل السنة من قوله: "ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة...". "د".
4 لعل الأصل: "وأيضًا؛ فالخارج... إلخ" ليكون دليلًا ثالثًا على الكلية بالمعنيين وتكون هذه الآيات الثلاث من أوسع كلياته شمولًا، وهو ما يشير إليه قوله: "وهذا أهم ما يكون". "د". قلت: هو في "ط" كذلك: "وأيضًا؛ فالخارج...".(8/245)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، 8/ 630/ رقم 4886، 4887، وكتاب اللباس، باب الموصولة، 10/ 378/ رقم 5943، وباب المستوشمة، 10/ 380/ رقم 5948"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، 3/ 1678/ رقم 2125", والترمذي "أبواب الأدب, باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة, 5/ 104/ رقم 2782"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب لعن المتنمصات والمتفلجات، 8/ 188"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الواصلة والمستوشمة، 1/ 640/ رقم 1989"، وأحمد في "المسند" "1/ 433-434، 443، 448، 454، 462، 465" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- به.=(8/246)
ص -183-…وكانت تقرأ القرآن؛ فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا؟ فذكرته. فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله, عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الحديث.
وعبد الله من العالمين بالقرآن.
فصل
فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة؛ لأنه إذا كان كليًّا وفيه أمور جملية2 كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها؛ فلا محيص عن النظر في بيانه، وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة؛ فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا؛ فمطلق3 الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الحديث السابق، وهو لم يرفعه هنا اكتفاء بقوله: "لعن رسول الله"، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ...} إلخ [الحشر: 7]؛ فالحديث دليل تفصيلي لمسألتها والآية دليل إجمالي. "د".
2 يتأمل في الفرق بين كونه كليًّا وبين أن فيه أمورًا كلية. "د"، و"جملية" من "ط" فقط، وبدلها في غيره "كلية".
3 المراد الفهم الناشئ عن الدربة فيه كما تقدم آنفًا لا مجرد أي فهم عربي فرض. "د".(8/247)
ص -184-…المسألة السادسة:
القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم؛ فالعالم به على التحقيق عالم بجملة1 الشريعة، ولا يعوزه2 منها شيء، والدليل على ذلك أمور:
- منها: النصوص القرآنيه، من قوله3: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}4 الآية [المائدة: 3].
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}5 [الأنعام: 38].
وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يعني: الطريقة المستقيمة6، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها؛ لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة.
وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور، ولا يكون شفاء لجميع7 ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء.
- ومنها: ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك؛ كقوله, عليه الصلاة والسلام: "إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عالم بالشريعة إجمالًا، لا ينقصه من إجمالها وكلياتها شيء. "د".
قلت: انظر "مجموع الفتاوى" "17/ 443-444 و19/ 175-176، 308 و34/ 206-207"، و"جواهر القرآن ودرره" "ص26-27" للغزالي، و"النبأ العظيم" "ص117 وما بعدها".
2 في "ط": "لا يعوزه".
3 ربما يقال: إكماله بالكتاب والسنة؛ لأنه لم يقل: أكملته في خصوص الكتاب. "د".
4 {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} سقطت من الأصل.
5 بناء على أن المراد به القرآن، وفيه أقوال أخرى معتبرة. "د".
6 وهي النظام الكامل في معاملة الخلق والخالق. "د".
7 جاء به من لفظ: "ما" العام. "د".(8/248)
ص -185-…لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب1، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد..."2 إلخ؛ فكونه حبل الله بإطلاق، والشفاء النافع إلى تمامه دليل على كمال الأمر فيه.
ونحو هذا في3 حديث علي عن النبي, عليه الصلاة والسلام4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرجع عن الزيغ، ويطلب الرضا. "ف".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 6017"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 165, ط دار الفكر، و10/ 482-483/ ط الهندية"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 555"، والمروزي في "قيام الليل" "ص121"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 100"، والطبراني في "الكبير" "9/ 139/ رقم 8646"، وابن منده في "الرد على من يقول {الم} حرف/ رقم 11"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 30، 31، 32"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "58"، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" "11"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 550"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "1/ 107"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 109/ رقم 145" عن ابن مسعود مرفوعًا بهذا اللفظ، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو متروك.
وانظر: "الميزان" "1/ 166"، و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 212"، وأخرجه عن ابن مسعود مختصرًا أيضًا الدارمي في "السنن" "1/ 429"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 278" من طريق أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "4/ 252"، والشجري في "أماليه" "1/ 84" بإسناد فيه الهجري السابق، وقد أوقفه بعضهم على ابن مسعود، وهو أشبه؛ كما عند ابن المبارك في "الزهد" "279"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 462"، والفريابي في "الفضائل" "63"، وإسناده صحيح موقوفًا.
3 في الأصل و"د": "من".(8/249)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، 5/ 172/ رقم 2906"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 164"، والدارمي في "السنن" "2/ 435"، والبزار في "البحر الزخار" "3/ 70-72"، وأحمد في "المسند" "1/ 91"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 302-303/ رقم 367"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "ص123"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم..."، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322"=(8/250)
ص -186-…وعن ابن مسعود: "إنّ كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه، وإن أدب الله القرآن"1.
وسئلت عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن"2، وصدق ذلك قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وعن قتادة: "ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان"، ثم قرأ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]3.
وعن محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193]؛ قال: "هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي, صلى الله عليه وسلم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم..."، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21، 52"، والدارمي في "السنن" "2/ 433"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص289" عن ابن مسعود قوله. ورفعه بعضهم فوهم. انظر: "ضعيف الجامع" "رقم 4247".
2 مضى تخريجه "2/ 332"، وهو صحيح.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 437" عن قتادة به، وذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 320"، والغزالي في "الإحياء" في "آداب تلاوة القرآن".
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "7/ 480"، وأبو عبيد في "الفضائل" "ص24".(8/251)
ص -187-…وفي الحديث: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله"1، وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله؛ فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة.
وعن عائشة: أن من قرأ القرآن؛ فليس فوقه أحد2.
وعن عبد الله؛ قال: "إذا أردتم العلم؛ فأثيروا3 القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، 1/ 465/ رقم 673" عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص37"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155" من طريق محمد بن عبد الرحمن السدوسي عن معفس بن عمران بن حطان عن أم الدرداء عن عائشة به، وإسناده ضعيف، معفس مترجم في "الجرح والتعديل" "8/ 433"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
3 بالتفهم فيه. "د".(8/252)
4 أخرجه مسدد في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "ق 108 -ب- المسندة و3/ 133/ رقم 3079- المطبوعة"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص229"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "291-292"، والطبراني في "الكبير" "9/ 146/ رقم 8666" من طريق شعبة، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "41-42"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 814", ومن طريقه الفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 78" -وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 485"- ومن طريقه النحاس في "القطع والائتناف" "ص84"، وأبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 202-204" من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 7/ رقم 1", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "4/ 513/ رقم 1808" عن حديج بن معاوية، وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 94" من طريق زهير, والطبراني في "الكبير" "9/ 145-146/ رقم 8664 و8665" من طريق إسرائيل وزهير، خمستهم عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل البكيلي عن ابن مسعود به، وأبو إسحاق مدلس، وقد اختلط، ورواية شعبة عنه مأمونة؛ فإنه قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة"، و"هذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة, إنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع، ولو كانت معنعنة"، قاله ابن حجر، وهو -أي شعبة- ممن روى عن أبي إسحاق قبل الاختلاط؛ فطريقه صحيحة على شرط الشيخين.(8/253)
ص -188-…وعن عبد الله بن عمرو1؛ قال: "من جمع القرآن؛ فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد أدرجت2 النبوة بين جنبيه؛ إلا أنه لا يوحى إليه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل والطبعات كلها: "عمر" بضم العين، والصواب فتحها، كما في مصادر التخريج و"ط".
2 في مطبوع "فضائل القرآن" لأبي عبيد: "استدرج"، وفي "ط": "استدرجت".
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155, ط دار الفكر" عن وكيع عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف للمبهم الذي فيه، ولضعف ابن رافع.
وأخرجه من طريق ابن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الله بن عمرو به المروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 799"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "72".
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "53" عن يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ثعلبة بن أبي الكنود عن عبد الله بن عمرو به قوله.
وكذا أخرجه المروزي في "زياداته على فضائل أبي عبيد" "ص53" عن مرو بن الربيع بن طارق عن يحيى به.
وخالفه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي؛ فرواه عن عمرو بن الربيع ورفعه؛ كما عند الحاكم في "المستدرك" "1/ 552"، والموقوف أشبه، والله أعلم.
نعم، ورد في المرفوع من مرسل الحسن عند سعيد بن منصور في "السنن" "2/ 263/ رقم 68" بإسناد ضعيف جدًّا، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "تفسير القرطبي" "1/ 8- والبيهقي في "الشعب" "4/ 557 و5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، وفيه بشر بن نمير متهم، وله نسخة عن القاسم بن يزيد عن أبي أمامة -وهذا الحديث منها- ساقطة؛ كما في "الميزان" "1/ 326"، وعن ابن عمر أخرجه الخطيب في "تاريخه" "12/ 446"، وفيه إبراهيم الملطي، كان كذابًا أفاكًا يضع الحديث كما قال الخطيب.(8/254)
ص -189-…وفي رواية عنه: "من قرأ القرآن؛ فقد اضطربت النبوة بين جنبيه"1.
وما ذاك إلا لأنه2 جامع لمعاني النبوة، وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى.
- ومنها: التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلًا، وأقرب الطوائف من أعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن3 الدليل في مسألة من المسائل، وقال ابن حزم الظاهري4: "كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة، نعلمه والحمد لله، حاش القراض؛ فما وجدنا له أصلًا فيهما ألبتة"5 إلى آخر ما قال، وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة, وأصل الإجارة، في القرآن ثابت6، وبيّن ذلك إقراره عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص53" موقوفًا، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أنه".
3 لكن يقال: إن لم يجدوا في القرآن وجدوا في السنة؛ فبعض الأدلة على ما ترى، ويرشح النظر الذي أشرنا إليه ما نقله عن ابن حزم، وما عقب به على استثنائه باب القراض. "د".
4 الظاهرية هم الواقفون عند ظواهر نصوص الشريعة من غير اعتبار القياس بدعوى أنها تفي بأحكام الوقائع حيثما تجددت، ومن مقتضى مذهبهم أن الحديث متى ثبت سنده يعتبر كقاعدة مستقلة بنفسها، ويجب العمل به من غير أن تتحكم فيه القواعد بتعطيل أو تخصيص أو تقييد أو تعميم أو إطلاق... إلخ. ا. هـ. "ف".
5 انظر: "النبذ في أصول الفقه" "ص118".(8/255)
6 وذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26-27]، وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في "الأم" "3/ 250": "فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته، وكثرة اللبن وقلته، ولكن لما لم يوجد فيه إلا هذا جازت الإجارة عليه، =(8/256)
ص -190-…والسلام وعمل الصحابة به1.
ولقائل أن يقول: إن هذا غير صحيح؛ لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن، وإنما وجدت في السنة، ويصدق ذلك ما في "الصحيح" من قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكتة يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"2، وهذا ذم، ومعناه اعتماد السنة أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في مثل معناه، وأحرى أن يكون أبين منه، وقوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]، معنى هذه الآية أن موسى قال للخضر, عليهما السلام: لو شئت لاتخذت أجرًا على إقامة الجدار المنهدم، قال الماوردي في "الحاوي الكبير" "9/ 203": "فدل ذلك من قول موسى وإمساك الخضر على جواز الإجارة واستباحة الأجرة" وترجم البخاري في "صحيحه" "باب إذا استأجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا يريد أن ينقض جاز"، وأورد هذه الآية، وانظر: "الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص35-37".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، 4/ 442/ رقم 2263، وباب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، 4/ 443/ رقم 2264" عن عائشة, رضي الله عنها: "...واستأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل ثم من بني عبيد بن عدي هاديًا خريتًا... فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال...".
2 أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في "المسند" "551" -ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، والهروي في "ذم الكلام" "ص71"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2341"- عن ابن المنكدر مرسلًا، وليس الحديث في "الصحيح" كما قال المصنف.
نعم، الحديث صحيح ثابت بتعدد طرقه وشواهده، منها:(8/257)
ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200/ رقم 4604"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن نصر المروزي في "السنة" "ص116"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 549"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، والحازمي في "الاعتبار" "ص7"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 149-150"، والهروي في "ذم الكلام" "73" من طريق حريز بن عثمان عن عبد الله بن أبي عوف الجرشي عن المقدام بن معدي كرب مرفوعًا، وإسناده صحيح. =(8/258)
ص -191-…ويصححه قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59].
قال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول إذا كان حيًّا، فلما قبضه الله؛ فالرد إلى سنته"1.
ومثله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}2 الآية [الأحزاب: 36].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وتابع حريزًا مروان بن رؤبة التغلبي؛ كما عند أبي داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع، 3/ 355/ رقم 3804, مختصرًا"، والدارقطني في "السنن" "4/ 287"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 97, موارد"، وابن نصر في "السنة" "ص116"، والخطيب في الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، وابن رؤبة مقبول، وقد توبع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي, صلى الله عليه وسلم 5/ 38/ رقم 2669"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ على من عارضه، 1/ 6/ رقم 12"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والدارمي في "السنن" "1/ 144"، والدارقطني في "السنن" "4/ 286"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 76"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 88"، و"الكفاية" "8-9"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2343"، والحازمي في "الاعتبار" "ص245"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "ص3"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب، وذكر لفظًا نحوه، وسيأتي عند المصنف "ص323"، والحسن بن جابر وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول"، وفي الباب عن جماعة كما سيأتي "ص323".(8/259)
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "5/ 96"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 58، 59، 85"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 72-73/ رقم 76"، والهروي في "ذم الكلام" "ص76"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2328، 2344"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 474"، وابن شاهين في "السنة" "45"، والخطيب في "الفقيه" "1/ 144" بإسناد حسن، وذكره البيهقي في "الاعتقاد" "ص129"، وأسنده في "المدخل" كما في "مفتاح الجنة" "ص20".
2 {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ساقطة من الأصل.(8/260)
ص -192-…[ولا] يقال1: إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله لقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44], وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول: إن كانت السنة بيانًا للكتاب؛ ففي أحد قسميها، فالقسم الآخر2 زيادة على حكم الكتاب؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو [على] خالتها3، وتحريم الحُمر الأهلية4، وكل ذي ناب من السباع5.
وقيل لعلي بن أبي طالب: "هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب أن يكون قد سقط منه كلمة "لا"؛ فهو ينفي من أول الأمر صحة أن يكون هذا جوابًا ويدفع توهم الإجابة به، أما ما قيل من أصله "ويمكن أن يقال"؛ فإنه لا يناسب قوله بعد: "لأنا نقول"؛ إذ هو تعليل لنفي صحة الإجابة به لا لإمكانها. "د".
قلت: وهذا رد على "ف"؛ حيث قال: "ويمكن أن يقال: أي: جوابًا عن قوله، ولقائل... إلخ، وقوله: "لأنا نقول" رد لهذا الجواب". قلت: والمثبت من "ط" فقط.
2 لعله: "والقسم" بالواو، وسيأتي هذا التقسيم. "ف".
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 82"، وما بين المعقوفتين ليس في "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 7/ 467-468/ رقم 4198، 4199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحُمر الإنسية، 3/ 1540/ رقم 1940" عن أنس؛ قال: ".... فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس أو نجس".
وفي الباب عن جماعة من الصحابة.(8/261)
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" عن أبي جحيفة؛ قال: قلت لعلي... وذكره.
وانظر دراسة توثيقية فقهية جيدة عن "صحيفة علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في دراسة مستقلة للدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، طبع دار السلام - القاهرة، سنة 1406هـ.(8/262)
ص -193-…وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله؛ ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله، وهو خلاف ما أصلت.
والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني، وهو السنة1 بحول الله.
ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن عليّ أن أقل: الحمل2 ستة أشهر انتزاعًا من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}3 [لقمان: 14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الرابعة هناك التفصيل الوافي في السؤال والجواب. "د".
2 جعلوه في الأصول من باب دلالة المنطوق غير الصريح، من نوع دلالة الإشارة، وهو ما كان لازمًا لم تقصد إفادته، ومثله دلالة الحديث: "تمكث شطر دهرها لا تصلي" على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا. "د". قلت: إلا أن حديث "تمكث..." لم يصح؛ كما فصلناه في التعليق على "2/ 152"، والمثبت من "ط" وفي غيره: "علي أنه قال: الحمل..."!!
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825, رواية يحيى"، ومن طريقه إسماعيل بن إسحاق القاضي في "أحكام القرآن"، كما في "المعتبر" "رقم 208"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442-443" أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}؛ قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر.(8/263)
ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه" كما في "الاستذكار" "24/ 73"، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "35/ 102"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 214", من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني به مطولًا، قال ابن حجر: "هذا موقوف صحيح"، وقال: =(8/264)
ص -194-…واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء1 من قوله2: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية [الحشر: 10].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإنه من شيوخه".
ثم قال: "وقد أخرج إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بسند له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في نحو هذه القصة الذي جرى لعلي؛ فاحتمل أنه كان محفوظًا أن يكون توافق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًّا".
قلت: وأخرج ما جرى وابن عباس مع عثمان: ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 977، 978"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 34, ط شاكر"، وسعيد بن منصور في "سننه" "3/ 2/ 69"، وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 351، 352"، وهذه رواية ثقات أهل مكة، والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يرونها لعمر بن علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442".
وانظر: "الاستذكار" "24/ 74-75"، و"المعتبر" "ص194" للزركشي، و"تفسير ابن كثير" "4/ 136، 157".
1 ذكره عن مالك أيضًا البغوي في "شرح السنة" "1/ 229"، والقاضي عياض في "الشفا" "2/ 268"، والقرطبي في "تفسيره" "16/ 296-297و18/ 32"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 97"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص76, بتحقيقي"، وابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" "252".
وأخرجه عنه مسندًا ابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 190"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ رقم 2400"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 327"، وابن عبد البر في "الانتقاء" "35"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 32، 33, بتحقيقي"، والخطيب كما قال القرطبي في "التفسير" "16/ 296-297"، وهو صحيح عنه.(8/265)
2 رأى ابن عمر كما في "صحيح أبي داود" أن آية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه....} إلخ [الحشر: 7] استوعبت ما ذكر فيها وما بعده من الفقراء والمهاجرين والذين تبوءوا الدار والذين جاءوا من بعدهم؛ فجعل مالك قولهم: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] شرطًا لاستحقاقهم في الفيء؛ لأن قوله: "يقولون" حال؛ فهو قيد في الاستحقاق من الفيء، وأي غل أعظم من غل من يسب الصحابة؟ أما على رأي من يجعل قوله: "للفقراء... إلخ" كلامًا مستأنفًا؛ فلا يظهر وجه الاستدلال به. "د".(8/266)
ص -195-…وقول من قال: "الولد لا يملك"1: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وقول ابن العربي2: "إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانًا" من قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} [العلق: 2].
واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية3 بقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78].
وأغرب [من]4 ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرءوس إلى جانب عند الإباية والإيماء بها سفلًا عند الإجابة5 أولى مما يفعله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه رد عليهم بأنهم عباد الله، جمع عبد، فمعناه أنه كيف يجمع بين كونهم عبادًا وهو مسلم وبين كونهم أولاد الله؟ يعني: ولا يتأتى ذلك لما هو مسلم من أن الولد لا يملك لوالده للتنافي في اللوازم؛ فالقرآن يقرر هذا الحكم بهذه الدلالة الإشارية. "د".
قلت: انظر: "الإكليل" للسيوطي "ص179".
2 في "أحكام القرآن" "4/ 1955".
3 واستنبط السيوطي في "الإكليل" "163" منها على أن الأصل في الناس الجهل حتى يبحثوا عن العلم.
4 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وأثبتناها من "م"، وكتب "ف": "الأنسب "وأغرب من ذلك"".
5 على فرض أنها تفيد أن الإيماء إلى جانب فيه الإباية؛ فليس في الآية ما يفيد أن الإيماء سفلاً فيه الإجابة، وأيضًا؛ فأصل الكلام إنكار لفعلهم هذا، وأن عادتهم كانت كذلك، وليس فيه إقرار لفعلهم حتى تؤخذ الأولوية للإشارة عند الإباية بليّ الرءوس؛ فلذا عده غريبًا، ولو أطلق عليه أكثر من ذلك لحق له. "د".(8/267)
ص -196-…المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} الآية [المنافقون: 5].
وكان أبو بكر الشبلي الصوفي إذا لبس شيئًا خرق فيه موضعًا؛ فقال له ابن مجاهد: أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ فقال: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}1 [ص: 33]. ثم قال الشبلي: أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد وقال له: قل: قال قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية [المائدة: 18].
واستدل بعضهم2 على منع سماع المرأة بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية [الأعراف: 143].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إفساد المال في شريعتنا غير جائز، وخوف الاشتغال به لا يجيز إفساده، وطرق التحفظ من الاشتغال به كثيرة منها الهبة والصدقة وغيرهما، وشرع من قبلنا يعمل به ما لم ينسخ، على أنه إذا كان المسح برقاب الخيل وسوقها معناه ضربهما بالسيف كما قاله الجمهور, لا المسح باليد عند استعراضها لتفقد أحوالها وإصلاح شأنها كما قال الفخر الرازي والطبري، وكما روى عن ابن عباس والزهري، فأما أن يكون ذلك في شريعته للتقرب بذبحها كما يتقرب النعم، وأما أن يكون مجرد خدش ليكون علامة على تحبيسها في سبيل الله على حد وسم إبل الصدقة، قال الآلوسي: "أما إنه أتلفها غضبًا لأنها شغلته؛ فقول باطل لا ينظر إليه" ا. هـ. وهذا كله داخل تحت قوله: "وفي بعض هذه الاستدلالات نظر". "د".
قلت: قال القرطبي في "تفسيره" "15/ 197": "وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا، وهو استدلال فاسد".(8/268)
2 رتب موسى -عليه السلام- طلب النظر على تكليم الله تعالى له؛ ففهم هذا البعض أن موسى بنى هذا على أن من يجوز سماع كلامه يجوز النظر إليه وبالعكس, وحيث إن المرأة لا تجوز رؤيتها باتفاق؛ فلا يجوز سماع كلامها، وما أبعد هذا لا سيما مع ملاحظة الفرق في مادة الجواز؛ ففي مسألة موسى الجواز عقلي، ومسألة رؤية المرأة وسماع كلامها الكلام فيه من أحكام التكليف الخمسة، فلما لم تجز رؤية المرأة والنظر إليها باتفاق؛ لم يجز سماع كلامها. "د". قلت: والصواب أن النساء يرين الله تعالى، والأدلة على ذلك كثيرة، وانتصر لهذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفردة موجودة في "مجموع الفتاوى" "6/ 401-460"، وكذا السيوطي في "تحفة الجلساء في رؤية الله للنساء"، وهي مطبوعة في "الحاوي للفتاوى" له "2/ 198-201".(8/269)
ص -197-…وفي بعض هذه الاستدلالات نظر.
فصل:
وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن، فإن وجدت منصوصًا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها؛ فذاك، وإلا؛ فمراتب النظر فيها متعددة، لعلها تذكر بعد في موضعها, إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي؛ فإما مقطوع به، أو راجع إلى مقطوع1 به، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم؛ فهو أول مرجوع إليه، أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة، فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد، كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد، وهو أضعف، وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلًا يرجع إليه، أو دينًا يدان الله به؛ فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد2 كما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "المقطوع".
2 كلام المصنف هنا مبني على أصل عنده، سيأتي ذكره في "ص316"، من أن السنة لا يوجد فيها شيء إلا وله أصل في القرآن؛ فانظره ومناقشته هناك.(8/270)
ص -198-…المسألة السابعة:
العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم1 اللغة العربية التي لا بد منها وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا نظر فيه هنا.
ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك؛ فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضًا ولا يكون كذلك، كما تقدم2 في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6].
وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"3 أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.
وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك4 العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العلم".
2 في "1/ 51-52".
3 وهو مطبوع، والمذكور فيه: "ص19 وما بعدها".
4 في "ط": "ترك".(8/271)
ص -199-…وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير؛ فأبو حامد1 ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.
وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، وذلك ما فيه من دلالة النبوة، وهو كونه معجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا المعنى ليس مأخوذًا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية؛ إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر، بل ماهيته هي المعجزة له، حسبما نبه عليه [قوله عليه]2 الصلاة والسلام: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"3؛ فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول -عليه الصلاة والسلام- وفيها عجز الفصحاء اللسن، والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه، ووجه كونه معجزًا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع؛ لأنه كيفما تصور4 الإعجاز به؛ فماهيته هي الدالة على ذلك؛ فإلى أي نحو منه ملت دَلَّك [ذلك]5 على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا القسم أيضًا لا نظر فيه هنا، وموضعه كتب الكلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لطيف ما قيل عنه عبارة ابن العربي: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع".
انظر: "الصفدية" "1/ 211"، و"السير" "19/ 327"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 66، 164".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 مضى تخريجه "ص180".
4 في "ط": "يتصور".
5 ليست في الأصل ولا في "ط".(8/272)
ص -200-…وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيًّا يدخل تحت نيل أفهامهم، مع أنه المنزه القديم، وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد، وهو أصل التخلق1 بصفات الله والاقتداء بأفعاله.
ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية، والمحاسن الأدبية؛ فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد:
- فمن ذلك: عدم المؤاخذة قبل الإنذار، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولكل جزاء مثله.
- ومنها: الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق؛ فإنه تعالى أنزل القرآن برهانًا في نفسه على صحة ما فيه، وزاد على يدي رسوله -عليه الصلاة والسلام- من المعجزات ما في بعضه الكفاية2.
- ومنها: ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل المعاندين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر ابن تيمية في "الصفدية" "2/ 337"، وابن القيم في "بدائع الفوائد" "1/ 164" و"عدة الصابرين" "36" أن هذه العبارة غير سديدة، وأنها منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة، وبينا أن هذا مسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية، وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعًا لهم في الحلول والاتحاد، وذكرا أن الأحسن من هذه العبارة التعبد، وأحسن منها -بالعبارة المطابقة للقرآن- وهي الدعاء، المتضمن للتعبد والسؤال.(8/273)
2 في "ف": "ما فيه"، وقال: "لعله "ما في بعضه الكفاية".(8/274)
ص -201-…بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان، وإن استعجلوا به.
- ومنها: تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا؛ كقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43، والمائدة: 6].
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
وقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} [المائدة: 75].
حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به1؛ فلا بد منه، وإليه الإشارة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53].
- ومنها: التأني في الأمور، والجري على مجرى التثبت، والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا؛ فلقد أنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجومًا في عشرين سنة؛ حتى قال الكفار: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
فقال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].
وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "به".(8/275)
ص -202-…وجهة وإلى كل محتاج إليه، وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا1 بالتغليظ بالدعاء؛ فشرع الجهاد لكن على تدريج2 أيضًا، حكمة بالغة، وترتيبًا يقتضيه العدل والإحسان، حتى إذا كمل3 الدين، ودخل الناس فيه أفواجًا، ولم يبق لقائل ما يقول؛ قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة، ووضحت المحجة، واشتد أس4 الدين، وقوي عضده بأنصار الله؛ فلله الحمد كثيرًا على ذلك.
- ومنها: كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء؛ فقد بين مساق القرآن آدابًا استقرئت منه، وإن لم ينص عليها بالعبارة؛ فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا بـ"يا" المشيرة إلى بعد المنادي لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة:
- منها: إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه؛ فدل على استشعار الراغب هذا المعنى؛ إذ لم يأت في الغالب إلا "ربنا" "ربنا" كقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا}5 [البقرة: 286].
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بدئ".
2 كما سبق إذن لا إيجاب، ثم إيجاب لمقاتلة من يلونهم من الكفار، ثم مقاتلة المشركين كافة. "د".
3 في الأصل: "أكمل".
4 في الأصل: "أمر".
5 وهذا وما ماثله وإن كان على لسان العباد؛ إلا أنه بتعليمه تعالى لهم؛ فلا يقال: إن هذا حكاية لما قالوه، ولا يتأتى أن يغير شيئًا منها بحذف حرف النداء ليعلمنا بذلك شيئًا من آداب مخاطبته تعالى. "د".(8/276)
ص -203-…{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35].
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260].
- ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد1 وإصلاحها؛ فكأن العبد متعلق2 بمن شأنه التربية والرفق والإحسان، قائلًا: يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا، وهو مقتضى ما يدعو به، وإنما أتى "اللهم" في مواضع قليلة، ولمعانٍ اقتضتها الأحوال.
- ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب3؛ كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الآية [الفاتحة: 5-6].
{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران: 16].
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آل عمران: 53].
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191].
{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} الآية [يونس: 88].
{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ....} إلى قوله: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 21-28].
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127].
إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.
ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال، والتخلق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العبد".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فكان العبد متعلقًا".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 284-286".(8/277)
ص -204-…بالصفات، تضاف إلى ما هنا، وقد تقدم1 أيضًا منه جملة في كتاب المقاصد.
والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.
وقسم هو المقصود الأول2 بالذكر، وهو الذي نبه عليه العلماء، وعرفوه مأخوذًا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها، على حسب ما أداه اللسان العربي فيه، وذلك أنه محتوٍ من العلوم3 على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول4:
أحدها: معرفة المتوجه إليه، وهو الله المعبود سبحانه.
والثاني: معرفة كيفية التوجه إليه.
والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه.
وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود، عبر عنه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]؛ فالعبادة هي المطلوب الأول، غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود؛ إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها، فإذا عرف -ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناهٍ وطالب للعباد بقيامهم بحقه- توجه الطلب؛ إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد؛ فجيء بالجنس الثاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الخامسة من النوع الثاني، وجعل دلالة الكلام على هذه الآداب من نوع الدلالة التبعية، وبسط المقام هناك؛ فراجعه ليتبين به بعض الحاصل الذي أشار إليه بعد. "د".
2 وهو من قسم الدلالة على المعنى الأصلي. "د".
3 في الأصل: "محتوى العلوم".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 20-36".(8/278)
ص -205-…ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات، وكان مآل الأعمال عائدًا على العاملين، بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحًا لهذا الطرف، وأن الدنيا ليست بدار إقامة، وإنما الإقامة في الدار الآخرة.
فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال، ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات؛ لأنها الوسائط بين المعبود والعباد، وفي كل أصل ثبت للدين علميًّا كان أو عمليًّا، ويتكمل بتقرير البراهين، والمحاجة لمن جادل خصمًا من المبطلين1.
والثاني: يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات، وما يتبع كل واحد منها من المكملات، وهي أنواع فروض الكفايات، وجامعها2 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به.
والثالث: يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه، ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "خصماء المبطلين"، وفي "ط": "من خصماء المبطلين".
2 أي: الجامع من بين فروض الكفايات الذي يتعلق بكل مطلوب وكل منهي عنه في الشريعة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب، بخلاف فروض الكفايات الأخرى؛ كالولايات العامة، والجهاد، وتعليم العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة، هنا معنى الجمع، وليس المراد بكونه جامعها أنه كلي لها، وأنها جزئيات مندرجة تحته؛ فإنه لا يظهر. "د".(8/279)
ص -206-…وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علمًا1، وقد حصرها الغزالي2 في ستة أقسام: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي توابع ومتممة.
فأما الثلاثة [الأول]3؛ فهي تعريف المدعو إليه، وهو شرح معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة، والتزكية عن الأخلاق الذميمة، وتعريف الحال عند الوصول إليه، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.
وأما الثلاثة الأخر؛ فهي تعريف4 أحوال المجيبين للدعوة، وذلك قصص الأنبياء والأولياء، وسره الترغيب، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله، وسره الترهيب، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة، وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه، وذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- بما لا يليق به، وادكار5 عاقبة الطاعة والمعصية، وسره في جنبة الباطل التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح، والتعريف بعمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن كل واحد من الأجناس الثلاثة تحته ثلاثة أنواع من العلم، ولكل جنس مكمل، أما الغزالي؛ فجعل الأجناس الثلاثة علومًا ثلاثة فقط، بدون مراعاة تعدد ما اندرج تحتها والنظر في شعبها، غير أنه جعل الثاني تعريف طريق السلوك إليه بالتحلية والتزكية، وجعل التعريف بالعبادات والمعاملات... إلخ من التوابع والمتممات، وعليك بالمقارنة بين اعتباراته والاعتبارات السابقة، واعتباره أنسب بمقام الصوفية. "د".
2 في كتابه "جواهر القرآن" "ص9 وما بعدها".
3 زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وسقطت من "ف" و"د".
4 فالتعريف الأول مكمل للثالث، والتعريف الثاني مكمل للأول، والتعريف الثالث تابع ومكمل للثاني. "د".
5 في "ط": "وإنكار"!!(8/280)
ص -207-…الأهبة والزاد، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة، وهي: ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب1 التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جانبا".(8/281)
ص -208-…المسألة الثامنة:
من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا1، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار؛ فعن الحسن مما أرسله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن -بمعنى ظاهر وباطن- وكل حرفٍ حدّ، وكل حد مطلع"2.
وفسر3 بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو الفهم عن الله لمراده؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].
والمعنى: لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا4 بفهم مراد الله من الكلام، وكأن هذا هو معنى ما روي عن عليّ أنه سئل: هل عندكم كتاب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "قانون التأويل" "ص196"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 230 وما بعدها".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص43" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "1/ 262/ رقم 122"- بإسناد ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وهو مرسل.
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" "رقم 11, ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10090"، والبزار في "المسند" "رقم 2312"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 276/ رقم 75, الإحسان" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن".
وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 10" من طريق آخر بإسناد فيه مبهم؛ فهو ضعيف، وتكلم البغوي على شرح هذا الحديث بكلام مسهب حسن؛ فراجعه، وانظر أيضًا: "فهم القرآن" للمحاسبي "ص328".
3 المذكور في "تفسير سهل التستري" "ص3".
4 في "ط": "يخصوا".(8/282)
ص -209-…فقال: لا؛ إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة1. الحديث، وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث؛ إذ قال: "الظهر هو الظاهر والباطن2 هو السر"3.
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فظاهر المعنى شيء، وهم عارفون به؛ لأنهم عرب والمراد شيء آخر، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله، وإذا حصل التدبر لم يوجد4 في القرآن اختلاف ألبتة؛ فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه، ولما قالوا في الحسنة: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ} [النساء: 78]، وفي السيئة: هذا من عند رسول الله، بين لهم أن كلًّا من عند الله، وأنهم لا يفقهون حديثًا، لكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلًّا من عند الله بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الآية [النساء: 79].
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن؛ فلم يحصل منهم تدبر، قال بعضهم: "الكلام في القرآن على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص192"، وهو صحيح.
2 كذا في الأصل وجميع الطبعات، والصواب: "والبطن".
3 أخرجه عنه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "43".
4 فإن الاختلاف إنما جاء من الوقوف عند بعض الظواهر، وضرب بعضها ببعض، وعدم التدبر في فقه النصوص حتى تتفق في المقصود منها، وذلك بتفسير بعضها ببعض بتخصيص أو تقييد أو تعميم، وهكذا من وجوه الفهم التي ترشد إليها المقاصد الشرعية وسائر أدوات الفهم الستة المتقدمة في المسألة السابعة. "د".(8/283)
ص -210-…أحدهما: يكون برواية؛ فليس يعتبر فيها إلا النقل.
والآخر: يقع بفهم؛ فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار1 حكمة على لسان العبد" وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي.
وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي، والباطن هو مراد2 الله تعالى من كلامه وخطابه، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر؛ فصحيح ولا نزاع فيه، وإن أرادوا غير ذلك؛ فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلومًا عند الصحابة ومن بعدهم؛ فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب، فلا يكون ظنيًّا، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل، وإذا تقرر هذا؛ فلنرجع إلى بيانهما3 على التفسير المذكور بحول الله.
وله أمثلة تبين معناه بإطلاق؛ فعن ابن عباس قال: "كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتدخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث تعلم. فسألني عن هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، فقلت: إنما هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه إياه، وقرأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قصد إظهار حكمة؛ فهو مفعول لأجله مضاف؛ أي: يريد الله إظهار سر ومعنى من المعاني الخفية على لسان عبد من أصفيائه. "د".
قلت: وفيه تعريض بـ"ف" حيث قال: "لعله إظهار لحكمه على لسان العبد".
2 أي: الذي يتوصل إليه بالوسائل التي أشار إليها سابقًا، وإلا؛ فالزائغون يدعون أن تأويلاتهم الزائغة هي مراد الله تعالى، لكنه يحتاج في بعض ذلك إلى زيادة بصيرة كما في مسألة ابن عباس وعمر المذكورة، وسيأتي له في فصل المسألة التابعة شرطان يستقر عليهما ما يعنيه بالباطن المراد لله تعالى، وينزاح بتحققها دعاوى الزائفين والمحرفين. "د".
3 أي: الظاهر والباطن على التفسير الذي ارتضاه. "د".(8/284)
ص -211-…السورة إلى آخرها. فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم"1.
فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه.
ولما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؛ فرح الصحابة وبكى عمر، وقال: "ما بعد الكمال إلا النقصان"2 مستشعرًا نعيه -عليه الصلاة والسلام- فما عاش بعدها إلا واحدًا وثمانين يومًا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب إذا جاء نصر الله والفتح، 8/ 20/ رقم 4294، وباب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، 8/ 130/ رقم 4430، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاس...}، 8/ 734/ رقم 4969، وباب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}، 8/ 734/ رقم 4970"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة النصر، 5/ 450/ رقم 3362" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 337، 344 مختصرًا"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 321/ رقم 10617"، والحاكم والبزار وابن سعد كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 321".
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140, ط دار الفكر" عن محمد بن فضيل، وابن جرير في "تفسيره" "6/ 52" من طريق سفيان عن ابن فضيل، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154" من طريق سهل بن عثمان، كلاهما "هو وابن فضيل" عن هارون بن عنترة عن أبيه؛ قال: لما نزلت وذكر نحوه، ومضى لفظه عند المصنف "1/ 152"، وأخرجه ابن جرير من طريق أحمد بن بشير عن هارون به.
وإسناده ضعيف، أبو هارون عنترة بن عبد الرحمن، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، روى له النسائي حديثًا واحدًا عن ابن عباس، وروايته هذه مرسلة، وانظر: "الدر المنثور" "3/ 18".(8/285)
وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 24": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا؛ فطوبى للغرباء". قلت: انظر ما قدمناه "1/ 151".
3 أسنده ابن جرير في "التفسير "6/ 80" عن ابن جريج، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 416, ط لبنان"، وابن كثير في "التفسير" "2/ 14".(8/286)
ص -212-…وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوت اتَّخَذَتْ بَيْتًا}1 الآية [العنكبوت: 41]، قال الكفار: ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن؟ ما هذا الإله2؛ فنزل3: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]؛ فأخذوا بمجرد الظاهر، ولم ينظروا في المراد، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية [البقرة: 26].
ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا، واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل، وترك ما هو مقصود منها، وهو كونها مجازًا ومعبرًا لا محل سكنى، وهذا هو باطنها على ما تقدم4 من التفسير.
ولما قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} [المدثر: 30] نظر الكفار إلى ظاهر العدد؛ فقال أبو جهل, فيما روي5: لأنه يعجز كل عشرة منكم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} من الأصل.
2 في الأصل: "الآله".
3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ رقم 281" عن ابن جريج به، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره""1/ 41" عن قتادة به، وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" عن عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وذكر نحوه.
قال السيوطي في "لباب النقول" "19": "عبد الغني واه جدًّا"، وقال: "وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية". وانظر -لزامًا- "3/ 514".
وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
4 وسيأتي له مزيد بسط في المسألة الثالثة من مبحث التعارض. "د".
5 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "29/ 159" عن ابن عباس بإسناد ضعيف فيه مجاهيل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 2/ 329"، وابن جرير في "التفسير" "29/ 159-160"، وعبد بن حميد -كما في "الدر المنثور" "8/ 333"- عن قتادة به.(8/287)
ص -213-…يبطشوا برجل منهم. فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً...} إلى قوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31].
وقال: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]؛ فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا1، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...} الآية [لقمان: 6] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة للمحسنين، ناظره2 الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء3؛ فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله.
وقال تعالى في المنافقين: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يومئ المصنف إلى مقولة عبد الله بن أبي، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة "المنافقون"، 8/ 644/ رقم 4900-4904" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي -أو لعمر- فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون}، فبعث إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ؛ فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد".(8/288)
2 لعله: "وناظره". "ف". وفي "ط": "ناظره الكفار".
3 الخبر بالتفصيل عند الواحدي في "الوسيط" "3/ 440-441"، و"أسباب النزول" "232-233"، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" "ص169" لجويبر عن ابن عباس، وكذا فعل في "الدر المنثور" "6/ 504"، وعزاه فيه أيضًا إلى البيهقي في "الشعب" "4/ 5194".(8/289)
ص -214-…[الحشر: 13]، وهذا عدم فقه منهم؛ لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو مصرف الأمور؛ فهو الفقيه، ولذلك قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
وكذلك قوله تعالى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] لأنهم نظر بعضهم1 إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا.
فاعلم2 أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم؛ فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر، وعدم اعتبارهم للمراد منه، وإذا أثبت ذلك؛ فهو لفهمهم مراد الله من خطابه، وهو باطنه.
فصل:
فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها؛ فهو داخل تحت الظاهر.
فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا3} [الأنعام: 125]، وبين ضائق في قوله: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُك} [هود: 12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأن المنافقين حينما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، وهم في محفل تبليغ الوحي ليتواطئوا على الهرب كراهة سماعها، قائلين إشارة: هل يراكم من أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس؟ كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية [التوبة: 157]. "ف".
2 لعله: "واعلم" بصيغة الأمر وبالواو. "ف".
3 صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يريد الله أن يضله بخلاف "ضائق" اسم الفاعل الدال على الحدوث والتجدد، وأنه أمر عارض له, صلى الله عليه وسلم. "د".(8/290)
ص -215-…والفرق1 بين النداء بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}2، أو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا}3، وبين النداء بـ{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}4، أو بـ{يَا بَنِي آدَمَ}5.
والفرق بين ترك العطف في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}6 [البقرة: 6]، والعطف في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين.
والفرق بين تركه أيضًا في قوله: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154]، وبين الآية الأخرى: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}7 [الشعراء: 186].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويبقى الكلام في أن هذا الفرق يرجع في جميع ما ذكره إلى المعاني الثانوية التي هي منازع بيانية، أو أنه يرجع إلى المعاني الوضعية في بعض الأمثلة. "د".
2 مدني خاص. "د".
3 مكي خاص. "د".
4 للناس كافة. "د".
5 للناس كافة. "د".
6 المقصود بما قبله بيان حال الكتاب تقريرًا لكونه يقينًا لا شك فيه، وفي ضمن هذا البيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال، بحيث لا يجدي فهم الإنذار ولا يستفيدون من الكتاب؛ فالآية تكميل لما قبلها؛ فالمحل للفصل، أما آية: {وَمِنَ النَّاس}؛ فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس على صنفين مهتد هاد، وضال مضل، وبينهما التضاد؛ فالمحل للوصل، فقوله: "وكلاهما تقدم عليه... إلخ"، يعني: الذي كان يقتضي الوصل لشبه التضاد المعتبر جامعًا، وهذا من المنازع البلاغية وكذلك الأمثلة بعده كما سيقول: "من الأمور المعتبرة... إلخ"، وإن كانت حروف النداء المتقدمة من أصل الوضع والمعاني الأولية، ومثله يقال في دلالة الفعل واسم الفاعل. "د".(8/291)
7 أدخل الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلًّا من التسحير والبشرية مناف للرسالة، أما في آية: {مَا أَنْت}؛ فإنما قصدوا كونه مسحرًا وأكدوه بأنه بشر مثلهم، وفي "الكشاف" "3/ 125": "غير هذا الوجه مما يقتضي أن كلًّا له موضع اختصاصه، هذا ومعلوم أن الآيتين في قصتين =(8/292)
ص -216-…والفرق بين الرفع1 في قوله: {قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]، والنصب فيما قبله من قوله: {قَالُوا سَلامًا} [هود: 69].
والفرق بين الإتيان بالفعل2 في التذكر من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201]، وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} [الأعراف: 201].
أو3 فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}4 [الأعراف: 131]، وبين "جاءتهم" و"تصبهم" بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لقصد الثبات؛ فيكون تحيته أحسن من تحيتهم؛ لأنهما جملة اسمية. "د".
2 لأنه يحدث بعد مس الشيطان ويتجدد بسبب المس، بخلاف الإبصار بالحق؛ فهو ثابت له قائم بهم لأن اسم الفاعل حقيقة فيمن قام به الفعل، وقد يغطيه مس الشيطان؛ فتجدد التذكر، يكشف هذا الغطاء ليتجلى لهم الحق الذي عهدوه قائمًا بنفوسهم؛ أي: يفاجئهم قيام البصيرة بهم دفعة بخلاف التذكر. "د".
انظر: "نظم الدرر" "8/ 206".
3 الأنسب: "وفهم" بالواو. "ف".
4 المراد بالحسنة ما يستحسنونه من الخصب والرخاء والعافية، ولما كانت هذه الحسنات شائعة عامة الوقوع بمقتضى العناية الإلهية بسبق الرحمة وشيوع النعمة كانت متحققة؛ فجيء فيها بالماضي وبإذا وتعريف الحسنة، ولما كانت السيئة التي يراد منها أنواع البلاء نادرة الوقوع ولا تتعلق الإرادة بها إلا تبعًا؛ فإن النقمة بمقتضى العناية الإلهية إنما تستحق بالأعمال جيء فيها بأداة الشك، ولفظ الفعل المستقبل، وتنكير السيئة. "د".
قلت: انظر "الكشاف" "2/ 84"، وكلام الشارح منه.(8/293)
ص -217-…وكذلك قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}1 [الروم: 36] مع إتيانه بقوله: {فَرِحُوا} بعد إذا و{يَقْنَطُونَ} بعد إن، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي؛ فقد حصل فهم ظاهر القرآن.
ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة؛ فقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية [البقرة: 23].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود: 13]، وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها؛ إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة، ولأنهم دعوا [وتحدوا] وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله، فإذا عرفوا عجزهم عنه؛ عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان، وهو باب2 التوفيق والفهم لمراد الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا معبرًا بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة، إشارة إلى سعة جوده، وقال: {وَإِن} بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجودًا، وقال: {تُصِبْهُم} غير مسند لها إليه تأديبًا لعباده، وإعلامًا بغزير كرمه، قاله النقاعي في "نظم الدرر" "15/ 95"، والتعبير بالمضارع في {يَقْنَطُونَ} لرعاية الفاصلة، والدلالة على الاستمرار في القنوط، قاله الآلوسي في "تفسيره" "21/ 43".(8/294)
2 أي: فالإعجاز الذي يترتب على فصاحته يقصد منه أثره، وهو رجوعهم بسبب العجز إلى تصديقه والتفهم في مراده، فما كان مؤديًا إلى العجز عن المعارضة وإلى أصل الاعتراف بصدقه يكون من الظاهر، وما يجيء بعد ذلك من ثمرة الاعتراف وهو فهم المعاني التي يتحقق بها للعبد وصف العبودية والقيام بموجبها؛ فذلك من الباطن المراد والمقصود من الإنزال. "د".(8/295)
ص -218-…وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية، والإقرار لله بالربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله.
ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفًا، ومن ذلك أنه لما نزل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، قال أبو الدحداح: إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا، هذا معنى الحديث1، وقالت2 اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]؛ ففهم أبي الدحداح هو الفقه، وهو الباطن المراد، وفي رواية: قال أبو الدحداح: يستقرضنا وهو غني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم ليُدخلكم الجنة". وفي الحديث قصة3، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير، عافانا الله من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نصه وتخريجه قريبًا إن شاء الله.
2 راجع: "روح المعاني" في الآية. "د".(8/296)
3 أخرج الحسن بن عرفة في "جزئه" "رقم 87"، وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 301/ رقم 764"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 404/ رقم 4986"، والبزار في "مسنده" "1/ 447/ رقم 944, زوائده"، وابن حيويه في "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص59-60"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 306"- من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، قال أبو الدحداح: يا رسول الله, وإن الله يريد منا القرض!! قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك. قال: فناوله، قال: فإني أقرضت ربي حائطًا لي فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط، وأم الدحداح فيه وعيالهم فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي، قد أقرضت ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة.
وفي سنده حميد الأعرج، قال البخاري: "منكر الحديث"، انظر: "التاريخ الكبير" "1/ 2 =(8/297)
ص -219-….....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=/ 354"، و"التاريخ الصغير" "2/ 108"، و"الضعفاء الصغير" "31".
وقال النسائي: "متروك الحديث"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "33"، وقال الدارقطني: "متروك"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 167"، وضعفه أحمد وابن معين والترمذي.
وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء، كذا قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" "3/ 47".
ولهذا السند علة أخرى وهي الانقطاع بين عبد الله بن الحارث وابن مسعود, قال أبو حاتم في ترجمته "حميد الأعرج": "قد لزم عبد الله بن الحارث من ابن مسعود، ولا نعلم لعبد الله عن ابن مسعود شيئًا"، انظر: "الجرح والتعديل" "1/ 2/ 226"، وقال ابن حبان في ترجمة حميد أيضًا: "يروي عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج بخبره إذا انفرد، وليس هذا بصاحب الزهري، ذاك حميد بن قيس الأعرج". انظر: "المجروحين" "1/ 262".
وقال الدارقطني: "حميد متروك، أحاديثه تشبه الموضوعة، وهو كوفي، وعبد الله بن الحارث كوفي ثقة، ولم يسمع من ابن مسعود". انظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني" "ترجمة رقم 98", وانظر: "الكامل في الضعفاء" "2/ 689"، و"الضعفاء الكبير" "1/ 268" للعقيلي.
والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 746" إلى سعيد بن منصور وابن سعد والبزار وابن المنذر والحكيم الترمذي والبيهقي.
وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وأورده ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 105/ رقم 4080"، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال: "فيه ضعف"، ونقل الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عن البوصيري قوله: "رواه أبو يعلى بسند ضعيف".(8/298)
قلت: وهذا هو الصحيح لما تقدم، بل ذكره الهيثمي نفسه "3/ 113-114"، وعزاه للبزار، وقال: "وفيه حميد بن عطاء الأعرج، وهو ضعيف".
قلت: وللحديث علة ثالثة، وهي تغير خلف بن خليفة واختلاطه.
قال ابن سعد: "تغير قبل موته واختلط"، وقال أحمد: "رأيت خلفًا مفلوجًا لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا؛ فسماعه صحيح، أتيته فلم أفهم عنه؛ فتركته". انظر "ميزان الاعتدال" "1/ 659-660". =(8/299)
ص -220-…ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرًا لما أنعم الله به عليه، ألا ترى قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وفي الأخرى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].
والشكر ضد الكفر؛ فالإيمان وفروعه هو الشكر، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد؛ فهو الذي فهم المراد من الخطاب، وحصل باطنه على التمام، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط؛ فهذا خارج عن المقصود، وواقف مع ظاهر الخطاب؛ فإن الله قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وعزاه ابن حجر في "الإصابة" "4/ 59" إلى ابن منده، وللحديث شواهد من غير ذكر للآية فيه.
أخرجه نحو القصة المذكورة من حديث أنس عن رجل أحمد في "المسند" "3/ 146"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 300"، والبغوي والحاكم؛ كما في "الإصابة" "4/ 51"، وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح"، وأخرج نحوها الطبراني في "الأوسط" "2/ 516-517/ رقم 1887"، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب، وفيه إسماعيل بن قيس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "3/ 113"، وعبد بن حميد عن جابر بن سمرة، وأخرج مسلم في "صحيحه" "2/ 665"، وأحمد في "مسنده" "5/ 18 و102"، والطيالسي "760 و761" وغيرهم من حديث جابر بن سمرة: "كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح".(8/300)
وذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 221" أن اسم أبي الدحداح ثابت بن الدحداح وابن مردويه عن أبي هريرة وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593" عن زيد بن أسلم مرسلًا.(8/301)
ص -221-…المسلمون موجب لتخلية سبيلهم؛ فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة، فإذا كانت الصلاة تشعر بالزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره؛ فمن دخلها عريًّا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول؛ فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير، عودًا1 عليه بالمزيد؛ فوهبه عند رأس الحول فرارًا من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرًا للنعمة؟
وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملًا بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] حتى يجري على معنى قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
وتجري [ها] هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى؛ لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود؛ اقتحم هذه المتاهات البعيدة.
وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضًا، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ كما قال2 الخوارج لعلي: إنه حكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "موعودًا".
2 هو وما يأتي بعد في قوله: "فلو نظر... إلخ" يساعد على تعيين الجملة الساقطة فيما سبق في المسألة الثانية من مبحث الأحكام. "د".(8/302)
قلت: أخرج مناظرة ابن عباس -رضي الله عنه- الحرورية فيما أنكروه على عليّ -رضي الله عنه- وفيها ما عند المصنف من قولهم: "إنه حكم الخلق في دين الله"، وكذا قولهم: "إنه محا نفسه..."، وقولهم لابن عباس أيضًا: "لا تناظروه؛ فإنه ممن قال الله فيهم...": عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 157/ رقم 18678"، وأحمد في "المسند" "1/ 342"، والفسوي في =(8/303)
ص -222-…الخلق في دين الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، ويوسف: 40، 67]. وقالوا: إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين1؛ فهو إذًا أمير الكافرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "المعرفة والتاريخ" "1/ 522-524"، وأبو عبيد في "الأموال" "444"، والنسائي في "خصائص علي" "190"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 312"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 150-152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 318-320"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 103"، والخوارزمي في "المناقب" "183"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "12/ 183/ أ"، كلهم من طريق عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس به وذكر أحمد وأبو عبيد جزءًا منه.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وهو كذلك.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 241": "رواه الطبراني وأحمد بعضه، ورجالهما رجال الصحيح".
وله شاهد عن عبد الله بن شداد عن علي، وفيه أن عليًّا -رضي الله عنه- ناظرهم أولًا، ثم بعث إليهم ابن عباس.
أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 86"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 367-371/ رقم 474"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "9/ ق 403"، والضياء في "المختارة" "605"، وإسناده صحيح.
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 280": "تفرد به أحمد، وإسناده صحيح، واختاره الضياء".
وعزاه في "المطالب العالية" "4504" لإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي يعلى في "مسانيدهم".
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 235-237": "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات".
ورويت المناظرة من طرق أخرى، انظر: "فتح الباري" "12/ 296-297" تحت حديث رقم "6933".
وانظر "الاعتصام" "1/ 303, ط ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 30-31".
1 في "ط": "المسلمين".(8/304)
ص -223-…وقالوا لابن عباس1: لا تناظروه؛ فإنه ممن قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزخرف: 58]، وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11]، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين؛ فأسرفوا ما شاءوا2.
فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقوله {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، لعلموا أن قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] غير مناف لما فعله عليّ، وأنه من جملة حكم الله؛ فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي.
ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده؛ لما قالوا: إنه أمير الكافرين، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين.
وعلى الجملة؛ فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم؛ فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهمًا وعلمًا، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب؛ فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في شأن ابن عباس حين أراد مناظرتهم وقد حجهم في المناظرة؛ فظفر منهم بألفين عادوا إلى حظيرة الإسلام. "ف".
2 الصواب إمرار آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تكييف، ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب السلف الصالح؛ كما تراه مبسوطًا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا سيما "الواسطية" و"الحموية" وكتب تلميذه ابن القيم وغيرهما.(8/305)
ص -224-…المسألة التاسعة:
كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردًا لا إشكال فيه؛ لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
ثم رد الحكاية عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل؛ لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم، والبشر هنا حبر، وكان نصرانيًّا فأسلم، أو سلمان1، وقد كان فارسيًّا فأسلم، أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم، وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
وقد علم أنهم لم يقولوا شيئًا من ذلك؛ فدل على أنه عندهم عربي، وإذا ثبت هذا؛ فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط، وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه؛ فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربي.
فإذًا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي؛ فليس2 من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قوله؛ كما في "الدر المنثور" "5/ 168"، وهو مردود بأن الآية مكية، وسلمان أسلم في المدينة، وتجد أقوالًا أخرى عند ابن جماعة في "غرر التبيان في من لم يسم في القرآن" "ص305"، ولم يذكر سلمان من بينها.
2 سيأتي في الفصل التالي زيادة بيان لهذا وتقرير. "د".(8/306)
ص -225-…ذلك؛ فهو في دعواه مبطل، وقد مر1 في كتاب المقاصد بيان هذا المعنى، والحمد لله.
ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان2، حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 138]، وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد، ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم3، وكنه كشف عوار نفسه من كل وجه، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه.
وإذا كان بيان في الآية علمًا له؛ فأي معنى لقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آل عمران: 138]، كما يقال: هذا زيد للناس، ومثله في الفحش من تسمى بالكسف، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} الآية [الطور: 44]؛ فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد؟ كما تقول: وإن يروا رجلًَا من السماء ساقطًا يقولوا4: سحاب مركوم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النوع الثاني في وضع الشريعة للأفهام. "2/ 127 وما بعدها".
2 انظر عن حيله وأباطيله وهتكها: "المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار" لعبد الرحيم الجوبري "ص173 وما بعدها"، ط دار الكتاب العربي، دمشق - القاهرة.
3 لعل الأصل: "من جملة أدلتهم"؛ أي: لكان أتباعه يعدون هذا دليلًا على صحة زعمهم في هذا الرجل، ولكنه فضح نفسه وكشف عواره كما قال، فلم يجعلوا قوله: "إن الله يشير إليه في كتابه... إلخ"؛ لم يجعلوه من الأدلة على عقيدتهم فيه لنبوه ظاهرًا وباطنًا عن الجادة، وتقدم له في المقاصد أن هذا المثال مما فقدت فيه شروط صحة التأويل لفظًا ومعنى. "د". ونحوه عند "م".
4 في الأصل: "تقول".(8/307)
ص -226-…وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إليه البيانية من الفرق1، وهو فيما زعم ابن قتيبة2 أول من قال بخلق القرآن، والكسف هو أبو منصور3 الذي تنسب إليه المنصورية.
وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي4 حين ملك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الرافضة، وقد قتله خالد القسري وأراح العباد من شره. "د".
قلت: وفي قتل خالد القسري له نظر، والمشهور أنه قتل الجعد بن درهم، ولم يثبت ذلك على ما فصلناه في الجزء الثالث من كتابنا: "قصص لا تثبت"، وانظر عن البيانية: "الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الزمان" "ص43, ط المصرية"، و"لسان الميزان" "2/ 62"، و"الاعتصام" "1/ 215-216, ط ابن عفان".
2 في كتابه: "اختلاف الحديث" "1/ 218, بتحقيق أحمد الشقيرات"، وكذا في "عيون الأخبار" "2/ 148".
3 هو أبو منصور العجلي، والكسف لقبه، صلبه يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك، وكان أبو منصور يزعم أنه عرج به إلى السماء، وأن الله مسح بيده على رأسه، وقال له: يا بني! بلغ عني. وأباح المحرمات، وأسقط الفرائض، وكان أتباعه يؤمنون بنبوته، قال "ف" وتبعه "م": "في مزاعمه الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين، وأن الجنة رجل أمر بموالاته وهذا الإمام، والنار ضده، وكذا الفرائض والمحرمات" ا. هـ.
قلت: انظر المزيد عنه وعن طائفته "المنصورية" في: "الفرق بين الفرق" "243-245"، و"اختلاف الحديث" "1/ 218-219"، و"عيون الأخبار" "2/ 147"، و"الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "2/ 14، 15"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" "ص43, ط المصرية".(8/308)
4 انظر عن أخباره: "البداية والنهاية" "11/ 191"، و"صلة تاريخ الطبري" لعريب بن سعد "ص51-52"، و"تاريخ الإسلام" للذهبي "حوادث 321-330هـ" "ص22-24"، و"البيان المعرب" "1/ 206"، و"تاريخ ابن الوردي" "1/ 266"، و"الاعتصام" "1/ 216، 220, ط ابن عفان" للمصنف. وفي "ط": "المتسمي بالمهدي".(8/309)
ص -227-…أفريقية واستولى عليها؛ كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح؛ فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1]. قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى؛ فبدل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بقوله كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا؛ لأن المتسميين1 بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ} الآية [النصر: 2]؛ فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله.
ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر2 مستدلًّا على ذلك بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"م": "المتسمين"، والضمير عائد إلى مثنى.
2 حكاه القرطبي في "تفسيره" "5/ 17" عن بعض أهل الظاهر وأهل الرفض؛ فقال: "اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نكح تسعًا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر..."، وناقش هذا القول مناقشة قوية، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قريبًا، والله الموفق.(8/310)
3 خاطب الله -عز وجل- العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، =(8/311)
ص -228-…ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالًا؛ لأن الله قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فلم يحرم شيئًا غير لحمه، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإنما الواو في هذا الموضع بدل أي: أنكحوا ثلاثًا بدلًا من مثنى، ورباع بدلًا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو, ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث, ولا لصاحب الثلاث رباع، وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم، وكذلك الآخرين بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها؛ ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي: جاءت مزدوجة، قال الجوهري: "وكذلك معدول العدد"، وقال غيره: إذا قلت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار؛ فإنما تريد أنهم جاءوك واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت: جائني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة؛ فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت: جاءوني رباع وثناء، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب؛ فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. قاله القرطبي في "تفسيره" "5/ 17-18".
وانظر: "الاعتصام" "2/ 525, ط ابن عفان"؛ ففيه بيان أن المستدل بالآية على جواز نكاح التسع "بدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها".(8/312)
1 قال القرطبي في "تفسيره" "2/ 222": "أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير"، وقال: "لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم؛ فقد دخل الشحم في اسم اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشحم؛ وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير؛ فناب ذكر لحمه عن شحمه لأنه دخل تحت اسم اللحم".
وقال ابن العربي في "أحكامه" "1/ 54": "اتفقت الأمة على أن لحم الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه"، قال: "وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه، بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا؛ إذ كل شحم لحم، وليس كل لحم شحمًا من جهة اختصاص اللفظ، وهم لحم من جهة حقيقة اللحمية".
وانظر: "الاعتصام" "1/ 302, ط ابن عفان".(8/313)
ص -229-…ومنهم من فسر الكرسي في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] بالعلم1، مستدلين ببيت لا يعرف، وهو:
..................................…ولا يكرسئ2 علم الله مخلوق3
كأنه عندهم: ولا يعلم علمه، ويكرسئ مهموز، والكرسي غير مهموز.
ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أنه تخم من أكل الشجرة، من قول العرب: "غوي الفصيل يغوي غوًى"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثله تفسيره بالملك؛ كما في "الظلال" "1/ 290"، وهو مذهب المعتزلة والأشاعرة؛ كما تراه في "شرح الأصول الخمسة" "ص227"، و"أصول الدين" "113-114" و"التبصير في الدين" "15".
وانظر لزامًا: "المورد الزلال" "ص36-37"، و"تفسير ابن جرير "24/ 37"، و"شرح الطحاوية" "311".
2 في النسخ المطبوعة كلها "بكرسي" بالباء الموحدة في أوله، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
3 قال ابن قتيبة في "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة" "ص35": "وطلبوا للكرسي غير ما نعلم، وجاءوا بشطر بيت لا يعرف ما هو، ولا يدرى من قائله:
ولا يكرسئ علم الله مخلوق
والكرسي غير مهموز بإجماع الناس جميعًا، و"يكرسئ" مهموز".
قلت: أورد هذا البيت أبو حيان في "البحر المحيط" "2/ 280"، ولم ينسبه لأحد! وصدره:
ما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه…...............................
وفسر الكرسي بالسر!(8/314)
ص -230-…إذا بشم1 من شرب اللبن وهو فاسد2؛ لأن غوي الفصيل [فعل]3، والذي في القرآن على [وزن]4 فعل.
ومنهم من قال في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179]؛ أي: ألقينا فيها، كأنه عندهم من قول الناس: "ذرته الريح"، وذرأ مهموز، وذرا غير مهموز5.
وفي قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]؛ أي: فقيرًا إلى رحمته، من الخلة بفتح الخاء6، محتجين على ذلك بقول زهير7:
وإن أتاه خليل يوم مسألة….............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أتخم.
2 حكاه السمين في "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ" "ق 407"، والراغب في "المفردات" "369"، والفيروزآبادى في "بصائر ذوي التمييز" "4/ 156"، وسكتوا عنه وأخروه، وقال عنه الزمخشري في "الكشاف" "2/ 450": "تفسير خبيث"، ونقله عنه الآلوسي في "روح المعاني" "16/ 274"، وأقره، وكذا رده المصنف في "الاعتصام" "1/ 301, ط ابن عفان".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، قال "ف": "غوي؛ بفتح، فكسر، يقال: غوي الفصيل يغوى أغوى من باب فرح، وما في الآية بالفتح" ا. هـ.
4 سقط من "ط".
5 انظر في تفسير الآية: "روح المعاني" "9/ 118-119"، و"تفسير المنار" "9/ 418"، و"تأويل مشكل القرآن" "282"، ونحوه المذكور عند المصنف في "الاعتصام" "1/ 301-302, ط ابن عفان".
6 قاله أبو القاسم البلخي، ونقله عنه الراغب في "المفردات" "153"، والسمين في "عمدة الحفاظ" "ق 165"، والفيروزآبادي في "بصائر ذوي التمييز" "2/ 557"، وتعقبوه، وأجمع عبارة للفيروزآبادي قال: "وهذا القول منه تشه ليس بشيء، والصواب الذي لا محيد عنه إن شاء الله أنه من "الخلة"، وهي المحبة التي قد تخللت روح المحب وقلبه؛ حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه".(8/315)
7 هو صدر بيت، وعجزه: "يقول لا غائب مالي ولا حرم"، وهو ضمن قصيدة له في "ديوانه" "ص82" يمدح فيها هرم بن سنان المري. وفي "ط": "بزهير في قوله".(8/316)
ص -231-…قال ابن قتيبة: أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله؟ ويشهد له الحديث: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا، إن صاحبكم خليل الله"1، وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعًا للرأي، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت، وإنما أكثرت2 من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية، والمعنى على ما علمت لتكون تنبيهًا على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها.
فصل:
وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضًا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، 4/ 1855/ رقم 2383" والترمذي في "الجامع" "كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق, رضي الله عنه، 5/ 606/ رقم 3655"، والنسائي في "فضائل الصحابة" "رقم 4"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم 1/ 36/ رقم 93"، وأحمد في "المسند" "1/ 377، 389، 408، 409، 412، 433، 434، 437، 455"، و"الفضائل" "رقم 155، 156، 157، 158، 159، 160" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا، دون لفظة "غير ربي".
وأخرجه بها البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب..."، 7/ 12/ رقم 3654"، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو في "صحيح مسلم" "رقم 2382" من حديثه دون اللفظة المذكورة.(8/317)
وقال الفيروزآبادي في "البصائر" "2/ 558" عقبه وعقب حديث آخر نصه: "إن الله تعالى اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". قال: "والحديثان في "الصحيحين"، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد -عليه السلام- فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه".
2 في "ط": "أكثر".(8/318)
ص -232-…أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري1 على المقاصد العربية.
والثاني: أن يكون له شاهد نصًّا أو ظاهرًا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
فأما الأول؛ فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيًّا؛ فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب؛ لم يوصف بكونه عربيًّا بإطلاق، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك؛ فلا يصح أن ينسب إليه أصلًا؛ إذ ليست نسبته إليه على أن2 مدلوله أولى من نسبة ضده إليه، ولا مرجح يدل على أحدهما؛ فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا.
وأما الثاني فلأنه3 إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما موفران فيه، بخلاف ما فسر به الباطنية4؛ فإنه ليس من علم الباطن، كما أنه ليس من علم الظاهر؛ فقد قالوا في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16]: إنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بحيث يجري... إلخ. "د".
2 في الأصل و"ط": "أنه".
3 في "ط": "فإنه".
4 انظر عن أشهر تفاسيرهم وأمثلة كبيرة على ضلالاتهم ومناقشتهم في ذلك عند الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "من بلاغة القرآن"، والدكتور عدنان زرزور في كتابه "متشابه القرآن"، والشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه "التفسير والمفسرون" "2/ 235 وما بعدها".(8/319)
ص -233-…الإمام ورث النبي علمه، وقالوا في "الجنابة": إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، ومعنى "الغسل" تجديد العهد على من فعل ذلك، ومعنى "الطهور" هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام، و"التيمم" الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد1 الداعي أو الإمام، و"الصيام" الإمساك عن كشف السر، و"الكعبة" النبي، و"الباب" عليّ، و"الصفا" هو النبي، و"المروة" عليّ، و"التلبية" إجابة الداعي، و"الطواف سبعًا" هو الطواف بمحمد -عليه الصلاة والسلام- إلى تمام الأئمة السبعة، و"الصلوات الخمس" أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام، و"نار إبراهيم" هو غضب نمرود لا النار الحقيقية، وذبح "إسحاق"2 هو أخذ العهد عليه، و"عصا موسى" حجته التي تلقفت شبه السحرة، و"انفلاق البحر" افتراق علم موسى -عليه السلام- فيهم، و"البحر" هو العالم، و"تظليل الغمام" نصب موسى الإمام لإرشادهم، و"المن" علم نزل من السماء، و"السلوى" داع من الدعاة، و"الجراد والقمل والضفادع" سؤالات موسى وإلزماته التي تسلطت عليهم، و"تسبيح الجبال" رجال شداد في الدين، و"الجن الذين ملكهم سليمان" باطنية ذلك الزمان، و"الشياطين" هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة، إلى سائر ما نقل من خباطهم3 الذي هو عين الخبال، وضحكة السامع، نعوذ بالله من الخذلان4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الاعتصام" "1/ 322, ط ابن عفان": "إلى أن يسعد بمشاهد الداعي....".
2 كذا في الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وهو رأي القرطبي في "تفسيره"!! والصواب: "إسماعيل"؛ إذ هو الذبيح، على ما فصله ابن القيم في "الزاد"، والسيوطي في "القول الفصيح في تعيين الذبيح"، مطبوع ضمن "الحاوي" له "1/ 318-322".
3 في الأصل: "خطابهم".(8/320)
4 تجد هذه الأمثلة ونحوها في "قواعد عقائد آل محمد" "ص47" لمحمد بن الحسن الديلمي، ط إستانبول، مطبعة الدولة، سنة 1938م، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 236-238، 359 وما بعدها"، وابن حزم في "الإحكام" "3/ 40" أمثلة كثيرة غير هذه من تفسيرات الباطنية وهي من جنسها؛ فانظرها فإنها مفيدة.(8/321)
ص -234-…قال القتبى1: "وكان بعض أهل الأدب يقول: ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر؛ فإنه قال ذات يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه …ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
إنه في رجل2 منهم. قيل له: فما تقول أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحجر3. قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قيل: فأبو الفوراس؟ قال: أبو قبيس. قيل: فنهشل؟ قال نهشل أشده4، وصمت5 ساعة، ثم قال: نعم، نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل أسود، فذلك نهشل"، انتهى ما حكاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن قتيبة، وكلامه الذي أورده المصنف موجود في كتابيه "اختلاف الحديث" "1/ 217-218"، و"عيون الأخبار" "2/ 146"، ونحوه في "العقد الفريد" "2/ 250 و7/ 186"، وأفاد أن القائل: "ما أشبه..." هو الشعبي.
2 كذا في الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وفي "اختلاف الحديث": "رجال"، وهو أصوب.
3 في "د" و"ط": "الحج"، وقال "د": "صوابه "الحجر؛ بكسر الحاء"، كما هو الرواية عن ابن قتيبة".
قلت: وكذا في "م"، وكتب في الهامش: "في المطبوعات الثلاث: "الحج"، وتصويبه عن ابن قتيبة".
4 الرواية "أشدها"؛ أي: أصعبها في بيان معناه. "د"، وكتب "م": "يريد أشد ما في البيت؛ أي: أعوصه وأصعبه تفسيرًا".
قلت: وفي "ط" ونسخ "اختلاف الحديث" الخطية الخمسة، التي اعتمد عليها أخي الأستاذ أحمد الشقيرات "1/ 217, مضروبة على آلة كاتبة"؛ كما عن المصنف: "أشده".
5 في "اختلاف الحديث" و"ط": "وفكر ساعة".(8/322)
ص -235-…فصل:
وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل، أو من قبيل الباطن الصحيح، وهي منسوبة لأناس من أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح.
فمن ذلك فواتح السور1 نحو {الم}، و{المص}, و{حم}، ونحوها فسرت بأشياء، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح، ومنها ما ليس كذلك، فينقلون عن ابن عباس2 في {الم} أن "ألف" الله، و"لام" جبريل، و"ميم" محمد, صلى الله عليه وسلم.
وهذا إن صح في النقل؛ فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تجد كلامًا محققًا جيدًا حولها في "قانون التأويل" "208 وما بعدها"، و"معرفة قانون التأويل" "ق 27/ أ" -حيث أورد فيه اثني عشر قولًا لعلماء التفسير وسبعة أقوال للصوفية- كلاهما لابن العربي، و"تفسير الطبري" "1/ 67-74"، و"تأويل مشكل القرآن" "299" لابن قتيبة، و"العقل وفهم القرآن" "329" للمحاسبي، و"بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم" "1/ 259-264"، و"بدائع الفوائد" "3/ 45-47"، و"الكشاف" "1/ 12-19"، و"البحر المحيط" "1/ 34" لابن حيان، و"تفسير الرازي" "2/ 3-13"، و"تفسير القرطبي" "1/ 154"، و"البرهان" "1/ 214-216، و"معترك الأقران" "1/ 156"، و"الإتقان" "2/ 11 وما بعدها"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 398"، و"الإعجاز البياني للقرآن" "136" لبنت الشاطئ، و"براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص99-302"، وفيه جمع واسع لما قيل في معاني الحروف المذكورة في أوائل السور.
2 حكاه أبو الليث في "بحر العلوم" "1/ 89"، وغيره ولم ينسبوه لابن عباس، وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 126": "هذا لا يعرف عن ابن عباس ولا غيره من السلف"، وتابعه ابن همات في "تحفة الراوي" "ق 8/ ب"، وورد عنه أقوال كثيرة كما تراه في "الدر المنثور" "1/ 55-59".
وفي "ط": "في "الم"، وفي غيره: "أن الم"، قال "ف": "إن "الم": لعله في "الم".(8/323)
ص -236-…في كلام العرب هكذا مطلقًا، وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي؛ كما قال:
قلت لها قفي فقالت قاف1
وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا أول رجز للوليد بن عقبة، وسبب قوله أنه لما شهد عليه عند عثمان بن عفان بشرب الخمر؛ كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج وخرج معه قوم يعذرونه، فيهم عدي بن حاتم، فنزل الوليد يومًا يسوق بهم؛ فقال يرتجز:
قلت لها قفي فقالت قاف…لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف
والنشوات من عتيق أوصاف…وعزف قينات علينا غراف
فقال له: "إلى أين تذهب بنا؟ أقم".
كذا في "الأغاني" "5/ 181"، و"شرح شواهد الشافية" "ص271"، وفي "تأويل مشكل القرآن" "309": "وأنشد الفراء وذكره"، وهو في "الصاحبي" "94"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 212, تحقيق شاكر"، و"الوسيط" "1/ 76" للواحدي، و"المحرر الوجيز" "1/ 82-83"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 39"، و"مجمع البيان" "1/ 34"، و"البحر المحيط" "1/ 35"، و"العمدة" "1/ 280"، و"بحر العلوم" "1/ 87"، و"قانون التأويل" "216، و"البرهان" "3/ 117" للزركشي، و"الإتقان" "2/ 12"، و"براعة الاستهلال" "197"، وفي بعضها غير منسوب.
وأورده ابن جني في "الخصائص" "1/ 31، 81، 247"، ونقل عنه ابن منظور في "اللسان" "9/ 359، مادة وقف" قوله: "ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئًا من جملة الحال؛ فقال مع قوله: "قالت: قاف": وأمسكت زمام بعيرها أو عاجته إلينا؛ لكان أبين لما كانوا عليه وأدل، على أنها أرادت قفي لنا قفي لنا، أي: تقول لي قفي لنا متعجبة منه، وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم من قولها قاف إجابة له لا رد لقوله، وتعجب منه في قوله: "قفي لنا"".
قال: "ف": "أي: ذكرت حرفًا في حروف قفي وهو القاف، والظاهر أن القصد بذكره امتثال الأمر بقرينة سابقة، وكذا قوله "فا" بمعنى فأنا أقول لك، وقول "تا"؛ أي: تفعل فإن فعلته أقابل الشر بمثله ويشبه أن يكون ذلك من النحت".(8/324)
ص -237-…قالوا جميعًا كلهم بلافا1
وقال:
ولا أريد الشر إلا أن تا2
والقول في {الم} ليس3 هكذا، وأيضًا، فلا دليل من خارج يدل عليه؛ إذ لو كان له دليل لاقتضت4 العادة نقله لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه، ولما لم يثبت شيء من ذلك؛ دل على أنه من قبيل المتشابهات، فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه.
وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية، وهو أقرب من الأول، كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله، وهو أظهر الأقوال؛ فهي من قبيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "بلى؛ فلا"، وأورده السيوطي في "الإتقان" "2/ 12"، وأوله:
"ناداهم ألا الحموا ألا نا…قالوا جميعًا كلهم ألا فا"
وقال: "أراد: ألا تركبون ألا فاركبوا".
2 الراجز هو لقيم بن أوس، وأوله: "بالخير خيرات وإن شرًّا فا"؛ كما في "الكامل" "236"، و"شرح شواهد الشافية" "262"، و"الهمع" "2/ 210، 236"، و"اللسان" "مادة تا"، و"المحرر الوجيز" "1/ 83"، وعزاه إلى زهير بن أبي سلمى، و"تفسير ابن كثير" "1/ 39"، و"الكتاب" "3/ 321"، لسيبويه، و"الإتقان" "2/ 12"، و"شرح أبيات سيبويه" "2/ 277" لابن السيرافي، و"تفسير ابن جرير" "1/ 70"، و"براعة الاستهلال" "197"، قال سيبويه في "الكتاب" "3/ 321": "يريد: إن شرًّا فشر، ولا يريد الشر إلا أن تشاء".
3 الأمثلة الثلاثة أدلتها من اللفظ، وليس في "الم" ما يدل على هذا التفسير من اللفظ، وقوله: "وأيضًا"؛ أي: ولا قرينة خارجة عن اللفظ أيضًا، وهو ما سماه بالدليل الحالي أي: غير المقالي، وقوله: "لو صح... إلخ" تأكيد لأضعاف هذا المعنى؛ فإن الراجح أن أوائل السور من المتشابه الذي اختص الله بعلمه. "د".
4 في "ط": "لاقتضاء".(8/325)
ص -238-…المتشابهات، وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيهًا على مدة هذه الملة1، وفي السير ما يدل على هذا المعنى، وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها، وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 76" عن هذه الحروف المقطعة: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم؛ فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره".(8/326)
2 يشير المصنف إلى ما عند ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 545, تهذيب ابن هشام"، وأخرجه أيضًا البخاري في "التاريخ الكبير" "2/ 208"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 92-93/ رقم 246, ط شاكر"، والداني في "البيان في عد آي القرآن" "330-331" من طريق ابن إسحاق: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب؛ قال: "مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يتلو صدر سورة البقرة: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}؛ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل عليه: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فقالوا: أنت سمعت؟ قال: نعم. فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا له: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}. فقال: "بلى". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما بين النبي فيهم مدة ملكه، وأجل أمته غيرك. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون. قال: يا محمد! هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {المص}". قالوا: هذه أطول وأثقل؛ الألف واحدة، واللام ثلاثة، والميم أربعون، والصاد ستون؛ فهذه إحدى وثلاثون ومائة، هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {الر}". قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {المر}". قال: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان؛ فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لبس علينا أمرك حتى ما يدرى أقليلًا أعطيت أم كثيرًا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع لمحمد هذا كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتنان، وإحدى وسبعون ومائتان؛ فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد =(8/327)
ص -239-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تشابه علينا أمره".
وإسناده ضعيف جدًّا، بل موضوع، آفته الكلبي، وهو محمد بن السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح باذام، مولى أم هانئ، وهو ضعيف، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس؛ كما في "جامع التحصيل" "رقم 55".
وحكم عليه ابن كثير بالضعف؛ فقال في "تفسيره" "1/ 39, ط الشيخ مقبل": "فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به"، وتابعه عليه الشوكاني في "فتح القدير" "1/ 31"، وقد تكلمت بإسهاب ولله الحمد على تفسير ابن عباس من طريق الكلبي في كتابي "كتب حذر منها العلماء" "2/ 259 وما بعدها، المجموعة الأولى"؛ فراجعه إن شئت، والله الهادي.
وأورده البخاري من وجه آخر فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول، وهذا مردود من جهة متنه، وهذا ما قرره ابن حجر؛ فقال رحمه الله تعالى: "وهذا باطل لا يعتمد عليه؛ فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة". نقله عنه السيوطي في "الإتقان" "2/ 11".
قلت: أشار الحافظ إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 26/ رقم 19805", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 139"، عن ابن عباس بسند صحيح، قال: "إن قومًا ما يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم، ولا أدري لمن فعل ذلك من خلاق".(8/328)
وقال الشوكاني عقبه: "فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الموضع؛ فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} من ذلك العدد موجبًا للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم؛ لدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم".
ولا داعي بعد بيان وضع هذه القصة إلى تحميلها ما لا تحتمل من مثل قول صاحب "التحرير والتنوير" "1/ 194-195": "وليس في جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزًا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما =(8/329)
ص -240-…فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم، وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم، ومع إشكالها؛ فقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهموه بإبطال أن يكون مفيدًا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- فهو تعجيب من جهلهم"، ومن مثل قول الأمير الصنعاني في "رسالة شريفة فيما يتعلق بالأعداد للحروف والأوفاق" "ص15" قال بعد أن ساق القصة: "فهذا دليل أن ذلك كان من عرف اليهود واصطلاحهم، ومن المعلوم قطعًا أنه لم يكن ذلك من لغة العرب كما يعلم قطعًا أن العرب لم تعارض القرآن، فما هو إلا من علم اليهود ومن أوضاع أسحارهم، وقد ثبت عن ابن عباس النهي عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من السحر".
ثم قال: "فإن قلت: فقد قرر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حيي بن أخطب على تفسير تلك الحروف بالأعداد.
قلت: أما أولًا؛ فمعلوم أن تلك الحروف ليست موضوعة للأعداد في العربية، وقد علم أنه تعالى أنزل القرآن عربيًّا؛ فلا يفسر العربي إلا بالأوضاع العربية لا بالأوضاع العبرانية.
وأما ثانيًا؛ فقد علم مخالفته -صلى الله عليه وآله وسلم- لليهود في أفعالهم وأقوالهم؛ فسكوته عن الإنكار هذا كسكوته عن الإنكار إذا مروا إلى كنائسهم.
وأما ثالثًا؛ فلأنهم منكرون أنه كلام الله فهم فسروا على تسليم أنه كلام كاذب عندهم.
وأما رابعًا؛ فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم وتحزينهم، فإنه يعلم أن بقاءه يومًا واحدًا مما يسوءهم ويحزنهم فضلًا عن أعوام.
وأما خامسًا؛ فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة قومه، فكأنه يقول: إذا كان عرفًا لكم ولغة عندكم؛ فأنتم تعلمون أنه ليس لغة لنا ولا هو عرفنا، وإنما هو شيء جئتم به من تلقاء أنفسكم، فلا ينكر عليهم أن يتعارفوا بينهم بأي لفظ.(8/330)
فإن قلت: ومن أين علمنا أنه ليس من لغته ولا لغة قومه؟
قلت: عرفناه بأنه لم يأت حرف واحد عن صحابي ولا تابعي بهذا، مع أنه قد نقل إلينا تفاسيرهم لكلام الله، بل هذا معلوم يقينًا أنه من لغة العرب؛ فقد دونها أئمة اللغة وبذلوا فيها وسعهم وتتبعوها في البوادي وغيرها، ولا تجد كتابًا لغويًّا فيه شيء من هذا، وأن الحرف مسماه كذا من العدد هذا أمر مقطوع بعدم وقوعه لغة؛ فتعين أنه أمر اصطلاحي لا حجر فيه ولا ضير على متعاطيه، ونهى ابن عباس عنه، وأنه من السحر يدل أنه عرف أنه اصطلاح لليهود يستعملونه في الأسحار".(8/331)
ص -241-…اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور، حججًا في دعاوٍ ادعوها على القرآن، وربما نسبوا شيئًا من ذلك [إلى]1 علي بن أبي طالب2، وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئًا من ذلك، وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة؛ فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه، وضرب3 بعضها ببعض، ونسبتها إلى الطبائع الأربع، وإلى أنها الفاعلة في الوجود، وأنها مجمل كل مفصل، وعنصر كل موجود، ويرتبون في ذلك ترتيبًا جميعه دعاوٍ محالة على الكشف والاطلاع، ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال4، كما أنه لا يعد دليلًا في غيرها، كما سيأتي بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
2 انظر لزامًا بسط ذلك في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 248-249, المجموعة الأولى".
3 وأنها بهذا الحساب تبين تواريخ أمم سابقة ولاحقة، ومن ذلك أن محيي الدين بن عربي ذكر في "فتوحاته" عند تفسير قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29]: "إن الله أودع في القرآن من العلوم ما هي خارجة عن حصرنا لها، وقال: سألت بعض العلماء: هل يصح لأحد حصر أمهات هذه العلوم؟ فقال: إنها مائة ألف نوع وستمائة نوع، كل نوع منها يحتوي على علوم لا يعلمها إلا الله تعالى". "د".(8/332)
قلت: وكتابه هذا فيه طامات وأوابد، كما فصله جماعة من العلماء؛ منهم: ابن تيمية في "الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم" ضمن "مجموع الفتاوى" "2/ 362-451"، والبقاعي في "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي"، كلاهما مطبوع، والسخاوي في "القول المنبي في ترجمة ابن عربي"، وهو قيد التحقيق عندي، والفاسي في الأول من كتابه "العقد الثمين"، والأهدل في كتاب مفرد جامع مفيد، طبع قديمًا في تونس، وأتيت على ما قيل فيه في كتابي: "كتب حذر منها العلماء"، يسر الله إتمامه.
4 انظر في هدم الاحتجاج بالكشف: "القائد لتصحيح العقائد" "ص37 وما بعدها". للمعلمي اليماني، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491 و11/ 77 و323 و13/ 73 و29-30"، و"الجواب الصحيح" "2/ 92"، و"مدارج السالكين" "1/ 494 و3/ 228"، و"شرح الطحاوية" "498"، و"تفسير القرطبي" "11/ 40 و7/ 39"، و"المقدمة السالمة" "ص20, بتحقيقي" لعلي القاري، و"مشتهى الخارف الجاني" "81"، و"شرح مراقي السعود" "288"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 638 وما بعدها"، و"أضواء البيان" "4/ 159"، وسيأتي للمصنف "ص470 وما بعد" كلام مسهب في هذا الموضوع.(8/333)
ص -242-…فصل:
ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله1 في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه؛ فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]؛ أي: أضدادًا، قال: "وأكبر الأنداد2 النفس الأمارة بالسوء، المتطلعة إلى حظوظها ومناها3 بغير هدًى من الله".
وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد، حتى لو فصل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أندادًا لا صنمًا ولا شيطانًا ولا النفس ولا كذا، وهذا مشكل الظاهر جدًّا؛ إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 له تفسير بعنوان: "تفسير القرآن العظيم" مطبوع في مطبعة السعادة بالقاهرة، سنة 1326هـ-1908م، في "204 صفحات"، نشره النعساني، والمذكور عند المصنف فيه "ص14"، وقد رد تفسير الآية المذكور عند المصنف الشيخ محمد حسين الذهبي في "الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن" "52"، وانظر غير مأمور: "منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم" "ص60-61".
2 في "تفسير سهل" "ص14": "الأضداد".
3 في النسخ المطبوعة كلها و"ط": "الطواعة إلى حظوظها ومنهيها"، وما أثبتناه من "تفسير سهل" "ص14"، وكتب "ف" على "الطواعة": "أي: شديدة الطوع والانقياد إلى حظوظها وما نهيت عنه".(8/334)
ص -243-…يتخذونها أربابًا، ولكن له وجه جارٍ على الصحة، وذلك أنه لم يقل1 إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ند2 في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين.
إحداهما3: أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يقل: إن هذا المعنى داخل تحت عموم الآية بحيث يدل عليه نظمها حقيقة أو مجازًا بالدلالة الآلية المعروفة، بل قال: يفهم من الآية بنوع من الدلالة والفهم شبيه بالاستنباط الأصولي الذي يرجع فيه إلى اعتبار العقل وتصرفه وبالأخذ الصرفي الذي يعول فيه على اعتبار المعنى أو تنوعه، والدلالة على المعاني التي تنكشف لأرباب السلوك من هذا الطريق تسمى دلالة إشارية، ولا يعول عليها عندهم إلا إذا أمكن تطبيقها على الظواهر المسوق لها الكلام، بل لا مطمع في الوصول إليها إلا من طريقها؛ كالبيت لا يتوصل لداخله إلا بعد ولوج بابه، خلافًا للباطنية الملاحدة الذين ينفون ظواهر الآيات ويريدون بها معاني أخرى يزعمونها بواطن القرآن وليست منه في شيء. "ف".
2 أي: جاء بالمعنى في "الند"، وأجراه في الآية وإن لم تنزل فيه؛ لكونه يعتبر شرعًا كالند الذي نزلت فيه، ويشهد لاعتبار هذا الإجراء وجهان: أحدهما في نفس موضوع اتخاذ الأنداد والأرباب، والثاني أعم من ذلك، وهو حذر الصحابة وخوفهم من تطبيق الآيات التي أنزلت في الكفار عليهم؛ فاجتنبوا لذلك ما ورد خاصًّا بالكفار مما اقتضى اتصاف هؤلاء بالحرمان، ولو كان من أصل المباحات؛ كالتوسع في أخذ الحظوظ الدنيوية. "د".(8/335)
3 في الأسلوب انحراف أدى إلى قلق المعنى؛ وذلك لأن "كون الناظر في معنى الآية، أخذ معنى..." إلى قوله: "أو يقاربه"، هذا المقدار عام، وهو شرح لموضوع المعاني الاعتبارية التي يلتفت إليها الصوفية، وليس خاصًّا بالجهة الأولى، بل هو جار في الجهة الثانية وغيرها في كل ما روعي فيه معنى اعتباري؛ فكان المناسب أن يقدم هذا الشرح بعد قوله: "في الاعتبار الشرعي"، ثم يقول: وهذا الاعتبار الذي اعتبره سهل يشهد له وجهان: أحدهما خاص بالموضوع، وهو الآية الأولى؛ فحقيقة الند... إلخ، والثاني عام، وهو الآية الثانية، ويقول في الثانية: إن لأهل الإسلام نظرًا واعتبارًا في الآية، فأخذوا من معناها معنى أجروها فيه، وإن لم تنزل فيه، ويشرحه كما شرح مسألة الند لو صنع ذلك لاتضح المقام واتسق الكلام. "د".(8/336)
ص -244-…فيجريه فيما لم تنزل فيه1 لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه؛ لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته، والنفس الأمارة هذا شأنها؛ لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها وهذا هو الذي يعني به الند في نده؛ لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وهم لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان؛ فما حرموا عليه حرموه، وما أباحوا لهم حللوه2؛ فقال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.
والثانية: أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام؛ فإن لأهل الإسلام فيها نظرًا بالنسبة إليهم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] قال3 لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان: "أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]؟"، وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376-377 و16/ 148-149".
2 أي: مع أن المحرم والمحلل هو الله، فلما أمرت النفس صاحبها بمقتضى هواها صادة عن أوامر الله كان فيه معنى اتخاذها لله ندًّا، كما أن في ائتمارهم وانتهائهم بأوامر الأحبار هذا الاتخاذ الذي قرره القرآن، ولذلك قال: "وهذا هو شأن المتبع لهوى نفسه". "د".
قلت: وما ذكره المصنف في تفسير الآية وارد في حديث صحيح، مضى لفظه وتخريجه "3/ 299".
3 وتقدم أنه أخذه من حديث: "أَوَفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم" الحديث؛ فقد شهد القرآن باعتباره بناء على الحديث المتقدم في مبحث العموم والخصوص. "د".(8/337)
قلت: تقدم الأثر وتخريجه "ص34".(8/338)
ص -245-…أنزلت في الكفار لقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الآية [الأحقاف: 20]، ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص، فإذا كان كذلك؛ صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]، والله أعلم.
فصل
ومن المنقول عن سهل أيضًا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]؛ قال1: "لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، أي: لا تهتم بشيء هو غيري"، قال: "فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه"، قال: "وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرًا إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه2؛ إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره، وينصره على عدوه وعليها".
قال: "وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة؛ لأن البلاء في الفرع3 دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعل كلامه في الآية تفسيرًا ومرادًا من كلام الله تعالى لاستيفائه الشرطين السابقين، بخلاف ما تضمنه الفصل السابق؛ فإنه جعله معنى إشاريًّا، وهو وجيه، وبخلاف ما يأتي في بقية هذا الفصل عن سهل أيضًا؛ فإنه لم يقبله ولا على المعنى الإشاري؛ إلا في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْت} [النساء: 51]، على وجه لأنه لم يستوفِ الشرطين السابقين المصححين للتفسير، ولم ينطبق عليه المعنى الاعتباري الذي يتفجر لأهل البصائر من المعاني الشرعية كما سبق، وكما يأتي في المسألة التالية، وقوله: "مع ما جبلت... إلخ" أي: يتركه ليتصرف بمقتضى جبلته، وهو هنا حبه للخلود الذي يقتضي أن يحصل أسبابه بتدبير من عنده. "د".
قلت: والمنقول عن سهل في "تفسيره" "ص15-17".
2 في "د": "عليه"، وفي الأصل و"ف" و"م" و"ط": "فيه" كما أثبتناه.(8/339)
3 أي: هذه الجزئية يعني أنه لم يبتل في أصل من أصول الدين يريد بذلك تهوين الأمر في هذه المخالفة بأنها من الصغائر لا من الكبائر. "د".
قلت: وفيه إشارة أدبية من الرد على "ف" حيث قال: "لعله فرع الشجرة الذي أكل منه".(8/340)
ص -246-…به نفسه؛ فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر...." إلى آخر ما تكلم به.
وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله، وإن كان ذلك منهيًّا عنه أيضًا، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول، فإن النهي إنما وقع عن1 القرب لا غيره، ولم يرد النهي عن الأكل2 تصريحًا؛ فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به.
وأيضًا؛ فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردًا إذ لا مناسبة فيه تظهر، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهي عن معنى في القرب، وهو إما التناول والأكل، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل الأكل ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه؛ فهذا التفسير له وجه ظاهر، فكأنه يقول: لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله؛ إذ لو انتهى لكان ساكنًا لله وحده، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان، وذلك الخلد المدعى؛ أضاف الله إليه لفظ العصيان3، ثم تاب عليه، إنه هو التواب الرحيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "على".
2 في النسخ المطبوعة: "الأول"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".
3 والأحوط نظرًا إلى مقام آدم -عليه السلام- أن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوًا أو عن تأويل، وعلى فرض وقوعه بعد البعثة؛ فالحق أنه من الصغائر التي لا تنافي العصمة خصوصًا إذا وقع عن تأويل، وإنما عظم الأمر عليه وعظم لديه نظرًا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله عليه وإحسانه. وقد شاع: حسنات الأبرار سيئات المقربين. =(8/341)
ص -247-…247
ومن ذلك أنه قال1 في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 96]: "باطن البيت قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته".
وهذا التفسير يحتاج إلى بيان؛ فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب، ولا يلائمه2 مساق بحال؛ فكيف هذا؟
والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير3 للقرآن؛ فزال الإشكال إذًا، وبقي النظر في هذه الدعوى، ولا بد إن شاء الله من بيانها4.
ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومما يدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن أبي عبد الله المغربي؛ قال: ففكر إبراهيم في شأن آدم -عليه السلام- فقال: يا رب! خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته! فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم! أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة؟ وبالجملة لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم، ولا أن يخبر به؛ إلا أن يكون تاليًا أو راويًا له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما أن يكون مبتدأ من قبل نفسه فلا. وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي وارتضاه القرطبي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء إلينا المماثلين لنا؛ فكيف يجوز نسبته للآباء الأقدام، والنبي المقدم الأكبر، وقد قيل بمثل ذلك في نسبة المتشابهات إليه تعالى. "ف".
قلت: وانظر "3/ 548" ما قدمناه عن "حسنات الأبرار...".
1 في تفسيره "تفسير القرآن العظيم" "ص41"، وفيه بدل "واقتدى بهدايته": "من النبي".
2 أي: فهو فاقد للشرطين المتقدمين في التفسير. "د".
3 أي: بل معنى إشاري. "د".(8/342)
4 وسيأتي البيان في المسألة العاشرة، وأنه إذا كان الاعتبار من الأمر الوجودي الخارج عن القرآن كهذا؛ فإنه يلزم التوقف فيه متى لم تتحقق الشروط المتقدمة. "د".(8/343)
ص -248-…[النساء: 51]، قال1: "رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية".
وهو أيضًا من قبيل ما قبله، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر2 في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22].
وقال3 في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الآية [النساء: 36]: "وأما باطنها؛ فهو القلب، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]: النفس الطبيعي4، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]: العقل المقتدي بعمل الشرع، {وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]: الجوارح المطيعة لله, عز وجل".
وهو من المواضع المشكلة في كلامه، ولغيره مثل ذلك أيضًا، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب، لا من آمن منهم ولا من كفر، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفًا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة5، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم، ولا أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "تفسيره" "ص46" عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}.
2 أي: يكون أخذه من معنى الآية وإن لم تنزل فيه من الاعتبار، لكنه فيما مر نفي أن يكون تفسيرًا، وكان هذا أهم شيء في الجواب عن كلامه في معنى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. "د".
3 في "تفسيره" "ص45".
4 في "تفسير سهل": "والجار الجنب: هو الطبيعة". وفي "ط": "النفس الطبعي".
5 في "ط": "الأمة".(8/344)
ص -249-…ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير، لا من مساق الآية؛ فإنه ينافيه1 ولا من خارج؛ إذ لا دليل عليه كذلك، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم.
وقال2 في قوله: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44]: "الصرح" نفس الطبع، و"الممرد" الهوى إذا كان غالبًا ستر أنوار الهدى، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده.
وفي قوله3: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]؛ أي: قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون، والبيوت القلوب؛ فمنها عامرة بالذكر، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر.
وفي قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]؛ قال: "حياة القلوب بالذكر"4، وقال في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية [الروم: 41]: "مثل الله القلب بالبحر، والجوارح بالبر، ومثله أيضًا بالأرض التي تزهى بالنبات"، هذا باطنه5.
وقد حمل بعضهم قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذ كيف ينصب الأمر بالإحسان على هذه الأشياء؟ "د".
2 لا وجود لها في "تفسيره" المطبوع.
3 في "تفسيره" "ص107".
4 في "تفسيره" "ص112".
5 في "تفسيره" "ص112".
6 ذهب إلى نحو هذا القشيري في "لطائف الإشارات" "1/ 115"، وعبارته: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]، إشارة إلى أن الظالم خرب أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين"، ونقل نحوه الآلوسي في "روح المعاني" "1/ 364-365 في باب الإشارة في الآية"، وابن العربي في "قانون التأويل" "ص224-225".(8/345)
ص -250-…ونقل في قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] أن باطن النعلين هو الكونان: الدنيا، والآخرة1؛ فذكر عن الشبلي أن معنى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12]: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية، وعن ابن عطاء: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} عن الكون؛ فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب، وقال: النعل النفس، والوادي المقدس دين المرء، أي: حان وقت خلوك من نفسك، والقيام معنا بدينك، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف.
وهذا كله إن صح نقله خارج2 عما تفهمه العرب، ودعوى3 ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه، ولقد قال الصديق: "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر نحوه القشيري في "لطائف الإشارات" "2/ 448"، والآلوسي في "روح المعاني" "16/ 169"، وقال: "ولا يخفى عليك أنه بعيد"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 238".
"2 و3" فهو فاقد الشرطين السابقين. "د".
قلت: وانظر لزامًا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376 و13/ 237 وما بعدها"، و"مقدمة في أصول التفسير" "ص86-89, تحقيق زرزور"، و"الإحياء" "1/ 37"، والباب الخامس من كتاب "فضائح الباطنية" للغزالي.
4 له طرق كثيرة عن أبي بكر بألفاظ متعددة، سيأتي عند المصنف "ص276" لفظان فيها، وهي لا تخلو من كلام أو انقطاع، ولكنه بمجموعها يصل إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى، كما قال الحافظ ابن حجر وغيره، وهذا التفصيل:
أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" "ق 135/ ب و3/ 300/ رقم 3527" المطبوعة من طريق عبد الله بن مرة، والطبري في "تفسيره" "1/ 78/ رقم 78، 79" من طريق إبراهيم النخعي، وعبد الله بن مرة، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 833-834/ =(8/346)
ص -251-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 1561, ط الجديدة" من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر عن أبي بكر به.
وإسناده منقطع، أبو معمر هو عبد الله بن سخبرة الأزدي، لم يسمع من أبي بكر, وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "6/ 317"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271" لعبد بن حميد من طريق النخعي عن أبي بكر من غير ذكر أبي معمر، قال ابن حجر: "وهذا منقطع بين النخعي والصديق".
قال ابن عبد البر عقبه: "وذكر مثل هذا عن أبي بكر الصديق: ميمون بن مهران، وعامر الشعبي، وابن أبي مليكة".
قلت: أخرجه من طريق ابن أبي مليكة: سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 168/ رقم 39, ط الجديدة" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 792"- بإسناد صحيح إلى ابن أبي مليكة، وهو لم يسمع من أبي بكر الصديق, رضي الله عنه.
وأخرجه من طريق الشعبي, ابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512/ رقم 10152"، والخطيب في "الجامع" "2/ 193/ رقم 1585"، وروايته عن أبي بكر مرسلة، وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 824 وص227, ط غاوجي"، و
أبي شيبة في "المصنف" "10/ 513/ رقم 65101", وعبد بن حميد في "تفسيره", ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره"، قاله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158" بإسناد صحيح إلى العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به.
والعوام ثقة ثبت؛ فإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين التيمي وأبي بكر؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مقدمة أصول التفسير" "ص 108"، و"مجموع الفتاوى" "13/ 372"، والزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158"، وابن كثير في "تفسيره" "1/ 5 و4/ 473"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271".
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "5/ 228/ رقم 2082" من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد أن أبا بكر الصديق, رضي الله عنه... وذكر نحوه.(8/347)
وإسناده ضعيف، فيه ابن جدعان وهو ضعيف، والقاسم بن محمد روايته عن جده مرسلة؛ كما قال العلائي في "جامع التحصيل" "ص310".
والأثر بمجموع هذه الطرق لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ فقد ساقه ابن حجر في "الفتح" من طرق التيمي والنخعي، وأعلهما بالانقطاع، وقال: "لكن أحدهما يقوي الآخر".(8/348)
ص -252-…وفي الخبر: "من قال في القرآن برأيه فأصاب؛ فقد أخطأ"1.
وما أشبه ذلك من التحذيرات، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء، وربما ألم الغزالي بشيء منه في "الإحياء" وغيره، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم؛ فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين: منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه؛ فربما كذب به أو أشكل عليه، ومنهم من يكذب به على الإطلاق، ويرى أنه تقول وبهتان، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقدم أصل مسلم، يتبين به ما جاء من هذا القبيل، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، 5/ 200/ رقم 2952"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، 3/ 320/ رقم 3652"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 111"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 90/ رقم 1520"، و"المفاريد" "رقم 32"، وابن بطة في "الإبانة" "2/ 614/ رقم 798"، عن جندب بن عبد الله البجلي مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، فيه سهيل بن أبي حزم ليس بالقوي، قال الترمذي: "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم"، وله شاهد لا يفرح به عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "من قال في القرآن بغير علم؛ فليتبوأ مقعده من النار".
أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 4023"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 799"، وهو ضعيف أيضًا.
وانظر: "الإيمان" "273" لابن تيمية، و"شرح العقيدة الطحاوية" "167"، و"رفع الأستار" "111".(8/349)
ص -253-…المسألة العاشرة:
فنقول: الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر، إذا صحت على كمال شروطها؛ فهي على ضربين:
أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن، ويتبعه سائر الموجودات؛ فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب1 الأكوان من غير توقف، فإن توقف؛ فهو غير صحيح أو غير كامل، حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك2.
والثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها، ويتبعه الاعتبار في القرآن3.
فإن كان الأول؛ فذلك الاعتبار صحيح، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن، إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب4 التكاليف وأحوالها، لا بإطلاق، وإذا كانت كذلك؛ فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم، ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملًا به على تقليد أو اجتهاد؛ فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه، ويلزم من ذلك أن يكون معتدًّا به لجريانه على مجاريه، والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه؛ فإنه كله جارٍ على ما تقتضي به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل.
وإن كان الثاني؛ فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم، وأخذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "حجاب".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 377".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 240-241".
4 في "ط": "بحسب".(8/350)
ص -254-…على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول؛ فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن؛ فنقول:
إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة؛ فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني، وهو الوجودي1، ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي2 أيضًا؛ فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص؛ فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه [به] المربي، وهو أمر خاص، وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله، فكون القلب جارًا ذا قربى، والجار الجنب هو النفس الطبيعي، إلى سائر ما ذكر؛ يصح تنزيله اعتباريًّا مطلقًا، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدًّا عند أربابه، غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ.
وأيضًا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد؛ فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه، ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال الاعتبار الخارجي ما يروونه عن بعضهم في معنى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، قال: ألف شهر هي مدة الدولة الأموية؛ لأنها مكثت ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، وأن ذلك من الله تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أطلعه على ملوك بني أمية واحدًا واحدًا؛ فسري عنه بهذه السورة، هذا المعنى لم يؤخذ من القرآن، بل أخذ من الخارج والواقع في ذاته بمصادفة مطابقة العدد، واللفظ لا ينبو عنه، لكنه لا دليل من الشرع على كونه هو المعنى المقصود. "د". وفي "ط": "الوجدي".(8/351)
2 في "ط": "وجدي".(8/352)
ص -255-…وللغزالي في "مشكاة الأنوار" وفي كتاب1 الشكر من "الإحياء" وفي كتاب2 "جواهر القرآن" [في الاعتبار القرآني]3 وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة؛ فتأملها هناك، والله الموفق [للصواب].
فصل:
وللسنة في هذا النمط مدخل، فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد، وقابل أيضًا للاعتبار الوجودي؛ فقد فرضوا نحوه في قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة"4 إلى غير ذلك من الأحاديث، ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما جاء فيه "4/ 86" أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ...} إلى قوله: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33] إشارة إلى ضحك الجاهلين وتغامزهم على أهل السلوك، وقولهم: كيف يقولون: فني الشخص عن نفسه، وإنه ليأكل أرطالًا من الخبز في اليوم، وطوله كذا وعرضه كذا؟ قال: وكذلك أمة نوح كانوا يضحكون عليه عند صنعه للسفينة؛ فقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38]. "د".
2 منه "ص43" أن الفاتحة اشتملت من الأقسام العشرة التي هي علوم القرآن على ثمانية منها، وهي ما عدا محاجة الكفار وأحكام الفقهاء، ويتبين بهذا أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب العلوم، وما قدمهما إلا حب المال والجاه فقط، ثم قال "ص43": "إن الفاتحة مفتاح الكتاب ومفتاح الجنة؛ فأبواب الجنة ثمانية، ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية..."؛ فهذا من نوع الاعتبارات القرآنية، وقد أوضحه هناك بأن كل قسم بفتح باب بستان من بساتين المعرفة، وأن روح العارف لتفرح وتنشرح في رياض المعرفة بما لا يقل عن انشراح من يدخل الجنة التي يعرفها. "د".(8/353)
قلت: وناقش أبا حامد الغزالي في كلامه هذا ابن العربي المالكي في "قانون التأويل" "ص236 وما بعدها"؛ فانظره فإنه مفيد.
3 سقط من "ط".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب التصاوير، 10/ 380/ رقم 5949"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، 3/ =(8/354)
ص -256-…المسألة الحادية عشرة:
المدني من السور ينبغي أن يكون منزلًا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم1 يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله2.
وأول شاهد على هذا أصل3 الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم -عليه السلام- ويليه تنزيل سورة الأنعام؛ فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرج4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1665/ رقم 2106" عن أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعًا.
ويشير المصنف في الاستدلال بهذا الحديث على ما قاله ابن القيم في "الكلام في مسألة السماع" "ص397-398": "فإذا منع الكلب والصورة دخول الملك إلى البيت؛ فكيف تدخل معرفة الرب ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟!".
1 ف "ط": "وإن لم".
2 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 159-160 و17/ 125-126".
3 أي: إن الشريعة جاءت مبنية على ما سبقها من شريعة إبراهيم، مصححة لما غيروه منها ومكملة لها؛ فليكن هذا نفسه في إجراء بعضها مع بعض يكون المتأخر منها مكملًا لسابقه ومبنيًّا عليه، ويلي هذا الشاهد شاهد نزول سورة الأنعام التي هي من أوائل السور المكية؛ فإنك تجدها معنية بالأصول والعقائد، ثم جاءت سورة البقرة مفصلة لتلك القواعد، مبينة أقسام أفعال المكلفين... إلخ. "د".
4 انظر في ذلك: "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"، و"معركة النبوة مع المشركين أو قضية الرسالة كما تعرضها صورة الأنعام، كلاهما لأستاذنا الشيخ إبراهيم الكيلاني، طبع مكتبة الأقصى - عمان.(8/355)
ص -257-…العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا ما قالوا.
وإذا نظرت1 بالنظر المسوق في هذا الكتاب؛ تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية، التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلي.
ثم لما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات2 التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضًا؛ فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها؛ فبحكم التكميل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيًّا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب؛ وجدتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إلى سورة الأنعام بالنظر الكلي الأصولي الذي يعني به كتاب "الموافقات" نبين لك بجلاء اشتمالها على الأصول والكليات في الشريعة بالوصف الذي قاله، وكأنه لم ير أن يأخذ على عهدته اشتمالها على جميع قواعد التوحيد التي ذكروها في علم التوحيد إلى مبحث الإمامة، وأيضًا؛ فقواعد الشريعة -بالوصف الذي ذكره من أنها "إذا انخرم منها كلي... إلخ"- لا تخص قواعد التوحيد، بل تكون في العمليات أيضًا من بقية الضروريات والحاجيات... إلخ، ولم يذكروا اشتمالها عليها؛ فهو يزيد على كلامهم ببيان أنها تشتمل عليها أيضًا؛ فلهذا وذاك قال: "هذا ما قالوه"، فقوله: "وإذا نظرت" كالاستدراك على كلامهم بالزيادة والنقص. "د".(8/356)
2 هي وما بعدها أمثلة لما بينته سورة البقرة من أفعال المكلفين. "د".(8/357)
ص -258-…كذلك، حذو القذة بالقذة1؛ فلا يغيبن عن2 الناظر في الكتاب هذا المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه.
فصل:
وللسنة هنا مدخل؛ لأنها مبينة للكتاب؛ فلا تقع في التفسير إلا على وفقه، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث، كما يتبين ذلك في القرآن أيضًا، ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات؛ فتأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت، ففهم منها, يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات؛ كحديث: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"3.
أو حديث: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صادقًا من قلبه؛ إلا حرمه الله على النار"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القذة؛ بالضم: ريش السهام، وهو مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. "ف". وقال "ماء": "أي: الشيء الذي يقصص على الشيء كالنعل ونحوه".
2 هكذا في "د" وفي الأصل، و"ف" و"م" و"ط": "على".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 55/ رقم 26"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 1115"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 6، 7"، وأحمد في "المسند" "1/ 65، 69"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 32" عن عثمان بن عفان مرفوعًا.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...}، 6/ 474/ رقم 3435"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 57-58/ رقم 29" عن عبادة بن الصامت مرفوعًا. =(8/358)
ص -259-…وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين؛ فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق، وكان ما عارضها مؤولًا1 عند هؤلاء، وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر.
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا: إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين، وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلًا، وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه؛ لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئًا، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم؛ فلا حرج عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال "د": "فالتمثيل بمثله يحتاج إلى تحقق أنه كان قبل تقرير المشروعات من صلاة وصوم وحج وجهاد وغيرها، وذلك بعيد؛ فإن الحديث ورد في المدينة بعد فرضية الصلوات الخمس في مكة؛ فليراجع، نعم، إن حديث أبي ذر: "بشرني بأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، يمكن أن يكون في أوائل التشريع لتقدم إسلام أبي ذر؛ إلا أن قوله فيه: "وإن زنى وإن سرق" يفيد أنه ورد بعد تقرر حرمة الزنى والسرقة، وأقوى شبهة ترد على ما يقرره المؤلف في هذا ما سبق من حديث أبي هريرة وأخذه نعلي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ومشيه في الطريق يبشر الناس بهذه البشرى نفسها، وقول عمر للرسول: هل أرسلت أبا هريرة بهذه البشرى؟ قال: "نعم". فقال له عمر: "دعهم لئلا يتكلوا"؛ فإن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة بعد تقرر غالب أحكام الشريعة".(8/359)
أما "ف"؛ فاختصر الكلام، فقال: "رده الإمام النووي في "شرح مسلم" بأن راوي بعض هذه الأحاديث أبو هريرة, رضي الله عنه -وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق- وكانت أحكام الشريعة كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها وكذا الحج على الراجح من فرضه سنة خمس أو ست متقررة، وذكر لهذه الأحاديث ونحوها تأويلات، حكاها عن القاضي عياض وغيره لا يتسع المجال لإيرادها؛ فلتراجع".
1 في الأصل: "مؤول". وفي "ط": "مأول".(8/360)
ص -260-…لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية [المائدة: 93]، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
وإلى1 أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إلى..." بدون واو.(8/361)
ص -261-…المسألة الثانية عشرة:
ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه.
وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال: إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم1 اللسان الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم2 معانيه ولا قعدوا، كما تقدم عن الباطنية وغيرها، ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء.
والذين أخذوه على الإفراط أيضًا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى، وقد تقدم في كتاب المقاصد3 بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهودًا عند العرب؛ فلا يعتبر فيها، ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات4 في كلامها، ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار5 إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة، فما وراء ذلك إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قصروا في فهمه من جهة اللسان الذي جاء به، وحاولوا حمله على معان لا تعرفها العرب. "د".
2 في "ط": "تفهيم".
3 انظر ما مضى "2/ 109".
4 لكن هذا خلاف ما ذكروه من نقدهم للشعر من جهة لفظه، كما ورد في قصة الخنساء ونقدها المشهور لحسان في قوله: "لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى... البيتين"، حيث لاحظت عليه في ثمانية مواضع كلها ترجع إلى نقد اللفظ، وأنه لو عبر بغيره كان أحسن؛ فقالت: هلا قلت: "الجفان"؛ لأن الجفنات عدد قلة، ولو قلت: "يجرين" بدل "يقطرن"، ولو قلت: "يشرقن" بدل "يلمعن"... إلخ؛ إلا أن يقال: إنها ملاحظات ترجع إلى تحسين المعنى وتجويده، لا إلى اللفظ وتحسينه. "د". قلت: وتذكر القصة عن النابغة أيضًا، انظر: "شرح ديوان حسان" "ص425".
5 في "م": "الاعتبارات".(8/362)
ص -262-…كان مقصودًا لها؛ فبالقصد الثاني، ومن جهة ما هو معين على إدراك المعنى المقصود، كالمجاز والاستعارة والكناية، وإذا كان كذلك؛ فربما لا1 يحتاج فيه إلى فكر، فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر؛ خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف، وذلك ليس من كلام العرب، فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى.
وأيضًا؛ فإنه حائل2 بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب، من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه، وذلك أنه إعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، ورد إلى الصراط المستقيم؛ فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرًا عن ساعد الجد والاجتهاد، باذلًا غاية الطاقة في الموافقات، هاربًا بالكلية عن المخالفات، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ، والمعنى المقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه؟!
كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به، هذا لا يرتاب فيه عاقل.
ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء؛ فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون3 الاشتغال بالمعنى المقصود لا ينكر في الجملة، وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه، وليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "كان ذلك قريبًا لا...".
2 لأنه شغل كبير بما لا يعني، مضيع للوقت فيما ليس مقصودًا؛ فيحول عن المقصود كما بينه بقوله: "فكم بين من فهم... إلخ". "د".
3 أي: قبل الاشتغال. "د".(8/363)
ص -263-…كذلك باتفاق العلماء.
لأنا نقول: ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق، كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه؟ وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط، الذي يشك في كونه مراد المتكلم، أو يظن أنه غير مراد، أو يقطع به فيه؛ لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة؛ فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة: من أين فهمتم عني أني قصدت1 التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن، وأنه مقصود للمتكلم به خطرًا، بل هو راجع إلى معنى2 قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي، وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6].
وقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يلزم من التعريف عن وجود الجناس في القرآن أن يدعى أنه مقصود لله، بل على تسليم أن هذا ليس مما يجري على مقاصد العرب في كلامهم، يكون وقوع الجناس مما اتفق، كما اتفق أن هناك فقرًا من الآيات موافقة لشطرات من بحور الشعر, كما في قوله:
كسر الجرة عمدًا…وملأ الأرض شرابا
قلت لما غاب عقلي…ليتني كنت ترابا
فمن أين لنا أن من يستخرج الجناسات من القرآن يدعي أنها مقصودة لله في خطابه؟ حتى يكون فيه هذا الحظر. "د".
قلت: انظر "إعجاز القرآن" للباقلاني "ص51, تحقيق السيد صقر".(8/364)
2 وإنما قال: "إلى المعنى" لما هو ظاهر من أن الآيات في حادثة معينة، وهي حادثة الإفك؛ فيكون تنزيل الآية على ما نحن فيه من باب الاعتبارات ودلالة الإشارات. "د".(8/365)
ص -264-…وما أشبه ذلك؛ فإنه شائع في كلام العرب، مفهوم من مساق الكلام، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة، والتجنيس ونحوه ليس كذلك، وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه؛ إذ ليس في التجنيس ذلك، والشاهد على ذلك ندوره من1 العرب الأجلاف البوالين على أعقابهم -كما قال أبو عبيدة- ومن كان نحوهم، وشهرة الكناية وغيرها، ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به؛ فالحاصل أن لكل علم عدلًا وطرفا إفراط وتفريط، والطرفان هما المذمومان، والوسط هو المحمود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عن".(8/366)
ص -265-…المسألة الثالثة عشرة:
مبنية1 على ما قبلها؛ فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط؛ فمأخذ الوسط ربما كان مجهولًا، والإحالة على مجهول لا فائدة فيه؛ فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محصول المسألة قبلها أن بعض الناس يفرط في تفهمه للقرآن؛ فيحمله على غير ما تقتضيه اللغة العربية كالباطنية وأشباههم، وبعضهم يفرط في جلب مباحث اللغة حوله؛ فيحمله زيادة عما يقصده العرب في مخاطباتهم بمثله مما لم ينظر بمثله السلف فيه كالمحسنات اللفظية وادعاء أنه ذكر لفظ كذا دون مرادفه بقصد كذا، وهذا تقول على الله؛ فلا بد من طريق وسط، أما هذه المسألة؛ فمحصلها إرشاد إلى طريقة فهم الكتاب من ناحية ربط بعض جمله المشتركة في قضية واحدة، وأنه بمعاضدة بعضها لبعض يتبين مقصود الخطاب، ويتبين فقه الكلام، وأنه لا يؤخذ جملة منقطعة عن سابقها ولاحقها، وأن السور النازلة في قضية واحدة أمرها في ذلك ظاهر كما مثل، أما السور المشتملة على قضايا كثيرة؛ فهل ينظر فيها إلى ترتيب السورة كلها ككلام واحد؟ قال: نعم، إن ذلك يفيد من وجهة الإعجاز، وإدراك انفراد الكتاب بمرتبة في البلاغة لا تنال، ثم ذكر في الفصل بعدها أنه هل يفيد النظر فيما بين السور بعضها مع بعض؟ هذه خلاصة المسألتين؛ فأين ابتناء هذه المسألة على ما قبلها وكل منهما في ناحية؟ نقول: نعم، إن النظر في الجملة الواحدة، والجمل المشتركة في القضية وفيما بين السورة كلها ولو كانت متعددة القضايا إنما يكون وسيلة اللغة العربية وقواعدها المعروفة في فنونها؛ فكأنه يقول: إن ما نحتاج إليه من ذلك ما يكون معينًا على فهم الجمل منفردة ومنضمة إلى أخواتها في قضية أو قضايا، وما زاد أو نقص عنه؛ فإفراط أو تفريط؛ فهذا هو الضابط الذي نأخذ به من مباحث اللغة، وكلامه لا ينافي أنه لا بد أيضًا من الوسائل الستة المتقدمة له، من أسباب النزول، والناسخ(8/367)
والمنسوخ، والمكي والمدني، وعلم القراءات وعلم الأصول، وقد أشار إلى بعض ذلك بقوله: "وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل"، وعليك بالتأمل في المقام لتعرف هل لا بد للفهم الوسط من ملاحظة هذين الأمرين من الأمور الستة المشار إليها، وإذا تذكرت ما سبق له من بناء المدني بعضه على بعض والمكي كذلك وبناء المدني على المكي؛ لاح لك وجه الحاجة في هذا المقام أيضًا إلى معرفة المكي والمدني، فاستمد المعونة منه تعالى لتصل إلى علم نافع. "د".(8/368)
ص -266-…والقول في ذلك -والله المستعان- أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان؛ فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم و1الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب2 القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل؛ فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد3 آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية؛ رجع إلى نفس الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد؛ فعليه بالتعبد به، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل؛ فإنها تبين كثيرًا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر.
غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدًا بكل اعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل، وتارة يكون متعددًا في الاعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة؛ كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، واقرأ باسم ربك، وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة، أم نزلت شيئًا بعد شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الواو زائدة وما بعدها خبر عن الذي، أي: إن الضابط الذي يلزم أن يكون على بال من يريد الفهم هو الالتفات... إلخ. "د". قلت: هي في "ط": "المستمع المتفهم الالتفات".
2 لا بحسب السورة برمتها دائمًا؛ فقد تكون السورة نازلة في قضايا كثيرة؛ فكل قضية تعتبر وحدها طالت أو قصرت، كما يأتي بيانه في سورة البقرة وسورة المؤمنون. "د".(8/369)
3 أي: بمعرفة أنها بيان لها، أو توكيد، أو تكميل، أو تفريع، أو تقرير، وهكذا مما يقتضيه النظر العربي. "د".(8/370)
ص -267-…ولكن هذا القسم له1 اعتباران:
اعتبار من جهة تعدد القضايا؛ فتكون كل قضية مختصة بنظرها، ومن هنالك2 يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول؛ فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه.
واعتبار من جهة النظم3 الذي وجدنا عليه السورة؛ إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال، ويشترك معه أيضًا القسم الأول؛ لأنه نظم ألقي بالوحي، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز، وبعض مسائل نبه عليها في المسألة4 السابقة قبل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لها".
2 أي: من النظر في كل قضية على حدتها. "د".
3 أي: يوضع كل جزء منها في مكانه مع تعدد القضايا، وقوله: "ويشترك معه أيضًا القسم الأول"؛ أي: من جهة وضع كل جملة منه في مكانها، ولكن قوله: "وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر" غير ظاهر في القسم الأول؛ لأن هذا الوضع من القسم الأول يفيد الفقه المطلوب في القضية، بل قد يتوقف الفقه فيها على النظر فيما بين أجزائها من فصل ووصل يتبين بهما غرض التوكيد من غرض التكميل، وهكذا من الأغراض التي تفهم من نظم الجمل بعضها مع بعض في القضية الواحدة، أليس هذا هو الذي يقول فيه: إنه لا بد "من رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف..." إلى أن قال: "فعليه بالتعبد به". "د".
قلت: انظر إشارات قوية وبديعة في ضرورة ما ذكره المصنف عند الفراهي في "دلائل النظام"، وهو مطبوع بالهند.(8/371)
4 الحادية عشرة من بناء المدني على المكي وبناء كل بعضه على بعض في الفهم، وهذا يؤكد ما قلناه من أن النظر فيما بين أجزاء القضية الواحدة يفيد فقهًا؛ إلا أنه يقال: لا يلزم من تقدم جملة على أخرى في النظم أن تكون متقدمة عليها في النزول كما في آيتي العدة في ربع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْن} [البقرة: 233]؛ فالآية السابقة في التلاوة والنظم متأخرة في النزول، وناسخة للمتأخرة، وكلاهما مدني أيضًا. "د".(8/372)
ص -268-…وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات؛ فاعتبار جهة النظم مثلًا في السورة لا تتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر؛ فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها.
فسورة البقرة مثلًا كلامٌ واحد باعتبار النظم1، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك2 تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك.
ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام؛ فبه يبين ما تقدم، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 183-187] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى، وحاصله بيان الصيام وأحكامه، وكيفية أدائه3، وقضائه، وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها.
ثم جاء قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188] كلامًا4 آخر بين أحكامًا أخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في: "النبأ العظيم" "ص163 إلى آخر الكتاب"، و"النظم في سورة البقرة" لحسين الدراويش، أطروحة دكتوراه عن قسم الآداب في الجامعة الأردنية.
2 أي: المقصود الأول في الإنزال هو تقرير الأحكام في كل باب وقضية من القضايا المتعددة. "د".
3 في "د": "آدابه"، وهو خطأ، وما أثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
4 في "ط": "كلام".(8/373)
ص -269-…وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وانتهى الكلام على قول طائفة، وعند أخرى أن قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} الآية [البقرة: 189] من تمام1 مسألة الأهلة، وإن انجر معه2 شيء آخر، كما انجر على القولين معًا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] نازلة في قضية واحدة3.
وسورة {اقْرَأْ} نازلة في قضيتين4.
الأولى إلى قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.
وسورة "المؤمنون"5 نازلة في قضية واحدة، وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى:
أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه؛ كنفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهو ضرب مثل لسؤالهم عن الهلال يبدو صغيرًا... إلخ، ولبيان أن هذا السؤال خروج عما يهمهم في دينهم ودنياهم، وأنه مجرد تعسف كإتيان البيوت من ظهورها بدل أبوابها. "د".
قلت: ومضى تخريج سؤالهم عن الهلال... في "3/ 149".
2 في "ط": "معها".
3 انظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" "3/ 256" للبقاعي، وله أيضًا كلام بديع على هذه السورة -لا يوجد في كتاب- في آخر كتابه "الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة"، يسر الله نشره.
4 انظر: "مصاعد النظر" "3/ 213".
5 انظر: "مصاعد النظر" "2/ 303"، و"في ظلال القرآن" "4/ 2452".(8/374)
ص -270-…الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة، من كونه مقربًا إلى الله زلفى، أو كونه ولدًا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد، وأنه رسول الله إليهم جميعًا، صادق فيما جاء به من عند الله؛ إلا أنه وارد على وجوه أيضًا؛ كإثبات كونه رسولًا حقًّا، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.
والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به؛ فرد بكل وجه يلزم الحجة، ويبكت الخصم، ويوضح الأمر.
فهذه المعانى الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها؛ فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب، والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك.
فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة "المؤمنون" مثلًا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه؛ إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين1 الباقيين, وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعًا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم، أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن كانت؛ فجاءت2 السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى؛ فافتتحت السورة بثلاث جمل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إلى المعنيين".
2 في نسخة "د": "جاءت فكانت".(8/375)
ص -271-…إحداها, وهي الآكد في المقام: بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه، وذلك قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون...} إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [المؤمنون: 1-11].
والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جاريًا على مجاري الاعتبار1 والاختيار، بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلًا.
والثالثة: بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق، والإعانة على إقامة الحياة، وأن ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما، وكفى بهذا تشريفًا وتكريمًا.
ثم ذكرت قصص من تقدم مع2 أنبيائهم واستهزاءهم بهم بأمور منها كونهم من البشر؛ ففي قصة نوح مع قومه قولهم: {قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24].
ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولًا منهم؛ أي: من البشر لا من الملائكة؛ فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} الآية [المؤمنون: 33].
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34].
{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38]؛ أي: هو من البشر. ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44].
فقوله: {رَسُولُهَا} مشيرًا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاعتناء".
2 في "ط": "من".(8/376)
ص -272-…ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون، وملئه بقولهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] إلخ.
هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية، تسلية لمحمد -عليه الصلاة والسلام- ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى؛ فقال بعد تقرير رسالة موسى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]؛ أي: هذا من نعم الله عليكم، والعمل الصالح شكر تلك النعم، ومشرف للعامل به؛ فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة، وقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، إشارة إلى التماثل بينهم، وأنهم جميعًا مصطفون من البشر، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ...} إلى قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [المؤمنون: 57-61].
وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا؛ فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافًا إلى المعنى الآخر، وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية؛ استكبارًا من أشرافهم، وعتوًّا على الله ورسوله؛ فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار، وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف؛ فإن التارات1 السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف، وأصله العدم؛ فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها، ولولا2 خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "النارات".
2 في "ط": "إذ لولا".(8/377)
ص -273-…الجارية؛ فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق، فهذا كله كالتنكيت عليهم، والله أعلم.
ثم ذكر القصص في قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24]، والملأ هم الأشراف.
وكذلك فيمن بعدهم: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} الآية [المؤمنون: 33].
وفي قصة موسى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام، ثم قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ...} إلى قوله: {لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 54-56] رجوع إلى وصف أشراف قريش، وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين؛ فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57].
ثم رجعت الآيات1 إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم، وذكر النعم عليهم، والبراهين عل صحة النبوة، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية، ونفى الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين؛ فهذا النظر إذا اعتبر كليًّا2 في السورة وجد على أتم من هذا الوصف، لكن على منهاجه وطريقه، ومن أراد الاعتبار3 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ...} إلخ. "د".
2 أي: إن بيانه لذلك إجمالي لا تفصيلي، ولو أنه اعتبر التفصيل الكلي لكان ظهور ارتباط أجزاء السور بعضها ببعض، وأنها لبيان الأمور الثلاثة التي ذكرها أولًا أوضح مما قال. "د".
3 في نسخة "د": "الاختيار".(8/378)
ص -274-…سائر سور القرآن؛ فالباب مفتوح، والتوفيق بيد الله؛ فسورة "المؤمنون" قصة واحدة في شيء واحد.
وبالجملة؛ فحيث ذكر قصص الأنبياء -عليهم السلام- كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهارون، فإنما ذلك تسلية لمحمد -عليه الصلاة والسلام- وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة، فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله، وبذلك اختلف1 مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال، والجميع حق واقع لا إشكال في صحته، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن، والله المستعان.
فصل2:
وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار، حسبما تبين في علم الكلام3، وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد تنزلًا لما هو من معهودهم فيه، هذا محل احتمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فتارة تذكر مفصلة مطولة، وتارة يقتصر على بعض آخر، بحسب ما يقع منهم له, صلى الله عليه وسلم. "د"، وفي "ط": "ويدلك اختلاف".
2 الكلام قبله في النظر إلى السورة الواحدة والكلام هنا في النظر إلى القرآن كله جملة واحدة. "د".
3 هذا قائم على أصل مخالف لعقيدة السلف، أعني: إنه قائم على أن كلام الله معنى قائم بالنفس، مجرد عن الألفاظ والحروف، وهذا مخالف للكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 522-523، 9/ 283 و12/ 49-50، 122، 166"، و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية" "ص278-279 وص345 وما بعدها".(8/379)
ص -275-…وتفصيل.
فيصح في الاعتبار أن يكون واحدًا بالمعنى المتقدم، أي: يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضًا؛ حتى إن كثيرًا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلًا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك؛ فبعضه متوقف على البعض في الفهم؛ فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد؛ فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار1.
ويصح أن لا يكون كلامًا واحدًا، وهو المعنى الأظهر فيه؛ فإنه أنزل سورًا مفصولًا بينها معنى وابتداء؛ فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الكلام، وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب2 يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للأفهام، وذلك لا إشكال فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الظاهر الذي يصح التعويل عليه، وأدلته فيه لا تنقض، وأما كونه نزل سورًا مفصولًا بعضها من بعض ببسم الله... إلخ؛ فلا يقتضي استقلال بعضها عن بعض بالمعنى المراد، وكيف يتأتى بناء المدني على المكي، وأن كل منهما يبنى بعضه على بعض إذا أخذت كل سورة على حدتها غير منظور فيها لما ورد في غيرها؛ وأين يكون البيان والنسخ؟ ومعلوم أنه لا يلزم في البيان ولا في النسخ أن يكون المنسوخ والناسخ والمبين والبيان في سورة واحدة؛ فقوله: "ولا إشكال فيه" غير ظاهر. "د".
2 في "ط": "ولأسباب".(8/380)
ص -276-…المسألة الرابعة عشرة:
إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضًا ما يقتضي إعماله، وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق؛ فإنه نقل عنه أنه قال, وقد سئل في شيء من القرآن: "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟"1.
وربما روي فيه: "إذا قلت في كتاب الله برأيي"1.
ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن؛ فقال: "أقول2 فيها برأيي، فإن كان صوابًا؛ فمن الله، وإن كان خطأ؛ فمني ومن الشيطان، الكلالة كذا وكذا"3.
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن، وهما لا يجتمعان.
والقول فيه أن الرأي ضربان4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص250".
2 في "د": "لا أقول"، والصواب حذف "لا".
3 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 911/ رقم 1712" عن ابن مسعود، ولم يسنده".
4 قد حذر العلماء قديمًا عن التفسير بالرأي، ولكنهم لم يبينوا كل البيان ما هو المراد من التفسير بالرأي، وإذ كان المروي في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قليلًا جدًّا، ولم يكثر فيه أيضًا ما روي عن الصحابة، فأضافوا به ما روي عن التابعي وتبعهم مع اختلاف الأقاويل بينهم، وعلى هذا صنف ابن جرير -رحمه الله- تفسيره وهو أحسن التفاسير حتى قيل: إنه لم يصنف مثله.
والقرآن قد تضمن من الحكمة والمعارف ما لا يحيط به إلا الله تعالى، وقد حث القرآن نفسه على التفكير والتدبر فيه، وقد تبين لأصحاب العقول معارف غامضة قد تضمنها الآيات ولم يجدوها فيما روي عن السلف؛ فذكروها في تفاسيرهم، وأكبر التفاسير المتداولة التي كتبت على هذا الطريق ما ألفه الإمام الرازي, رحمه الله.(8/381)
ص -277-…أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة؛ فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكلاهما متلقى بالقبول بين المسلمين عامة، مع اتفاق العلماء على أن كليهما يحتوي على الغث والسمين، ولا بد للناظر فيهما من النقد والإمعان؛ فنوجهك إلى هذين التفسيرين لتقيس عليهما غيرهما؛ فإنهما مثالان لسائر التفاسير، ثم نبين لك ما هو التفسير بالرأي الذي ذمه العلماء, وما هي الطريق المثلى التي تعصمك منه.
فاعلم أن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- أجمعين قد اختلفوا كثيرًا في التأويل مع تقارب خطاهم، فلو أخذوا تأويلاتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اختلفوا، ولكنهم أخذوها عن علمهم باللسان، واقتصارهم على علمهم بنظائر الآيات وعلمهم بالسنة، وعن بصيرة يعطيها الله عباده، ولذلك ترى أنهم يتقاربون في المآل، وبالجملة؛ فإنهم لم يؤولوا القرآن بالرأي المذموم الذي لا مستند له في الكتاب والسنة ولسان العرب.
إن السلف اختلفوا في تأويل القرآن كثيرًا؛ لكونه جامعًا لوجوه كثيرة، ولكونهم متفاوتين في مدارج العقول، وهذا كما اختلفوا في الفتاوى، ولكنهم مع ذلك اعتمدوا على أصول راسخة للتأويل، فلم يعتمدوا على الرأي المحض وهوى النفس؛ فكان غالب خلافهم خلاف تنوع لا خلاف تضاد.(8/382)
ومن قال: إن التفسير الذي لم يكن منقولًا عن السلف فهو التفسير بالرأي؛ فمحمول على أن من ترك المنقول أو شك أن يقع في أوهامه فيرى الباطل معقولًا كما قالوا في من لم يتقلد السلف في الفتاوى وركب رأسه؛ فلا يؤمن إبعاده عن جادة الشريعة كل الإبعاد، وكذلك محمول على أخذ ما يحتاج إليه في علم أسباب النزول ومواقعه؛ فلا بد أن يؤخذ من النقل مع التنقيد والاختيار بما صح وثبت، ولا يحمل ذلك على ترك النظر في دلالة القرآن، وحمل الآية على نظائرها، والجمود على المنقول المحض، وعدم الفرق بين صحيحه وسقيمه، وتسويته في الاعتماد، فإن المنقول جله الأحاديث الضعاف والمتناقض بعضها بعضًا، بل المتناقض لظاهر القرآن؛ فهل يعتمد عليها، أو يترك القرآن لا يتدبر فيه ولا يفهم معانيه؟ نعم، ينظر في ما نقل من السلف للتأكيد عند الموافقة، ورجع النظر عند المخالفة؛ حتى يطمئن القلب بما يفهم من الكلام، فإنه أوثق وأبعد عن الخطأ.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 370-375"، و"قانون التأويل" "366" لابن العربي، و"التكميل في أصول التأويل" "ص7-9" للفراهي.(8/383)
ص -278-…أحدها: أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى، واستنباط حكم، وتفسير لفظ، وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم؛ فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن؛ فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبينًا ذلك كله بالتوقيف؛ فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أن عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك1 فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم؛ فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف2.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا؛ فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن حبان في "الثقات" "7/ 396" بسند فيه ضعف عن عائشة قالت: "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفسر شيئًا من القرآن إلا آيًا علمهن إياه جبريل".
2 قد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلًا جدًّا، وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، إذ لو كان صلى الله عليه وسلم فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم؛ لجمد القرآن جمودًا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها؛ فإن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية؛ فتأمل حكمة ذلك السكوت؛ فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه، قاله الرافعي في "إعجاز القرآن" "ص14, الهامش"، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة.(8/384)
3 لما رأى أهل السنة أن أهل البدعة والباطل جعلوا يؤولون القرآن بالهوى ويحملون النصوص على غير مرادها؛ تحرجوا الاشتغال بالأقاويل في التفسير؛ إلا ما روي عن الصحابة والتابعين، ولا شك أنهم لم يريدوا بذلك إلا سدًّا لأبواب الفتنة، وكان ذلك هو الطريق، فإن التأويل إذا لم يؤسس على قواعده التي تكون فارقة بين الحق والباطل؛ لم يمنع عن القول بالرأي المحض. =(8/385)
ص -279-…والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية؛ فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلًا.
ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل؛ فاللازم عنه مثله، وبالجملة؛ فهو أوضح من إطناب فيه1.
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري2 على الأدلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأما الصحابة والتابعون؛ فأولوا القرآن بالعلم والنظر الصحيح، فإن تصفحنا الأصول التي جروا عليها كانت لنا أسوة حسنة في تدبر كتاب الله، وقد جمع أهل التأويل نبذًا من أقوالهم، ولكنهم لم يجمعوا أصول تدبرهم، والحاجة إلى ذلك شديدة؛ فإن الله تعالى أوجب التفكر في كتابه بصريح القول في غير ما آية، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وعلمهم النظر والاستنباط، وكان ذلك مما فرض الله عليه.
وإذ غلب على أكثر الناس أن القول بما لم يرو عن السلف هو القول بالرأي؛ فصار ذلك مانعًا عن التفكر والتدبر، احتجنا إلى بيان الفرق بين القول بالرأي المنهي عنه وبين طريق السلف الذين تفكروا وتدبروا في القرآن، وإلى بيان الحاجة الشديدة إلى استعمال الفكر والتدبر في كتاب الله.
من العجائب بل من المصائب أن يشتبه الحق بالباطل عند أهل الحق؛ فيتعصبون للباطل، ويعثرون في وضح النهار بعدما جاءتهم البينات ضمن ذلك حرموا الفكر والنظر في آيات الله المشهودة والمتلوة، وجعلوا السنة بدعة والبدعة سنة، وذلك بعد أن علموا أن القرآن قد حث على الفكر والتدبر في كليهما، وأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتدبرون القرآن، ويقولون بما فهموا منه وينقلون ذلك عنهم.
انظر: "التكميل في أصول التأويل" "ص9" للفراهي.
1 كتب "م" في الهامش: "هكذا في المطبوعات الثلاث، ولعل الأصل الكلام: "فهو أوضح من أن يحتاج إلى إطناب فيه"".
2 لعل الصواب: "غير الجاري".(8/386)
ص -280-…الشرعية؛ فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذمومًا في القياس أيضًا، حسبما هو مذكور في كتاب1 القياس؛ لأنه تقول على الله بغير برهان؛ فيرجع إلى الكذب على الله تعالى.
وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء؛ كما روي عن ابن مسعود: "ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم؛ فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق"2.
وعن عمر بن الخطاب: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه"3.
وعن عمر أيضًا: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع المسألة الثانية في القياس من كتاب "الإحكام" للآمدي. "د".
2 أخرجه عبد الرزاق في "الجامع" "11/ 252/ رقم 20465"، والدارمي في "السنن" "1/ 54"، والطبراني في "الكبير" "9/ 189/ رقم 8845"، وابن وضاح في "البدع" "25"، والمروزي في "السنة" "24-25"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 43"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 387"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/ رقم 2363"، كلهم من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن ابن مسعود به بألفاظ المذكور أحدها.
وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 26"، ولذا قال البيهقي عقبه: "وهذا مرسل، وروي موصولًا من طريق الشاميين".
قلت: أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 388" من طريق أبي إدريس الخولاني عن ابن مسعود، وذكره المصنف من قوله في "الاعتصام" "1/ 77".
وأخرجه الآجري في "الشريعة" "48"، وابن وضاح في "البدع" "25-26" نحوه عن معاذ.
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/ رقم 2364" بإسناد رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، عمرو بن دينار لم يسمع من عمر, رضي الله عنه.(8/387)
ص -281-…فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله"1.
والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]؛ فقال: "أي سماء تظلني"2 الحديث.
وسأل رجل ابن عباس عن {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]؛ فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ3 سَنَةٍ} [السجدة: 5]؟ فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: "هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم"4.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن؛ قال: "أنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2368" عن الأعرابي معلقًا، وذكره بسنده، وهو ضعيف، فيه سويد بن سعيد، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من عمر.
2 مضى تخريجه من عدة طرق عن أبي بكر، يصل بمجموعها إلى الحسن، كما بيناه ولله الحمد في التعليق على "ص250".
والأب: الكلأ والمرعى؛ فهو للدواب كالفاكهة للإنسان، وقيل: هو كل ما أخرجت الأرض من النبات. "خ".
3 في الأصول: "... مقداره خمسين ألف"، وما أثبتناه هو الموجود في مصادر التخريج. "استدراك3".
ومن "م" تكرار أول المسألة؛ إلا أنه جعل السؤال عن يوم بألف سنة.
4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "227-228"، وعزاه له ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372-373"، وفي آخره عندهما: "يعلم" بدلًا من "نعلم"، وفي "تفسير القرطبي" "18/ 283": "لا أعلم"، وإسناده صحيح.(8/388)
ص -282-…لا أقول في القرآن شيئًا"1.
وسأله رجل عن آية؛ فقال: "لا تسألني عن القرآن، وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه, يعنى عكرمة"2، وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن شيء من القرآن؛ فقال: "اتق الله، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن"3.
وعن مسروق؛ قال: "اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله"4.
وعن إبراهيم؛ قال: "كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه"5.
وعن هشام بن عروة؛ قال: "ما سمعت أبي6 تأول آية من كتاب الله"7،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 34".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 86"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 37".
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "228"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 89"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374".
4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 34".
قلت: وفي الأصل و"ط": "على الله".
5 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 222"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374".
6 كيف وقد تأول عروة آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] على غير وجهها، وقالت له أم المؤمنين خالته: بئسما قلت يابن أختي، إلا أن يقال: إنه نفي سماعه، أو =(8/389)
ص -283-…وإنما هذا كله توقّ وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم، والقول فيه من غير تثبت1، وقد نقل عن الأصمعي -وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة- أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب، انظر الحكاية عنه في "الكامل"2 للمبرد.
فصل:
فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء:
- منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة؛ فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374-375" بعد أن ساق جملة من هذه الآثار: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم له به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا؛ فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموا وسكتوا عما جهلوه،وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به؛ فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه".
2 يريد المصنف قول المبرد في "الكامل" "2/ 43": "وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا"؛ لأن الخبر في هذا بعينه " مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا ينشد شعرًا فيه هجاء، وكان لا يفسر شعرًا يوافق تفسيره شيئًا من القرآن، هكذا يقول أصحابه".(8/390)
ص -284-…إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ، والهيبة والخوف من الهجوم؛ فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم، وهيهات!
والثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم؛ فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض؛ فهذا أيضًا داخل تحت حكم المنع من القول فيه؛ لأن الأصل عدم العلم، فعندما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين؛ فانسحاب الحكم الأول عليه باقٍ بلا إشكال، وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره؛ فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين، ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل.
- ومنها: أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من تقدمه، ووكل إليه النظر فيه غير ملوم، وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه، وعلى حكم الضرورة؛ فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن؛ فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد؛ فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا، أو عنى كذا بكلامه المنزل، وهذا عظيم الخطر.
- ومنها: أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد1 منه للمتكلم، والقرآن كلام الله؛ فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقصيد؛ أي: نسبة قصد هذا المعنى لصاحب الكلام. "م".(8/391)
ص -285-…من هذا الكلام؛ فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا؛ فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضًا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلا؛ فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة؛ فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله، وإلا كان باطلًا، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم.(8/392)
ص -289-…المسألة الأولى:
يطلق لفظ "السنة" على ما جاء منقولًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص، مما لم ينص1 عليه في الكتاب العزيز، بل إنما نص عليه من جهته عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "المنهاج": "هي ما صدر منه -صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال التي ليست للإعجاز، يعني ليست من القرآن، وقد تكون متضمنة لمعنى ورد فيه؛ فقوله: "مما لم ينص عليه في الكتاب" ليس معناه أنه يلزم في إطلاق السنة ألا تكون واردة في معنى قد تضمنه الكتاب العزيز، بل معناه مما لم يكن معتبرًا جزء من الكتاب بنفس ألفاظه، ويدل على هذا قوله: "كان بيانًا لما في الكتاب أو لا"؛ لأنه إنما يكون بيانًا له إذا كان الكتاب متضمنًا لأصل المعنى؛ فتجيء السنة شارحة ومبينة، وزاد بعضهم قيد: "مما ليس من الأعمال الطبيعية"، وتركه غيره لظهوره، وقوله: "كان ذلك مما نص عليه في الكتاب"؛ أي: وحده أو مع السنة أيضًا، وقوله: "أو لا" أي: بأن نص عليه في السنة فقط، وإنما حملناه على هذا ليصح كون هذا المعنى مغايرًا لما قبله وأعم منه، وقوله: "وإن كان العمل بمقتضى الكتاب"؛ أي: في بعض صور هذا الإطلاق، هذا وظاهر قوله أولًا: "بل إنما نص عليه من جهته" أن هذا الإطلاق خاص بالأقوال، ولا يشمل الأفعال، وقوله بعد: "عمل على وفق ما عمل عليه النبي -عليه السلام- مع ضميمة قوله، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة" يقتضي أن الإطلاق الثاني خاص بالأفعال، ولا يشمل الأقوال المتوجهة منه إلى غيره بالأوامر والنواهي فيما لا يتعلق به -عليه السلام- ويكون قول صاحب "المنهاج" وغيره: إن السنة ما صدر منه... إلخ تعريفًا للإطلاق العام، ويكون كل من هذين الإطلاقين في كلام المؤلف خاصًّا، ويساعد على أن غرضه الخصوص في الإطلاقين قوله بعد: "وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه"، وقد عد منها الإقرار وجهًا، وإن(8/393)
لم يصرح به في تفاصيل الإطلاقات؛ إلا أنه تقدم له عد الإقرار من الأفعال. "د".
قلت: وانظر في معنى السنة: "شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"الإحكام" للآمدي "1/ 196"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 306-309 و22/ 540 و28/ 18، 378"، و"حجية السنة" "ص68".(8/394)
ص -290-…والسلام، كان بيانًا لما في الكتاب أو لا.
ويطلق أيضًا في مقابلة البدعة؛ فيقال: "فلان على سنة" إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا، ويقال: "فلان على بدعة" إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة؛ فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب.
ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة1 أو لم يوجد؛ لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا2 مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضًا إلى حقيقة3 الإجماع من جهة4 حمل الناس عليه حسبما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عثرنا عليه في السنة أو لم نعثر عليه فيها؛ ليصح قوله بعد: "لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، وإذا حمل قوله: "لم يوجد" على ظاهره، وأنها لم تصدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلًا لم يظهر قوله: "لكونه اتباعًا لسنة... إلخ"؛ فإنه وما بعده راجع إلى قوله: "أو لم توجد" بيانًا له، ولو كان هذا راجعًا إلى قوله "وجد"؛ لم يكن لتقييده بقوله "لم تنقل إلينا" معنى. "د".
قلت: قد يحمل مراد المصنف في قوله: "لكونه اتباعًا لسنة"؛ أي: عملهم؛ فبمجرد ثبوت أمر ما أنه من عمل الصحابة؛ فهو من السنة لأن السنة قامت على اعتبار عمل الصحابة، فهذا الأمر وإن لم ينقل إلينا؛ فهو من السنة، ولهذا الاعتبار أدخلوا الموقوف في أقسام الحديث النبوي.
وانظر: "قمر الأقمار" "2/ 2"، و"حجية السنة" "ص69".
2 لا يقال: إن الاجتهاد هو النظر في الأدلة من كتاب وسنة... إلخ؛ فلا تظهر مقابلته بما قبله لأنا نقول: إن صورة اتباع السنة تفرض فيما كان الدليل هو السنة مباشرة، وما بعده بواسطة القياس ونحوه. "د". قلت: في "ط": "اجتهاد".(8/395)
3 انظر لمَ لم يقل: "راجع إلى اتباع سنة لم تنقل إلينا" كما قال في سابقه؟ بل اقتصر فيه على شق الاجتهاد والإجماع، قد يقال: إن الأول في الحقيقة داخل في إطلاق السنة المشهور؛ فلا حاجة للنص عليه إلا لمجرد التنبيه على صورة يتوهم عدم دخولها، والمهم عنده هو إدخال ما يرجع لبقية الأدلة من الإجماع والاستحسان والمصالح؛ فلذا لم يكرره فيما يتعلق بخلفائهم، لكن كان عليه أن يذكر القياس أيضًا. "د".
4 أي: فلما حملوا الناس عليه، والتزمه الجميع، وساروا فيه بدون نكير؛ دل على إجماعهم عليه، وهو أولى بالقبول من الإجماع السكوتي؛ لأن هذا قد صاحبه عمل الجميع. "د".(8/396)
ص -291-…اقتضاه النظر المصلحي عندهم؛ فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح1 المرسلة والاستحسان، كما فعلوا في حد الخمر2، وتضمين3 الصناع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان منها في عهد الصحابة. "د".
2 حيث كان تعزير الشارب في عهده -صلى الله عليه وسلم- غير محدود، بل كانوا يضربون الشارب تارة نحو أربعين وتارة يبلغون ثمانين، وكذا في عهد أبي بكر، فلما كان في آخر إمرة عمر، ورأى شيوع الشرب في الناس، بعدما صاروا في سعة من العيش وكثرة الثمار والأعناب؛ استشار الصحابة في حد زاجر؛ فقال علي: "نرى أن تجلده ثمانين لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري جلد ثمانين"، وقال عبد الرحمن بن عوف: "أرى أن تجعلها كأخف الحدود "يعني ثمانين""، وعليه؛ فتحديد الثمانين هو السنة التي عمل عليها الصحابة باجتهاد منهم، وأجمعوا عليه. قال في "المرقاة": "أي: للسياسة". "د".
قلت: وأثر علي "نرى أن تجلده..." أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 842"، ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 90, ترتيب السندي"، وإسناده منقطع، ووصله النسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "5/ 118"- وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 378/ رقم 13542"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 375"، وفي صحته نظر، كما قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 75"، وعلل ذلك من وجهين؛ فلينظرا في كلامه، وأما مقولة عبد الرحمن؛ ففي "الصحيحين".(8/397)
3 قال في "منح الجليل" "7/ 513": "وقد أسقط النبي -صلى الله عليه وسلم- الضمان عن الأجراء، وخصص العلماء من ذلك الصناع؛ وضمنوهم نظرًا واجتهادًا". وقال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 616, ط ابن عفان": "إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، وقال علي: "لا يصلح الناس إلا هذا"1، ووجه المصلحة أن الناس لهم حاجة إليهم، وهم يغيبون عن الأمتعة، ويغلب عليهم التفريط، فلو لم يضمنوا مع مسيس الحاجة إليهم؛ لأفضى إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا بدعواهم الهلاك؛ فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين" ا. هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن أبي شيبة "6/ 285"، وشريح في "القضاء" "ق 57/ ب"، وابن حزم "8/ 202"، والبيهقي "6/ 137".(8/398)
ص -292-…وجمع1 المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد2 من الحروف السبعة، وتدوين3 الدواوين، وما أشبه ذلك4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في زمن أبي بكر، حيث كان مفرقًا في الصحف والعسب والعظام، فجعله مجتمعًا كله في صحف ملتئمة خشية أن يضيع منه شيء مكتوب، وإن كان محفوظًا كله في صدور كثيرين من الصحابة، ثم في زمن عثمان لما اختلف الناس في وجوه القراءة حتى صار يكفر بعضهم بعضًا؛ لأن ما لم يكن يعرفه الواحد منهم من الوجوه ينكره على غيره وينسبه للكفر؛ فلذلك ندب عثمان طائفة من الصحابة موثوقًا بأمانتهم وعلمهم، ووكل إليهم كتابة خمسة مصاحف يقتصرون فيها على الوجوه التي نزل بها القرآن ابتداء، وكلها بلغة قريش؛ فلا يتجاوزونها إلى ما يتلى باللغات الأخرى "التي كان رخص لأهلها بالقراءة بها تيسيرًا عليهم بعد ما تلقوها عنه, صلى الله عليه وسلم"، فلما اتصلت القبائل، وامتزجت لغة قريش بلغات الآخرين؛ لم يبق داع لاستعمال هذه القراءات المؤدية إلى كثرة الاختلاف بين المسلمين فيما هو أصل الدين، ولما كانت المصاحف الخمسة عارية من النقط والشكل؛ وسعت وجوه القراءة المتفق عليها بلغة قريش، وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار آمرًا بالاقتصار على ما وافقها وترك ما خالفها الذي صار في حكم المنسوخ؛ فهذان الجمعان لم يكونا في عهده -صلى الله عليه وسلم- بل حصلا باجتهاد الخليفتين وبعض الصحابة، وأقرهم الباقون على كون ذلك مصلحة. "د".
قلت: انظر في ذلك: "المصاحف" لابن أبي داود، و"تاريخ القرآن" لأبي عبد الله الزنجاني.
2 يعني: الموافق لما في هذه المصاحف العثمانية أفاد في "الاعتصام" "2/ 613-614" أنه جمع الناس على قراءة لم يحصل فيها الاختلاف في الغالب؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات الأخرى، ولم يخالف في عدم القراءة بغير ما في المصاحف إلا ابن مسعود؛ فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءات المخالفة لها.(8/399)
قلت: انظر تفصيل مخالفة ابن مسعود في "تاريخ المدينة" لابن شبة "3/ 1004 وما بعدها".
3 أي: الذي حصل في عهد عمر لكتابة أسماء الجيوش، والعرفاء، وآلات الحرب، وأموال بيت المال ومصارفها، وغير ذلك مما يحتاج إليه الخليفة والولاة. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب" لفاروق مجدلاوي، ط دار النهضة العربية، سنة 1990م.
4 كولاية العهد من أبي بكر لعمر, وكترك الخلافة شورى بين ستة، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن لأرباب الجرائم في عهد عمر، وكهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد الرسول، وتوسيع المسجد بها، وتجديد أذان للجمعة في السوق في عهد عثمان، ولم يكن في شيء من ذلك سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو النظر المصلحي الذي أقره الصحابة, رضي الله عنهم. "د".(8/400)
ص -293-…ويدل على هذا الإطلاق قوله1, عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"2.
وإذا جمع ما تقدم؛ تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه: قوله -عليه الصلاة والسلام- وفعله، وإقراره -وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالاجتهاد، بناء على صحة الاجتهاد في حقه- وهذه ثلاثة، والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء، وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار، ولكن عد وجهًا واحدًا؛ إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي, صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد أضاف -صلى الله عليه وسلم- السنة إليهم كما أضافها إلى نفسه؛ فسنتهم هي ما عملوه استنادًا لسنته -صلى الله عليه وسلم- وإن لم تطلع عليها منقول عنه، وكذا ما استنبطوه بما اقتضاه نظرهم في المصلحة. "د".
2 مضى تخريجه "ص133"، والحديث صحيح.
3 ومجموع الثلاثة هو ما يطلق عليه السنة عند الأصوليين. "د".(8/401)
ص -294-…المسألة الثانية:
رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار1، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن الكتاب مقطوع به2، والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب؛ فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون؛ فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإذا ورد ما ظاهره المعارضة أخذ بالكتاب وقدم عليها، هذا ما يقصده كما يدل عليه بقية المسألة، وإن كان الدليل الثاني باعتبار شقه الأول؛ لا ينتج هذا المعنى، وإنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، بل جهة كونها بيانًا تقتضي تقديمها عليه إذا ظن التعارض؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] المفيد أنها قاضية على الكتاب؛ إلا أنه لاحظ في البيان معنى آخر يقتضي أن يكون مؤخر الرتبة عن المبين، لكنه معنى شعري لا تقوم على مثله الأدلة في هذا الفن. "د".
قلت: ناقش الأدلة المذكورة وبين بطلانها الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص488 وما بعدها"، وسنعتني بكلامه وننقل مناقشته لكل شبهة، والله الموفق.
2 أي: من جهة الثبوت والنقل، بخلاف السنة؛ فإنها مظنونة من هذه الجهة، إلا في المتواتر منها وهو قليل، وأما من جهة الدلالة؛ فالكتاب والسنة سواء قطعًا وظنًّا. "ف".
وفي نسخة "ماء": "أن الكتاب قطعي".
3 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص489-491" في هذا الدليل، وعده شبهة؛ قال: "والجواب أنا إذا نظرنا إلى السنة من حيث ذاتها؛ وجدناها قطعية في جملتها وتفاصيلها أيضًا، وذلك حاصل بالنسبة للصحابي المشاهد له -صلى الله عليه وسلم- السامع له؛ فتنهار الشبهة من أساسها، ويجب على مقعد القاعدة أن يلاحظ فيها كل مجتهد, ولو كان لا وجود له الآن.(8/402)
وإذا نظرنا إليها من حيث طريقها وبالنسبة إلينا؛ قلنا: إن كان الخبر المعارض للآية متواترًا لم يصح فيه هذا الكلام أيضًا؛ فكيف يؤخر في الاعتبار مع أنه قد يكون قطعي الدلالة والآية ظنيتها، وقد يكون متأخرًا عنها ناسخًا لها، وهو في هاتين الحالتين واجب التقديم في الاعتبار, فضلًا عن المساواة؟ =(8/403)
ص -295-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكون غيره من الأخبار غير قطعي لا يؤثر في قطعيته؛ لأن التعارض إنما حصل بين الآية وبينه وحده، فلا يهمنا مقارنته بين الكتاب والسنة في القطع من حيث الجملة والتفاصيل.
وكون السنة المتواترة قليلة لا يفيده شيئًا في صحة دعواه العامة، بل لو فرضنا عدم وجودها بالكلية، وجب علينا أن نفرض وجودها، ونفصل في القاعدة على مقتضى هذا الفرض؛ لأنه ممكن الحصول.
وإن كان خبر آحاد، فهو وإن كان ظني الثبوت، إلا أنه قد يكون خاصًّا فيكون قطعي الدلالة، والمعارض له من القرآن عامًّا فيكون ظنيها، فيكون لكل منهما قوة من وجه، فيتعادلان، فإهدار أحدهما ترجيح بلا مرجح، بل لا بد من الجمع بينهما بحمل أحدهما على ما يوافق الآخر، فنكون قد أعملناهما معًا.
فإن قال: إن مذهبي أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها؛ فهو في العمل مقبول، وإلا فالتوقف لأنه حينئذ مخالف لأصول الشريعة، ومخالفها لا يصح، ولأنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط، والمستند إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني؛ فعند قبوله تكون المعارضة بين أصلين قرآنيين". كما صرح به فيما سيأتي "ص312"، وكذا بنحوه فيما مضى "3/ 186".
قلنا له: أما قولك: إنه إذا لم يستند إلى قاعدة مقطوع بها مخالف لأصول الشريعة، وليس له ما يشهد بصحته؛ فممنوع، فإن أصول الشريعة تقتضي العمل بما يغلب على ظن المجتهد ثبوته وإن لم يستند إلى قاعدة قطعية، وقد أقمنا الأدلة على عموم ذلك في محله، وأن عدالة الراوي المعتبرة في نظر الشارع شاهدة على صحته، وإلا لما غلب على ظن المجتهد ثبوته.
فإن أردت بالشهادة بصحته الاندراج تحت قاعدة قطعية، وقلنا: إنه لم تحصل هذه الشهادة؛ منعنا لك الكبرى القائلة: وما هو كذلك فساقط، بل هي عين الدعوى؛ فهي مصادرة.(8/404)
ثم نقول له: لم حصرت القاعدة القطعية في المعنى القرآني؟ ولم لا يكون في السنة المتواترة؟
ثم نقول: إذا كان مستندًا إلى المعنى القرآني كان مقبولًا عندك؛ فما المانع من أن يكون معارضًا بنفسه حينئذ، حيث تقوى في نظرك بالاستناد، ولم هذا التكلف والدوران مع أنه السبب في معارضة الآية للمعنى القرآني الذي استند إليه؟ فالذي يقوى على أن يجعل غيره معارضًا؛ ألا يقوى بنفسه على المعارضة؟! انتهى بتصريف يسير.(8/405)
ص -296-…والثاني: أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كان بيانًا؛ فهو ثان1 على المبين في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين، وما شأنه هذا؛ فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بيانًا؛ فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم [و]2 اعتبار الكتاب3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: معطوف عليه من ثنيت الشيء ثنيًا: عطفته، أو مردود إليه من ثنى الشيء ثنيًا: رد بعضه عن بعض؛ فكأن البيان والمبين شيء واحد رد بعضه عن بعض، وأما ثاني المدى يعني: من ثنى رجله عن دابة إذا ضمها إلى فخذه؛ فلا يناسب هنا فتدبر. "ف". وفي "ط": "ثان عن".
2 زيادة من الأصل، وسقطت من جميع النسخ المطبوعة و"ط.
3 رد الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص491-494" على هذا الدليل بقوله: "والجواب أن نقول له: ما المراد من سقوط المبين في قولك: يلزم من سقوط المبين سقوط البيان... إن كان مرادك نسخه بوحي آخر؟ قلنا: فهذا الوحي هو الذي أسقط البيان أيضًا مباشرة، لا بواسطة إسقاط المبين؛ فإنه لما نسخ المبين لم ينسخ ظاهره، وإنما نسخ المراد منه، والمراد منه هو معنى البيان.
وإن أردت بسقوطه عدم وروده في القرآن؛ فلا نسلم أنه يلزم من ذلك سقوط البيان، وعدم اعتباره إذا ورد مشتملًا على الحكم وتفاصيله، كل ما في الأمر أنه لا يقال له: بيان، وهذا لا ضير فيه، فلو فرضنا أن الله تعالى لم يوجب الصلاة في الكتاب، وصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله للصلاة، وقوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي"؛ علمنا من ذلك وجوبها وكيفيتها.
وأما إذا ورد مشتملًا على التفاصيل فقط دون الحكم المفصل؛ فلا يفهم منه شيء لكونه فصل شيئًا لم يعلم ما هو، لا لعدم كونه حجة، على أن هذا لا يمكن صدوره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحالة.(8/406)
وأما قولك: ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين؛ فإن أردت بسقوط البيان نسخه قلنا: نسخه نسخ للمراد من المبين.
وإن أردت عدم ورود البيان قلنا: فما المراد بعدم سقوط المبين؟ إن أردت إمكان العمل به؛ فممنوع، وإن أردت قيام دلالته على الحكم إجمالًا إلى أن يأتي البيان؛ فمسلم، ولكن ما الفائدة =(8/407)
ص -297-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منه وحده ما دام العمل لم يمكن به؟
ولو سلمنا لك هذا كله، فلا نسلم لك قولك: وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم؛ لأن ما ذكرته من حكاية استلزام السقوط وعدمه، إنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، لا تبعية الضعيف الذي لا يقوى على معارضة متبوعه القوي، بل جهة كونه بيانًا تقتضي تقديمه على المبين إذا ظن التعارض فيعمل بالبيان؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} المفيد أنها قاضية على الكتاب.
وأما قوله فيما بعد "ص311": "إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، وليست السنة هي المثبتة للحكم دون الكتاب، كما إذا بين مالك معنى آية فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقوله دون أن نقول: عملنا بقول الله تعالى" ا. هـ ملخصًا.
ففيه أن خصمه لم يقل باطراح الكتاب، وإنما قال بالمساواة وإعمال الدليل والجمع بينهما.
وأما قوله: بل إن ذلك المعبر في السنة... إلخ؛ فهذا اعتراف بمذهب خصمه، وبما يتنافى مع تأخير السنة عن الكتاب في الاعتبار.
وأما قوله: وليست السنة هي المثبتة للحكم... إلخ؛ فمسلم ونحن نقول به، وينافي مذهبه، وإن أراد أن الكتاب وحده هو المثبت؛ فغير مسلم، وقياسه على تفسير مالك باطل، فإن قول مالك ليس بحجة، بخلاف قوله -صلى الله عليه وسلم- وتفسيره؛ فإنه وحي وحجة.
ولو سلمنا له ذلك لم يكن خلافه إلا في تسمية السنة دليلًا حينئذ؛ فيكون الخلاف لفظيًّا لا نجد له باعثًا عليه، ما دام متفقًا معنا على أن السنة أثرت في الكتاب وحملته على خلاف ظاهره.(8/408)
ثم نرجع إلى أصل الشبهة؛ فنقول: إنا لو سلمنا اقتضاء ما ذكرت تقديم المبين على البيان؛ فلا نسلمه على إطلاقه، وإنما نسلمه عند عدم إمكان الجمع بينهما؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهدار أحدهما.
ثم نقول: القرآن قد يكون بيانًا للقرآن وقد يكون بيانًا للسنة، وقد تكون السنة بيانًا للسنة؛ فهل تقول: إن رتبة البيان التأخير في جميع هذه الأحوال؟ =(8/409)
ص -298-…والثالث: ما دل على ذلك من الأخبار والآثار؛ كحديث معاذ: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: أجتهد رأيي1, الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم نقول: هل يصح القول بالتعارض بين الدليلين فضلًَا عن القول بإهدار أحدهما بعد الاعتراف بأن أحدهما بيان والآخر مبين، وبعد التعبير عنهما بهذين العنوانين؟
وأما قولك فيما لم يكن بيانًا: إنه لا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب؛ فلا شك أن مرادك: أن لا يوجد في الكتاب ما يخالفه، فإن أردت ما يخالفه قطعًا؛ سلمنا لك ذلك، ولكن هذا لا يستلزم ضعف السنة عن الكتاب، بل هذا أمر لا بد منه في جميع أنواع الوحي، حتى بين الآيات بعضها مع بعض؛ لأنه لا يمكن المخالفة بين أحكام الله تعالى مطلقًا.
وإن أردت ما يخالفه ظنًّا؛ لم نسلم لك اشتراط عدم وجوده في القرآن، بل قد يوجد كما توجد مثل هذه المخالفة بين الآيتين؛ ويجب تأويل أحد الدليلين حينئذ والجمع بينهما لئلا يهدر الآخر بلا مرجح.(8/410)
1 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 230، 236، 242" وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، 4/ 18-19/ رقم 3592"، والترمذي في "الجامع" "أبوب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، 3/ 616/ رقم 1327"، والدارمي في "السنن" "المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة، 1/ 60"، والطيالسي في "المسند" "1/ 286, منحة المعبود"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 347، 584"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "ص154-155، 188-189"، وابن عبد البر في "جامع البيان" "2/ 55-56"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 114" و"معرفة السنن والآثار" "1/ 173-174"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 272"، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 105-106/ رقم 101"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 215"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "124"، وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" "6/ 26، 35 و7/ 111-112"، من طرق عن شعبة عن أبي عون الثقفي؛ قال: سمعت الحارث بن عمرو يحدث عن أصحاب معاذ من أهل حمص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له... وذكره، وذكر بعضهم أن شعبة قال في الحارث: "ابن أخي المغيرة بن شعبة".
ورجال إسناد الحديث ثقات إلى الحارث بن عمرو؛ فأبو عون اسمه محمد بن عبيد الله =(8/411)
ص -299-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثقفي، الكوفي، الأعور، ثقة، من الرابعة، كما في "التقريب" "2/ 187"، و"التهذيب" "9/ 322".
ومدار إسناد الحديث على الحارث بن عمرو، قال الترمذي عقبه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
فتحرير حاله وبيان أصحاب معاذ، وهل هم الذين رفعو الحديث أم رووه عن معاذ وهو الذي رفعه، هذه الأمور هي الفيصل في الحكم على الحديث.
الكلام على الحارث بن عمرو:
قال ابن عدي في "الكامل" "2/ 613": "سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، لا يصح ولا يعرف، والحارث بن عمرو وهو معروف بهذا الحديث الذي ذكره البخاري عن معاذ لما وجهه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فذكره" انتهى بحروفه.
قلت: المتمعن في هذا النقل يتأكد له ما قاله الترمذي من أن حديث معاذ لا يعرف إلا من طريق الحارث هذا، ووجدت الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في "التاريخ الكبير" "2/ 1/ 177، 275"، يقول في الحارث وحديثه هذا: "لا يصح ولا يعرف إلا بهذا".
ونقله عنه العقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 215"، وارتضاه بسكوته عنه، وكذلك فعل الحافظ ابن كثير القرشي في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" "ص152".
وجهل الحارث بن عمرو جماعة من أهل العلم؛ منهم ابن الجوزي؛ فقال في "العلل المتناهية" "2/ 272": "... ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول..."، وقال الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 106": "هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة كما أوردناه، واعلم أنني تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غير هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول".(8/412)
قلت: وقال بنحو كلام الجورقاني هذا شيخه ابن طاهر القيسراني في تصنيف مفرد في طرق هذا الحديث، ونقل خلاصة كلامه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183"؛ فقال: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل =(8/413)
ص -300-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: إحداهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وكلاهما لا يصح".
ثم أفاد الحافظ ابن حجر أن الخطيب البغدادي أخرجه في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث. ا. هـ.
ولا بد هنا من ضرورة التأكيد على صحة ما قدمناه عن جماعة من جهابذة الجرح والتعديل أن الحارث بن عمرو قد تفرد بالحديث عن أصحاب معاذ، ومجرد وجود طرق أخرى من غير طريق أصحاب معاذ، لا يعني أن الحارث لم يتفرد به.
وهنا طريقان غير طريق الحارث:
الأولى: التي ذكرها ابن طاهر: محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وهي غير صحيحة كما قال ابن طاهر؛ للإبهام الذي فيها، ولضعف رواتها.
والثانية: طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وتفرد بها عبادة بن نسي -بضم النون، وفتح السين، بعدها ياء مشددة- وهو من الرواة الأردنيين، يكنى أبا عمر، ثقة فاضل مات سنة ثماني عشرة ومائة؛ كما في "التهذيب" "5/ 113".
وروى هذا الحديث عن عبادة بن نسي محمد بن سعيد بن حسان، وقد أبهم في رواية الإمام سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب "المغازي" له؛ كما في "النكت الظراف" "8/ 422" لابن حجر، و"تحفة الطالب" "ص153" لابن كثير؛ فوقع إسناد الحديث عنده هكذا: قال الإمام سعيد بن يحيى: حدثني أبي حدثني رجل عن عبادة بن نسي به.(8/414)
ولكن وقع التصريح به في "سنن ابن ماجه" "1/ 21/ رقم 55"، ومن طريقه الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 108-109/ رقم 102"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ"؛ فرواه من طريق الحسن بن حماد سجادة -صدوق- ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة به.
قال الجورقاني عقبه: "هذا حديث غريب"، وذكره ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 213" وقال: "هذا أجود إسنادًا من الأول "أي: حديث معاذ المتكلم عليه"، ولا ذكر للرأي فيه" ا. هـ. =(8/415)
ص -301-….......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: ولفظ هذا الحديث: "لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، فإن أشكل عليك أمر, فقف حتى تبينه أو تكتب إليّ فيه".
وذكره الجورقاني وحسنه مع غرابته كما تقدم ليبين بطلان لفظ حديث معاذ هذا، إذ أورده تحت عنوان "في خلاف ذلك".
وما أصاب الجورقاني ولا ابن القيم في قولهم: إن إسناد هذا الحديث أجود من الحديث الذي فيه للرأي ذكر، إذ فيه "محمد بن سعيد بن حسان" وهو المصلوب، المتهم الكذاب.
قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "ص155" بعد أن ذكر طريق الأموي في "مغازيه" بوجود المبهم فيه، ومن ثم طريق ابن ماجه المبينة أنه المذكور؛ فقال: "فتبينا بهذا أن الرجل الذي لم يسم في الرواية الأولى، هو محمد بن سعيد بن حسان، وهو المصلوب، وهو كذاب وضاع للحديث، اتفقوا على تركه".
ولهذا قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "ورقة 5/ ب": "هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب، اتهم بوضع الحديث"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 122": "لا يصلح حديثه لاستشهاد ولا متابعة".
نعم، لم يتفرد به محمد بن سعيد المصلوب؛ فقد رواه آخر عن عبادة بن نسي، ولكن إسناده لا يفرح به؛ فقد أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ" من طريق سليمان الشاذكوني: نا الهيثم بن عبد الغفار عن سبرة بن معبد عن عبادة به ولكن الشاذكوني كذاب؛ فهذه الطريق كالماء، لا تشد شيئًا.(8/416)
فالخلاصة أن هذين الطريقين غير صحيحين، ولهذا قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي فيما نقله ابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص70"، وابن حجر في "التلخيص" "4/ 183": "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح"، بل قال ابن الملقن في"البدر المنير" "5/ ق 214": "وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم"، ونقل فيه عن ابن دحية في كتابه "إرشاد الباغية والرد على المعتدي مما وهم فيه الفقيه أبو بكر بن العربي": "هذا حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه، لا أصل له؛ فوجب اطراحه".
عودة على الحارث بن عمرو:
اضطرب الإمام الذهبي في الحكم على "الحارث بن عمرو"؛ فقال في ترجمته في =(8/417)
ص -302-…........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "الميزان" "1/ 439": "ما روى عن الحارث غير أبي عون؛ فهو مجهول"، وأورده في "مختصر العلل" "ص1046-1047"، وقال: "قال ابن الجوزي وغيره: الحارث مجهول، قلت "الذهبي": ما هو مجهول، بل روى عنه جماعة، وهو صدوق إن شاء الله".
كذا قال هنا، مع أنه قال في "الميزان": "مجهول"؛ فانظر إلى هذا الاضطراب1.
ولم يذكر لنا الجماعة الذين رووا عنه، أما إخراج بعضهم له من حيز الجهالة -كما فعل الكوثري في "مقالاته" "ص60-61"- بمجرد قول شعبة "ابن أخي المغيرة بن شعبة"؛ فلا شيء لأنه لم يقل أحد من علماء الحديث أن الراوي المجهول إذا عرف اسم جده أو بلده بله اسم أخي جده، خرج بذلك عن جهالة العين إلى جهالة الحال، قال الخطيب في "الكفاية": "المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد..."، ومن ثَمَّ؛ فإن قول "وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة" يحتمل أن تكون ممن هو دون شعبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط من الاستدلال.
أصحاب معاذ:
ضعف هذا الحديث كثير من المحدثين بجهالة أصحاب معاذ، قال ابن حزم: "هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق"، "قلت: أي طريق الحارث"، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا؛ فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وقال بعد نقل البخاري السابق فيه ما نصه: "وهذا حديث باطل لا أصل له"، وقال الجورقاني: "وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة"، وكذا قال ابن الجوزي في "الواهيات".
وأعله الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي" "ص87, بتحقيق العجمي" بجهالة أصحاب معاذ أيضًا، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
ورد العلامة ابن قيم الجوزية هذه العلة؛ فأجاب عنها بقوله في "إعلام الموقعين" "1/ =(8/418)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وظفرت له في "السير" "18/ 72" في ترجمة "الجويني" باضطراب آخر؛ إذ قال: ".... بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة من أهل حمص عن معاذ؛ فإسناده صالح"؛ فجعل إسناده صالحًا هنا، مع تصريحه بجهالة الحارث.(8/419)
ص -303-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 243": "وأصحاب معاذ وإن كانوا غير مسمين؛ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى..."1، وكذا قال ابن العربي في "العارضة" "6/ 72-73" وقبله الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 189".
قلت: وكلامهم متين وقوي، ولكن علة الحديث غير محصورة في جهالة أصحاب معاذ؛ فالحديث يعل بالعلة الأولى والأخيرة، ولا يعل بهذه، ولبسط ذلك وتوضيحه أقول في كون هذه العلة قاصرة غير صالحة: أخرج البخاري -الذي شرط الصحة- حديث عروة البارقي: "سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات"، وقال مالك في القسامة: "أخبرني رجال من كبراء قومه"، وفي "الصحيح" عن الزهري: "حدثني رجال عن أبي هريرة: من صلى على جنازة؛ فله قيراط".
فجهالة أصحاب معاذ جرح غير مؤثر، لا سيما أن مذهب جمع من المحدثين كابن رجب وابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين، والجماعة خير من المستور كما لا يخفى، ولهذا لم يذكر ابن كثير في "تحفة الطالب" هذه العلة ألبتة، مع أن كلامه يفيد تضعيفه للحديث.
تنبيه: وقال الذهبي في "مختصر العلل" "ص1046-1047" في رد هذه العلة: "وقال, أي ابن الجوزي: وأصحاب معاذ لا يعرفون، قلت "الذهبي": ما في أصحاب محمد بحمد الله ضعيف لا سيما وهم جماعة".
كذا وقع فيه، والعبارة لا تخلو من أمرين؛ إما سليمة فهذا وهم من الذهبي -رحمه الله- فأصحاب معاذ ليسوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يقال فيهم هذا الكلام، والسياق يدل على أنهم من التابعين، والتابعي يجوز أن يكون ضعيفًا، وإما خطأ من النساخ، والصواب "أصحاب معاذ"، وهذا الظاهر؛ فحينئذ يتوافق ما قلناه مع ما عنده، مع ملاحظة أن التابعي يجوز أن يكون ضعيفًا.
الكلام على وصله وإرساله:(8/420)
وخير من تكلم وحرر هذا المبحث الدارقطني في "العلل" "م 2/ 48/ ب و9/ أ" =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "4/ 559" بعد أن نقل رد ابن القيم لعلة جهالة أصحاب معاذ: "قلت: الكلام كما قال ابن القيم، لكن ما قال في تصحيح حديث الباب ففيه عندي كلام".(8/421)
ص -304-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "مخطوط"؛ فقال: "رواه شعبة عن أبي عون هكذا "أي: موصولًا"، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود "أي: الطيالسي": أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال مرة: عن معاذ" ا. هـ.
وقال الترمذي في الحديث: "ليس إسناده عندي بمتصل"، قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 118": "وكأنه نفى الاتصال باعتبار الإبهام الذي في بعض رواته، وهو أحد القولين في حكم المبهم".
وأعل العراقي الحديث في "تخريج أحاديث البيضاوي" بعلل ثلاث: الأولى الإرسال هذا، الثانية جهالة أصحاب معاذ، الثالثة جهالة الحارث بن عمرو.
مسرد عام بأسماء من ضعف الحديث:
ضعف حديث معاذ هذا جماعة من جهابذة الحديث، على رأسهم أميرهم الإمام البخاري، وتلميذه الترمذي، والدارقطني، والعقيلي، وابن طاهر القيسراني، والجورقاني -بالراء المهملة وليس بالمعجمة، ذاك الجوزجاني صاحب "أحوال الرجال"- وابن حزم، والعراقي، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم من الأقدمين، واضطرب فيه الذهبي كما بينا.
مسرد بأسماء من صحح الحديث:
صحح حديث معاذ هذا أبو بكر الرازي، وابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي"، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وغيرهم من المتأخرين.
ملحظ من صححه ومن ضعفه:(8/422)
نظر مصححوه إلى عدم كون جهالة أصحاب معاذ علة قادحة فيه، وتناسوا الإرسال وجهالة الحارث بن عمرو، أما من ضعفه؛ فبعضهم ذكر العلل القادحة -على ما بيناه- وهما علتا الإرسال وجهالة الحارث، كالحافظ ابن كثير في "تخريج أحاديث منتهى ابن الحاجب"، وبعضهم زاد علة غير قادحة -على ما حققناه- وهي جهالة أصحاب معاذ، ونحا بعضهم منحى آخر؛ فقال بعد أن اعترف بضعفه وأنه لا يوجد له إسناد قائم: "لكن اشتهاره بين الناس وتلقيهم له بالقبول مما يقوي أمره"؛ كما فعل عبد الله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه" "ص299"، وسبقه أبو العباس بن القاضي فيما نقله عنه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"، وقال الغزالي في "المستصفى" "2/ 254": "وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنًا وإنكارًا، =(8/423)
ص -305-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما كان كذلك؛ فلا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده"، وأطلق صحة جماعة من الفقهاء أيضًا كالباقلاني وأبي الطيب الطبري لشهرته وتلقي العلماء لهم، وكأني بالجورقاني يرد عليهم عندما قال في "الأباطيل" "1/ 106": "فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه, فقل: هذه طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة"، وكذلك ابن الجوزي عندما قال في "العلل المتناهية" "2/ 272": "وهذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه".
هل معنى حديث معاذ صحيح؟
اختلف العلماء: هل معنى هذا الحديث صحيح أم لا؟ فمن نفى صحة معناه فنفيه لصحة مبناه من باب أولى، ولكن كان سبب صحة معناه عند بعضهم صحة مبناه؛ فكأنه صححه لشواهده، واعتدل آخرون فنفوا صحته من حيث الثبوت، وأثبتوها من حيث الدلالة، وإن كان إطلاق ذلك لا يسلم من كلام كما سيتبين معك إن شاء الله تعالى.
فممن صحح معنى الحديث وانبنى عليه تصحيحه لمبناه الإمام الذهبي؛ فقال في "مختصر العلل": "هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح؛ فإن الحاكم يضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر".
فتحسينه لإسناده غير صحيح؛ إذ لم يسلم من علة الإرسال وجهالة الحارث، ولكن تصحيح معناه فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص صحيح، لا مجال للقول بخلافه، لا سيما أن شواهد كثيرة من نصوص أخرى تؤكد هذا المعنى.
وأطلق ابن الجوزي تصحيح معنى الحديث في "العلل المتناهية" "2/ 272" وإن كان يرى عدم ثبوته؛ فقال: "... ولعمري إن كان معناه صحيحًا، إنما ثبوته لا يعرف".(8/424)
قلت: وإطلاق تصحيح معناه فيه نظر؛ فمتنه لا يخلو من نكارة؛ إذ فيه تصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة؛ فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا، وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم. أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة =(8/425)
ص -306-…وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح: "إذا أتاك أمر؛ فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله؛ فاقض بما سن فيه رسول الله, صلى الله عليه وسلم....."1 إلخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الضعيفة" "رقم 881".
الخلاصة وتنبيهات:
وخلاصة ما تقدم أن حديث معاذ هذا أعل بثلاث علل، لم تسلم واحدة منها، وهي جهالة أصحاب معاذ، وبقيت اثنتان، وهي جهالة الحارث والإرسال؛ فهو ضعيف من حيث الثبوت، وصحيح في بعض معناه، ومنكر في التفرقة بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، وحصر حجية السنة عند فقد الكتاب؛ كما ذكرناه آنفًا.
ونختم الكلام على هذا الحديث بملاحظتين:
الأولى: أفاد ابن حزم في "ملخص إبطال القياس" "ص14" أن بعضهم موه وادعى فيه التواتر!! قال: "وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون، وما احتج به أحد من المتقدمين"، وأقره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183".
والأخيرة: قال ابن طاهر القيسراني: "وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب "أصول الفقه": والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ! قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة".
وتعقبه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"؛ فقال: "قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه؛ فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل، كذا قال, رحمه الله".
اللهم ارزقنا الأدب مع علمائنا ومشايخنا، وتقبل منا، وارزقنا السداد والصواب، وجنبنا الخطأ والخلل والفحش.(8/426)
1 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، 8/ 231"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 133"، والدارمي في "سننه" "1/ 60"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "7/ 241, ط دار الفكر"، ومن طريقه ابن عاصم -كما في "مسند الفاروق" "2/ 548"- ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 134"، وسعيد بن منصور -ومن =(8/427)
ص -307-…وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئًا في كتاب الله؛ فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره"1.
وقد بين2 معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله؛ فاتبع فيه سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3.
ومثل هذا عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء؛ فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله؛ فليقض بما قضى به نبيه, صلى الله عليه وسلم"4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طريقه البيهقي في "الكبري" "10/ 110", والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 99"، وابن عبد البر -المذكور لفظه- في "الجامع" "2/ 846/ رقم 1595"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 29-30"، والبيهقي "10/ 115" من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي الله عنه- يسأله؛ فكتب إليه، وذكروه بألفاظ، منها المذكور هنا، ومنها ما سيأتي عند المصنف، وإسناده صحيح؛ وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120"، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" لأبي يعلى، وفي آخره قصة رؤيا عامل عمر على حمص اقتتال الشمس والقمر، وسبق ذكر إسناده مع بيان ضعفه "2/ 455".
1 هذا اللفظ أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1596"، وإسناده صحيح، ومضى تخريجه في الذي قبله، وفي "ط": "وما تلتفت".
2 احتاج لهذا الدفع ما يتوهم من قوله: "ولا تلتفت إلى غيره" شمول الغير للسنة، مع أنه إذا وجدت السنة مع الكتاب؛ فلا بد من الالتفات إليها كبيان للكتاب. "د".
3 أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848/ رقم 1598"، وما قبله يشهد له.
4 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848-849/ رقم 1599" -والمذكور لفظه- ورجاله ثقات، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 119".
وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 115" من طريق آخر عن ابن مسعود.(8/428)
ص -308-…الحديث.
وعن ابن عباس أنه كان إذا عن سئل عن شيء؛ فإن كان في كتاب الله قال به، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال به1.
وهو كثير في كلام السلف2 والعلماء.
وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب3 راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 115"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 202-203"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 28-29"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 849-850/ رقم 1600، 1601، 1602" من طريق سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: سمعت ابن عباس: إذا سئل... به.
وإسناده صحيح، وصححه البيهقي، وانظر "نصب الراية" "4/ 64".
2 منه ما عند البيهقي في "السنن" "10/ 115" عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لما سأله عن القضاء، وإسناده حسن، قاله ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120".
وناقش الشيخ عبد الغني عبد الخالق هذا الدليل؛ فقال في "حجية السنة" "494": "والجواب أن الحديث ذكره بعضهم في الموضوعات، ولو صح؛ لوجب تأويله على أن المراد به الأسهل والأقرب تناولًا، ولا شك أن كتاب الله كذلك، وإنما وجب هذا التأويل لأن قطعي المتن والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب، وهو كثير بالنسبة لمعاذ المشاهد له -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان خبر آحاد؛ فقد يكون قطعي الدلالة والقرآن ظنيها، فيتعادلان؛ فلا يصح التقديم، بل يجب التأويل الجمع بالاجتهاد والنظر في أدلة الترجيح، وأما قول عمر: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا"؛ فيجب حمله على ما كان نصًّا واضحًا لم يشكل بمعارضة شيء من السنة، لما ذكرنا، على أن قول عمر ليس بحجة".(8/429)
3 انظر في بسط ذلك: "أصول السرخسي" "2/ 303"، و"كشف الأسرار" "2/ 203"، و"فواتح الرحموت" "1/ 58" و"التوضيح على التنقيح" "3/ 75"، و"البدخشي" "1/ 55".=(8/430)
ص -309-…على اعتبار السنة، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار.
فإن قيل: هذا مخالف لما عليه المحققون:
أما أولًا: فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة؛ لأن الكتاب يكون محتملًا لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما؛ فيرجع إلى السنة، ويترك مقتضى الكتاب.
وأيضًا؛ فقد يكون ظاهر الكتاب أمرًا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة1، وحسبك أنها تقيد مطلقه، وتخص عمومه، وتحمله على غير ظاهره، حسبما هو مذكور في الأصول؛ فالقرآن آتٍ بقطع كل سارق؛ فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز2، وأتى بأخذ الزكاة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في "د" وحدها: "فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة، وحسبك...".
2 الدليل على ما ذكر المصنف جملة من الأحاديث، نقتصر على الآتي:
ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وفي كم يقطع؟ 12/ 96/ رقم 6789، 6790، 6791"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1312/ رقم 1684" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وفي رواية لمسلم: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا في النصاب.(8/431)
ص -310-…جميع الأموال ظاهرًا؛ فخصته بأموال مخصوصة1، وقال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24]؛ فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها2؛ فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه، ومثل ذلك لا يحصى كثرة.
وأما ثانيًا؛ فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول: هل يقدم الكتاب على السنة، أم بالعكس، أم هما متعارضان3؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 1710، 4390"، والنسائي في "المجتبى" "8/ 85"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1289"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2596"، والدارقطني في "السنن" "4/ 381"، وأحمد في "المسند" "2/ 180، 203، 207"، والبيهقي في "الكبرى" "
8/ 278"، وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وفيه: "من سرق منه شيئًا بعد أن يئويه الجرين، فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع"، وفي رواية: "وليس في شيء من الثمر قطع؛ إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن؛ ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن؛ فقيه غرامة مثليه وجلدات نكالًا"، وإسناده صحيح، والجرين: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، وهذا في الحرز، وهو الموضع الذي يحرز فيه الشيء لحفظ المال؛ كالدار، والحانوت، والخيمة، والخزانة، والصندوق، وما شابهه.
وانظر تفصيل المسألة مع أدلتها في "دلائل الأحكام" لابن شداد "4/ 112-115 و119-122"، و"الإرواء" "8/ 67-68، 69/ رقم 2408، 2413"، و"أحكام السرقة في الشريعة" "ص58 وما بعدها، وص151 وما بعدها" لأحمد الكبيسي.
1 من مثل الإبل والغنم والبقر والذهب والورق، وتجد الأدلة على ذلك في الأصناف المستثناة في "دلائل الأحكام" "2/ 567 وما بعدها"، وفي سائر كتب أحاديث الأحكام مثل "النيل"، و"سبل السلام"، و"العمدة" مع "شروحها".
2 لما ثبت في "الصحيحين" من تحريم لذلك، وسيأتي تخريجه "ص383".(8/432)
3 أي: فإن علم المتأخر منهما نسخ المتقدم، وإلا رجح أحدهما بما يصلح مرجحًا أو جمع بينهما إن أمكن وإلا أخذ بغيرهما، وقولهم: "لا معارضة بين ظني وقطعي" إنما يكون في المعارضة الحقيقة؛ أي: في المعقولات، أما في الشرعيات؛ فلا مانع لأنها في الواقع صورة معارضة فقط، أما المعارضة بمعنى التناقض ذي الوحدات الثمانية؛ فلا أثر لها في الأدلة الشرعية. "د".(8/433)
ص -311-…وقد تكلم الناس في حديث معاذ، ورأوا أنه على خلاف الدليل؛ فإن كل ما في الكتاب لا يقدم1 على كل السنة، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب، ولذلك وقع الخلاف2، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب3، وهو الكتاب، فإذا كان الأمر على هذا؛ فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب، بل المتبع الدليل4.
فالجواب: أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في5 السنة هو المراد في الكتاب؛ فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فإذا حصل بيان قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله؛ فذلك هو المعنى المراد من الآية، لا أن نقول: إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن قطعي السند والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب؛ فقول: "لا تضعف" أي: بل قد تقدم كما ذكرنا، وقد يحصل التعارض إذا تساويا في قطعية السند والدلالة، ولذلك قالوا: إنه لم يبق من صور التعارض بينهما ما يرجح فيه الكتاب لسنده؛ إلا ما كان ظني الدلالة منه مع قطعي الدلالة منها مع ظنية ضدها. "د".
2 أي: في تقديم الكتاب عليهما أو تقديمها عليه أو تعارضهما. "د".
3 أي: تناولًا. "د".
4 أي: ما يتعين للدلالة منهما بطريق من طرق الترجيح المذكورة في بابه. "د".
5 في "ط": "بل على إن ذلك المفسر".(8/434)
ص -312-…معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله, عليه الصلاة والسلام.
وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له؛ فلا يتوقف مع إجماله واحتماله، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه1.
وأما خلاف2 الأصوليين في التعارض؛ فقد مر3 في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند4 إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول، وإلا؛ فالتوقف، وكونه مستندًا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مناقشة هذا الكلام فيما مضى في التعليق على "ص298".
2 شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وهو قول بعض الأصوليين بتعارضهما إذا كان ظني الدلالة ولم يعلم تاريخهما؛ فلا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابًا ولا بكونه سنة، بل إن لم يمكن الجمع بينهما رجح أحدهما بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن، وإلا تركا. "د".(8/435)
3 حيث قال في المسألة الثانية: "وإن كان ظنيًّا؛ فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر، وإلا وجب التثبت فيه"، وقال: "إن هذا المعتبر يرجع إلى أصل قرآني يكون بيانًا له، وإن عامة أخبار الآحاد بيان للقرآن، وذلك معنى رجوعه لأصل قطعي"، ومثله هناك بالأحاديث التي بينت صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج, والأحاديث التي بينت جملة من الربا... إلخ, وأنت إذا تأملت وجدت أحاديث الطهارة والصلاة مثلًا وإن كانت شارحة ومفصلة لهذين النوعين من العبادة لا يقال فيها: إنها جزئيات لكلي قرآني إلا باعتبار ضعيف؛ لأنه بدأ بميامنه في الوضوء مثلًا جزئيته لآية الطهارة لا يجعله متعين القصد في الآية؛ إذ الطهارة كما تتحقق على هذه الصفة تتحقق بالبدء بالمياسر، وكذا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لا تستلزمه آية: {أَقِيمُوا الصَّلاة}، حتى يكون الخبران الواردان في هذين الجزئيين لهما حكم الجزئي الحقيقي الذي تكون معارضته لغيره معارضة محققة يصح نسبتها لأصله وكليه، ويترتب على ذلك أنه من معارضة قطعيين؛ فهذا كلام خطابي. "د".
4 في "ط": "أسند".(8/436)
ص -313-…كلي، وتبين معنى هذا الكلام هنالك، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية، والخبر معارضة أصلين قرآنيين؛ فيرجع إلى ذلك، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين1، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية؛ فلا بد من تقديم القرآن على2 الخبر بإطلاق.
وأيضًا؛ فإن3 ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز، ولعلك4 لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة؛ فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وسيأتي الكلام فيه بعد. "د". وفي "ط": "لأنه من تعارض...".
2 كما تقدم في رد عائشة حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" بآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. "د".
3 هذا جواب الإشكال الثالث، وهو أن السنة أيضًا فيها قطعي السند؛ فلا تقل عن الكتاب في الدلالة. "د".
4 كأنه سلم الإشكال بالمتواترة على مسألته من تقديم الكتاب مطلقًا على السنة، ولكنه جعل أمره هينًا؛ لأنه إما أنه لا توجد سنة متواترة على شرط التواتر، يعني: يرويها من يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة إلى زمنه -صلى الله عليه وسلم- وإما أن يكون نادرًا لا يستحق البحث والاستشكال. "د".(8/437)
ص -314-…المسألة الثالثة:
السنة راجعة في معناها إلى الكتاب؛ فهي تفصيل1 مجمله، وبيان2 مشكله، وبسط3 مختصره.
وذلك لأنها بيان له4، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}5 [النحل: 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالأحاديث المفصلة لمجمل: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مثلًَا. "د".
2 كالأحاديث التي أوضحت الغرض من الآيات التي فهم منها الصحابة خلاف مقصودها، مثلًا آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ...} إلخ [التوبة: 34]، لما نزلت كبر ذلك على الصحابة، فسألوا عنها؛ فقال عليه, الصلاة والسلام: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم". فكبّر عمر، وكالحديث الذي رفع عن الصحابة إشكال آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، وبيانه أن المراد بالظلم الشرك كما في آية لقمان. "د".
قلت: استشكالهم آية لقمان ورد في خبر صحيح وقد مضى تخريجه "3/ 402" أما قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة... "إلخ أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 1664"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 408-409"، وهو في "السلسلة الضعيفة" لشيخنا الألباني "رقم 1319".
3 كما في آية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]؛ فقد بسط قصتها الحديث الذي أخرجه الخمسة، وشرح ما حصل فيها من النهي عن كلامهم، ثم النهي عن قربان نسائهم... إلى آخر القصة. "د".
قلت: وقصة الذين تخلفوا ثابتة صحيحة مضى تخريجها "2/ 270".(8/438)
4 قوله: "وذلك لأنها بيان"؛ فهو يقصد به أن جميعها بيان فقط، ولا شيء منها بمستقل، كما يدل عليه قوله: "فلا تجد في السنة..." إلخ، ثم إن هذا عين دعواه كما اعترف به أخيرًا حيث قال: "وذلك معنى كونها راجعة إليه"؛ فيكون هذا التعليل منه مصادرة؛ فكان عليه أن يستدل على الدعوى بالآية مباشرة، قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص520".
5 اعترض الشيخ عبد الغني عبد الخالق على هذا الاستدلال بالآية؛ فقال في "حجية السنة" "ص520-522": "وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ =(8/439)
ص -315-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فلا دلالة فيه على حصر علة إنزال الذكر في التبيين.
سلمنا أنه يدل على هذا الحصر -على حد قول من يقول: إن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر- وأن معنى الآية: وما أنزلنا إليك الذكر "الكتاب" إلا تبين للناس ما نزل إليهم فيه من الأحكام، لكنه لا ينتج مطلوبه من أن وظيفة سنته -صلى الله عليه وسلم- البيان لما في الكتاب فقط، وأنه لا شيء منها بمستقل؛ إذ كل ما فهم من هذا الحصر أنه إنما أنزل الكتاب ليبينه -صلى الله عليه وسلم- للناس، لا ليهمل بيانه، ويترك الناس جاهلين بما فيه من الأحكام، وهذا لا ينفي أنه قد يستقل بسن أحكام لا نص عليها في الكتاب.
مثلًا: إذا أعطيت مدرسًا كتابين وقلت له: لم أعطك الكتاب الأول إلا لتبينه لتلاميذك وتشرحه لهم؛ فهل معنى هذا القول أنك لم تعطه الثاني إلا ليبين به الأول، وأنه ليس في الثاني زيادة عما في الأول من القواعد، وإنما الذي فيه مجرد بسط قواعد الأول وشرحها؟ كلا.
فما نحن فيه كذلك، أنزل الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحيين: أحدهما متلو والآخر غير متلو، وقال له: لم أنزل عليك المتلو إلا لتبين للناس ما فيه من الأحكام، فهذا لا يقتضي أن يكون غير المتلو بيانًا للمتلو فقط، وأنه ليس فيه ما لم ينص عليه الأول.(8/440)
ولئن سلمنا أن الآية تفيد أن غير المتلو للبيان؛ فليس فيها ما يدل على أنه بيان لمجمل الكتاب فقط، فإن البيان في الآية معناه إظهار الحكم للناس، وتعريفهم به، سواء أكان ابتداء لم يسبق أن ذكر إجمالًا في كتاب ولا في سنة، أم لم يكن كذلك، و{مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الآية شامل للكتاب وغيره من أنواع الوحي، والذكر الكتاب فقط على الرأي المشهور، ومعنى الآية حينئذ: "وما أنزلنا إليك الكتاب المعجز للبشر؛ إلا ليكون دليلًا على صحة رسالتك، مذكرًا لهم بما يستحقونه من العقاب على مخالفة أحكام الله، ومن الثواب على امتثالها؛ فيمكنك حينئذ أن تظهر للناس جميع ما أنزل إليهم من أنواع الوحي استقلالًا أو بيانًا، ويكون إظهارك هذا حجة عليهم، حيث أثبتنا صحة رسالتك بهذا الذكر، وبشرناهم وأنذرناهم فيه"، هذا إن أريد بالذكر الكتاب.
فإن أريد به العلم كما قاله بعض المفسرين؛ فالأمر ظاهر، إذ لا يكون خاصًّا بالكتاب، فالمعنى عليه "وأنزلنا إليك جميع أنواع الوحي لتبين ما فيها من الأحكام للناس، وتظهرها لهم".
والبيان قد ورد في القرآن بمعنى مطلق الإظهار، ووصف به الكتاب نفسه في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} [القصص: 2]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ =(8/441)
ص -316-…فلا تجد في السنة أمرًا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضًا؛ فكل ما دل1 على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها2؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
فليس في الآية دلالة على ما ذهب إليه المستدل، ولو فرض جدلًَا أن في الآية احتمالًا آخر يفيد مذهبه، ولم نهتد إليه؛ فماذا يفيده هذا الاحتمال، سواء أكان راجحًا أم مرجوحًا، والمسألة قطعية لا ينفع فيها مثل ذلك؟".
1 لم يستدل عليه في موضعه من مباحث الكتاب العزيز، بل قال: إنه "لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة". "د".
2 قوله: "إن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها"، فإن أراد بذلك أنه ذكر فيه جميع القواعد الإسلامية الأصلية، وذكر فيه جميع الأدلة التي يعتمد عليها المجتهدون في فهم الأحكام الفرعية، سواء أكانت هذه الأدلة مستقلة بإفادة حكم لم ينص عليه الكتاب، أم مبينة لحكم أجمله؛ فنحن نقول وتؤمن به،وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولكن ماذا في ذلك: أيستلزم دعواه؟ كلا، وكل ما دل على ذلك من قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على تسليم أن ليس المراد به اللوح المحفوظ؛ فهو لا يدل على دعواه كذلك.(8/442)
وإن أراد بذلك أنه ذكر فيه كل حكم على سبيل الإجمال ونص عليه؛ فهذا لا نسلمه إذ الواقع يكذبه، والآيات التي ذكرها يجب حملها على خلاف ذلك، وإلا كانت كاذبة، على أنا لو أخذنا بظاهرها وسلمنا صحة ذلك جدلًا؛ لكانت دليلًا على أن القرآن كلية الشريعة، بمعنى أنه احتوى على كل حكم إجمالًا وتفصيلًا، ونص على ذلك كله، ولم يكن لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان، ولا استقلال، أتقول أنت بذلك؟ كلا، فما الذي تقوله في الخروج من هذا الإشكال؟ ألست ستقول: إن القرآن احتوى على التفاصيل بمعنى أنه بين بيانًا شافيًا أن السنة حجة فيها؟ فهذا الذي تقوله في التفاصيل هو ما قلناه نحن في غيرها.
فإن قلت: إني أتخلص من ذلك بأن أقول: إن القرآن قد اشتمل على كليات هذه التفاصيل؛ قلنا: سلمنا لك جدلًا أنه اشتمل على هذه الكليات، وأن التفاصيل في الواقع مندرجة فيها، ولكن أيمكنك أنت وغيرك ممن هو أعلى منك عقلًا وفهمًا وإدراكًا لمعاني القرآن أن تستنبطوا جميع هذه التفاصيل من تلك الكليات؟ إن قلت نعم؛ فأنت مكابر، ولا يصح معك الكلام، وإن =(8/443)
ص -317-…فهو دليل على ذلك لأن الله قال1: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت لا؛ قلنا لك: أفيصح حينئذ أن يقال: إن القرآن تبيان لهذه التفاصيل التي لا يمكن لمجتهد من هذه الأمة أن يدركها منه، مع أن كلمة "تبيان" تدل على منتهى الإظهار والإيضاح؟ لا يصح ذلك، فدل على أن تأويلك هذا غير صحيح.
على أنا لو سلمنا لك أنه يمكنك أو يمكن غيرك إدراك هذه التفاصيل؛ أفلا نجد أنفسنا قائلين حينئذ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مبين أيضًا، كما هو غير مستقل؟ فإنا على هذا الفرض نفهم جميع الأحكام إجمالًا وتفصيلًا؛ فلا داعي لتأسيس الرسول بالبيان، ولا بالاستقلال، ولكنا نقول بالاتفاق: إنه مبين ابتداء ومؤسس لهذه التفاصيل، لا مؤكد لها.
فإن قلت: إني أقول: إننا لا يمكننا إدراكها، ولكن صح وصف القرآن بأنه تبيان لها بالنظر إلى الواقع، وصح وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه مبين لها ابتداء ومؤسس لهال بالنظر إلى عقولنا؛ قلنا: فكذلك نحن نقول: إن الأحكام التي استقلت بها السنة ولم يرد في القرآن نص عليها يمكننا أن ندركها منه، بوصف الرسول بأنه مؤسس لها ابتداء بالنظر إلى الظاهر، وإن كانت في الواقع مندرجة تحت كليات القرآن، ومحل النزاع هو النص بحيث يمكن الفهم منه للمجتهدين، لا الاندراج في الواقع ولو لم يمكن الفهم؛ إذ ما قيمة هذا الاندراج بالنسبة للمجتهد الذي يريد أن يستنبط.(8/444)
وبالجملة؛ فأفعال الصلاة، وميراث الجدة لم ينص عليهما القرآن نصًّا يمكن لعقولنا أن تفهمهما منه، ووصف القرآن بأنه تبيان لهما وكل منهما أسسه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقولنا ابتداء، كل ما في الأمر أن هذا التأسيس بالنظر لأفعال الصلاة نسميه بيانًا في الاصطلاح؛ لأن حكم الصلاة منصوص عليه في القرآن مجملًا، وبالنظر لميراث الجدة لا يسمى بيانًا؛ لأنه لم ينص عليه مطلقًا، بل نسميه استقلالًا.
فإن جعلت قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} مبطلًا لتأسيس ميراث الجدة من ناحية الإجمال؛ وجب القول بأنه مبطل لتأسيس حكم أفعال الصلاة وتفاصيلها، ولا يصح أن يقال لفعله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه مؤكد فقط، بل لا يقال له مؤكد أيضًا؛ إذ التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، ولم يقل أحد من المسلمين عامة بشيء من ذلك. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص522-524". وفي "ط": "وينبوع الملة".
1 في نسختي "ف" و"م": "... ذلك وقال"، وفي "ط": "ولأن الله قال".(8/445)
ص -318-…وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه1 القرآن2، واقتصرت في خلقه على ذلك؛ فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن؛ لأن الخلق محصور3 في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبيانًا لكل شيء؛ فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة لأن الأمر والنهي أول4 ما في الكتاب، ومثله قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وخلق الشخص ما تنشأ عنه أفعاله بسهولة؛ فأفعاله -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وسائر شأنه صادر عن القرآن، والأفعال وما معها هي ما تطلق عليه السنة. "د".
2 الحديث صحيح، ومضى تخريجه "2/ 332"، ورد الشيخ عبد الغني عبد الخالق على المصنف بقوله: "وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم}؛ فنعم الوصف ونعم الموصوف به -صلى الله عليه وسلم- وكرم وعظم، وهل من شك في ذلك، وأما تفسير عائشة -رضي الله عنها- فهو موقوف عليها فليس بحجة، سلمنا أنه حجة، وسلمنا أنه يفيد الحصر؛ فمفهومه أن خلقه وما يصدر عنه من الأفعال لا يخالف القرآن، هذا هو الذي يفيده الحصر، وليس فيه تعرض لما سكت عنه القرآن.
سلمنا أنه تعرض له، لكنه تعرض له في المنطوق على وجه الإثبات، لا في المفهوم على وجه النفي، كما يقصده الخصم؛ فإن ما يصدر عنه وسكت القرآن عن النص على حكمه قد أمره الله تعالى بتبليغه واتباعه في القرآن نفسه؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67], وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]، وهذا عام يشمل المتلو وغيره، المؤكد والمبين والمستقل؛ فدل ذلك على أن خلقه الذي نشأ عنه المحافظة على تبليغ غير المتلو إذا كان مستقلًَا وعلى اتباعه مطابق للقرآن وموافق له؛ فهو داخل في منطوق الحصر".
انظر: "حجية السنة" "ص524-525".
3 أي: بمقتضى الجملة المعرفة الطرفين في كلامها، أو أثر الخلق مطلقًا لا يخرج عنها. "د".(8/446)
4 يعني: أن القرآن وإن اشتمل على علوم خمسة كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة من الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل في العلوم المضافة للقرآن؛ فإن أول ما يعنى به هو الأمر والنهي، أي: التكاليف الشرعية اعتقادية وعملية، وأهم ما في السنة بيان التكاليف وتفاصيلها؛ فتكون السنة حاصلة في القرآن على وجه الإجمال، ولو قال بدله: "لأنها لا تخرج عن كونها بيانًا للأشياء الداخلة تحت قوله كل شيء"؛ لكان أوضح في غرضه. "د".(8/447)
ص -319-…{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ1 مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وهو يريد2 بإنزال القرآن؛ فالسنة إذًا في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه.
وأيضًا؛ فالاستقراء التام3 دل على ذلك حسبما يذكر بعد4 بحول الله.
وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي القرآن، على رأي، والرأي الآخر أنه اللوح المحفوظ. "د".
2 هذا من تمام الدليل؛ لأنه لو كان المراد أنه أكمل الدين بما نزل من القرآن وما ورد من السنة؛ لم يتم الدليل، ومعلوم أنه عاش عليه السلام بعد نزول هذه الآية نحو ثمانين يومًا لم تخل من سنة قولية وفعلية، وهو يعين هذا المراد. "د".
قلت: معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، كما قال البيضاوي وغيره أنه أكمل الدين بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو أكمله بالقرآن كما يقول المستدل، بواسطة التنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ومن ذلك التوقيف على أن السنة بجميع أنواعها حجة، ومنها المستقل في التشريع.
وليس معنى الآية أنه أكمله بالقرآن بواسطة النص على كل حكم جاء في السنة؛ إذ لو كان كذلك لوجب أن يكون مشتملًا على التفاصيل لأن ذكر الأحكام مجملة لا يقال: إنه على وجه الكمال، حيث إن الكمال لا يتحقق كما يزعم الخصم إلا من النص على الحكم، وبالجملة، فالكلام ههنا كالكلام في قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}. انظر: "حجية السنة" "ص525".
3 بل الاستقراء المذكور غير تام، وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين، وكلام العلماء الأعلام في المسألة تدل على خلاف زعم المصنف، وانظر: "حجية السنة" "ص525-526".(8/448)
4 أي: في المسألة الرابعة، وأما الاستقراء المذكور في الإشكال الثالث في هذه المسألة؛ فهو معارضة للاستقراء المستدل به هنا. "د".(8/449)
ص -320-…التوقف1 عن قبولها، وهو أصل كاف في هذا المقام.
فإن قيل: هذا غير صحيح من أوجه2:
أحدها: أن الله تعالى قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
والآية نزلت في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير3 بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة4 -الحديث مذكور في "الموطأ"5- وذلك ليس في كتاب الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا كانت لا تعارض أصلًا قطعيًّا في الكتاب، ولا يشهد لها منها أصل قطعي، أما إذا عارضها أصل قطعي؛ فمردودة. "د". قلت: بينا ما في استدلاله هذا من أمور فيما مضى؛ فارجع إليه إن شئت.
2 في "ط": "وجوه".
3 حيث خاصمه الأنصاري إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اسق يا زبير، وأرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري، وقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي -عليه السلام- وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر". فطلب -صلى الله عليه وسلم- من الزبير أولًا التسامح مع جاره بالاكتفاء بأقل درجة في السقي، فلما لم يفهم الأنصاري ذلك، وحمله محملًا سيئًا؛ استوفى -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقه الشرعي، وهو أن للأعلى حبس الماء عن الأسفل حتى يسقي سقيًا تامًّا. "د".
قلت: انظر تخريجه في الهامش بعد الآتي.
4 في "د": "الجرة" بالجيم، والصواب بالحاء.
وكتب "ف" هنا: "الشراج: مجاري الماء من الحرار إلى السهل، واحدها شرج؛ بالفتح، والتسكين" ا. هـ مختصرًا.(8/450)
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار، 5/ 34/ رقم 2359، 2360، وكتاب التفسير، باب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون}، 8/ 254/ رقم 4585"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه, صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357" عن عبد الله بن الزبير، ومضى تخريجه "2/ 285"، وتجد هناك كلامًا أوعب، والله الهادي. والحديث ليس في "الموطأ" برواياته الخمس المطبوعة بين أيدينا.(8/451)
ص -321-…ثم جاء1 في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته2 بعد موته.
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92].
وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله؛ فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن3؛ إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الآية السابقة، من عد ذلك خروجًا عن الإيمان، يعني: فالكتاب شهد للسنة بالاعتبار في موضوع ليس في القرآن. "د".
2 قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 49-50/ ط طه سعد": "أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد مماته".(8/452)
3 هذا الحصر لا نقرك عليه، بل نقول: إن طاعة الرسول امتثاله في جميع ما أمر به ونهى عنه، مبينًا كان أو مؤكدًا أو مستقلًّا؛ فالآية شاملة لهذه الأنواع كلها، كل ما في الأمر أن امتثال المستقل في بادئ الرأي أظهر دخولًا في طاعة الرسول، حيث إنه يحقق الانفراد في ظاهر الأمر دون البيان؛ لأنه عين المراد من المبين، فامتثاله امتثال لذاك، ودون المؤكد كذلك، ولا يضرنا اشتراك الطاعتين في بعض الأنواع؛ إذ المهم لنا شمول طاعة الرسول للمستقل من سنته، على أنك إذا تأملت وجدت أن طاعة الرسول في جميع الأنواع مستلزمة لطاعته تعالى، ونمنع لك الحصر أيضًا في قولك: "وذلك السنة التي لم تأت في القرآن".
قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص510-511".
4 أي: فإفراد الرسول بطاعة غير طاعة الله يدل على تباين المطاع فيه لكان منهما. "د".(8/453)
ص -322-…وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية [النور: 63].
فقد اختص الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى؛ فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن؛ فلا بد أن يكون زائدًا عليه1.
والثاني: الأحاديث الدالة على ذم2 ترك السنة واتباع الكتاب؛ إذ لو كان ما في السنة موجودًا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال، كما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "يوشك بأحدكم أن يقول: هذا كتاب الله، ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه؛ ألا من بلغه عني حديث فكذب به؛ فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن أردت بالزيادة الاستقلال فقط؛ فلا نقول به نحن، وإن أردت ما يشمل الاستقلال والبيان؛ فهو حق. انظر: "حجية السنة" "ص511".
2 لو صاغ هذا الإشكال في صورة أخرى كأن يقول: الأحاديث الدالة على أن الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنة وأن في السنة ما ليس في الكتاب، وأنه يجب الأخذ بما في السنة من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب, لو فعل ذلك؛ لكان مع كونه في ذاته وجيهًا موافقًا لقوله بعد: "وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب"، ولكان مغايرًا تمام المغايرة للإشكال الرابع الذي لا يخرج في محصوله عن الثاني إلا بتكلف لا حاجة إليه. "د".(8/454)
3 أخرجه آدم بن أبي إياس في "العلم" -ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" "ص73"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 90"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 183/ رقم 2340"، و"التمهيد" "1/ 152" من طريق بقية بن الوليد عن محفوظ بن مسور عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا به.
وإسناده ضعيف جدًّا، بقية مدلس وقد عنعن، ولا ينفعه تصريحه بالسماع في رواية آدم؛ =(8/455)
ص -323-…وعنه أنه قال: "يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل الذي حرم الله"1.
وفي رواية: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"2.
وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب.
والثالث: أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو [على] خالتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لأن من بعده لم يصرح بالسماع، ومحفوظ ترجمه الذهبي في "الميزان" "3/ 444"، وقال: "عن ابن المنكدر بخبر منكر"، وقال: "لا يدرى من ذا؟"، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "1/ 149" للطبراني في "الأوسط"، وله طرق أخرى عن جابر لا تخلو من ضعف، فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" "1813"، والخطيب في "الكفاية" "10"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق يزيد الرقاشي والخطيب في "الكفاية" "11" من طريق عباد بن كثير -وكلاهما ضعيف- عن أنس.
ولعل الصواب ما عند الشافعي في "الرسالة" "90، 404", ومن طريقه الحميدي في "المسند" "1/ 255"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1184/ رقم 2341" عن ابن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وكذا ورد مرسلًا عن ابن المنكدر عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع مرسلًا، كما عند الآجري في "الشريعة" "ص50".
ويغني عنه ما مضى "ص190". وهو صحيح بتعدد طرقه.
1 مضى تخريجه "ص191"، وهو لفظ حديث معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد.(8/456)
2 مضى تخريجه مفصلًا "ص190"، وهذا لفظ حديث الحميدي، وهو من مرسل ابن المنكدر، وهو صحيح بتعدد طرقه وشواهده؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد. وفي "د": "بما أمرت...".(8/457)
ص -324-…وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع1، والعقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر وهو2 الذي نبه عليه حديث علي بن أبي طالب؛ [حيث قال فيه: "ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، وما في هذه الصحيفة"3.
وفي حديث آخر عن علي]4 أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة؛ فقال: "والله؛ ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. فنشرها؛ فإذا أسنان الإبل5، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا6، فمن أحدث فيها حدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا7.
وإذا فيها: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا8؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريج الأحاديث في تحريم هذه المحرمات "3/ 372".
2 الضمير راجع إلى الأمثلة الثلاثة الأخيرة. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" بسنده إلى أبي جحيفة؛ قال: "قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا؛ إلا كتاب الله.... به"، وتتمته: "قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير،ولا يقتل مسلم بكافر".
وأخرجه أيضًا بنحوه في "كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير، 6/ 167/ رقم 3047، وكتاب الديات، باب العاقلة، 12/ 246/ رقم 6903، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، 12/ 260/ رقم 6915".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "فإذا فيها".
6 بفتح فسكون: جبل بالمدينة. "ف".
7 الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، وقيل: الصرف الحيلة، ومنه قيل: فلان يتصرف أي: يحتال، وقوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] معناه: لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصروا أنفسهم. "ف".
8 أي: نقض عهده وغدره، والخفارة, مثلثة: الذمة وانتهاكها إخفار، والهمزة فيه للإزالة =(8/458)
ص -325-…فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، وإذا فيها: من والى قومًا بغير إذن مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا"1.
وجاء في حديث معاذ: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: فبسنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم2.
وما في معناه مما تقدم ذكره، وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن، وهو نحو قول من قال من العلماء: ترك الكتاب موضعًا للسنة، وتركت السنة موضعًا للقرآن3.
والرابع: أن الاقتصار4 على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، 4/ 81/ رقم 1870 وكتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، 6/ 273/ رقم 3172، وكتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، 12/ 41-42/ رقم 6755، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275-276/ رقم 7300" -والمذكور عند المصنف لفظ البخاري في هذا الموطن- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 994-998/ رقم 1370".
قال "د": "ويبقى النظر في حصر ما عندهم في الأمور المذكورة مع سعة علمهم وكثرة استنباطهم، وقد ثبت عن علي -رضي الله عنه- كثير مما ليس في الصحيفة، والظاهر -كما قال في "فتح الباري"- أنه ليس المراد حصر ما علموه بل ما كتبوه، كما قال: "والله؛ ماعندنا كتاب نقرؤه"؛ فتحمل عليها الرواية الأولى، وهي قوله: "والله ما عندنا إلا كذا"، غير أن هذا الجواب يتوقف على ثبوت أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يكتب ما يستنبطه هو من القرآن".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 في "ط": "للرأي" ولعله الصواب.(8/459)
4 ليس في الدعوى التي هي رأس المسألة هذا الاقتصار المذموم، إنما فيها أنك لا تجد في السنة أمرًا إلا والكتاب دل عليه إجمالًا أو تفصيلًا، ولا تلازم بين القول بهذا واطراح بعضهم للسنة، ولا يلزم من كون بنائهم فاسدًا أن يكون المبني عليه فاسدًا؛ فما أطال به في هذا الوجه وما رتبه عليه في قوله: "هذا مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب" هو كما ترى. "د".(8/460)
ص -326-…السنة؛ إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شئ، فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة1 وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله؛ فقد روي عن النبي, صلى الله عليه وسلم:
"أن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان: القرآن، واللبن، فأما القرآن؛ فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين، وأما اللبن؛ فيتبعون الريف، يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التاريخ يعيد نفسه، وفي مطلع هذا القرن هناك جهود كثيرة سلكت سبيل هدم السنة والتنكر لها؛ منها: "أضواء على السنة المحمدية" لمحمود أبو رية، و"الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها" للسيد صالح أبو بكر، وقامت جهود خطيرة في شبه القارة الهندية لإنكار السنة، من أفظعها وأخطرها ما قام به غلام أحمد برويز إذ أسس طائفة في الباكستان قائمة على هذه الفكرة الباطلة، وهنالك جهود كثيرة في الرد على هؤلاء وكشف فضائحهم وبواطيلهم، من أشهرها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لمصطفى السباعي، و"دراسات في الحديث النبوي" لمحمد الأعظمي، و"الأنوار الكاشفة" للمعلمي اليماني، و"حجية السنة" لعبد الغني عبد الخالق، و"دفاع عن السنة" لمحمد أبو شهبة، و"السنة المفترى عليها" للبهنساوي، و"موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي" لمحمد بن إسماعيل السلفي، و"زوابع في وجه السنة قديمًا وحديثًا" لصلاح مقبول.
2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 156"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296-297/ رقم 818"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2362" من طريق أبي السمح ثنا أبو قبيل عن عقبة بن عامر به مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، أبو السمح اسمه دراج بن سمعان، صدوق في حديثه؛ إلا أنه توبع؛ فقد تابعه جماعة منهم:
أولًا: عبد الله بن لهيعة، أخرجه من طرق عنه، ومن بينها طريق عبد الله بن يزيد المقرئ =(8/461)
ص -327-…وفي بعض الأخبار عن عمر بن الخطاب: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن؛ فخذوهم بالأحاديث، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"1.
وقال أبو الدرداء: "إن مما أخشى عليكم: زلة العالم، وجدال المنافق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن ابن لهيعة عن أبي قبيل به: أحمد في "المسند" "4/ 146، 155، 156"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 285/ رقم 1746"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296/ رقم 816"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1199/ رقم 2359".
ثانيًا: الليث بن سعد, أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 295-296/ رقم 815", وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2361".
ثالثًا: مالك بن الخير الزبادي، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 296".
ومدار هذه الطرق على أبي قبيل وهو حيي بن هانئ المعافري، وثقه أحمد وابن معين والفسوي وأبو زرعة وأحمد بن صالح والعجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "يخطئ"، وذكره الساجي في "الضعفاء"، فحديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، ولم يسمع من عقبة إلا هذا الحديث كما في "مجمع الزوائد" "2/ 194".
وقد توبع أبو قبيل؛ فأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 155" من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة، ورجاله ثقات؛ فصح الحديث إن شاء الله تعالى.(8/462)
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 49"، والآجري في "الشريعة" "ص48، 52، 74"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 83، 84، 790"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 123"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 7 و8"، والأصبهاني في "الحجة" "1/ 205، 312"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1010/ رقم 1927"، والهروي في "ذم الكلام" "ص68"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 180، 181، 182"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 119"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 213"، وابن النجار؛ كما في "كنز العمال" "1/ 375" من طرق بألفاظ متقاربة، وهو صحيح، وشبهات القرآن متشابهاته؛ إذ ليس في القرآن شبه.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 54، 55"، وذكر هذا الأثر وغيره في ذم الرأي عن عمر: "وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة".(8/463)
ص -328-…بالقرآن"1.
وعن عمر: "ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"2.
وعن ابن مسعود: "ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم؛ فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق"3.
وعن عمر: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه"4.
وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح5 السنن وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا؛ اتخذ الناس رؤساء جهالًا؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء -رضي الله عنه- وفي نسختي "ف" و"م": "وجدل" بدل "وجدال".
2 ورد من طرق عنه، وبعضها صحيح، وقد مضى تخريجه "ص89".
وفي الأصل و"ط": "زيغة" بدل "زلة".
3 مضى تخريجه "ص280"، وهو صحيح.
4 مضى تخريجه "ص280".
5 بالتأمل في هذه الآثار لا تجدها تفيده في غرضه من الإشكال بوجود شيء في السنة ليس في الكتاب، بل ربما أنتجت العكس، وهو أن هذه السنة إنما تتكلم في موضوعات من الكتاب؛ فيجب أن يبين الكتاب بها، ولا تهمل وتطرح، ويعمد إلى فهم الكتاب بالرأي؛ فهذا الإشكال الرابع ضعيف من وجوه كثيرة. "د".(8/464)
ص -329-…وأضلوا"1، وما في معناه؛ فإن كثيرًا من أهل البدع هكذا فعلوا، اطرحوا الأحاديث، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله؛ فضلوا وأضلوا.
وربما ذكروا حديثًا يعطي أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى، وذلك ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله؛ فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما.
2 ورد من حديث جماعة، منهم: أبو هريرة وثوبان وابن عمر وعلي وجبير بن مطعم ومن مرسل الحسن.
أما حديث ثوبان؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 97/ رقم 1429".
وأما حديث ابن عمر؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 316/ رقم 13224"، وابن بطة في "الإبانة" "102"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الوضين بن عطاء سيئ الحفظ، وفيه مجاهيل.
وأما حديث أبي هريرة؛ فله ألفاظ تجدها في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1083، 1084، 1085، 1086", وسيأتي أحدها قريبًا "ص337".
وأما حديث علي, فأخرجه الدارقطني في"السنن" "4/ 208-209", والهروي في "ذم الكلام" "ص170" من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم بن زر بن حبيش عن علي مرفوعًا، قال الدارقطني عقبه: "هذا وهم، والصواب عن عاصم بن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي, صلى الله عليه وسلم".
وأما حديث جبير؛ فأخرجه الخطيب في "الكفاية" "430"، وفيه سليم بن مسلم المكي، قال ابن معين: "جهمي خبيث"، وتركه النسائي، وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا".
وأما مرسل الحسن؛ فأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص170"، وفيه صالح المري، تركه النسائي وغيره.(8/465)
وجميع هذه الأحاديث ليست بصحيحة، ولا تخلو من كذاب أو متهم أو متروك أو مجهول؛ =(8/466)
ص -330-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كما تراه في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 213 وما بعدها"، و"تنزيه الشريعة" "1/ 264 وما بعدها".
وقد ظفرت بكلمات سمان فخام لجماعة من الأئمة الأعلام، فيها حكم على هذه الأحاديث، منها:
- ما قاله عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث"، ذكره عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1191/ رقم 2347".
- ما ساقه المصنف بعد قوله: "قالوا: وهذه الألفاظ... إلخ".
- الساجي، نقل عنه ابن بطة في "الإبانة" "1/ 266-267" قوله: "هذا حديث موضوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث".
- ووافقهم ابن بطة بقوله: "وصدق ابن الساجي وابن المديني -رحمهما الله- لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترده، قال الله, عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، والذي أمرنا الله -عز وجل- أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته -عليه السلام- المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية".(8/467)
- ولابن حزم كلام متين في رد هذه الأحاديث، وذلك في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" "2/ 76-82"، ومما قاله فيه: "إنه لا يقول هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق، إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا؛ لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير".
- الشافعي قال في "الرسالة" "ص225": "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء، صغر ولا كبر".
- البيهقي قال في "المدخل إلى دلائل النبوة" "1/ 27": "الحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح"، قال: "وهو ينعكس على نفسه بالبطلان؛ فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن". وانظر: "تذكرة المحتاج" "ص27-31" لابن الملقن.(8/468)
ص -331-…قال عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث". قالوا1: "وهذه الألفاظ لا تصح2 عنه -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم3؛ فقالوا: نحن نعرضه4 على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد5 على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله؛ وجدناه مخالفًا لكتاب الله، لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال".
هذا6 مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب، ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين، كما كان ذلك فيمن تقدم؛ فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم، أعاذنا الله من ذلك بمنه.
فالجواب: أن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم.
أما الوجه الأول؛ فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب؛ فلا بد أن تكون بيانًا لما في الكتاب احتمال له ولغيره، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر، فإذا عمل المكلف على وفق البيان؛ أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان؛ عصى الله تعالى في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما سبق نقله عن ابن مهدي وما يأتي بعد: "قالوا" من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1191".
2 لأنها سقيمة التركيب بعيدة عن أسلوبه البارع, صلى الله عليه وسلم. "د".
3 في مطبوع "الجامع" زيادة: "من أهل العلم".
4 في مطبوع "الجامع": "نعرض هذا الحديث".
5 فهي معارضة بالقلب، بنفس دليل الخصم. "د".
6 أي: ما ذكر في الإشكال الرابع من مضاهاة أقوال الخارجين عن السنة والأخذ بما وضعه الزنادقة. "د".(8/469)
ص -332-…عمله على مخالفة البيان؛ إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه؛ فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق1، وإذا لم يلزم ذلك؛ لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب2، بل قد يجتمعان في المعنى، ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين، ولا محال فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما مرادك بقولك: "إن السنة بيان للكتاب..."، فإن أردت به أن جميع السنة بيان له، فهذا ما نتنازع فيه، ولا يمكنك بحال إثباته، وسنبطل شبهك، وسائر تكلفاتك في إرجاع المستقل إلى المبين؛ فالواقع أن بعض السنة بيان وبعضها مستقل، كما سنبينه في المسألة الثالثة، وإذا كان الواقع كذلك؛ كانت الآية شاملة لكل منهما، إلا إذا أخرج بعضه الدليل، ولا دليل، وعلى هذا لا يصح لك أن تبني ردك على خطأ مخالف للواقع، وإن أردت به أن بعض السنة بيان له، فهذا مسلم، ونعفيك أيضًا من محاولتك إدخال امتثال هذا النوع في طاعة الرسول، فإنا لم نقل بعدم شمولها له، بل أنت الذي فعلت ذلك في تقريرك لدليلنا؛ فلتوجه الاعتراض إلى نفسك لا إلينا، وحاول إقناع نفسك بما ذكرت. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص511".
2 إن أردت بقولك: ما في السنة جميعها, فنحن لم نقل: إن الآيات تدل على أن جميعها ليس في الكتاب, بل نقول: إن بعضها مستقل وبعضها مبين، والآيات شاملة للنوعين، وإنما أنت الذي قلت ذلك في التقرير الذي تبرعت به.(8/470)
وإن أردت بما في السنة بعض ما في السنة؛ منعنا لك الشرطية؛ إذ لا يلزم من عدم لزوم تباين المطاع فيه بإطلاق لإفراد الطاعتين خروج الطاعتين المتباينتين بإطلاق من الآية، وبعبارة أخرى: لا يلزم من إدخال امتثال السنة المبينة في طاعة الرسول خروج امتثال السنة المستقلة، مع أنها الأصل في الدخول على ما هو الظاهر، ومع وجودها في الواقع؛ فالآية لا زالت شاملة، وإذا أردت أن تخرجها؛ فعليك بالدليل.
وإن كنت تريد أن تقول: إن هذه الآيات لا تدل على وجود النوع المستقل في الواقع؛ فهذا مسلم لك، ولكنا إنما نستدل بها على حجيته ولو على فرض وجوده، وأما هذا الوجود؛ فسنثبته في المسألة الثالثة بغير هذه الآيات، ويثبته أيضًا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. انظر: "حجية السنة" "ص511-512".(8/471)
ص -333-…ويبقى النظر في وجود1 ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى، وقوله في السؤال: "فلا بد أن يكون زائدًا عليه" مسلم، ولكن هذا الزائد؛ هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح2 بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحًا، أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب3؟ هذا محل النزاع.
وعلى هذا المعنى يتنزل4 الوجه الثاني.
وأيضًا؛ فإذا5 كان الحكم في القرآن إجماليًّا وهو في السنة تفصيلي، فكأنه ليس إياه؛ فقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أجمل فيه معنى الصلاة، وبينه -عليه الصلاة والسلام-, فظهر من البيان ما لم يظهر من المبين، وإن كان معنى البيان هو معنى المبين6، ولكنهما في الحكم يختلفان، ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان التوقف، وفي البيان العمل بمقتضاه، فلما اختلفا حكمًا صار كاختلافهما معنى؛ فاعتبرت7 السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: أين يوجد في القرآن ذلك الحكم الذي قضى به للزبير ولو إجمالًا أو احتمالًا؟ وقد أحال جوابه على المسألة الرابعة، كما أحال عليها الجواب عن الإشكال الثالث. "د".
2 في نسختي "ف" و"م": "في الشرح".
3 إنا لا نريد واحدًا بخصوصه كما علمت، بل يكفينا الشمول للاثنين، كما تدل عليه الآيات، فإن زعمت القصر على الشرح؛ فعليك بالدليل، ولا يصح أن يقال: إن شمول الدليل للمدعي محل النزاع، بل محل النزاع هو نفس المدعى. انظر: "حجية السنة" "ص512".
4 أي فيقال: قولكم "لما كانت السنة متروكة على حال" غير مسلّم، بل تكون متروكة لأنه لم يلتفت إلى ما فيها من البيان للمعنى الذي اشتمل عليه الكتاب. "د".
5 في الأصل: "وإذًا فإذا".
6 في "ط": "معنى المبين هو معنى البيان".(8/472)
7 جواب عما يقال: إن ما أجيب به عن الأول لا يظهر في الثاني لا سيما الأحاديث الثلاثة الظاهرة في التغاير، وأنها فيما اشتملت عليه السنة مما لم يوجد أصله في القرآن، كما هو الظاهر من قوله, عليه السلام: "أوتيت القرآن ومثله معه"، وقوله: "وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"؛ فهو يقول: لما اختلفا حكمًا اعتبرت السنة مفردة عن الكتاب؛ فصح فيها التعبير بالمماثلة ونحوها من العبارات الواردة في الأحاديث، وانظر هل هذا الجواب بالكأنية مصحح للتعبير بالعبارات المذكورة وكاف لدفع الإشكال في تأصيل قاعدة كلية كموضوعنا؟ "د".(8/473)
ص -334-…وأما الثالث؛ فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وأما الرابع؛ فإنما1 وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي وإطراحهم السنن، لا من جهة أخرى2، وذلك أن السنة كما تبين توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم؛ فتخرج كثيرًا3 من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة، وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ، فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى؛ صار صاحب هذا النظر ضالًّا في نظره، جاهلًا بالكتاب خابطًا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها؛ إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير، وهي الأخروية4 أبعد على الجملة والتفصيل.
وأما ما احتجوا به5 من الحديث، فإن لم يصح في النقل؛ فلا حجة به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فإنه".
2 وهي بناؤهم على ما بنيت عليه المسألة من أن القرآن تبيان لكل شيء؛ فإنه صحيح في ذاته، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم، وتقدم لك سقوط هذا الاعتراض من نفسه. "د".
3 في الأصل: "جميعًا".
4 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "في الأخروية".
5 أي: على الاقتصار على الكتاب وطرح السنة، وقوله: "لا يمكن فيه التناقض... إلخ" أي: فلا معنى لطرحه، وسواء أفرعنا على القول بجواز الخطأ في اجتهاده -عليه السلام- وعدم إقراره على الخطأ من الله، وأنه لا بد أن يرده إلى الصواب قبل العمل باجتهاده، أم قلنا: إنه لا يخطئ في الاجتهاد رأسًا -وإن كان هذا أحسم للمادة وأولى في أنه لا يحكم حكمًا يعارض الكتاب- فلا معنى لاطراح السنة على أي تقدير. "د".(8/474)
ص -335-…لأحد من الفريقين، وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله؛ فلا بد من النظر فيه؛ فإن الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول -عليه الصلاة والسلام- معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه؛ فلا يقر عليه ألبتة؛ فلا بد من الرجوع إلى الصواب، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكمًا يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه.
نعم، يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة، بل بما يكون مسكوتًا عنه في القرآن؛ إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز، وهو الذي ترجم له في هذه المسألة؛ فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة1 لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور؛ فمعناه صحيح صح سنده أو لا.
وقد خرج في معنى هذا الحديث الطحاوي في كتابه في بيان "مشكل الحديث" عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري عن أبي حميد وأبي أسيد؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب؛ فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم، وتند2 منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكر؛ فأنا أبعدكم منه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصار الكتاب مشتملًا على السنة؛ فعاد الأمر إلى جعل الحديث معارضة بالقلب، وصار حجة لأصل المسألة لا عليها؛ كما هو الإشكال الرابع، هذا ما يريده. "د".
2 في "المشكل" و"ط": "وتنفر".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 497 و5/ 425"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "15/ 344/ رقم 6067"، والبزار في "المسند" "رقم 187, زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 63, الإحسان" من طريق أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك بن عمرو القيسي- وابن سعد =(8/475)
ص -336-…وروي أيضًا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل؛ أن أبي بن1 كعب كان في مجلس، فجعلوا يتحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت، فلما فرغوا؛ قال: "أي هؤلاء! ما حديث بلغكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرفه القلب2، ويلين له الجلد، وترجون عنده؛ فصدقوا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن رسول الله لا يقول إلا الخير"3.
وبين وجه ذلك الطحاوي4 أن الله تعالى قال في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2].
وقال: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية [الزمر: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "الطبقات الكبرى" "1/ 387" من طريق عبد الله بن مسلمة بن قعنب، كلاهما عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن سويد به.
وأخرجه ابن وهب في "المسند" "8/ ق 164/ 2": أخبرني القاسم بن عبد الله عن ربيعة به. ورواه عبد الغني المقدسي في "العلم" "2/ 43/ 2" من طريق أخرى عن سليمان بن بلال، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 732".
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 264, ط دار المعرفة": "رواه الإمام أحمد -رضي الله عنه- بإسناد جيد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب"، وقال فيه أيضًا "2/ 473": إسناده صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك..."، وصححه الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "6/ 523".
1 ضبطه "د": "بالمرخص والمشدد" بكسر الخاء والدال المشددتين، والصواب فتحهما.
2 في مطبوع "المشكل": "تعرفه القلوب".
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 345-346" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح سيئ الخفظ.
4 في كتابه "مشكل الآثار" "15/ 346".(8/476)
ص -337-…وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الآية [المائدة: 83].
فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه، وكان ما يحدثون به عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس ذلك؛ لأنه كله من عند الله؛ ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث، وإن كانوا بخلاف ذلك؛ وجب التوقف لمخالفته ما سواه1.
وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقًا2 لا مخالفًا في المعنى؛ إذ لو خالف لما اقشعرت الجلود، ولا لانت القلوب؛ لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه.
وخرج الطحاوي أيضًا عن أبي هريرة عنه, عليه الصلاة والسلام: "إذا حدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله؛ فإني أقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر نحو ما هنا باختصار أيضًا كما فعل المصنف أبو المحاسن الحنفي في "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار" "2/ 383".
2 إنما يلزم منه أن يكون موافقًا في تلك الصفات، أما في نفس المدلول، فلا، فقد يكون موافقًا في صفات لين القلوب... إلخ عند ذكره، ويكون معناه لا موافقًا ولا مخالفًا، فالكلام خطابي، وقوله: "لأن الضد... إلخ" غير متجه؛ إذ لا يلزم من كونه مشتملًا على معنى ليس في الكتاب أن يكون ضدًّا، ولا ألا تقشعر منه الجلود وتوجل القلوب. "د".(8/477)
قلت: قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "صحيح ابن حبان" "رقم 63": وهذا الحديث خطاب للصحابة، ثم لمن سار على قدمهم واهتدى بهديهم، واقتدى بإمامه وإمامهم -صلى الله عليه وسلم- فعرف سنته وهديه، وعرف شريعته وامتلأ بها قلبه، إيمانًا وإخلاصًا ورضى عن طيب نفس، وإعراضًا عن الهوى والزيغ؛ فهو الذي يعرف الصحيح من السنة، ويطمئن قلبه إليها، وينكر المردود غير الصحيح؛ فلا يسيغه في عقله ولا في قلبه، ولله در الحافظ ابن حبان إذ أشار إلى هذا أدق إشارة في العنوان الذي كتب تحته هذا الحديث: "الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم، ثم الاقتفاء والتسليم". وانظر: "مفتاح الجنة" "ص184" للسيوطي.(8/478)
ص -338-…ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثًا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به؛ فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف"1.
ووجه ذلك أن2 المروي إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه3 لوجود معناه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 347/ رقم 6068"، والدارقطني في "السنن" "4/ 208"، والمخلص في "الفوائد المنتقاة" "9/ 218/ 1"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 36"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "11/ 391"، والهروي في "ذم الكلام" "ص171" من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به، وعزاه في "الكنز" "10/ 134" للحكيم الترمذي، ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ إلا أن وهمًا وقع فيه ليحيى بن آدم، ولم ينتبه لهذا الهروي؛ فقال: "لا أعرف علة هذا الخبر؛ فإن رواته كلهم ثقات، والإسناد متصل"، وكشف عن هذا الوهم إمامان جليلان:
أحدهما: أمير الدنيا في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، قال في "التاريخ الكبير" "3/ 434" في ترجمة "سعيد المقبري" ما نصه: "وقال ابن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، قال: "وقال يحيى: عن أبي هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة".
والآخر: الإمام الجهبذ الكبير أبو حاتم الرازي، قال ابنه في كتاب "العلل" "2/ 310/ رقم 3445": "سمعت أبي وحدثنا عن بسام بن خالد عن شعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وذكره" ثم قال: "قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه".
ويريد بذلك والله أعلم أنهم لا يذكرون أبا هريرة فيه، وكذلك فعل ابن طهمان، ولا تنفع متابعة شعيب بن إسحاق لأن بسام بن خالد غير معروف. وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1085".
وجاء في الأصل: "فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر".
2 في "ط": "بأن".(8/479)
3 أخذ السنة هنا لا يتفق مع غرضه من الاستدلال بهذا، على أن السنة لا تزيد على ما في الكتاب شيئًا جديدًا، وأنها لمجرد البيان، وأن ما وافق منها كتاب الله قبل وما لا فلا، وهذه هي النتيجة التي سيصل إليها بقوله: "والحاصل من الجميع... إلخ"؛ فلا يتم الاستدلال إلا بالاقتصار على موافقة كتاب الله، وأتى له ذلك من هذا الحديث. "د".(8/480)
ص -339-…ذلك؛ وجب قبوله لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ؛ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ، إذ يصح تفسير كلامه -عليه الصلاة والسلام- للأعجمي بكلامه، وإذا كان الحديث مخالفًا يكذبه القرآن والسنة؛ وجب أن يدفع، ويعلم أنه لم يقله، وهذا مثل ما تقدم أيضًا.
والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم1 مخالفته، وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات، وأما إن لم تصح؛ فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح، ويحقق ذلك ما تقدم في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة؛ ففي ذلك الموضع من أمثلة هذا الأصل في الموافقة والمخالفة جملة كافية، وبالله التوفيق، وإذا ثبت هذا؛ بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة؛ حتى صار متضمنًا لكليتها في الجملة، وإن كانت بيانًا له في التفصيل، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الزيادة تقتضي أن الموافقة لا تلزم، وأنه يكفي في اعتبار الحديث ألا يكون مخالفًا، وإلا، لما كان لذكرها فائدة مع الموافقة، فإذا كان هذا غرضه من الزيادة لم يبق في هذا البحث الطويل من مبدأ كلام الطحاوي إلى هنا ما يصلح أن يكون دليلًا على مقصده من كون السنة راجعة إلى الكتاب؛ فعليك بجمع أطراف الكلام في هذه المسألة وتتبع مقاصده فيها ووزنها بدقة يظهر لك غثها من سمينها. "د".(8/481)
ص -340-…المسألة الرابعة:
فنقول وبالله التوفيق: إن للناس في هذا المعنى مآخذ:
-منها: ما هو عام جدًّا، وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها، وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى1 قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 115].
وممن أخذ به عبد الله بن مسعود؛ فروي أن امرأة من بني أسد أتته، فقالت له: "بلغني أنك لعنت ذيت وذيت2 والواشمة والمستوشمة، وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول! فقال لها عبد الله: أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى. قال: فهو ذاك"3.
وفي رواية قال عبد الله: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات4، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله". قال: فبلغ ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسختي "ف" و"م": "الإجماع منه في معنى"، وفي "ط": "الإجماع منه في نحوه".
2 هذه العبارة كناية مثل كيت وكيت. "ف" و"م", وبعدها في "ط": "والواشمات والمستوشمات".
3 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
4 النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى تغير شكل خلقته، والمتنمصة هي التي يفعل بها ذلك. "د".
قلت: النمص مطلق أخذ شعر الوجه، ومنهم من عمم، قال صاحب "القاموس" "ص817": "النمص: نتف الشعر، ولعنت النامصة وهي مزينة النساء بالنمص والمتنمصة وهي المزينة به". قال "ماء/ ص411": "النامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه".(8/482)
ص -341-…امرأة من بني أسد؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟! فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه1، قال الله, عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]" الحديث2.
فظاهر قوله لها: "هو في كتاب الله"، ثم فسر ذلك بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] دون قوله: {وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النساء: 119]، أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي، ويشعر بذلك أيضًا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرمًا عليه ثيابه؛ فنهاه، فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية3 [الحشر: 7].
وروي أن طاوسًا كان يصلي ركعتين بعد العصر؛ فقال له ابن عباس: "اتركهما. فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله -صلى لله عليه وسلم- عن صلاة بعد العصر4؛ فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الياء في "قرأتيه" و"وجدتيه" للإشباع. "ف".
2 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
قال "ماء/ ص413": "قوله: "الواشمات": الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل، و"المستوشمة": هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك... و"المتفلجة": هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: هي التي تتفلج في مشيتها؛ فكل ذلك منهي عنه. قاله الخازن" ا. هـ.
3 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن بطة في "الإبانة" "82"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "248"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1182-1183/ رقم 2338" بإسناد جيد.
4 مضى تخريجه "2/ 516".(8/483)
ص -342-…قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]"1.
وروي عن الحكم بن أبان؛ أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد؛ فقال: "هن أحرار. قلت: بأي شيء؟ قال: بالقرآن. قلت بأي شيء في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وكان عمر من أولي الأمر قال: عتقت ولو بسقط"2.
وهذا المأخذ يشبه الاستدلال3 على إعمال السنة أو هو هو، ولكنه أدخل4 مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 433/ رقم 3975"، والشافعي في "الرسالة" "رقم 1220" و"المسند" "6/ 208, بهامش الأم، وص83"، والدارمي في "السنن" "440"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 110"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 453" و"المعرفة" "1/ 37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 146"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 268"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1183"، وهو صحيح. وذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 148, ط القديمة"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "5/ 201" لابن أبي حاتم وابن مردويه.
2 أخرجه الهروي في "ذم الكلام" "194"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1175/ رقم 2325"، وإسناده صحيح، وعتق أم الولد ثابت عن عمر في "الموطأ" "2/ 776"، و"غريب الحديث" "3/ 337"
لأبي عبيد، و"طبقات ابن سعد" "158-160/ التتمة الأولى"، و"المعرفة والتاريخ" "1/ 628".
وانظر: "مسند الفاروق" "1/ 373"، و"البداية والنهاية" "9/ 346" لابن كثير.
3 وهذا ممنوع، بل هو نفس الاستدلال؛ فيجب الاقتصار على قوله: "هو هو". انظر: "حجية السنة" "ص527".(8/484)
4 أي: سلكوا به مسلك الدال على المعاني التفصيلية التي في السنة، وجعلوا دلالة السنة على تلك المعاني دلالة للكتاب عليها، كما رأيت في الآثار المتقدمة، وإلا؛ فليست بذاتها ولا بكليها مدلولًا عليها في الكتاب، وإنما المدلول عليه في الكتاب منها كلي الاعتداد بها ووجوب =(8/485)
ص -343-…- ومنها: الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام؛ إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك؛ كبيانها للصلوات على اختلافها في1 مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية، والحج، والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن2، وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= امتثالها. "د".
قلت: وقوله: "ولكنه أدخل... إلخ"؛ فلا يفيده في موضوع النزاع شيئًا، فإن النص الدال على حجية السنة لا يقال: إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنة، كما يقال: إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} نص على وجوبها.
ثم نقول له: إن هذا المأخذ يعكس الأمر؛ فيكون القرآن هو المبين لما في السنة، فإن القرآن دال على حجية السنة، والمعقول أن الدال هو الذي يبين ما اشتمل عليه المدلول وما ثبت به، لا العكس.
وإن أبيت إلا أن المدلول هو المبين للدال؛ قلنا لك: قد ورد في السنة أيضًا ما فيد وجوب العمل بالقرآن؛ فيكون القرآن أيضًا مبينًا لما في السنة على ما ذكرت، ولا يصح أن يكون مستقلًّا؛ أفتقول بذلك؟ قاله في "حجية السنة" "527".
1 في "ط": "اختلاف أنواعها في".(8/486)
2 نقول: إن أردت أن تبين لنا بهذا المأخذ أن بعض السنة بيان لما في الكتاب من الأحكام المجملة التي نص عليها كوجوب الصلاة والزكاة؛ فهذا لا ننكره، وإن أردت أن جميعها كذلك، فهذا أمر لم توضحه لنا، وعلى ذلك يكون قولك: "كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن" إذا أردت به جميع السنة، ممنوعًا، ولما تحاول إثباته لنا. وقد تقدم لك أن لكل من المخصص والناسخ ناحية بيان للمراد من نص الكتاب، وناحية استقلال بإفادة الحكم فيما عدا هذا المراد، ومثلهما في ذلك سائر الشروط والقيود؛ فتأمل ذلك وتدبره يظهر لك ما في كلامه من الخلط والإبهام. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص529".
وفي "ط": "مجملًا في الكتاب".(8/487)
ص -344-…وقد روي عن عمران بن حصين؛ أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟". ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: "أتجد هذا في كتاب الله مفسرًا؟ إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك"1.
وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من2 هو أعلم بالقرآن منا"3.
وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية؛ قال: "كان الوحي ينزل على رسول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" -كما في "مفتاح الجنة" "241" للسيوطي- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 65، 66، 67"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1192/ رقم 2348". "استدراك 4".
وأثر عمران هذا لا يفيد حصر السنة في المفسرة، وإنما تعرض للتفسير؛ لأنه الموجود في مثاله الذي أراد أن يقنع به الخصم، قاله في "حجية السنة" "ص529".
2 وهو الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- أي: فحديثه يبين القرآن فيتحدث بالسنة لذلك. "د".
3 أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "97"، والهروي "246"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1193/ رقم 2349"، وقول مطرف هذا يفيد أن القرآن قد يشتمل على حكم لم ينص عليه نصًّا يستطيع المجتهدون أن يستنبطوه بحسب أوضاع اللغة؛ فيستقل -صلى الله عليه وسلم- بإفهامه لنا من حيث الإجمال والتفصيل، لعلمه بما في القرآن من أسرار لا يعلمها من البشر إلا هو، بتعليم الله تعالى إياه بواسطة جبريل أو الإلهام، وهذا يحقق ما ذهبنا إليه. قاله في "حجية السنة" "ص529".(8/488)
ص -345-…الله [صلى الله]1 عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك"2.
قال الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب"3، قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه"4.
وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب؛ فقال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه"5.
فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود، وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من نسخة "د".
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن المبارك في "الزهد" "91, زيادات نعيم"، والمروزي في "السنة" "ص28"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 90"، والهروي في "ذم الكلام" "ص75"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 99"، والخطيب في "الكفاية" "44، 47" و"الفقيه" "1/ 91" من طرق عن الأوزاعي به. وإسناده صحيح، ونسبه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291" للبيهقي وصحح إسناده.
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 88، 89"، والمروزي في "السنة" "ص28"، والهروي في "ذم الكلام" "ص74، 75"، وابن شاهين في "السنة" "48"، والخطيب في "الكفاية" "ص47" من طرق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير تارة، وعن مكحول أخرى، وهو صحيح. وأخرجه البيهقي -كما في "مفتاح الجنة" "ص199"- من قول الأوزاعي، وصححه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291"، وهو في القسم الضائع من "المدخل إلى السنن".
4 "جامع بيان العلم" "2/ 1194".(8/489)
5 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1194/ رقم 2354"، وابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص86, ط العسكري"، ونقل نحوه عن الإمام أحمد ابنه عبد الله في "مسائله" "رقم 1186"، وأبو داود في "مسائله" "276"، والخطيب في "الكفاية" "47" و"الفقيه" "1/ 73"، والهروي "رقم 213". وعبارات العلماء هذه لا تفيد مراد المصنف من إيرادها هنا في حصر السنة في البيان بحال، وهذا ظاهر.(8/490)
ص -346-…- ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبًا لها، والتعريف بمفاسدهما دفعًا لها، وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام، وهي:
الضروريات، ويلحق بها مكملاتها.
والحاجيات، ويضاف إليها مكملاتها.
والتحسينيات، ويليها مكملاتها.
ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد، وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور؛ فالكتاب أتى بها أصولًا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعًا على الكتاب وبيانًا لما فيه منها؛ فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن هذه المصالح والأمور العامة، قد تأصلت في السنة كما تأصلت في الكتاب، وتفصل بعضها في الكتاب كما تفصل بعضها في السنة، وكل منهما وحي من عند الله، مساوٍ للآخر في الحجية والمنزلة؛ فليس لك أن تعين أحدهما للتأصيل، والآخر للتفصيل، أفيجوز لك على هذا أن تقول: إن الكتاب لا يستقل بتشريع الحكم؛ لأن هذه المصالح قد تأصلت في السنة وتفصلت في الكتاب؟
ثم نقول: لو سلمنا أنها تأصلت في الكتاب فقط وتفصلت في السنة فقط؛ أفيمكننا أن نستقل بفهم الأحكام التي لم ينص عليها تفصيلًا ولا إجمالًا من هذه الأمور العامة؟
لو فرضنا أن الكتاب نص نصًّا صريحًا على هذه المصالح العامة، ولم ينص لا هو ولا السنة على تفاصيلها؛ أفيمكننا أن ندرك أن صوم رمضان واجب، وصوم يوم العيد حرام، وأن السارق يحد بخلاف الناهب والمختلس، وأن حد السارق قطع اليد اليمنى في أول مرة، وأن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام، وحد الثيب الرجم... إلى غير ذلك.(8/491)
ألم تر أن المعتزلة لما ذهبوا إلى قريب مما ذهبت إليه -وهو قاعدة الحسن والقبح العقليين- اعترفوا صراحة أن العقل قد لا يهتدي إلى بعض الأحكام؟ فإذا كانت هذه المصالح والأمور العامة على فرض أن الكتاب نص عليها صراحة لا يمكن للمجتهد أن يستقل بفهم الأحكام منها؛ كانت لا تغنيك فتيلًا في محل النزاع. قاله في "حجية السنة" "ص530-531".(8/492)
ص -347-…فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة؛ فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معانٍ، وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأصلها في الكتاب، وبيانها في السنة1، ومكمله ثلاثة أشياء، وهي:
الدعاء إليه بالترغيب والترهيب.
وجهاد من عانده أو رام إفساده.
وتلافي2 النقصان الطارئ في أصله.
وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال.
وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معانٍ، وهي: إقامة أصله بشرعية التناسل، وحفظ3 بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة4 المأكل والمشرب، وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن، وذلك ما يحفظه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنه ما أخرجه مسلم [برقم 1] عن عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان؛ فراجعه. "ف".
2 بمحافظة الإمام على إقامة أصول الدين بإقامة الحدود الشرعية كقتل المرتدين. "د".
3 لم يذكر الثالث ولو قال: "وحفظ النفس من جانب العدم، وهو ما يعود عليها بالإبطال وشرعت له أحكام الجنايات"؛ لوفى بالثالث إلا أنه سيدرج الحد والقصاص في المكمل ولم يجعلهما من الأصل كما صنع في كتاب المقاصد، وإن كان هذا اعتبارًا آخر كما سيقول لكن عليه، أين هو المعنى الثالث؟ وقد يقال: إنه جعل حفظ البقاء قسمين: أحدهما حفظه من الداخل والآخر من الخارج، فإذا ضما إلى الأول كملت ثلاثة، وقوله: "وإقامة ما لا تقوم... إلخ" عائد إلى المكملين قبله. "د".
4 كأنه قال: حفظه باستعمال الأغذية واتخاذ الملابس والمساكن، وهذا غير ما يأتي في مكملات حفظ النفس من فحص الغذاء مثلًا ومعرفة أنه لا يضر أو يقتل... إلخ. "د".(8/493)
ص -348-…من خارج.
وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة، ومكمله ثلاثة أشياء، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته؛ كالطلاق، والخلع، واللعان، وغيرها، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد، وشرعية1 الحد والقصاص، ومراعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك.
وقد دخل2 حفظ النسل في هذا القسم، وأصوله في القرآن والسنة بينتها، وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك3 وكتنميته أن لا يفي4، ومكمله دفع5 العوارض، وتلافي6 الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شرعية الحد والقصاص ومراعاة بقية العوارض -وما أكثرها- كل هذا مكمل لحفظه، وكلها من جانب العدم، وهذا هو المكمل الثالث، وإن كان اعتباره لهذا المكمل هنا غير اعتباره في كتاب المقاصد، ولا مانع من اختلاف الاعتبار متى كان كلٌّ صحيحًا في نفسه. "د".
2 أي: في قسم حفظ النفس، ويصح أن يكون مراده دخل في مكمله، والجميع كما قال أصله في القرآن. "د".
3 أي: بعوض وبغيره من أبواب نقل الملكية شرعًا. "د".
4 قد يقال: إن فيه تحريفًا، وإن صوابه: "ألا يفنى"؛ أي: تنميته إنما تعتبر من حفظه الضروري إذا كانت التنمية وسيلة إلى عدم فنائه بالإنفاق وغيره، أما التنمية التي يقصد منها مجرد الكثرة؛ فليست داخلة في ضروري حفظه، وقد يصحح الأصل بأن التنمية التي تعد من الحفظ الضروري تنمية المال القاصر عن درجة الوفاء بما يحفظ النفس وغيرها، أما ما زاد عن ذلك؛ فالتنمية لا تدخل في الضروريات؛ فكل من المعنيين وجيه بل مقصود في الواقع، وعلى الأول يكون المعنى "لأجل ألا يفنى"؛ فهو مفعول لأجله بدون تقرير، وعلى الثاني: "خشية ألا يفي". "د".
5 بالمحافظة عليه من الإسراف والسرقة والحرق وسائر متلفاته. "د".(8/494)
6 وهو مراعاة صحة دخوله في الملكية يكون بالزجر في مثل الغصب الذي لم يحصل به تلف، والحد في السرقة، والضمان في المتلف؛ فهذه الثلاثة تحفظ صحة دخول الأموال في ملكية الناس، ومما فيه الزجر لعب الميسر، ولم يرد فيه حد مخصوص. "د".(8/495)
ص -349-…القرآن والسنة، وحفظ العقل يتناول1 ما لا يفسده [والامتناع مما يفسده]، وهو في القرآن، ومكمله شرعية الحد2 أو الزجر3، وليس في القرآن له أصل على الخصوص؛ فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضًا؛ فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد4 الأمة، وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض؛ فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف، هذا وجه في الاعتبار في الضروريات، ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد؛ فيحصل المراد أيضًا.
وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضًا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه؛ فإن الحاجيات دائرة على الضروريات.
وكذلك التحسينيات.
وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة؛ فلم يتخلف عنها شيء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "بتناول" بالباء الموحدة، وقوله: "في القرآن" أي: من الآيات الدالة على إباحة الأكل من الطيبات مع عدم الإسراف وعدم الاعتداء، ويحتمل أن يكون الأصل هكذا: "يتناول ما يفسده" بحذف "لا"؛ أي: يتناول حفظه عما يفسده، وهو في القرآن تحريم الخمر. "د".
2 أي: في الخمر. "د".
3 أي: في سائر المخدرات. "د".
4 قالوا: إنه يكون بحسب الجريمة في جنسها ووصفها بصغرها وكبرها، هذا في الزجر وحد الخمر كذلك، لم يرد أصله في القرآن ولم يحدد في السنة بحد مخصوص؛ فكانوا يضربونه بالنعال تارة وبالجريد تارة بدون عدد محدود، أما الثمانون؛ فإنها جاءت من القياس على القذف كما قال علي: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى"؛ فأخذ عمر برأيه وحد في الخمر ثمانين. "د".
قلت: وأثر علي فيه نظر، ومضى تخريجه في التعليق على "ص291".(8/496)
ص -350-…والاستقراء يبين ذلك، ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة، ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه.
ومن تشوف إلى مزيد؛ فإن دوران الحاجيات على التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق.
فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك.
وبالنسبة إلى النفس أيضًا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة1 الصيد وإن لم يتأت2 فيه من إراقة الدم المحرم3 ما يتأتى بالذكاة الأصلية.
وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر4، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالإباحة هنا رخصة دعا إليها رفع الحرج، وإن كانت الذبائح والصيد عدهما فيما تقدم آنفًا من مكملات حفظ النفس. "د".
2 في "ط": "تأت".
3 لأن الدم الخبيث في الحيوان لا ينفصل جميعه عن الجسم حتى يطهر الجسم منه إلا إذا خرج من منفذ عام للدم كالودجين. "د".(8/497)
4 ففي التقييد بالثلاث رفع الحرج وتيسير للمرأة بكونها بعد الثلاث صار لا شأن له معها تتزوج من تشاء، وهذا يساعد حفظ النسل فيه رفع حرج كبير يعرفه من أهل الملل من ليس عندهم طلاق، وإسراف الناس فيه في هذا الزمان ليس من أصل تشريعه، بل من عدم العمل بأوامر الشريعة ونواهيها المكملة له، الواردة في الكتاب والسنة، من بعث الحكمين وغيره. "د".(8/498)
ص -351-…وبالنسبة إلى المال أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي1 لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك2 ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد3 من غير إسراف ولا إقتار.
وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس4 عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة5 رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه؛ فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب، وما فسر من ذلك في الكتاب؛ فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه.
وقسم التحسينيات جار أيضًا كجريان الحاجيات؛ فإنها راجعة إلى العمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في أصول الجدران المغيبة في الأرض، وكما في بيع البطيخ، وكما في بيع الفجل والجزر ونحوها مما غيب بعضه في الأرض وإخراجه كله قيل: بيعه يفسده؛ فاغتفر لذلك. "د".
2 لا ينافي هذا عده التنمية من الضروريات فيما تقدم؛ لأن المعدود منها فيه ما كان مقيدًا بأحد القيدين أي بألا يفي، كما أهل أصل النسخة، أو بألا يفنى، كما هو الوجه الثاني، وسبق أن القيدين مطلوبان معًا. "د".
3 الأنسب به أن يكون من حاجيات النفس كإباحة الصيد والمواساة؛ لأنه توسيع على النفس بما يقوي حفظها، وإن كان اعتباره أيضًا صحيحًا من جهة بذلك المال في هذه الطيبات. "د".
4 أي: فالنفس حينئذ مقدمة على العقل؛ فيرخص فيما يدفع عنها الهلاك وإن كان يضر بالعقل، سواء أكان أكلًا أم شربًا. "د".
5 أي: والقاعدة مقررة في الكتاب صريحًا؛ فالقرآن يشمل جميع ما ذكر ويعتبر كليًّا له، وقد ورد بعضه فيه تفصيلًا، وقوله: "أكثره اجتهادي"؛ أي: فالمعقول فيه أن يناط بكليات تتفصل بالاجتهاد لا بالنص، وما فسرته السنة منه قليل فقط ليحتذى حذوه كما قاله. "د".(8/499)
ص -352-…بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات؛ كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات، على رأي من رأى أنها من هذا القسم، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك، وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات، وآداب الرفق في الصيام، وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان، وآداب الأكل والشرب، ونحو ذلك، وبالنسبة إلى النسل؛ كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، من عدم التضييق على الزوجة، وبسط الرفق في المعاشرة، وما أشبه ذلك، وبالنسبة إلى المال؛ كأخذه من غير إشراف نفس1 والتورع في كسبه واستعماله، والبذل منه على المحتاج، وبالنسبة إلى العقل؛ كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها، بناء على أن قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يراد به المجانبة بإطلاق.
فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معًا، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح، وإنما المقصود هنا التنبيه، والعاقل يتهدى2 منه لما لم يذكر مما أشير إليه، وبالله التوفيق.
- ومنها: النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين، وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع، ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع، وهو المبين في دليل القياس.
ولنبدأ بالأول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من غير حرص، وفي الحديث: "وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف له ولا سائل؛ فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك". "ف".
قلت: والحديث صحيح أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 309".
2 في الأصل: "يهتدي"، وقد تكرر مثلها؛ فلا يحتاج إلى تنبيه آخر.(8/500)
ص -353-…وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني، وتبقى الواسطة على اجتهاد، والتباين1 لمجاذبة الطرفين إياها؛ فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ، فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد، وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة؛ فيأتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه البيان2، وأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "والتشابه"، ويمكن تصحيح النسخة بأنه كلما روعي جذب أحد الطرفين لها باينت الآخر. "د". وفي "ط": "محل اجتهاد والتباس لمجاذبة....".
2 إنك اعترفت أن الواسطة بين الطرفين المنصوص عليهما في الكتاب قد يعجز المجتهد عن إدراك حكمها من الكتاب، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسنه ويشرعه لنا، غير أنك تسمي تشريعه حينئذ بيانًا، ونحن نسميه استقلالًا فقط، حيث إن الكتاب لم ينص عليه نصًّا يمكن المجتهد أن يفهم الحكم منه على وجه التفصيل، ولا على وجه الإجمال.
ومثل ذلك يقال في مجال القياس؛ فقد يعجز المجتهد عن إدراك الحكم في الفرع على نحو ما قررته في مجال الاجتهاد.
ولا يهمنا أن يكون هذا الحكم في الواسطة أو الفرع قد سنه -صلى الله عليه وسلم- بواسطة وحي أو اجتهاد قد وفقه الله إليه بما أوتي من الحكمة والعلم المفقودين في غيره، وإنما المهم أنه شرع ما لم ينص عليه في الكتاب، وكان تشريعه حجة؛ لأنه إما بوحي، وإما باجتهاد معصوم فيه أو مقر على حكمه؛ فاجتهاده من حيث هو ليس بحجة، وإنما حجيته ناشئة عن عصمته فيه، أو عن الإقرار على حكمه.(9/1)
وأما إذا كان حكم الواسطة أو الفرع قريب المأخذ؛ فإن كان قربه من ناحية أن الشارع قد نص على علة أحد الطرفين أو الأصل في الكتاب، ووجدنا هذه العلة شاملة للواسطة أو الفرع، فلو جرينا على أن النص على العلة نص على الحكم في جميع ما وجدت فيه؛ كان الحكم في الفرع أو الواسطة منصوصًا عليه في الكتاب، وكانت السنة حينئذ من قبيل المؤكد، ولكن هذا لا يفيدك؛ لأن الشارع لم ينص على علة كل حكم في الكتاب، بل ذلك نادر، أما إذا نص على العلة في السنة؛ كانت السنة مستقلة بإفادة الحكم في الواسطة أو الفرع.
وإن كان قربه من ناحية إمكان استنباط العلة من غير النص كالمناسبة؛ كان الحكم في الواسطة أو الفرع ثابتًا بالقياس، وكذا إذا جرينا في الشق الأول على أن النص على العلة ليس نصًّا =(9/2)
ص -354-…لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي1 أو غيره2، وهذا هو المقصود هنا3.
ويتضح ذلك بأمثلة:
أحدها: أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وبقي بين هذين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على الحكم، وكأنك تريد أن تقول حينئذ: إن القياس قد استقل بالحكم؛ فلا استقلال للسنة، على ما يشعر به قولك "ص379": "وسواء علينا أقلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له بالقياس أو بالوحي؛ إلا أنه جار في أفهامنا مجرى القياس".
فنقول لك: إن تشريع الله تعالى بأي نوع من أنواع الوحي غير مقيد بما يجري في أفهامنا ولو كان ما يجري في أفهامنا ظاهرًا كل الظهور؛ فله أن يخالفه، وله أن يوافقه، والقياس دليل ضرورة، لا يعمل به إلا عند العجز عن معرفة حكم الله، بواسطة أي نوع من أنواع الوحي؛ فهو بجانب السنة لا قيمة له، سواء أوافقها أم خالفها؛ حتى السنة التي تكون عن اجتهاد وقياس؛ فإنا لم نحتج بها حينئذ إلا من حيث العصمة عن الخطأ في الاجتهاد، أو تقرير الله له -صلى الله عليه وسلم- على الحكم.
ثم نقول: إذا ساغ لك أن تثبت حكمًا "لم ينص عليه الكتاب" بالقياس استقلالًا؛ أفلا يسوغ لك أن تثبته بالسنة استقلالًا؟
قد يكون لك شيء من الشبهة في جعلك السنة أدنى مرتبة من الكتاب، أما أن تقول: إن السنة متأخرة عن القياس، وإنها إذا وافقته يكون هو المؤسس للحكم والسنة هي المؤكدة، وإن القياس يقوى على الاستقلال دونها؛ فهذا أمر ليس لك فيه أقل شبهة. قاله في "حجية السنة" "ص532-534".
1 كما يأتي في احتجاب سودة. "د".
2 إذا جعل بالجر عطفًا على ما قبله كانت القاعدة قاصرة عن شمول مثل الحكم في الجنين بالغرة في المثال الثامن، حيث قال فيه: "وإن له حكم نفسه"، وإذا جعل بالرفع عطفًا على قوله: "لاحق" يكون نوعًا ثالثًا غير اللحوق بأحد الطرفين أو بهما؛ فتكون القاعدة شاملة لمثل هذا الحكم. "د".(9/3)
3 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 119 وما بعدها" للشيخ محمد الأشقر.(9/4)
ص -355-…الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما؛ فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر1؛ فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير2، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال: "إنها ركس"3.
وسئل ابن عمر عن القنفذ؛ فقال: "كل". وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية [الأنعام: 145]، فقال له إنسان: إن أبا هريرة يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "هو خبيثة من الخبائث". فقال ابن عمر: "إن قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بالأمر".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530" عن أبي ثعلبة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة نحوه، وأخرجه برقم "1934" عن ابن عباس ولفظه: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، 9/ 653/ رقم 5528"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح/ رقم 1940" عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر مناديًا فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الأهلية". زاد مسلم: "فإنها رجس أو نجس".
وكتب "ف" هنا ما نصه: الركس شبيه بالرجيع، والمراد هنا النجس، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بروث في الاستنجاء فقال: "إنه ركس" ا. هـ.
قلت: وخرجت الحديث الذي أورده "ف" في "الخلافيات" "2/ رقم 375، 378"، وهو صحيح.(9/5)
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، 3/ 354/ رقم 3799" -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 326"- وأحمد في "المسند" "2 / 381" من طريق عيسى بن نميلة عن أبيه؛ قال: كنت عند ابن عمر؛ فسئل... وذكر نحوه.
قال البيهقي عقبه: "هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف".
قلت: آفته ابن نميلة وأبوه فهما مجهولان، والذي سمعه من أبي هريرة مبهم أيضًا، ولذا قال الخطابي: "ليس إسناده بذاك"، وأقره ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156".(9/6)
ص -356-…وخرج أبو داود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها"1، وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العذرة2.
فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث، كما ألحق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، 3/ 351/ رقم 1785"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة، 4/ 270/ رقم 1824"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب النهي عن لحوم الجلالة، 2/ 1064/ رقم 3189"، والبيهقي في "السن الكبرى" "9/ 332"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 252" من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر به.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا".
قلت: الثوري أثبت بلا شك من ابن إسحاق؛ فراويته تقدم ولكن يشهد لرواية ابن إسحاق أحاديث عديدة، منها: حديث ابن عباس، ونصه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبن الجلالة"، أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 1825"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3719"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 240"، وأحمد في "المسند" "1/ 229، 241، 293، 321، 339"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 220-221/ رقم 3599, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 34"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 887"، والطبراني في "الكبير" "رقم 11819، 11820، 11821"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 254 و9/ 333، 334"، وإسناده صحيح.
قال ابن حبان عقبه: "الجلالة: ما كان الغالب على علفها القذارة، فإذا كان الغالب على علفها الأشياء الطاهرة الطيبة لم تكن بجلالة".
2 كذا في "ط" وهامش الأصل، ووقعت في جميع النسخ المطبوعة هكذا "العنهدة"، وكتب "ف": "لم نقف عليه"، وفي "اللسان": "الجلة: البعرة والعذرة".(9/7)
ص -357-…الصلاة والسلام الضب1 والحبارى2 والأرنب3 وأشباهها4 بأصل الطيبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك في إقراره من أكله وتعليل الامتناع عن أكله بقوله: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، كما هو في "صحيح البخاري" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل لحم الحبارى، 3/ 354/ رقم 3797"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة باب ما جاء في أكل الحبارى، 3/ 77/ رقم 1828"، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 1021"، والمحاملي في "أماليه" "رقم 528, رواية ابن البيع"، والطبراني في "الكبير" "7/ 95"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 168"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 497"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 322"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 111" من طريق إبراهيم -ولقبه برية- بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده؛ قال: أكلت مع رسول الله لحم حبارى، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن عمر بن سفينة روى عنه ابن أبي فديك، ويقال: برية بن عمر بن سفينة".
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، أورد العقيلي الحديث في "ضعفائه" "3/ 168" في ترجمة "عمر بن سفينة"، وقال: "حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به، ونقل عن البخاري قوله: "إسناده مجهول".
قلت: عمر صدقه أبو زرعة كما في "الجرح والتعديل" "6/ 113"، وآفته ابنه، قال ابن حبان في ترجمة إبراهيم: "يخالف الثقات في الروايات، ويروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من رواية الأثبات؛ فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال"، وضعفه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 154" بقوله: "وإسناده ضعيف، ضعفه العقيلي وابن حبان".
وانظر غير مأمور: "من روى عن أبيه عن جده" "ص77-78".(9/8)
و"الحبارى": طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، الذكر والأنثى والجمع فيه سواء.
انظر: "اللسان" "4/ 160"، و"المعجم الوسيط" "1/ 152"، و"حياة الحيوان الكبرى" "1/ 225-226"، وأكلها حلال.
3 ويدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب الأرنب، 9/ 661/ رقم 5535"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب، 3/ 1547/ رقم 1953" عن أنس -رضي الله عنه- قال: أنفجنا -أي: أثرنا- أرنبًا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا -أي: تعبوا- فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها، فبعث بوركيها -أو قال: بفخذيها- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبلها. لفظ البخاري.
4 من مثل الجراد، وسيأتي الدليل على إباحته "ص372".(9/9)
ص -358-…والثاني: أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر؛ كالماء، واللبن، والعسل وأشباهها، وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة، ولكنه يوشك أن يسكر، وهو نبيذ الدباء، والمزفت، والنقير1 وغيرها؛ فنهى عنها إلحاقًا لها بالمسكرات تحقيقًا؛ سدًّا للذريعة، ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "كنت2 نهيتكم عن الانتباذ3؛ فانتبذوا"4، و"كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المنبوذ في هذه الأوعية، والدباء: ما يتخذ من القرع، واحدته دباءة، والمزفت: إناء يطلى بالزفت وهو القار، والنقير أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ فقد كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وفي الحديث: "نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الدباء والحنتم والنقير"، والحنتم: جرار مدهونة خضر أو حمر، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم، واحده حنتمة، وخصت هذه الأواني بالنهي لإسراعها بتغير ما ينبذ فيها. "ف".
2 تحريم الانتباذ في هذه الأوعية سد للذريعة، وفطام لهم عن المسكر وأوعيته؛ إذ كانوا حديثي عهد بشربه, فلما استقر تحريمه عندهم, واطمأنت إليه نفوسهم, وشكوا من ضيق الأمر عليهم بمنع هذه الأواني التي لا مندوحة لهم عنها؛ أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكرًا؛ فقد رجح جانب التحريم حيث قام مقتضيه، فلما زال المقتضى رجح جانب الحل الذي هو الأصل، وسواء أقلنا: إن ذلك بوحي أم باجتهاد؛ فالكل بيانه صلى الله عليه وسلم. "د".
3 أي: في تلك الأواني، وفي بعض الروايات وقع التصريح بها. "ف".(9/10)
4 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، 8/ 319، ص195"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 328"، والطيالسي =(9/11)
ص -359-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "المسند" "ص195"، والدارقطني في "السنن" "4/ 259"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 298" من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن أبي بردة بن نيار الأنصاري مرفوعًا: "إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم، ولا تسكروا". وله عندهم ألفاظ منها للنسائي: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا".
ثم قال: "هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم أن أحدًا تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب، وسماك ليس بالقوي، كان يقبل التلقين، قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه، ثم رواه النسائي من طريق شريك عن سماك عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعًا: "نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". وخالفه أبو عوانة؛ فرواه عن سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة؛ قالت: "اشربوا ولا تسكروا"، قال النسائي: وهذا أيضًا غير ثابت وقرصافة هذه لا ندري من هي، والمشهور عن عائشة خلاف ما روت عنها قرصافة".
ثم خرجه بلفظ آخر بعيد عن هذا المعنى، وقال الدارقطني: "وهم فيه أبو الأحوص في إسناده ومتنه، وقال غيره: عن سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه: "ولا تشربوا مسكرًا"، ثم أخرجه كذلك من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري عن محمد بن جابر عن سماك، ثم قال: وهذا هو الصواب".(9/12)
وذكر ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 24-25" أنه سأل أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص هذا؛ فقال أبو زرعة: "وهم فيه أبو الأحوص قلب من الإسناد موضعًا وصحف في موضع، أما القلب؛ فقوله عن أبي بردة, أراد عن ابن بريدة ثم احتاج أن يقول ابن بريدة عن أبيه؛ فقلب الإسناد بأسره، وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، وقد روى هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء؛ فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرًا". وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم =(9/13)
ص -360-…مسكر حرام"1، وبقي في قليل المسكر على الأصل من التحريم2؛ فبين أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقل أحد منهم: ولا تسكروا؛ وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه، قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد؛ فإن شريكًا وأيوب ومحمدًا ابني جابر رووه عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي -صلى الله علي وسلم- كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا". قال أبو زرعة: كذا أقول، وهذا خطأ، والصحيح حديث ابن بريدة عن أبيه.
وأخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، 2/ 1128/ رقم 3406"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 227-228" عن ابن مسعود مرفوعًا: "إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئًا، كل مسكر حرام".
وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير" "رقم 10304"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 229-230/ رقم 5409, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311"، وإسناده حسن، وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" "3/ 108".
ثم وقفت عليه باللفظ الذي ذكره المصنف، وهو قطعة من حديث فيه قصة عن أبي سعيد، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 485 في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الأضاحي" عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، ولم يسمع ربيعة من أبي سعيد، ولكن أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 374، 375"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311" من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن أبي سعيد نحوه، وإسناده صحيح.(9/14)
وانظر: "صحيح البخاري" "كتاب الأشربة، باب الانتباذ في الأوعية والتور، 10/ 56-57"، و"صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرًا، 3/ 1557"، وقد مضى نحو هذا الحديث وشواهد كثيرة له وتخريجها في "2/ 79-80".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر, رضي الله عنه.
وورد عن ابن عمر في "صحيح مسلم" "رقم 2003" بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وعن عائشة في "الصحيحين" كما بينته في التعليق على "2/ 522".
وانظر تخريج الحديث السابق.
2 لعله قد سقط من النسخة هنا كلمة "أو الإباحة" فالفرض أنه بقيت واسطة وهي القليل الذي لا يسكر، إلى أي الطرفي تنضم, فبين أن ما أسكر كثيره... إلخ. "د".(9/15)
ص -361-…ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام1، وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما2؛ فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين، فكان البيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين.
والثالث: أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك، وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلمًا فصيده حرام، إذ لم يمسك إلا على نفسه؛ فدار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، 3/ 327/ رقم 3681"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، 4/ 292/ رقم 1865"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، 2/ 1125/ رقم 3393"، وأحمد في "المسند" "3/ 343"، و"الأشربة" "148"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 860"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "4/ 351" من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا، وإسناده حسن من أجل داود، وقد تابعه موسى بن عقبة -وهو ثقة-، أخرجه من طريقه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 202/ رقم 5382, الإحسان"، وسلمة بن صالح -وهو ضعيف- أخرجه من طريقه ابن عدي في "الكامل" "3/ 1177".
والحديث صحيح بمجموع طريقيه، والله والموفق.
قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمر وابن عمرو وخوات بن جبير"، وقال عن حديث جابر: "هذا حديث حسن غريب من حديث جابر". وانظر: "نصب الراية" "4/ 301-305".
2 في "ط": "والجر وغيرها"، وفي نسختي "ف" و"م": "وغيرها"، ولذا كتب "ف" هنا: "لعله: "وغيرهما" أو يزاد قبله "والنقير"".(9/16)
ص -362-…بين الأصلين ما كان معلمًا ولكنه أكل من صيده؛ فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك، فتعارض الأصلان؛ فجاءت السنة ببيان ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه"1.
وفي حديث آخر: "إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا؛ فإنما أمسكه عليك"2.
وجاء في حديث آخر: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله؛ فكل وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، 9/ 598/ رقم 5475"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529-1530/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه.
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271/ رقم 2851"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة، 4/ 66/ رقم 1467"، وأحمد في "المسند" "4/ 257/ 377، 379"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 238" من طريق مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به.
قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي، والعمل على هذا عند أهل العلم".
قلت: مجالد ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره؛ إلا أنه توبع، ولكن بلفظ آخر نحو المذكور.
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم؛ قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله؛ فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل". لفظ البخاري.(9/17)
قلت: وكلام الترمذي السابق يقيد بما قاله البيهقي عقبه: "ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين رووه عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد".(9/18)
ص -363-…أكل منه"1 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271-272/ رقم 2852" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 237-238"، وابن عبد البر في "الاستذكار" "15/ 285/ رقم 21939"- من طريق داود بن عمرو الدمشقي عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة به، وقال البيهقي عقبه: "حديث أبي ثعلبة مخرج في "الصحيحين" من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة وليس فيه ذكر الأكل، وحديث الشعبي عن عدي أصح من حديث داود بن عمرو الدمشقي ومن حديث عمرو بن شعيب".
قلت: وإسناده ضعيف، وفيه نكارة واضحة.
وداود بن عمرو ضعف، وقال ابن حجر في "التقريب" "199": "صدوق يخطئ"، وأخطأ في هذا الحديث، ولفظ: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل". قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل". فأخطأ في قوله: "وإن أكل"، والصواب قوله: "وإن قتل".
ويقع مثل هذا كثيرًا للرواة، والأدلة على ما قلت كثيرة، هذا بعضها:
- الثابت في حديث عدي السابق: "وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، ومن المحال أن يروي الثقات الأثبات هذا، ثم يروون حديث أبي ثعلبة، ولا يتعرضون لمثل هذه اللفظة؛ فالحاجة إليها ماسة، فانفراد من يخطئ بها دلالة على عدم ثبوتها.
- مخالفتها لصريح القرآن، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم} [المائدة: 4].
- قول الذهبي في ترجمة "داود بن عمرو" في "الميزان" "2/ 17-18": "تفرد بحديث: "وإذا أرسلت كلبك... فكل وإن أكل منه""، قال: "وهو حديث منكر".
- قول ابن حزم في "المحلى" "7/ 471": "هو حديث ساقط لا يصح، وداود بن عمرو ضعيف، ضعفه أحمد بن حنبل".(9/19)
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه نحو ما في الحديث السابق؛ فأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 110/ 2857"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 238"، و"المعرفة" "13/ 445/ رقم 18786" من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيًّا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا مكلبة؛ فأفتني في صيدها. فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لك كلاب مكلبة, فكل مما أمسكن عليك".
قال: ذكيًّا أو غير ذكي؟ قال: "نعم"، قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". وهو حديث معلول؛ =(9/20)
ص -364-…وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين1.
والرابع: أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقًا، وجاء أن على من قتله عمدًا الجزاء، وأبيح للحلال مطلقًا؛ فمن قتله فلا شيء عليه، فبقي قتله خطأ في محل النظر؛ فجاءت السنة2 بالتسوية بين العمد والخطأ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقد رواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب، فقال عن رجل من هذيل: إنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكلب يصطاد، قال: "كل أكل أو لم يأكل". ذكره البيهقي، ثم قال: فصار حديث عمرو بن شعيب بهذا معلولًا.
وحكم على ظاهر سنده ابن حجر في "الفتح" "9/ 602"؛ فقال: "سنده لا بأس به"، وحكمه في "التلخيص الحبير" "2/ 136" أدق، وذلك عند قوله: "أعله البيهقي"، وتعنت ابن حزم بتضعيفه إياه في "المحلى" "7/ 471" بأنه صحيفة.
وقد ثبت عن ابن عمر وسعد نحو هذا؛ كما في "الموطأ" "2/ 492، 493"، وانظر في بسط المسألة وأقوال أئمة الفقه في: "الاستذكار" "15/ 281 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" "4/ 239 وما بعدها".
وإذا علم ضعف الحديث؛ فلا وجه لما كتبه "د" هنا، وهذا نصه: "فيكون الحديث الأول من الإلحاق بأحد الطرفين احتياطًا فقط".
1 أي: الطرفين الواضحين. "د".(9/21)
2 كما أخرج مالك في "الموطأ" "267, رواية يحيى و1245, رواية أبي مصعب" عن عبد العزيز -قال أبو مصعب: عبد الملك- بن قرير عن محمد بن سيرين؛ أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: "إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين، نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان؛ فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلًا يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا... قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وهذا عبد الرحمن بن عوف".(9/22)
ص -365-…قال الزهري: "جاء القرآن بالجزاء على العامد، وهو في الخطأ سنة"1، والزهري من أعلم الناس بالسنن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه من طريق مالك: عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 408"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 203"، و"المعرفة" "7/ 450/ رقم 10652".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 275-277": "أمر ابن وضاح بطرح عبد الملك اسم شيخ مالك في هذا الحديث، فقال: اجعله عن ابن قرير، وكذلك روايته عن يحيى عن مالك عن ابن قرير عن محمد بن سيرين في هذا الحديث، ورواية عبيد الله عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك عن عبد الملك بن قرير، وهو عند أكثر العلماء خطأ؛ لأن عبد الملك بن قرير لا يعرف.
قال يحيى بن معين: "وهم مالك في اسمه، شك في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قريب وهو الأصمعي"، وقال آخرون: إنما وهم مالك في اسمه لا في اسم أبيه، وإنما هو عبد العزيز بن قرير، رجل بصري، يروي عن ابن سيرين أحاديث، هذا منها، وقال أحمد بن عبد الله بن بكير: لم يهم مالك في اسمه، ولا في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قرير كما قال مالك، أخو عبد العزيز بن قرير".
ونقل البيهقي في "المعرفة" "7/ 451" أن الشافعي خطأ مالكًا أيضًا في هذا الاسم، وعلى أية حال؛ فالأمر كما قال ابن عبد البر: "الرجل مجهول، والحديث معروف محفوظ من رواية البصريين والكوفيين".(9/23)
قلت: وللطريق الأول علة أخرى، وهي الانقطاع بين ابن سيرين وعمر، كما نبه عليه ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 203"، قال ابن عبد البر: "رواه ابن جابر، ورواه عن قبيصة الشعبي، ومحمد بن عبد الملك بن قارب الثقفي، وعبد الملك بن عمير، وهو أحسنهم سياقة له، ورواه عن عبد الملك بن عمير جماعة من أهل الحديث، منهم سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الملك المسعودي، ومعمر بن راشد، ذكرها كلها علي بن المديني". ثم أسندها من جميع هذه الطرق ثم قال: "ظاهر حديث مالك من قوله: "أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيًا" يدل على أن قتل ذلك الظبي كان خطأ".
1 أخرجه بسنده إليه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 391/ رقم 8178"، وذكره عنه ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 285". وفي "ط": "جاء في القرآن... على العمد...".(9/24)
ص -366-…والخامس: أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن، وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام؛ فبين صاحب السنة -صلى الله عليه وسلم- من ذلك على الجملة وعلى التفصيل.
فالأول1 قوله: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات"2 الحديث.
ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة: "واحتجبي منه يا سودة" لما رأى من شبهه بعتبة، الحديث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان على الجملة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه.(9/25)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 292/ رقم 2053، وباب شراء المملوك من الحربي، 4/ 441/ رقم 2218، وكتاب الخصومات، باب دعوى الوصي للميت، 5/ 74/ رقم 2421، وكتاب العتق، باب أم الولد، 5/ 163/ رقم 2533، وكتاب الوصايا، باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، 5/ 371/ رقم 2745، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 23/ رقم 4303، وكتاب الفرائض، باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة، 12/ 32/ رقم 6749، وباب من ادعى أخًا وابن أخ, 12/ 52/ رقم 6765، وكتاب الحدود، باب للعاهر الحجر، 12/ 127/ رقم 6817، وكتاب الأحكام، باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، 13/ 172/ رقم 7182"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، 2/ 1080/ رقم 1457" عن عائشة -رضي الله عنها- وقوله, صلى الله عليه وسلم: "احتجبي منه"، حمله بعضهم على جهة الاختيار والتنزه؛ فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، وقال بعضهم: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر؛ فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر، وهو"الولد للفراش"، وحكم باطن، وهو الاحتجاب من أجل الشبه، كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش، فاحتجبي منه لما رأى شبهه لعتبة. أفاده ابن عبد البر في "التمهيد" "8/ 186".
كتب "د" هنا ما نصه: "لما رأى شبهه بعتبة؛ فألحق بصاحب الفراش، وهو واضح، وألحقه بغير صاحب الفراش من جهة المحرمية، فلم يجعله من محارم سودة؛ لوضوح شبهه بغير أبيها احتياطًا". وفي "ط": "هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي...".(9/26)
ص -367-…وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد: "فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها؛ فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها"1.
وقال في بئر بضاعة2 وقد كانت تطرح فيها الحيض3 والعذرات: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء"4؛ فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه.
2 بضاعة -بضم الباء- هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر, قال المنذري: "بئر بضاعة: دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة، قيل: بضاعة: اسم لصاحب البئر، وقيل: لموضعها.
3 جمع حيضة -بكسر فسكون- وهي الخرقة التي تستثفر بها المرأة؛ كالمحيضة، وجمعها محايض، وفي حديث عائشة: "ليتني كنت حيضة ملقاة"، وفي حديث بئر بضاعة: "تلقى فيها المحايض". "ف".
قلت: في الأصل: "خرق الحيض بدل من الحيض". قلت: انظر أيضًا "الصحاح" "3/ 1073".
4 للحديث طرق كثيرة، أحسنها طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد به، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 31"، وأبي داود في "السنن" "رقم 66"، والترمذي في "الجامع" "1/ 95"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 174"، والدارقطني في "السنن" "1/ 30"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 47"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 141-142"، والبغوي في "شرح السنة" "2/ 60/ =(9/27)
ص -368-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 283"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 269".
وقال الترمذي: "حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وقال البغوي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" "1/ 45": "قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، غير عبيد الله بن عبد الله بن رافع"، وصححه لطرقه وشواهده.
قلت: ومن أصح شواهده حديث سهل بن سعد، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 12"، والدارقطني في "السنن" "1/ 32"، والبيهقي في "السن الكبرى" "1/ 259"، وقاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" "1/ 155"، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه على سنن أبي داود" كما في "التلخيص الحبير" "1/ 13".
والحديث صححه أحمد بن حنبل. قال الخلال: "قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم، وحسنه ابن القطان، وقال ابن أصبغ: أحسن شيء في بئر بضاعة، وقال العيني: إسناده صحيح، وصححه النووي".
انظر: "التلخيص الحبير" "1/ 12"، و"تحفة المحتاج" "1/ 137"، و"المجموع" "1/ 82"، و"المغني" "1/ 25"، و"خلاصة البدر المنير" "1/ 7"، و"البناية في شرح الهداية" "1/ 320"، و"إرواء الغليل" "1/ 45-46"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية" "1/ 266"، و"تحفة الطالب" لابن كثير "رقم 146"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 205-207"، و"البدر المنير" "2/ 51-61". وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 145-146"، و"الخلافيات" المجلد الثالث مع تعليقي عليهما.(9/28)
وكتب "د" هنا ما نصه: "الحديث أخرجه أصحاب السنن، وفيه: إنا نستقي لك الماء من بئر بضاعة وتلقي فيها لحوم الكلاب وخرق المحايض وعذر الناس "جمع عذرة، وهي الفتيلة التي توضع داخل الحلق إذا أصابه وجع"، وإذا نظر إلى الروايات الأخرى التي فيها زيادة: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، يكون الحكم بالطهارة لأن علامة التنجيس لم توجد فيه، وإن كانت هذه الروايات ضعيفة سندًا!! لكنها لا بد أن تكون بحيث يعتمد عليها، بدليل الإجماع على معناها، ولا إجماع بدون سند من الكتاب أو السنة؛ فلا يكون مما نحن فيه لأنه من باب تحقيق المناط فقط إذا كانت القاعدة مقررة من قبل، ويكون هذا كتذكير لهم بالحكم، أما إذا كان إنشاء للحكم، فهو من الباب".(9/29)
ص -369-…وجاء في الصيد: "كل ما أصميت1، ودع ما أنميت"2.
وقال في حديث عقبة بن الحارث في الرضاع؛ إذ3 أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته، والمرأة4 التي أراد تزوجها، قال فيه: "كيف5 بها وقد زعمت أنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما أصابه السهم فأسرع بموته وأنت تراه، من "الإصماء" وهو أن تقتل الصيد مكانه، و"الإنماء" أن تصيبه إصابة غير قاتلة في الحال، ومعناه: أن ما أصبته، ثم غاب عنك فمات بعد ذلك فلا تأكله؛ فإنك لا تدي أمات بصيدك أم بعارض آخر. "ف".
قلت: انظر في تفصيل هذا المعنى وأحكامه: "تفسير القرطبي" "6/ 71-72"، و"فتح الباري" "9/ 611"، و"معرفة السنن والآثار" "13/ 449-450".
2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "12/ 27/ رقم 12370" بإسناد ضعيف، فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 136"، وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "9/ 241"، و"المعرفة" "13/ 449/ رقم 18800، 18802" من طريقين عن ابن عباس موقوفًا، وهو أشبه، وصححه البيهقي موقوفًا، وضعف المرفوع، وانظر: "فتح الباري" "9/ 611"، و"مجمع الزوائد" "4/ 162"، و"تخريج العراقي لأحاديث الإحياء" "2/ 96".
وللمرفوع شاهد من حديث عمرو بن تميم عن أبيه عن جده؛ كما عند أبي نعيم في "المعرفة"، وفيه محمد بن سليمان بن مشمول وقد ضعفوه، وانظر: "من روى عنه أبيه عن جده" "ص493"، و"لسان الميزان" "2/ 73".
وكتب "د" هنا ما نصه: "وبالتأمل في الفرق بين مسألة الصيد ومسألة الماء، حيث أنه -صلى الله عليه وسلم- رجح في الصيد عدم الحل وفي الماء الطهارة، تجد أنه قد أخذ فيهما بالأصل إن كان اجتهادًا؛ فالأصل الذكاة الشرعية المعروفة، والصيد رخصة بقيود وشروط؛ فما لم نجزم بحصول الشروط رجعنا إلى الأصل، وهو عدم الحل؛ لأنه غير مذكى، وكذلك الماء رجح فيه الأصل، وهو الوصف الذي خلق عليه حتى يتبين ما يخالفه، ولما لم يتبين بقي على أصله".(9/30)
3 في النسخ المطبوعة: "إذا"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: مع المرأة. "ف".
5 في "ط": "فكيف".(9/31)
ص -370-…قد أرضعتكما؟ دعها عنك"1.
إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة.
والسادس: أن الله -عز وجل- حرم الزنى، وأحل التزويج وملك اليمين، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع؛ فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض؛ فجاء في السنة ما بيّن الحكم في بعض الوجوه، حتى يكون2 محلًّا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقًا3، أو في4 بعض الأحوال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 291/ رقم 2052، وكتاب النكاح، باب شهادة المرضعة، 9/ 152/ رقم 5104"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الشهادة في الرضاع، 6/ 109"، و"الكبرى" -كما في "التحفة" "7/ 300"- والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، 3/ 457/ رقم 1151"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع، 3/ 306-307/ رقم 3603"، وأحمد في "المسند" "4/ 7، 383-384"، والدارقطني في "السنن" "4/ 175-176"، والحميدي في "المسند" "رقم 579"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 463" عن عقبة بن الحارث, رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "وفيه أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز؛ فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فركب إلى المدينة. فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "وكيف وقد قيل؟". ففارقها؛ إلا أنهم قالوا: إن هذا إرشاد إلى طريق الورع والتنزه عن الشبهات ولو ضعيفة، فإن الشارع جعل لسماع دعوى المرأة في الرضاع شروطًا لم تستوف ههنا؛ فكان مقتضاه ألا يلتفت إلى قول المرأة، ولا يقضي به في تحريم هذا النكاح، ومنه تعلم ما في قوله: "التي أراد أن يتزوج بها"".
قلت: انظر في المسألة وفقهها: "شرح السنة" "9/ 87"، و"فتح الباري" "9/ 153 وما بعدها و5/ 269".
2 أي: المسكوت عنه، أي: باقيه الذي لم تبينه السنة. "د".(9/32)
3 كما في مثال النكاح بغير ولي قبل الدخول؛ فليس له أثر يترتب عليه إن حصل الطلاق قبل الدخول، وبعد الدخول ألحق بكل من الأصلين في حالة وحكم وإن كانت هذه الأحكام التي ذكرناها أخذت من بيان الحديث لا من اجتهاد العلماء. "د".
4 في الأصل: "على".(9/33)
ص -371-…وبالأصل الآخر في حال آخر؛ فجاء في الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل, فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما استحل منها"1، وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة.
والسابع: أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين؛ فأشكل حكمها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث صحيح بمجموع طرقه؛ كما بينته بتفصيل في تعليقي على "3/ 47".(9/34)
2 أخرجه مالك في "الموطأ "كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، 1/ 22/ رقم 12" -ومن طريقه الشافعي في "الأم" "1/ 16"، و"المسند" "8/ 335, مع الأم"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 231"، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" "رقم 46"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 131" و"المسند" كما في "نصب الراية" "1/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 237 و361 و393"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207"، و"السنن الكبرى" "رقم 67"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100-101/ رقم 69"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 64/ رقم 83"، والدارمي في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، 1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر، 2/ 91"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136/ رقم 386، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر، 2/ 1081/ رقم 3246"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 119, موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 59/ رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 43"، والدارقطني في "السنن" "1/ 36"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 140-141" و"معرفة علوم الحديث" "ص87"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 3" و"السنن الصغرى" "1/ 63/ رقم 155"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 247", والبغوي في "شرح السنة" "2/ 55-56/ رقم 281", والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" "1/ 346"، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عنه البخاري تصحيحه =(9/35)
ص -372-…وروي في بعض الحديث: "أحلت [لنا] ميتتان: الحيتان، والجراد"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لهذا الحديث.
وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني.
انظر: "نصب الراية" "1/ 95"، و"التلخيص الحبير" "1/ 9"، و"المجموع" "1/ 82"، و"خلاصة البدر المنبر" "رقم 1"، و"تحفة المحتاج" "رقم 3"، و"البناية شرح الهداية" "1/ 297"، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي" "1/ 101"، و"نيل الأوطار" "1/ 17"، و"سبل السلام" "1/ 15"، و"إرواء الغليل" "1/ 42"، و"البدر المنير" "2-5".
وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة". انظر "المجموع" "1/ 84"، وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد "رقم 231-240" مع تعليقي عليه.
1 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 97"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، 2/ 1073/ رقم 3218، وكتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، 2/ 1102/ رقم 3314"، والشافعي في "الأم" "2/ 223" و"المسند" "2/ 173/ رقم 607, ترتيب السندي"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "ص340 ورقم 820"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1582"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 58"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 254 و9/ 257"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 244"، وابن ثرثال في "سداسياته" -كما في "الصحيحة" "رقم 1118"- جميعهم من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر به مرفوعًا.(9/36)
وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" "1/ 200, مع الفيض" للحاكم، وتبعه شيخنا في "الصحيحة"، ولم أعثر عليه في "المستدرك"، ولعل منشأ هذا العزو ما حكاه ابن الملقن في "البدر المنير" "2/ 161" و"تحفة المحتاج" "1/ 216/ رقم 122": "رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، لأجل عبد الرحمن بن أسلم، وإن كان الحاكم قال في "مستدركه" في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد"، وذكر الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" "8/ 81" أنه لم يجده في "المستدرك" بعد طول بحث.
والإسناد المذكور ضعيف جدًّا، وقال الدارقطني والبيهقي: "رواه سليمان بن بلال عن زيد =(9/37)
ص -373-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن أسلم عن عبد الله بن عمر، أنه قال: "أحلت لنا...". قالا: "وهو الأصح"، يعني أن الحديث موقوف وليس بمرفوع.
وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، كما في "العلل" "2/ 17/ رقم 1524" لابن أبي حاتم، وقال الإمام أحمد في "العلل" "2/ 136 و3/ 271/ رقم 1795 و5204, رواية ابنه عبد الله"، "روى عبد الرحمن أيضًا حديثًا آخر منكر، حديث: "أحل لنا ميتتان ودمان"، وأشار إلى صحة وقفه، بروايته في "العلل" أيضًا "1/ 480/ رقم 1099, رواية عبد الله" عن ابن عمر من طريق آخر، وستأتي الإشارة إليه، مع أن ابن عدي في "كامله" "1/ 388" قال: "رواه يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال مرفوعًا"، وأسنده من طريقه "4/ 1503"، قال البيهقي: "وقد رفع هذا الحديث أولاد زيد عن أبيهم، وهم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن بنو زيد بن أسلم عن أبيهم عن ابن عمر" قال: "وأولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى من معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد؛ إلا أن الصحيح من هذا الحديث هو الأول"، يعني: الموقوف الذي ذكره.
قلت: ومتابعة عبد الله وأسامة أخرجها أحمد في "العلل" "1/ 480/ رقم 1099, رواية ابنه عبد الله"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 388 و4/ 1503".
وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في "كلامه على الوسيط": "هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، غير أنه متماسك"، قال: "وأولاد زيد وإن كانوا قد ضعفوا ثلاثتهم؛ فعبد الله منهم، قد وثقه أحمد وعلي بن المديني". قال: "وفي اجتماعهم على رفعه ما يقويه تقوية صالحة".(9/38)
قلت: وجنح الشيخ ابن دقيق العيد في "الإمام" إلى تصحيح الرواية المرفوعة من طريق عبد الله بن زيد؛ فإنه قال, عقب قول البيهقي: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني كانا يوثقان عبد الله بن زيد إلى آخره: "إذا كان عبد الله على ما قالاه؛ فيدخل حديثه فيما رفعه الثقة، ووقفه غيره، وقد عرف ما فيه عند الأصوليين والفقهاء". يعني: والأصح تقديم ما رواه الرافع؛ لأنها زيادة، وهي من الثقة مقبولة.
قال: "لا سيما وقد تابعه على ذلك أخواه، أي: فلا يسلم أن الصحيح الأول كما قال البيهقي؛ فتكون هذه الطريق حسنة، مع أن الرواية الأخرى يحسن الاستدلال بها، قال البيهقي: =(9/39)
ص -374-…وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة1.
والثامن: أن الله تعالى جعل النفس بالنفس،[وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ....} [المائدة: 45]]2 إلى آخر الآية، هذا في العمد، وأما الخطأ؛ فالدية لقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "هي في معنى المسند"، أي: في حكم المرفوع، كما فهم ابن حجر في "الفتح" "9/ 621".
قلت: لأن قول الصحابي: "أمرنا بكذا"، و"نهينا عن كذا"، و"أحل كذا"، و"حرم كذا": مرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على المختار عند جمهور الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين.
لا جرم أن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ محيي الدين النووي قالا: "يحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنها في معنى المرفوع".
ولهذا الحديث طريق ضعيفة جدًّا، غريبة، لا بأس بالتنبيه عليها، وهي: عن مسور بن الصلت عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا كما تقدم، أخرجه الدارقطني في "العلل" "3/ ق 112/ أ"، والخطيب في "تاريخه" "12/ 245"، وقال الدارقطني: "لا يصح لأن المسور كان ضعيفًا، وهو كما قال؛ فقد كذبه أحمد، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به".
وله طريق أخرى فيها أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، تركه النسائي، وقال البخاري: "منكر الحديث"، ولذا قال ابن حجر بعد كلامه على رواية أولاد زيد: "تابعهم شخص أضعف منهم، وهو...".
وانظر: "التلخيص الحبير" "1/ 26"، و"نصب الراية" "4/ 202"، و"البدر المنير" "2/ 158-164"، و"تخريج الزيلعي على الكشاف" "1/ 100/ رقم 84".(9/40)
1 أخرج ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيرًا لقريش وأميرهم أبو عبيدة، 8/ 78/ رقم 4362"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2308-2309/ رقم 3014" عن جابر -رضي الله عنه- وليس في رواية مسلم أكله -صلى الله عليه وسلم- منه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(9/41)
ص -375-…وبيّن1 عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي2 بحول الله؛ فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة3 ونحوها؛ فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف، ويشبه الإنسان التام لخلقته4؛ فبينت السنة5 فيه أن ديته الغرة6، وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.
والتاسع: أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة؛ فدار الجنين الخارج من بطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأشهر أحاديث الموضوع ما رواه مالك والنسائي عن عبد الله بن حزم عن أبيه، وما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب، وهذا المثال مما وقع في الكتاب النص على الطرفين، لكن بيان أحدهما به والآخر بالسنة، وبقيت الواسطة على اجتهاد يبعد على الناظر. "د".
قلت: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قضى في الموضحة بخمس، وفي الأصابع بعشر، وفي لفظ: "في الموضحة خمس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 695/ رقم 4566"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في الموضحة، 4/ 13/ رقم 1390"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب المواضح، 8/ 57"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "9/ 142"، وعبد الرزاق في "المصنف" "9/ 306/ رقم 7324"، والدارمي في "السنن" "2/ 194"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 785"، وابن أبي عاصم في "الديات" "113"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 81"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 195"، وإسناده صحيح.
قلت: وسيأتي تخريج الحديث الآخر.
2 في المثال الرابع مما يجري مجرى القياس. "د".
3 أي: من غيرها. "د".
4 في "ط": "الخلقة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القسامة، باب دية الجنين، 3/ 1309/ رقم 1681" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(9/42)
6 قال صاحب "التيسير" في شرح الحديث: "الغرة عند العرب العبد والأمة، وعند الفقهاء: ما بلغ ثمنه من العبيد نصف عشر الدية، وقوله: "حكم نفسه"؛ أي: لم يلحق بأحد الطرفين". "د". ونحوه عند "ف".(9/43)
ص -376-…المذكاة ميتًا بين الطرفين؛ فاحتملهما؛ فقال في الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"1 ترجيحًا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 3/ 103/ رقم 2827"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 4/ 72/ رقم 1476"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، 2/ 1067/ رقم 3199"، وأحمد في "المسند" "3/ 31، 53"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 502/ رقم 8650"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 900"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 278/ رقم 992"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272-273، 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 228"، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه.
وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الوداك ثقة، احتج به مسلم.
وقد ضعفه ابن حزم في "المحلى" "7/ 419" بقوله: "مجالد ضعيف، وأبو الوداك ضعيف".
قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي: "صالح"، ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 157": "أما أبو الوداك فلم أر من ضعفه".
وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك أحمد في "المسند" "3/ 39"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1077, موارد"، والدارقطني في "السنن" "4/ 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والخطيب في "الموضح" "2/ 249".(9/44)
قال ابن حجر في "التلخيص" "4/ 157": "فهذه متابعة قوية لمجالد"، وقال المنذري في "مختصر السنن" "4/ 120": "وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تكلم فيه- فقد احتج به مسلم في "صحيحه"", وقال الذهبي في "الميزان" "4/ 483" وساق كلام الأئمة فيه وعنه: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة"، وترجمه في "من تكلم فيه وهو موثق" "رقم 389".
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 45"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ رقم 1206"، والطبراني في "الصغير" "1/ 88، 168"، والخطيب في "تاريخ" "8/ 412"، وأبو نعيم في =(9/45)
ص -377-…والعاشر: أن الله قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]؛ فبقيت البنتان مسكوتًا عنهما؛ فنقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "مسانيد فراس بن يحيى المكتب" "رقم 39" من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف مدلس ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به.
وله شاهد من حديث جابر أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 84"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2828"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 343/ رقم 1808"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 660، 733 و6/ 2403"، والدارقطني في "السنن" "4/ 273"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 114"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 92 و9/ 236"، و"أخبار أصبهان" "1/ 92 و2/ 82"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "رقم 288"، وابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 200"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "265" -موقوفًا- والخليلي في "الإرشاد" "1/ 438"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 334-335" من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أي منها بالتحديث، فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعله ابن حزم في "المحلى" "7/ 419".
وورد الحديث عن ابن عمر وأبي هريرة وكعب بن مالك وأبي ليلى وأبي أيوب الأنصاري وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبي أمامة وأبي الدرداء وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها، إلا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156": "قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: "هو حديث صحيح"، وتبع في ذلك إمامه".
قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرح به العراقي في "تخريج الإحياء" "2/ 116".(9/46)
قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": هو حديث صحيح، لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر".
قلت: والعجب من "د"؛ فإنه نقل عن ابن حجر الكلام السابق، وفيه بدل من "تنتهض": "تنتقض"!! وقال بعد أن ذكر مخارجه عن "الجامع الصغير": "الكل معلول"، والأمر ليس كذلك كما اتضح لك، ولله الحمد، ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا، والله الموفق.(9/47)
ص -378-…في السنة1 حكمهما، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين2. ذكره القاضي إسماعيل.
فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها؛ فإنه أمر واضح لمن تأمل، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما، أو إليهما معًا؛ فيأخذ من كل منهما بطرف؛ فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات، 4/ 414/ رقم 2092"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، 3/ 121/ رقم 2892"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب، 2/ 908-909/ رقم 2720"، وأحمد في "المسند" "3/ 352"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 524"، والدارقطني في "السنن" "4/ 79"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 333-334"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 229" من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر؛ قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث؛ فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي؛ فهو لك".
وإسناد حسن، من أجل عبد الله بن محمد بن عقيل، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل"، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 445" لابن أبي شيبة ومسدد والطيالسي وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان.(9/48)
وشذ بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فقال: "هاتان بنتا ثابت بن قيس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2891"، والدارقطني والبيهقي، قال أبو داود والبيهقي: "أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع, وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة".
وانظر: "فتح الباري" "8/ 244"، و"إرواء الغليل" "6/ 122"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 468".
2 في "ط": "الثنتين".
3 غير ظاهر في الغرة في الجنين؛ لأنه لم يأخذ حكم النفس ولا الأطراف، وهو يفيد عطف قوله: "أو غيره" فيما سبق على قوله "احتياطي". "د".(9/49)
ص -379-…وأما مجال القياس؛ فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها؛ فيجتزى بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادًا على بيان السنة فيه، وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصًّا في حكم العام معنى، وقد مر في كتاب الأدلة1 بيان هذا المعنى، فإذا كان كذلك، ووجدنا في الكتاب أصلًا، وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه؛ فهو المعنى ههنا، وسواء علينا أقلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله بالقياس2 أو بالوحي؛ إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس، والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة3، وله أمثلة4:
أحدها5: أن الله -عز وجل- حرم الربا6, وربا الجاهلية الذي قالوا فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة التاسعة، وإنه كان العموم هناك للأشخاص، وإن الشريعة ليست خاصة ببعضهم دون بعض، وهنا شمول يرجع للمعنى الذي فيه الحكم، كحرمة النبيذ بجعل الخمر شاملًا له معنى وإن لم يشمله صفة. "د".
2 بناء على أنه -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيقيس، وقيل: ليس له الاجتهاد. "د".
قلت: انظر لزامًا ما علقناه على قوله هذا في "ص354".
3 في المسألة الثانية، حيث قال: "إن الظن الراجع إلى أصل قطعي يعول عليه، ومثال ذلك ما ورد من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا. "د".
4 في "ط": "أمثلته".
5 في "د": "أحدهما".(9/50)
6 أي: وظاهر أن المراد به ما يعقد في الإسلام؛ لأن هذا هو الذي بصدده التشريع، فألحق به ما عقد في الجاهلية، فقال: "وربا الجاهلية موضوع... إلخ"، وهذا إما قياس منه -صلى الله عليه وسلم- أو بوحي يجري في أفهامنا مجرى القياس، ويصح أن يكون هذا المقدار إلى قوله: "وإذا كان كذلك" مثالًا لما تردد بين طرفين واضحين فألحقه بأحدهما، وذلك أن الله تعالى حرم الربا، وقال أيضًا: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]؛ فتردد ربا الجاهلية بين ما يغفر فينفذ عقده وما لا يغفر فيبطل عقده، أعني: إنه لا ينفذ ولا يترتب عليه أثره وإن كان مجرد =(9/51)
ص -380-…{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275] هو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقتضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله"1.
وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض؛ ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد؛ فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم 2/ 889/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل، فيه خطبة الوداع الجامعة.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، 3/ 1210/ رقم 1587"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الصرف, 3/ 248-249/ رقم 3349, 3350", والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل، 3/ 541/ رقم 1540"، وأحمد في "المسند" "5/ 320"، والدارقطني في "السنن" "3/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 277، 282، 284" عن عبادة بن الصامت, رضي الله عنه.(9/52)
ص -381-…ثم زاد1 على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف، وعده من الربا2؛ لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة3، ويدخل فيه بحكم المعنى4 السلف يجر نفعًا، وذلك5 لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه؛ لتقارب المنافع فيما يراد منها؛ فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير6 شيء، وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلحاق ثان جاء في قوله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت... " إلخ وثم للتأخر الرتبي، وإلا؛ فالإلحاقان في حديث واحد، إلا أن يعتبر الترتيب في نفس ألفاظ الحديث ترتيبًا في الإلحاق زمانًا أيضًا، وكان عليه أن يؤخر قوله: "فإذا اختلفت" بعد قوله: ثم زاد" ويبقى النظر في أن تحريم بيع النساء عند اختلاف الأصناف جاء بإلحاق السنة؛ لأن هذا يتوقف على أن أصل تحريم الربا في القرآن كان لخصوص النساء عند اتفاق الأصناف فقط، وأن تحريم النساء عند الاختلاف إنما جاء من هذا الحديث، كما جاء تحريم ربا الفضل به، وربما لا يساعده ما كان جاريًا عندهم ووقع عليه التحريم في القرآن؛ إذ كانوا يعطون شعيرًا في مقابلة شعير لأجل بأكثر، في مقابلة دراهم لأجل بأكثر، وهكذا؛ فليرجع إلى التاريخ المبسوط في مثله. "د".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء 4/ 381/ رقم 2178، 2179"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، 3/ 1217/ رقم 1596" عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا ربا إلا في "النسيئة".
قال ابن حبان في "صحيحه" "11/ 397-398" عقبه: "معنى هذا الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر، وبينها فضل؛ يكون ربًا، وإذا بيعت بغير أجناسها، وبينها فضل؛ كان ذلك جائزًا إذا كان يدًا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربًا".
3 أي: غالبًا في العادة كما صرح به بعد. "د".(9/53)
4 وإن كان لفظه لفظ السلف والقرض. "د".
5 تعليل التحريم في بيع هذه الأجناس بمثلها متفاضلًا، وقوله بعد: "والأجل.. إلخ" تعليل لتحريم النساء فيها حتى عند التساوي قدرًا؛ فهو تكميل لقوله: "لأن النساء في أحد العوضين... إلخ". "د".
6 قد يقال: إن هذا لا يظهر فيما إذا دار الفضل من الجانبين، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد؛ فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، فهناك عوض؛ لا أن يقال: إن هناك غررًا كبيرًا لا يعلم معه أيهما غبن وهو ممنوع، وتعليله غير ما حققه بعضهم من أن العلة سد الذريعة. "د".(9/54)
ص -382-…إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة؛ إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة، وهو الزيادة.
ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا1 في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها2 إلى اليوم؛ فلذلك بينتها السنة3؛ إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التفاضل والنسيئة. "د".
2 أي: علتها وسر الفرق بين النقود والأطعمة وبين غيرهما، حيث منعا فيهما أجيزا فيما عداهما، راجع الجزء الثاني من "إعلام الموقعين"؛ ففيه البيان الكافي في المطلوب، والذي أشكل الفرق عند المؤلف هو أنه أخذ علة المنع مجرد الزيادة بدون عوض، ولكنهم أضافوا لهذا في النقدين والمطعومات المقتاتة ما يصح أن يجعل جزء علة يكون محط الفرق الواضح. "د".
3 فمن ذلك أنه اشترى العبد بعبدين، وأنه لما نفدت الإبل في جهاز الجيش أمر -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ على قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا فيه الأمران معًا. "د".
قلت: يشير الشارح -رحمه الله تعالى- إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلًا، 3/ 1225/ رقم 1602"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 150، 292"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1239 و1596"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3358"، وأحمد في "المسند" "3/ 349-350" عن جابر؛ قال: "جاء عبد فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "بعنيه". فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله: أعبد هو؟".(9/55)
وأما حديث عبد الله بن عمرو؛ فأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 3357"، وأحمد في "المسند" "2/ 171، 216"، وهو ضعيف.(9/56)
ص -383-…الاجتهاد؛ فمثل هذا جار1 مجرى الأصل والفرع في القياس؛ فتأمله.
والثاني: أن الله تعالى حرم الجمع2 بين الأم وابنتها في النكاح، وبين الأختين، وجاء في القرآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]؛ فجاء نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع3 بين أولئك موجود هنا، وقد يروى في هذا الحديث: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"4، والتعليل يشعر بوجه القياس.
والثالث: أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء، وأنه أسكنه في الأرض، ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر؛ فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه "الطهور ماؤه، الحل ميتته"5.
والرابع: أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن، ولم يذكر ديات الأطراف، وهي مما يشكل قياسها على العقول؛ فبين6 الحديث من دياتها ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يجزم بأنه منه؛ لما سبق له من أنه من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها، فربما كان تعبدًا ليس مبنيًّا على علة؛ فلا يتأتى إجراء القياس فيه، وأيضًا من أنه إما أن يكون بالوحي لا غير، بناء على أنه لا يجتهد، أو بعضه به وبعضه بالقياس إن جوز له -صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد، وسيأتي قوله: "ولا علينا أقصد القياس على الخصوص... إلخ". "د".
2 أي: في صورة ما إذا عقد على الأم ولم يدخل بها، وأما ما عدا هذه الصورة، كما إذا دخل بالأم أو عقد على البنت؛ فإن التحريم تأييد لا يخص مجرد الجمع. "د".
3 في "ط": "الذي من أجله حرم الجمع...".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.
5 مضى تخريجه "ص371"، وهو صحيح.(9/57)
6 لكن أين في هذا إجراؤه مجرى القياس في أخذ الفرع حكم الأصل كالأمثلة السابقة واللاحقة؛ إلا أن يقال: الإلحاق في مجرد استحقاق المال في نظير التعدي خطأ على البدن، ولذلك قال هذه الكلمة المجملة، وهي أنه بين "ما وضح به السبيل" دون أن يقول: "ألحق الأطراف بالنفس"، وزاد أيضًا قوله: "وكأنه"، ولم يذكرها في تطبيق الأمثلة السابقة ولا اللاحقة. "د".(9/58)
ص -384-…وضح به السبيل1، وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره؛ فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه.
والخامس: أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة: من النصف، والربع، والثمن، والثلث، والسدس، ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الآية [النساء: 11].
وقوله في الأولاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وقوله في آية الكلالة: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى جملة من الأحاديث، أشهرها ما جاء في كتاب عمرو بن حزم: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل".
ولهذا الكتاب وجادات كثيرة، تجعل الباحث يجزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا لعمرو بن حزم؛ لأن التابعين ومن بعدهم وجدوا هذا الكتاب، وقرءوه وعملوا بما فيه، ولذا احتج به الإمام أحمد، كما في "مسائله" "رقم 38" للبغوي، وإسحاق في "مسائله لأحمد" "ص5"، وابن معين كما في "تاريخ الدوري" "رقم 647"، والشافعي في "الرسالة" "422-423".
وخرجته وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" "1/ 501-508"، وانظر: "العواصم والقواصم" "1/ 333-335"، و"فتح الباري" "12/ 226"، و"الإرواء" "رقم 122"، و"تهذيب الكمال" "11/ 419"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 412".(9/59)
ص -385-…وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
فاقتضى أن ما بقي بعد الفرائض المذكورة فللعصبة، وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين؛ كالجد، والعم، وابن العم، وأشباههم؛ فقال1 عليه الصلاة والسلام: "ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"2، وفي رواية: "فلأولى عصبة ذكر"3؛ فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه، بعد ما نبه الكتاب على أصله.
والسادس: أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]؛ فألحق النبي -صلى الله عليه وسلم- بهاتين سائر القرابات4 من الرضاعة التي يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأشباه ذلك، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محل الشاهد قوله: "فما بقي... إلخ" المفيد للعموم في العصبة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، 12/ 11/ رقم 6732، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، 12/ 16/ رقم 6735، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة، 12/ 18/ رقم 6737، وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج، 12/ 27/ رقم 6746"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، 3/ 1233/ رقم 1615" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.(9/60)
3 قال ابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 248, ط دار الكتب العلمية": "ما نحفظ هذه اللفظة"، وأوردها الرافعي في "فتح العزيز"، وقال ابن حجر في تخريجه "التلخيص الحبير" "3/ 81": "وهذا اللفظ تبع فيه -أي: الرافعي- الغزالي، وهو تبع إمامه -أي: إمام الحرمين- وقد قال ابن الجوزي في "التحقيق": إن هذه اللفظة لا تحفظ، وكذا قال المنذري، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد". ثم قال ابن حجر: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة حديث: "أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا"؛ فشمل الواحد وغيره".
4 في "ط": "القرابة".(9/61)
ص -386-…بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق، نصت1 عليه السنة -إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد- فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب"2، وسائر ما جاء في هذا المعنى، ثم ألحق3 بالإناث الذكور؛ لأن اللبن للفحل، ومن جهته در للمرأة4، فإذا كانت المرأة بالرضاع [أمًّا]5؛ فالذي له اللبن أب بلا إشكال.
والسابع: أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم؛ فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وجهة الإلحاق نصت عليه السنة؛ فقال عليه الصلاة والسلام... إلخ لأن المقام قابل لتردد المجتهدين، فلم يتركه صلوات الله عليه؛ فقوله: "نصت.. إلخ" خبر ثان. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، 5/ 253-254/ رقم 2646، وكتاب فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي, صلى الله عليه وسلم 6/ 211/ رقم 3105"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، 2/ 1068/ رقم 1444" عن عائشة، وفيه: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"، لفظ مسلم، ولهما: "إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة", وفي رواية لمسلم برقم "1445" بعد "9": "فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، 3/ 453/ رقم 1147" عن عائشة أيضًا، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
3 كما في حديث عائشة في استئذان أفلح أخي أبي القعيس زوج المرأة التي أرضعتها؛ فقالت: يا رسول الله! إن أخاه ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته. فقال: "ائذني له فإنه عمك". "د". قلت: وهذه القصة هي التي أشرت إليها في تخريج الحديث السابق.(9/62)
4 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "جهة در المرأة".
5 كذا في "ط"، وسقطت "أمًّا" من جميع النسخ، وفيها: "فالذي له اللبن أم"!! وكتب "د": "هنا سقط كلمة أما"، وقوله: "فالذي له اللبن أم" لعل الأصل: "فالذي له اللبن أب"، وهو الذي يلائم قوله -عليه السلام- في الحديث السابق: "فإنه عمك".(9/63)
ص -387-…وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
وذلك حرم الله مكة، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله1 معه؛ فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها2، فقال: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها3، أو يقتل صيدها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في رواية للشيخين أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة"، وقد دعا لأهلها بالبركة في صاعها ومدها، وقال في رواية مسلم "رقم 1378" والترمذي "رقم 3924": "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت شفيعًا له وشهيدًا يوم القيامة"، وورد أيضًا أنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد؛ فلعل هذه المزايا وما ماثلها يفسر بها قوله: "ومثله معه". "د".
2 تثنية "لابة"، وهي الحرة العظيمة، قال ابن الأثير: "المدينة ما بين حرتين عظيمتين يكتنفانها، والحرة حجارة سود". "ف".
قلت: كلام ابن الأثير في "النهاية" "4/ 274".
3 جمع عضاهة وعضيهة وعضة، وأصلها: عضهة، وهي: شجرة ذات شوك. وقيل: العضاه اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فإن لم تكن طويلة؛ فليست من العضاه، والمراد هنا الشجر ذو الشوك مطلقًا. "ف".
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 992/ رقم 1363"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "3/ 295"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 198"، وأحمد في "المسند" "1/ 169، 181، 185"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 38"، والحربي في "الغريب" "3/ 924"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 153"، والجندي في "فضائل المدينة" "رقم 69"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 191"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 197" عن سعد مرفوعًا.(9/64)
وأخرجه مسلم "رقم 1362"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "2/ 304"- والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 192"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 111/ رقم 2151"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 48/ رقم 2029"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 198" عن جابر بألفاظ نحوه.(9/65)
ص -388-…وفي رواية: "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله1 في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء"2.
وفي حديث آخر: "فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا"3.
ومثله في صحيفة علي المتقدمة4؛ فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة، وقد جاء فيها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم، وارتكاب المنهيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل هذا الوعيد وما بعده لا يقال فيه: إنه قياس وتفريع على تحريم مكة، وكل ما يقبل هنا أن يكون الرسول دعا للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة؛ فأجيب من الله وأبلغه إجابة دعوته وما معها من أنواع الوعيد لمن أحدث فيها حدثًا؛ فالمثال السابع على ما ترى من الضعف، وفي "تحريم الأصول" و"شرحه" -في مسألة أن حكم القياس ثبوت حكم الأصل في الفرع- قال: "ولذا لم يستند من قال بحرمة المدينة إلا إلى السمع، وإنما لم يثبت بالقياس لانتفاء الأصل والفرع" ا. هـ.
وإذا انتفى الأصل والفرع وهما ركنان في القياس؛ فكيف يقال إنه ثبت عند الرسول -عليه السلام- بالقياس؟ "د".
2 هذه قطعة من حديث سعد السابق، وهي بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" "2/ 992-993/ رقم 1363 بعد 460"، وأخرجها أيضًا الجندي في "فضائل المدينة" "رقم 28"، ونحوها عند أحمد والدورقي وأبي يعلى، وتقدم مواطن رواياتهم، والله الموفق.(9/66)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثًا، 13/ 281/ رقم 7306"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 3/ 994/ رقم 1366" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وانفرد مسلم بذكر "لا يقبل الله منه...".
4 انظر: "ص192، 208".(9/67)
ص -389-…على تنوعها، حسبما فسرته السنة1؛ فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى.
والثامن: أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الآية [البقرة: 282]؛ فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل، وظهر به ضعف شهادتهن، ونبه على ذلك في قوله: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن"2، وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.
وحين3 ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]؛ دل على انحطاطهن عن درجة الرجل، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد؛ فقضى4 عليه الصلاة والسلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكمًا قضى به قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "تفسير ابن كثير" "3/ 224-225".
2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، 1/ 86-87/ رقم 79" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1/ 405/ رقم 304، وكتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، 3/ 325/ رقم 1462" عن أبي سعيد نحوه.
3 لعله: "وحيث ثبت". "ف".(9/68)
4 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 3/ 1337/ رقم 1712"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 4/ 32/ رقم 3608"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 225" للمنذري-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، 2/ 793/ رقم 2370"، وأحمد في "المسند" "1/ 248، 315"، والشافعي في "المسند" "2/ 178/ رقم 627، 628, ترتيبه"، والدارقطني في "السنن" "4/ 214"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 167" عن ابن عباس؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد.(9/69)
ص -390-…يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران: 77]؛ فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس؛ إلا أنه يخفى؛ فبينته السنة.
والتاسع: أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله، وذكر الإجارة في بعض الأشياء1؛ كالجعل المشار إليه في قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72].
والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60].
وفي بعض منافع2 لا تأتي على سائرها؛ فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك كثيرًا3، ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين، وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع، ولا علينا أقصد النبي -عليه الصلاة والسلام- القياس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنها إجارة شعيب لموسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-. "د".
2 وأصرحها الرضاع، بل قال بعضهم: لم تأت الإجارة الجائزة في القرآن إلا في الرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. "د".
قلت: انظر في ذلك "الأم" للشافعي "3/ 250"، و"محاسن التأويل" "3/ 611" للقاسمي.
3 يضيق المقام عن سرد الأحاديث، ونحيل القارئ على الكتب التالية؛ فإنه يجد فيها ذكرًا جيدًا لما قاله المصنف: "سنن البيهقي الكبرى" "6/ 116 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" لابن شداد "3/ 439 وما بعدها"، و"نصب الراية" "4/ 129 وما بعدها"، و"الفتح الرباني" "15/ 122 وما بعدها"، و"الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص38 وما بعدها".(9/70)
ص -391-…على الخصوص أم لا؛ لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان.
والعاشر: أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده1، وعن رؤيا يوسف2، ورؤيا الفتيين3، وكانت رؤيا صادقة، ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا؛ فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكام ذلك، وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء4 النبوة5، وأنها من المبشرات6، وأنها على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الآيات في سورة الصافات "رقم 102-107".
2 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 4-6".
3 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 36-41".
4 ورد "من ستة وأربعين جزءًا"، وقالوا في توجيهه: إن النبوة كانت ثلاثًا وعشرين سنة، ومدة الرؤيا الصالحة قبلها كانت ستة أشهر، ونسبتها إلى ثلاث وعشرين سنة هي ما قاله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا البيان وإن لم يرتضه بعضهم؛ فهو واضح، وأيضًا؛ فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟"، وكان يعبرها لهم، وهو يتضمن إلحاق غيرهم بهم. "د".
قلت: انظر في نقض التوجيه المذكور: "فتح الباري" "12/ 364-365"، وما علقناه على "2/ 419".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين، 12/ 361/ رقم 6983، وباب من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، 12/ 383/ رقم 6994"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1774/ رقم 2264" عن أنس مرفوعًا: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". لفظ البخاري، ولهما: "رؤيا المؤمن جزء..." به.
6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب المبشرات، 12/ 375/ رقم 6990" عن أبي هريرة؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات". قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".(9/71)
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1773/ رقم 2263" ضمن حديث عن أبي هريرة مرفوعًا، فيه: "فرؤيا الصالحة بشرى من الله".(9/72)
ص -392-…أقسام1، إلى غير ذلك من أحكامها، فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم، وهو المعنى الذي في القياس، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.
- ومنها: النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان؛ فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد؛ فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد، بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب، ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول2 كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في رواية مسلم في الحديث السابق: "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه".
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله، 12/ 368-369/ رقم 6984"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1771/ رقم 2261" عن أبي قتادة مرفوعًا: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان".
وفي رواية للبخاري: "الرؤيا الصادقة"، ولمسلم: "الرؤيا الصالحة".(9/73)
2 في المسألة الثانية: حيث جعله من باب الدليل الشرعي الظني الراجع إلى قطعي لأنه مبثوث في الشريعة في جزئيات وكليات؛ فالسنة قد نظمت هذه المواضع المتفرقة المبثوثة، وجعلتها في سلك واحد بقاعدة عامة، وكأن هذا الوجه جمع المتفرقات، وأخذ كلي من الجزئيات، وإجمال للتفصيلات؛ فهو عكس لبعض الوجوه المتقدمة، وبالتأمل فيه تجده نادرًا ومأخذًا لا تنبني عليه الدعوى في أصل المسألة إلا إذا ضم لغيره من الوجوه، فإن كان مراد المؤلف أن هذه الوجوه الخمسة كل واحد منها يكفي لإثبات المسألة؛ فإنما يظهر ذلك في الوجه الثالث تامًّا، وفي الثاني ببعض تكلف، وفي الأول على الطريق الذي قصد منه، أما ما عداها؛ فلا يظهر انفراده بإثبات المسألة ودفع إشكالاتها، وإذا كان قد اعترض على الوجه السادس بالقصور مع أنه ذكر له عشرة أمثلة، وقال: إن هذا النمط في السنة كثير؛ فكيف يكون حال هذا الوجه الخامس الذي لم يتيسر له فيه إلا مثال واحد، نعم، إن كان غرضه من وجوهه الخمسة أن تكون مضمومة بعضه إلى بعض كما يشير إليه =(9/74)
ص -393-…ضرر ولا ضرار"1 من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث2؛ فلا معنى للإعادة.
- ومنها3: النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن، وإن كان في السنة بيان زائد، ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارًا إليه -من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى- أو منصوصًا عليه في القرآن4، ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح لشواهده.
2 هذه المعاني الكلية "التي استنبط النبي -صلى الله عليه وسلم- من جزئياتها الموجودة في الكتاب" قليلة بالنسبة لسائر السنة، وقد لا يمكن لغيره -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها من جزئياتها، وقد يكون علمها بطريق الوحي، لا بالاستنباط من الجزئيات، ثم إن المعقول أن الجزئيات هي المبينة للكليات؛ فالقرآن هو المبين لكليات السنة على هذا، ولو سلمنا العكس؛ ففي القرآن كليات لها جزئيات في السنة؛ فالقرآن مبين على ما تقول. قاله في "حجية السنة" "ص534-535".
3 هذا النظر السادس أخص من النظر الثاني المتقدم أنه المشهور عن العلماء؛ لأن ذلك بيان للحقيقة المطلوبة أو المنهي عنها مثلًا أو شروطها أو كيفياتها إلى آخر ما تقدم في بيان الأحاديث؛ كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} [الأنعام: 72] مثلًا، أما هذا؛ فمقصور على بيان لفظ مجمل ورد في الآية بما يوضح الغرض منه، كما قال: "من حيث وضع اللغة"، وقوله: "لا من جهة أخرى"؛ أي: من الجهات الخمسة السابقة. "د".(9/75)
4 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه البديع "حجية السنة" "ص535 وما بعدها": "نقول: هذا هو المأخذ الذي لو تم لكان مبطلًا لما ذهبنا إليه من وجود سنة جاءت بما لم ينص عليه الكتاب نصًّا يمكن للمجتهد أن يأخذه منه، بحسب أوضاع اللغة ومعانيها الحقيقية والمجازية، ولكنه لن يتم، ومحاولة تطبيقه على جميع ما ورد في السنة محاولة فاشلة، وقد اعترف الشاطبي نفسه =(9/76)
ص -394-….........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بذلك، حيث يقول تعليقًا على هذا المأخذ فيما سيأتي "ص401": "ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها..." إلخ قوله.
ولعلك بعد اطلاعك على كلام المصنف في هذه المسألة ندرك أنه -رحمه الله- يخالف فيها مخالفة لفظية: حيث يذهب إلى أن جميع ما في السنة مبينة بمعنى من المعاني التي علمتها من مأخذ، ولا يقول: إنها مبينة، بمعنى أن القرآن قد نص على كل حكم جاءت به السنة ولو على سبيل الإجمال، وأنه ليس للسنة وظيفة إلا إيضاح أحكامه المجملة وشرحها، وعلى ذلك؛ فهو لا ينكر وجود سنة مستقلة بالمعنى الذي أردناه، وهو أن ترد بما لم ينص عليه الكتاب، وإنما نفى الاستقلال بمعنى يتنافى مع ما أراد من معاني البيان، ونحن لو سلمنا له مأخذه، لم يكن هذا التسليم منافيًا لمذهبنا بحال، ألا ترى أن الشافعي الذي يقول: إن من السنة ما هو مستقل، يقول في الوقت نفسه بالمأخذ الأول.
غير الذي نأخذه على المصنف أنه لم يبين مقصده من أول الأمر، بل عبر عن مذهبه بعبارات موهمة للخلاف الحقيقي، وأقام الأدلة وطعن في أدلة أخرى بدون موجب لذلك كله.
وللشافعي -رضي الله عنه- كلمتان رزينتان هادئتان، قاطعتان لألسنة الخصوم على أي مذهب كانوا، مستأصلتان جذور الشغب والنزاع على أي لون كان:(9/77)
1- قال -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جزى به المجاهدين المخلصين- في "الرسالة" "ص88-89": "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم؛ فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}، وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن؛ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا لما وصفت، وما قال رسول الله أسند عن أبي رافع".
2 وقال رضي الله عنه ونفعنا بعلمه بعد أن ذكر المذاهب في النوع المستقل "ص104-105": "وأي هذا كان؛ فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلاف أمر عرفه من أمور رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من تبيين رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه؛ ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه نص كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى؛ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، يل هو لازم بكل حال، وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع "الذي كتبنا قبل هذا"" ا. هـ.(9/78)
ص -395-…وله أمثلة كثيرة:
أحدها:
حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض؛ فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك1 بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"2 يعني: أمره في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} [الطلاق: 1].
والثاني:
حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أمسكها".(9/79)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، 9/ 345/ رقم 5251"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093/ رقم 4171"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء، 6/ 138"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة، 2/ 321/ رقم 1185، 1186"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة، 2/ 632-634/ رقم 2179"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق السنة، 1/ 651/ رقم 2019"، والشافعي في "المسند" "2/ 32-33/ رقم 102-104, ترتيب السندي"، ومالك في "الموطأ" "2/ 576, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "2/ 6، 54، 63، 64، 102، 124"، والدارمي في "السنن" "2/ 160"، والطيالسي في "المسند" "رقم 68، 1853"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 53"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4249, الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 734"، والدارقطني في "السنن" "4/ 7، 8، 9"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 323-324"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 202" من طرق عن نافع عن ابن عمر به، وله ألفاظ متقاربة عندهم.(9/80)
ص -396-…سكنى ولا نفقة؛ إذ طلقها1 [زوجها] ألبتة -وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة- لأنها بذت على أهلها بلسانها2؛ فكان ذلك تفسيرًا لقوله: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة} [الطلاق: 1].
والثالث:
حديث سبيعة الأسلمية؛ إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر3، فأخبرها -عليه الصلاة والسلام- أن قد حلت4؛ فبين الحديث أن قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "م": "نفقة طلقها"، وكتب "د" هنا ما نصه: "يعني زوجها أبا عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة"، وما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، 2/ 1117/ رقم 1480"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب نفقة الحامل المبتوتة، 6/ 210"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، 2/ 325/ رقم 1191"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في نفقة المبتوتة، 2/ 715/ رقم 2289"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة، 1/ 656/ رقم 2035، 2036"، وأحمد في "المسند" "6/ 411، 412"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4240, الإحسان"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 64"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 671"، والدارقطني في "السنن" "4/ 22-25"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 472-474" عن فاطمة بنت قيس؛ قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة".(9/81)
وفي رواية لمسلم برقم "1480 بعد 46" وغيره فيها زيادة: "قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله, عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]".
3 ولفظ البخاري: "قريبًا من عشر ليالٍ". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، 8/ 653/ رقم 4909، وكتاب الطلاق، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، 9/ 469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها، 2/ 1122-1123/ رقم 1485"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، =(9/82)
ص -397-…تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] مخصوص في غير الحامل، وأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] عام في المطلقات وغيرهن.
والرابع: حديث أبي هريرة في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، [قال]: قالوا: حبة في شعرة1، يعني: عوض قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، 6/ 191-192"، والترمذي في "الجامع" "كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع، 2/ 332-333/ رقم 1208"، ومالك في "الموطأ" "2/ 590, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "6/ 432" عن أم سلمة؛ أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين, فمكثت قريبًا من عشر ليال ثم جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "انكحي". لفظ البخاري الثاني.
وفي اللفظ الأول: "قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو السنابل فيمن خطبها، ولفظ مالك: "إن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر"، وفيه: "فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت".(9/83)
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير" 8/ 164/ رقم 4479"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2312/ رقم 3015"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 171/ رقم 9، 10"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، 5/ 205/ رقم 2956"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ رقم 579، 591"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 240"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 318"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 76"، والخطيب في "التاريخ" "2/ 266" عن أبي هريرة مرفوعًا: "قيل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]. فدخلوا يزحفون على أستاههم؛ فبدلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعرة".(9/84)
ص -398-…والخامس:
حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة طاف بالبيت سبعًا؛ فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]؛ فصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه، ثم قال: "نبدأ بما بدأ الله به"، وقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه}1 [البقرة: 158].
والسادس:
حديث النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ قال: "الدعاء هو العبادة"، وقرأ الآية إلى قوله: {دَاخِرِينَ}2 [غافر: 60].
والسابع:
حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}3 [البقرة: 187]؛ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم, 2/ 886-892/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وخرجته بالتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "1/ رقم 270-272"؛ فانظره.(9/85)
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 76-77/ رقم 1479"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 211/ رقم 4969، وباب ومن سورة المؤمن، 5/ 374-375/ رقم 3247, وأبواب الدعوات, باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 456/ رقم 3372"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1258/ رقم 3828"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب سورة حم المؤمن، 2/ 253/ رقم 484"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 100"، والطيالسي في "المسند" "رقم 801"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 714"، وأحمد في "المسند" "4/ 267، 271، 276"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 2396, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490-491"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7" و"المعجم الصغير" "1/ 97"، وابن جرير في "التفسير" "24/ 51" عن النعمان بن بشير من طرق، بعضها صحيح.
3 قوله: {مِنَ الْفَجْر} نزلت بعد ما اشتبه جملة من الصحابة في المعنى، وصار بعضهم يربط حبلين أسود وأبيض في رجله لينظر إليهما، وبعضهم وهو عدي جعلهما تحت الوسادة، ثم سأل =(9/86)
ص -399-…"إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل"1.
والثامن:
حديث سمرة بن جندب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر"2.
وقال يوم الأحزاب: "اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن صلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما: أهما خيطان؟ فقال له: "إن وسادك لعريض.." -كناية لطيفة منه, صلوات الله وسلامه عليه؛ ".. بل هما سواد الليل وبياض النهار"، قال الشيخان: "نزل بعد {مِنَ الْفَجْر}؛ فعلموا إنما يعني الليل والنهار، ولو كان نزل قوله: {مِنَ الْفَجْر} بيانًا من أول الأمر؛ لما وضع عدي الخيطين تحت الوسادة ولا ساءل، فلو ترك المؤلف ذكرها كان أولى، راجع البخاري ومسلمًا. "د".
قلت: وسبق تخريج ذلك "3/ 298".
1 مضى تخريجه "3/ 299"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، 1/ 340-341/ رقم 182، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 217/ رقم 2983"، وأحمد في "المسند" "5/ 7، 8، 12، 13، 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 6823، 6824، 6825، 6826"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 344"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 460"، والدمياطي في "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى" "رقم 31، 32، 33، 34، 35" من طرق عن الحسن عن سمرة به.
والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة؛ فرواه عن أبيه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زبر في "وصايا العلماء" "88-89" -ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى" "رقم 37"-، والطبراني في "الكبير" "رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010" مفرقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي.(9/87)
والحديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 628"، والترمذي في "الجامع" "رقم 181 و2985"، والطيالسي في "المسند" "رقم 366"، وأحمد في "المسند" "1/ 392، 403، 404، 456"، وغيرهم عن ابن مسعود بلفظه مرفوعًا.(9/88)
ص -400-…الوسطى حتى غابت الشمس"1.
والتاسع:
حديث أبي هريرة: قال عليه الصلاة والسلام: "إن موضع2 سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها، اقرءوا إن شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}3 [آل عمران: 185]"4.
والعاشر:
حديث أنس في الكبائر: قال عليه الصلاة والسلام فيها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، 6/ 105/ رقم 2931، والمغازي، باب غزوة الخندق، 7/ 405/ رقم 4111، وكتاب التفسير، باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، 8/ 195/ رقم 4533، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6396"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1/ 436/ رقم 627" وغيرهما عن علي, رضي الله عنه.
2 ولا يظهر هذا المثال؛ لأنه ليس فيه تفسير للفظ في الكتاب من حيث وضع اللغة كما هو موضع هذا النظر، وكما هو الجاري فيما قبله وما بعده من الأمثلة، بل هو كأنه استنتاج لهذا المعنى من الآية، وربما كان أظهر منه في غرضه حديث "الصحيحين": "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" مصداق قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]؛ لأن ما في الحديث وإن كان لم يعين بشخصه؛ إلا أنه توضيح وتقريب لمعنى الآية، وهو أقصى ما يعبر به للدلالة على المراد فيها. "د".
3 {فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ساقطة من الأصل(9/89)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 48/ رقم 3292"، والدارمي في "السنن" "2/ 239/ رقم 2833"، وأحمد في "المسند" "2/ 438"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 101"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 299"، وأبو نعيم في "صفة الجنة" "رقم 53"، والبغوي في "شرح السنة" "15/ 209-210/ رقم 4372" من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.
وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو.
والحديث صحيح، روي من وجوه عن أبي هريرة، قال أبو نعيم عقبه: "ورواه همام بن منبه، وأبو صالح، وابن أبي عمرة، وأبو أيوب المراغي في آخرين عن أبي هريرة"، وتفصيل ذلك يطول.(9/90)
ص -401-…"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور"1، وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر2، وجميعها تفسير لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية [النساء: 31].
وهذا النمط في السنة كثير.
ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على [شرط] النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها، وأول شاهد في هذا الصلاة، والحج، والزكاة، والحيض، والنفاس، واللقطة، والقراض، والمساقاة، والديات، والقسامات، وأشباه ذلك من أمور لا تحصى3؛ فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح، ولا العلماء الراسخون في العلم.
ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه؛ فلم يوف به إلا على التكلف المذكور، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة؛ فكان ذلك نازلًا بقصده4 الذي قصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 5/ 261/ رقم 2654"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 91/ رقم 87" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 انظرها في كتاب "الكبائر" للذهبي بتحقيقي، وهو غير "الكبائر" المليء بالقصص الباطلة، والحكايات الواهية، وانظر عنه: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 201، 312-318" بقلمي.
3 وكلها ليس ما ورد فيها من السنة يجري هذا المجرى الذي يريده هذا القائل من البيان الخاص. "د".
4 أي: نازلًا بما قصده في هذه الدعوى إلى موضع الإهدار. "د".(9/91)
ص -402-…وهذا الرجل1 المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه "المسند الصحيح"، دون ما سواها2 مما نقله الأئمة سواه، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث، وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ3 موفيًا بالغرض في الباب، والله الموفق للصواب.
فصل:
وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا: إن القرآن لم ينبه عليها؛ فقوله, عليه الصلاة والسلام: "يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته..."4 إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه؛ فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدًا على رأيه في فهم القرآن، وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه، بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى، وقوله: "ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله"5 صحيح على الوجه المتقدم؛ إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه، وإما بالطريقة القياسية، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة.
ومن الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليت المصنف أشار إلى اسم هذا المؤلف؛ ليمكن العثور على ما صنعه؛ إذ إنه مبحث جدير بالاهتمام.
2 أي: فإذا كان لم يتم له غرضه في مقدار محدود من الأحاديث وهي أحاديث مسلم؛ فكيف يتم له غرضه إذا نظر إلى دواوين الحديث الأخرى؟ "د".
3 الأنظار الخمسة السابقة على هذا الأخير. "د".
4 مضى تخريجه "323".
5 هو قطعة من الحديث السابق، وف "ط": "مثل الذي حرم الله".(9/92)
ص -403-…ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وعن العقل1.
وأما فكاك الأسير؛ فمأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر، والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر، فهو مما يرجع إلى النظر القياسي.
وأما أن لا يقتل مسلم بكافر؛ فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
وقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وهذه الآية أبعد2، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودًا في القرآن على التنصيص أو نحوه3 لم يجعلها علي خارجة عن القرآن؛ حيث قال: "ما عندنا إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة"4؛ إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر، ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم؛ لأن الله تعالى قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"ط": "وعلى العقل"، وكتب "ف" في الهامش: "لعله "وعن العقل"، وهو المذكور في صحيفة علي, رضي الله عنه"، وفي "م" في الهامش: "العقل: الدية، سميت بذلك لأن الإبل المأخوذة كانت تعقل -أي: تربط- بفناء القتيل".
قلت: وقد مضى تخريج المحرمات المذكورة في كلام المصنف "ص355".
2 لأن محل نفي الاستواء قد بين في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر: 20]؛ فليس المراد ما يشمل عدم استوائهما في القصاص إذا تعدى بعضهم على بعض في الدنيا. "د".
3 أي: كما يؤخذ من دعوى انتزاع الحكم من الآيتين. "د".
4 مضى تخريجه "ص192".(9/93)
ص -404-…فلم يقد من الحر للعبد، والعبودية من آثار الكفر؛ فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر.
وأما إخفار ذمة المسلم؛ فهو من باب نقض العهد، وهو في القرآن1، وأقرب الآيات إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
وفي الآية الأخرى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 27].
وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن2.
وأما من تولى قومًا بغير إذن مواليه؛ فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل.
وأيضًا؛ فإن الانتفاء من ولاء3 صاحب الولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء، كما هو في الانتساب إلى غير الأب، وقد قال تعالى فيها: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
وصدق هذا المعنى ما في "الصحيح" من قوله: "أيما عبد أبق من مواليه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يرد عليه مثل اعتراضه المتقدم آنفًا، وأنه لو كان موجودًا في الكتاب على التنصيص أو نحوه؛ لم يجعلها علي -رضي الله عنه- خارجة عن القرآن، والاعتراض هنا أوجه؛ لأنه يقول: إنه من باب نقض العهد، أي: جزئي منه، وهو في آية: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ...} إلخ [الرعد: 25]، وينظر أيضًا لهذا النظر في قوله بعد: "فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل"؛ إلا أن يقال: إن هذا على وجه القياس أو غيره من الوجوه الأخرى. "د".
2 انظر "ص387".
3 في "م" و"ط": "ولاه" بالهاء في آخره.(9/94)
ص -405-…فقد كفر حتى يرجع إليهم"1.
وفيه: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة"2.
وحديث معاذ3 ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه؛ فهو مبين في السنة، وإلا؛ فالاجتهاد يقضي عليه، وليس فيه معارضة4 لما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 68" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 70" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "لم يتعرض للجواب عن أسنان الإبل الواردة في الصحيفة، وكذا لم يصرح بالجواب عن الاعتراض بالقضاء للزبير، وقد وعد به سابقًا؛ إلا أن يقال: إنه مندرج في النظر الرابع الراجع إلى القياس أو إلى الاجتهاد بإلحاق الواسطة المترددة بين الطرفين بأحدهما".
3 المتقدم "ص298".
4 لأن معاذًا لم ينف أصل كونه في القرآن عندما يلجأ للسنة، بل إنما يفيد كلامه أنه إذا لم يجد الحكم صريحًا مبينًا في الكتاب؛ يلجأ إلى السنة لتبينه، وإلا؛ فيبينه طريق الاجتهاد، هذا هو ظاهر كلامه، وهو جواب آخر الأسئلة في الاعتراض الثالث بالاستقراء. "د".(9/95)
ص -406-…المسألة الخامسة:
حيث قلنا: إن الكتاب دال على السنة، وإن السنة إنما جاءت مبينة له؛ فذلك بالنسبة1 إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف2, وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن؛ فعلى ضربين:
أحدهما: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن؛ فهذا لا نظر في أنه بيان له؛ كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]؛ قال: "دخلوا يزحفون على أوراكهم"3.
وفي قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]؛ قال: "قالوا: حبة في شعرة"4.
وفي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة: 143]؛ قال: "يدعى نوح فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد. فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلّغ؛ فذلك قول الله: {وَكَذَلِكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اطراده، وكليته إنما هي فيما كان راجعًا إلى التكليف، وأما ما عداه؛ فقد يكون كذلك، وقد لا يكون له أصل قريب في الكتاب؛ فلا يكون بيانًا له إلا على الوجه الأول من الوجوه السابقة، وستأتي الإشارة إليه في آخر المسألة. "د".
2 ويندرج فيه الأحكام الوضعية. "د".
3 مضى تخريجه "ص397".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص397".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "بفتح العين، وروي في شعيرة، أمر بنو إسرائيل أن يقولوا حطة؛ فبدلوا وزادوا على ذلك مستهزئين، وقالوا: حبة في شعرة أو شعيرة، وروي أنهم قالوا: حنطة بدل حطة، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب تفسير القرآن".(9/96)
ص -407-…جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]"1.
وفي قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، 6/ 371/ رقم 3339، كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، 8/ 171-172/ رقم 4487، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، 13/ 316/ رقم 7349"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 207/ رقم 2961"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 195، 197/ رقم 26، 27"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1432/ رقم 4284"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 454"، وأحمد في "المسند" "3/ 9, 12، 58"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 26"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 913"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1173، 1207"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 5، 6"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1719, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 268"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 464" و"البعث"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 123"، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري به، بألفاظ مختلفة، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي المطول.(9/97)
2 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 130"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 409، 411"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 226/ رقم 3001"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1433/ رقم 4287، 4288"، وعبد الله بن المبارك في "مسنده" "رقم 106"، وأحمد في "مسنده" "4/ 447 و5/ 3، 5"، ونعيم بن حماد في "زوائده على زهد ابن المبارك" "ص114"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "رقم 1156"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 84"، والطبراني في "الكبير" "19/ 422"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 104/ رقم 7621، 7622, ط شاكر"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 5"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 405"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 477 =(9/98)
ص -408-…وفي قوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]؛ "إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش...." إلى آخر الحديث1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 478" من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به بألفاظ متقاربة، وفي سائرها "تتمون"، وكذا في "م" و"ط" كما أثبتناه، وفي الأصل و"ف" و"ماء" و"د": "تتبعون"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "2/ 64" لابن المنذر وابن مردويه.
وإسناده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 225": "وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري، رجاله ثقات، وفي حديث علي عند أحمد بإسناد حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جعلت أمتي خير الأمم"".
قلت: وله شاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ضمن حديث فيه: "وإنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 61", وفيه علي بن زيد بن جدعان.(9/99)
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3/ 1502-1503/ رقم 1887"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 231/ رقم 3011"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 2/ 936-937/ رقم 2801"، وأبو عوانة في "المسند" "5/ 53، 54"، والحميدي في "المسند" "رقم 120"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2559, ط القديمة"، وعبد الرزاق "5/ 263/ رقم 9554"، وابن أبي شيبة "5/ 308-309"، وكلاهما في "المصنف"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 244"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 386"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 520"، والطبراني في "الكبير" "9/ 237-238"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 163"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 579" و"شرح السنة" "10/ 364", وابن عساكر في "الأربعين في الحث على الجهاد" "رقم 39" من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق؛ قال: سألنا عبد الله -أي: ابن مسعود- عن هذه الآية وذكرها؛ فقال: أما أنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش...".(9/100)
ص -409-…وقال: "ثلاث إذا خرجن {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158]: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها"1.
وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف: 172]؛ قال: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا2 من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب3! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك"4 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، 1/ 138/ رقم 158"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 264/ رقم 3072"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 107"، وأبو يعلى في "المسند" "11/ 31-32، 33/ رقم 6170، 6172"، وابن جرير في "التفسير" "8/ 103"، وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 الوبيص: البريق واللمعان، وفي الحديث: "أخذ العهد على الذرية، وأعجب آدم وبيص ما بين عيني داود, عليه السلام". "ف".
3 في "ط": "ربي".
4 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}، 1/ 506/ رقم 211"، وأحمد في "المسند" "1/ 272"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 202"، وابن منده في "الرد على الجهمية" "رقم 29"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 27 و2/ 544"، وابن جرير في "التفسير" "9/ 75 و13/ 222, ط شاكر" و"التاريخ" "1/ 134"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "1/ 518/ رقم 441 و714" من طريق حسين المروذي عن جرير بن حازم عن أبيه عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.(9/101)
وإسناده حسن، كلثوم من رجال مسلم، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات" "7/ 356"، ومع هذا قال النسائي عقب الحديث: "وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ".=(9/102)
ص -410-…وفي قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]؛ قال: "يرحم الله لوطًا، كان يأوي إلى ركن شديد؛ فما بعث الله من بعده نبيًّا إلا في ذروة من قومه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: يريد مرفوعًا، وإلا، فقد روي من طرق عديدة موقوفًا، قال ابن منده: "هذا حديث تفرد به الحسين المروذي عن جرير بن حازم، وهو أحد الثقات، ورواه حماد بن زيد [كما عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"]، وعبد الوارث [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"]، وابن علية [كما عند ابن سعد في "الطبقات" "1/ 29"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] وربيعة بن كلثوم [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 229"]، كلهم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، وكذلك رواه حبيب بن أبي ثابت [كما عند الآجري في "الشريعة" "211، 212"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 227" و"التاريخ" "1/ 67"]، وعلي بن بذيمة [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 228، 229]، وعطاء بن السائب [كما عند ابن جرير في "التفسير" "1/ 67، 68 و13/ 227 و228"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"]، كلهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله" انتهى كلام ابن منده، وما بين المعقوفتين من إضافاتي.
وذكر نحوه ابن كثير في "التفسير" "2/ 263 و3/ 501, ط الشعب"، وقال في آخره عن الموقوف: "فهذا أكثر وأثبت"، ونحوه في "البداية والنهاية" "1/ 90" له.
والموقوف له حكم الرفع، ولا سيما أن له شواهد عديدة؛ كما تراه في "السلسلة الصحيحة" "رقم 47-50 و848".(9/103)
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ......}، 6/ 415/ رقم 3375، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُف...}، 6/ 418/ رقم 3387، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ....}، 8/ 366/ رقم 4694"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، 1/ 133/ رقم 151، وكتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1839/ رقم 151" عن أبي هريرة، وأوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، وفيه: "ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد".
واللفظ الذي عند المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب =(9/104)
ص -411-…وقال: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن سورة يوسف، 5/ 293/ رقم 3116" من طريق الفضل بن موسى، وعبدة، وعبد الرحيم بن سليمان، وأخرجه الطحاوي في "المشكل" "1/ 136, ط القديمة و1/ 300/ رقم 330, ط المحققة" -من طريق عبد الرحيم- وتصحف في الطبعة القديمة إلى عبد الرحمن بن سليمان، وأحمد في "المسند" "2/ 332" من طريق محمد بن بشر، وأحمد في "المسند" "2/ 384"، وابن جرير في "التفسير" "12/ 53"، وتمام في "الفوائد" "4/ 253-254/ رقم 1441, الروض البسام"، والحاكم في المستدرك" "2/ 561" من طريق حماد بن سلمة، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 605" من طريق عبدة، وتمام في "الفوائد" "رقم 1442, الروض" من طريق محمد بن خالد الوهبي، كلهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وانفرد الفضل بقوله: "ذروة"، وقال الآخرون: "ثروة"، وقال الترمذي عقبه عن اللفظ الثاني: "وهذا أصح من رواية الفضل بن موسى، وهذا حديث حسن"، والمصنف ينقل عنه كعادته، ولم يلتفت إلى تصححه هذا؛ فنقله بلفظ "ذروة"، قال الترمذي وغيره: "قال محمد بن عمرو: الثروة: الكثرة والمنعة".
وإسناد الحديث حسن من أجل محمد بن عمرو. "استدراك 5".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 8/ 381/ رقم 4704" و"القراءة" "51"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3124 -والمذكور لفظه- والطيالسي في "المسند" "305"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأحمد في "المسند" "2/ 448"، وعلي بن الجعد في "المسند" "1016"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 47 و14/ 58، 59"، والدارقطني في "السنن" "1/ 312"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 78, ط قديمة"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 45" عن أبي هريرة مرفوعًا.(9/105)
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، 8/ 156-157/ رقم 4474، وباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّه....}، 8/ 307-308/ رقم 4647، وباب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 8/ 381/ رقم 4703"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2/ 139" و"فضائل القرآن" من "الكبرى" "رقم 73"، وغيرهم عن أبي سعيد بن المعلى مرفوعًا بنحوه.(9/106)
ص -412-…وفي رواية: "ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني"1.
وسأله اليهود عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]؛ ففسرها لهم2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3125"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2/ 139"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "37"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 114"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص116-117, ط وهبي"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "رقم 146"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 58، 59"، والواحدي في "أسباب النزول" "12"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 444/ 446"، والخطيب في "تاريخه" "4/ 364"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 252"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 467 و2/ 78"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 553"، والبيهقي في "السنن" "2/ 375" و"القراءة" "19، 52، 53، 54"، وابن النجار في "تاريخه" "1/ 169" من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به، وبعضهم يزيد عن أبي.
وإسناده حسن، وله طرق أخرى يصل بها إلى درجة الصحة.(9/107)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الاستئذان، باب ما جاء في تقبيل اليد والرجل، 5/ 77/ رقم 2733، وأبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، 5/ 305/ رقم 3144"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب السحر، 7/ 111-112"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، 2/ 1221/ رقم 3705, مختصرًا"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 562 و14/ 289"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 414-415" و"الجهاد" "2/ 649/ رقم 275"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1164"، وأحمد في "المسند" "4/ 239-240"، وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى في "تخريج الزيلعي للكشاف" "2/ 293"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 4-5"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 172-173"، والطبراني في "الكبير" "8/ 83/ رقم 7396"، والحاكم في=(9/108)
ص -413-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "المستدرك" "1/ 9"، والبيهقي في دلائل النبوة" "6/ 268"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 97-98"، والخطيب في "الموضح" "1/ 330-331، 332"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 187"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 130-131" من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن تسع آيات بينات؛ فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت". قال: فقبلوا يده ورجله. فقالا: نشهد أنك نبي، قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟" قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. لفظ الترمذي.
وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
قلت: وظاهر إسناده الصحة ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن سلمة اختلط، ورواية عمرو بن مرة عنه حال اختلاطه، وقد فصلت ذلك ولله الحمد في تعليقي على "الخلافيات" "2/ 17-20".
ولذا؛ فالحديث ضعيف، ولا طريق له إلا المذكور، قال العقيلي: "ولا يحفظ هذا الحديث من حديث صفوان بن عسال؛ إلا من هذا الطريق".(9/109)
وقد تفطن الإمام الحافظ ابن كثير إلى علة تقدح في هذا الحديث، وبين وهمًا وقع لعبد الله بن سلمة هذا فيه؛ فقال: "فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في "تفسيره" من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث مشكل، عبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعل اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم".
وقد أورد الزيلعي في "تخريج الكشاف" "2/ 293" إشكالين على الحديث؛ فقال: "والحديث فيه إشكالان:
أحدهما:
أنهم سألوا عن تسعة وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية أبي نعيم والطبراني؛ لأنهما لم يذكرا فيه السحر، ولا على رواية أحمد أيضًا؛ لأنه لم يذكر القذف مرة، وشك =(9/110)
ص -414-…وحديث موسى مع الخضر ثابت صحيح1.
وفي قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيم} [الصافات: 89]؛ قال: "لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث: قوله إني سقيم" الحديث2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أخرى؛ فيبقى المعنى في رواية غيرهم، أي: خذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم.
الإشكال الثاني: أن هذه وصايا في التوراة ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئًا، وتكلموا فيه وأن له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات؛ فاشتبه عليه بالتسع الآيات، فوهم في ذلك، والله أعلم".
ثم قال: "ورواه ابن مردويه في "تفسيره" كذلك بلفظ "السنن"".
1 مضى تخريجه مسهبًا في "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره، وانظر كتابنا: "من قصص الماضين في حديث سيد المرسلين" "ص21-45".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 388/ رقم 3357، 3358، وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1840/ رقم2371" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(9/111)
وكتب "ف" هنا ما نصه: "وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في زوجه سارة: هي أختي، وهذا من معاريض الكلام وإن في المعاريض لمندوحة كقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ قال: "من ماء"؛ حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه، ففهم السائل أنه بيان قبيلة، فسيدنا إبراهيم -عليه السلام- نظر نظرة في النجوم أوهمهم أنه ينظر فيها من حيث الأوضاع الفلكية التي يستدل بها على ما سيقع من الحوادث الكونية؛ فقال لهم: إني سقيم، وأراد أنه مستعد للسقم أو أنه سقيم القلب لكفرهم، والقوم توهموا أنه أراد قرب سقمه حيث لا يستطيع معهم الخروج إلى معبدهم، ولا يعد ذلك كذبًا في الحقيقة، وتسميته في بعض الأحاديث بالكذب بالنظر لما فهمه الغير منه لا بالنسبة لما قصده المتكلم".
قلت: وسيأتي في "ص442" تخريج قوله, صلى الله عليه وسلم: "من ماء".(9/112)
ص -415-…وقال: "إنكم محشورون إلى الله [عراة]1 غرلًا"2. ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء: 104]3.
وفي قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]؛ قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 الغرلة, بالضم: القلفة. "ف".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 386-387/ رقم 3349، وباب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}، 6/ 478/ رقم 3447، وكتاب التفسير، باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِم}، 8/ 286/ رقم 4625، وباب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك}، 8/ 286/ رقم 4626، وباب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}، 8/ 437-438/ رقم 4740، وكتاب الرقاق، باب الحشر، 11/ 377/ رقم 6524، 6525، 6526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، 4/ 2194-2195/ رقم 2860"، والترمذي في "جامعه" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر، 4/ 615-616/ رقم 2423، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء, عليهم السلام، 5/ 321-322/ رقم 3167"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز، باب البعث، 4/ 114، وباب ذكر ذكر أول من يكسى، 4/ 117" و"السنن الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 462-463/ رقم 180 و2/ 78/ رقم 357" عن ابن عباس مرفوعًا.(9/113)
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب التفسير، باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}، 8/ 441/ رقم 4741، وكتاب الرقاق، باب قوله, عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، 11/ 388/ رقم 6530، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ....}، 13/ 453/ رقم 7483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، 1/ 201-202/ رقم 222"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 80-81/ رقم 359"، وأحمد في "المسند" "3/ 32-33"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم =(9/114)
ص -416-…وقال: "إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 917"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 87"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 27" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا.
وفي الباب عن عمران بن حصين، أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 323-324/ رقم 3169" -والمذكور لفظه- والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 82/ رقم 360"، وأحمد في "المسند" "4/ 432، 435"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 111"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 28 و2/ 233، 385 و4/ 567" من طرق عن الحسن عن عمران به، قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأكثر أئمة البصرة على أن الحسن قد سمع من عمران، غير أن الشيخين لم يخرجاه".
قلت: الحسن مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالسماع؛ إلا أن ما قبله يشهد له، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي الدرداء وأنس وغيرهم.
وعزاه السيوطي في "الدر" "4/ 343" لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن عن عمران به.
1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 324/ رقم 3170"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 201"، والبزار في "مسنده" "2/ 45/ رقم 1165, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 389"، والطبراني في "الكبير" "رقم 262, قطعة من الجزء 13"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 125"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 151-152"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 268-269" من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا"، ثم أخرجه؛ فقال: ثنا قتيبة ثنا الليث عن عقيل عن الزهري به.(9/115)
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 152" من طريق حجاج عن ابن جريج عن الزهري مرسلًا.
وإسناد المرفوع ضعيف، قال البزار عقبه: "لا نعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بهذا الإسناد".
قلت: فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، قيل: ثقة مأمون، ضعفه الأئمة أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، كذا في "مجمع الزوائد" "3/ 296".(9/116)
ص -417-…وأمثلة هذا الضرب كثيرة.
والثاني:
أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي؛ فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على مواقع التكليف، وإنما أنزل القرآن لذلك1؛ فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج وقد جاء من ذلك نمط صالح في "الصحيح"2 كحديث أبرص وأقرع وأعمى3، وحديث جريج العابد4، ووفاة موسى5، وجمل من قصص الأنبياء -عليهم السلام- والأمم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال ابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 274-275/ رقم 810": "سألت أبي عن حديث رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة..."، وذكره مرفوعًا، ثم قال: "قال أبي: هذا خطأ، رواه معمر عن الزهري عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير موقوفًا، ورواه الليث..."، وساقه من الطريق التي ذكرناها، ثم قال: "قال أبي: حديث معمر عندي أشبه؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوع".
1 أي: أن هذا هو المقصود الأول من الكتاب، كما سبق بيانه في المسألة السابعة من الطرف الثاني. "د".
2 في "البخاري" من هذا النوع طائفة صالحة، تجدها في كتاب التفسير منه، وكتاب بدء الخلق، وكتاب أحاديث الأنبياء. "د".
3 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، 6/ 500-501/ رقم 3464، وكتاب الأيمان والنذور، باب لا يقول ما شاء الله وشئت وهل يقول: أنا بالله ثم بك، 11/ 540/ رقم 6653"، و"صحيح مسلم" "كتاب الزهد والرقائق، باب منه، 4/ 2275-2277/ رقم 2964" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(9/117)
4 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب 48، 6/ 476/ رقم 3436، وباب 54، 6/ 511/ رقم 3466"، و"صحيح مسلم" "كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، 4/ 1976/ رقم 2550"، و"مسند أحمد" "2/ 307 و308 و358 و395 و433"، و"مجابي الدعوة" "رقم 1"، و"الآداب" "رقم 1079" للبيهقي، و"مسند أبي يعلى" "11/ 178-179/ رقم 6289" عن أبي هريرة به.
5 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة =(9/118)
ص -418-…قبلنا1، مما لا ينبني عليه عمل، ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني، وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب؛ فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع؛ فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول2، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو نحوها، 3/ 206/ رقم 1339، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى, عليه السلام، 6/ 440/ رقم 3407"، و"صحيح مسلم" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى, عليه السلام 4/ 1842/ رقم 2372"، و"المجتبى" للنسائي "4/ 118 و119"، و"مسند أحمد" "2/ 269 و533"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 274-275/ رقم 20530 و20531"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 599، 600"، و"صحيح ابن حبان" "8/ 38/ رقم 6190, الإحسان"، و"شرح السنة" "5/ 265-266/ رقم 1451"، و"صحيفة همام بن منبه" "رقم 60".
1 تجد هذه الأحاديث -ومنها ما أشار إليه المصنف آنفًا- مع تخريجها وبيان غريبها والفوائد المستنبطة منها في كتابي "من قصص الماضين"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
2 وهو ما كان مبينًا للكتاب؛ لأنه خادم لمقصود الكتاب. "د".(9/119)
ص -419-…المسألة السادسة:
السنة ثلاثة أنواع كما تقدم: قول، وفعل1، وإقرار بعد العلم والقدرة على الإنكار لو كان منكرًا.
فأما القول؛ فلا إشكال فيه ولا تفصيل.
وأما الفعل؛ فيدخل تحته الكف عن الفعل2؛ لأنه فعل عند جماعة، وعند كثير من الأصوليين أن الكف غير فعل، وعلى الجملة؛ فلا بد من الكلام على كل واحد منهما3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما فرق به بين القول والفعل, أن الفعل لا يعارض فعلًا آخر؛ فلا ينسخه ولا يخصصه؛ لأنه لا عموم للأفعال، فلا يعقل التعارض بينها، وإنما يعقل بين الفعل والقول كما يعقل بين الأقوال. "د".
2 أي: ترك الفعل مطلقًا أو ترك الفعل المنهي عنه لأنه الذي اختلف في كونه فعلًا أو غير فعل؛ فالجمهور على أنه فعل، وهو الكف أي الانصراف عن المنهي عنه، مع سبق الداعية إليه أو يدونها؛ فيشمل نهي المعصوم أو هو فعل الضد للمنهي عنه، وقال قوم منهم أبو هاشم المعتزلي: مقتضى النهي الترك، أي عدم الفعل، وهو انتفاء المنهي عنه هذا هو المشهور عند الأصوليين وإن كان تركه -صلى الله عليه وسلم- لا يتقيد بكونه تركًا لخصوص المنهي عنه كما سيأتي. "ف".
قلت: انظر في تحقيق أن الترك المقصود فعل: "جمع الجوامع" "1/ 214, مع شروحه"، و"شرح مختصر ابن الحاجب" "2/ 13، 14"، و"المستصفى" "1/ 90"، و"الإحكام" "1/ 112"، و"إرشاد الفحول" "ص91"، و"أصول السرخسي" "1/ 79-80"، وانظر في عدم الالتفات إلى الترك غير المقصود: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "21/ 313-314"، وانظر في الترك وأقسامه وأحكامه: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 45-70" للشيخ محمد الأشقر، و"أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودلالتها على الأحكام" "ص207-227" للدكتور محمد العروسي عبد القادر, ط دار المجتمع، جدة، سنة 1404هـ, ط الأولى.
3 أي: الفعل والكف. "د".(9/120)
ص -420-…فالفعل منه1 -صلى الله عليه وسلم- دليل على مطلق الإذن فيه2 ما لم يدل دليل على غيره3؛ من قول، أو قرينة حال، أو غيرهما، والكلام هنا مذكور4 في الأصول، ولكن الذي يخص هذا الموضع أن الفعل منه أبلغ في باب التأسي والامتثال من5 القول المجرد، وهذا المعنى وإن كان محتاجًا إلى بيان؛ فقد ذكر ذلك في فصل البيان والإجمال وكتاب الاجتهاد من هذا الكتاب، والحمد لله.
وأيضًا؛ فإنه وإن دل الدليل أو القرينة على خلاف مطلق الإذن؛ فلا يخرج عن أنواعه، فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب والمباح؛ ففعله -عليه الصلاة والسلام- لا يخرج عن ذلك؛ فهو إما واجب أو مندوب أو مباح، وسواء علينا أكان ذلك في حال أم كان مطلقًا؛ فالمطلق كسائر المفعولات6 له، والذي في حال كتقريره للزاني إذ أقر عنده؛ فبالغ في الاحتياط عليه7 حتى صرح له بلفظ الوطء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد به ما قابل الكف واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا؛ كما يدل عليه بيانه بعد "ف".
2 أي: غير مقيد بكونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، واتخاذ ذلك يفهم من دليل آخر كما قال، وليس مراده أن فعله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك يكون غير مأذون فيه كما بينه بعد. "ف".
3 أي: على غير الإطلاق، بأن دل على تعيين نوع الإذن من وجوب أو ندب أو إباحة، كما يشير إليه بعد. "د".
4 واختلفوا فيه على أربعة أقوال، والآمدي اختار أنه إن لم يظهر فيه قصد القربة؛ فهو دليل على القدر المشترك بين الثلاثة، وإن ظهر؛ فهو دليل على المشترك بين الواجب والمندوب، وابن الحاجب قال: "إن ظهر قصد القربة؛ فالمختار أنه للندب، وإلا؛ فللإباحة". "د".
5 في "م": "عن".
6 أي: غير الطبيعة الجبلية؛ فإنه لا نزاع في كونها للإباحة لا غير. "د".
7 حيث ردد الكلام معه وشدد عليه فيه حتى صرح... إلخ؛ ففعل هذا مأذون فيه في حال دون حال. "ف".(9/121)
ص -421-…الصريح1، ومثله في غير هذا المحل منهي عنه؛ فإنما جاز لمحل الضرورة، فيتقدر بقدرها بدليل النهي عن التفحش مطلقًا2، والقول هنا فعل3؛ لأنه معنى تكليفي4 لا تعريفي؛ فالتعريفي هو المعدود في الأقوال، وهو الذي يؤتى به أمرًا أو نهيًا أو إخبارًا بحكم شرعي، والتكليفي هو الذي لا يعرف بالحكم بنفسه من حيث هو قول، كما أن الفعل كذلك.
وأما الترك5؛ فمحله في الأصل غير المأذون فيه، وهو المكروه والممنوع؛ فتركه -عليه الصلاة والسلام- دال على مرجوحية الفعل، وهو إما مطلقًا وإما في حال؛ فالمتروك مطلقًا ظاهر، والمتروك في حال كتركه الشهادة6 لمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "أنكتها"، كما في "صحيح البخاري" "رقم 6824"، وقد مضى تخريجه "ص117".
2 أورد البخاري في "صحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452" عدة أحاديث فيها النهي عن الفحش، أصرحها برقم "6030" من حديث عائشة -رضي الله عنها- فيه: "وإياك والعنف والفحش".
3 أي: فالفعل في هذا المقام أم مما تعورف عليه في مقابلة القول بالفعل؛ فلذا عد تقريره للزاني فعلًا. "د".
4 التكليف متعلق بالشرع، ومسألة الفرق بين "القول" و"الفعل" لغوية محضة، والاختلاف المذكور بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم؛ فلو عبر بقوله: "الوجه الفعلي للقول"؛ لكان أوضح، أفاده الشيخ محمد الأشقر في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 36"، وله كلام جيد في التفريق بين الوجه العباري والوجه الفعلي للقول، وانظر: "إحكام الأحكام" "1/ 10"، و"تيسير التحرير" "1/ 249"، و"المعتمد" "1/ 387 و2/ 1006"، و"الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ص75".
5 أي: المعبر عنه بالكف سابقًا، وإن كان بينهما اختلاف في المعنى عندهم. "د".(9/122)
6 أي: تحملها؛ لأن تحمل الشهادة فيما ليس بمباح مكروه، وليس المراد أداء الشهادة؛ لأن كتمان الشهادة لا يجوز مطلقًا، وفي رواية قال: "لا رجعة"، وعليها يكون قد أبطل الهبة رأسًا، فترك الشهادة لعدم وجود محلها إما على رواية "أشهد غيري"؛ فإن محل الشهادة موجود، ولكنه مرجوح ومكروه، فلم يشهد عليه، مع بقائه نافذًا فيكون مما نحن فيه، وبعد؛ فإنما صح له التمثيل بهذا للمتروك في حال؛ لأنه أخذ الشهادة مطلقة، لكنه لو أخذ نوعًا منها وهو الشهادة على نحلة بعض الأولاد دون بعض؛ لكان من قبيل المتروك مطلقًا. "د".(9/123)
ص -422-…نحل بعض ولده دون بعض1؛ فإنه قال: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: فأشهد غيري؛ فإني لا أشهد على جور"2، وهذا ظاهر3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وهبه دون الآخر، والنحل, بالضم: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، والاسم: النحلة, بالكسر. "ف".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، 5/ 258/ رقم 2650"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1243/ رقم 1623" وغيرهما عن النعمان بن بشير بهذا اللفظ.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب الهبة للولد، 5/ 211/ رقم 2586"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1241/ رقم 1623"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب الرجل يفضل بعض ولده في النحل، 3/ 811/ رقم 3542"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في النحل والتسوية بين الولد، 3/ 649/ رقم 1367"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النحل، باب اختلاف الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل، 6/ 258-259، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده، 2/ 795/ رقم 2375"، ومالك في "الموطأ" "2/ 751"، وأحمد في "المسند" "4/ 268" عن النعمان بألفاظ، منها: "فارتجعه"، ومنها: "فاردده".
3 أي: أن تطبيق قاعدة الترك على غير المأذون سواء أكان من المتروك مطلقًا الذي لا يحتاج إلى جلب أمثلة له، أم من المتروك في حال كمثال النحلة ظاهر؛ لأن الأصل فيما تركه أنه غير مأذون فيه، إلا أن هناك أمورًا وقع تركها مع كونها مأذونًا فيها، وهي في ظاهرها تخرج عن هذه القاعدة؛ فذكر هذه الأمور التي تركها -صلى الله عليه وسلم- وهي مأذون فيها، وذكر أسباب الترك، ثم عاد فحللها ورجعها إلى القاعدة، وبين أنها لتلك الأغراض صارت غير مأذون فيها سوى أولها؛ فليس فيه ترك أصلًا. "د".(9/124)
ص -423-…وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم:
- منها: الكراهية طبعًا؛ كما قال في الضب وقد امتنع من أكله: "إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه"1؛ فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة2، ولا حرج فيه.
- ومنها: الترك لحق الغير؛ كما في تركه أكل الثوم والبصل لحق الملائكة3، وهو ترك مباح لمعارضة حق الغير.
- ومنها: الترك خوف الافتراض؛ لأنه كان يترك العمل [وهو يحب أن يعمل]4 به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك القيام في المسجد في رمضان5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
2 انظر تفصيلًا في الفعل الجبلي الصادر منه -صلى الله عليه وسلم- ومتى يكون مندوبًا في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 219-236" للأستاذ محمد الأشقر.
3 روي في "التيسير" عن الخمسة أنه -صلى الله عليه وسلم- أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسأل عنها، فأخبر بما فيها من البقول، فأشار إليهم أن يقدموها إلى بعض أصحابه، فلما رآه أكلها؛ قال له: "كل فإني أناجي من لا تناجي"، وهذا أوضح في التمثيل للمسألة السابعة من مثال العسل الآتي له. "د". قلت: وقد مضى تخريجه "ص115"، وذكرت جملة من الأحاديث في هذا الباب مع تخريجها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان" "ص107-113".
4 سقط من "ط".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة مرفوعًا، وفيه: "فإنه لم يخف علي شأنكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها".(9/125)
ص -424-…وقال: "لولا أن أشق1 على أمتي لأمرتهم بالسواك"2، وقال لما أعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان: "لولا أن أشق3 على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة"4.
- ومنها: الترك لما لا حرج في فعله بناء على أن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل؛ كإعراضه عن سماع غناء الجاريتين في بيته5، وفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 و3 جعل هذين مما تركه خشية الافتراض فيه نظر؛ لأنه لم يصرح فيه إلا بمجرد خوف المشقة إذا أمرهم به، ولو بتأكد الطلب على جهة الفضيلة، ولا يلزم أن تكون المشقة متوقفة على الطلب المحتم، نعم، فسر بعضهم قوله: "لأمرتهم"؛ فقال: أي أمر إيجاب؛ فهو جارٍ على مقتضى هذا التفسير.
2 ورد عن جمع من الصحابة، وعد متواترًا، انظر: "صحيح البخاري" "كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، 2/ 374/ رقم 887"، و"صحيح مسلم" "كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 220"، وقد خرجت غير حديث باللفظ المذكور في تحقيقي لرسالة الشيخ علي القاري "معرفة النساك في معرفة السواك" "رقم 1-8".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غلب، 2/ 50/ رقم 571، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224/ رقم 7239"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، 1/ 444/ رقم 642" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.(9/126)
5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 949، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، 2/ 445/ رقم 952، وباب إذا فاتته العيد يصلي ركعتين، 2/ 474/ رقم 987، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94/ رقم 2906، وكتاب المناقب، باب قصة الحبشة، 6/ 553/ رقم 3529، وكتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب المدينة، 7/ 264/ رقم 3931"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 607-608/ رقم 892" عن عائشة؛ قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني, وقال: مزمارة الشيطان عند النبي, صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه =(9/127)
ص -425-…الحديث: "لست من دد ولا دد مني"1، والدد: اللهو، وإن كان مما لا حرج فيه؛ فليس كل ما لا حرج فيه يؤذن فيه، وقد مر الكلام فيه في كتاب الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما فخرجتا. لفظ البخاري.
وانظر في شرح الحديث بما يوافق استدلال المصنف به في "مجموعة الرسائل" "3/ 201"، ومجموع الفتاوى" "11/ 565، 569"، و"تلبيس إبليس" "237-238"، و"غاية المرام" "226-227" لشيخنا الألباني، و"المدخل" "3/ 109" لابن الحاج، و"الإعلام بأن العزف حرام" "ص40" لأبي بكر الجزائري.
1 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 785"، والبزار في "مسنده" "3/ 129/ رقم 2402, زوائده"، والطبراني في "الأوسط" "1/ 262/ رقم 415"، والدولابي في "الكني" "1/ 179"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 217"، و"الآداب" "رقم 925, ط عطا ورقم 904, ط عبد القدوس"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2698" من طريق يحيى بن محمد بن قيس أبي زكير عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعًا، وفي آخره: "قال يحيى بن قيس بن عقبة: يعني: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال البيهقي عقبه: "قال علي بن المديني: سألت أبا عبيدة -صاحب العربية- عن هذا؛ فقال: يقول: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال: "وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الدد هو اللعب واللهو".
قال البزار: "لا نعلمه يروى إلا عن أنس، ولا نعلم رواه عن عمرو إلا يحيى بن محمد بن قيس".
قلت: وكلامه متعقب بما يأتي.
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو إلا أبو زكير".
قلت: وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن محمد بن قيس، وقد وثق، ولكن ذكر هذا الحديث من منكراته، والله أعلم، وقال الذهبي: "قد تابعه عليه غيره"، قاله الهيثمي في "المجمع" "8/ 225".(9/128)
وأعله ابن عدي بيحيى أيضًا، وقال: "عامة رواياته مستقيمة إلا هذا الحديث، وهو يعرف به"، وأورده العقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 427" في ترجمة يحيى المذكور، وقال: "وقد تابعه عليه من هو دونه". =(9/129)
ص -426-…- ومنها: ترك المباح الصرف1 إلى ما هو الأفضل؛ فإن القسم لم يكن لازمًا لأزواجه في حقه، وهو معنى قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية [الأحزاب: 51] عند جماعة من2 المفسرين، ومع ذلك؛ فترك ما أبيح له إلى القسم الذي هو أخلق بمكارم أخلاقه، وترك3 الانتصار ممن قال4 له: اعدل؛ فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، ونهى من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 343-344/ رقم 794" من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن معاوية رفعه.
قال الهيثمي في "المجمع" "8/ 226": "رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن نصر الترمذي عن محمد بن عبد الوهاب الأزهري، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات".
قلت: محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ترجمه الخطيب في "التاريخ" "1/ 365"، والسبكي في "طبقاته" "2/ 187-188"، وابن حجر في "لسان العرب" "5/ 49"، وهو ثقة، إلا أنه اختلط.
وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، رواه عن الدراوردي، قال أبو حاتم: "منكر الحديث، يتكلمون فيه"، وقال أبو نعيم: "متروك، والراوي عنه محمد بن عبد الوهاب الذي جهله الهيثمي، ولم أظفر له بترجمة"، قال ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 266/ رقم 2295" بعد أن ذكر حديث أنس ومعاوية: "قلت لأبي زرعة: أيهما عندك أشبه؟ قال: الله أعلم، ثم تفكر ساعة، فقال: حديث الدراوردي أشبه، وسألت أبي؛ فقال: حديث معاوية أشبه".
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "2/ 366".
1 أي: الخالص. "ماء".
2 وحمله بعضهم على الطلاق والإمساك، أعني: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وحمله بعضهم على الأمرين جميعًا. "د".
3 في "ف" و"م": "وتركه".
4 هو ذو الخويصرة، وكان من المنافقين، قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي, رضي الله عنه. "د".(9/130)
ص -427-…أراد قتله1، وترك قتل المرأة التي سمت له الشاة2، ولم يعاقب عروة بن الحارث إذ أراد الفتك به، وقال: من يمنعك مني؟ الحديث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744-745/ رقم 1064" عن أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، 7/ 497/ رقم 4249، وكتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي, صلى الله عليه وسلم 10/ 244-245/ رقم 5777" عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، 5/ 230/ رقم 2617"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب السم، 4/ 1720/ رقم 2190" عن أنس -رضي الله عنه- وفيه: "ألا نقتلها؟". قال: لا. وفي رواية للبيهقي: "أنه أمر بقتلها".
قال "د": "ويجمع من الروايات بأنه عفا عنها لحق نفسه، فلما مات من أكلها بشر بن البراء -وهو ابن معرور- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلها قصاصًا". وقد مضى عند المصنف "2/ 461"، وتخريجه هناك أيضًا.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجرة في السفر عند القائلة، 6/ 96/ رقم 2910، وباب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، 6/ 97/ رقم 2913، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 7/ 426/ رقم 4134"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب منه، 4/ 1787/ رقم 843" عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.(9/131)
ووقع اسم الأعرابي أو الرجل الذي أراد أن يفتك به -صلى الله عليه وسلم- في "ف" و"م" و"د" و"ماء": "عروة" وهو خطأ، والصواب ما ذكرناه، ووقع في الأصل و"ط" على الجادة، ودليله ما ذكره البخاري في "صحيحه" "7/ 426/ رقم 4136" عقب حديث جابر: "وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل: غورث بن الحارث"، ووقع مسمى هكذا في "مسند أحمد" "3/ 364-365"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 238/ رقم 2504, ط الأعظمي"، و"غريب الحديث" للحربي "1/ 307-308"، و"دلائل النبوة" "3/ 373، 375، 376" للبيهقي.(9/132)
ص -428-…- ومنها: الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب؛ كما جاء في الحديث عن عائشة: "لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض"1، وفي رواية: "لأسست البيت على قواعد إبراهيم"2، ومنع من قتل أهل النفاق، وقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"3.
وكل هذه الوجوه قد ترجع إلى الأصل المتقدم4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439/ رقم 1584" -والمذكور لفظه- ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2/ 968-969/ رقم 1333" عن عائشة, رضي الله عنها.
2 ورد نحوه في "الصحيحين" -كما في المواطن السابقة- وفي "مسند إسحاق بن راهويه" "رقم 7": "ووضعته على أساس إبراهيم"، و"رقم 8": "لبنيت البيت على قواعد إبراهيم"، و"رقم 671": "وبنيته على أساس إبراهيم"، وكذا في "المجتبى" للنسائي "5/ 215" من طريقه، وفي رواية أخرى له: "فبلغتُ به أساس إبراهيم, عليه السلام"، ونحو هذه الألفاظ في "مسند أحمد" "6/ 57، 239".
والحديث عند علي بن الجعد في "المسند" "رقم 2525"، و"جامع الترمذي" "رقم 875"، وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 6/ 546/ رقم 3518، وكتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}، 8/ 653/ رقم 4907" عن جابر, رضي الله عنه.
4 وهو أن الترك محله غير المأذون فيه، والمؤلف في رده هذه الأمور إلى القاعدة تارة يلاحظ الفعل فيجعله منهيًّا عنه، وتارة يلاحظ الترك فيجعله مطلوبًا، وهما متلازمان، وإنما هو التنويع في التعبير. "د".(9/133)
ص -429-…أما الأول؛ فلم يكن في الحقيقة من هذا النمط لأنه ليس بترك بإطلاق1، كيف وقد أكل على مائدته, عليه الصلاة والسلام؟
وأما الثاني؛ فقد صار في حقه التناول ممنوعًا أو مكروهًا لحق2 ذلك الغير، هذا في غير مقاربة المساجد، وأما مع مقاربتها والدخول فيها؛ فهو عام3 فيه وفي الأمة؛ فلذلك نهى آكلها عن مقاربة المسجد، وهو راجع إلى النهي عن أكلها لمن أراد مقاربته.
وأما الثالث؛ فهو من الرفق المندوب إليه؛ فالترك هنالك مطلوب، وهو راجع إلى أصل الذرائع إذا كان تركًا لما هو مطلوب خوفًا مما هو أشد منه، فإذا رجع إلى النهي عن المأذون فيه خوفًا من مآل لم يؤذن فيه؛ صار الترك هنا مطلوبًا.
وأما الرابع؛ فقد تبين4 فيه رجوعه إلى المنهي عنه.
وأما الخامس؛ فوجه النهي المتوجه على الفعل حتى حصل الترك أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يعد تركًا رأسًا؛ لأن إقراره كفعله سواء، وقد أقر أكله على مائدته، وأيضًا؛ فهو جبلي لا يدخل في الباب رأسًا كما تقدمت الإشارة إليه. "د".
2 أي: وهو أمر مستمر ومطلق لا يخص حالًا دون حال. "د".
3 كما ورد في الحديث: "من أكل ثومًا أو بصلًا؛ فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"، أخرجه في "التيسير" عن الخمسة. "د".
قلت: أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 567" عن عمر، ورقم "563" عن أبي هريرة، ورقم "565-566" عن أبي سعيد، والبخاري في "صحيحه" "2/ 339/ رقم 853"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 561" عن ابن عمر، والبخاري "2/ 339/ رقم 856 و9/ 575/ رقم 5451"، ومسلم "رقم 562" عن أنس, رضي الله عنه.
4 أي: في مبحث المباح، وأن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل؛ فلذلك قال: "تبين رجوعه"، ولم يقل: إنه منهي عنه. "د".(9/134)
ص -430-…الرفيع المنصب مطالب بما يقتضي منصبه، بحيث يعد خلافه منهيًّا عنه وغير لائق به، وإن لم يكن كذلك في حقيقة الأمر، حسبما جرت به العبارة عندهم في قولهم: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"1، إنما يريدون في اعتبارهم لا في حقيقة الخطاب الشرعي، ولقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان بعد القسم على الزوجات وإقامة العدل على ما يليق به يعتذر إلى ربه ويقول: "اللهم! هذا عملي فيما أملك؛ فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك"2، يريد بذلك ميل القلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قدمناه "3/ 548".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، 3/ 446/ رقم 1140"، وأبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242/ رقم 2134"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، 7/ 64"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، 1/ 633/ رقم 1971"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386-387"، وأحمد في "المسند" "6/ 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1370, مسند عائشة"، وابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 425"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 5/ رقم 4205, الإحسان"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 88"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 187"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 298" من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة به.
ورجاله ثقات، واختلف في رفعه ووصله، وانفرد حماد بن سلمة في وصله، وأرسله غيره.
قال النسائي بإثره: "أرسله حماد بن زيد"، وقال الترمذي عقبه: "ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة".(9/135)
وقال ابن أبي حاتم: "فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا"، وقال: "قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه..." الحديث مرسل".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386" من طريق ابن علية التي ذكرها ابن أبي حاتم. =(9/136)
ص -431-…إلى بعض الزوجات دون بعض؛ فإنه أمر لا يملك، كسائر الأمور القلبية التي لا كسب للإنسان فيها أنفسها.
والذي يوضح هذا الموضع -وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها- قصة نوح وإبراهيم -عليهما السلام- في حديث الشفاعة1، وفي اعتذار نوح -عليه السلام- عن أن يقوم بها، بخطيئته وهي دعاؤه على قومه, ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من إيمانهم، قالوا2: وبعد قول الله له: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وهذا يقضي3 بأنه دعاء مباح؛ إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا؛ إذ كان الأولى الإمساك عنه، وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته، وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"4؛ فعدها كذبات وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويشهد لما ذكره المصنف أولًا ما أخرجه أبو داود في "السنن" كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242-243/ رقم 2135"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 186"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 74" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس؛ حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها". وإسناده حسن.
1 انظره بطوله في "صحيح البخاري" "كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417-418/ رقم 6565"، و"صحيح مسلم" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1/ 180-181/ رقم 193".(9/137)
2 كأنه يحتاج عنده إلى تثبت، وسيأتي له أن قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} [نوح: 27]، إنما كان بوحي، وأنه هو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوح...} إلخ [هود: 36]؛ أي: يستلزمه، إلا أن كل هذا وإن أفاد أن دعاءه اقترن بما هو في معنى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك...} إلخ [هود: 36]؛ فهو لا يعتبر أنه ما دعا إلا بعد ما نزل عليه ذلك صريحًا، بل هذا القدر محتاج للإثبات. "د".
3 في "ط": "يقتضي".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص414" وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(9/138)
ص -432-…كانت تعريضًا اعتبارًا بما ذكر.
والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم1 في دليل الكتاب أن كل قضية لم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها؛ فهي صحيحة صادقة، فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه؛ فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم، ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي، بل حكى أنه قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الآية [نوح: 27].
ومعلوم أنه -عليه السلام- لم يقل ذلك إلا بوحي من الله؛ لأنه غيب، وهو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36].
وكذلك قال تعالى في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89].
ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب، ولا مخالفة أمر ولا نهي، ومثله قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]؛ فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ولا إشارة إلى عتب، بل جاء في الآية الأولى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]، وهو غاية في المدح بالموافقة، وهكذا سائر المساق إلى آخر القصة.
وفي الآية الأخرى قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ...} [الأنبياء: 51] إلى آخرها؛ فتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ص160".(9/139)
ص -433-…الحق من غير زيادة؛ فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق، ومع ذلك؛ فقد قال محمد, صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"1، وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره2، وكذلك نوح؛ فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل3 مخالفة أمر الله، بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة؛ فكذلك قصة محمد -عليه الصلاة والسلام- في مسألة القسم4.
وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه، ولولا الإطالة؛ لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء -عليهم السلام- ما ينشرح له الصدر، وتطمئن إلى بيانه النفس، مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية، والله المستعان.
وفي آخر5 فصل الأوامر والنواهي أيضًا مما يتمهد به هذا الأصل، وقد حصل من المجموع أن الترك هنا6 راجع إلى ما يقتضيه النهي، لكن النهي الاعتباري.
وأما السادس؛ فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص414"، وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة.
2 وهو قوله: "وإني كنت كذبت... إلخ"، وكذلك نوح إذ يقول: "إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي". "د".
قلت: ورد ذلك في حديث الشفاعة المشار إليه آنفًا، وهو في "الصحيحين".
3 في "م": "قبيل".
4 والحديث مرسل وليس بصحيح، كما بيناه قريبًا "ص430".
5 في المسألة الثامنة عشرة، وفيها أنه إذا رجع الأمر إلى الأصل والنهي إلى المآل يكون من باب سد الذرائع، وقوله: "هذا الأصل"؛ أي: وهو أن الترك محله في الأصل غير المأذون فيه، وتمهيده للوجه الثالث منه ظاهر، ولو ذكر هذا هناك؛ لكان أوضح. "د".
6 أي: في الوجه الخامس. "د".(9/140)
ص -434-…تعارض مفسدتين؛ إذ يطلب الذهاب إلى الراجح، وينهى عن العمل بالمرجوح، والترك هنا هو الراجح؛ فعمل عليه.
فصل:
وأما الإقرار1 فمحمله2 على أن لا حرج في الفعل الذي رآه -عليه السلام- فأقره، أو سمع به فأقره، وهذا المعنى مبسوط في3 الأصول، ولكن الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تثبيته لأحد على شيء. "ماء".
2 في "ماء": "فمحله".
3 وحاصله أنه إذا علم بفعل وإن لم يره، فسكت قادرًا على إنكاره، فإن كان معتقد كافر يعلم إنكاره له -صلى الله عليه وسلم- فلا أثر لسكوته لأنه يعلم أن لا ينتفع بالإنكار في الحال، وإن لم يكن معتقد كافر، فإن سبق تحريمه بعام يكون الفعل الذي أقره نسخًا للتحريم أو تخصيصًا له به، على الخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، وإلا بأن لم يسبق التحريم؛ فدليل الجواز حتى لا يكون فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير واقع في الشريعة، فإذا استبشر بالفعل؛ فأولى أن يدل على الجواز، إلا أن يدل دليل على أن هذا الاستبشار لأمر آخر اقترن بالفعل لا لنفس الفعل؛ فعند ذلك يختلف القول في اعتبار سكوته واستبشاره تقريرًا لأصل المسألة وأحقيتها، أو يجعل السكوت والاستبشار غير إقرار ولا موجب لأحقية أصل المسألة، كما في مسألة المدلجي لما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما، وقد بدت أقدامهما؛ فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، وكان أسامة مثل الليل، وزيد مثل القطن؛ فأثبت الشافعي صحة النسب بالقيافة ومنعها الحنفية، ولكل منهما حجته ورده على الآخر، وإنما نقلنا هذه النبذة لتساعد على فهم المقام. "د".(9/141)
قلت: وتجد كلامًا عن القيافة في "الطرق الحكمية" لابن القيم، وتعليقنا عليه، ومضى تخريج حديث: "إن هذه الأقدام..." في "ص75"، وهو صحيح، وانظر بسط موضوع "الإقرار" في: "التمهيد" "1/ 11 وما بعدها" للكلوذاني، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"الإحكام" "1/ 169" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"التفتازاني على ابن الحاجب" "2/ 22"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"إعلام الموقعين" "2/ 387 وما بعدها".(9/142)
ص -435-…يخص الموضع هنا أن ما لا حرج فيه جنس لأنواع: الواجب، والمندوب، والمباح بمعنى المأذون فيه1 وبمعنى أن لا حرج فيه، وأما المكروه؛ فغير داخل تحته2 على ما هو المقصود؛ لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة3 الفعل للترك، والمكروه لا يصح فيه ذلك؛ لأن الفعل المكروه منهي عنه، وإذا كان كذلك؛ لم يصح السكوت عنه، ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء؛ فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة4 تقترن به، فإذا لم يكن ثَمَّ قرينة ولا تعريف5 أوهم ما هو أقرب إلى الفهم، وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق، والمكروه ليس كذلك.
لا يقال: فيلزم مثله في الواجب والمندوب؛ إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج، وليسا كذلك؛ لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله, والمندوب مأمور بفعله، وجميع ذلك زائد6 على مطلق رفع الحرج؛ فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار، وقد زعمت أنه7 داخل، هذا خلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتبط بالمباح إشارة إلى إرادة معنييه السابقين في مبحث المباح. "ف".
2 أي: تحت ما لا حرج فيه الذي هو محمل الإقرار الشامل للأنواع الثلاثة. "ف".
3 أي: على الأقل، حتى يدخل الواجب والمندوب، ثم يقال: وهل هذه العبارة تسع دخول المباح, بمعنى ما لا حرج فيه على تفسيره له سابقًا؟ "د".
4 أي: زيادة من شأنها أن تصرف السكوت إلى غير معنى الإقرار. "د".
5 أي: ولا قول يفيد غير الإذن. "د".
6 أي: ينافي مطلق رفع الحرج، يرشدك إلى ذلك قوله: "للموافقة بينهما" المقتضي أن أصل الاعتراض بالتنافي بين عدم الحرج, وبين مفهوم الواجب والمندوب. "د".
7 الأنسب: "أنهما داخلان". "د".(9/143)
ص -436-…لأنا نقول: بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب1 لازم للموافقة بينهما؛ لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدًا من جهة الفعل، ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما، بخلاف المكروه؛ فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك، لا من جهة الفعل، و"أن لا حرج"2 راجع إلى الفعل؛ فلا يتوافقان، وإلا؛ فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل؟
فإن قيل: من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل، ومعنى كونه معفوًّا عنه هو معنى عدم الحرج فيه، وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام.
قيل: كلا، بل المراد هنا غير المراد هنالك؛ لأن الكلام هنالك فيما بعد الوقوع لا فيما قبله، ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتًا3 كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعدما وقع في حكم ما لا حرج فيه؛ استدراكًا له من رفق الشارع بالمكلف، ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيهًا له بالصغيرة التي يكفرها كثير من الطاعات؛ كالطهارات، والصلوات، والجمعات، ورمضان، واجتناب الكبائر، وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة، والصغيرة أعظم من المكروه؛ فالمكروه أولى بهذا الحكم، فضلًا من الله ونعمة.
وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج؛ فنظر إلى ما قبل الوقوع، ولا مرية في أن الأمر كذلك؛ فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأنسب: "مع فعل الواجب أو المندوب". "ف".
2 أي: الذي يدل عليه الإقرار إنما هو في الفعل، وهذا موجود في الواجب والمندوب لا في المكروه. "د".
3 صوابه: "بحتًا" -بالتاء- أي: خالصًا لا شبهة فيه. "ف".(9/144)
ص -437-…ما لا حرج فيه، وأمثلة هذا القسم كثيرة؛ كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد1، وأكل الضب على مائدته, عليه الصلاة والسلام2.
وعن عبد الله بن مغفل؛ قال: أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبتسمًا3.
وقد استدل بعض العلماء على طهارة دم النبي -عليه الصلاة والسلام- بترك الإنكار على من شرب دم حجامته4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص75".
2 مضى تخريجه "ص357، 423"، وهو في "الصحيحين" عن خالد, رضي الله عنه.
3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772 بعد 72"، وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 8/ 481/ رقم 4214"، ومسلم أيضًا "رقم 1772 بعد 73" عن عبد الله بن مغفل بلفظ آخر.
4 أخرج البزار في "مسنده" "3/ 145/ رقم 2436, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 554"، والطبراني في "الكبير" -كما في التلخيص الحبير" "1/ 30"، و"المجمع" "8/ 270"، و"مناهل الصفا" "رقم 72"، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 329-230"، وهو ساقط حتى من القطعة التي طبعت ملحقًا بالمعجم- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 67" من طريق موسى بن إسماعيل عن هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه؛ قال: احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني الدم، فقال: "اذهب فغيبه". فذهبت فشربته، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما صنعت؟". قلت: غيبته. قال: "لعلك شربته؟". قلت: شربته. زاد الطبراني؛ فقال: "من أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك".(9/145)
قال البزار: "قد روي عن ابن الزبير من وجه آخر". قلت: كما عند الدارقطني في "السنن" "1/ 228"، وأبي نعيم في "الحلية" "1/ 230"، والطريق المذكور آنفًا فيه هنيد -أو جنيد- بن القاسم، لا بأس به، ولكنه ليس بالمشهور في العلم، قاله ابن حجر في "التلخيص" "1/ 30"، وقال الهيثمي في "المجمع" "8/ 270": "رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح؛ غير جنيد بن القاسم، وهو ثقة".
ولذا أطلق السيوطي في "مناهل الصفا" "رقم 72" على إسناده بأنه جيد. وفي الباب عن جماعة والمذكور أقواها، انظرها في "البدر المنير" "2/ 206-219".(9/146)
ص -438-…المسألة السابعة:
القول منه -صلى الله عليه وسلم- إذا قارنه الفعل؛ فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة إلى المكلفين لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- واقع على أزكى1 ما يمكن في وضع التكاليف؛ فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة.
بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل؛ فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة؛ فذلك لا يدل2 على أفضلية ولا مفضولية.
ومثاله ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: أأكذب لامرأتي؟ قال: "لا خير في الكذب". قال: أفأعدها وأقول لها؟ قال: "لا جناح عليك"3.
ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه، بل لما وعد عزم على أن لا يفعل، وذلك حين شرب عند بعض أزواجه4 عسلًا؛ فقال له بعض أزواجه: إني أجد منك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أكمله في شرع التكاليف وإنشائها؛ ففعله في أعلى طبقات التشريع للأحكام، أي فإذا انضم إلى القول؛ كان ذلك أعلى مراتب الصحة في الاقتداء. "د".
2 كيف هذا؟ وسيأتي له في التعقيب على الأمثلة يقول: "وذلك يدل على مرجوحيته"، أي: إن مخالفة فعله لقوله يدل على مرجوحية مضمون القول، فإن قيل: إن ذلك بالنظر للقول وحده بدون نظر إلى أن تركه قصدًا؛ قيل: إن القول إذا كان بصيغة الأمر ففيه أقوال في كونه مشتركًا أو للوجوب والندب كما سبق له؛ فلا يتأتى إطلاق القول بعدم الدلالة على راجحية ومرجوحية. "د".
3 الحديث صحيح بشواهده، وقد مضى تخريجه "1/ 491"، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545".
4 وهي السيدة حفصة -رضي الله عنها- كما جاء في حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب عند حفصة عسلًا، فتواخينا أن نقول له: أكلت مغافير، وهي صمغ العرفط، وله ريح كريهة. "ف".(9/147)
ص -439-…ريح مغافير -كأنه مما يتأذى من ريحه- فحلف أن لا يشربه، أو حرمه على نفسه -ويرجع1 إلى الأول- فقال الله2 له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وكان قادرًا على أن يعد ويقول، ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه، أو تحريم عقده؛ حتى رده الله إلى تحلة الأيمان.
وأيضًا؛ فلما قال للرجل الواهب لابنه: "أشهد غيري"3 كان ظاهرًا في الإجازة، ولما امتنع4 هو من الشهادة؛ دل على مرجوحية مقتضى القول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قارن فعله -وهو الكف عن شربه- قوله: إنه لن يشربه، ثم التمثيل به إنما يظهر لو أنه كف عنه وفاء بوعده للزوجة فيما لا يلزم الوفاء به، بل لمجرد إرضائها، ولكنه قرن الوعد بالحلف والتحريم؛ فليس له قبل نزول آية التحليل أن يخالف؛ فجعل المثال مما نحن فيه ليس واضحًا، وتقدم لنا أن التمثيل لهذا الوضع بقدر البقول الذي امتنع عن التناول منها مع أمره بتقريبها لبعض من حضر من أصحابه أوضح من هذا المثال. "د".(9/148)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، رقم 4912، وكتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، رقم 5267، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامًا/ رقم 6691"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، رقم 1474"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في شراب العسل، 3/ 335/ رقم 3714"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 450/ رقم 628، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، رقم 20"، و"المجتبى" "كتاب الطلاق، تأويل هذه الآية من وجه آخر 6/ 151، وكتاب الأيمان والنذور، باب تحريم ما أحل الله, عز وجل، 7/ 13، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، 7/ 71" عن عائشة, رضي الله عنها.
3 مضى تخريجه "ص422"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
4 وأيضًا قوله: "لا أشهد على جور"، بل هذا محتاج إلى تأويل في الجور بالتغليظ على الرجل بتسميته جورًا حتى يبقى الأصل جائزًا. "د".
قلت: مضى تخريجه "ص422".(9/149)
ص -440-…وأمر عليه الصلاة والسلام حسان وغيره بإنشاد الشعر1 وأذن2 لهم فيه، ومع ذلك؛ فقد منعه3 -عليه الصلاة والسلام- ولم يعلمه، وذلك يدل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، 6/ 553/ رقم 3531، وكتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/ 436/ رقم 4145، وكتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1934/ رقم 2489" عن عائشة؛ قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجاء المشركين؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فكيف بنسبي؟". فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1933" عن البراء بن عازب؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك".
وانظر سائر الأحاديث في "جزء أحاديث الشعر" للحافظ عبد الغني المقدسي "ت 600هـ"، وهو مطبوع. وانظر "الاعتصام" "1/ 345 وما بعده ط ابن عفان و270 ط رضا".
2 فقد دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة ينشد بين يديه:
خلوا بني الكفار عن سبيله…اليوم نضربكم على تنزيله
البيتين.
فلما أنكر عمر على ابن رواحة وقال له: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ قال له: "خل عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"، أخرجه الترمذي وصححه النسائي. "د".(9/150)
قلت: أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم، 5/ 202، وباب استقبال الحج، 5/ 211-212"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، رقم 2847" و"الشمائل" "245"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 3394، 3440"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5758, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 292"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3404" عن أنس بإسناد صحيح.
3 قد يقال: حيث لم يكن في قدرته الشعر، ولم يكن تركه اختيارًا؛ فلا يكون مما نحن فيه إلا أن يقال: إن هذ يكون أبلغ في الدلالة على مرجوحيته، ويقويه قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]. "د".(9/151)
ص -441-…مرجوحيته، ولقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]، وقال لحسان1: "اهجهم وجبريل معك"؛ فهذا إذن في الهجاء، ولم يذم عليه الصلاة والسلام أحدًا بعيب فيه، خلاف عيب الدين، ولا هجا أحدًا بمنثور، كما لم يتأت له المنظوم أيضًا.
ومن أوصافه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن عيابًا ولا فحاشًا2، وأذن لأقوام في أن يقولوا3 لمنافع كانت لهم في القول أو نضال4 عن الإسلام، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يوم قريظة، حيث قال له: "اهج المشركين؛ فإن جبريل معك"، أخرجه الشيخان. "د".
2 يدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452/ رقم 6031، وباب ما ينهى عن السباب واللعن، 10/ 464/ رقم 6046" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه؛ قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه".
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، 4/ 1804-1805" عن أنس؛ قال: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئًا قط".
قلت: مضى تخريجه قريبًا.
3 يكذبون الكذب المباح المستثنى في الأحاديث؛ كحديث الخمسة إلا النسائي: "ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين؛ فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا"، وحديث الترمذي الذي استثنى فيه الكذب على المرأة، وفي الحر وفي إصلاح ذات البين من حرمة الكذب. "د".
4 كما في قصة نعيم بن مسعود الذي قال له, عليه الصلاة والسلام: "خذل عنا إن استطعت". فقال لقريش وغطفان وقريظة ما قال؛ حتى أوقع الفرقة بينهم، وتخاذلوا في واقعة الأحزاب. "د".(9/152)
قلت: وقصته في "سيرة ابن هشام" "3/ 264, مع الروض الأنف" -وذكرها ابن حجر في "الفتح" "7/ 402" وسكت عنها- و"مغازي الواقدي" "2/ 480-493"، و"مغازي الزهري" "ص80-81"، وقصته في "ضعيف الجامع" "رقم 2818"، وأفاد أنها عند الشيرازي في "الألقاب".(9/153)
ص -442-…يفعل هو شيئًا من ذلك، وإنما كان منه التورية؛ كقوله: "نحن من ماء"1، وفي التوجه إلى الغزو؛ فكان إذا أراد غزوة2 ورى بغيرها3، فإذا كان كذلك؛ فالاقتداء بالقول4 الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدًا مما لا حرج فيه، وإن تركه اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أحسن لمن قدر على ذلك، فمن أتى شيئًا من ذلك؛ فالتوسعة على وفق القول مبذولة، وباب التيسير مفتوح، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه؛ فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال لهم: "نحن من ماء". فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير, فلعلهم منهم. والمعنى الآخر أنهم مخلوقون من ماء. "د".
قلت: القصة المذكورة أخرجها ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 194-195": حدثني محمد بن يحيى بن حبان به، وهي معضلة، وعنه ابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 263"، وابن الجوزي في "الأذكياء" "140-141"، وذكرها ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص41".
2 إلا في غزوة تبوك، كما ورد في حديث كعب من مالك عن تخلفه عنها، وقد أخرجه في "التيسير عن الخمسة. "د".
قلت: ومضى تخريج تخلف كعب "2/ 270".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، 6/ 112-113/ رقم 2947، 2948" بسنده إلى كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورى بغيرها".(9/154)
4 يريد أن يجمل حكم هذا القسم الثاني المعبر عنه سابقًا بقوله: "بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل"؛ أي: ففعل ما أذن فيه الرسول قولًا، ولكنه تركه قصدًا يعد مما لا حرج فيه, وتركه بقصد الاقتداء بالرسول في تركه له أحسن وأفضل لمن قدر ولم يتضرر بالترك، وقوله: "تركه قصدًا" مفهومه أنه إذا كان تركه -صلى الله عليه وسلم- له اتفاقًا ومصادفة، أو لأنه تعافه نفسه كأكل الضب، أو لأنه منع منه سجية كالشعر لا يكون مما نحن فيه، وتقدم الكلام عن الإشكال في الشعر والجواب عنه. "د".(9/155)
ص -443-…المسألة الثامنة:
الإقرار منه -عليه الصلاة والسلام- إذا وافق الفعل؛ فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه، ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي؛ لأن فعله -عليه الصلاة والسلام- واقع موقع الصواب، فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل؛ فهو كمجرد1 الاقتداء بالفعل؛ فالإقرار دليل زائد مثبت.
بخلاف ما إذا لم يوافقه؛ فإن الإقرار وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض، وإن لم تتحقق فيه المعارضة؛ فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه -عليه الصلاة والسلام- عن الفعل.
ومثاله إعراضه عن سماع اللهو2 وإن كان مباحًا، وبعده3 عن التلهي به وإن لم يحرج4 في استعماله، وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك5 ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يصح أن يكون الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في مجموع فعله وإقراره كمجرد الاقتداء به في الفعل؛ لأن كلًّا منهما دليل مستقل؛ فاجتماعهما أقوى وأقطع للاحتمالات، ألا ترى أن الفعل وحده لا زال يحتمل الخصوصية مثلًا؟ وأيضًا؛ فإنه لا يتفق مع قوله: "ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي" لأن الفعل وحده ليس كذلك ففي العبارة ضعف، وكأنه يريد أن يقول: إن الفعل القائم من المكلف على الاقتداء بفعله صحيح، ويزيد على ذلك الإقرار لأنه دليل مثبت أيضًا. "د".
قلت: انظر في اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول في: "جمع الجوامع" "2/ 365"، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 226-227".
2 يشير المصنف إلى قوله, صلى الله عليه وسلم: "لست من دد، ولا دد مني"، ومضى تخريجه "ص425"،
3 كما تقدم في حديث غناء الجاريتين بغناء بعاث. "د".
قلت: وهو في "الصحيحين" كما مضى "ص424".
4 في "ماء": "يخرج بالخاء".(9/156)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، 1/ 463/ رقم 670" بسنده إلى سماك بن حرب؛ قال: قلت =(9/157)
ص -444-…أو ما لا بد منه، ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة؛ قال لها: "خذي فرصة1 ممسكة2 فتطهري بها"3. فقالت: وكيف أتطهر بها؟ فأعاد عليها واستحيا حتى غطى وجهه4. ففهمت عائشة ما أراد، ففهمتها بما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم.
وأخرجه مسلم أيضًا في "كتاب الفضائل، باب تبسمه -صلى الله عليه وسلم- وحسن عشرته، 4/ 1810/ رقم 2322"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب السهو، باب قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، 3/ 80-81" و"عمل اليوم والليلة" "170"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى، 2/ 29/ رقم 1294"، وأحمد في "المسند" "5/ 91، 105"، وعلي بن الجعد في "المسند" "رقم 2755"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 52"، وفي رواية للترمذي في "الجامع" "رقم 2850"، والطيالسي في "المسند" "771"، وأحمد في "المسند" "5/ 105"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 712-713"، والبيهقي في "السنن" "7/ 52 و10/ 240" عنه، قال: "وكان الصحابة يذكرون عنده -صلى الله عليه وسلم- الشعر وأشياء من أمورهم".
1 الفرصة, بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة تتمسح بها الحائض. "ف" و"م".
2 الممسكة: المطيبة بالمسك، يتبع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. "ف" و"م".(9/158)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، 1/ 414/ رقم 314، وباب غسل المحيض، 1/ 416-417/ رقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، 13/ 330/ رقم 7357"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، 1/ 260-261/ رقم 332" عن عائشة, رضي الله عنها.
4 المعروف أنه أعرض بوجهه؛ فانظر أين وردت التغطية؟ "د".
قلت: ورد في "صحيح مسلم" "1/ 261": "واستتر"، وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه، وعند النسائي في "المجتبى" "1/ 136": "فاستتر كذا"، وفي "مسند أبي يعلى" "8/ 179 / رقم 4733": "فستر وجهه بطرف ثوبه"، ورواية الإعراض في "صحيح البخاري" و"مسند أحمد" "6/ 122"، و"المجتبى" "1/ 207-208" للنسائي.(9/159)
ص -445-…أصرح وأشرح؛ فأقر عائشة على الشرح الأبلغ، وسكت هو عنه حياء؛ فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك؛ فإنه1 من باب الجائز، أما إذا تعين؛ فلا يمكن إلا الإفهام كيف كان؛ فإنه محل مقطع الحقوق، والأمثلة كثيرة2.
والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر3، بل فيه ما يكون كذلك نحو الإقرار على المطلوبات4 والمباحات الصرفة ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة.
فإن قارنه قول5، فالأمر فيه كما تقدم6، فينظر إلى الفعل؛ فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: العمل بالفرصة من باب الجائز فلا يتعين فيه الإفهام، أو أن نفس التفهيم لما وجد من يقوم به عنه وهو عائشة صار غير متعين عليه، وعد جائزًا. "د".
2 تقدم منها تقريره لمن اعترف بالزنى، وتصريحه باللفظ الذي يعد في غير هذا المقام فحشًا مبالغة في الاحتياط في الحد. "د".
3 أي: وضم دليل آخر يعين خصوص الحكم. "د".
4 انظر ما وجه زيادة المطلوبات، مع أن أصل الكلام في مطلق الجواز، ولو قال بدله مطلق الإذن لشمل المطلوبات والمباح بنوعيه، وكان موافقًا لما تقرر آنفًا فيما يفيده الإقرار من أنه لا حرج فيه، ولكن لا يناسب قوله: "ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة المذكورة" التي هي من النوع الثاني من المباح، أعني: ما لا حرج فيه. "د".
5 مقابل أصل المسألة تكميل للصور التي يقتضيها المقام، وهي هنا ضم القول إلى الإقرار. "د".
6 أي: في صورة انضمام الفعل للإقرار، وقد قرر ما يقتضيه التشبيه؛ فقال: "فينظر إلى الفعل... إلخ"، أي: ينظر إلى الفعل الذي أقره الرسول: هل جاء القول على وفق الإقرار له، أم جاء على عكسه؟ أقول: أما فرض مطابقة القول للإقرار؛ فظاهر، والحكم ظاهر أيضًا، وهو مطلق =(9/160)
ص -446-…المسألة التاسعة:
سنة1 الصحابة -رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصحة أو مطلق الإذن، ولكن كيف يتصور مخالف الإقرار للقول؟ وكيف يتصور بقاؤهما دليلين مع هذه المعارضة بحيث يجوز الأخذ بأيهما بلا حرج، قياسًا على ما سبق في مخالفة الفعل للإقرار؟ اللهم إلا إذا كان القول المخالف للإقرار خاصًّا بالرسول وليس فيه تصريح بأمر ولا نهي للمكلف ولا إباحة له، كما إذا فرض في مسألة الضب أنه مع الإقرار للآكل قال: "لا آكل" فقط دون أن يبين أن العلة أنه تعافه نفسه الشريفة. "د".
قلت: وعدم أكله -صلى الله عليه وسلم- للضب وتعليله ذلك بالمذكور آنفًا مضى تخريجه "ص423".(9/161)
1 مفاد الدليل الأول والثاني أن المراد السنة العملية، أي: إذا عمل الصحابة عملًا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول لا موافقة ولا مخالفة، فإنا نعد هذا كسنة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونقتدي بهم فيه، وعلى هذا يكون قوله بعد: "فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به" المراد بالقول؛ القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلًا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول بمعنى الرأي والاجتهاد، وإلا؛ فمجرد المدح بالعدالة في الدليل الأول، والأمر باتباع سنتهم في الدليل الثاني لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء، أما الدليل الثالث الذي جعله معتمده؛ فمفاده الأخذ بآرائهم ومذاهبهم، وأنها تكون كالسنة، والظاهر أن مراد المؤلف ما هو أعم من آرائهم والاقتداء بهم في أعمالهم، وأنه يؤيد رأي القائلين: "مذهب الصحابة حجة"، تراجع المسألة بأدلة الطرفين في إحكام الآمدي، وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرًا شافيًا، وأقام ستة وأربعين دليلًا على ما قصد إليه المؤلف هنا، وجعل محل الكلام فيما إذا قال بعضهم ولم يخالفه غيره، سواء اشتهر فيما بينهم أم لم يشتهر، وأنه إذا اشتهر ولم يخالفه أحد؛ هل يكون حجة فقط أم يعتبر إجماعًا؟ خلاف، فإن لم يشتهر كان حجة فقط، وهذا كله فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة كما قلنا. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 128 وما بعدها"، وانظر مبحث حجية قول الصحابي والأقوال فيه في "مختصر المنتهى" "2/ 287, مع شرح العضد"، و"الإحكام" "3/ 195" للآمدي، و"سلم الوصول على نهاية السول" "4/ 408"، و"كشف الأسرار" "3/ =(9/162)
ص -447-…أحدها:
ثناء الله عليهم من غير مثنوية1، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها؛ كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقًا، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى.
ولا يقال: إن هذا عام في الأمة؛ فلا يختص2 بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: "أولًا" ليس كذلك، بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل3 معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثنوية -بفتح، فسكون- أي: من غير استثناء، وأصله قولهم: حلف فلان يمينًا ليس فيها [ثنيا -بضم- أو: ولا ثنية ولا] مثنوية ولا استثناء، بمعنى واحد، ومأخذه من الثني والكلف والرد؛ لأن الحالف إذا قال: ""إلا أن يشاء الله" [مستثنيًا في يمينه]؛ فقد رد ما قاله بمشيئة الله غير". "ف" و"م".
2 في "ماء": "يخص".
3 كما هو المذهب المنصور أن الخطاب الشفاهي كـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس خطابًا لمن بعدهم، وإنما يثبت لمن بعدهم بدليل خارج من نص أو إجماع أو قياس، خلافًا للجنابلة؛ فقوله: "بدليل آخر" عطف على "قياس" عطف عام على خاص، وهذا الجواب ضعيف؛ لأنه لا يلزم في تعديته لمن بعدهم وجود الدليل المذكور في كل جزئية، بل الدليل الكلي كاف، وهو موجود، والثاني لا يفيد، والثالث يحتاج إلى بينة تثبت أن التابعين مثلًا لم يتصفوا على الكمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الصحابة. "د".(9/163)
ص -448-…"وثانيًا" على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب؛ فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهم المباشرون للوحي.
"وثالثًا" أنهم أولى بالدخول من غيرهم؛ إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم؛ فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح.
وأيضًا؛ فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم؛ فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة، بخلاف1 غيرهم؛ فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته، وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يفيد أنهم كانوا لا ينقبون عن عدالة الصحابي في الأخذ عنه، بخلاف غيره، مع أنهم لما اشترطوا العدالة قالوا: فلا يؤخذ عن مجهول الحال؛ لأن الفسق مانع من القبول؛ فلا بد من تحقق عدمه، أي: تحقق ظن عدم الفسق، ولا يكون ذلك مع الجهالة، ومقتضى هذا أنه لا فرق بين الصحابي وغيره، على أن المسألة خلافية، والمؤلف جار على مذهب الأكثر القائل: إن الصحابة عدول، لا يسأل عن عدالتهم، بل تؤخذ مسلمة بدون تنقيب ولا بحث في رواية ولا شهادة؛ لأنا إذا قبلنا تعديل بعضنا بتزكية واحد منا؛ فكيف لا تقبل فيهم تزكية رب العالمين، ورسوله الصادق الأمين؟ وعليه لا يعتبر الصحابي من المجهول الحال، وقيل: هم كغيرهم؛ فلا بد من التعديل، وقيل بالتفصيل بين ما بعد فتنة عثمان وما قبلها؛ فيحتاج إلى التعديل في الأول دون الثاني، والذي يتجه أن يبنى هذا المبحث على مبحث تعريف الصحابي؛ فقد يقوى النظر الأول، وقد يقوى الثاني. "د".(9/164)
قلت: الصواب قبول رواية مجهول الحال من الصحابة؛ كما تراه في "علوم الحديث" "ص147"، و"فتح المغيث" "3/ 103"، و"شرح الألفية" "3/ 13-14"، و"الأجوبة العراقية" "ص10" للآلوسي، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 475"، و"الكفاية" "96" للخطيب البغدادي، و"شرح مختصر المنتهى" "2/ 67"، و"تيسير التحرير" "3/ 65"، و"إرشاد الفحول" "ص70"، و"صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسنة" "ص271-301".(9/165)
ص -449-…أمة بإطلاق، وأنهم وسط -أي: عدول- بإطلاق، وإذا كان كذلك؛ فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم؛ كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا...} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَْ} الآية [الحشر: 8-9]، وأشباه ذلك.
والثاني:
ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"1.
وقوله: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص133"، وهو صحيح.
2 ورد عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 25/ رقم 2640"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 140/ رقم 6247, الإحسان و15/ 125/ رقم 6731, الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 6716"، والمروزي في "السنة" "رقم 58"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 5910، 5978، 6117"، والآجري في "الشريعة" "25"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 374-375/ رقم 273"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 6، 47، 128"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 208"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "18" من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به، من غير ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي"، وإسناده حسن.(9/166)
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2641"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "85"، والآجري في "الشريعة" "15-16" و"الأربعين" "رقم 13"، والمروزي في "السنة" "59"، =(9/167)
ص -450-…وعنه أنه قال: "أصحابي مثل الملح، لا يصلح الطعام إلا به"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129"، واللالكائي في "شرح أصول أهل السنة" "رقم 147"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 368-369/ رقم 264"، وقوام السنة في "الحجة" "1/ 106"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5-6"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "7" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رفعه مع ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي".
قال الترمذي: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ضعيف في حفظه؛ إلا أن الحديث صحيح لطرقه وشواهده، وقد صححه ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة، "2/ 410"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 252"، وحسنه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 199"، وشيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204"، وانظر للحديث: "حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة" للصنعاني، و"نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة" لأخينا الشيخ سليم الهلالي.
1 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 572" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 72-73/ رقم 3863"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1347"- وأبو يعلى في "المسند" "5/ 151/ رقم 2762"، والبزار في "المسند" "3/ 291-292/ رقم 2771, زوائده"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 129/ رقم 6400"، وأبو القاسم الحلبي في "حديثه" "3/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762"- جميعهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن البصري عن أنس به.(9/168)
قال البزار عقبه: "لا نعلم رواه عن الحسن إلا إسماعيل، ولا عنه إلا أبو معاوية، وإسماعيل روى عنه الأعمش والثوري، وجماعة كثيرة، على أنه ليس بالحافظ، وقد احتمل الناس حديثه، تفرد بهذا الحديث أنس".
قلت: أما تفرد أبي معاوية؛ فغير صحيح، فقد رواه ابن المبارك عن إسماعيل، والحديث ضعيف، آفة حديث أنس إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وفيه عنعنة الحسن.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 276/ رقم 1348" من طريق آخر عن أنس، وفيه أبو هدبة إبراهيم بن هدبة وهو كذاب، وفيه مجاهيل أيضًا.(9/169)
ص -451-…وعنه أيضًا: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا؛ فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخطأ بعض الرواة، فجعله من مرسل الحسن من طريق ابن المبارك، انظر تفصيل ذلك في "العلل" لابن أبي حاتم "2/ 354-355/ رقم 2582"، وهي رواية ابن بطة في "الإبانة" "رقم 964".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 221"، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة" "رقم 16، 1730" عن معمر عمن سمع الحسن به، وأخرجه أحمد أيضًا "رقم 17 و1740" من طريق آخر عن الحسن مرسلًا.
وله شاهد من حديث سمرة بن جندب عند البزار والطبراني، قاله البوصيري في هامش "المطالب العالية" "4/ 150/ رقم 4207"، ونقله عنه صاحب "بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة السيد ورقة" "ق 11/ 1"، وزاد الهيثمي في "المجمع" "10/ 18": "وإسناد الطبراني حسن".
قلت: حديث سمرة أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبزار في "المسند" "3/ 291/ رقم 2770, زوائده"، ولفظه: "إنكم توشكون أن تكونوا في الناس كالملح في الطعام، ولا يصلح الطعام إلا بالملح".
وفي إسناده جعفر بن سعد، وهو ضعيف، عن خبيب بن سليمان وهو مجهول، عن سليمان بن سمرة وهو مجهول الحال، قاله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762".
1 أخرجه البزار في "المسند" "3/ 288/ رقم 2763, زوائده"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 191", وابن جرير في "صريح السنة" "رقم 23", والخطيب في "الموضح" "2/ 280" و"التاريخ" "3/ 162", وابن حبان في "المجروحين" "2/ 41", واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1243/ رقم 2334"، كلهم من طريق عبد الله بن صالح ثنا نافع بن زيد عن زهرة بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله به مرفوعًا.(9/170)
قال البزار: "لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد، ولم يشارك عبد الله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحد نعلمه".
قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 16": "رواه البزار، ورجاله ثقات، وفي بعضهم =(9/171)
ص -452-…ويروى في بعض الأخبار: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 إلى غير ذلك مما في معناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلاف"، وصححه القرطبي في "تفسيره" "13/ 305". قلت: كلا والله؛ فالحديث موضوع، وأدخل على عبد الله بن صالح، وحكم عليه بالوضع النسائي؛ كما في "تهذيب الكمال" "15/ 104"، وأسند الحاكم -كما نقل المزي- إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زرعة الرازي عن حديث زهرة، وساقه، فقال: هذا حديث باطل، كان خالد بن نجيح المصري وضعه ودلسه في كتاب الليث، وكان خالد بن نجيح هذا يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا ويدلس لهم، وله غير هذا. قلت لأبي زرعة: فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال: هذا كذاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم.
قال الحاكم أبو عبد الله: "فأقول: رضي الله عن أبي زرعة، لقد شفى في علة هذا الحديث وبين ما خفي علينا؛ فكل ما أتي أبو صالح كان من أجل هذا الحديث، فإذا وضعه غيره وكتبه في كتاب الليث؛ كان المذنب فيه غير أبي صالح"، وبنحوه قال البردعي، وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "5/ رقم 398": "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان أبو صالح سليم الناحة، وكان خالد بن نجيح يفتعل الكذب، ويضعه في كتب الناس".
وانظر: أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة المشرقة" "3/ 891"، و"تهذيب الكمال" "15/ 105/ 106"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 757- 758"، و"التهذيب" "5/ 259"، و"الميزان" "2/ 442".
1 ورد بألفاظ متقاربة عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- هم:(9/172)
- ابن عباس، أخرجه أبو العباس الأصم في "حديثه" "رقم 142" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 152"- والخطيب في "الكفاية" "48"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 75" من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك به.
وإسناده ضيف جدًّا، آفته ابن أبي كريمة ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، ولذا قال الزركشي في "المعتبر" "ص83": "وهذا الإسناد فيه ضعفاء"، وأخرجه البيهقي من حديث أبي زرعة ثنا إبراهيم بن موسى ثنا يزيد بن هارون عن جويبر عن جواب بن عبيد الله رفعه. =(9/173)
ص -453-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم قال البيهقي: "هذا حديث مشهور، وأسانيده كلها ضعيفة، لم يثبت منها شيء".
وأخرجه أبو ذر الهروي في كتاب "السنة" من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191".
ورواه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 702" من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه حمزة بن أبي حمزة، وهو كذاب.
- جابر، أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "4/ 1778"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925/ رقم 1760"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 82" من طريق سلام بن سليمان عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان به.
قال ابن عبد البر عقبه: "هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول"، وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك".
قلت: أبو سفيان أخرج له مسلم في "صحيحه"، وهو صدوق.
وقال ابن طاهر: "هذه الرواية معلولة بسلام المدائني، فإنه ضعيف، نقله عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 230"، وبه أعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 58".
وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق آخر عن جابر، ثم قال: "هذا لا يثبت عن مالك، ورواته عن مالك مجهولون"، أفاده الزيلعي وابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 190".
- أبو هريرة، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1346"، وهو معلول بجعفر بن عبد الواحد، وقد كذبوه.(9/174)
- حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 783"، والدارقطني في "فضائل الصحابة" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 231"، وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 701"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 785-786" وأبو ذر في "السنة" -كما في "المعتبر" "ص81"- من طريق حمزة الجزري عن نافع به، لكنه قال بدل "اقتديتم" بأيهم أخذتم بقوله "اهتديتم"، وهو هو، وذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1759" عن ابن عمر معلقًا من طريق حمزة، وقال: "هذا إسناد لا يصح، ولا يرويه=(9/175)
ص -454-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن نافع من يحتج به".
وعنه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83" وقال: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شك أنها مكذوبة، وأسهب في بيان بطلان هذا الحديث دراية بكلام متين حسن، وكان قد بين قبل "5/ 64" تحت باب "ذم الاختلاف" بطلان هذا الحديث، وقال عنه: "وهذا الحديث باطل مكذوب، من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية"، وساق ثلاثة منها.
وقال ابن عدي في ترجمة "حمزة" وساق له أحاديث: "وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه"، وقال ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146"، وعزاه لعبد: "فيه ضعف جدًّا"، وقال ابن طاهر: "حمزة النصيبي كذاب"، قال: "ورواه بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عن أنس، وبشر هذا يروي عن الزبير الموضوعات"، أفاده الزيلعي.
- حديث أنس، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146/ رقم 4193" لابن أبي عمر في "مسنده" عن أنس، وقال: "إسناده ضعيف"، وأسنده -أي: ابن حجر- في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147" من طريق ابن أبي عمر، وقال: "وفي إسناده ثلاثة ضعفاء في نسق سلام وزيد ويزيد، وأشدهم ضعفًا سلام"، وكان قد ذكر أن سلامًا خالف عبد الرحيم بن زيد؛ فقال: "عن أنس"، وقال عبد الرحيم: "عن عمر"، وروايته هي الآتية.(9/176)
- حديث عمر بن الخطاب،1 أخرجه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 700"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه والمتفقه" "1/ 177"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 151"، ونظام الملك في "الأمالي" "رقم 21, بتحقيقي"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1057"، والديلمي في "مسنده" "2/ 190"، والضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو" "116/ 2"، وكذا ابن عساكر "6/ 303/ 1"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 146-147" من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب به.
وإسناده هالك، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 700-701": "هذا حديث ضعيف من هذا الوجه؛ فإن عبد الرحيم بن زيد هذا كذبه ابن معين، وضعفه غير واحد من الأئمة". ثم قال: "إلا أن هذا الحديث مشهور في ألسنة الأصوليين وغيرهم من الفقهاء، يلهجون به كثيرًا محتجين به وليس بحجة، والله أعلم". =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وورد من حديث معاذ عند النسفي في "القند" "ص537" وإسناده واه جدًّا.(9/177)
ص -455-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأعله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 924" بالعمي، وقال الأول: "وفيه أيضًا شائبة الانقطاع بين سعيد وعمر"، وقال الثاني: "والكلام أيضًا منكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم"، وعزاه الزركشي في "المعتبر" "ص80" للدارمي في "مسنده"، ولم أظفر به في "سننه" المطبوعة، وضعفه بالعمي والانقطاع، ورده بقوله: "لكن ذكرت في باب الوتر من "الذهب الإبريز" ما يصحح سماعه منه"، وحكم عليه شيخنا في "الضعيفة" "رقم 60" بالوضع، وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، ومتنه منكر، ولا يجوز الاحتجاج به.
ولا التفات إلى تصحيح الشعراني له في "الميزان الكبرى" "1/ 30" بالكشف؛ فهي دعوى فارغة سبق الإلماع إلى بطلانها. وبهذا حكم عليه الحفاظ، وهذا بعض من كلامهم:
- قال البزار, وقد سئل عن هذا الحديث: "منكر، ولا يصح عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم". نقله ابن عبد البر وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147"، والزركشي في "المعتبر" "83".
- قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" "1/ 283": "هذا لا يصح".
- قال ابن حزم في رسالته الكبرى "في الكلام على إبطال القياس والتقليد وغيرهما": "هذا حديث مكذوب موضوع باطل، لم يصح قط"، وبنحوه قال في "الإحكام" "5/ 64".
- وأشار ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "ص67-68" إلى بعض طرقه، وقال: "وكلها معلولة".(9/178)
- وقال البيهقي في "الاعتقاد" "ص319" بعد أن ذكر حديث أبي موسى المرفوع: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أتى أمتي ما يوعدون"، وقال: "رواه مسلم [في صحيحه" "رقم 2531"] بمعناه، وروي عنه في حديث بإسناد غير قوي، وفي حديث منقطع، أنه قال: "مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منهم اهتدى"، قال: "والذي روينا ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه"، وتعقبه الزركشي في "المعتبر" "ص84" بقوله: "ولا يخلو عن نظر"، وبين ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191" وجهه؛ فقال: "هو -أي: حديث أبي موسى- يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتدء؛ فلا يظهر من حديث أبي موسى".
بقي بيان وجه من قال بنكرته، وهو أنه لو كان صحيحًا ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع أحد إلى قول صاحبه، وإنما لقال كل لصاحبه: بأينا اقتدى الآخر في قوله؛ فقد اهتدى، ولكن كل منهم طلب البينة والبرهان على قوله؛ فثبتت نكارته، أفاده المزني، ونقله عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 110, ط القديمة" وغيره.(9/179)
ص -456-…والثالث:
أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل؛ فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلًا، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلًا، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلًا، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعلق القائلون بحجية قول أبي بكر وعمر دون غيرهم بأدلة كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 472-473/ رقم 681" عن أبي قتادة، وذكر حديثًا طويلًا فيه قصة، وفيه من المرفوع: "فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
وبما أخرجه الترمذي في "جامعه" "4/ 310"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 37/ رقم 97"، والحميدي في "المسند" "رقم 449", وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 11", وأحمد في "المسند" "5/ 382، 385، 402" و"فضائل الصحابة" "رقم 478"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 83، 84"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 75"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 334"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 480"، والخلال في "السنة" "رقم 336"، والبزار في "المسند" "7/ 248-251/ رقم 2827، 2828, 2829"، والقطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 162"، وابن أبي عاصم في "السنة" "2/ 545-546/ رقم 1148، 1149"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 223، 224"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 177" و"التاريخ" "12/ 20" عن حذيفة مرفوعًا: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر"، وإسناده صحيح.(9/180)
واحتج هؤلاء بأثر لابن عباس، انظره في "إعلام الموقعين" "4/ 143"، أما القائلون بحجية قول الخلفاء الأربعة؛ فقد استدلوا بحديث العرباض: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقد مضى تخريجه "ص133" وهو صحيح، وانظر توجيه الحديث على قول هؤلاء في "كشف الأسرار" "3/ 221"، و"منهاج الأصول" "4/ 410, مع شرحه نهاية السول" و"جمع الجوامع" "2/ 297 مع حاشية العطار"، و"إعلام الموقعين" "4/ 139-140".(9/181)
ص -457-…وهذه الآراء -وإن ترجح عند العلماء خلافها- ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المعتمد في المسألة، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين؛ فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر1 من ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم في الشريعة، وأنهم مما يجب2 متابعتهم وتقليدهم فضلًا عن النظر معهم فيما نظروا فيه، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع3 من تقليد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ترى ذلك كثيرًا عقب تراجم البخاري. "د".
2 هذا هو المطلوب، ولكنه لا يسلم لزومه لما قبله، ويعارضه أيضًا أنهم طالما خالفوهم في الأمور الاجتهادية التي هي موضوع الكلام، ولذلك؛ فالمعول عليه أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غير الصحابة،كما أنه لس بحجة على الصحابة باتفاق، فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنتهم التي اتفقوا عليها؛ فذلك ما لا نزاع فيه لأنه أهم أنواع الإجماع؛ فليس من باب السنة وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم وإن لم يتفقوا عليه؛ فهذا ليس بدليل شرعي يتقيد به المجتهد، وقد يقال: إنه عند اختلافهم لا تخرج سنتهم عن كونها حجة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة، ويكون العمل بها متوقفًا على الترجيح، ومع عدم الوقوف على المرجح؛ فالواجب الوقف أو التخيير كما هو الشأن عند التعارض، فتحرر المسألة بأن الغرض سنة الصحابي قولًا أو فعلًا في غير موضع الإجماع منهم تعد سنة كخبر الآحاد؛ فيعول عليها ويرجع إليها كحجة ظنية، وهذا المعنى مأخوذ من كلام الآمدي في مذهب الصحابي. "د".(9/182)
3 اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له التقليد بعد حصول اجتهاده ووصوله إلى الحكم في نظره، أما قبل الاجتهاد؛ فاختلفوا على سبعة أقوال: منها ما أشار إليه هنا، وهو المنقول عن الشافعي أنه يجوز له تقليد الصحابي لا غيره بشرط أن يكون أرجح في نظره ممن خالفه منهم، وإلا تخير، وقال أحمد: "يجوز مطلقًا"، وقال العراقيون: يجوز فيما يخصه لا فيما يفتى به، واختار الآمدي =(9/183)
ص -458-…الصحابة، ويمنع في غيره، وهو المنقول عنه في الصحابي: "كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته"1 ولكنه2 مع ذلك يعرف لهم قدرهم.
وأيضًا؛ فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه.
فعن سعيد بن جبير أنه قال: "ما لم يعرفه3 البدريون؛ فليس [من] الدين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المنع مطلقًا. "د".
قلت: انظر مسلك الشافعي في حجية قول الصحابي في "الأم" "7/ 246"، و"الرسالة" "ص597-598"، وكذا كتاب أبو زهرة "الإمام الشافعي" "308-309"، و"الإمام الشافعي وأثره في أصول الفقه" "2/ 763 وما بعدها"، ومنه يستفاد أن قول الصحابي عنده حجة في مذهبيه القديم والجديد، وهذا ما نصره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 122"؛ فقال بعد أن نقل كلام البيهقي في "المعرفة" "1/ 106, ط صقر" و"المدخل" "ص109-110": "فهذا كلام الشافعي -رحمه الله ورضي عنه- بنصه، ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له".
1 نقله عنه جماعة، منهم ابن همام في "التحرير" "3/ 71, مع التيسير".
2 أي: فهو وإن لم يترك ما صح عنده من الحديث لقولهم، لكنه إذا لم يجد الحديث ووجد سنتهم أخذ بها، ومما يضاف إلى هذا فيقويه ما نقله في "إعلام الموقعين" عن الشافعي في "رسالته البغدادية" وما رواه عن الربيع من جعله البدعة ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض الصحابة. "د".
قلت: انظر ما قدمناه في الهامش السابق.
3 أي: إذا أنكروا شيئًا فقالوا: إنه ليس من الدين؛ كان الأمر كذلك. "د".
4 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 771/ رقم 1425 و2/ 945/ رقم 1805" بإسناد لا بأس به، وما بين المعقوفتين فيه في الموطنين، وسقط من "د" وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط".(9/184)
ص -459-…وعن الحسن -وقد ذكر أصحاب محمد, صلى الله عليه وسلم- قال: "إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم"1.
وعن إبراهيم قال: "لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم"2.
وعن حذيفة؛ أنه كان يقول: "اتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من قبلكم؛ فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"3.
وعن ابن مسعود: "من كان منكم متأسيًا؛ فليتأس بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1807".
2 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1808" بإسناد صحيح، وانظر في شرحه: "الباعث" "ص89, بتحقيقي" لأبي شامة المقدسي.(9/185)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم 13/ 250/ رقم 7282"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 379"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 47"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 273"، وعبد الله بن أحمد في "السنة" "18"، وابن وضاح في "البدع" "ص10، 11"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 196، 197"، والمروزي في "السنة" "25"، والبزار في "المسند" "7/ 359/ رقم 2956"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 280"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 90/ رقم 119"، والهروي في "ذم الكلام" "ص123"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص519, ترجمة أبي مسلم الخولاني"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1809" بألفاظ منها المذكور، وسيورد المصنف قريبًا لفظًا آخر له، وعزاه أبو شامة في "الباعث" "ص70" لأبي داود في "السنن"، وانفرد بذلك، وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 121" للطبراني.(9/186)
ص -460-…وأحسنها حالًا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"1.
وقال علي: "إياكم والاستنان بالرجال". ثم قال: "فإن كنتم لا بد فاعلين؛ فبالأموات لا بالأحياء"2، وهو نهي للعلماء لا للعوام.
ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز؛ قال: "سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا"، وفي رواية بعد قوله "وقوة على دين الله": "ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في3 رأي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1810"، والهروي في "ذم الكلام" "ص188"، ورزين كما في "مشكاة المصابيح" "1/ 67-68" عن قتادة به؛ فهو منقطع.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "1/ 305-306" نحوه عن ابن عمر، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف.
وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 121" للإمام أحمد.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 987/ رقم 1881"، وخشيش في "الاستقامة" كما في "كنز العمال" "1/ 360/ رقم 1594".
وإسناد ابن عبد البر ضعيف؛ إذ هو من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي.
قال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري؛ فلا تكتبه".
وخالد بن عبد الله سمع من عطاء بعد اختلاطه، انظر: "الكواكب النيرات" "ص322، 327، 330"، وانظر هذا الأثر وكلامًا جيدًا للمصنف حوله في "الاعتصام" "2/ 689, ط ابن عفان".
3 ظاهر فيما أجمعوا عليه. "د".(9/187)
ص -461-…خالفها، من اهتدى بها مهتد...."1 الحديث، وكان مالك يعجبه كلامه2 جدًّا.
وعن حذيفة قال: "اتبعوا آثارنا؛ فإن أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"3.
وعن ابن مسعود نحوه؛ فقال: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم"4.
وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول5: سبحوا عشرًا وهللوا عشرًا فقال عبد الله: "إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل! بل هذه، بل هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 94/ رقم 134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 73"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 352-353/ رقم 230، 231"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326"، والهروي في "ذم الكلام" "ص107، 199"، والمروزي في "السنة" "31"، وابن الجوزي في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" "84"، وهو صحيح.
2 أي: هذا الكلام المذكور ويتحدث به كثيرًا هو وغيره من الأئمة كما ذكره في "أعلام الموقعين" "4/ 132"، وشرحه المصنف في "الاعتصام" "1/ 116-117, ط ابن عفان" شرحًا وافيًا وعلق عليه بكلام متين، وفيه: "ومن كلامه -أي: عمر بن عبد العزيز- الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكًا جدًّا..." وساقه، وانظر التعليق على "3/ 130".
3 مضى تخريجه قريبًا، ولفظ "ماء/ ص424" مختلف عن هذا.(9/188)
4 أخرجه وكيع في "الزهد" "2/ 590/ رقم 315" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "162"- وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "10"، والدارمي في "السنن" "1/ 69"، وأبو خيثمة في "العلم" "رقم 54"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص23"، والطبراني في "المعجم الكبير" "9/ 168"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "ق 51/ 2 ورقم 460 من المطبوع"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 86/ رقم 104"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 204"، وإسناده صحيح.
5 في "ط": "وهو يقول".(9/189)
ص -462-…"يعني أضل""1.
والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها، وحسبك من ذلك دليلًا مستقلًّا وهو:
الرابع:
ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أبغضهم فقد أبغض النبي -عليه الصلاة والسلام-2، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط؛ إذ لا مزية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 68 و69" بسند جيد، وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص8-10، 11، 12، 13، 23"، وبحشل في "تاريخ واسط" "ص198-199"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص16-17" من طرق عن ابن مسعود، والأثر صحيح بمجموع طرقه.
2 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب منه، 5/ 696/ رقم 3863"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860" -ومن طريقه القاضي عياض في "الشفا" "2/ 266"، والسبكي في "الفتاوى" "2/ 574"- وأحمد في "المسند" "5/ 54، 57" و"فضائل الصحابة" "رقم 321"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" "4/ 85، 87 و5/ 55" و"زوائد الفضائل" "رقم 2"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 1/ 131"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 7212, الإحسان" و"موارد الظمآن" "رقم 2284, موارد"، وقوام السنة في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 366"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" و"تثبيت الإمامة" -أو: "الرد على الرافضة"- "رقم 220"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 123"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 3, بتحقيقي"، والبيهقي في "الاعتقاد" "321" من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني رفعه: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي؛ فمن أحبهم بحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه". لفظ أحمد.(9/190)
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد، وقال البخاري: "فيه نظر"، وللحديث شواهد كثيرة، خرجت قسمًا منها في أول كتاب الشوكاني "در السحابة".(9/191)
ص -463-…في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته1 ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة.
ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم فجعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك؛ فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتبعهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا وإن كان أقوى البواعث على حبهم وبغض من أبغضهم، التابعين لحبه -صلى الله عليه وسلم- وبغض من أبغضه؛ إلا أن محل الاستدلال هو ما قبله، وهذا الدليل الرابع كالأول ظاهر في الاقتداء بأفعالهم وأقوالهم التكليفية، لا الآراء والمذاهب. "د".(9/192)
ص -464-…المسألة العاشرة:
كل ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه1، سواء علينا انبنى عليه في التكليف حكم أم لا2، كما أنه إذا شرع حكمًا أو أمر أو نهى؛ فهو كما قال عليه الصلاة والسلام، لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله، وبين ما نفث3 في روعه وألقي في نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان؛ فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مؤيد بالعصمة، وما ينطق عن الهوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإذا قال: إن الملك ألقى في روعي كذا؛ فهو صادق في أنه ألقى الملك إليه كذا، وصادق في مضمون الخبر. "د".
2 ولا ينافي هذا ما ورد في حديث مسلم في مسألة تأبير النخل، وقوله لهم: "لعلكم لو لم تضعوه؛ لكان خيرًا"؛ فتركوه فنقصت، فذكر ذلك له؛ فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشي من رأيي؛ فإنما أنا بشر"، فإن هذا ليس في الواقع خبرًا، وإنما هو من باب الشك في عادة عندهم اعتقدوها سببًا عاديًّا، وكأنه قال لهم: جربوها، وهذا هو ما يفهم من قول: "لعلكم لو لم تضعوه... " إلخ؛ فهو لم يذكره خبرًا جازمًا، بل هو من باب المشورة عليهم في الأخذ بالتجربة في سبب عادي ليس من الأمور الشرعية، ولا مما قصد به الإخبار عن أمر يعلمه. "د".(9/193)
3 وهو الإشارة المفهمة من غير بيان بالكلام، وقوله: "وألقي في نفسه" هو الإلهام الذي يكون بدون عبارة الملك وإشارته، ويكون الإلقاء مقرونًا بخلق علم ضروري أنه منه تعالى، وهذا القدر مشترك بين الثلاثة؛ إذ في المشافهة والإشارة لا بد أيضًا من خلق علم ضروري أنه مخاطبة الملك، ولذا كانت الثلاثة حجة قطعية عليه وعلى غيره، والثلاثة وحي ظاهر، يلزمه انتظار واحد منها عند الحاجة للحكم، وإن لم تحصل اجتهد، واجتهاده إنما يكون بالقياس، لا بالترجيح عند التعارض بين الدليلين لعدم علم المتأخر، ولا بغيره مما يكون فيه الاجتهاد عند غيره -صلى الله عليه وسلم- والاجتهاد وحي باطني. "د".(9/194)
ص -465-…وهذا مبين في علم الكلام؛ فلا نطول بالاحتجاج عليه، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله.
فمثاله قوله, عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها؛ فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب"1؛ فهذا بناء حكم على ما ألقى في النفس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" "1/ 298" - ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304/ رقم 4112"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 185/ رقم 1151"- ثنا هشيم بن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
وإسناده صحيح لولا الرجل الذي لم يسم.
وأخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304-305/ رقم 4113" من طريق أبي أسامة عن إسماعيل عن زبيد وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود به، ورجاله ثقات، وهو مرسل.
وأخرجه أيضًا "14/ 303-304/ رقم 4111" من طريق أبي حمزة عن إسماعيل عن رجلين أحدهما زبيد عن ابن مسعود به، وهو كسابقه، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 4" من طريق آخر عن ابن مسعود، وفيه سعيد بن أبي أمية الثقفي، وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات.
وللحديث شواهد كثيرة، بها يصل إلى درجة الصحة، منها:
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2144"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 420"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 265" من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر.
وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 156-157 و7/ 158" من طريق حبيش بن مبشر ثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن محمد بن المنكدر به.
وإسناده صحيح، وقال أبو نعيم عقبه: "غريب من حديث شعبة، تفرد به حبيش عن وهب".(9/195)
وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "رقم 3239، 3241"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، وأبو الفضل الرازي في "المشيخة" "رقم 43"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 264" و"الشعب" "رقم 10505" من طريق عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن =(9/196)
ص -466-…وقال عليه الصلاة والسلام: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها؛ فالتمسوها في العشر الغوابر"1.
وفي حديث آخر: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"2؛ فهذا بناء من النبي -صلى الله عليه وسلم- على رؤيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن المنكدر به. وإسناده حسن.
ولفظ حديث جابر: "لا تستبطئوا الرزق؛ فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام".
وكتب "د" هنا: "والإجمال في الطلب مباشرة الأسباب المشروعة مع ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في محظور".
وفي الباب عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 7694"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 26-27"، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. وعن حذيفة، أخرجه البزار في "البحر الزخار" "7/ 314-315/ رقم 2914"، وأوله: "هلموا إليّ، فأقبلوا إليه؛ فجلسوا، فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل -عليه السلام- نفث في روعي". وقال عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، قال الهيثمي في "المجمع" "4/ 71": "لم أجد من ترجمه"، ووافقه ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" "رقم 874".
وفي الباب عن المطلب، أخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 302-303/ رقم 4110"، ورجاله ثقات، وهو مرسل، والخلاصة الحديث صحيح بشواهده، والله أعلم.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1166"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2197"، وأحمد في "المسند" "2/ 291"، والدارمي في "السنن" "2/ 28" وغيرهم عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(9/197)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، رقم 2015، وكتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلي، رقم 1158، وكتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، رقم 6991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1165" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.(9/198)
ص -467-…النوم1.
ونحو ذلك وقع2 في بدء الأذان -وهو أبلغ في المسألة- عن عبد الله بن زيد، قال: لما أصبحنا أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته الرؤيا؛ فقال: "إن هذه لرؤيا حق" الحديث، إلى أن قال عمر بن الخطاب: والذي بعثك بالحق؛ لقد رأيت مثل الذي رأى. قال: فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد؛ فذاك أثبت"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رؤياه -صلى الله عليه وسلم- وهو ظاهر في الرواية الأولى، وأما الثاني؛ فتحتاج إلى تعريف صدقها عن الله بطريق من الطرق المشار إليها. "د".
2 في "ط": "واقع".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 1/ 358-359/ رقم 189" -وهذا لفظه- وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، 1/ 135-136/ رقم 499"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأذان، باب بدء الأذان، 1/ 232-233/ رقم 706"، وأحمد في "المسند" "4/ 43"، والبخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 180"، والدارمي في "السنن" "1/ 268-269"، وابن الجاورد في "المنتقى" "رقم 158"، وابن المنذر في "الأوسط" "3/ 12-13/ رقم 1162"، والدارقطني في "السنن" "1/ 341"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 189/ رقم 371"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 572-573/ رقم 1679, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 390-391"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 231-232, ط الفقي"، كلهم من طريق ابن إسحاق؛ قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد ثنا أبو عبد الله بن زيد به، وإسناده جيد، وابن إسحاق صرح بالتحديث؛ فانتفت شبهة تدليسه، والخبر في "سيرة ابن هشام" "2/ 154-155".(9/199)
ولهذا الحديث طرق أخرى، المذكور آنفًا أقواها، قال ابن المنذر في "الأوسط" "3/ 13": "وليس في أسانيد أخبار عبد الله بن زيد إسناد أصح من هذا الإسناد، وسائر الأسانيد فيها مقال"، وقال ابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 193": "سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه من عبد الله بن زيد".
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 203"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم =(9/200)
ص -468-…فحكم1 عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الأذان.
وفي "الصحيح": صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا ثم انصرف؛ فقال: "يا فلان! ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؛ فإنما يصلي لنفسه؟ إني والله لأبصر من ورائي2 كما أبصر من بين يدي"3. فهذا حكم أمري بناء4 على الكشف، ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1788"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 197/ رقم 380"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 131، 132، 134"، والدارقطني في "السنن" "1/ 241"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 476، 477/ رقم 1938، 1939"، والبيهقي في "السنن" "1/ 420" من طريق ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وبعضهم يقول: "عن ابن أبي ليلي؛ قال: ثنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عبد الله بن زيد".
قال الدارقطني: "ابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد"، ثم ساق الاختلاف فيه، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 42"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 1787"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 475/ رقم 1937"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 414، 415" من طريق سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد.
والحديث صحيح، وأصح طرقه المذكورة أولًا كما سبق بيانه، وصححه غير واحد من الأئمة كالبخاري، والنووي، والذهبي، وانظر: "نصب الراية" "1/ 259-260".
1 أي: بطريق من الطرق المتقدمة، لا بمجرد رؤياهما. "د".
2 هذه حالة رؤيا الكشف التي تحصل بإزالة الموانع العادية كما حصل في صبيحة الإسراء، حيث كشف له عن بيت المقدس وصار يصفه لقريش وصف عيان. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، 1/ 319/ رقم 423" عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد مضى تخريجه "2/ 472".(9/201)
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "امرئ بنى"، وكتب "د": "لعله "أمري" نسبة إلى الأمر؛ فإنه في معنى: أحسن صلاتك".(9/202)
ص -469-…فإذا تقرر هذا؛ فلقائل أن يقول: قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد1 قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخصنا، وما يعمه يعمنا، فإذا بنينا على ذلك؛ فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعه وكشفه، ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه2 ثم مرض قبل أن تقبضه3، قال فيه: "وإنما هما أخواك وأختاك؛ فاقتسموه على كتاب الله". قالت: فقلت: يا أبت! والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء؛ فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية"4، وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية5 وهو على المنبر؛ فبنوا -كما ترى- على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب، وهو معتاد في أولياء الله تعالى، وكتب العلماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "2/ 263 وما بعدها".
2 وهو عشرون وسقًا. "د".
3 فأبطلها بحكم الشرع. "د".
4 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484, رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 4681, رواية يحيى الليثي وص236, رواية سويد بن سعيد"، وإسناده صحيح. وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر، و"أنساب الأشراف" "63-64, الشيخان".(9/203)
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"؛ وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286, ترجمة عمر و7/ ق 10-13, ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5", وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء", والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46" بأسانيد بعضها حسن، كما قال ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضًا"، وألف القطب الحلبي في صحته جزءًا، قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461".
وانظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن أولياء الشيطان" "ص123-124" لابن تيمية.(9/204)
ص -470-…مشحونة بأخبارهم فيه، فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي, صلى الله عليه وسلم.
والجواب: أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة، وبسببه جلبت هذه المقدمة وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيًا، ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها.
فاعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤيد1 بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بيّن، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا2 بلا خلاف؛ إما بأنه لا يخطئ ألبتة، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض؛ فما ظنك بغير ذلك؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله -عز وجل- وأما أمته3؛ فكل واحد منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلمًا4، وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقه5، واعتيد ذلك فيه واطرد؛ فإمكان الخطأ والوهم باق، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يصدر عنه في ذاته إلا الصدق، وتعضيده بالمعجزة يجعلنا لا نعتقد إلا ذلك. "د".
2 في "ماء": "معصوم".
3 تقدم الكلام بأوسع من هذا وأتم، في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد. "د".
4 أي: والحلم من الشيطان كما تقدم في الحديث. "د".
5 أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باق في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها؛ فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا. "د".
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 636 وما بعدها"، و"بدائع التفسير" "1/ 152 وما بعدها" لابن القيم.
6 في "ط": "حكمًا".(9/205)
ص -471-…وأيضًا؛ فإن كان مثل هذا1 معدودًا في الاطلاع الغيبي؛ فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، كما في الحديث من قوله -عليه السلام- في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}2 [لقمان: 34] إلى آخر السورة3. وقال في الآية الأخرى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26، 27].
فبقى من عداهم على الحكم الأول، وهو امتناع علمه.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179].
وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
وفي حديث عائشة: "ومن زعم أن محمدًا يعلم ما في غدٍ؛ فقد أعظم الفرية على الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} سقطت من الأصل
2 يراجع ما يشير إليه من تحقيق معنى الغيب في قصد الشارع في كتب الحديث والتفسير. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، 1/ 114/ رقم 50، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة}، 8/ 513/ رقم 4777"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإحسان، 1/ 39/ رقم 9" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل.(9/206)
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن عائشة ضمن حديث، ولفظه: "ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية".
والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 262-263/ رقم 3068" عن عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه أيضًا بنحوه في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم، 5/ 394-395/ رقم 3278".(9/207)
ص -472-…وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم [الغيب إلا]1 الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر، حسبما مر في باب2 العموم من هذا الكتاب، فإذا كان كذلك؛ خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء -صلوات الله عليهم- في العلم بالمغيبات.
وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح؛ فمما لا ينبني عليه حكم، إذ لم يشهد3 له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك4 لجميع الأمة، وهو جواز الخطأ، لذلك قال أبو بكر: "أراها جارية"5؛ فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكمًا، وعبارة "يا سارية! الجبل" -مع أنها إن صحت لا تفيد حكمًا شرعيًّا6- هي أيضًا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها، وإن سلم؛ فلخاصية7 أن الشيطان كان يفر منه8؛ فلا يطور9 حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من "د" كاملة، ومن "ف" و"م" سقطت كلمة "الغيب".
2 في المسألة السادسة منه، وهو أن العموم لا يلزم أن يكون آتيًا من جهة الصيغ، بل له طريق ثان وهو الآتي من جهة استقراء مواقع المعنى. "د".
3 كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد السالفة. "د".
4 في "ماء": "بجميع".
5 في قصته السابقة، وهي صحيحة، ومضى تخريجها.
6 بل نصيحة ومشورة. "د".
قلت: وقد صحت، كما بيناه، ولله الحمد.
7 في "ماء": "كخاصية".
8 كما ثبت في "صحيح البخاري" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 7/ 4/ رقم 3683"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر, رضي الله تعالى عنه، 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد مرفوعًا: "والذي نفسي بيده؛ ما لقيك -والخطاب لعمر- سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجك".(9/208)
9 أي: لا يقرب حول حماه، يقال: فلان لا يطورني، أي: لا يقرب طورتي، والطورة: فناء الدار وما حولها، وفلان يطور بفلان أي: كأنه يحوم حوله ويدنو منه، وفي حديث علي, رضي الله عنه: "وأن لا أطور به ما سمر سمير"؛ أي: لا أقربه أبدًا. "ف".(9/209)
ص -473-…بخلاف غيره، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب1؛ فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه، بل على الحال التي يقال فيها: "أرى" و"أظن"2، فإذا وقع مطابقًا في الوجود وفرض تحققه بجهة المطابقة أولًا، والاطراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه [قد] صار من باب الحكم على الواقع3؛ فاستوت الخارقة وغيرها، نعم4 تفيد الكرامات والخوارق5 لأصحابها يقينًا وعلمًا بالله تعالى، وقوة فيما هم عليه، وهو غير ما نحن فيه.
ولا يقال: إن الظن أيضًا معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية؛ كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علمًا مع الاطراد والمطابقة؛ فإنه يفيد ظنًّا، فيكون معتبرًا.
لأنا نقول: ما كان من الظنون معتبرًا شرعًا؛ فلاستناده إلى أصل شرعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ماء" و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الغير".
2 في "د": "أو أظن".
3 أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًّا على الواقع نفسه. "د".
4 استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبها. "د".
5 في "ط": "الكرامات الخوارق" بدون "واو" عطف.(9/210)
ص -474-…حسبما تقدم في موضعه1 من هذا الكتاب، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني، هذا وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت ذلك2 بالنسبة إليه؛ فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسألة الثانية من الأدلة. "د".
2 لا يصح رجوع اسم الإشارة إلى ما لم يستند إلى أصل قطعي أو ظني؛ لأن ما علم له -صلى الله عليه وسلم- بطريق الكشف أو بطريق الرؤيا كله حق معصوم كما تقدم أول المسألة، بل هو راجع لأصل الموضوع -وهو العمل بمقتضى الكشف والاطلاع الغيبي- أي: لا يقال: إن عمله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الكشف يصلح مستندًا لنا ولو ظنيًّا؛ فنقيس أنفسنا عليه لأنا نقول: إنه قياس مع الفارق، وهو العصمة في حقه وعدمها في حقنا. "د".(9/211)
ص -475-…الاستدراكات:
استدراك 1:
[ومثال ضم العبادة إلى العبادة: ضم الدعاء لختم القرآن في رمضان، أو ضمه لأدبار الصلوات، أو ضم القراءة للطواف].
استدراك 2:
وأخرجه من طرق أخرى عن علي: ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 387-388"، وأبو عبيد "322-323"، وابن أبي شيبة "1/ 39"، والدارقطني "1/ 87-88"، والبيهقي "1/ 87".
وصح عن ابن مسعود قوله أيضًا، أخرجه أحمد في "الأسامي والكنى" "رقم 261"، وأبو عبيد في "الطهور" "325-326, بتحقيقي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 388، 422"، والدارقطني في "السنن" "1/ 89" -وصححه- والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 87"، والخطيب في "الموضح" "2/ 320".
استدراك 3:
وفي "ط": "عن "يوم كان مقداره ألف سنة"؛ فقال له ابن عباس: فما "يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".(9/212)
ص -476-…استدراك 4:
وأخرجه عبد الرزاق "20474"، وابن المبارك في "المسند" "233" و"الزهد" "92, زيادات نعيم"، وأبو داود "1561, مختصرًا"، والطبراني "18/ رقم 547"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه" "1/ 76"، والهروي في "ذم الكلام" "242-244"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 25" من طرق لا تخلو من ضعف، ولكن يشد بعضها بعضًا.
استدراك 5:
وفي "ط": "فرحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد؛ إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، فما...".(9/213)
ص -477-…الموضوعات والمحتويات:
الموضوع الصفحة
تابع الطرف الأول في أحكام الأدلة عامة 5
الفصل الرابع: في العموم والخصوص 7
مقدمة في الموضوع 7
الأدلة المستعملة في الإطلاق بالعموم والخصوص 7
المسألة الأولى:
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان
ولا حكايات الأحوال 8
دليل ذلك
الأول: أن القاعدة مقطوع بها وقضايا الأعيان مظنونة 8
الثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية
وقضايا الأعيان محتملة 8
الثالث: أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات 8-9
الرابع: أنها لو عارضتها، فإما أن يعملا معًا أو يهملا، أو يعمل
بأحدهما دون الآخر 9
إشكال على الدليل الرابع بأن تخصيص العموم وتقييد المطلق
صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من المظنونات 9
الجواب من وجهين: 9
أن الإشكال ليس بمحل لمسألتنا 9-10
التوضيح بالأمثلة:
صفات الله والتنزيه 10-11(9/214)
ص -478-…قضايا الأعيان 10
أمثلة على قضايا الأعيان 10
استضعاف جواب المصنف 10
قضايا العقائد عامة 11
عصمة الأنبياء 11
عند معارضة الجزئيات للكليات 11
فصل: فائدة هذه المسألة 12
اتباع المتشابهات أصل الزيغ والضلال 12
لبس الحرير للحكة أو لغيره 12
التمثيل بقصة عن عصمة الأنبياء 12-13
قصة سيدنا موسى -عليه السلام- والعصمة 13
المسألة الثانية:
وضع الشريعة على مقتضى ما قصد الشارع من ضبط
الخلق بالقواعد العامة، وقد كانت العوائد جرت بها سنة
الله أكثرية لا عامة 14
عموم وضع التكاليف 14
السفر والمشقة في القصر والفطر 14
النصاب والغنى في الزكاة 14
الرخص 14
إعمال أخبار الآحاد والقياس "الظنيات" 15
ما يتوجه على القياس من الاعتراضات 15
الشهادات والإشكال فيها 15
إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية
من حيث هي منضبطة بدون معارض قوي مساوٍ له 15
مثال للتوضيح
القصر والفطر في السفر للملك 15
الربا، وما هي علة التحريم؟ 15-16
الثمنية، والوزن والقوت 16(9/215)
ص -479-…ربا الفضل والنسيئة 16
الفرق بين العلل والأوصاف المنضبطة 16
الخمر والزنى والحد عليهما 17
المسألة الثالثة: 18
العموم له صيغ وضعية، والنظر في هذا مخصوص بأهل اللغة العربية 18
للعموم بحسب الوضع نظران: 18
أحدهما: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق 18
التخصيص بالمنفصل وأمثلة عليه 18
الثاني: بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها 19
القاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا
عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي 19
التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي 19
الحلف بالطلاق والعتاق ليضربن جميع من في الدار ولم يضرب نفسه 20
العموم يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها
مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان 21
الاستثناء في القرآن 21
الدباغة واختلاف العلماء في جلد الكلب 22
التنبيه على وهم في عزو حديث "إذا دبغ الإهاب...." 22
هجرة المؤمنات ضمن معاهدات المسلمين للكفار 22
اللفظ العام إذا ثبت ينطلق على جميع ما وضع له من الأصل
حالة الإفراد 23
العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة 23
ذكر بعض أمثلة على ذلك 24
قضية لبس الإيمان بالظلم 24
عذاب الكفار وآلهتهم 24
اللفظ العربي له أصالتان: أصالة قياسية وأصالة استعمالية 25
الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه،
وللشريعة بهذا النظر مقصدان:(9/216)
ص -480-…أحدهما:
المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه 25
الثاني:
المقصد في الاستعمال الشرعي 25
الحقائق الشرعية والعرفية واللغوية 25
الدعاء والصلاة 26
تبيان التفاوت الحاصل في النظر الثاني 26-28
فصل: مناقشة الأمثلة المعترض بها على أصل المسألة 27
تفسير آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 27-29
بعض أنواع الظلم 27-27
النفي والنكران 28
تعذيب الكفار وآلهتهم 30
التنبه على ضعف شديد في قصة ابن الزبعرى في تفسير
الآية بها 30
كتم العلم والفرح به 32
الأدب مع السابقين 32
تبيان أن ذلك بيان لعمومات النصوص كيف وقعت في الشريعة33
السلف مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربًا
قد أخذوا بعموم اللفظ، وإن كان سياق الاستعمال يدل
على خلاف ذلك 34
ذكر مجموعة من الأمثلة وتخريجها 34-40
العموم الإفرادي 33
التخصيص بالمنفصل
أسلوب حياة عمر في الخشونة والتنعم مع فهمه -رضي الله عنه- لقوله
تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 34-35
حديث الذين هم أول من تسعر بهم النار 35-36
تكثير سواد المشركين 36
قصة نزول قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ}36-37
الخواطر والتكليف بها 37
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} 38
حجة الإجماع من الآية 38(9/217)
ص -481-…وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْه} 38
استحياء الصحابة في الخلاء 38
تفسير: يتخلوا 38
الحكم بغير ما أنزل الله كفران 39
عموم اللفظ وخصوص السبب, النزول أو الحادثة 40
ذكر حال الكافر في النار وحال المؤمن في الجنة, أسباب ذلك 40
تبيان فقه السلف في فقه الصيغ العمومية وخصوص
الأسباب والجمع بين الخوف والرجاء في هذا الباب 40-41
هل يصح خصوص السبب أن يكون قرينة مخصصة؟ 41
العموم الإفرادي والاستعمالي 41
الفصل بين الشاطبي والأصوليين في التخصيص 43
فصل: التخصيص يكون بالمتصل وبالمنفصل 43
أسماء العدد ليست من العموم 43
التخصيص بالمتصل 43-44
التخصيص بالمنفصل 44
إشكالات من الأصوليين والجواب عنها 44-46
فصل: فيما ينبني على المسألة من أحكام 46
منها: من المسائل الخطيرة في الدين؛ العام إذا خص
هل يبقى حجة أم لا؟ 46
التخصيص بالمتصل والمنفصل 47
عمومات القرآن 47-48
بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلام 48
صيغ العموم في الأصل الاستعمالي 49
المسألة الرابعة: 50
العزائم تبقى على عمومها، وإن ظهر أن الرخص تخصصها 50
إشكالات من أوجه على المسألة:
الأول: أن العزيمة مع الرخصة من باب الكفارة 51(9/218)
ص -482-…الثاني: أن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية
الرخصة جمع بين متنافيين 51
الثالث: أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة 51
الجواب عن كل واحد منها
الجواب الأول 51
الجواب عن الثاني والثالث 52
رفع الإثم عن المخالف لعذر 52
المسألة الخامسة 53
إطلاق أن الأعذار خصصت عمومات العزائم على المجاز
لا على الحقيقة 53
مواقع المسألة 53
أدلة صحتها ومناقشتها 53
شروط التكليف 53
العزائم 53
الإثم والخطأ 53
فرضية المسألة في موضعين على التمثيل: 53
الأول: فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم 53
ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما 53-54
أمثلة ذلك 53-54
الثاني: إذا أخطأ الحاكم في الحكم... وإذا أخطأ فحكم
بغير ما أنزل 55
مسائل في القضاء والحكم بغير ما أنزل الله 55- 56
المسألة السادسة:
طريقا ثبوت العموم: 57
الأول: ورود الصيغ 57
الثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في
الذهن أمر كلي عام 57
أدلة ذلك: 57
الأول: الاستقراء 57
الثاني: التواتر المعنوي 57
الثالث: قاعدة سد الذرائع وعمل السلف بها وبعض
الأمثلة من عملهم 59(9/219)
ص -483-…ما ورد من أدلة شرعية على قاعدة سد الذرائع 60
فإن قيل: إن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين
من أوجه 60
أحدها: أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات 60
المعاني العقلية وخواصها 60
الثاني: أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا 61
الثالث: كثرة ورود التخصيصات في الشريعة 61-62
سرد مجموعة من الأمثلة التي تخرج تخصيصات من عمومات 62
التزام الرجال والنساء بالتكاليف ذاتها وتبيان ما يخص النساء
لذات الخلقة 63
الأجوبة عن هذه الإشكالات 63-64
فصل: فوائد المسألة 64
إذا تقررت المسألة عند المجتهد ثم استقرأ معنى عامًّا من
أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل
خاص على خصوص نازلة تعن 64-65
فهم الاستشكال على سد الذرائع من القرافي 65-68
المسألة السابعة: العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في
أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير
تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال، وإن قلنا
بجواز التخصيص بالمنفصل 69-71
فصل: العمل بالعموم من غير بحث عن مخصص 71
تبيان موقع الإجماع فيه وموضع التفصيل 71
الفصل الخامس:
في البيان والإجمال 73
توضيح معنى الإجمال 73
المسألة الأولى:
سبعة أسباب لوقوع الإجمال 73
بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل والإقرار وترتيبها 73
ضرب مجموعة من الأمثلة على بيان النبي -صلى الله عليه
وسلم- لإجمال الآيات وتوضيح ذلك 73-75
علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفعل ولم ينكره مع
القدرة على إنكاره 75(9/220)
ص -484-…المسألة الثانية: 76
العالم يقوم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيان: 76
الدليل الأول: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء 76-77
الدليل الثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء 77
أنواع البيان الواجب على العلماء 78
المسألة الثالثة:
بيان العالم مثل بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل 79
المسألة الرابعة: الغاية في البيان أن يطابق القول الفعل 79
أهمية الفعل مع القول في توضيح الأحكام 81
تبيان الأقوى في البيان الفعل أم القول؟ 81
فصل: الترجيح بين الفعل والقول في البيان 83
المسألة الخامسة: 85
عند وقوع القول بيانًا فالفعل شاهد له ومصدق أو مخصص أو
مقيد، وبالجملة عاضد للقول 85
مطابقة أقوال الأنبياء -عليهم السلام- مع أفعالهم 86
قوة الدعوة وصدقها في مطابقة الفعل القول 86-87
العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة ووظائفها 87
حال الصحابة مع أقوال النبي وأفعاله 87-88
التحذير من زلة العالم والآثار الواردة في ذلك 88-90
قوة الأفعال في التأسي 91
اعتبارات أفعال المتبوعين: 91
الأول: من جهة أنه واحد من المكلفين 91
الثاني: من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانًا وتقريرًا لما
شرع الله إذا انتصب في هذا المقام 91
تبيان أن بيان العالم واجب 91-92
أين يتعين البيان؟ 92
أمثلة من أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتروكاته التي
كانت لبيان الأحكام 93(9/221)
ص -485-…الأمثلة السادسة:
المندوب لا يسوى بينه وبين الواجب في القول والفعل والاعتقاد 97
بيان ذلك بأمور:
الأول: أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق 97
الثاني: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبينًا
للناس ما نزل إليهم 97
أمثلة من السنة على ذلك فقد فرق بين الواجب والمحرم
والمندوب 97-98
تخريج أحاديث "لا حرج" 98-100
مسلك آخر في توضيح المسألة: ترك النبي -صلى الله عليه
وسلم- للعمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس 101
مثل قيام رمضان وهل خاف أن يفرض بالوحي أو خوف أن
تظن الأمة أنه فرض؟ 101
ذكر أمثلة على هذا المسلك لتوضيحه 101-102
معنى ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا 102
الثالث: عمل الصحابة على الاحتياط في الدين 102
أمثلة عن الصحابة في ذلك 102-105
الرابع: استمرار عمل أئمة السلف بهذا الوجه 105
اعتباره أصل سد الذرائع عند مالك 107
فصل: الأمور التي يفرق بها بين الواجب والمندوب 107
فصل: ومن استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين
بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان 108
سرد أمثلة عن السلف -الصحابة والتابعين وأئمة
المذاهب- جميعًا في هذا الفصل 108-113
تواطؤ أهل بلد على ترك شيء من الدين 111
أصل سد الذرائع والفصل هنا 111
إرجاعه إلى أصل سد الذرائع 111
المسألة السابعة: 114
وكذلك المباحات لا يسوى بينها وبين المندوب والمكروه 114-116
الإجابة على أدلة المسألة السابعة 116
المسألة الثامنة: 117(9/222)
ص -486-…وكذلك المكروهات لا يسوى بينها وبين المحرمات
والمباحات 117-118
أدلتها مثل أدلة المسألة التي قبلها 117
ويضاف إليها وجهان الأول: أنها قد تظهر محرمات
ويصير الترك واجبًا 117
توضيح أن تبيان الحكم أهم من ارتكاب المكروه 117
ثانيها: أن العمل بها دائمًا يصيرها عند الناس مباحات 118
فصل فوائد للمسائل السابقة وما قبل 118
منها: أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية
أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب 119
منها: ونحوه في الكيفيات والتزامه كيفية لا تفهم منها
في كيفيات أخر 119
ذكر أمثلة على ذلك 119-121
ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة 120-121
التفريق بين ما يفعل بحضرة الناس وما لا يفعل 121
التزامات الصوفية 122-123
المسألة التاسعة: 124
وكذلك الواجبات لا يسوى بينها وبين غيرها ولا
يسامح في تركها ألبتة 124
وكذلك المحرمات 124
فائدة هذه المسألة في قيام وارث النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالقيام بالأفعال على ما يقوم به النبي
-صلى الله عليه وسلم- في أنفسها ولواحقها وسوابقها.125
المسألة العاشرة:
لزوم هذا البيان في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع أيضًا 126
المسألة الحادية عشرة:
بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحيح لا إشكال فيه 127
وكذلك بيان الصحابة المجمع عليه 127
وأما ما لم يجمعوا فهو صحيح أيضًا وهو عند المصنف
من وجهين:
الأول: معرفتهم باللسان العربي 128
الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي
بالكتاب والسنة 128
أمثلة توضيحية 129-131(9/223)
ص -487-…منها تعجيل الفطر 129
والصوم لرؤية الهلال 130
مالك والصحابة في الموطأ 131
وتوضيح كلامهم للغة 131
القول في تقليد الصحابي وحجية قوله 132
كلمة جامعة في الصحابة وعلمهم بالدين وضرورة الالتزام
بفهمهم 132-133
الاجتهاد بين الصحابة وغيرهم 134
المسألة الثانية عشرة:
الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف، وإما غير
واقع في الشريعة 135
يان ذلك: الأول: النصوص الدالة على ذلك 135
التكليف بالمجمل ومعنى المجمل في كلام الأئمة 137
المتشابه في القرآن والمشتبهات 138-139
أحاديث الصفات 139
الوجه الثاني: مقصود الشارع من الخطاب الوارد على
المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم 140
الوجه الثالث: أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان
عن وقت الحاجة 140
الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل 141
اقتصار الكلام على الكتاب والسنة دون الإجماع والرأي 143
مسائل الكتاب: 143
المسألة الأولى: 144
اعتماد أن القرآن طريق الهداية ولأنه كلية الشريعة
وعمدة الملة 144
إعجاز القرآن, وفهمه 144-145
المسألة الثانية: 146
معرفة أسباب النزول وأهميته من جهة أمرين:
الأول: أن علم المعاني والبيان مداره على مقتضيات الأحوال 146
الثاني: الجهل بأسباب النزول موقع في الإشكالات والشبه 146
فوائد معرفة أسباب النزول 147(9/224)
ص -488-…توضيح ذلك بالأمثلة: قصة عمر مع ابن عباس 148-153
قصة مروان مع ابن عباس في معنى الفرح بالحمد
من الناس مع ربط ذلك بميثاق الذين أوتوا الكتاب 149-150
القنوت ومعانيه 150
من شرب الخمر قبل نزول التحريم، ومن احتج بسقوط
الإثم عنه مثلهم 150
مجيء الدخان 152
فصل: علم معرفة أسباب النزول 152-153
أهمية معرفته بمزاولة علم التفسير عمومًا 153
فصل: أهمية معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها
ومجاري أحوالها حالة التنزيل 154
الأول: إتمام الحج والعمرة 154
الثاني: الخطأ والنسيان 154
الثالث: العلو 155
الرابع: عبادة العرب للكواكب 155
ذكر أربعة أمثلة على أهمية هذا الأمر 154-155
فصل: أهمية أسباب ورود الحديث أيضًا 155
سرد مجموعة من الأمثلة:
منها: الأضاحي والتخلف عن الجماعة والهجرة 155-157
المسألة الثالثة: 158
في سرد قصص القرآن، إذا ورد ما هو باطل فلا بد من رده 158-161
فصل: هل الكفار مخاطبون بالفروع؟ 161
صفات الله والأصابع 164
فصل: النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسكت على
باطل ولا يؤخر البيان عن وقت حاجته 166
المسألة الرابعة: 167
مقارنة الترغيب للترهيب والترهيب للترغيب في
القرآن مع الأمثلة من القرآن نفسه 167
فصل: تغليب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات
الأحوال من القرآن مع الأمثلة 170(9/225)
ص -489-…وقد لا يذكر إلا طرف واحد 175
توضيح سبب ذلك 175
التنبيه على أن أصل المسألة هو القانون الشائع 175
وأن ما ذكر من تغليب أحدهما على الآخر قضايا أعيان 175-178
فصل: دوران العبد بين الخوف والرجاء؛ لأن حقيقة
الإيمان دائرة بينهما 178-179
المسألة الخامسة: 180
تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي،
وحيث جاء جزئيًّا فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو
بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي,
صلى الله عليه وسلم 180
معجزات الأنبياء 181
توضيح أهمية السنة في تفسير القرآن وربط ذلك بالإعجاز 181
تضمن الشرع؛ القرآن والسنة للقواعد الثلاثة: 182
من فضائل عبد الله بن مسعود 182-183
فصل: الاستنباط من القرآن ينبغي أن يكون مع
النظر في شرحه وبيان السنة والدليل العقلي على ذلك 183
المسألة السادسة: 184
بناء على ما تقدم، وبالترتيب المتقدم، فإن القرآن فيه
بيان كل شيء 184
دليل ذلك: النصوص القرآنية 184
وما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك 184
سرد مجموعة منها وتخريجها 184-189
ومنها: التجربة، وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى
القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلًا 189
الكلام عن الظاهرية في هذا الباب 189
الإجارة في الدين والقراض 189
وجود قواعد في السنة ليست في القرآن وتكميلها له 190
تبيان السنة للقرآن 192
من نوادر الاستدلال القرآني 193-196(9/226)
ص -490-…استدلالات غريبة -بعضها للصوفية- في القرآن 195-197
رؤية النساء وكلامهن لله رب العالمين 196
فصل: كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل
الوجوه لا بد أن يلتفت إلى أصلها في القرآن 197
المسألة السابعة: 198
العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام: 198
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من
الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله منه؛ كعلوم
اللغة العربية 198
التنبيه على علوم ليست كذلك وعدها من بعض
العلماء أنها معينة وتبيان خطئهم في ذلك 198
قسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من
حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما مثل دلالة البنوة،
وهو كونه معجزة لرسول الله, صلى الله عليه وسلم 199
قسم مأخوذ من عادة الله في إنزاله، وخطاب الخلق
به, ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيًّا
يدخل تحت نيل أفهامهم 200
اشتمال القرآن على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد
الفرعية والمحاسن الأدبية 200
ذكر الأمثلة على ذلك، وهي مهمة في بابها 200- 204
من ذلك: عدم المؤاخذة قبل الإنذار 200
والبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق 200
وترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل
المعاندين بالعذاب 200-201
وتحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي
يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره 201
والتأني في الأمور والجري على مجرى التثبت 201
والتأدب من العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالدعاء 202
آداب الدعاء القرآنية
منها: إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى 202
منها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام
بأمور العباد وإصلاحها 203
ومنها تقديم الوسيلة بين يدي الطلب 203(9/227)
ص -491-…قسم هو المقصود الأول بالذكر، وهو الذي نبه عليه
العلماء وعرفوه مأخوذًا من نصوص الكتاب منطوقها
ومفهومها على حسب ما أداه اللسان العربي 204
أجناس ثلاث من العلوم احتواها القرآن هي المقصود الأول: 204
أحدها: معرفة المتوجه إليه؛ وهو الله المعبود سبحانه 204
الثاني: معرفة كيفية التوجه إليه 204
الثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه 204
الأول: يدخل تحته من علم التوحيد توحيد الأسماء والصفات 205
الثاني: يدخل تحته علم العبادات والمعاملات 205
الثالث: يدخل تحته عذاب القبر والموت ويوم القيامة 205
تعريف الناس بالله 206
تعريف أحوال المستجيبين لدعوة الله 206-207
الحاصلة في علوم القرآن عند الغزالي سوابق ومتممات 206-207
المسألة الثامنة: 208
الظاهر والباطن في تفسير القرآن 208
التفسيرات الورادة في هذا واستدلال كل من أخذ
بتفسير للظاهر والباطن 208-214
تدبر القرآن 209-210
نفي الفقه والفهم عن الناس في القرآن 214
فصل: كل المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن
إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر 214
مثل المسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن
ظاهر القرآن 214
سرد مجموعة من الأمثلة المهمة على ذلك 215
وهو محصل إعجاز القرآن 217
كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب
بوصف العبودية، والإقرار لله بالربوبية، فذلك هو الباطن
المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله 218
تخريج حديث سبب نزول {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}
وهو قول اليهود لعنهم الله 218-220
حصول الباطن على التمام في المكلف 220
المنافق وتدبر الآيات 220-221
مسائل الحيل والإضرار وفهم باطن القرآن 221(9/228)
ص -492-…مسائل الابتداع كذلك 221-223
جملة القول في تحقيق المسألة 223
المسألة التاسعة: 224
كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردًا لا إشكال فيه 224
كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على
اللسان العربي، فليس من علوم القرآن في شيء،
لا مما يستفاد منه، ولا به 224-225
أمثلة ذلك وردها بالأدلة العقلية والنقلية ما أمكن 225-231
فصل: الباطن هو المراد من الخطاب ويشترط فيه
شرطان: 231
أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في
لسان العرب وتوضيح ذلك 232
الثاني: أن يكون له شاهد نصًّا أو ظاهرًا في محل
آخر من غير معارض 232
توضيح ذلك 232-233
بعض أمثلة من تفسيرات الباطنية وقبح ذلك 233
وكذلك الرافضة، وذكر مثل عن عربي أساء الفهم
كالباطنية 234
فصل: ما وقع في القرآن من التفاسير المشكلة،
مما يمكن أن يعد من الباطن الصحيح أو الفاسد 235
فواتح السور, أي: الحروف المقطعة، وما ورد في
تفسيرها وتخريج هذه النقول الشعرية والحديثية 235
الأعداد الجملية 238
كلمة جامعة حول تفسيرات الحروف المقطعة،
خصوصًا ما ادعي في معناها في السحر، وهو
مفصل في كلمات نافعة, إن شاء الله 240-241
فصل: بعض ما نقل عن سهل بن عبد الله
التستري من تفسيرات غريبة ومشكلة ومحاولة
توجيهها ومناقشة ذلك 242
فصل آخر في ذلك 245
التنبيه على عظم الأمر وسبب ذكر ما نقل عن
التستري وتوضيحه، والتنبيه على ما وقع من
الغزالي والباطنية 252
المسألة العاشرة:
الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة
للبصائر ضربان: 253(9/229)
ص -493-…أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن 253
الثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها 253
فصل: مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 255
المسألة الحادية عشرة: 256
ينبغي تنزيل السور المكية على بعضها البعض في الفهم
وكذلك المدني، وتنزيل المدني على المكي كل حسب
ترتيبه في النزول 256
التأكيد على رجوع المدني إلى مكي وأن فهمه من أسرار
علوم التفسير 257-258
فصل: وكذلك مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 258-260
المسألة الثانية عشرة: وهي مسألة مفيدة 261
أخذ تفسير القرآن على التوسط؛ والاعتدال هو فهم أكثر السلف261
ذم من أخذه بالتفريط كالباطنية أو بالتشديد بعيدًا عن أساليب
اللغة العربية أو بالتنطع في أساليبها غافلًا عن التفقه في
المعبر عنه في الكلام 261-264
المسألة الثالثة عشرة: 265
وهي مبنية على ما قبلها وهو معرفة الضابط المعول
عليه في مأخذ الفهم في التفسير على الاعتدال والتوسط 265
وفي الحاشية نوع تلخيص أو إعادة للمسألة السابقة 265
تبيان الموضوع وتوضيحه واعتماده على جمع الآيات وفهمها
بحسب مساقها وحسب نزولها وسبب نزولها 266
النزول القرآني له اعتباران من جهة تعدد القضايا ومن جهة
النظم 267
فهم اعتبار النظم القرآني في ترتيب القرآن مع تفرق نزول
السور والسورة الواحدة 268
السور المكية مقررة لثلاثة معانٍ: 269
أولًا: التوحيد ويأتي على وجوه 269
ثانيًا: تقرير النبوة 270
ثالثًا: إثبات أمر البعث والدار الآخرة 270
بيان ما افتتحت به سورة المؤمنون: 270
أولًا: بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها
رفعه الله وأكرمه 271
ثانيًا: بيان أصل التكوين للإنسان 271(9/230)
ص -494-…ثالثًا: بيان وجوه الإمداد من خارج بما يليق به في
التربية والرفق 271
سرد القصص الواردة في سورة المؤمنون 271-274
سبب ذكر قصص الأنبياء في القرآن 274
فصل: مآخذ القرآن في النظر على أن جميع سوره كلام واحد 274
مناقشة المصنف في ادعاء أن كلام الله -كله- كلام واحد
لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار وسياق المسألة 274
المسألة الرابعة عشرة:
القرآن ذم إعمال الرأي 276
التحذير من تفسير القرآن بالرأي 276-277
أقسام الرأي:
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة 277
سبب عدم جواز إهمال هذا القسم من الرأي 277-279
عدم قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من تفسير كثير
من الآيات 278
حمل أهل البدع تفسير القرآن بأهوائهم 278-279
الرأي غير الجاري على موافقة العرب أو غير الجاري على
الأدلة الشرعية 279-280
سرد أدلة على ذم هذا الرأي 280-282
فصل: فوائد ما سبق وتلخيص له من المصنف: 283
منها: التحفظ من القول في كتاب الله إلا على بينة 283
تبيان طبقات الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في
التفسير: 283
إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين 284
الثانية: من علم في نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم 284
الثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد 284
ومن الفوائد، من ترك النظر في القرآن واعتمد في ذلك على
من تقدمه ووكل إليه النظر فيه غير ملوم، وله في ذلك سعة
إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة 284
ومنها: أن يكون على بال من الناظر والمتكلم عليه أن ما
يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله 284-285(9/231)
ص -495-…الدليل الثاني: السنة 287
المسألة الأولى: تعريف السنة وإطلاقاتها الأربع 289
هل فعل الصحابي يطلق عليه ذلك؟ 290
تعزير شارب الخمر وحده 291
تضمين الصناع 291
الاستحسان والسنة 291-292
جمع القرآن وسنة الصحابة 292
المسألة الثانية: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار 294
الدليل الأول: قطعية الكتاب وظنية السنة 294
مناقشة المصنف في ادعائه أن السنة ظنية 294-295
الدليل الثاني: بيان السنة للقرآن أو زيادة على ذلك 296
مناقشة أخرى للمصنف في دليله الثاني 296-297
الدليل الثالث: ما ورد من الأحاديث والأخبار في ذلك 298
حديث معاذ وتخريجه تخريجًا موسعًا شاملًا لفقهه 298-307
سرد مجموعة أخرى من الأحاديث والآثار وتخريجها 307-308
الواجب والفرض عند الحنفية بالنسبة للكتاب والسنة 308-309
مناقشة الحنفية في ذلك
السنة قاضية على الكتاب 309
التقديم عند التعارض واختلاف العلماء في ذلك 310
توضيح معنى قضاء السنة على الكتاب 311
تبيان اختلاف الأصوليين عند التعارض 312-313
المسألة الثالثة: السنة راجعة في معناها إلى الكتاب 314
حصر المصنف السنة في بيان القرآن، ومناقشته في ذلك 314-316
القواعد دل القرآن عليها، وهل السنة كذلك؟ 316
تبيان استقلال السنة وأنها ليست بيانًا فقط 320
سرد الأدلة من القرآن والسنة والاستقراء العام 320-325
أن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم 325-326(9/232)
ص -496-…سرد مجموعة من الأدلة على ذم من أخذ بالقرآن دون
السنة وعمل بالقرآن برأيه 326-330
توضيح بعض أوجه ما تقدم وإرجاع وظيفة البيان للسنة دون
ما غيرها 331-339
المسألة الرابعة: 340
الأدلة القرآنية التي تأمر باتباع السنة 340
منها: ما هو عام وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على
صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها 340
ذكر أمثلة من فعل السلف على تطبيق هذا المعنى وتخريجها 340-342
ومنها: الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث في بيان ما أجمل
ذكره من الأحكام 343-345
ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود
في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح 346
أقسام المصالح الثلاث 346
أولها: الضروريات الخمس 347
حفظ الدين، والإسلام، والإيمان, والإحسان 347
وحفظ النفس ومعانيه الثلاثة 347-348
وحفظ النسل 348
وحفظ العقل 349
الحاجيات والتحسينيات 349
عودة إلى الضروريات الخمس مع التوسعة ورفع الحرج 350-351
ومنها: النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين
الواضحين ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع 352
توضيح النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين353
أمثلة على ذلك:
الطيبات والخبائث 354-357
والمشروبات حلالها وحرامها 358-361
الصيد من الجارح المعلم 361-364
صيد المحرم بالحج 364
الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن، وجاءت بينهما أمور
ملتبسة بينتها السنة 366-370(9/233)
ص -497-…النكاح والزنى ونكاح التحليل 370
ميتة البحر بين الصيد والأطعمة 371
القصاص وقتل الخطأ 374
ذكاة الجنين 375-376
إرث البنات 377
مجال القياس: أمثلة 379
الربا 379-382
النكاح: الجمع بين الأم وابنتها والأختين 383
الماء: الطهورية 383
الديات 383
الفرائض المقدرة 384
الرضاعة 385
تحريم مكة والمدينة 386-388
الشهادات، شهادة النساء 389
البيوع والإجارات 390
الرؤى الصالحة 391
ومنها: النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من
معانٍ مجتمعة 392
ومنها: النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن،
وإن كان في السنة بيان زائد 393
مناقشة حول هذه النقطة 393-394
مناقشة الأدلة في ذلك 395
حديث تطليق الحائض 395
وحديث سكنى المطلقة ثلاثًا ونفقتها 395
عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 396
تحريف كلام الله من اليهود 397
اتخاذ مقام إبراهيم مصلى 398
الدعاء 398
الصيام والفجر 398(9/234)
ص -498-…الصلاة الوسطى 399
الجنة والنار 400
الكبائر 401
اكتمال فهم القرآن بالسنة 401-402
فصل: تبيان أن القرآن يحوي أصل الدين وأن السنة بيان لها فقط 402
المسألة الخامسة: بيان السنة للقرآن فيما يتعلق بأفعال
المكلفين من جهة التكليف 406
أما ما يتعلق بالإخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا
نهي ولا إذن فعلى ضربين: 406
الضرب الأول: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن 406
ذكر أمثلة على ذلك وتخريجها 406-416
الضرب الثاني: أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف
اعتقادي أو عملي 417
المسألة السادسة: 419
السنة ثلاثة أنواع كما تقدم: قول وفعل وإقرار 419
الفعل والترك والكف 419
أوجه وقوع الترك: 423
الترك لأجل الكراهية طبعًا 423
الترك لحق الغير 423
الترك خوف فهم الافتراض من الناس 423
الترك لما لا حرج في فعله 424
ترك المباح الصرف إلى ما هو الأفضل 426
الترك للمطلوب خوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة
ذلك المطلوب 428
مناقشة الأوجه السابقة 429-434
فصل: الإقرار معناه: لا حرج في الفعل الذي أقره النبي
-صلى الله عليه وسلم- بسماعه أو برؤيته 434(9/235)
ص -499-…المسألة السابعة: 438
مقارنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للفعل أعلى درجات
التأسي 438
وأقل منه إذنه مع عدم فعله 440
المسألة الثامنة: 443
الإقرار وموافقة الفعل في مرتبة القول مع الفعل 443
المسألة التاسعة: سنة الصحابة سنة يعمل بها ويرجع إليها: 446
الدليل الأول: ثناء الله عليهم وتوضيح الدليل 447-448
الدليل الثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم
وتخريج ذلك 449-456
الدليل الثالث: أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح
الأقاويل 456
الدليل الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذمّ
من أبغضهم 462-463
المسألة العاشرة: 464
صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر انبنى
عليه تكليف، أو لم ينبنِ 464
خصائص النبي, صلى الله عليه وسلم 469
عصمة النبي, صلى الله عليه وسلم 470
علم الغيب 471
الاستدراكات 475
الموضوعات والمحتويات 477(9/236)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الخامس
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(10/1)
ص -7-…[بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]1
كتاب الاجتهاد:
وللنظر فيه [ثلاثة]2 أطراف.
أ- طرف يتعلق بالمجتهد3 من جهة4 الاجتهاد.
ب- طرف5 يتعلق بفتواه.
ج- وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "د".
2 زيادة في نسخة "ماء."
3 في "ط": "بالمجتهدين".
4 أي من جهة تنوعه إلى عام وخاص، ومن جهة ما يتحقق به الخاص من الوسائل، وما يصح فيه الاجتهاد وما لا يصح، وأسباب خطأ المجتهد، إلى غير ذلك "د".
5 هذه المرتبة متفرعة على ما قبلها، والطرف الثالث لا يبعد في مقصوده عن هذا الثاني. "د".(10/2)
ص -11-…المسألة الأولى:
الاجتهاد1 على ضربين:
أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد هو استفراغ الجهد وبذل غاية الوسع، إما في درك الأحكام الشرعية، وإما في تطبيقها، فالاجتهاد في تطبيق الأحكام هو الضرب الأول الذي لا يخص طائفة من الأمة دون طائفة، وهو لا ينقطع باتفاق، والاجتهاد في درك الأحكام هو الضرب الثاني الذي يخص من هو أهل له، وقد اختلفوا في إمكان انقطاعه، فقال الحنابلة: لا يخلو عصر من مجتهد، وقال الجمهور: يجوز أن يخلو، وهو مذهب المنصور؛ لأنه لا يلزم عنه محال لذاته، وللأدلة السمعية الكثيرة كقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا..." الحديث "د".
قلت: مضى تخريج الحديث "1/ 97"، وهو صحيح.
وانظر في تعريف الاجتهاد ومباحثه عند الأصوليين: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و20/ 202 و22/ 299، 230 و29/ 153"، و"مختصر الطوفي" "173"، و"مختصر البعلي "163"، و"شرح الكوكب المنير/ 4 458"، و"روضة الناظر" "2/ 401 - مع شرح ابن بدران"، و"الإحكام" "4/ 62" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 350"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 62"، و"كشف الأسرار" "4/ 14"، و"الإحكام" "1/ 41 و2/ 155" لابن حزم، و"شرح تنقيح الفصول" "429"، و"نهاية السول" "3/ 233"، و"الحدود" "64" للباجي، و"فواتح الرحموت" "2/ 362" و"إرشاد الفحول" "250".(10/3)
وانظر في إمكان انقطاعه: "جمع الجوامع"2/ 416"، و"التقرير والتحبير" "3/ 339"، و"تيسير التحرير" "4/ 240-241"، و"مسلم الثبوت" "2/ 399"، وشرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 308"، و"البحر المحيط" "6/ 209 وما بعدها" للزركشي، و"الإحكام" "4/ 233" للآمدي، و"إرشاد الفحول" "253"، و"المسودة" "472"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "191"، و"صفة الفتوى" "17" لابن حمدان، "والإمام أحمد بن حنبل" "ص395" لأبي زهرة.(10/4)