ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه وطرقه في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "2/ 244، مسألة رقم 20".(5/244)
ص -535-…التحسين والتقبيح1، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحة، وإلا، فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إِذِ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح؛ فإذن كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات2، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا.
ومن هنا يقول العلماء3: إن من التكاليف "ما هو حق لله خاصة"، وهو راجع إلى التعبد، وما هو حق للعبد" ويقولون في هذا الثاني: إن فيه حقا لله، كما في قاتل العمد إذ عفي عنه ضُرِب مئة وسُجِن عامًا، وفي القاتل غيلة إنه لا عفوَ فيه، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة4، وإن كانت براءة رحمها حقا له وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقا لله، فإن ما هو لله، فهو لله، وما كان للعبد، فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله؛ إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى بهذا الصدد "1/ 125" مع التعليق عليه، وما سيأتي "3/ 28".
2 في الأصل: "تعبدات".
3 المذكور قول القرافي في كتابه "الفروق" "2/ 140، الفرق الثاني والعشرون"، وانظر أيضا: "المنار" "886- مع حواشيه"، و"شرح التلويح على التوضيح" "2/ 155".
4 لعل الأصل: "عن المرأة المطلقة". "د".(5/245)
5 وعليه، فالشريعة هي أساس الحقوق الخاصة، وليست الحقوق الخاصة هي أساس الشريعة، والحق ليس منحة من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، وليس هو حقا طبيعيا لصاحبه، بل هو منحة إلهية وهبها الله سبحانه للإنسان من أجل أن يتحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية.(5/246)
ص -536-…ومن هذا الموضع يقول كثير م العلماء: "إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق"1، علمت مفسدة النهي أم لا، انتفي السبب الذي لأجله نهي عن العمل أولا، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي، فإذا لم يحصل، فالعمل باطل بإطلاق، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد، وإذا لم يخل، فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات.
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد، كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة، ومنها ما لا يصح إلا بنية، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله؛ كالزكاة والذبائح والصيد، والتي تصح بدون نية إذا فُعِلت بغير نية لا يثاب عليها، فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد، أثيب عليها، وكذلك التروك إذا تُرِكت بنية، وهذا متفق عليه، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيها حق، [لما]2 حصل الثواب فيها أصلا؛ لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها، والمأمور به متقرب إلى الله به، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة، وكل عبادة مفتقرة إلى نية، فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تحرير هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299، 23/ 25، 29/ 281 وما بعدها، و32/ 88 و33/ 18، 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 108"، و"كشف الأسرار "4/ 134-135"، و"تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي، و"النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيمية" لصديقنا رعد عبد العزيز، و"النهي وأثره في الفقه الإسلامي" لمحمد سعود المعيني.
2 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(5/247)
ص -537-…فإن قيل: إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب؛ لا من كونها طاعة متقربا بها.
قيل: هذا غير صحيح؛ إذ لو كان كذلك؛ لصح الثواب بدون النية؛ لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية.
وأيضًا، فلو حصل الثواب بغير نية، لأثيب الغاصب إذا أُخِذَ منه المغصوب كرها، ليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد، فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك، ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة.
وهو دليل سادس في المسألة.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية، وأن لا يصح عمل من لم ينوِ، أو يكون عاصيا.
قيل: قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب، وقد يكون جهة التعبد هي المغلبة، فما كان المغلب فيه التعبد، فمسلَّم ذلك فيه، وما غلب فيه جهة العبد، فحق العبد يحصل بغير نية، فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله، فإن راعى جهة الأمر، فهو من تلك الجهة عبادة، فلا بد فيه من نية، أي: لا يصير عبادة إلا بالنية، لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة، كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم، أو اقرض بقصد دنيوي، وكذلك البيع والشراء، والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها، ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يثابرون على(5/248)
ص -538-…إحضار النيات في الأعمال، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم1.
فصل:
ويتبين بهذا أمور، منها أن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق2، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا3 فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية.
كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد، ولذلك قال في الحديث: "حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم"4 وعادتهم في تفسير "حق"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "قواعد الأحكام" "2/ 66 وما بعدها".
2 هذا هو التحقيق في التعبير عن حق الله خلافا للقرافي، حيث ذهب في الفرق الثاني والعشرين إلى أن حق الله أمره ونهيه لا نفس العبادة، وزعم أن هذا هو المحرر عند العلماء، وقد تعرض أبو القاسم بن الشاط إلى التنبيه على هذا الغلط، وأنكر أن يحرر العلماء ما يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا". "خ".
قلت: وانظر في تعريفه: "قواعد الأحكام" "1/ 103"، و"تيسير التحرير" "2/ 174-181"، و"شرح المنار" "886- مع حواشيه"، و"كشاف اصطلاحات الفنون" "1/ 329-330".
3 كالقصاص، فالعفو عنه حق للعبد، على معنى أنه إن عفا سقط الحق كله. "د".(5/249)
4 جزء من حديث، وفيه حق الله على العباد أيضا، وسيأتي عند المصنف "ص544"، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار رقم 2856، وكتاب اللباس، باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه رقم 5967، وكتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم 6267، وكتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه رقم 6500، وكتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى رقم 7373"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/ 58-59/ رقم 30" من حديث معاذ رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"خ": "لا".(5/250)
ص -539-…الله" أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، كان له معنى معقول أو غير معقول، "وحق العبد" ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية، فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله، ومعنى "التعبد" عندهم أنه ما لا يعقل معناه1 على الخصوص، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد.
فصل:
والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام2:
أحدها:
ما هو حق لله خالصا كالعبادات، وأصله التعبد كما تقدم، فإذا طابق الفعل الأمر، صح؛ وإلا؛ فلا.
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى، فإذا وقع3 طابق قصد الشارع وإن لا؛ خالف4، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل، فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا تعقل فيه الحكمة والمصلحة الخاصة التي يصح أن تكون أساسا للقياس، أما العلل العامة، فهي موجودة حتى في التعدي، كما سبقت الإشارة إليه. "د".
2 انظر: "الفروق" "2/ 140-141"، و"المجموع" "6/ 154"، و"المغني" "6/ 63".
3 أي: الوقوف المذكور. "د".
4 في الأصل: "أو خالف"، وفي "د": "أو لا خالف".(5/251)
ص -540-…وأيضًا؛ فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عند ما حده الشارع، فيكفي في ذلك عدم تحقيق البراءة منه [وإن لم تحصل البراءة]1 وعدم تحقق البراءة [منه إن لم تحصل المطابقة، وعدم تحقيق البراءة]1 موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق، لا بفعل غير مطابق.
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر، فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه؛ إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع، إما بأصله، كزيادة صلاة سادسة، أو ترك الصلاة، وإما بوصفه، كقراءة القرآن في الركوع والسجود، والصلاة في الأوقات المكروهة؛ إذ لو كان مقصودا لم ينهَ عنه، ولأمر به أو أذن فيه، فإن الإذن هو المعرِّف2 أولًا بقصد الشارع فلا تتعداه.
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع، أو المأمور به من غير المطابق؛ فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك، وإما لعد النازلة من باب المفهوم [و]3 المعنى المعلل بالمصالح، فيجري على حكمه، وقد مر أن هذا قليل، وأن التعبد هو العمدة.
والثاني:
ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد، والمغلب فيه حق الله، وحكمه راجع إلى الأول؛ لأن حق العبد إذا صار مطَّرَحًا شرعا، فهو كغير المعتبر؛ إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر، والفرض خلافه كقتل النفس؛ إذ ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفات زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة كلها.
2 في "د": "المعروف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".(5/252)
ص -541-…للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع؛ فذلك للأمور الثلاثة الأول1، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب.
والثالث:
ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب، وأصله معقولية المعنى، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة؛ لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر؛ أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد؛ فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ، أو لا؛ فإن فرض غير حاصل؛ فالعمل باطل؛ لأن مقصود الشارع لم يحصل، وإن حصل -ولا يكون2 حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف- صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد3 ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري؛ لأن النهي لأجل فوت العتق، فإذا حصل4، فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لِمَ لَمْ يعتبر الوجه الرابع السابق هنا؛ وهو عد النازلة من باب المعلل، فيجري على حكمه، مع أنه في هذا أقرب من سابقه؛ لأن سابقه كان في التعبد المحض الذي يبعد فيه الحمل على هذا الوجه، بخلاف هذا النوع الثاني الذي فيه الحقان؛ فإنه حمله على المعلل أقرب من سابقه، إلا أن يقال: إنه أهدر الرابع رأسا حيث قال: "وقد مر أن هذا قليل وأن التعبد هو العمدة" "فلذلك لم يلتفت إليه هنا. "د".
2 لأنه لا يتأتى أن ينهى الشارع عن فعلٍ؛ محافظةً على مصلحة العبد، ثم يكون هذا الفعل المنهي عنه بنفسه محصلا لهذه المصلحة. "د".
3 أي: وأما بالنسبة إلى حق الله وهو الإقدام على المخالفة؛ فلم يرتفع مقتضاه من الإثم، سواء من جهة البائع أو جهة المشتري، وفضل العتق شيء آخر. "د".(5/253)
4 أي: وقد حصل على وجه أبلغ؛ لأنه نجز عتقه، بخلاف المدبر؛ فإن عتقه مؤجل وقد لا يتم. "د".(5/254)
ص -542-…الغير إذا أسقط ذو الحق حقه؛ لأن النهي قد فرضناه لحق العبد، فإذا رضي بإسقاطه؛ فله ذلك، وأمثلة هذا القسم كثيرة، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع؛ فذلك لأحد الأمور الثلاثة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتطبيقه في مسألة العبد جارٍ على الوجه الثالث، وهو أن المخالفة راجعة إلى وصف منفك؛ فالعتق وقع على ذات العبد الذي يمكن انفكاكه عن كونه مدبرا إلى أن يكون قنًّا صرفًا مثلا، كما قالوه في الدار المغصوبة؛ فالصلاة منفكة عن المكان المغصوب، والمكان المغصوب ينفك عن أن تقع فيه الصلاة؛ لأن الوصف ليس من الأوصاف اللازمة. "د".(5/255)
ص -543-…المسألة العشرون:
لما كانت الدنيا مخلوقة؛ ليظهر فيها أثر القبضتين1، ومبنية على بذل النعم للعباد؛ لينالوها ويتمتعوا بها، وليشكروا2 الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى، حسبما بيَّن لنا الكتاب والسنة، اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة3، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا.
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد في ذلك أحاديث كثيرة جدا عن جمع غفير من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قال الشيخ صالح المقبلي في "الأبحاث المسددة" -كما في "فتح البيان" "3/ 406" لصديق حسن خان: "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك".
وتجد كثيرا من هذا الأحاديث في تفسير سورة الأعراف "آية 172" عند ابن جرير وابن كثير والسيوطي في "الدر المنثور" و"تفسير النسائي" "1/ 504-507"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 424-425"، وفي "السنة" لابن أبي عاصم "باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده 1/ 87 وما بعدها، والسلسلة الصحيحة" "الأرقام 47-50، 848، 1623".
2 في الأصل: "ويشكروا".(5/256)
3 وهو ما يشير إليه فيما بعد بقوله: "والثاني من جهة الوضع التفصيلي..... إلخ"، وقوله: وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا "أي: بوجه عام" سيشير إليه بقوله: "من جهة الوضع الكلي..... إلخ" والآيات من هذا النوع الثاني الكلي الإجمالي؛ أما التفصيل؛ فيكون بذكر تفاصيل الأحكام الشرعية وبيان ما يحل تناوله وما لا يحل..... إلخ. "د".(5/257)
ص -544-…وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونَ} [البقرة: 152].
وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
وقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآية [إبراهيم: 7].
والشكر هو صرف ما أُنعم عليك في مرضاة المنعم، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوه به شيئا"1.
ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات.
أما العبادات؛ فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة؛ فهي مصروفة إليه.
وأما العادات؛ فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات؛ فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87].
فنهى عن التحريم، وجعله تعديا على حق الله تعالى، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام: "من رغب عن سنتي، فليس مني"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الشيخان، وقد تقدم تخريجه ص"538".
2 مضى تخريجه "1/ 522".(5/258)
ص -545-…وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103].
وقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} الآية [الأنعام: 138].
فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها، منها مجرد التحريم، وهو المقصود ههنا.
وأيضا؛ ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع؛ لأن حق الغير محافظ عليه شرعا ايضا، ولا خيرة فيه للعبد، فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير، حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات1، لا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نستفيد من هذا أمورا مهمة؛ هي:
أولا:
أن ناحية التعبد موجودة في كل حكم، حتى في الإباحة والحقوق، سواء كان معقول المعنى، بيِّنَةٌ حكمتُهُ أم غير معقول.
ثانيا:
حق الله وحق الفرد متلازمان، إذا وجد أحدهما وُجِد الآخر؛ فهما دائمان مجتمعان.
ثالثا:
بهذا لا ينفصل المعنى الديني عن كل معاملة أو تصرف؛ أداء لحق الله في صدق العبودية.
رابعا:
أن طبيعة الحق الفردي في الإسلام ليس فرديا خالصًا؛ بل هو حق مشترك، وتثبت له صفة مزدوجة هي الفردية والجماعية في وقت معًا.
أما الفردية؛ فلأن الحق ليس بذاته وظيفة، بل هو ميزة تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه؛ فحق الفرد أصلا شخصي.
وأما الجماعية؛ فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الأضرار بغيره فردًا أو جماعة، قصدا أو بدون قصد، بالنظر إلى نتائج استعماله، كما سيأتي مفصلا عند المصنف.
وما يحسن إيراده هنا ما ذكره أستاذنا الشيخ محمد المبارك رحمه الله تعالى في كتابه "ذاتية الإسلام" "ص10"، قال بعد كلام: "فالتشريع الإسلامي بالإضافة إلى موضوعيته وتنظيمه على أسس ظاهرة وضوابط موضوعية له جذور خلقية في النفس، وأصول اعتقادية تغذية وتمده وتدعم =(5/259)
ص -546-…الأمر الكلي1، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق؛ إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف.
فإذن العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين:
أحدهما:
من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات.
والثاني:
من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة، فصار الجميع ثلاثة أقسام2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بناءه، فالتشريع غير منقطع الصلة بالأخلاق، وينفي عن التشريع الإسلامي صفة الفردية"، ويقول أيضا: "والإنسان الذي يؤمن هذا الإيمان ويعمل في الحياة في هذا الطريق ليس هو الإنسان الفرد المنعزل، بل هو الإنسان الموجود في إطار اجتماعي".
خامسا:
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 108": "والحقوق نوعان: حق الله، وحق الآدمي؛ فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكوات، والكفارات، ونحوها؛ وأما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعارضة عليها".
1 أيك فليس كل حق للعبد له إسقاطه؛ فالنفس للشخص حق المحافظة عليها ولله ذلك الحق أيضا، ولكنه لا يسقط إذا أسقطه العبد بتعريضها للتلف، بل يؤاخذ المعتدي والمعترض، وهكذا كل الضروريات العادية من عقل ونسل ومال، وهو ما يشير إليه قوله: "من جهة الوضع الكلي الداخل تحت الضروريات". "د".
قلت: انظر في هذا: "الفروق" "2/ 140 وما بعدها، الفرق الثاني والعشرون"، و"أصول الفقه" "ص46" لأبي زهرة.
2 لأن العادات فيها حق الله الصرف؛ وهو النظر الكلي، حتى لا يصح مثل تحريم ما أحل الله؛ وحق لله على العبد بالنسبة لغيره يسقط إذا أسقطه العبد، وحق له كذلك لا يسقط ولو أسقطه، فالأخيران حق لله على العباد يتعلق بهم بالنسبة لأشخاص آخرين كما هو ظاهر في الأمثلة بخلاف القسم الأول؛ فهو حق لله على العبد مباشرة ألا يحرم ما أحله ولا يفسد مال نفسه مثلا بقطع النظر عن عبد آخر. "د".(5/260)
ص -547-…وفيها1 أيضا حق للعبد من وجهين:
أحدهما:
جهة الدار الآخرة، وهو كونه مجازىً عليه بالنعيم2، موقَّىً بسببه عذاب الجحيم.
والثاني:
جهة أخذه للنعمة3 على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا؛ لكن يحسبه في خاصة نفسه، كما قال تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وبالله التوفيق.
[انتهى السفر الأول من كتاب [الموافقات]4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في العادات، والوجه الأول يتحقق إذا سار فيها على مقتضى مرضاته تعالى وأدى شكرها. "د".
2 في الأصل: "بالنعيم".
3 فانتفاع العبد بالطيبات من النعم جعله الله تعالى حقا من حقوقه بحسب ما هيأه له من ذلك كما قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف: 32]. فجعل ذلك حقا له؛ لكن لا مطلقا بل حسبما سن له ورسم حتى لا يكون فيه اعتداء على حق الغير، وكل شخص بحسب ما قسم له من ذلك؛ فليس الناس في ذلك سواء. "د".
4 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها ومن "ط".(5/261)
ص -549-…الاستدراكات:
استدراك 1:
وهو مأخوذ من "كشف علوم الآخرة" "ص76" للغزالي، وهو طافح بالموضوعات والأباطيل، وحذر من أحاديثه ابن حجر في "الفتح" "11/ 434" بقوله: "وقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها؛ فلا يغتر بشيء منها".
وورد زيادة على المذكور هنا أشياء آخر، ولكن في خبر لكعب الأحبار عند أبي نعيم في "الحلية" "5/ 372-374"، وفي سنده الفرات بن السائب وهو متروك.
استدراك 2:
1- كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "وقد".
2- في "نفائس الأصول": "الدخان، وزفر الأذهان، فيلزم...."
استدراك 3:
1- في"النفائس": "أو مفسدة".
2- في "النفائس": فإنه تعالى يتوعَّد على".(5/262)
ص -550-…5- في "النفائس": فإن المفيد هو....".
6- كذا في "ط" و"نفائس الأصول" وفي سائر النسخ: "أن".
استدراك 4:
وفي "ط": "التفصيل"، بالصاد المهملة مجودة، وفي "نفائس الأصول": "التفضل"، وهو الصواب، وبناء عليه تعلم ما في كلام "د" السابق.
استدراك 5:
قلت: قاله بسبب السقط الذي وقع عنده، وهو بين معقوفتين، وسبب النزول الآتي مضى تخريجه "1/ 93".
استدراك 6:
قلت: جاء في "ط" ما يصرح بذلك، ففيه: "صار صاحبه" [واليا]، على حظ [عام]....".
استدراك 7:
1- "الإحياء" "4/ 380"، وما بين المعقوفتين منه فقط، وفيه: "مرتبط بدل "منهمك"، و"لحظة بدل "خطرة" -وفي الأصل: "خطوة"- وفي النسخ كلها: "في عمره" و"باعث فيه"، والمثبت منه.
2- كذا في "الإحياء" وفي النسخ جميعها: "الحياة".
3- كذا في "الإحياء"، وفي النسخ جميعها: "ليريح نفسه ويقوي".
4- انظره في "الإحياء" "4/ 380".(5/263)
ص -551-…الموضوعات والمحتويات:
الموضوع الصفحة
كتاب المقاصد 7
المقاصد لغة 7
كتب أُلِّفَت في موضوع المقاصد 7
قسما المقاصد 7
ما يرجع إلى قصد الشارع 7
ما يرجع إلى قصد المكلف 8
الأنواع الأربعة لقصد الشارع 8
وضع الشريعة لمصالح العباد ووضعها على معهود الأميين 8
تفصيل للأنواع الأربعة لمقاصد الشارع 8
توضيح المقاصد المطروقة في هذاالكتاب
مقدمة كلامية مسلمة عند المصنف 9
توضيح حول قوله مسلمة، وتوجيهها بما يتفق أول الكلام بآخره 9
أحكام الله هل هي معللة؟ 9-12
من قال إنها غير معللة 9
من قال إنها معللة 11
موقف ابن القيم من القياس ومعارضيه 10
موقف المصنف من الظاهرية 10
قول الجويني في الظاهرية 10(5/264)
ص -552-…مناقشة المصنف في نسبة نفي التعليل للرازي من أوجه عديدة 10-11
التعليل الفلسفي عند الرازي 10
بين الأشاعرة والمعتزلة 10
هل الخلاف في المسألة لفظي؟ 10
الرازي كثير الاضطراب بخلاف الغزالي 11
العلل بمعنى العلامات 11
مراجع لتوضيح المسألة والمذاهب فيها 11
إثبات علل تنقض قول الرازي 12
الاعتماد على الاستقراء لإثبات القاعدة المسلمة عند المصنف 12
الاستقراء مفيد للعلم 13
ثبوت الاجتهاد والقياس بإثبات العلة 11-13
القسم الأول: مقاصد الشارع 15
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة 17
الشريعة والشرعة 17
المسألة الأولى 17
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهي: الضرورية والحاجية
والتحسينية 17
تفسير الضرورية 17-18
حفظ الضروريات بأمرين من جانب الوجود ومن جانب العدم وتوضيح
بعض ذلك في الحاشية 18
تمثيل الحفظ في أصول العبادات 18-19
التهارج ومعناه 18
الجهاد وحفظ الدين 18-19
تمثيل الحفظ في العادات والمعاملات والجنايات 18-20
مقصود المحافظة عند المصنف 18
البيوع هل مطلقها من الضروري؟ 19
الحرص على شرح كلام المصنف وتحريره 19-20(5/265)
ص -553-…مجموع الضروريات الخمس، وأنها في كل ملة وترتيبها في الحاشية والاختلاف فيها 20، 21
حكم تعريض الأمم السابقة الغنائم للنار 21
تفسير الحاجيات وتمثيلها في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات 21-22
تفريق المصنف بين العادات والمعاملات 21-22
تفسير التحسينات وتمثيلها من السابقتين 22-23
المسألة الثانية 24
انضمام ما هو كالتتمة والتكملة إلى هذه المراتب 24
تمثيل ذلك للضروريات والحاجيات والتحسينات 24-25
الاهتمام بالضروريات وأنها الأصل 25
المسألة الثالثة 26
شرط كل تكملة أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال 26
توضيح ذلك بوجهين 26
خرق التكملة لمصلحة الأصل 26-27
ذكر صور لموضوع واحد يكون فيه ضروري وحاجي أو قد يكون تحسينيا 26-27
فائدة مهمة عن الجهاد وإقامته على كل حال من المصنف ومن أحد المحشِّين 27
تخريج حديث الجهاد مع جميع ولاة الأمر 28
قولهم: راوٍ في معنى المجهول 28
فائدة فقهية مهمة في الاستدلال على الجهاد مع ولاة الجور 28
الاهتمام بالصلاة أيضا حتى خلف المبتدعة وأئمة الجور حرصا عليها وعلى
جماعة المسلمين 29
فوائد في الحاشية
إتمام أركان الصلاة 29
إحالة المصنف على مصنف للغزالي لشرح أكبر وتأصيل 30
المسألة الرابعة
المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية وباختلاله يختلان وبإخلالهما
يختل الضروري جزئيا 31(5/266)
ص -554-…وفيه مطالب خمسة: 31
الأول: أن الضروري أصل لما سواه 31
الثاني: اختلاله يؤدي إلى اختلال غيره 31
الثالث: اختلال الحاجي والتكميلي لا يلزم منه اختلال الضروري بإطلاق 31
الرابع: احتلالهما بإطلاق قد يلزم منه اختلال الضروري بوجه ما 31
الخامس: ينبغي المحافظة عليهما للمحافظة على الضروري 31-32
بيان المطلب الأول وأمثلة عليه 32-33
بيان المطلب الثاني وأمثلة عليه 33-35
حكم الوسائل مع المقاصد 34-35
تمثيل بأجزاء الصلاة 34
بيان المطلب الثالث 35-38
تمثيل بأنواع كثيرة منها العذر 36
بيان المطلب الرابع من أوجه 38
أحدها أن الضروريات آكد من غيرها 38
تخريج حديث الحلال بيِّن 38-39
التدرج في المعاصي بالأخف وهو أصل مقطوع به 39-40
تفسير حديث: لعن الله السارق يسرق البيضة 39
اقتصار المصلي على الفرض فيها 40
ثانيها: أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل إلى الفرض 40
والمندوب بالجزء ينتهض أن يكون واجبا بالكل 40
ثالثها: أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد
منهما كفرد من الضروريات 41
الضيق والسعة ومكارم الأخلاق ومعاني العادات 41
تخريج حديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 41
رابعها: الحاجي والتحسيني خادم للأصل الضروري 42
الخشوع في الصلاة 42-43
بيان المطلب الخامس: ويتضح بما تقدم 43(5/267)
ص -555-…فائدة البحث 43
المسألة الخامسة 44
النظر في المصالح المبثوثة للعباد في الدنيا من جهتين: مواقع الوجود، وتعلق
الخطاب الشرعي بها 44
المصالح في الدنيا غير محضة، بل تخالطها المفاسد والعكس صحيح 44-45
جريانها على التغليب والترجيح بينها 45
النظر الثاني تعلق الخطاب الشرعي بها 46
وأن الغالب في المصلحة هو المطلوب وقوعها والمفاسد الغالبة هي
المطلوب دفعها، والمغلوبةمدفوعة شرعا 46-47
الخلاف لفظي في المسألة وثمرتها معلومة عقلا 47
الأدلة على ما سبق من ترجيح المصالح والمفاسد 47-48
أولًا: أن الجهة المغلوبة لو كانت معتبرة عند الشارع لم يكن الفعل
مأمورا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق 47-48
والثاني: أنه التكليف بما لا يطاق 48
إشارة إلى مذهب المعتزلة أن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع 49-50
توجيه كلامهم في موضوع البحث، وأنه خارج البحث 50
المصالح في الشريعة 51
فصل: المصلحة أو المفسدة الخارجة عن حكم الاعتياد إذا انفردت 50
التمثيل عليها بأكل الميتة والنجاسات اضطرارا 51
الترجيح والتساوي في الأدلة المتعارضة 51-53
الحكم الشرعي للمجتهد وقاعدة مراعاة الخلاف 52
المسألة السادسة 54
المصالح والمفاسد في الآخرة على ضربين 54
ممتزجة وغير ممتزجة خالصة 54
الكلام على درجات النعيم والجحيم والعذاب 54-61
حرمان أهل الجنة من بعض ما استعجلوه مما حرم عليهم في الدنيا 58
مراتب العلماء والأنبياء 58 -59(5/268)
ص -556-…فضل الأنصار 59
التفضيل والخيرية 60 -61
أهمية البحث في التفضيل وفائدتها وثمرتها 61
التفضيل بين الأنبياء 61
المسألة السابعة 62
مقاصد التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية دون اختلال النظام 62
المسألة الثامنة 63
جلب المصالح ودفع المفاسد في الدنيا إنما هو بالنظر إلى الآخرة 63
أولا: إخراج المكلفين عن دواعي الهوى حتى يكونوا عبادا لله 63
ربط هذه المسألة بالمسألة الخامسة 63
ذم الشهوات 63
ثانيا: أن المنافع مشوبة بالمضار وكذلك العكس فليست محضة في الطرفين 64
التغليب فيها هو المعتمد والراجح 64
ثالثا: أن المنافع والمضار عامتها إضافية لا حقيقية 65
تفسير الإضافي هنا 65
رابعا: اختلاف الأغراض في الأمر الواحد
فصل 66
قواعد تنبني على ما سبق 66
عدم استمرار إطلاق أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع 66-68
محاولة التوفيق بين كلام المصنف وبين كلام الرازي 66
هل يجتمع الإذن والنهي على أمر واحد والعمل بالترجيح 67
التمثيل بالخمر 67
إيراد إشكال للقرافي ومحاولة الإجابة عليه في باب المصالح
والمفاسد واختلاطهما 68
ذكر مذهب المعتزلة في المصلحة والمفسدة والعلل 68
المباح والمصلحة والمفسدة 68
الوعيد والمصلحة والمفسدة 69
تفضيل مطلق المصلحة على مطلق المفسدة 69-70(5/269)
ص -557-…تزلزل قواعد الاعتزال 68-70
مذهب الأشاعرة في المصلحة والمفسدة 70
مذهب المعتزلة كذلك وتتمته 71
إدراك المصلحة عندهم 71
العزيمة والرخصة عند الرازي 72
إشكلات عليه 72
تخريج حديث "لا ضرر ولا ضرار" 72-75
مدار الفقه على أحاديث منها هذا الحديث 75
متابعة الإشكالات على تعريف الرازي للرخصة 75
الموانع 75
ومن الفوائد في أصل البحث: بفهمها يحصل فهم كثير من آيات
القرآن؛ أي التي في الموضوع 76
ومن الفوائد فهم كلام من قال: إن مصالح الآخرة تعرف بالشرع
ومصالح الدنيا تعرف بالعقل، وأوجه النظر فيه 77-78
مصالح الدنيا والآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع 78
المسألة التاسعة 79
أصول الشريعة وأصول أصولها قطعية، وأدلتها قطعية كذلك عقلية
كانت أو نقلية 79
والظنية لا تفيد القطع ولا يستند إليها 79
هل في النصوص ما يفيد القطع نقلا بالتواتر مع قطعية الدلالة؟ 79-80
هل إذا احتفت بها قرائن يختلف الأمر؟ 80
الإجماع وكفايته في الموضوع، والإشكالات عليه 80-81
إثبات المسألة بالاستقراء وهو من كل الأدلة 81-82
استناد الإجماع إلى قياس أو اجتهاد 81
خبر الواحد والتواتر وإفادة العلم 82
المسألة العاشرة
تخلف آحاد الجزئيات عن هذه الكليات لا يرفعها 83
التمثيل على ذلك 83-85(5/270)
ص -558-…الاستقراء 84
مناهج العلوم ومنهج الشريعة 84
تخلف جزئيات الأصول العقلية والشرعية 84
تنبيه على تخلف الجزئيات أنها قد تكون داخلة ومعارضة أو لم يظهر وجه
دخولها أو تخلفها لِحِكَمٍ خارجة عن مقتضى الكلي 84
المسألة الحادية عشرة 86
الأمر في المصالح مطَّرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها 86
الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض 86
تعدد الصواب والخلاف بين العلماء ومواطن الإجماع 86-89
المصالح والمفاسد وصفات الأعيان عند المعتزلة 89-90
المسألة الثانية عشرة 91
الشريعة والأمة تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم كلهم معصومون 91
الاستدلال على ذلك بالنصوص والتفسير للآيات ومعنى حفظ الذكر 91-93
تحريف الإنجيل والتوراة 92
الاستدلال الثاني بالاعتبار الوجودي الواقع من زمن النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الساعة من قيام العلماء في شتى المجالات 93-95
المسألة الثالثة عشرة
ثبوت قاعدة كلية في الأصول الثلاث لا يرفعها آحاد الجزئيات بل لا بد من
المحافظة على القاعدة والجزئيات التابعة لها والاستدلال على ذلك بأوجه 96
منها العتب على التارك في الجملة من غير عذر 96
ومنها: أن المعاتبة والوعيد مستثنيان في الأعذار 96
ومنها: لا يصح القصد إلى التكليف بالكلي إذا كانت جزئياته غير مقصودة 96
مناقشة المؤلف في ذلك
ومنها: مقصود الشارع جريان الأمور على نظام وترتيب بدون تفاوت واختلاف 97
توجيه المسألة هذه مع السابقة، وإيضاح عموم القاعدة
عدم العارض المعارض 98-99(5/271)
ص -559-…النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام 101
المسائل الخمس الأولى ضوابط لفهم مقاصد الشرع بالقرآن والسنة
المسألة الأولى 101
القرآن الكريم عربي لغة وأسلوبا، ونقل عن الإمام الشافعي 101-104
هل في القرآن ألفاظ أعجمية 101-102
هل ينبني على الخلاف ثمرة 103
فهم اللغة عن طريق أخرى 104
المسألة الثانية
تبيان ما تشترك فيه اللغة الغربية مع اللغات وما تنفرد به عنها
من الألفاظ 105-106
فصل: في ترجمة القرآن 106-107
فصل: توضيح لما سبق وتأكيد عليه 107-108
المسألة الثالثة 109
الشريعة والأمة أميان وتفسير ذلك 109
الحكمة في ذلك 109
الاستدلال على ذلك بـ:
1- النصوص المتواترة لفظا ومعنى 109-111
الخلاف في كتابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية 110-111
2- مناسبتها للأمة التي بعثت فيها 111
3- أنها لو لم تكن مناسبة لم تكن معجزة 111-112
زيادة توضيح لكلام المصنف وتمثيلها بالمواقيت 111-112
فصل: في ذكر العلوم التي عند العرب وما صحح وأبطل من الشارع 112
علم النجوم للاهتداء بها 112-113
تنبيه على أن هناك علوما وإشارات لا يفهمها العرب وتحتاج إلى ما يسمى الإعجاز
العلمي للقرآن 113-114
علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار 114
التحذير من الشرك في علم الأنواء 115
تخريج أحاديث في ذلك 116(5/272)
ص -560-…علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية 117-118
تنبيه على أن القرآن لا يجاري كل ما عند العرب 117-118
من العلوم التي أبطلها الشارع: العرافة والزجر والكهانة وخط الرمل
والضرب بالحصى والطيرة وإثبات الفأل وتفسير بعضٍ من هذه
المصطلحات 118-119
الإلهام والرؤية الصادقة والفراسة 119
الطب وذكر أصوله 120-121
علوم البلاغة والفصاحة 121
ضرب الأمثال 122
توضيح ذلك 122
الأخلاق ومكارمها وإبقاء ما كان عند العرب وإبطال ما يبطل 122-124
ومن الأخلاق ما كان غير مألوف وبعضها مألوف وبعضها محرف
عن الحق 124-125
والصواب 126
تحديثهم عن نعيم الجنة وخيرها 125-126
تضعيف حديث فضل قس بن ساعدة 126
الجدل والموعظة في القرآن وعند العرب 126
المسألة الرابعة: ما ينبني على ماسبق من قواعد: 127
الابتعاد عن إضافة علوم ليست مقصودة لكلام الله في
القرآن وذكر جملة منها 127-128
ذكر ما للمتصوفة منها 127
العلوم الكونية والجدل والجنة ونعيمها والجحيم وعذابها
ومعهودات العرب 128
التفسير العلمي للقرآن، الإسراء والمعراج 128
أدلة إضافة كل العلوم إلى القرآن ومناقشة ذلك 129
الحروف المقطعة في فواتح السور 129-130
أكثر من كذب عليه في هذه الأمة هو علي بن أبي طالب 130
علم الحيوان والتاريخ الطبيعي وعلوم العرب وما يصح
إضافته إلى علوم القرآن من علوم العرب 130-131
التفسير العلمي للقرآن 130
فصل: لا بد من اتباع معهود الأميين في فهم الشريعة 131(5/273)
ص -561-…الألفاظ والمعاني عند العرب وأن العرب تقصد المعاني لا ألفاظها 131
أدلة ذلك:
أولا: جريان العمل على عدم اطراد ذلك عندهم 131
ثانيا: الاستغناء عندهم ببعض الألفاظ بما يرادفها ويقاربها 32-133
حديث: نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر 132
تفسير الشخت والبؤس واليبس 133
ثالثا: قد تهمل العرب بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره في الجملة 134
تنبيه على تصحيف في بيت شعر ونسبته إلى مصادره وشرح غريبه 134
رابعا: مدح العرب الكلام البعيد عن تكلف الاصطناع 135
تفسير العواهن عند العرب في سياق قصة في ذم التكلف 135
استدراك على المصنف 135
فصل: عموم مسلك الفهم والإفهام في الشرع لجميع العرب
دون فرق 136
تفسير الأحرف السبعة للحديث 136، 137، 138
تفسير "منآدهم" 137
فصل: الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود
الأعظم للشرع 138
تمييز المعاني الإفرادية عن الإضافية التركيبية 138-139
ذكر قصة عن عمر تدل على ذلك 140
لطيفة عن النووي في فهم "إيلاج الحشفة" 140
فصل: سهولة التكاليف بما يسع الأمي تعقلها 140
التكاليف الاعتقادية سهلة الفهم للجميع 141
فائدة عن الأسماء والصفات من المصنف 141-142
ذم السؤال والخوض فيما لا يعني 142
ذم التعمق 143
التكليف في العمليات بالتقريبات في الأمور وبالجلائل في الأعمال 143
لم يطالبوا بالحساب الدقيق 143-144
الورع استحضار النيات 145(5/274)
ص -562-…المتشابه في الشرع 145
التعمق في الشرع 146
الورع وأنواعه 147
التفاوت في الشريعة في الأمور المطلقة 147
فهم الأمية على العوام والعلماء 147
التدرج في تنفيذ الأحكام 148-149
اعتياد الخير وتخريج حديث "الخير عادة" 150
المسألة الخامسة
الدلالة على المعاني الأصلية والتابعة والتردد بينها 151
دلالتها على الأحكام لفهم معان زائدة في المعاني
التابعة عن المعنى الأصلي 151
أثبتها فريق واستدل لها 151
تخريج حديث "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي" 152
نجاسة الماء 153
أقل مدة الحمل 154
أمثلة أخرى 154-156
تبدل السماوات والأرض 158
خلود الكفار بالنار وما نسب لابن تيمية فيها 158-159
فصل: التنبيه على تعارض الأدلة وترجيح المصنف لمذهب المانعين163
إيراد إشكال فيه أمثلة سبعة 163
منها النداء والدعاء 163-164
الكناية فيما يستحيا من الألفاظ 165
الالتفات في الكلام 165-166
منها: الأدب في ترك التنصيص في نسبة الشر لله 166
منها: الأدب في المناظرة 167
ومنها: الآداب في إجراء الأمور على العادات 167-169
المنافقون ودخولهم في جملة المسلمين!! 168(5/275)
ص -563-…النوع الثالث: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة
للتكليف بمقتضاها 171
المسألة الأولى:
القدرة سبب أو شرط التكليف، والاعتراض على السببية
هنا ومذهب المعتزلة والحنفيه فيه 171
التكليف بما يظهر أنه فوق قدرة العبد وتوجيه آيات وأحاديث في ذلك 171-174
تخريج حديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل" 172-173
تخريج حديث: "لا تمت وأنت ظالمٌ" 172-173
المسألة الثانية:
الأوصاف الطبيعية كالشهوات المختلفة في الإنسان
لا يطالب برفعها أصلا 175
المسألة الثالثة: 176
ما كان كالأوصاف الطبيعية فحكمها مثلها سواء أكانت خفية أو ظاهرة 176
تخريج أحاديث في الجبلة والغرائز كالجبن والشجاعة والخيانة والكذب 176-177
أقسام تعلق الطلب الظاهر من الإنسان 178
الأول: ما لا يكون داخل تحت كسبه 178
الثاني: ما يدخل تحت كسبه 178
الثالث: ما يشتبه الأمر فيه كالحب والبغض، وتخريج أحاديث في ذلك 178-181
ومنها: الشهوات والمثيرات لها 180-181
النظر إلى المحرمات أو النساء 180-181
الغضب 181
فصل [مهم]: فقه الأوصاف الباطنة السيئة كالكبر والحسد....
واليقين والخوف أي المقصود اكتسابها 182-183
المسألة الرابعة 184
قسما الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها
ما كان نتيجة عمل وما كان فطريا 184
تعلق الجزاء بها 184
الفطري منها ما هو محبوب أو مبغوض للشارع والنظر فيه 184-190
فصل: ويصح تعلق الحب والبغض بالأفعال كما هو في الذوات والصفات190(5/276)
ص -564-…تنبيه على كتب أبي الليث السمرقندي ومن على شاكلته 191
تعلق الثواب والعقاب على الصفات المطبوعة والأوجه في ذلك مع الأدلة 193
الكلام في الصفات 194
- فما بعد الأجور على المصائب 201
المسألة الخامسة: 204
الكلام على التكليف الشاق وبما لا يطاق
مذاهب العلماء والفرق فيها 204-206
نقل عن ابن القيم في الموضوع 204-206
النظر في معنى الشاق من أربعة أوجه اصطلاحية 207
أحدها: أن يكون في مقدور المكلف 207
الثاني: أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد
ومنها ما يكون خاصا بأعيان الأفعال المكلف بها ومنها ما لا يكون خاصا 207-208
الثالث: أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في
تعب النفس 209
الرابع: أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله 209
توضيح في المسائل التالية:
المسألة السادسة 210
لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق الإعنات 210
الاستدلال على ذلك:
أولا: بالنصوص 210-212
ثانيا: ما ثبت من مشروعية الرخص 212
ثالثا: الإجماع على عدم وقوعه 212-213
المسألة السابعة: 214
قصد الشارع للتكليف بما فيه كلفة ومشقة وإن كان لا يسمى
في العادة المستمرة كذلك 214
أقسام المشاق: قسم لا تنفك عنه العبادة وقسم تنفك 214
تفرعات القسم الثاني 214
لفظ التكليف جاء في معرض النفي 215-216(5/277)
ص -565-…مناقشة هذا القول 215
الجواب على المناقشة 216
توضيح حول ما يقصد به المكلف المشقة لا الأجر والثواب 217-221
فصل: توضيح قصد المكلف المشقة، وهل الأجر على قدرها؟ 222-229
فصل: الأفعال المأذون فيها وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها
مشقة معتادة أو غير معتادة وقصد الشارع إلى المشقة فيها 229
من كان يخشى على نفسه الفساد من الدخول في العمل 230
من لم يخش على نفسه وظن خلاف ذلك 231
اعتياد المشقة التي هي في الأصل غير معتادة 232
فصل: أسباب رفع الحرج عن المكلفين 233
أولا: الخوف للانقطاع عن العبادة
ثانيا: خوف التقصير عند مزاحمة الأعمال 233
تخريج حديث: "إن هذا الدين متينٌ" 236-239
احتمال المشقة في الصالحات وأمثلة من اجتهاد السلف 242-244
فصل: المكلف مطلوب بأعمال ووظائف لا بد منها.... فإذا أوغل في
عمل شاق فربما قطعه عن الوظائف التي هي إما حقوق لله
أو حقوق للعبيد 247
تأكيد علة النهي عن الإيغال في العمل 250
أقسام الناس في الحظوظ
أحدها: أرباب الحظوظ 251
عدم الترخص في موضع الترخص 251-252
السير مع الحظوظ مطلقا 252
الثاني: أهل إسقاط الحظوظ 255
فصل: المنهي عنه المسبب عنه مشقة أولى بالنهي 255
الكلام في الصفات 257-260
فصل: المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه
ولا بسبب دخوله في عمل 260
الإذن إلى دفعها ومراتبه 260(5/278)
ص -566-…المسألة الثامنة:
مخالفة الهوى شاق، وقصد الشارع إخراج المكلف عن اتباع هواه 264
المسألة التاسعة:
انقسام المشقات إلى دنيوية وأخروية، والمشقات إذا أدت
إلى تعطيل عمل شرعي آخر 265
المسألة العاشرة:
المشقات الخاصة والعامة 266
تعارض المشقات والترجيح بينها 267
المسألة الحادية عشرة 268
العرف والمشقة 268
رفع الاعمال التي ترافقها مشقة غير معتادة 268-269
اختلاف المشقات 269-271
مشقات الإيمان 270
الحرج في الدين 272-273
فصل: الحرج العام والحرج الخاص ومناقشة ابن العربي 273
المسألة الثانية عشرة: 279
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق
الأوسط الأعدل وتقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال 279
تدرج خطاب الشرع في التكليف وأمثلة على ذلك 279
سبب نزول قول الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم على لاتقنطوا...} 283
ذم الدنيا، والدعاء بكثرة المال لبعض الصحابة 284
جزاء المؤمنين في الآخرة 284
فصل: الشريعة حاملة على التوسط والميل عن التوسط
لأحد الطرفين إنما هو لمعنى مقصود 286-287
كيفية معرفة التوسط 287
النوع الرابع:
في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة 289(5/279)
ص -567-…المسألة الأولى: 289
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه 289
أدلة ذلك:
أولا: النص الصريح على أن العباد خلقوا للعبادة 289
ثانيا: ما دل على ذم مخالفة هذا القصد 290
كل موضع ذكر فيه الهوى في القرآن فهو في موضع الذم 291-292
ثالثا: ما علم أن الاسترسال مع الهوى لا يحصل بسببه المصالح 292
إرجاع انهيار الحضارات إلى الأهواء 292
هل يمكن تصور وضع الشرائع للعبث 293-294
فصل: قواعد ينبني عليها ما سبق 295
منها: بطلان العمل المبني على الهوى دون التفات لأمر أو
لنهي أو تخيير في المعاملات والعبادات 295-296
علامة الفرق بين العمل المبني على الهوى دون الالتفات
للأمر وغيره وبين ما هو متبع للأمر أو ما ينوب مكانه 297
فصل: منها اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن
المحمود، لأسباب 298
أنه سبب تعطيل الأحكام 298
اعتياد النفس على الهوى
التذاد النفس بالهوى 298
فصل: اتباع الهوى مظنة للاحتيال بالأحكام الشرعية على أغراضه 299
أصل ابتداع الفرق الضالة، إنما هو الهوى 299
المسألة الثانية
المقاصد الشرعية: مقاصد أصلية ومقصاد تابعة 300
المقاصد الأصلية: لا حظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرة
في كل ملة 300
كونها عينية على كل مكلف 300
أو كفائية 301
المقاصد التابعة وهي التي روعي فيها حظ المكلف 302 -303
حكمة الشرع في خلق الشهوات ووضع الفطر في الإنسان 303(5/280)
ص -568-…المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية 303
المسألة الثالثة: 305
أقسام الضروريات:
ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود 305
ما ليس في حظ عاجل مقصود 305
أمثلة عليها وتوضيح لها 305-306
الصناعات والحرف من فروض الكفاية 306
القيام بالمصالح لحظ النفس وبواسطة الحظ في الغير 307
فروض الكفاية وحظوظ النفس 308
فروض الأعيان وحظوظ النفس 309
فصل: ما ليس للمكلف حظ بالقصد يحصل له فيه حظه
بالقصد الثاني، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل
فيه العمل المبرأ من الحظ 310-311
بيان ذلك 311-312
فصل: بالنظر إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف
بالنسبة إلى قسم
الكفاية نجد الاعمال أقساما ثلاثة:
الأول: لا حظ فيه للمكلف معتبر بالقصد الأول 312
الثاني اعتبار حظوظ المكلف 312
الثالث: قسم متوسط بينهما يتجاذبه الطرفان كولاية أموال الأيتام 312-313
المسألة الرابعة:
المباح المأذون فيه وصيرورته عبادة وعملا لله خالصا إذا خلصه
العبد من الحظوظ 314
الاعتراض على المصنف في إيراد المسألة هنا وحقه إيرادها
في قسم مقاصد الشرع بالتكليف والإجابة عن الإشكال 314
هل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا بالقصد؟ يحتمل وجهين 314
الأول: أن يقال إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في
القصد؛ وهو القيام بعبادة من العبادات المختصة بالخلق
في إصلاح أقواتهم ومعايشهم 315
صور من أفعال السلف في هذا الوجه 315
الثاني: أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ 319(5/281)
ص -569-…أمثلة على هذا الوجه من افعال السلف 319
المسألة الخامسة: 328
العمل على وفق المقاصد الشرعية يقع إما على
المقاصد الأصلية؛ وهي هذه المسألة، وإما
على وفق المقاصد التابعة؛ وهي المسألة التالية 328
ما كان على المقاصد الأصلية فلا إشكال في صحته
وسلامته مطلقا 328
ينبني عليه قواعد وفقه كثير حصول الإخلاص في العمل
وصيرورته عبادة وبيان ذلك 328
مناقشات حول ذلك كعمل الرهبان والفرق الضالة حكم
أهل الأهواء 335-336
فصل: به تصير تصرفات المكلف كلها عبادات 337
كنحو مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 337-338
فصل: بنقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب 339
فصل: تحريه من المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده
الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة 340
فصل: يصير الطاعة أعظم ومعصيتها أعظم 343
فصل: قاعدة أصول الطاعة وجوامعها راجعة إلى اعتبار
المقاصد الأصلية وكبائرالذنوب وجدت في مخالفتها 343
المسألة السادسة:
قد تصاحب المقاصد الأصلية العمل الواقع على وفق المقاصد
التابعة وقد لا يصاحب والمصاحب بالامتثال وإلا فالهوى 344
المصاحب بالفعل 344
بيان كون المكلف عاقلا بالحظ والامتثال، أمران: 344
أحدهما: أنه لو لم يكن كذلك لم يجز لأحد أن يتصرف أمر
عادي حتى يكون القصد مجرد الامتثال 345
حكم الذبح للجن والذبح للسلطان وتخريج حديث في ذلك
وإثبات وجود الجن 346-347
النهي عن معاقرة الأعراب ومعنى الحديث 347-348
النهي عن طعام المتباريين 348-349(5/282)
ص -570-…ثانيهما: إذا كان القصد إلى الحظ ينافي الأعمال
العادية لكان العمل بالطاعات رجاء دخول الجنة أو
الخوف من النار؛ كان عملا بغير الحق، وبيان بطلان
ذلك بالأمثلة 350
مناقشة هذا وإبطال الأعمال بهذا القصد 353
الجواب عن الإيرادات وتقسيم العبادات 357
فصل: قسما الحظ المطلوب بالعبادات: 360
الأول: يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند
الناس وتفصيل فيما إذا كان تابعا أو متبوعا 360
الثاني: يرجع إلى نيل حظه من الدنيا
هذا قد يكون مراءاة، وقد يكون لحظ نفسه دون
مراءاة 361-362
الثاني: ما يرجع إلى حظ نفسه دون مراءاة
وأمثلة عنه، وذكر موطن الخلاف فيه وهي ما
يسمى بمسألة الانفكاك 364
قصد العبادة مع العبادة 372
من حظوظ النفس قصد المراءات وهو باطل 373
فصل: العمل يكون إصلاحا للعادات الجارية بين
الناس وهو حظ مراعىً من الشارع 373
وهو لا يستوي مع العبادات في اشتراط النية 374
قد صح الامتنان به في القرآن 374
الاعتراض بأن التجرد للحظ هنا قادح، ومناقشة ذلك 375
فصل: المقصود بالصحة والبطلان هنا 379
المسألة السابعة: 380
ضربا المطلوب الشرعي والنيابة فيهما
الأول: العادات الجارية بين الخلق
الثاني: العبادات اللازمة إن اختصت حكمتها بالمكلف 380
النيابة في الأول صحيحة إلا إذا اختصت حكمتها بالمكلف 380-381
الثاني: لا تصح النيابة فيه 381
الأدلة على ذلك:
الأول: النصوص الدالة على ذلك 381-382(5/283)
ص -571-…الثاني: المقصود من العبادات الخضوع لله 383
الثالث: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في
الأعمال القلبية 383-384
فإن قيل: جاءت نصوص تدل على خلاف ما أصلتم 385
ثانيا: قاعدة الصدقة على الغير 387
ثالثا: تحمل العاقلة الدية في قتل الخطأ 388
استغفار النبي لأبويه 388-389
الاستغفار لأموات المشركين وأحيائهم 390
رابعا: النيابة في الأعمال الدبنية -غير العبادات-
صحيحة، وكذلك بعض العبادات البدنية 390-391
خامسا: قد يجازى الإنسان على ما لم يعمل
أ- كالمصائب النازلة 391
ب- النيات التي تتجاوز الأعمال 392
الجواب على هذه الإيرادات إجمالا 395
ثم بالتفصيل 396-397
التنبيه على أن المشكل هو الأحاديث التي هي معارضة للقاعدة والإجابة عنها:
أولا: الأحاديث فيها مضطربة وتوضيح ذلك 397
ثانيا: اختلاف العلماء في تفسيرها 398
ثالثا: هناك من تأولها بترك اعتبارها مطلقا 399
رابعا: احتمال الخصوصية 399
خامسا: حمل بعض الأحاديث على ما تصح النيابة فيه 399
سادسا: مع قلة هذه الأحاديث فهي معارضة لأصل ثابت 400
فصل: مسألة هبة الثواب 400
أدلة من منع هبة الثواب 401
الأول: الهبة صحت في شيء مخصوص في المال 401
الثاني: العقاب والثواب وضعها الشارع كالمسببات
إلى الأسباب 401
أدلة من أجاز:
الأول: إذا جاز بالمال فالقياس يدخلها أو العموم 402(5/284)
ص -572-…ثانيا: إذا كانت كالمسببات مع الأسباب صح الملك فيها
والتصدق فيها 402
مناقشة حول الموضوع 402-403
المسألة الثامنة: 404
من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها 404
فصل: حكم إلزام الصوفية أنفسهم من الأوراد وغيرها 405
المشقة قسمان: قسم يدخل من شدة التكليف وقسم من
جهة المداومة عليه 405
المسألة التاسعة 407
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة لا يختص بحكم من
أحكامها بعض دون بعض 407
الاستدلال: أولا: بالنصوص المتضافرة 407
ثانيا: وضع الأحكام ومصالح العباد يقتضي هذا وإلا لم
تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق: 408
الاستثناءات لا تضر 409
ثالثا: الإجماع 410
رابعا: لو جاز خروج بعض المكلفين في الأحكام لجاز في
قواعد الإسلام 411
فصل: فوائد المسألة 412
أولا: إثبات القياس: 412
ثانيا: حسن الظن بالصوفية 412-413
مناقشات للمصنف في هذه الدعوى 413-414
المسألة العاشرة:
كل مزية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فقد
أعطيت أمته بعضا منها 415
توضيح ذلك:
أولا: بالوراثة العامة 416
ثانيا: ذكر ثلاثين مثلا يوضح المقصود.... سردها 416-438
فصل: ما ينبني على ما سبق من قواعد 438
جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات
والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما
هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه
وسلم لكن على مقدار الاتباع 438(5/285)
ص -573-…ذكر كرامات لصالحي الأمة وصحابتها وإظهار أنها من
مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم 438
فصل: تبيان أن كل كرامة أو خارقة ليس لها أصل في
كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم فهي غير صحيحة 444
تبيان ذلك بالأدلة والتمثيل من خوارق أهل الفلك
والأحكام النجومية 444-445
الدعاء عبادة 446
طبائع الأحرف 446
فصل: تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى
الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح
والكشف الواضح والرؤيا الصالحة 446
إثبات ذلك بالأحاديث 447
ومن عمل الصحابة 454
نسبة كتاب تفسير الأحلام المشهور 456
المسألة الحادية عشرة 457
مراعاة ما سبق تكون إلا أن تخرم حكما شرعيا
أو قاعدة دينية 457
الحكم بالشهادة والعلم أو الرؤيا 457
أمثلة من السلف إثباتا ونفيا 458
الخوارق والمكاشفات عند الأولياء 462
قياس الخوارق بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم 463
الخضر وموسى 463-466
استناد الحكايات عن الأولياء نص شرعي وهو طلب
اجتناب حزاز القلب 466
أين يجوز العمل بالمكاشفات على الشرط السابق؟ 471
أحدها: العمل في أمر مباح 471
الثاني: أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها 471
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في
الصلاة من وراء ظهره 472-473
الثالث: أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد بكل عدته 473
المسألة الثانية عشرة: 475
عموم الشريعة إلى المكلفين جميعا، في كل
أحوالهم، وفي عالم الغيب والشهادة(5/286)
ص -574-…وحكم الظاهر والباطن يرد إلى الشريعة 475
الدليل على ذلك أمور: 475
أولا: ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة 475
ثانيا: الشريعة حاكمة لا محكوم عليها
ثالثا: مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها 475
الخوارق مواهب من الله لا قدرة للإنسان على كسبها ولا
على دفعها 477
فصل: كل خارقة إلى يوم القيامة لا يصح ردها ولا قبولها إلا
بعد عرضها على أحكام الشريعة 481
تبيان ذلك 482
المسألة الثالثة عشرة: 483
التكليف مبني على استقراء عوائد المكلفين 483
مجاري العادات في الوجود أمر معلوم في الكليات لا مظنون،
وأدلة ذلك: 483
أولا: الاستقراء في الشرائع إنما جيء بها على ذلك 483
ثانيا: الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها
دائمة غير مختلفة 483
ثالثا: لولا إطراد العادات لما عرف الدين من أصله 484
قيل: بل الإطراد مظنون في أفضل أحواله، وأدلته 485
الإجابة على هذا 485
المسألة الرابعة عشرة
ضربا العوائد المستمرة 488
أولا: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي 488
ثانيا: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل 488
ثبوت العوائد الشرعية كسائر الأمور الشرعية 488
قد تتبدل العوائد الثابتة وذكر أمثلة للثابتة والمستبدلة 489
المستبدل: كغطاء الرأس من حسن إلى قبيح 489
أو تغير التعبير عن المقاصد 489 -490
أو تغير الأفعال في المعاملات كالنكاح 490
أو أمور خارجة عن المكلف كالبلوغ 491(5/287)
ص -575-…أو أمور خارقة للعادة 491
فصل: اختلاف العوائد وأصل الخطاب وثبات الشريعة 491
المسألة الخامسة عشرة:
العوائد الجارية في الضربين السابقين ضرورية الاعتبار شرعا 493
التدليل عليها من أربعة أوجه 493-495
فصل: انخراق العوائد المعتبرة شرعا لا يقدح في انخراقها،
ذكر أمثلة متنوعة عنها 495
فصل: المكاشفات وأهلها وحكم الرجوع إلى أحكام العموم
والإحالة على المسألة الثانية عشرة 501
الاستدلال على ردهم إلى حكم أهل العوائد الظاهرة: 501
أولا: أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم
تنتظم لها قاعدة 501-502
ثانيا: أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه 502
ثالثا: عموم الشريعة، لا يجوز للوالي مخالفة الشريعة؛
لأنه داخل في عمومها 502-503
رابعا: أن أولى الخلق بالخروج عن أحكام العموم النبي
صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولم يقع منهم ذلك 503-504
خامسا: أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة
للضوابط الشرعية فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر 505
الاطلاع على المغيبات لا يمنع من الجريان على مقتضى
الأحكام العادية 506
الدخول في الأسباب تأدبا بآداب النبي صلى الله عليه وسلم 507
الخضر هل هو نبي؟ 507
كل ما اطلع عليه من أمور الغيب، فهو على ضربين: 508
إما مخالف لظواهر الشريعة، وإما غير مخالف، وتنبيه
على حكم العمل بهما 508
المسألة السادسة عشرة: 509
العوائد بالنسبة إلى وقوعها في الوجود ضربان: 509
الأول: العوائد العامة التي لا تختلف باختلاف الأعصار
والأمصار والأحوال 509
الثاني: العوائد التي تختلف 509
يقضى بالأول على جميع الأعصار متقدمها ومتأخرها،
والثاني لا يقضى به على من تقدم البتة حتى يأتي دليل
على الموافقة من خارج 509(5/288)
ص -576-…الاعتراض على المصنف بتعارضها مع المسألة الرابعة عشرة 509-510
فائدة المسألة 510
المسألة السابعة عشرة: 511
وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظمان بحسب عظم
المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها الاستدلال على ذلك
بالوعيد على انتهاك الضروري بخلاف التكميلي والحاجي 511
أقسام المصالح والمفاسد:
الأول: ما به صلاح العالم وفساده
الثاني: ما به كمال الصلاح أو الفساد 511
التمثيل على ذلك 512
المسألة الثامنة عشرة: 513
الأصل في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإنما
هو التعبد، والعادات الأصل فيها المعاني 513
الاستدلال على العبادات وأن الأصل فيها ما ذكر:
أولا: استقراء الادلة 513
ثانيا: لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما
حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا واضحا كما
نصب على العادات 514
ثالثا: عدم اهتداء العقول في أزمنة الفترات لأوجه
التعبدات كنحو اهتدائهم لأوجه معاني العادات 518
فصل: أدلة الالتفات إلى المعاني في العادات: 520
أولا: استقراء أدلة الشرع 520
ثانيا: التوسع في تبيان العلل والحكم في هذا الباب 523
ثالثا: علم أهل الفترات بمعاني العادات والالتفات إليها 524
فصل: لا بد من وجود عادات فيها تعبد ولا بد من
التسليم لها 525
علة بعض العادات مجرد الانقياد 526
الكوع وتفسيره 526-527
أصل سد الذرائع والنظر فيه 527(5/289)
ص -577-…الأول: من جهة تشعبه 527
الثاني: من جهة ضوابطه 528
المسألة التاسعة عشرة: 529
كل ما ثبت اعتبار التعبد فيه فلا تفريع "قياس" عليه،
وكل ما ثبت فيه اعتبار المعنى دون التعبد فلا بد فيه من
اعتبار التعبد لأوجه: 529
الأول: معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث
هو مكلف، عرف المعنى الذي شرع لأجله الحكم أو لم يعرف 529
هو لازم على رأي من قال بالحسن والقبح العقليين!! 530
الثاني: فَهْمُ حكمة من حكم شرع الحكم لا يمنع أن تكون
ثَمَّ حكمة أخرى 530
الثالث: انقسام المصالح في التكليف على قسمين:
الأول منهما: ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة
كالإجماع 532
الثاني: ما لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالوحي فقط 533
الرابع من الأوجه: إذا جاز القصد إلى التعبد مع جواز اجتماع
التعبد والالتفات إلى المعاني 534
الخامس: كون المصلحة تقصد بالحكم والمفسدة كذلك
مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة
نفي التحسين والتقبيح 534-535
- حق الله في التكاليف وحق العباد 535
- قاعدة النهي يقتضي الفساد 536
السادس: لو حصل الثواب بغير نية لأثيب الغاصب إذا أخذ
منه المغصوب كرها 537
هل يلزم أن يفتقر كل عمل إلى نية؟ 537
فصل: نتيجة ما سبق أن الفعل غير خالٍ من حق لله
وحق العبيد معا 538
فصل: الأقسام الثلاثة للأفعال بالنسبة إلى حق الله
وحق الآدمي 539
الأول: حق الله الخالص 539
الثاني: ما هو حق لله وحق العبيد -مشتمل عليهما-
والمغلب فيه حق لله 540
الثالث: ما اشتركا أيضا ولكن حق العبيد هو المغلب 541
فائدة هذا القسم معرفة سبب من صحح العمل
المخالف بعد الوقوع 542(5/290)
ص -578-…المسألة العشرون: شكر النعم والاستمتاع بها 543
خلقت الدنيا ليظهر فيها أثر القبضتين ومبنية على بذل
النعم للعباد 543
تواتر أحاديث القبتضتين 543
اقتضاء ذلك أن تكون الشريعة عرفتنا بيان وجه الشكر
في كل نعمة، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا 543
وضوح ذلك في الاستدلال 543
تفسير الشكر 544
تعلق حق الله في العاديات ثلاثة أقسام: 546
الأول: من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات 546
الثاني: من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق
الثالث: وهو تتمة الثاني: إجراء المصلحة على وفق
الحكمة البالغة 546
حق العبيد أيضا له نظران:
من جهة الدار الآخرة والثواب عليه
ومن جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها 547
الاستدراكات 549(5/291)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الثالث
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(6/1)
ص -7-…[بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]1
[القسم الثاني من الكتاب]2:
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف وفيه مسائل
المسألة الأولى3:
إن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات، والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وأثبتناه من "ط".
3 تعرض المصنف هنا لنظرية "الباعث" أو"الدافع"، وهذا ما ركز عليه ابن تيمية في فقهه عموما، وترى ذلك في "الفتاوى الكبرى" "3/ 227"، و"مجموع الفتاوى" "18/ 256 وما بعدها 26/ 23 وما بعدها" له، وفي ترجمة أبي زهرة له أيضا "ص50 وما بعدها"، وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم، ويستطيع الباحث أن يقرر أن الذي أصله المصنف هنا هو عين ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية قبله؛ إذ جعل الباعث أو الدافع أصلا معنويا عاما تنهض به أدلة لا تحصى كثرة، حيث يقول في "إعلام الموقعين" "3/ 95-96": "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن "المقاصد" والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما [في الأفعال]، وصحيحا أو فاسدا [في العقود]، وطاعة أو محرمة [في العبادات]، أو صحيحه أو فاسدة"، ثم يشير إلى عين ما أشار إليه المصنف من أن الأدلة على هذا الأصل تفوت الحصر، ويأتي بالأدلة التفصيلية من القرآن والسنة في موضوعات شتى، تفيد بمجموعها إقامة هذا الأصل المعنوي العام على سبيل القطع.
هذا ويؤكد الإمام ابن القيم هذا المعنى في غير ما موضع من موسوعته الفقهية "إعلام =(6/2)
ص -8-…ويكفيك منها أن المقاصد1 تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب، وفي العادات بين الواجب والمندوب، والمباح والمكروه والمحرم، والصحيبح والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة2، ويقصد به شيء آخر، فلا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الموقعين" حيث يقول "3/ 109-110": "وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده [قضاء]، وفي حله وحرمته [ديانة]، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد، تحليلا وتحريما؛ فيصير حلالا تارة، وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافهما"، ويأتي بالأمثلة التطبيقية من أحكام الشريعة المستقاة من النصوص التفصيلية على ما يقول؛ كالذبيح الذي أهل ذبحه لغير الله، وكذلك الحلال "غير المحرم" يصيد الصيد للمحرم، فيحرم عليه، ويصيده للحلال؛ فلا يحرم عليه، وصورة الفعل واحدة، وإنما اختلفت "النية والقصد"؛ أي: الباعث.
ويقول أيضا "3/ 82": "القصد روح العقد ومصححه ومبطله؛ فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ...."، ويقول "2/ 111": "النية روح العمل وقوامه، هو تابع لها في الحكم؛ يصح بصحتها، ويفسد بفسادها"، ويظهر هذا في كلامه على إبطال الحيل، وسيأتي بيان ذلك في موطنه من هذا الكتاب في القسم الخامس منه. انظر التعليق على المسألة "المسألة العاشرة" من الطرف الأول منه.
1 انظر في الذي سيذكره المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 207"، و"الذخيرة" "1/ 236- ط مصر"، و"الحطاب على خليل" "1/ 234"، و"الأشباه والنظائر" "ص12" للسيوطي.(6/3)
2 كما تقدم في العادات المغلب فيها حق العبد، تكون عبادة بالنية، فإذا فقدت النية خرجت عن كونها عبادة؛ كالمباحات يأخذها من جهة الإذن الشرعي أو من جهة الحظ الصرف، والصلاة والعبادات يقصد بها الامتثال تكون عبادة، والرياء والجاه فتكون معصية. "د".
قلت: ومن الأمثلة على أن النية تؤثر في الفعل؛ تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة الذبح؛ فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لله، ويحرمه إذا ذبح لغيره، والصورة واحدة.
والرجل يشترى الجارية لموكله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحدة، وقال ابن القيم في كتاب "الروح": "الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجا والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأديب، وحب الدعوة إلى الله وحب الرياسة، وعلو أمر الله والعلو في الأرض، والعفو والذل، والتواضع والمهانة، والموجدة والحقد، والاحتراز وسوء الظن، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، والتحدث بالنعم شكرا والفخر بها، فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد".
انظر: "منتهى الآمال" "ص117-118" للسيوطي، و"مقاصد المكلفين" "ص71".(6/4)
ص -9-…كذلك، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا، كالسجود لله أو للصنم.
وأيضا؛ فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها؛ كفعل النائم والغافل والمجنون.
وقد قال تعالى1: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ} [النحل: 106].
وقال: {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
[وقال]2: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [لِتَعْتَدُوا]3} [البقرة: 231] بعد قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].
[وقال]2: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]
[وقال]2: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [الآية]2. إلى قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع لأصل الدعوى، وبيان اعتبار النية في العبادات والعادات. "د".
2 في جميع المواضع المعقوفات زيادة من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(6/5)
ص -10-…{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمريء ما نوى......" إلى آخره1.
وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله"2.
وفيه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك [معي] فيه شريكا؛ تركت نصيبي لشريكي"3.
وتصديقه قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وأباح عليه الصلاة والسلام4 للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 355"
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، 1/ 222/ رقم 123، وكتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 6/ 27-28/ رقم 2810، وكتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، 6/ 226/ رقم 3126، وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، 13/ 441/ رقم 7458"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، 3/ 1512-1513/ رقم 1904" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله/ رقم 2985" بلفظ: "تركته وشركه"، وما بين المعكوفتين سقط من الأصل.(6/6)
4 وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم، ما لم يصيدوه أو يصد لكم"، وعند بعضهم: "لحم صيد البر..." أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، 3/ 203-204/ رقم 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، 5/ 187"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، 2/ 428/ رقم 1851"، والشافعي في "المسند" "رقم 839 – ترتيبه"، وأحمد =(6/7)
ص -11-…....................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "المسند" "3/ 362"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 180"، والطحاوي في "شرح ومعاني الآثار "2/ 171"، وابن حبان في "صحيحه" "9/ 283/ رقم 3971 – الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 452، 476"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 190"، وابن عبد البر في "التمهيد" "9/ 62"، والبغوي في "شرح السنة" "7/ 263 – 264/ رقم 1989" من طرق عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب عن جابر به مرفوعا.
وإسناده ضعيف، وفيه علل:
الأولى: الانقطاع بين المطلب وجابر.
قال الترمذي عقبه: "المطلب لا نعرف له سماعا من جابر".
وقال أبو حاتم في "المراسيل" "ص210": "عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من جابر"، وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل"، وقال البخاري: ""لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الدارمي: "لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة"، كذا في "التلخيص الحبير" "2/ 276".
الثانية: ضعف عمرو بن أبي عمرو.
قال النسائي عقبه: "عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان هو روى عنه مالك"، وقال ابن حزم في "المحلى" "7/ 253": "خبر ساقط؛ لأنه عن عمرو بن أبي عمرو، وهو ضعيف".
الثالثة: اضطراب عمرو بن أبي عمرو فيه.
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 191" "فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه".
قلت: واضطراب عمرو بن أبي عمرو في هذا الحديث على النحو الآتي:
- أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 189" ثنا سريج ثنا ابن أبي الزناد عن عمرو بن أبيي عمرو أخبراني رجل ثقة من بني سلمة عن جابر.(6/8)
- وأخرجه الشافعي في "المسند" "1/ 323"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290 – 291" من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن =(6/9)
ص -12-…يصد له1، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه.
لا يقال: إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة؛ فليست معتبرة بإطلاق2، وفي كل حال، والدليل على ذلك أشياء:
- منها: الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع؛ إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه؛ فهو غير قاصد لفعل ما أمر به؛ لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح، وإذا لم يصح، كان وجوده وعدمه سواء، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول، ويتسلسل أو يكون الإكراه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أبي عمرو عن رجل من بني سلمة "وفي روايات: عن رجل من الأنصار" عن جابر.
وأخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 290" من طريق الدراوردي عن سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171" عن ابن أبي داود ثنا ابن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد ثني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
الرابعة: الكلام في المطلب؛ فهو مختلف فيه، وإن كان من رجال "الصحيحين"، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "2/ 276".
وأقوى العلل الأولى، وأضعفها الأخيرة، وقد أجيب عن الثانية بكلام ضعيف، وعن الثالثة بكلام فيه نوع قوة؛ إذ أقام بعض الثقات ممن روى عن عمرو إسناده، وإليه أشار الشافعي وتبعه البيهقي.
وعلى آية حال، الإسناد ضعيف، وقد عزاه ابن حجر في "التلخيص" ل "أصحاب السنن" وهو ليس عند ابن ماجه، والله الموفق.
1 أي: فللقصد دخل في الحل والحرمة. "د".
2 في الأصل: "على الإطلاق"، وفي "ط": "بمعتبرة بإطلاق.(6/10)
ص -13-…عبثًا1: وكلاهما محال، أو يصح2 العمل بلا نية، وهو المطلوب.
- ومنها أن الأعمال ضربان: عادات، وعبادات، فأما العادات؛ فقد قال الفقهاء: إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية، بل مجرد وقوعها كاف؛ كرد الودائع والغصوب3، والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها؛ فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات؟ وأما العبادات؛ فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها؛ فقد قال جماعة من العلماء4 بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن الإكراه إما أن يتسلسل، وإما أن يقف عند حد دون أن يحصل غرض الشارع من الفعل امتثالا؛ فيكون الإكراه الذي حصل عبئا لم يفد مقصود الشارع، والعبث من الشارع محال؛ كما أن التسلسل في ذاته محال؛ فلم يبق إلا أن يكون العمل صحيحا مؤديا غرض الشارع بدون النية؛ فلا يتم الأصل المدعى. "د".
2 في الأصل: "فيصح".
3 في "د": "والمغضوب".
4 هم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية، وكذلك الغسل، وزاد الأوزاعي والحسن: التيمم، قاله العيني في "عمدة القاري" "1/ 36"، واختلف على الأوزاعي فيه اختلافا شديدا، انظره عند ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370".
انظر في المسألة: "المبسوط" "1/ 72"، و"أحكام القرآن" "3/ 23"، و"معالم التنزيل" "2/ 218 - ط دار الفكر"، وانظر في الرد على من لم يشترط النية للوضوء والغسل: "الطهور" "ص201 – 207 بتحقيقي" لأبي عبيد، و"الخلافيات" "1/ مسألة رقم 7 – بتحقيقي" للبيهقي، و"المحلى" ""1/ 73"، و"المجموع" "1/ 312"، و"المغني" "1/ 91"، و"الأوسط" "1/ 369 وما بعدها"، و"بدائع الفوائد" "3/ 186-193"، و"إعلام الموقعين" "1/ 274-275، 2.293/ 287-3.288/ 122-124"، و"تهذيب السنن" "1/ 48".(6/11)
بقي بعد هذا تحرير مذهب مالك، نقل القرطبي في "تفسيره" "5/ 213 و15/ 233" عن الوليد بن مسلم عن مالك أنه كان لا يشترط النية في الوضوء، وحكى هذه الرواية عنه العيني في "العمدة" "1/ 36"، والباجي في "المنتقى" "1/ 52"، وابن العربي في "الأحكام" "2/ 559"، وأفاد ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370" أن الوليد حكاه عن مالك والثوري، وعقب عليه بقوله: : أما حكايته عن الثوري، فكما حكى لموافقته حكاية الأشجعي والعدني وعبد الرزاق والفريابيي عنه، وأما ما حكاه عن مالك؛ فما رواه أصحاب مالك عنه: وابن وهب وابن القاسم [في "المدونة" "1/ 32"] أصح، والله أعلم.(6/12)
ص -14-…الصوم1 والزكاة2، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة.
وفي الحديث: "ثلاث جدهن وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما سيأتي في التعليق على "ص19".
2 هو مذهب الأوزاعي، نظر إلى أن الزكاة عبادة مالية؛ فقاسها على إعادة الدين ورد العارية والمغضوب، هذا ونقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه"أصول الفقة" "ص324" أن مذهب جمهور الفقهاء: أن الزكاة لا يحتاج أداؤها إلى نية، وهو خطأ، انظر: "المجموع" "6/ 184".
نعم، تستثنى النية عند بعضهم كالحنفية استحسانا فيما إذا تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، وعللوا هذا الاستحسان بقولهم: "إن النية وجدت دلالة؛ لأن الظاهر أن من عليه زكاة لا يتصدق بجميع ماله، ويغفل عن الزكاة"، قاله الكاساني في "البدائع" "2/ 40"، وفي الهداية "2/ 492"، "الواجب عليه جزء منه، فكان متعينا فيه؛ فلا حاجة إلى التعيين"، وكذا زكاة الصبي والمجنون والمعتوه، وكذا ما قرره الفقهاء أن الممتنع من أداء الزكاة يكره على أدائها وتجزئ عنه.
انظر: "الأم" "1/ 18، 19"، "والمجموع" "6/ 190"، و"الأشباه والنظائر" "ص22" لابن نجيم، و"الإنصاف" "3/ 196" للمرداوي، و"إبراز الحكم من حديث رفع القلم" "ص84" للسبكي، و"مقاصد المكلفين" "ص325-328".
3 أخرجه أو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، 2/ 664/ رقم 2194"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 3/ 490/ 1184" وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا، 1/ 658/ رقم 2039"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1603"، والدارقطني في =(6/13)
ص -15-…وفي حديث آخر: "من نكح لاعبًا، أو طلق لاعبًا، أو أعتق لاعبًا؛ فقد جاز"1.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذز1"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "السنن" "3/ 256، 4.257/ 18-19"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 712"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "4/ رقم 54"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 219" من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين"، وتعقبه الذهبي؛ فقال: "فيه لين".
قلت: قال النسائي فيه: "منكر الحديث" ووثقه ابن حبان، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 210" عن عبد الرحمن بن حبيب: "وهو مختلف فيه، قال النسائي: "منكر الحديث"، ووثقه غيره؛ فهو على هذا حسن.
قلت: قوله "غيره" المراد به هو ابن حبان، وهو متساهل كما هو معروف؛ فإسناد الحديث ضعيف؛ إلا أنه صالح للشواهد، والحديث له شواهد كثيرة يجبر بها، ويصل إن شاء الله تعالى إلى درجة الحسن.
وانظر: الحديث الآتي، و"نصب الراية" "3/ 293 – 294"، و"التلخيص الحبير" "3/ 209"، و"الإرواء" "1826".
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 135/ رقم 10250" عن ابن جريج؛ قال: أخبرت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "من طلق أو نكح لاعبا؛ فقد أجاز"، وإسناده معضل.
وأخرجه أيضا برقم "10249" عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم؛ أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق وهو لاعب؛ فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب؛ فعتاقه جائز، ومن أنكح وهو لاعب؛ فنكاحه جائز"، وإسناده واه بمرة، إبراهيم هو الأسلمي، متروك، وفيه انقطاع.(6/14)
2 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1609، 1610"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 81- ط دار الفكر" من طريق الحجاج بن أرطأة عن سليمان بن سحيم عن سعيد بن المسيب به.
ورجاله ثقات؛ إلا أن الحجاج مدلس، وقد عنعن.
والأثر صحيح، له طرق عند عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 134/ رقم 10248"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 341".(6/15)
ص -16-…ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل1 به، وفي مذهب مالك2 فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أن صومه صحيح3، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام؛ فتنفل بعدها بركعتين، ثم تذكر أنه لم يتم أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة، وأصل مسألة الرفض مختلف فيها4؛ فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة5.
- ومنها: أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا، وهو النظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفتاوي الكبرى" "3/ 149".
2 نقل القرافي في "الذخيرة" "1/ 511 – ط مصر" البطلان عن مالك، وعند الشافعية قولان مشهوران، أصحهما لا يبطل، انظر: "المجموع" "6/ 331"، وما مضى "1/ 344" مع التعليق عليه.
3 هو وإن كان قولا ضعيفا يكفي في ترويج السؤال. "د".
4 انظر بسط الخلاف في "المجموع" 1/ 388، 3/ 250 و6/ 331-332"، و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"الحطاب على خليل" "1/ 240" و"الفروق" "1/ 204 و2/ 27" و"الذخيرة" "1/ 244، 511 – ط المصرية و1/ 217 و2/ 520- ط دار الغرب"، و"المحلى" "6/ 174"، و"مقاصد المكلفين" "ص239–242، وما مضى "1/ 344".
5 فالمدة التي وقع عليها الرفض عريت عن قصائد العبادة، وكذا الركعتان لم ينو فيهما الفرضية، ونية النفل لا تجزي عن نية الفرض عنده. "د".
قلت: عدم الإجزاء هو مذهب الجمهور، انظر: "المغني" "1/ 468"، و"المجموع" "3/ 251"، و"فتح الباري" "12/ 328"، و"المحلى" "3/ 232 و4/ 50".(6/16)
ص -17-…الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع، والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به؛ فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء؛ فكيف يقال: إن كل عمل لا يصح بدون نية؟ وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا.
لأنا نجيب عن ذلك بأمرين:
أحدهما أن نقول: إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان:
ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار، وهنا يصح أن يقال: إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا، قصد به امتثال أمر الشارع أو لا، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة؛ فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض، حسنا كان أو قبيحا، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك؛ فهؤلاء غير مكلفين؛ فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة؛ فليس هذا النمط بمقصود للشارع؛ فبقي ما كان مفعولا بالاختيار لا بد فيه من القصد، وإذ ذلك تعلقت به الأحكام، ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة، وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين؛ فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل أو غير ذلك؛ فيتنزل على ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار [وعدمه، وإما غير مقصود؛ فلا يتعلق به حكم على حال، وإن تعلق به حكم؛ فمن باب خطاب] الوضع لا من باب خطاب التكليف؛ فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن1 صححنا صومه؛ فمن جهة خطاب الوضع، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا، وكذلك ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وإن" بزيادة واو.(6/17)
ص -18-…في معناه.
والضرب الثاني: ليس من ضرورة كل فعل، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات؛ كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما؛ فلا إشكال فيه، وأما العادايات، فلا تكون تعبديات إلا بالنيات، ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه؛ فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة، بناء على منع التكليف بما لا يطاق، أما تعلق الوجوب بنفس العمل1؛ فلا إشكال في صحته لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله، بخلاف قصد التعبد بالعمل؛ فإنه محال، فصار في عداد ما لا قدرة عليه؛ فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا.
والثاني: من وجهي الجواب بالكلام على تفاصيل ما اعترض به.
فأما الإكراه على الواجبات؛ فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر؛ فلا يصح في عبادة2، إلا أنه قد حصلت فائدته فتسقط المطالبة به شرعا؛ كأخذ3 الأموال من أيدي الغصاب، وما افتقر منها إلى نية التعبد؛ فلا يجزيء فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة4 كالإكراه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي هو النظر؛ فهنا عمل وهو النظر الموصل للمعرفة وهو ممكن؛ فيتوجه التكليف به، وأما قصد الامتثال بهذا النظر؛ فغير ممكن لأنه لا يكون قصد الامتثال لأمر الله إلا بعد معرفة الله بهذا بالنظر؛ فصار القصد غير ممكن؛ فلا يخاطب به. "د".
2 في الأصل و"ط": "عادة".
3 في الأصل: "لأخذ".
4 قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "26/ 30" الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه.(6/18)
ص -19-…على الصلاة، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم؛ فلا يطالبه الحاكم بإعادتها لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد، فلم يطلبوا بالشق عن القلوب.
وأما الأعمال العادية –وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية-؛ فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال، وإلا كانت باطلة1، وبيان بطلانها في كتاب الأحكام، وما ذكر من الأعمال التعبدية؛ فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى؛ فالطهارة والزكاة من ذلك، وأما الصوم2؛ فبناء على أن الكف3 قد استحقه الوقت؛ فلا ينعقد لغيره، ولا يصرفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالمعنى الثاني المتقدم في مبحث البطلان، وهو عدم ترتب الثواب عليه في الآخرة. "د".
وقال"خ": "صرح القرافي في الفرق الخامس والستين بما أشار إليه المصنف هنا من أن أداء الديون وما يشابهه ليس فيه ثواب حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى، ووافقه أبو القاسم بن الشاط في حال ما إذا نوى المكلف سببا للأداء غير الامتثال؛ كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء، ثم قال: وإن عري عن نية الامتثال ونية غيره، ولم ينو إلا مجرد أداء دينه؛ فلقائل أن يقول: لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بسعة بابه، وهذا الوجه غير متين؛ فإن رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الدلائل قامت على أن ثواب العمل مرتبط بالتوجه إليه من حيث إنه مطلوب للشارع، والعمل الذي لا يصاحبه هذا القصد، فلا يصح أن نثبت لصاحبه ثوابا إلا بدليل خاص". قلت: في "ط": "باطلا".
2 مذهب الحنفية أن ما كان وقته معينا كرمضان والنذر المعين لا يشترط فيه التبييت ولا التعيين؛ حتى إذا قصد غيره كأن نوى برمضان قضاء رمضان الفائت، أو نوى بالنذر المعين قضاء رمضان أو نفلا؛ فإن الصوم لا ينصرف إلا لصاحب الوقت، ويصح. "د".(6/19)
قلت: ما ذكره المصنف هو مذهب عطاء ومجاهد وزفر من الحنفية، ذكر الكاساني في "بدائع الصنائع" "2/ 83" ما يمكن أن يحتج به لزفر؛ فقال: "النية إنما تشترط للتعيين، والحاجة إلى التعيين إنما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم، وهو صوم رمضان؛ فلا حاجة إلى التعيين بالنية". انتهى.(6/20)
ص -20-…قصد سواه، ولهذا نظائر في العاديات؛ كنكاح الشغار، فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقرر ابن رشد في "بداية المجتهد" "1/ 300" أن سبب الاختلاف في هذه المسألة ما ذكره المصنف، وهو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى كما قرر المصنف أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى؛ قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينوِ.
وما مضى من نقل يوضح المثال الذي ذكره المصنف، بقي بعد هذا أمران:
الأول: الجمهور يردون على الرأي السابق بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عموما، وأولى الشافعي في "الأم" "2/ 83" هذه المسألة اهتماما جيدا، وألزمهم بصورة قد تقع في الصلاة، ورد حجتهم في أن الصوم لا يحتاج إلى نية، لأنه معين بصورته؛ إذ له وقت محصور محدود، بأن هذا يمكن أن يقع في الصلاة؛ فوقت الصلاة قد يتضيق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بد للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيق من نية.
الثاني: أنكر الكرخي أن زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادعى أن مذهب زفر كمذهب مالك، جواز الصوم بنية واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إن زفر رجع عن ذلك لما كبر. انظر: "الهداية" "2/ 92".
انظر في المسألة: "المجموع" "6/ 336"، و"المحلى"" "6/ 161" و"غمز عيون البصائر" "2/ 78"، و"شرح ميارة على ابن كاشر" "ص341"، و"السيل الجرار" "1/ 20"، و"مقاصد المكلفين" "ص339-341"، وفيه اعتراض على توجيه المسألة على سبب الاختلاف الذي ذكره ابن رشد، وفي صنيعه هذا نظر، والله الموفق.
3 في الأصل: "التكلف".(6/21)
1 مذهب أبي حنيفة أن الوليين لو صرحا بأن يكون بضع كل صداقا للأخرى؛ صح العقد ووجب مهر المثل لهما، وهذا مبني على أن العقد يصح ولو مع نفي المهر عنده؛ فإن الشغار آيل إلى نفي المهر، ويظهر أن الأصل: "وإن قصدوه"؛ أي: قصدوا الشغار، أي: فقد قصدوا ضد النكاح الشرعي، ومع ذلك لم يبطل؛ لأن العقد يصرفه إلى الحقيقة الشرعية، فيصح ويلزم مهر المثل، ويكون الشرط باطلا وقد يقال قوله: "وإن لم يقصدوه"؛ أي: الوجه الذي يصح العقد، بل قصدوا ما ينافيه؛ فتكون العبارة صحيحة، إلا أنه يبقى الكلام مع المؤلف في التمثيل به لأنه إذا كان المهر غير ركن ولا شرط في صحة العقد، بل مع نفيه في صلب العقد يصح؛ فقصده وعدم قصده لا يفيد في موضوعنا. "د".(6/22)
ص -21-…وأما النذر والعتق وما ذكر معهما؛ فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه، والهازل كذلك؛ لأنه قاصد لإيقاع السبب1 بلا شك، وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات، وإما قاصد [أن لا يقع، وعلى كل تقدير؛ فيلزمه المسبب شاء أم أبى، وإذا قلنا بعدم اللزوم؛ فبناء] على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه2، وإنما3 قصد مجرد الهزل باللفظ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل وهو الإباحة أو غيرها، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن4؛ فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله، أو يقال5: إنه قاصد بالعقد –الذي هو جد شرعي- اللعب؛ فناقض مقصود الشارع؛ فبطل حكم الهزل فيه، فصار إلى الجد.
ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة؛ فالنية الأولى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مجرد اللفظ. "د".
2 إن كان مراده بغير قاصد لمعناه أنه غير قاصد لحصول المسبب عنه وهو الطلاق والعتق؛ فغير وجيه لما ذكره آنفا، وإن كان مراده غير قاصد لنفس المعنى الموضوع له اللفظ؛ فغير واضح ونية الهزل باللفظ لا تخرجه عن كونه فاهما معناه وملاحظا له، غايته أنه لا يكون قاصدا به حصول المسبب هذا ما يقتضيه الهزل؛ فهذا القول كما ترى. "د".
3 في الأصل: "وأما".
4 أي: وهي مسائل كما ترى لها آثار عظمى في النسب والحرية والالتزامات، يحافظ الشارع عليها أشد المحافظة؛ فيعمل أسبابها الظاهرة كما هي، ولا يقبل فيها محاولة الهزل لأنه أمر باطن؛ فيجب أن يحمل على الجد، وإلا لانفتح باب واسع يفسد العصم، ويضيع الحربة والالتزامات التي يلتزمها المكلف بالنذر، حتى تكون دعواه الهزل كأنها ندم على ما حصل. "د".
5 لا ينافي الوجه قبله، ويصح ضمه إليه وإعمالها معا. "د".(6/23)
ص -22-…مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي، وهو لم يكن1؛ فيصح الصوم، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة؛ لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنقل لغوا لم يصادف محلا وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض.
وأما النظر الأول؛ فقصد التعبد فيه محال، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "لم يقع".(6/24)
ص -23-…المسألة الثانية:
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع1، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة؛ إذ قد مر أنها موضوعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذا منع مالك في "المدونة" "4/ 253، 254" بيع الخشبة لمن يستعملها صليبًا، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا؛ كما يحرم بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد به قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وكذا لا يجوز في مذهب مالك بيع الجارية المملوكة من قوم عاصين يتسامحون في الفساد وعدم الغيرة، وهم آكلون للحرام ويطعمونها منه، ونص ابن فرحون في "التبصرة" "2/ 147" على حرمة بيع الدار لمن يعملها كنيسة، وفي "الشرح الكبير" للدردير مع "حاشية الدسوقي" عليه: "ويمنع بيع كل شيء علم أن المشتري قصد به أمرًا لا يجوز"، وذكر الأمثلة المتقدمة، وزاد: "وبيع أرض لتتخذ كنيسة أو خمارة"، و"النحاس لمن يتخذه ناقوسا"، وقيد ابن رشد أن الخلاف في هذا مقيَّد بما إذا علم البائع أن المشتري يفعل ذلك.
ويستفاد من كلام المصنف في هذه المسألة والتي تليها التوسع في تطبيق مبدأ الذرائع، وهو مبدأ يتجه اتجاهين: الأول اتجاه إلى الباحث على التصرف، والثاني اتجاه إلى مآل التصرف.
ومن الجدير بالذكر أن اعتبار القصد والباعث في العبادات والعادات أمر مجمع عليه ديانة؛ غير أن الخلاف بين الشافعية والحنفية من جهة، والحنابلة والمالكية من جهة أخرى في الطريقة التي يستدل بها على هذا؛ فذهب الأولون إلى أنه لا عبرة به إلا إذا دل دليل مادي ظاهر من العبارة تدرج في صيغة العقد، وأضاف الحنفية إلى ذلك أنه يعتبر أيضا إذا أمكن استخلاصه من طبيعة محل العقد، وتعينه طريقا إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، أما الآخرون؛ فيكتفون بكل ما يدل عليه من ظروف وقرائن.(6/25)
انظر: "الأم" "3/ 65 و6/ 198"، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص236 - ط الإفتاء" و"إعلام الموقعين" "3/ 92"، و"المغني" "9/ 331"، و"تبيين الحقائق" "4/ 190"، و"تبصرة الحكام" "2/ 14"، و"حاشية ابن عابدين" "5/ 250"، و"السيل الجرار" "3/ 23"، وكتابنا "المال الحرام وأحكامه" يسر الله إتمامه.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن نظرية الباعث التي فصل المصنف فيها القول لم يكتشفها التشريع الوضعي إلا في العصر الحديث، وقد سماها "نظرية السبب الحديثة"، والاجتهاد بالرأي في التشريع =(6/26)
ص -24-…لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع، ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة –هذا محصول العبادة-؛ فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأيضا؛ فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد؛ فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة؛ لأن الأعمال بالنيات، وحقيقة ذلك1 أن يكون خليفة الله في2 إقامة هذه المصالح بحسب طاقته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الإسلامي كان له فضل السبق في استنباطها على نحو كلي واسع، جعلها تنبسط بظلها على جزئيات وقوعية، ومعاملات جارية في المجتمع لا تحصى كثرة، مما يقيم الدليل البين على اعتبار الجزئي بالكلي، واعتبار الكلي بالجزئي كيلا يقع التخالف المحظور شرعا كما قدمنا، فضلا عن أنها نظرية جاءت توثيقًا وحماية لمقاصد التشريع.
هذا بالنسبة للتطبيق الذي ينهض به المكلفون عامة؛ امتثالا لأحكام التشريع، وتنفيذًا لها، أما بالنسبة للمجتهد بوجه خاص؛ فإن عليه أن يحدد "المقصد الشرعي" في حكم كل مسألة على حدة ليتمكن من تبين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتبارا للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي.
1 أي: حقيقة كون العبد مكلفا بالمحافظة على الضروريات، وما يرجع إليها أن يكون خليفة الله في إقامتها بمباشرته الأسباب الظاهرة التي رسمها الله تعالى في الشرائع وأودع في العقول إدراكها. "د".(6/27)
2 انظر في استخدام هذا اللفظ: "زاد المعاد" "2/ 37"، و"مفتاح دار السعادة" "ص165" -كلاهما لابن القيم- وقرر فيهما: إن أريد بإضافة "الخليفة" إلى الله سبحانه وتعالى أنه خليفة عنه؛ فالصواب منعه لأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأنه شاهد غير غائب، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله؛ فهذا لا يمتنع فيه الإضافة. وانظر: "معجم المناهي اللفظية" "ص156-157 - ط الأولى".(6/28)
ص -25-…ومقدار وسعه، وأقل ذلك خلافته على نفسه، ثم على أهله، ثم على كل من تعلقت له به مصلحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"1.
وفي القرآن الكريم: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
وإليه يرجع قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
وقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].
والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال: "الأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"2، وإنما أتى بأمثلة3 تبين أن الحكم كلي عام غير مختص؛ فلا يختلف عنه فرد من أفراد الولاية، عامة كانت أو خاصة؛ فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه قريبا.(6/29)
2 أخرجه البخاري في "صحيحة" "كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، 2/ 380/ رقم 893، وكتاب الاستقراض، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، 5/ 69/ رقم 2409، وكتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد، 5/ 181/ رقم 2558، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، 5/ 377/ رقم 2751، وكتاب الأحكام، باب قوله الله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، 13/ 111/ رقم 7138"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، 3/ 1459/ رقم 1829" عن ابن عمر رضي الله عنهما بألفاظ متقاربة، وفي الباب عن أنس وابن عباس والمقدام بن معدي كرب وأبي لبابة وأبي موسى وأبي هريرة وعائشة وابن مسعود قوله تكلمت على تخريجها في تحقيقي لـ"فضيلة العادلين" لأبي نعيم مع "تخريجه" للسخاوي "رقم 1".
وفي الأصل: والمرأة راعية في بيت".
3 أي: فليس الغرض الحصر فيما ذكره؛ لأنه لم يذكر أعم الولايات وهي ولاية الشخص ورعايته لما رسم بالنسبة لنفسه، ولم يذكر في هذه الرواية أيضا ولاية العبد في مال سيده التي ذكرت في طريق آخر؛ فهذا يدل على ما قال، وهو أنه إنما ذكر أمثلة فقط. "د".(6/30)
ص -26-…مختص؛ فلا يختلف عنه فرد من أفراد الولاية، عامة كانت أو خاصة؛ فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.
فصل:
وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام1، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب2؛ إذ مر هنالك خمسة أوجه منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف؛ فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة السادسة هناك أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد. "د".
2 في المسألة السادسة من النوع الرابع، وهو دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، حيث جعل ما تعبد الله به العباد نوعين: دينيًا، ودنيويًا، ثم جعل الديني من حيث قصد المكلف نوعين، وجعل الدنيوي من حيث قصده ثلاثة أقسام. "د".
قلت: غلط الشيخ دراز في إحالة المصنف، والصواب أنه أحال على المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 321 وما بعد".
3 سبق أن قرر المصنف في المسألة الثالثة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 308" "أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها"؛ أي: أن المكلف يكفيه أن يأتي بالأسباب على وجهها الصحيح المشروع، وليس مكلفا بالقصد إلى مسبباتها =(6/31)
ص -27-…المسألة الثالثة:
كل1 من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لأنه غير مكلف بالمسببات "النتائج"؛ فالله تعالى هو الذي يتولى أمر المسببات ويرتبها على أسبابها، قال هنالك "1/ 316-317": "فإذًا: قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط بها بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه؛ إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه"، وقال "1/ 315": "فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب".
وقرر في بداية هذه المسألة "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"؛ فهذا يقتضي أن يقصد المكلف بالأسباب ما شرعت لأجله من المسببات، فالقصد إلى المسببات -وعلى وفق ما قصده الشارع بها- مطلوب إذًا من فاعل الأسباب، بينما الذي سبق تقريره أن المكلف غير ملزم بهذا؟!
والمصنف لم يكن غافلًا عن هذا "التناقض"، والذي أحالنا عليه فيه تعرض بتفصيل وتقعيد لرفعه، ومفاده أنه على أقسام ومراتب، فمنه ما يلتفت فيه إلى المقاصد والمسببات، ومنه ما لا يلتفت.
1 دليل منطقي مؤلف من صغرى وكبرى، ثم النتيجة، وقال: إن الكبرى ظاهرة، ولم يترك التنبيه عليها؛ فقال: "فإن المشروعات إنما وضعت... إلخ"، ودلل على الصغرى بالأدلة الستة، إلا أنه بالتأمل يرى أن الدليل الأول منها جميعه ما عدا قوله أخيرًا: "فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار... إلخ"، هو في الواقع بيان وشرح للتنبيه على المقدمة الكبرى، وبسط للكلام فيما ينبني عليه قوله: "فإذا خولفت لم يكن... إلخ"؛ فهذا الكلام في الدليل الأول مرتبط ارتباطا تاما ببيان المقدمة الكبرى، وليس بنا حاجة إليه في الاستدلال على المقدمة الصغرى، ويكفي في الدليل الأول أن يقول: لأنه إذا قصد المكلف غير ما قصده الشارع؛ فقد جعل ما قصده الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل... إلخ، ولا حاجة لما قبل ذلك من المقدمات. "د".(6/32)
قلت: لئن كان المطلوب من المكلف بصفة إجمالية أن يجعل قصده في العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع؛ فإن عامة المكلفين قد لا يعرفون بالتفصيل مقاصد الشارع في كثير من أحكامه وتكاليفه؛ فكيف يفعلون حتى يكون قصدهم في كل عمل موافقًا غير مخالف لقصد الشارع في ذلك العمل، ويكونوا على اطمئنان من ذلك؟ والجواب على هذا السؤال نجده في المسألة الثامنة؛ فانظره هناك.
ومما ينبغي ذكره أن الاجتهاد تكليف من تكاليف الشريعة لأنه فرض كفائي؛ فيدخل في مضمون هذا الأصل وحكمه، ولذا اشترط المصنف في كتابه الاجتهاد "القسم الخامس" في المسألة الثانية من الطرف الأول منه أن العالم لا يبلغ درجة الاجتهاد؛ إلا إن فهم مقاصد الشريعة.(6/33)
ص -28-…الشريعة، و[كل]1 ما ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له؛ فعمله باطل.
أما أن العمل المناقض باطل؛ فظاهر، فإن2 المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة.
وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له؛ فهو مناقض لها؛ فالدليل عليه أوجه:
أحدها:
أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح3، فإذا جاء الشارع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
2 في نسخة "ماء/ ص227": "لأن".
3 يسلم الأشاعرة أن للفعل حسنا وقبحا، بمعنى أنه منشأ للمصلحة أو المفسدة، وإنما ينكرون الحسن والقبح على معنى أن يكون الثواب والعقاب مرتبط بذلك الوجه، بحيث لا يصح في العقل أن يتخلف الثواب والمدح عما فيه مصلحة، والعقاب والذم عام فيه مفسدة؛ إذ لا يرون أن الأمر بما فيه فساد والنهي عما فيه صلاح يخل بوصف الحكمة؛ لأن الحكمة في صفات الباري ليست في مذهبهم رعاية المصالح والمفاسد، بل هي اتصافه بصفات العلم والإرادة وغيرها من صفات الكمال. "خ".
قلت: انظر مناقشة الأشاعرة في "مجموع الفتاوى" "8/ 90 وما بعدها، وما مضى "1/ 125".(6/34)
ص -29-…بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة؛ فقد بين الوجه الذي منه تحصيل المصلحة فأمر به أو أذن فيه، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة؛ فنهى عنه رحمة بالعباد، فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن؛ فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه؛ فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد؛ لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا؛ فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة.
والثاني1:
أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا، فهو عند هذا القاصد ليس بحسن، وما لم يره في الشارع حسنا؛ فهو عنده حسن، وهذه مضادة أيضا.
والثالث:
أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115].
وقال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"2، والأخذ في خلاف مآخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قريب مما قبله؛ لأن إهمال ما قصده الشارع وقصد ما أهمله إنما يكون غالبا لتوهم أن المصلحة والحسن فيما قصد. "د".
2 أخرجه الآجري في "الشريعة" "48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" -ومن طريقه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 134"- وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326" من طريقين عنه، أحدهما فيها انقطاع بين مالك وعمرو بن عبد العزيز، والآخر فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وله طرق به يصح، وانظر: "4/ 461".(6/35)
وكان مالك رحمه الله يعجبه هذا الأثر، ويستدل به على المبتدعة، قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 172 - ط بيروت": "قال مطرف: سمعت مالكا إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز "وذكره"، قال: "وكان مالك إذا حدث بها ارتج سرورًا"، وسيأتي نحوه عند المصنف "4/ 460، 461".(6/36)
ص -30-…الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة.
والرابع:
أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة؛ لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض، فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم؛ فلم يأت بذلك المشروع أصلا، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ، من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به [والتارك لما أمر به]1.
والخامس:
[أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ومن نسخة "ماء/ ص227".
2 فالنكاح مثلا طلبه الشارع للنسل ولغيره من لواحقه، فإذا قصد به تحليل الزوجة لغيره؛ كان النكاح وسيلة لما قصد من التحليل، ولم يكن مقصودا بقصد الشارع، فما كان مقصودا عند الشارع؛ صار وسيلة عنده، وهذا مناقضة للشريعة، وقد يقال: هو عند الشارع أيضا وسيلة؛ إلا أنها لمقصود آخر هو النسل وما معه إلا للتحليل؛ فلا يخرج هذا الدليل عن مآل الدليل الأول، وهو أن ما قصده الشارع مهمل الاعتبار عنده، وما أهمله الشارع اعتبره، أما محاولة جعله دليلًا مستقلًا من حيث كان مقصودًا في نظر الشرع، فجعله هو وسيلة فغير واضح؛ لأنه وسيلة على كل حال، إلا أن المقصد مختلف.
وجوابه أن ذلك جار في بعض التكاليف، كما إذا مثل بالصلاة والصوم والحج، وهكذا من العبادات المحضة إذا قصد بها الرياء مثلا؛ فقد جعلها وسيلة لنيل دنيا أو جاه، أو إسقاط عقوبات تركها في الدنيا كإسقاط القتل عن تارك الصلاة؛ فالشارع اعتبر هذه العبادة مقاصد تطلب لذاتها، لكن الشخص جعلها وسيلة إلى غرض من أغراضه، وبهذا يتجه كلام المؤلف ويتبين استقلال هذا الدليل، ويؤيده ما يذكره في المسألة الرابعة تمثيلا للضرب الثاني من القسم الثالث بمن يصلي رياء لينال دنيا... إلخ. "د".(6/37)
ص -31-…في الأمر والنهي، فإذا قصد]1 بها غير ذلك؛ كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة، بل قصد قصدا آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له؛ فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع، وهدم لما بناه.
والسادس:
أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله، لأن من آياته أحكامه التي شرعها، [وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها]1: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها، ولذلك قيل للمنافقين حيث2 قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة، والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
وللمسألة أمثلة كثيرة؛ كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال، لا لإقرار3 للواحد الحق بالوحدانية، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح، والذبح لغير الله، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، والجهاد للعصبية أو ينال شرف الذكر في الدنيا، والسلف ليجربه نفعا، والوصية بقصد المضارة للورثة، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها، وما أشبه ذلك.
وقد يعترض هذا الإطلاق4 بأشياء:
- منها: ما تقدم في المسألة الأولى؛ كنكاح الهازل وطلاقه وما ذكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "حين".
3 في "ط": "للإقرار".
4 وهو الكلية في رأس المسألة، وبعبارة أخرى نتيجة القياس المشار إليه سابقا. "د".(6/38)
ص -32-…معهما؛ فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما، وقد تقدم جوابه ومن ذلك المكره بباطل؛ فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار؛ كالنكاح، والطلاق والعتق، واليمين، والنذر1، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه، إلى مسائل من هذا النحو.
- ومنها: أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك مقصود به خلاف ما قصده الشارع مع أنها عند القائل بها صحيحة، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر، وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع؛ فلا يلزم أن يكون باطلا.
والجواب: أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية، ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ثم يصححه2، لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء؛ فكيف يقال: إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع؟ هل هذا إلا عين المحال؟ وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقصد الشارع بهذه العقود أن تحصل باختيار عاقدها، ومع كونها وقعت على غير ما شرعت ووقعت مناقضة للشريعة؛ لم تبطل، بل وقعت صحيحة. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في: "المبسوط" "24/ 64"، و"بدائع الصنائع" "9/ 4500"، و"أحكام القرآن" "3/ 193" للجصاص، ووردت نصوص تبطل الزواج بالإكراه، انظر: "نيل الأوطار" "7/ 286-287"، و"تفسير القرطبي" "10/ 185، 614"، و"المحلى" "8/ 387"، و"بداية المجتهد" "2/ 4-7"، و"المغني" "7/ 382"، و"كشاف القناع" "3/ 141".
2 في "ط": "يصح".(6/39)
ص -33-…وضعت، فإذا صحح مثلا نكاح المحلل؛ فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب [مصلحة الزوجين فيه، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف]1 القتل أو التعذيب، وفي سائر المصالح العامة والخاصة؛ إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة؛ فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة، ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(6/40)
ص -34-…المسألة الرابعة:
فاعل الفعل أو تاركه؛ إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون موافقا وقصده الموافقة؛ كالصلاة، والصيام، والصدقة، والحج وغيرها، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى، وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه، وكذلك ترك الزنى والخمر وسائر المنكرات، يقصد بذلك الامتثال؛ فلا إشكال في صحة هذا العمل.
والثاني: أن يكون مخالفا وقصده المخالفة؛ كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك؛ فهذا أيضا ظاهر الحكم.
والثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده المخالفة، وهو ضربان:
أحدهما: أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا.
والآخر: أن يعلم بذلك.
فالأول: كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية، وشارب الجلاب1 ظانا أنه خمر، وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته، وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر؛ فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة "من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل"، وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل؛ لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله، فحصلت المفسدة؛ فشارب الجلاب لم يذهب عقله، وواطئ زوجته لم يختلط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ماء الورد. "ماء/ ص229".(6/41)
ص -35-…نسب من خلق من مائة، ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة1، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل؛ فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة.
فإن قيل: فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة؟ فإن وقع على الموافقة؛ فمأذون فيه، وإذا كان مأذونا فيه؛ فلا عصيان في حقه، لكنه عاص باتفاق، هذا خلف، وإن وقع مخالفا؛ فهو غير مأذون فيه، ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر؛ فكان يجب الحد على الواطئ، والزجر على الشارب، وشبه ذلك، لكنه غير واجب باتفاق أيضا، هذا خُلْف.
فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين؛ فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل، فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي؛ فهو عاص في مجرد القصد2 غير عاص بمجرد العمل، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله، غير آثم من جهة حق الآدمي3، كالغاصب لما يظن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وينظر فيمن وطء زوجته وهو يتخيَّل غيرها في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي "7/ 252-253".(6/42)
2 وجهت الشريعة نظرها إلى عمل الطاعات وتنظيم شئون المعاملات؛ محافظة على جلب المصالح ودر المفاسد المترتبة عليها، وأفرغت مع ذلك عنايتها في الغاية التي عني بها علم الأخلاق، والمحور الذي تدور عليه قوانينه وهي الإرادة؛ فكان من أهم تعاليم الإسلام تنظيم تلك المحكمة التي إمامها الله في الضمير الإنساني والسير بها في سبيل العدالة ليكون سلطانها الغالب وكلمتها النافذة، ومن وسائل هذا التنظيم تمرين النفس على الإصغاء إلى ذلك الصوت الذي ينبعث من صميم القلب؛ فيحثها على العمل أو يزجرها ويحدها عليه أو يوبخها، وهذا ما اقتضى أن يكون للعزم على الفسوق والمآثم نصيب من الوعيد والإنذار. "خ".
3 أي: حقه نفسه؛ فإنه مأذون له في التمتع بزوجته وبشرب الجلاب مثلا، وليس مطلبا بصلاة بعد أن أداها؛ إلا أنه انتهك حرمة الأمر والنهي ولم يبال بهما، فمن جهة أنه فعل حقا له مأذونا فيه لا يتوجه عليه حد ولا غيره كالغاصب في مثاله؛ لا يعقل أن نطالبه بمتاع للشخص الذي ظن أنه اغتصب متاعه، والواقع أنه مال نفسه، فكذلك لا يتوجه عليه حد ولا غيره؛ فيبقى حق الله في الأمر والنهي وقد انتهكه. "د".(6/43)
ص -36-…أنه متاع المغصوب منه، فإذا هو متاع الغاصب نفسه؛ فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه؛ وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي، والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد.
ولا يقال: إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب؛ فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله، أو زنى فلم يتخلق1 ماؤه في الرحم بعزل أو غيره؛ لأن المتوقع من ذلك غير موجود؛ فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد، ولا يكون آثما إلا من جهة قصده خاصة.
لأنا نقول: لا يصح ذلك؛ لأن [هذا]2 العامل قد تعاطى3 السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل، ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو4 اختلاط الأنساب، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب، وإنما هي من فعل الله تعالى؛ فالله هو خالق الولد من الماء، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل، والري مع الماء، والإحراق مع النار، كما تبين في موضعه، وإذ كان كذلك؛ فالمولج والشارب قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يختلقه".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: بخلاف من فعل الموافق بقصد المخالفة في هذا القسم؛ فإنه لم يتعاط السبب في الواقع وإن كان قصد السبب المخالف، لكنه أخطأه. "د".
4 في الأصل: "واختلاط".(6/44)
ص -37-…تعاطيا السبب على كماله؛ فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم، وأما الإثم؛ فعلى وفق ذلك، وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا؟ هذا نظر آخر، لا حاجة إلى ذكره ههنا.
والثاني: أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة، ومع ذلك فقصده المخالفة، ومثاله أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس، أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك؛ فهذا القسم أشد من الذي قبله، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد، وسائل لأمور أخرى لم يقصد الشارع جعلها لها؛ فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى، وذلك كله باطل؛ لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا؛ فلا يصح جملة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقد تقدم1 بيان هذا المعنى.
والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا؛ فهو أيضا ضربان:
أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة.
والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك.
فإن كان مع العلم بالمخالفة2؛ فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الأولى.
2 أي: فيكون الفعل مخالفا في الواقع لما شرعه الشارع، وهو يعلم أنه لم يشرعه، ولكنه يقصد به الطاعة والعبادة، متأولا غالبا أن هذا الفعل يعد طاعة؛ فهذا هو معنى مخالفة الفعل -أي في الواقع- وموافقة القصد -أي لما يزعمه- طاعة وعبادة، وإن كان يعلم أنه لم يرد في الشرع جعله عبادة؛ فلا يقال: إن هذا القسم الأول من قسمي الرابع لا يتصور حصوله من العاقل لأنه كيف يعلم أنه مخالف ويقصد به الموافقة لقصد الشارع؟ فمحصل هذا الضرب أن الفعل موافق في زعمه، وإن لم يكن جهلا صرفا كالضرب الثاني. "د".(6/45)
ص -38-…المستأنفة والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك؛ فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة، والموضع مستغن عن إيراده ههنا، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا [إن شاء الله، والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك؛ كقوله تعالى]1: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وفي الحديث: "كل بدعة ضلالة"2.
وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر.
فإن قيل: إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم، وأما المكروه؛ فليس الذم3 فيه بإطلاق، وما عدا ذلك؛ فغير قبيح شرعا، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق، وممدوح فاعله ومستنبطه، والمباح حسن باعتبار؛ فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول: إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع، بل هي موافقة أي موافقة؛ كجمع الناس على المصحف العثماني، والتجميع في قيام رمضان في المسجد، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة كلها: "فهو الذم"، وكتب "د" في الهامش: "لعل الأصل: "فليس الذم"، وما احتمله هو الصواب.(6/46)
ص -39-…حسنها أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة "وما رآه المسلمون حسنا؛ فهو عند الله حسن"1؛ فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة؛ إذ هي أفعال مخالفة للشارع لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح، وإذا كان كذلك؛ وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعى.
فالجواب أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع، وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال، بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه2 بالحفظ في الصدور، ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة؛ كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه "ص41".
2 أي لا لأنه نهي عنه حتى يكون للشارع فيه وضع مخصوص يعد من فعله مخالفا لما وضعه الشارع من النهي، بل كان الترك للاستغناء عنه. "د".(6/47)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، 5/ 73/ رقم 2419، وكتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، 9/ 23/ رقم 4992، وباب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، 9/ 87/ رقم 5041، وكتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6936، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، 13/ 520، رقم 7550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، 1/ 560/ رقم 818" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لبَّبته بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأ".
فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: "اقرأ" فقرأت؛ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرءوا ما تيسر منه". لفظ مسلم.(6/48)
ص -40-…وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما1، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: "لا تماروا في القرآن؛ فإن المرء فيه كفر"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، 1/ 561-562/ رقم 820" عن أبي بن كعب؛ قال كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه؛ فلما قضينا الصلاة؛ دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه؛ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما؛ فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري؛ ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا؛ فقال لي: "يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إلي الثانية: "اقرأه على حرفين"، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إليّ الثالثة: "اقرأه على سبعة أحرف؛ فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم؛ حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم".
فالرجل الذي وقع اختلاف أبي معه لم يسمه مسلم، وقال أبو ذر بن سبط بن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 328 - بتحقيقي": "لا أعرفه"، وأفاد "برقم 329" عند قوله: "فقرأ قراءة أنكرتها"؛ فقال: "وفي "عشرة ابن خليل" أن هذه السورة هي النحل".
قلت وعين المبهم بابن مسعود بن جرير في "تفسيره"، أفاده الديوبندي في "فتح الملهم" "2/ 363".(6/49)
2 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 258 و286 و300 و424 و475 و478 و494 و503 و4/ 205"، ومن طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، 4/ 199/ رقم 4603"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 223"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 59 و1780 - موارد الظمآن"، وأبو نعيم في "الحلية الأولياء" "5/ 192 و6/ 215"، والدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 16"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 11"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 303 و410"، والحديث صحيح.(6/50)
ص -41-…فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام، ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه: أنا كافر بما تقرأ به؛ صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد؛ فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة، وهو باطل باتفاق، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة، وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل، لا يتخلف عنه بوجه، وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا، كيف وهو يقول: "ما رآه المسلمون حسنا؛ فهو عند الله حسن"1، "ولا تجتمع أمتي على ضلالة"2؛ فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع؛ فقد خرج هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطيالسي في "المسند" "رقم 246"، وأحمد في "المسند" "رقم 3600 - ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "9/ 18/ رقم 8582، 8583، 8593"، والبزار في "مسنده" "رقم 130- زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 78-79"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 377-378"، والبيهقي في "المدخل" "ص8"، و"الاعتقاد" "ص162"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 150" بأسانيد بعضها حسن عن ابن مسعود موقوفا، قال الزركشي في "المعتبر" "رقم 294": "لم يرد مرفوعا، والمحفوظ وقفه على ابن مسعود".
قلت: أخرج الخطيب في "تاريخه" "4/ 165" نحوه مرفوعا، وفيه سليمان بن عمرو النخعي كذاب.
قال ابن القيم في "الفروسية" "ص298 - بتحقيقي" عنه: "إن هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفا عليه".
2 مضى تخريجه "2/ 434".(6/51)
ص -42-…الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع، وأما البدعة المذمومة؛ [فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك، وسيأتي تقرير هذا]1 المعنى بعد إن شاء الله2.
وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة؛ فله وجهان3:
أحدهما: كون القص موافقا؛ فليس بمخالف من هذا الوجه، والعمل وإن كان مخالفا؛ فالأعمال بالنيات، ونية هذا العمل على الموافقة، لكن الجهل أوقعه في المخالفة، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا؛ فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق.
والثاني: كون العمل مخالفا؛ فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال، فإذا لم يمتثل؛ فقد خولف قصده، ولا يعارض المخالفة موافقة القصد4 الباعث على العمل؛ لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه5، ولا طابق القصد العمل؛ فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معًا؛ فلا يحصل الامتثال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 وانظر تفصيلا حسنا للمصنف في "الاعتصام" "1/ 36 وما بعدها"، وآخر لابن تيمية في "اقتضاء الصراد المستقيم" "ص276".
3 أي من النظر، نظر يفيد صحته واعتباره، ونظر يفيد بطلانه واطراحه. "د".
4 أي: قصد المكلف الذي حمله على العمل وهو الامتثال، وقوله: "ولا طابق القصد العمل"؛ أي: قصد المكلف الامتثال لم يطابق العمل؛ لأن العمل ليس فيه امتثال، وإنما يكون الامتثال بالمشروع والفرض أنه ليس بمشروع؛ فالمخالفة حاصلة لم يعارضها قصده الامتثال الذي لم يصادف محلا، وقوله: "فصار المجموع مخالفا؛ أي: العمل وهو ظاهر والقصد أيضا، لأنه لم يصادف محلا، وصار كأنه قصد المخالفة في عمل المخالف. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وجه".(6/52)
ص -43-…وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه1، ويعارضه في الترجيح؛ لأنك إن رجحت أحدهما عراضك في الآخر وجه مرجح؛ فيتعارضان أيضا، ولذلك صار هذا المحل2 غامضا في الشريعة، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه.
وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة، ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد؛ عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته، وإن كان مقيدًا؛ فقصد المكلف لم يصادف محلا فهو كالعبث، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق؛ لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد3.
فإن قلت: إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع، كما ذكر عمن آمن4 في الفترات وأدرك التوحيد، وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهي غير معتبرة؛ إذ لم تثبت في شرع بعد5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما قرره في بيان الوجهين، وقوله: "في الترجيح"؛ أي: كما سيقرره في قوله: "ويتبين ذلك... إلخ" الذي ذكر فيه ثلاثة مباحث في ترجيح اعتبار القصد ومعارضتها من جانب من يهمل القصد ما لم يوافق العمل أيضا. "د".
2 في الأصل: "العمل".
3 أي: بل لا بد من وقوعه على عمل مشروع؛ فالمشروع هو المجموع. "د".
4 كزيد بن عمرو بن نفيل وصل إلى توحيد الله بعقله، وخالف المشركين في ذبائحهم وفي كثير في أعمالهم؛ فكان يحيي الموءودة، وكان يقول: الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض النبات، وأنتم تذبحونها لغير الله. "د".
5 أي: عند تمسكه بها لم تكن ثبتت في شرع؛ فقد عمل بها قبل أن يرد الشرع باعتبارها وعدمه، وليس بلازم في المعارضة أنه بعد ورود الشرع لم يعتبرها، بل إذا اعتبرها بعد ورده أيضا يكون تقرير الكلام صحيحا. "د".
قلت: وانظر "الاعتصام" "1/ 215- ط ابن عفان".(6/53)
ص -44-…قيل لك: إن فُرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة؛ فالمقاصد الموجودة لهم منازع1 في اعتبارها بإطلاق، فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد؛ فإن قلت باعتبار القصد كيف كان؛ لزم ذلك في الأعمال، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال؛ لزم ذلك في القصد2.
وأيضا؛ فكلامنها فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين3 ببعض الشرائع المتقدمة؛ فذلك واضح.
فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات"4 يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تعتبر؛ فإن المقاصد أرواح الأعمال؛ فقد صار العمل ذا روح على الجملة، وإذا كان كذلك؛ اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل، أو خالفا معا؛ فإنه جسد بلا روح5؛ فلا يصدق عليه مقتضى قوله: "الأعمال بالنيات"4 لعدم النية في العمل.
قيل: إن سلم؛ فمعارض بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: للمجتهدين أنظار مختلفة؛ فمنهم من يصححها، ومنهم من لا يصححها، وهي كأعمالهم المقصود بها التعبد، لا فرق بين مقاصدهم وأعمالهم في ذلك؛ فالمصحح لمقاصدهم مصحح لأعمالهم، وبالعكس. "د".
2 في الأصل: "الأصل".
3 أي: كما ورد عن زيد بن عمرو أنه قال: "اللهم! إني أشهدك أني على ملة إبراهيم"، وقوله: "فذلك واضح"؛ أي: لخروجه عن فرض المسألة، فإن عمله يكون موافقا كما أن قصده كذلك. "د".
4 مضى تخريجه "2/ 355".
5 أي: في صورة العمل الموافق والقصد المخالف، أما فيما خولفا معا؛ فلا روح ولا جسد. "د".(6/54)
ص -45-…عليه أمرنا؛ فهو رد"1، وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة والسلام، فلم يكن معتبرا بل كان مردودا.
وأيضا؛ فإذا لم ينتفع [بجسد بلا روح، كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد؛ لأن الأعمال هنا قد فرضت]2 مخالفة؛ فهي في حكم العدم، فبقيت النية منفردة في حكم عملي؛ فلا اعتبار بها، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين؛ فكانت المسألة مشكلة جدا.
ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد؛ فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه، وصححوا المعاملات، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق، وأبطلوا كل عبادة أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف3، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة، لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه، [ويعمل مقتضى الفعل في وجه]2 آخر، والذي يدل على إعمال الجانبيين أمور:
أحدها:
أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 5/ 301/ رقم 2697"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1343/ رقم 1718" بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل، 13/ 317"، ووصله مسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، 3/ 1343-1344".
وانظر: "فتح الباري" "5/ 302"، و"تغليق التعليق" "3/ 396 و5/ 326".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: ميلا منهم إلى أن العمل متى كان مخالفا بطل ولو كان القصد موافقا. "د".(6/55)
ص -46-…القصد -إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته- ومخالفة الفعل لأنه فاعل ما نهي عنه؛ فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة، وأعمل مقتضى المخالفة1 في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه، حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف، ميلا [فيه]2 إلى جهة القصد أيضا، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه.
فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما؛ كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها؛ فقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/56)
1 أي على الجملة، بدليل قوله: "حتى صحح... إلخ"؛ فمقتضى موافقة القصد انبنى عليه عدم الحد في الدنيا وعدم العقوبة في الآخرة، ومقتضى المخالفة فصل فيه، فما لا تلافي فيه أهمل وما فيه التلافي صحح، مراعى فيه جانب القصد، وقوله: "يتزوجها" أي: يعقد عليها "رجلان"، ودخل بها الثاني ثم علم بعقد الأول؛ فتفوت على الأول، وصحح الثاني الذي يجب أن يصحح لترجحه بالدخول بدون علم ميلا إلى جانب القصد الموافق، وأما مسألة المفقود؛ ففيها الأمران معًا: البناء على الفعل المخالف، وتصحيحه إذا قدم زوجها، أي علمت حياته بعد البناء ميلاً إلى صحة القصد وإلى الترجح بالدخول مع عدم علمه بحياته، وعدم البناء عليه وإهماله إذا قدم قبل البناء كما هو أحد القولين، والفرض الأول في كلامه في مسألة المفقود غير ظاهر مع قوله: "تزوجت"؛ لأنه إن كان المراد بالنكاح في قوله: "قبل نكاحها" العقد فقط؛ فخلاف أصل المسألة، وإن كان المراد به البناء؛ فهو عين الفرض الثالث الذي في قوله: "وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان"؛ إلا أن يقال: إن معنى قوله: "تزوجت" حلت للأزواج بحكم الحاكم، ثم رأيت في "الاعتصام" "2/ 147-148" ما نصه: "في امرأة المفقود إذا قدم قبل نكاحها؛ فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها..." إلخ ما قال هنا، ثم قال: "فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته؛ فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو ليس بقاطع للعصمة؛ فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود؟"، وبهذا تعلم أن قوله: "تزوجت" التي استشكلناها ليست في كتابه "الاعتصام"، وما ورد فيه واضح لا إشكال عليه. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(6/57)
ص -47-…فاتت1 بمقتضى فتوى عمر2 ومعاوية3 والحسن4، وروي مثله عن علي5. رضي الله عنهم، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم؛ فالأول أولى بها قبل نكاحها، والثاني أولى بعد دخوله بها، وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان6، وفي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها؛ فنكاحها باطل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي "الاعتصام" "2/ 147": "فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم... إنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول؛ فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلًا ومبطلًا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما، ومنع زوجها عنها" انتهى.
2 كما في "سنن سعيد بن منصور" "رقم 1314، 1316"، و"مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 238"، و"مصنف عبد الرزاق" "6/ 313/ رقم 10979 و10980"، و"السنن الكبرى" "7/ 446" للبيهقي، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 314"، و"الاعتصام" "2/ 147" وهو صحيح.
3 كما في "الاعتصام" للمؤلف "2/ 147" أيضا.
4 كما في "المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 316"، و"الاعتصام" "2/ 147".
5 كما في "مصنف عبد الرزاق" "6/ 313-314، 314/ رقم 10979، 10981"، و"سنن البيهقي" "7/ 446-447"، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 315-316، 317".(6/58)
6 القولان مرويان عن الإمام مالك، والذي أخذ به أصحابه أن زوجة المفقود لا يفيتها عليه إلا دخول الثاني، ومذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المفقود إن قدم بعد تزوج امرأته يخير بينها وبين مهرها، وهو يرجع إلى تخييره بين إجازة ما فعله الحاكم ورده، فإن اختار المهر؛ كان مجيزا لما فعله الحاكم، وإجازته تجعل التفريق مأذونا فيه؛ فيكون نكاح الثاني صحيحا، وإن اختار زوجته؛ كان غير مجيز لما فعله الحاكم؛ فيكون التفريق باطلا. "خ".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "منح الجليل" "4/ 320".(6/59)
ص -48-…باطل باطل1، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما أصاب منها"2، وعلى هذا يجري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيفسخ النكاح لمخالفته للمشروع، ويكون لها المهر، ويسقط الحد والعقوبة، وصحح ما أمكن تلافيه من ثبوت المهر، ويبقى الكلام في أن هذا إنما يكون من مسألتنا إذا حصل النكاح بقصد الموافقة والجهل بركنية الولي، أما إذا حصل مع العلم بالركنية فلا يكون منها؛ فهل حكمه كذلك؟ وإذا كان الحكم في العلم كالحكم في حال الجهل لا تكون المسألة مما يدل على موضوعنا من إعمال الجانبين كما يقول المؤلف، ولا تكون المسألة مبنية على هذه القاعدة، بل لها مبنى آخر، وسيأتي في فصل مراعاة الخلاف في أواخر الكتاب ما ينحو هذا النحو في البناء بعد الوقوع، ومراعاة الحالة الحاصلة وإن لم يكن أصل النكاح صحيحا؛ فيثبت استحقاق الميراث مثلا، إلى غير ذلك مما له علاقة بموضوعنا، وإن لم يبحثوا هناك عن القصد مخالفة وموافقة، بل بنوه هناك على قاعدة أخرى. "د".
قلت: انظر "4/ 370 و5/ 106 وما بعد".(6/60)
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في الولي، 2/ 229/ رقم 2083"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، 3/ 407-408/ رقم 1102" - وقال: هذا حديث حسن"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، 1/ 605/ رقم 1879"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "12/ 43"- وأحمد في "المسند" "6/ 47، 165"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1463"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 128"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 195، رقم 10472"، والدارمي في "السنن" "2/ 137"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 700"، والشافعي في "الأم" "2/ 11"، والحميدي في "المسند" "1/ 112-113/ رقم 228"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 698، 699"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، وابن حبان في "الصحيح" "9/ 384/ رقم 4074- الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "3/ 221، 225-226"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 168"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 105، 113، 124-125، 125، 138"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1115-1116"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 39/ رقم 2262"، والخطيب في "الكفاية" "ص380" والسهمي في : "تاريخ جرجان" "1/ 8" وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 188" من طرق كثيرة عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عورة عن عائشة مرفوعا.(6/61)
ص -49-…........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين".
قلت: بل هو حسن؛ فسليمان بن موسى لم يخرج له البخاري وأخرج له مسلم في "المقدمة"، وقال ابن حجر في "التقريب": "صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل".
وقد أعله أحمد بن صالح بقوله: "أخبرني من رأى هذا الحديث في كتاب ذاك الخبيث محمد بن سعيد -أي: المصلوب- عن الزهري، وأنا أظن أنه ألقاه إلى سليمان بن موسى وألقاه سليمان إلى ابن جريج"، كذا أسنده عنه أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "1/ 290".
قلت: ولا يستلزم من وجوده في كتاب ذاك الخبيث أنه تفرد به، والمشهور أن من ضعف هذا الحديث يستدل بما ذكره أحمد في "مسنده" "6/ 27" عقبه؛ فقال: "قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث؛ فلم يعرفه".
وتعقبه الترمدي بقوله: "وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يذكر هذا الحرف عن ابن جريج إلا إسماعيل بن إبراهيم، قال يحيى بن معين: وسماع إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج ليس بذلك، إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ما سمع من ابن جريج، وضعف يحيى رواية إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج".
قال الترمذي: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم".
وقال الحاكم بعد أن صحح الحديث: "فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض؛ فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه؛ فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث".(6/62)
وذكره الحافظ في "التلخيص" "3/ 157"، وقال: "وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية، وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه.
وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي "7/ 107"، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي "3/ =(6/63)
ص -50-…باب السهو في الصلاة، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها.
والثاني:
أن عمدة مذهب مالك، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة؛ فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلا على حكم الناسي، ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق؛ لعاملوه معاملة العامد؛ كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه، وليس الأمر كذلك؛ فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام1 والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك في كثير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1115-1116".
على أن سليمان بن موسى لم يتفرد به؛ فقد تابعه جعفر بن ربيعة عند أحمد في "المسند" "6/ 66"، وأبي داود في "السنن" "رقم 2084"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106"، وعبيد الله بن أبي جعفر عند الطحاوي "3/ 7"، وحجاج بن أرطأة عند ابن ماجه في "السنن" "رقم 1886"، وأحمد في "المسند" "1/ 250 و6/ 260"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 130"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106 و106-107".
وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير" "1/ 430" من طريق زمعة بن صالح، والدارقطني في "السنن" 3/ 227" من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، كلاهما عن الزهري به، وزمعة بن صالح ومحمد بن يزيد بن سنان وأبوه فيهم ضعف؛ فبمجموع هذه الطرق يتقوى الحديث ويصح.
وصححه ابن حبان وابن الجارود وأبو عوانة وغيرهم، وأعله الطحاوي بالحكاية الباطلة عن ابن جريج، وللحديث شواهد جمعها الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه المطبوع "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي"، وانظر: "نصب الراية" "3/ 185".(6/64)
1 عاملوا الجاهل بحرمة الشهر أبو بحرمة الفطر معاملة الناسي؛ فلا كفارة، وكذا كل ما ذكروه في التأويل القريب هو من باب الجهل، وعدوه كالناسي لا كفارة عليه، وكذا في الأطعمة والأشربة لا حرمة في تعاطي المحرمات منها عند جهله بأنها من المحرم؛ كشارب الخمر معتقدا أنه جلاب مثلا، وآكل المتنجس معتقدا طهارته لا شيء عليه، وعليك باستيفاء البحث في الفروع. "د".(6/65)
ص -51-…من العادات؛ كالنكاح، والطلاق، والأطعمة، والأشربة، وغيرها.
ولا يقال: إن هذا ينكسر في الأمور المالية؛ فإنها تضمن في الجهل والعمد.
لأنا نقول: الحكم في التضمين في الأموال آخر؛ لأن الخطأ فيها مساوٍ للعمد في ترتب الغرم في إتلافها.
والثالث:
الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة؛ ففي الكتاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 268].
وفي الحديث: "قال: قد فعلت"1.
وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وفي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"2. وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه، وإن اختلفوا فيما يتعلق3 به رفع المؤاخذة، هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا؛ فلم يختلفوا4 أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح، فإذا كان كذلك؛ ظهر أن كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومضى "2/ 210".
2 مضى تخريجه "1/ 236"، وكتب "خ" ما نصه: "قال الإمام أحمد: من زعم أن الخطأ مرفوع؛ فقد خالف الكتاب، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة، والجواب عن هذا أن المراد من الحديث رفع المؤاخذة بالخطأ في الآخرة دون الحقوق الواقعة بين الناس".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعلق".
4 أي: بل أجمعوا على أنه لا بد من نوع من المؤاخذة، وهو مع اتفاقهم على رفع المؤاخذة في الجملة يدل على اعتبار الطرفين. "د".(6/66)
قلت: هذه المسألة هي المسماة "عموم المقتضى"، ونشأ عنه خلاف في كثير من المسائل، انظر: "أصول السرخسي" "2/ 251-252"، و"الإزميري على المرآة" "2/ 75-76"، و"تسهيل الوصول" "ص106"، و"إبراز الحِكَم" للسبكي، و"المناهج الأصولية" "ص379 وما بعدها".(6/67)
ص -52-…واحد من الطرفين معتبر على الجملة، ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك، والله أعلم.(6/68)
ص -53-…المسألة الخامسة1:
جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين:
أحدهما:
أن لا يلزم عنه إضرار الغير.
والثاني:
أن يلزم عنه ذلك.
وهذا الثاني ضربان:
أحدهما:
أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار؛ كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير.
والثاني:
أن لا يقصد إضرارا بأحد، وهو قسمان:
أحدهما:
أن يكون الإضرار عاما؛ كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره أو فدانه، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره2.
والثاني:
أن يكون خاصا، وهو نوعان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يمكن تسمية هذا المسألة "قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم"، والمراد من تقسيم المصنف للمصالح والذرائع هنا إرساء قواعد أصوليه تحكم استعمال الحقوق.
وانظر في هذا: "قواعد الأحكام" "1/ 98 وما بعدها"، و"الحسبة" "ص64" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "ص310"، و"مفتاح السعادة" "2/ 14 وما بعدها"، و"الأشباه والنظائر" "87" للسيوطي، و"ضوابط المصلحة" "249 وما بعدها".
2 نصصت كتب الفقه الحنفي مثل "الاختيار" "3/ 383"، و"فتاوى قاضي خان" "4/ 293" على المثل الأخير، وهو مذهب المالكية، وترى كلاما حسنا حوله في "المدخل الفقهي" "1/ 227"، "ونزع ملكية العقار للمصلحة العامة" "ص437 وما بعدها" لعبد العزيز بن عبد المنعم، و"قيود الملكية الخاصة" "ص493 وما بعدها" لعبد الله بن عبد العزيز المصلح، و"المثامنة في العقار" للشيخ بكر أبو زيد.(6/69)
ص -54-…أحدهما:
أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر؛ فهو محتاج إلى فعله؛ كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره، عالما أنه1 إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر2.
والثاني:
أن لا يلحقه بذلك ضرر، وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا، أعني القطع العادي3؛ كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك.
والثاني:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا؛ كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها4 أن لا تضر أحدا، وما أشبه ذلك.
والثالث:
ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا، وهو على وجهين:
أحدهما:
أن يكون غالبا كبيع السلاح5 من أهل الحرب، والعنب من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بأنه".
2 بعدها في نسخة "ماء/ ص232": "وهذا فيه خلاف".
3 يقصد بالقطع العادي ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله "القطع العقلي" وهو ما يستحيل تخلفه أبدا، فإن تخلف؛ لم يعتبر قطعيا.
4 أي: وقد تضر بعض الناس ندورا؛ فاستعمال الشخص لها مع ندور الضرر سيأتي حكمه أنه باق على الإذن. "د".
5 الفرض أن يكون الضرر خاصا لا عاما، وهل بيع السلاح من أهل الحرب يكون ضرره خاصا مع أن تلقي السلع ضرره عام؟ وكذا يقال في بيع العنب ممن يصنعه خمرا، وبيع ما يمكن أن يغش به لمن لا يؤمن على الغش به: هل كان هذا من الخاص؟ وسيأتي له أمثله في إعطاء المال للمحاربين وللكفار فداء الأسرى. "د".(6/70)
ص -55-…الخمار، وما يغش به1 ممن شأنه الغش، ونحو ذلك.
والثاني:
أن يكون كثيرا لا غالبا، كمسائل بيوع الآجال2؛ فهذه ثمانية أقسام3.
فأما الأول؛ فباق على أصله من الإذن، ولا إشكال فيه، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء.
وأما الثاني؛ فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار؛ لثبوت الدليل على أن "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"4، لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير؛ هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه، أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن، ويكون عليه إثم ما قصد؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة، وهو جار على مسألة5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص232": "يعيش به".
2 كمثاله الآتي في بيع الجارية لزيد بن أرقم. "د".
3 وفي حاشية الأصل: "قوله ثمانية أقسام بيانها وترتيبها ما تقتضيه تلك التقسيمات هكذا:
الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير.
الثاني: ما يلزم عليه الإضرار، ويقصد الفاعل الإضرار.
الثالث: ما لا يقصد فيه الإضرار، وكان الإضرار اللازم فيه عاما.
الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه.
الخامس: ما كان كذلك، والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا.
والسادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور.
السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي.
الثامن: ما لزومها غير أغلبي.
وبترجمتها هكذا يسهل فهمها ونشرها واستخراج أحكامها، والله تعالى أعلم".
4 مضى تخريجه "2/ 72".
5 مما كان فيه النهي لوصف منفك؛ ففي صحته خلاف. "د".(6/71)
ص -56-…الصلاة في الدار المغصوبة، ومع ذلك؛ فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا1:
وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل، وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة؛ حصل له ما أراد أولا، فإن كان كذلك؛ فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار؛ فلينقل عنه ولا ضرر عليه؛ كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار2، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتأمل في كلام المصنف السابق واللاحق نستخلص ما يلي:
أولا: كلامه هذا هو بعينه النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق، إن لم يكن أرقى منها في بعض الجوانب من حيث دقة التفصيل والتعليل، ولا سيما إذا نظر إليها بالقياس إلى العصر الذي كتبت فيه.
ثانيا: أقام المصنف هذه النظرية على المقصد الكلي للشريعة؛ فالتعسف عنده في استعمال الحق من باب "التعدي بطريق التسبب"، وقد يرد على ذلك اعتراضات تفطن لها المصنف فيما مضى "1/ 376 وما بعدها".
ثالثا: إن عناصر التعدي عند المصنف هي ما يلي:
أولا: تمحض قصد الإضرار بالفعل، وهو يعتبر تعديا من الطراز الأول.
ثانيا: مظنة قصد الإضرار التي تستفاد من القرائن.
ثالثا: الإهمال للمعنى الاجتماعي الذي أمر به الإسلام، ومفاده اتخاذ الاحتياط للحيلولة دون الإضرار بالغير، أو بعبارة أخرى: التقصير في إدراك الأمور على وجهها الصحيح وإهمال المقاصد الشرعية منها,.
رابعا: أن المصنف يكيف التعسف بأنه تعد بطريق التسبب، ولا يلتزم في ذلك ضابط التعدي عند جماهير الفقهاء الأقدمين.
انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص55 وما بعدها"، و"النظرية العامة للموجبات والعقود" "1/ 53" لصبحي المحمصاني.(6/72)
2 ذكر مثله ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "ص265" عند شرح "لا ضرر ولا ضرار" ويمثل عليه بمن أراد أن يحفر بئرا في ملكه، ويضر بجدار جاره، قال صاحب "البهجة شرح التحفة "2/ 336": "وأما إن وجد عنه مندوحة ولم يتضرر بترك حفره؛ فلا يمكن من حفره لتمحض قصد إضراره بجاره".(6/73)
ص -57-…فحق الجالب أو الدافع مقدم، وهو ممنوع من قصد الإضرار، ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق؛ فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار، وهو داخل تحت الكسب، لا ينفي الإضرار بعينه.
وأما الثالث:
فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر1 أو لا؛ فإن لزم قدم حقه على الإطلاق، على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل2 أهل الإسلام، وإن أمكن3 انجبار الإضرار ورفعه جملة؛ فاعتبار الضرر العام أولى؛ فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة4، بدليل النهي عن تلقي السلع، وعن بيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كفقد الحياة أو عضو من أعضائه وما ماثل ذلك. "د".
2 وقد يقال: إن الفرض إنه يلحقه ضرر لا ينجبر إذا منع من استعمال حقه، وإذا استعمل حقه لحق غيره ضرر؛ فالضرر إما ان يلحقه وحده، وإما أن يلحق كثيرا من الناس؛ كبيع الحاضر للبادي، أما مسألة الترس؛ فيقول: إنه يلزم من الأخذ بحقه وعدم قتله استئصال أهل الإسلام، يعني هو وغيره من سائر المسلمين أو جميع الجيش على الأقل؛ فالضرر لاحق به على كل حال، فلذلك قصر الضرر على الترس واستبقى سائر المسلمين أو سائر الجيش؛ فالفرق بين المسألتين واضح على هذا التصوير، إما إذا صورت المسألة بأنه إما أن يفقد الترس أو يفقد الجيش الإسلامي في هذه الجهة مثلا؛ فإنه يتناسب مع الفرض. "د". قلت: في "ط": "إن لم يقتل استؤصل".
3 بأن يكون في أمور مالية مثلا. "د".
4 ولو لحق الفرد من جراء ذلك ضرر؛ لأنه ينجبر بالتعويض، ولأن في رعاية المصلحة العامة وتقديمها رعاية للمصلحة الخاصة ضمنا، كما أشار إلى ذلك الحديث: "نجوا جميعا".(6/74)
وانظر: "قواعد الأحكام" "2/ 162" للعز بن عبد السلام، و"المستصفى" "1/ 303"، و"الأشباه والنظائر" "1/ 122 - مع شرحه"، و"الاعتصام" "2/ 121-122" للمصنف، و"الطرق الحكمية" "ص289".(6/75)
ص -58-…الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع1 مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة2.
وأما الرابع:
فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ؛ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض، والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية، للحاجة الماسة في طريق المواساة، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا؛ فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا، بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع؛ فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو لم يقع تضمينهم لادعى بعضهم التلف، فضاعت حقوق الناس، وانظر النقولات عن السلف في: "مصنف عبد الرزاق" "8/ 216-223"، و"مسائل الكوسج".
2 أي: مضرة لا تنجبر أما أصلها؛ فهو الفرض". "د".(6/76)
قلت: ومثله منع التجار من احتكار ما يحتاج إليه الناس، ويؤمرون ببيعه بثمن المثل، وإلا بيع عليهم جبرا، والحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس أو المتعهد بتأجير المواصلات وغيرها، ومنع الأفراد من إقامة فرن للخبز في سوق البزازين، على ما ذكر ابن نجيم ونحوه إقامة مصنع للإسمنت في وسط حي للسكان. انظر هذه الأمثلة وغيرها في "إعلام الموقعين" "3/ 138-139"، و"الطرق الحكمية" "302-307"، و"فتاوى ابن رشد" "1/ 262-265"، و"المعيار المعرب" "1/ 243-246"، و"غمز عيون البصائر" "1/ 122"، و"تبصرة الحكام" "2/ 347"، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص236-237".(6/77)
ص -59-…يتعين عليه حق نفسه في الضروريات؛ فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة، ومن حق غيره على ظن أو شك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به.
وقد سئل الداودي1: "هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غُرمِ هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بدلة وأخذهم بمال معلوم يؤدونه2 على أموالهم؛ هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل؟ وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم. قال: ذلك له. قال: ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها3 نصاب: إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه، لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء. قال: ولست بآخذ4 في هذا بما روي عن سحنون؛ لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ5 عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 24]". هذا ما قال6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الأموال" للداودي "ص153": "وقيل له -أي: لأحمد بن نصر وهو الداودي-"، وساق المذكور هنا بحرفه.
2 هكذا وقع في مطبوع "الأموال" و"ط": "يؤدونه"، وفي باقي النسخ: "يردونه".
3 أي: ليس في مجموع غنم الخلطاء شاة، بأن كان المجموع أقل من أربعين، وبذلك صح أنه مظلمة من باب الغصب. "د".
4 في الأصل و"ط": "آخذ".
5 فقد حصر السبيل والمؤاخذة في نفس الظالم، أما غيره؛ فلا سبيل عليه، ولو كلف غير الظالم بمشاركته للمظلوم في حمل بعض ما ظلم فيه يكون السبيل حينئذ على غير الظالم. "د".
6 ونقله صاحب "المعيار المعرب" "5/ 150، 151 و9، 565" أيضا.(6/78)
ص -60-…ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه، مع العلم بأنه يطرحه على غيره، إذا كان المطروح جورا بينا.
وذكر عبد الغني في "المؤتلف والمختلف"1 عن جماد2 بن أبي أيوب؛ قال: قلت لحماد بن أبي سليمان: إني أتكلم فترفع عني النوبة، فإذا رفعت عني وضعت على غيري. فقال: إنما عليك أن تتكلم في نفسك، فإذا رفعت عنك؛ فلا تبالي على من وضعت.
ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى، ولمانعي3 الحاج حتى يؤدوا خراجا، كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر، أو قتل الكافر المسلم، بل قال عليه الصلاة والسلام: "وددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل"4 الحديث.
ولازم ذلك دخول قاتله النار، وقول أحد ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، بل العقوبات كلها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها5 إضرار الغير، إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة؛ لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام، ولأن جانب الجالب والدافع أولى6،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ص21".
2 ضبطه عبد الغني بن سعيد بالجيم في أوله، وكذا في نسخة "ط"، وفي النسخ المطبوعة بالحاء!!
3 في "ط": "ولمانع".
4 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، 1/ 92/ رقم 36"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، 3/ 1495-1496/ رقم 1876" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 في الأصل: "عمليها".
6 انظر أمثلة أخرى غير المتقدمة مع تعليق عليها بنحو ما عند المصنف في "الفروق" "2/ 33"، و"تنقيح الفصول" "ص201"، و"الإمام مالك" "415" لأبي زهرة.(6/79)
ص -61-…وقد تقدم الكلام على هذا قبل.
فإن قيل: هذا يشكل في كثير من المسائل، فإن القاعدة المقررة أن "لا ضرر ولا ضرار"1، وما تقدم واقع فيه الضرر؛ فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر، إما بعوض وإما مجانا، مع أن صاحب الطعام محتاج إليه، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤيدا2 إلى إضرار المضطر، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا؛ لما صار منعه مؤديا2 لإضرار الغير، وما أشبه ذلك3.
فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ودفع الدافع، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن.
وأيضا؛ فقد تعارض4 هنالك إضراران: إضرار صاحب اليد والملك، [وإضرار من لا يد له ولا ملك، والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك]5، ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق، والحاصل أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72".
2 في الأصل: "مؤيدا لأضرار... مؤيدا".
3 انظر في هذا: "الحسبة" "ص14-25" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "286 وما بعدها"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "3/ 8"، "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"بدائع الصنائع" "5/ 129"، و"الاختيار" "3/ 116"، و"المنتقى" "5/ 17 للباجي، و"الاعتصام" "2/ 120" للمصنف.
4 في الأصل: "تعرض".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/80)
ص -62-…الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار، وكيف1 ومن شأن الشارع أن ينهي عنه؟ ألا ترى أنه إذا قصد الجالب أو الدافع الإضرار أثم، وإن كان محتاجا إلى ما فعل؛ فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار، بل عن الإضرار نهى، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك.
وأما مسألة المضطر؛ فهي شاهد لنا؛ لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها، وإلا فلو فرضته كذلك؛ لم يصح إكراهه، وهو عين مسألة النزاع، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه، وأما المحتكر؛ فإنه خاطئ باحتكاره، مرتكب للنهي، مضر بالناس؛ فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به.
وأيضا؛ فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة، هذا كله مع اعتبار الحظوظ.
وإن لم نعتبرها؛ فيتصور هنا وجهان:
أحدهما:
إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو محمود جدًا، قد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد؛ فهم مني وأنا منهم"2، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه، وكأنه [هو]3 أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فكيف".
2 مضى تخريجه "2/ 324"، وهو في "الصحيحين".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل فقط، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".(6/81)
ص -63-…وأنه1 قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد؛ فهو على ذلك واحد منهم، فإذا صار كذلك؛ لم يقدر على الاحتجان2 لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه، كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده؛ فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "فهم مني وأنا منهم"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر؛ إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته.
وفي مسلم عن أبي سعيد، [قال]: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء رجل على راحلة له -قال- فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر؛ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد؛ فليعد به على من لا زاد له". قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وكأنه".
2 الاحتجان: الإصلاح والجمع وضم ما انتشر، والحجنة: ما اختزنت من شيء واختصصت به نفسك، قال الأزهري: "ومن ذلك يقال للرجل إذا اختص بشيء لنفسه: قد احتجنه لنفسه دون أصحابه". انظر: "اللسان" "مادة ح ج ن، 3/ 108، 109".
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة بفضول المال، 3/ 1354/ رقم 1728"، وأبو دود "في السنن" "كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، 2/ 125-126/ رقم 1663"، وأحمد في "المسند" "3/ 34"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 182"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2685" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي هذا لحديث دليل على أن لولي الأمر أن يجعل التبرع واجبا عند الحاجة، ومثله النهي عن ادخار لحوم الأضاحي والنهي عن كراء الأرض؛ وانظر تفصيلا مستطابا في "القواعد النورانية" "176-177" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(6/82)
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "حتى رئينا أنه...".(6/83)
ص -64-…وفي الحديث أيضا: "إن في المال حقا سوى الزكاة"1، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجمعيه جار على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقتضي استبدادا2، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل، ولا يكون موقعا على نفسه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة، 3/ 48-49/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385"، والدارقطني في "السنن" "2/ 125"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1328" عن فاطمة بنت قيس.
وإسناده ضعيف، فيه أبو حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح".
وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "1/ 107": "وبالجملة؛ فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي، وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف، ومن تابعه أضعف منه"، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده".
قلت: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 789/ رقم 1365"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 156، 191"، وأبو عبيد في "الأموال" "445" عن ابن عمر قوله: "في مالك حق سوى الزكاة"، وإسناده صحيح.
وأثر الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 191"، وابن زنجويه في "الأموال" "2/ 792/ رقم 1370"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 212" عنه بإسناد حسن.(6/84)
2 فالمصنف ينفي صراحة أن يكون الحق سلطة مطلقة أو استبدادا مطلقا بمنافعه وثمراته، وبذلك ينتفي معنى الفردية المطلقة في الحق، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك المعنى الاجتماعي في أقوى صوره من التسوية والمشاركة، لا على سبيل الجواز أو الندب، بل وعلى سبيل الوجوب أيضا إذا اقتضى الأمر في ظروف الضرورة والحاجة، وفيما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يصور أنه أسوة في ذلك؛ لأن في درء المفسدة عن الجماعة وجلب المصلحة لهم هو الأصل العام الذي قامت عليه الشريعة، بل هو المسوغ الأكبر لإلقاء مقاليد السلطة العامة بيد ولي الأمر. انظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص159".(6/85)
ص -65-…ضررا ناجزا. وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"1.
وقوله: "المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"2.
وقوله: "المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 565/ رقم 481، وكتاب المظالم، باب نصر المظلوم، 5/ 99 رقم 2446"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 1999/ رقم 2585" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وكتب "خ" هنا ما نصه: بالاتحاد والتناصر البالغ إلى هذا الحد ارتفعت أعلام الإسلام من أقاصي الشرق إلى منتهى الغرب، وما تقلص ظل عز المسلمين وسيادتهم إلا حين دب التخاذل في جامعتهم؛ حتى أصبحنا نرى فريقًا منهم يدخلون في حساب المسلمين بزيهم وأسمائهم؛ إلا أن قلوبهم هواء كأنها بين أصبعين من أصابع العدو يقلبها كيف يشاء؛ فكانوا كالسهام الصائبة يرمي بهم في نحور أقوامهم وهم لا يشعرون بأنهم يهدمون صروح مجدهم ويلقون بأنفسهم وأبنائهم من بعدهم في عذاب الهون ومعرة الاستعباد" وسقط من "ط": "المرصوص".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6011، ومسلم في "صحيحه "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 2000/ رقم 2586" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.(6/86)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 1/ 56-57/ رقم 13"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، 1/ 67-68/ رقم 45" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب..."، وفي رواية مسلم: "لأخيه أو قال: لجاره"، وفي بعض الروايات الصحيحة: "من الخير ما يحب لنفسه"، واللفظ الذي أورده المصنف هو لفظ الغزالي في "الإحياء" 2/ 207"، وبضاعته في الحديث مزجاة، كما كان يقول هو عن نفسه، رحمه الله تعالى، ولذا قال ابن السبكي في "طبقاته" "6/ 317" عن الحديث بلفظ المصنف: "لم أجد له إسنادا".(6/87)
ص -66-…وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء، كل واحد بما يليق به؛ كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قِسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخد بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل؛ لخرج1 عن اعتداله، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض، وما أمروا به من اجتماع الكلمة، والأخوة وترك الفرقة، وهو كثير؛ إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.
والوجه الثاني:
الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره، اعتمادا على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله، وهو من محامد الأخلاق، وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام "أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"2.
وقالت له خديجة: "إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فخرج".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، 4/ 116/ رقم 1902" عن ابن عباس؛ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي "ط": "خلقه الرضي، فقد كان...".(6/88)
ص -67-…نوائب الحق"1، وحمل إليه تسعون ألف درهم؛ فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله؛ فقال: "ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء؛ قضيناه". فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه. فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم [وعرف البشر في وجهه وقال: "بهذا أمرت"2. ذكره الترمذي. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم] لا يدخر شيئا لغد3. وهذا كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب منه، 1/ 22/ رقم 22، وكتاب التفسير، باب تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، 8/ 715/ رقم 4953"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بدء الوحي/ رقم 160"، وأحمد في "المسند" "6/ 233" وغيرهم.
2 أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 338"- والشاشي في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 180/ رقم 88"- والبغوي في "الشمائل" "رقم 367"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "ص96-97" بسند ضعيف، فيه موسى بن أبي علقمة المديني، وهو مجهول، كما قال ابن حجر في "التقريب".
وأخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 101"، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو واه ويحيى بن محمد بن حكيم لم أظفر به.
وأخرجه البزار في "البحر الزخار" "1/ 396/ رقم 273" وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ضعيف، وفي طرقها كلها هشام بن سعد، صدوق له أوهام.
والحديث ضعيف، وضعفه شيخنا الألباني في "مختصر الشمائل" "رقم 305".(6/89)
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، 4/ 580/ رقم 2362"-وقال: "هذا حديث غريب"- و"الشمائل" "رقم 304"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 270، 291/ رقم 6356، 6378 - الإحسان"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 572"، والبغوي في "الشمائل "رقم 361"، و"شرح السنة" "13/ 253/ رقم 3690" والخطيب في "تاريخه" "7/ 98" عن أنس بإسناد حسن على شرط مسلم.
وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص89-99": "المراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها".
قلت: لأنه ثبت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم.
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/90)
ص -68-…وهكذا كان الصحابة، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وما جاء في "الصحيح"1 في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وما روي عن عائشة2، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام، عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ.
وهو ضربان:
"إيثار بالملك"3 من المال، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر، كما في حديث المؤاخاة المذكور في "الصحيح"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، 18/ 631/ رقم 4889"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إكرم الضيف وفضل إيثاره، 3/ 1624/ رقم 2054" عن أبي هريرة؛ قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟". فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله؛ فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}". لفظ البخاري.
2 كما تقدم "2/ 323" وتخريجه هناك.
3 في الأصل: "المكلف".
4 تقدم "2/ 325".(6/91)
ص -69-…وإيثار بالنفس؛ كما في "الصحيح" أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم؛ فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك1، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت.
وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان في غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول [الله صلى الله عليه وسلم راجعا، قد سبقهم إلى الصوت، وقد] استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا"2، وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 174" دون "ووقى بيده رسول الله فشلت"، وهذه الزيادة ثابتة عن طلحة بن عبيد الله، وليس عن أبي طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر طلحة بن عبيد الله "7/ 82/ رقم 3724" بسنده إلى قيس بن أبي حازم؛ قال: "رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن، 6/ 35/ رقم 2820، وباب ركوب الفرس العري، 6/ 70/ رقم 2866، وباب الفرس القطوف، 6/ 70، رقم 2867، وباب الحمائل وتعليق السيف بالعنق، 6/ 95/ رقم 2908"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام، وتقدمه للحرب، 4/ 1802-1083/ رقم 2307" عن أنس رضي الله عنه.(6/92)
3 أخرج ذلك أحمد في "مسنده" "1/ 348 و2/ 279 - الفتح الرباني"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 4"، وابن جرير في "التاريخ" "2/ 372، 373"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص64"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 389"، والطبراني كما في "المجمع" "6/ 52-53"، والبزار في "المسند" "2/ 299-300/ رقم 1741 - زوائده"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه؛ كما في "فتح القدير" "2/ 304"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 473" بأسانيد وألفاظ مختلفة فيها نحو المذكور عند المصنف مما يشهد أن للقسم المذكور أصلا، والله أعلم.
وقد حسن بعض طرقه ابن حجر في "الفتح" "7/ 236"، وابن كثير في "السيرة" "2/ 239"، وفيه نسيج العنكبوت على الغار، وما ذكر عند المصنف فيه له شواهد، والله الموفق.(6/93)
ص -70-…وفي المثل السائر1:
.......................................…والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار، ويدل على ذلك قوله امرأة العزيز في يوسف عليه السلام: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51]؛ فآثرته بالبراءة على نفسها.
قال النووي: "أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس2، بخلاف القربات؛ فإن الحق فيها لله".
وهذا مع ما قبله3 على مراتب، والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله4، ومن عمر النصف5، ورد أبا لبابة6 وكعب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عجز بيت لمسلم بن الوليد في "ديوانه" "164" وأوله:
يجود بالنفس إذا ضن الجواد بها….........................................
وانظر: "ديوان المعاني" "1/ 103-104"، و"الأمثال" "1/ 95" كلاهما للعسكري، و"الفروسية" "ص499- بتحقيقي" لابن القيم.
2 عبارته في "شرح صحيح مسلم" "14/ 12": "... وحظوظ النفس، أما القربات، فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالى".
3 وهو الإيثار بالمال.
4، 5 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب الرخصة في جواز التصرف بجميع المال، 2/ 129/ رقم 1678"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزكاة، باب في مناقب أبي بكر، 4/ 614-615/ رقم 3675"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والبزار في "البحر الزخار" =(6/94)
ص -71-…ابن مالك إلى الثلث1، قال ابن العربي: "لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر". هذا ما قال.
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة، فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي، فإن أخل بمقصد شرعي؛ فلا يعد ذلك إسقاطًا للحظ، ولا هو محمود شرعا، أما أنه ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "1/ 394/ رقم 270"، والدارمي في "السنن" "1/ 391" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي؛ فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده على فضائل الصحابة" "رقم 527" من طريق آخر ضعيف.
6 حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه أراد أن يتصدق بجميع ماله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث"، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 481"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله. 3/ 613/ رقم 3320"، وأحمد في "المسند" "3/ 452-453"، والدارمي في "السنن" "1/ 391"، وهو صحيح.
1 ورد ذلك في قصة توبة كعب بن مالك؛ فإنه قال: "قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113-116/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".(6/95)
فالثابت قوله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تحديد بالثلث، وقول كعب: "أمسك سهمي الذي بخيبر" لا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من ذلك أو أقل، قاله ابن العربي في "أحكامه" "2/ 1010".(6/96)
ص -72-…بمحمود شرعا؛ فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر، وإما لأمر آخر، أو لغير شيء؛ فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، وإذا لم يكن كذلك؛ فهو مخالف له، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له؛ فثبت أنه لأمر ثالث، وهو الحظ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ، هذا تمام الكلام في القسم الرابع، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ.
وأما القسم الخامس:
وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ضرر، ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة؛ فله نظران:
نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا، من غير قصد إضرار بأحد؛ فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه.
ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود، مع عدم استضراره بتركه؛ فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار؛ لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي؛ فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة، مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة، وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر.
وعلى كلا التقديرين؛ فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع1 العلم بالمضرة لا بد فيه [من أحد أمرين: إما تقصير2 في]3 النظر المأمور به وذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "ومع".(6/97)
2 وذلك في تقدير أنه فاعل لمأمور به، وقوله: "وإما قصد إلى نفس الإضرار"، وذلك يكون في التقديرين محتملا؛ إلا أنه يقال: إن قصد الإضرار في التقديرين خلاف فرض القسم الخامس، كما صرح به قوله: "فله نظران، نظر... إلخ"، وكما هو أصل المقسم في أول المسألة حيث قال: "والثاني ألا يقصد إضرارًا... إلخ"، وقد يجاب بأن قوله: "وأما قصد"؛ أي: مظنة قصد؛ فعومل بهذه المظنة، وإن لم يحصل القصد بالفعل كما صرح به في قوله: "فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد... إلخ"؛ إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "ولا يعد قاصدا له ألبتة" الذي معناه أنه لا يعامل حتى بمظنة القصد، ولعله زيد أنه يعامل معاملة المخطئ في التضمين للمتلف وفي الدية؛ فعليك باستيفاء المبحث. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/98)
ص -73-…ممنوع، وإما قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع أيضا؛ فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة، وينظر في الضمان بحسب1 النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة، ولا يعد قاصدا له ألبته، إذا لم يتحقق قصده للتعدي، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوبة، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ويلزم عنها إضرار الغير، ولأجل هذا2 تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة3، والعمل الأصلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "نحسب".
2 أي: لوجود النظرين السالفين، وأن أحدهما جائز لا محظور فيه، ويمكن انفكاكه عن الآخر. "د".
3 نقل بعضهم هنا عن القرافي دعواه أن صحة العبادة وإجزاءها لا تستلزم الثواب عليها وقبولها عند المحققين، وقال: إن الفقهاء قديما وحديثا على خلاف هذه الدعوى. ا. هـ. ولا يخفى عليك أن هذا الموضع ليس محل تحقيق هذا البحث، وإنما محله المسألة الأولى في الصحة والبطلان؛ فليراجع، على أنه تقدم للشاطبي هناك أنه تطلق الصحة بمعنى رجاء حصول الثواب، والبطلان بمعنى عدم رجائه، كما إذا دخل الصلاة رياء أو نحوه؛ فمع كونها لا تقضى لا ثواب عليها كما صرحوا به في الفروح. "د". قلت: مراده "خ" حيث قال: "ادعى القرافي في الفرق الخامس والستين أن القبول غير الإجزاء والصحة؛ فالمجزي عنده ما اجتمعت شروطه وأركانه وانتفت موانعه، ولا يقتضي سوى براءة الذمة، أما الثواب عليه الذي هو معنى القبول؛ فعزا إلى المحققين عدم لزومه، وقد تصدى الفقهاء قديما وحديثا لإبطال هذه الدعوى، وقرروا أن العبادة الواقعة على الوجه المشروع من استيفاء الشروط والأركان تكون صحيحة مجزئة، ويترتب على ذلك قبولها واستحقاق الثواب عليها".(6/99)
ص -74-…صحيحا، ويكون عاصيا بالطرف الآخر، وضامنا إن كان ثم ضمان، ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها، ومن قال هنالك بالفساد يقول به هنا، وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى1، هذا من جهة إثبات الحظوظ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة.
وأما السادس:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا؛ فهو على أصله من الإذن، لأن المصلحة إذا كانت غالبة؛ فلا اعتبار بالندور في انخرامها، إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة؛ إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود، ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة -مع معرفته بندور المضرة عن ذلك- تقصيرا في النظر، ولا قصدا إلى وقوع الضرر، فالعمل إذًا باق على أصل المشروعية.
والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها؛ كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط، وإباحة القصر في المسافة المحدودة، مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة2، وكذلك إعمال الخير الواحد3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي هو النظر الثاني، وهو علمه بالضرر ومظنة أن يقصده، وهو من هذا الوجه ممنوع، والفعل مخالف مناقض لقصد الشارع وما ناقض الشريعة باطل. "د".
2 أي: فلما كان أصحابه الذين اعتادوها يندر أن تحصل لهم المشقة الخارجة عن العادة في هذه الصنعة كما تقدم في بيان المشقة المعتادة وغير المعتادة؛ لم يعتبر هذا النادر. "د".(6/100)
3 أي: في الجزئيات، كما قيد به في الأقيسة؛ كالعمل برواية فلان وهي تحتمل الخطأ والكذب... إلخ، وكقياس النباش على السارق مثلا، وهو قياس جزئي عمل به مع احتماله الخطأ من وجوه عدة تعرف من مبحث الاعتراضات على الأقيسة التي تتجاوز خمسة وعشرين، وقيد الجزئيات ضروري فيهما؛ لأن التعبد بأصل القياس، وكذا برواية الآحاد من الأصول القطيعة في الدين، كما سبق له إشارة إلى ذلك. "د".(6/101)
ص -75-…والأقيسة الجزئية في التكاليف، مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه، لكن ذلك نادر؛ فلم يعتبر، واعتبرت المصلحة الغالبة، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب.
وأما السابع:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا؛ فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل الإباحة والإذن؛ فظاهر، كما تقدم في السادس، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا؛ فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين1، أم لا لجواز تخلفهما؟ وإن كان التخلف نادرا، ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور:
أحدها: أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم؛ فالظاهر جريانه هنا.
والثاني: أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل2 في هذا القسم؛ كقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الوجه الخامس، وهما التقصير في النظر إلى المأمور به، وقصد نفس الإضرار، وقوله: "لجواز تخلفهما" إبداء فرق بيه وبين الخامس الذي قيل فيه: إن أداءه للمفسدة قطعي عادة. "د".
2 ظاهره أنه نوع منه؛ فلا يتم به الاستلال عليه بتمامه، ولكن بالتأمل يرى أن هذا القسم كله ذريعة إلى ما يظن جلبه مفسدة، ولعل غرضه أن ما نص عليه بالفعل من جزئياته في الآيات والأحاديث داخل فيه؛ فتكون بقية جزئياته محمولة عليه قياسا؛ فيتم الدليل، ويظهر قوله "داخل في هذا القسم". "د".(6/102)
ص -76-…عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فإنهم قالوا: لتكفن عن سب آلهتنا، أو لنسبن إلهك. فنزلت1.
وفي الصحيح: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه". قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"2.
وكان عليه الصلاة والسلام يكف عن قتل المنافقين؛ لأنه ذريعة إلى قول الكفار: إن محمدا يقتل أصحابه3.
ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] مع قصدهم الحسن، لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شمته عليه الصلاة والسلام، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله4، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه.
والثالث: أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرازق في "التفسير" "2/ 215" عن معمر عن قتادة بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، رقم 1903"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، رقم 5141"، وغيرهم.
3 مضى تخريجه "2/ 467"، وهو في "صحيح البخاري".
4 من إذن أو خلافه كما في مسألة السب المذكورة في الحديث، فإن أصله بدون المتذرع إليه ممنوع، فحكم الأصل المنع، والذريعة كذلك، بخلاف بقية الأمثلة؛ فإن الأصل مأذون فيه، ولكنه أخذ حكم ما ترتب عليه. "د".(6/103)
ص -77-…فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية1؛ إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل أو من باب التعاون؛ منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه، فإن حمل محمل المتعدي2؛ فمن جهة أنه مظنة [للقصد أو مظنة] للتقصير3، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس، ولذلك وقع الخلاف فيه؛ هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء، أم لا؟ هذا نظر إثبات الحظوظ، وأما نظر إسقاطها؛ فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس؛ فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة.
وأما الثامن:
وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا؛ فهو موضع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة4 ترجح أحد الجانبين على الآخر، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه، لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة.
وأيضًا؛ فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن؛ لأنه ليس حمله على القصد إليهما5 أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما، وإذا كان كذلك؛ فالتسبب المأذون فيه قوي جدًا، إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنة، لكن له مجال6 هنا وهو كثرة الوقوع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: واقعات الضرر المادية التي تلزم عن الأفعال المشروعة.
2 كذا في "ط" وفي غيره: "التعدي".
3 العبارة في الأصل: "فوق جهة أنه مظنة للقصد أو هو"
4 في "ط": "ولا مزية".
5 أي: إلى المفسدة كالمعصية مثلا، وإن لم يتضرر بها أحد، والإضرار أي للغير. "د".(6/104)
6 في الأصل: "لكنه مجال".(6/105)
ص -78-…الوجود أو هو مظنة1 ذلك؛ فكما اعتبرت المظنة2 وإن صح التخلف؛ كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد، ولهذا أصل وهو حديث3 أم ولد زيد بن أرقم.
وأيضا؛ فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا؛ كحد الخمر؛ فإنه مشروع للزجر، والازدجار به كثير لا غالب4 فاعتبرنا5 الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل؛ فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر، وخروج عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 توسع زائد عما بني عليه الثامن، وهو كثرة الوقوع؛ فقد اعتبر في هذا مظنة الكثرة أيضا وإن لم تعرف الكثرة بالفعل. "د".
قلت: ولا تعدو أن تكون "الأكثرية" قرينة جريا على اعتبار الشارع لها فيما ضرب المصنف فيما بعد من تطبيقات، واكتفى فيها بمظنة القصد لا بمئنة أو بحقيقة القصد، وهذا أدنى إلى أخذ الحيطة في مراعاة مقاصد الشريعة، وتحقيق مصالح العباد.
2 أي: في السابع، وقوله: "لأنه مجال للقصد: تعليل غير واضح، لم يدفع حجة الأولين بأنه لا يعدو أن يكون احتمالا لا يبلغ علما ولا ظنا. "د".
قلت: والواقع أن عدم الوضوح آت من تأصيله على فكرة التعدي، أما لو أقيم على ضابط آخر من الموازنة للنتائج الواقعية؛ لكان أبين. انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص69".(6/106)
3 هو حديث أم يونس، قالت ما معناه أنها بعات أم ولد زيد جارية له بثمانمائة درهم إلى العطاء، وشرطت عليه أنه إذا باعها لا يبيعها إلا لها ثم اشترتها منه قبل الأجل بستمائة، فاستفتت عائشة؛ فقالت: بئس ما شريت -أي: لوجود الشرط الذي يخالف عقد البيع من أنه لا يبيعها إلا بها- وبئسما اشتريت... إلخ، وبالغت في الزجر عن هذا، أي: فكثيرا ما يكون القصد من هذا البيع التوصل إلى دفع قليل كالستمائة في كثير هو الثمانمائة، وتوسط الجارية حيلة، والأجل له فرق المائتين، فهذا كثير أن يقصد ولكنه ليس غالبا، هذا غرضه، ولكن ذلك بحسب زمانهم، أما اليوم؛ فإنه الغالب في القصد قطعا. "د".
قلت: وقد مضى تخريج أثر عائشة "1/ 456".
4 قد لا يسلم. "د".
5 في "ط": "فاعتبرت".(6/107)
ص -79-…الأصل هنا من الإباحة، لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع.
وأيضا؛ فإن [هذا] القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة1، فكما اعتبرت في المنع [هناك؛ فلتعتبر]2 هنا كذلك.
وأيضا؛ فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير؛ فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الخليطين3.
وعن شرب النبيذ4 بعد ثلاث5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجرد الاشتراك في التعبير عنه بلفظ: "كثرة" لا يفيد في الاشتراك في الحكم بعد ثبوت الفرق بأن هذا مجرد احتمال، وأما ذلك؛ ففيه ظن حصول المضرة أو المفسدة؛ فهذا يشبه المغالطة في الاستدلال. "د". وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574"، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".
4 ينظر في جعل هذا من الكثير لا الغالب؛ فالظاهر أن تأديته لمفسدة الإسكار غالبة لا سيما في البلاد الحارة، بل وبعد اثنين فيها، ومن هذا يعلم أن قوله بعد "ووقوع المفسدة... إلخ". في حيز المنع. "د".
5 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1589/ رقم 2004 بعد 82" عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه؛ فإن فضل شيء أهراقه".(6/108)
وانظر "فتح الباري" "10/ 56-57، باب الانتباذ في الأوعية والتور".(6/109)
ص -80-…وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها1.
وبين عليه الصلاة والسلام أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة؛ فقال: "لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه"2، يعني: أن النفوس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5587"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا، 3/ 1557"، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نتنبذوا في الدباء ولا في المزفت"، وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير، لفظ البخاري.
وانظر الحديث الآتي.
2 أخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب الإذن في الانتباذ، 8/ 309" بسند صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حين قدموا عليه عن الدباء، وعن النقير وعن المزفت والمزاد والمجبوبة، وقال: "انتبذ في سقائك أوكه واشربه حلوا. قال بعضهم: ائذن لي يا رسول الله في مثل هذا. قال: "إذًا، نجعلها مثل هذه"، وأشار بيده يصف ذلك.
وأصله في "صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت، 3/ 1577-1578/ رقم 1993" دون ذكر الإشارة.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 226-227" بألفاظ في بعضها: "فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه؟ وأشار بيده وفرج بينهما؛ فقال: "إذًا، تجعلها مثل هذه" وأشار بيديه أكثر من ذلك.(6/110)
وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 222-223/ رقم 5401 - الإحسان"، وفي آخره: "فقال رجل: يا رسول الله! ائذن لي في مثل هذه -وأشار النضر بن شميل "أحد رواته" بكفه-. فقالك: "إذًا، تجعلها مثل هذه". وأشار النضر بباعه، قال ابن حبان عقبه: "قول السائل: "ائذن لي في مثل هذا" أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها؛ فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتعدى ذلك باعا، فيرتقي إلى المسكر فيشربه".(6/111)
ص -81-…لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة وإن كثر وقوعها.
وحرم1 عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم2.
ونهى عن بناء المساجد على القبور3، وعن الصلاة إليها4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتأمل في هذه الأمثلة التي ذكرها يعلم أن بعضها مقطوع فيه بحصول المفسدة قطعا عاديا كقطع الرحم في مسالة الجمع، وبعضها مظنون كسفر المرأة مع غير ذي محرم، وكالخلوة بالأجنبية، وليس بلازم في المفسدة خصوص الزنا، بل يكفي في التحريم ما يكون من مقدماته، وهو مظنون في غالب الناس فيطرد الباب، وكالبيع والسلف؛ فالغالب فيه المفسدة، ومثله هدية المديان، وعليك بالنظر في الباقي؛ فقد يسلم في مثل الطيب للمحرم؛ فالغالب أن مجرده لا يكون سببا في إفساد الحج بالنكاح. "د".
2 ورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش المسلمين، 6/ 142-143/ رقم 3006، وكتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، 9/ 330-331/ رقم 5233"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 978/ رقم 1341" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" لفظ مسلم.
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377-378/ رقم 532" ضمن حديث جندب بن عبد الله البجلي مرفوعا: "... وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".(6/112)
وأخرج البخاري في "صحيح" "كتاب الصلاة، باب منه، 1/ 532/ رقم 435، 436، وكتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، 3/ 200/ رقم 1330، وباب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، 3/ 255/ رقم 1390، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6/ 494-495/ رقم 3453، 3454، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444، وكتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، 10/ 277 / رقم 5815، 5816"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377/ رقم 531" عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر مما صنعوا".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائر، باب النهي عن الجلوس إلى القبر والصلاة عليه، 2/ 668/ رقم 972" عن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها".(6/113)
ص -82-…وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتهم ذلك قطعتم أرحامكم"1.
وحرم نكاح ما فوق الأربع؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160، رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها، 6/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 465"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 165" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
والحديث متواتر؛ فإنه يروى عن جمع كبير من الصحابة، انظر: السنن الكبرى" "7/ 166"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 134".
2 وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234-235].(6/114)
قال ابن عطية في "تفسيره" "1/ 315": "وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وجوزوا ما عدا ذلك".
قلت: وما بين المعقوفتين بعدها من "د".(6/115)
ص -83-…و[حرم]1 على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح2، وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"خ" و"ط".
2 وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا؛ إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار".
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، 2/ 1127/ رقم 938"، عن أم عطية رضي الله عنها.
و"القسط" و"الأظفار" نوعان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، و"النبذة": القطعة والشيء اليسير.
3 وذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 9/ رقم 4985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، 2/ 837/ رقم 1180" عن عطاء أن صفوان بن يعلى ابن أمية أخبره أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. قال: فلما كان بالجعرانة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، معه ناس من أصحابه منهم عمر؛ إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخا بطيب؛ فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه؛ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فأتي به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك؛ فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة؛ فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك".(6/116)
ومنها ما أخرجه مسلم في "صحيحه "كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، 2/ 1030/ رقم 1409" عن عثمان بن عفان مرفوعا: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يَخْطُب".(6/117)
ص -84-…ونهى عن البيع والسلف1.
وعن هدية المديان2.
وعن ميراث القاتل3.
وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين4.
وحرم صوم يوم عيد الفطر5، وندب إلى تعجيل الفطر6 وتأخير السحور7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 469".
2 سيأتي تخريجه "ص117"، وهو ضعيف.
3 مضى تخريجه "2/ 521".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم"، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام"، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه".
5 سيأتي تخريجه "ص469".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعا: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
7 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 147" عن أبي ذر مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور"، وإسناده ضعيف، فيه سلميان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة، ويدل على استحباب تأخير السحور أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر، 4/ 138/ رقم 1921"، عن زيد بن ثابت؛ قال: "تسحرنا مع النبي صلى لله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت "أنس بن مالك": كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية". وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب.(6/118)
ص -85-…إلى غير ذلك مما هو ذريعة، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة، وليس بغالب ولا أكثري1، والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة2، فإذا كان هذا معلومًا على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني، ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يكون الشيء أكثر في الوقوع من مقابله، ولكنه لا يصل إلى أن يكون هو الغالب ومقابله نادر. "د".
2 وقع بعض الفقهاء عند إجراء قاعدة الذرائع في أغلاط فادحة كتصريح بعضهم بالمنع من تعلم الطبيعيات بناء على أنها تفسد الاعتقاد بالخالق وتجر إلى هاوية الإلحاد غالبا، ولم ينظر إلى أن تعلمها قد أصبح الوسيلة الضرورية للنجاة من السلطة القاتلة وهي سلطة الاستعمار، ثم إن المفسدة التي تنشأ عنها وهي تزلزل العقيدة يمكن التقصي عنها بتعليم أصول الدين على الطريق المحكم، والوجه الذي يتجلى به أن الشريعة والعلم الصحيح على وفاق متين. "خ".(6/119)
ص -86-…المسألة السادسة:
كل من كلف بمصالح نفسه؛ فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار1، والدليل على ذلك أوجه:
أحدها: أن المصالح؛ إما دينية أخروية، وإما دنيوية، أما الدينية؛ فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها؛ إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها، فإذا فرضنا أنه مكلف بها؛ فقد تعينت عليه، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين؛ فلم يكن غيره ملكفًا بها أصلا.
والثاني: أنه لو كان الغير مكلفًا بها أيضًا؛ لما كانت متعينة على هذا المكلف، ولا كان مطلوبًا بها ألبتة؛ لأن المقصود حصول المصلحة أو درء المفسدة، وقد قام بها الغير بحك التكليف؛ فلزم أن لا يكون هو مكلفًا بها، وقد فرضناه مكلفًا بها إلى التعيين، هذا خلف لا يصح.
والثالث: أنه لو كان الغير مكلفًا بها؛ فإما على التعيين، وإما على الكفاية، وعلى كل تقدير؛ فغير صحيح، أما كونه على التعيين فكما تقدم، وأما على الكفاية؛ فالفرض أنه على المكلف عينًا لا كفاية، فيلزم أن يكون واجبًا عليه عينا2، غير واجب عليه عينًا3 في حالة واحدة، وهو محال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يأتي له محترزه في قوله: "اللهم إلا أن تلحقه ضرورة، فإنه عند ذلك... إلخ"، وفي الحقيقة هذا القيد مستغنًى عنه؛ لأنه لا يتحقق التكليف بمصالح نفسه إلا مع اختيار؛ فلم يفد أمرًا زائدًا على ما تضمنه التكليف؛ لأنه أحد شروطه. "د".
2 بالفرض الأصلي. "د".
3 بفرض أن الغير مكلف به كفاية، الذي يلزمه أن الشخص نفسه يكون أيضا مكلفًا به كفاية؛ لأنه لا يتأتى أن يكون الشيء الواحد يكلف به البعض كفاية والبعض كفايةً وعينًا. "د".(6/120)
ص -87-…اللهم إلا أن تلحقه ضرورة، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح أو ببعضها مع اضطراره إليها؛ فيجب على الغير القيام بها، ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض، والتعاون، وغسل الموتى ودفنهم، والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها، والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها؛ فعلى هذا يقال كل من لم يكلف بمصالح نفسه؛ فعلى غيره القيام بمصالحه، بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر؛ فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده؛ كان سيده مطلوبًا بالقيام بمصالحه؛ والزوجة كذلك صيرها الشارع [للزوج]1 كالأسير تحت يده؛ فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع، والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته؛ فكان مكلفًا بالقيام عليها؛ فقال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية2 [النساء: 34].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 لأنه يدخل في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} نفقات الزوجة غير المهر كما هو أحد التفسيرين، ولذلك إذا عجز عن النفقة زالت عنه صفة القيامة على الزوجة فكان من حقها أن تطالبه بطلاقها كما هو مذهب مالك والشافعي. "د".(6/121)
ص -88-…المسألة السابعة:
كل مكلف بمصالح غيره؛ فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا "أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها"، فإن كان قادرًا على ذلك من غير مشقة؛ فليس على الغير القيام بمصالحه، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرًا على الجميع، وقد وقع عليه التكليف بذلك؛ فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، وهو محال.
وأيضا؛ فما تقدم1 في المسألة قبلها جارٍ هنا، ومثال ذلك السيد، والزوج، والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد، والزوجة، والأولاد، فإنه لما كان قادرًا على القيام بمصالحه ومصالح من تحت حكمه؛ لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره؛ سقط عنه الطلب بها، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة، ينظر فيه من جهة أخرى2 لا تقدح في هذا التقدير.
وإن لم يقدر على ذلك ألبتة، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف؛ فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة أو عامة، فإن كانت خاصة سقطت، وكانت مصالحه هي المتقدمة؛ لأن حقه مقدم على حق غيره شرعًا، كما تقدم في القسم الرابع، من المسألة الخامسة، فإن معناه جارٍ هنا على استقامة، إلا إذا أسقط حظه؛ فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من الأدلة الثلاثة، كما أن هذا الدليل جار في تلك المسألة أيضا بتغيير بسيط في المقدمة الأولى، فيقال: "إذا كان قادرا على مصالح نفسه وقد وقع عليه التكليف بذلك... إلخ". "د".
2 كأن يحكم بالفراق للزوجة للعسر بالنفقة، ويجري في الرقيق حكمه أيضا. "د".(6/122)
ص -89-…وإن كانت المصلحة عامة؛ فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه، على وجه لا يخل بأصل مصالحهم، ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف: لا بد لك من القيام بما يخصك وما يعم غيرك، أو بما يخصك فقط، أو بم يعم غيرك فقط، والأول لا يصح؛ فإنا قد فرضناه مما لا يطاق، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف، فليس بمكلف بهما معًا أصلا.
والثاني أيضا لا يصح؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا؛ إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه؛ فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع1 في المسألة، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2 في المسألة، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2؛ لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة، وهو باطل بما تقدم من الأدلة3، وإذا وجب عليهم تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة، وهو الثالث من الأقسام المفروضة.
فصل:
إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه؛ فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما تقدم نظيره في مسألة الترس، وإن كان موضوعها فيما لا يمكن أن يقوم بالمصلحة غيره. "د".
2 أي: وإلا نقل أنه لا يصح، بل قلنا إنه يقدم المصلحة الخاصة ولو لم يدخل عليه مفسدة في القيام بالعامة، لزم تقديم الخاصة على العامة بإطلاق وبدون القيد المذكور وهو باطل. "د".
3 التي هي النهي عن تلقي السلع، والاتفاق على تضمين الصناع، إلى غير ذلك. "د".(6/123)
ص -90-…وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح؛ إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين، لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت، وهو "مال بيت المال"؛ فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه، ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصًا بمثل هذه الوجوه؛ فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين، ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين؛ إذ لو فرض على غير ذلك الوجه؛ لكان فيه ضرر على القائم، وضرر على المقوم لهم.
أما مضرة القائم؛ فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح، والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة، ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول1، وقالت جماعة: إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة؛ لم يلزمه قبوله، وجاز له التيمم إلى غير ذلك، وأصله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]؛ فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة، وما ذاك2 إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب، هذا وجه، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة، والتهمة اللاحقة3 عند القبول من المعين، ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام أن يأخذوا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/124)
1 ينقسم التصرف في الأملاك بغير عوض إلى نقل وإسقاط، فما كان من باب النقل كالهبات والواصايا يتوقف على القبول لما فيه من المنعة، وهي مما يصعب على أرباب المروءات احتماله، ولا سيما من أصحاب الأخلاق السافلة، وأما ما كان من باب الإسقاط كالعتق؛ فلا يفتقر إلى قبول؛ لأن الحق فيه لمسقطه، فإذا أسقطه سقط، وقد يقع في بعض المسائل اختلاف فيلحقها بعض العلماء بالنقل ويحلقها آخر بالإسقاط كما جرى الخلاف في الإبراء من الدين؛ هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والراجح أنه من قبيل تمليك ما في الذمة فيفتقر في نفاذه إلى قبول الدين. "خ".
2 في "ط": "ذلك".
3 في "ط": "اللاصقة".(6/125)
ص -91-…الخصمين أو من أحدهما أجرة على فصل الخصومة بينهما، [وامتنع قبول هدايا الناس للعمال]1، وجعلها عليه الصلاة والسلام من الغلول2 الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب.
وأما مضرة الدافع؛ فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت، أو في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، ولا ضابط في ذلك يرجع إليه، ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية، التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها؛ إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة، فيكون سببًا في إبطال الحق وإحقاق الباطل، وذلك ضد المصلحة، ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى:
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109].
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47].
{مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
إلى سائر ما في هذا المعنى، وبالوجه الآخر3 علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين، وهذا كله في غاية الظهور، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من نسخة "ماء/ ص236".
2 كما سيأتي "ص118"، وتخرجيه هناك.
3 وهو كونه ذريعة إلى الميل... إلخ، وقد تقدم في كلامه تعليل آخر لهذا وهو ما يلحقه من الظنون والتهم، فيكون فيه ضرر على القائم والمقوم لهم معا، وقد يقال: إن الإجماع علته هذه الذريعة فقط كما يظهر من كلامه، والأول لا يقتضي هذا الإجماع؛ إلا أن يقال: ضمه إليه يقوي سند الإجماع. "د".(6/126)
ص -92-…فصل:
هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره.
فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره؛ فهي مسألة الترس وما أشبهها؛ فيجري فيها خلاف كما مر، ولكن قاعدة "منع التكليف بما لا يطاق" شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا، وقاعدة "تقديم المصلحة العامة على الخاصة"1 شاهدة بالتكليف به؛ فيتواردان على هذا المكلف من جهتين، ولا تناقض فيه؛ فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف.
وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ؛ فقد يترجح جانب المصلحة العامة، ويدل عليه أمران:
أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها؛ فمثل هذا داخل تحت حكمها.
والثاني: ما جاء في خصوص الإيثار في قصة2 أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقوله: "نحري دون نحرك"، ووقايته له حتى شلت يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم3، وإيثار4 النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي قاعدة متعارفة عند أهل العلم؛ حتى لا يكاد ينكرها إلا من لا خبرة له بأصول الفقه، والقول بها مذكور مشهور. "ماء/ ص237".
2 وظاهر أنها في الموضوع، وأنها مصلحة عامة في مقابلة مصلحته الخاصة وحياة أبي طلحة حياة شخص، وحياة الرسول حياة أمة. "د".
3 مضى تخريجه "2/ 174 و3/ 69"، والذي شلت يده هو طلحة بن عبيد الله وليس بأبي طلحة، كما قال المصنف.
4 انظر ماذا يقال في هذا؛ هل يقال: إنها من الموضوع وإن ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم خاص في مقابلة عام لأهل المدينة؟ إذا قيل هذا؛ فإنه يتنافى مع ما تقدم في قصة أبي طلحة، أما المؤلف؛ فوجه القصتين باختلاف الاعتبار؛ فجعل إيثاره عليه السلام لأهل المدينة من الموضوع حقيقة، وأنه خاص في مقابلة عام، وجعل إيثار أبي طلحة خاصًا لعام باعتبار أن حياة الرسول مصلحة للدين وأهله؛ فعليك بالنظر في الجميع. "د".(6/127)
ص -93-…مبادرته للقاء العدو دون الناس، حتى يكون متقى به1؛ فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته صلى الله عليه وسلم بنفسه ظاهر؛ لأنه كان كالجنة للمسلمين.
وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله2، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عدمه؛ فتعم مفسدته الدين وأهله، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين3 النوري حين تقدم إلى السياف، وقال: "أوثر أصحابي بحياة الساعة" في القصة4 المشهورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم "ص69"، ويدل عليه أيضا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين، 3/ 1041/ رقم 1776 بعد 79" عن البراء؛ قال: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم".
2 في نسخة "ماء/ ص237" و"ط": "... بقاؤه الدين وأهله مصالح".
3 في النسخ المطبوعة و"ط": "أبو الحسن"، وهو خطأ، والنوري اسمه أحمد بن محمد الخراساني البغوي، له عبارات دقيقة، يتعلق بها من انحرف من الصوفية، نسأل الله العفو، مات سنة "295هـ". انظر: "السير" "14/ 70".(6/128)
4 ذكرها القشيري في "رسالته" "ص112" في "باب الجود والسخاء، ص112"؛ قال: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليفة؛ أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد؛ فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والنوري وجماعة فقبض عليهم فتبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم النوري، فقال السياف: تدري إلى ماذا تبادر؟ فقال: نعم. فقال: وما يعجلك؟ قال: أوثر على أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الخبر إلى الخليفة؛ فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم، فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية فأجابه عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإن لله تعالى عبادًا إذا قاموا أقاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظًا أبكى القاضي؛ فأرسل القاضي إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم".
وذكرها أبو نعيم في "الحلية" "10/ 250-251"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "5/ 134"، والذهبي في "السير" "14/ 71"، والهجويري في "كشف المحجوب" "ص421"، والطوسي في "اللمع" "ص492".(6/129)
ص -94-…وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا، والنواهي اللازمة اجتنابها عينا؛ فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلًا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا، أو لا.
فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير؛ لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق، ولا أظن هذا القسم واقعًا؛ لأن الحرج وتكليف ما لا يطاق مرفوع، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع.
وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصًا ما بحيث يعد خلافه كمالا؛ فهذا من جهة المندوبات، ولا تعارض المندوبات الواجبات، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه وتعارضه، حتى يحكم فيها بقلبه وينظر فيها بحكم الغلبة1، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش وهو في الصلاة2، ومن نحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "إني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فنظره فيها واشتغاله بها حتى يبت فيها رأيا وهو في الصلاة لم يكن باختياره، بل غلب عليه الفكر في المصلحة العامة، وهو في الحديث جولان الفكر في حالة الأم حتى قضى بالتخفيف عليه الصلاة والسلام. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة 3/ 89" معلقا: "قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة".
ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ ق60/ ب"، وصالح بن أحمد في "مسائله" بإسناد صحيح، وصححه ابن حجر في "الفتح" "3/ 90"، والعيني في "عمدة القاري" "6/ 330"، ونحوه عند عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 123-124".
وانظر: "تغليق التعليق" "2/ 448"، و"مسند الفاروق" "1/ 184" لابن كثير، و"المحلى" "3/ 100 و4/ 179".(6/130)
ص -95-…لأسمع بكاء الصبي"1 الحديث.
وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع؛ فإنه2 يحل محل مفاسد تدخل عليه، وعوارض تطرقه؛ فهل يعد ذلك من قبيل المفسد الواقعة في الدين أم لا؟ كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب وحب الرياسة، وكذلك السلطان أو الولي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف، والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفًا من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة، وكان ذلك الترك مؤيدًا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة؛ فالقول هنا بتقديم العموم أولى لأنه لا سبيل لتعطيل3 مصالح الخلق ألبتة؛ فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبًا بها؛ فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس4 خاصة، لا سيما في المنهيات؛ لأنها مجرد ترك، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب، وهو يسير؛ فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية؛ فليس بعذر لأنه أمر قد تعين عليه فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى؛ إذ ليس من المشقات، كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة أو الجهاد عينا، أو الزكاة؛ فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب وما أشبه ذلك وإن فرض أن يقع به؛ بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع.
فإن قيل: كيف هذا، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك؛ فصار كالمتسبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 248".
2 أي: فإن التوقع والترقب لحصول مفاسد تدخل عليه قد يحل محل الحصول بالفعل؛ أي: فالمقام في ذاته كما يحتمل أن يحصل لمن يقوم بالوظائف العامة دخول المفاسد بالفعل يحتمل ألا يحصل بالفعل، بل يتوقع له ذلك، وقد لا يحصل التوقع ولا الحصول بالفعل، بل يسلم منهما، أي: والتوقع احتما قوي؛ فهل يعامل معاملة الحصول بالفعل، أم لا؟ "د".(6/131)
3 في "ط": "إلى تعطيل".
4 في "ط": "النفوس".(6/132)
ص -96-…لنفسه في الهلكة، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه؟
فالجواب أنه لو كان كذلك -وقد تعين عليه القيام بذلك العام- لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات، وذلك باطل باتفاق، نعم، قد يقال: إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم أو غصب أو تعد؛ فهذا أمر خارج عن المسألة؛ فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف، وإنما حاصل هذا أنه واقع1 في مخالفة أسقطت عدالته؛ فلم تصح إقامته وهو على تلك الحال.
وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصحلة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها؛ فهو موضع نظر، قد يرجح جانب السلامة من العارض، وقد يرجح جانب المصلحة العامة، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء؛ فلا ينحتم عليه طلب، وبين من له قوة في إقامة المصلحة وغناء ليس لغيره -وإن كان لغيره غناء أيضا- فينحتم أو يترجح الطلب، والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة، فما رجح منها غلب، وإن استويا كان محل إشكال وخلاف بين العلماء، قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية.
فصل:
وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها، ولذلك مثال واقع:
حكى عياض في "المدارك"2 أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وقع".
2 "2/ 589-590 - ط بيروت".(6/133)
ص -97-…فلما وصل كتابه إليهما؛ قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة -لأن الديلم كانوا روافض- لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصًا لله لنهضت. قال القاضي ابن الطيب: فقلت لهم: كذا قال1 المحاسبيّ وفلان ومن في عصرهم: "إن المأمون فاسق لا نحضر2 مجلسه"؛ حتى ساق3 أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه4 ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم؛ حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: "إذ شرح الله صدرك لهذا؛ فاخرج" إلى آخر الحكاية.
فمثل هذا إذا اتفق يلغى5 في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد؛ فلا يكون لها اعتبار6، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 590": "كذا قال ابن كلاب والمحاسبي...".
2 كذا في "الترتيب" و"ط": "نحضر" بالنون، وفي غيره: "يحضر".
3 في "الترتيب": "سبق".
4 في "الترتيب" زيادة: "بعده".
5 في الأصل و"ط": "تلغى".(6/134)
6 من واجب العلماء أن يقوموا بالذب عن الحق ولا يستخفوا بشأن من تصدوا لمحاربته من شيعة الباطل، ولا سيما حيث أصبح الجهل بحقائق الشريعة ضاربا أطنابه؛ فلا ينعق أخو ضلالة أو هوى إلا وجد حوله طائفة تلقي إليه السمع وتتلقى ما يوحيه إليه وساوسه بتقليد أعمى، ولا يزال الملحدون ينصبون المكايد للإسلام منذ نشأ وبلغ أشده، ولكن علماؤه كانوا ذوي بصائر نيرة وعزائم متقدة؛ فلا يغفلون عن تفقد الحالة الاجتماعية، حتى إذا أبصروا بخارًا سامًا يتصاعد من روح خبيثة بادروا إلى قطع أثره بما استطاعوا من تحذير بالغ أو مناظرة ترد المبطل على عقبه خاسئًا، وقد انتهز ملحدوا هذا العصر خمول العلماء فرصة؛ فأخذوا يتجشئون بوساوسهم في كل ناد، وحق على الذين أوتوا الحكمة أن يتقصوا أثرهم ويسدوا المنافذ في وجه مكايدهم؛ فإن الله لا يهدي كيد الخائنين. "خ".(6/135)
ص -98-…المسألة الثامنة:
التكاليف إذا علم قصد المصحلة فيها؛ فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال:
أحدها:
أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها؛ فهذا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد؛ لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد؛ إذ ليست بعقلية، حسبما تقرر في موضعه1، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف؛ فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها؛ فغاب عن أمر الآمر بها؟ وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة، بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد.
وأيضا؛ فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر، إلا دليل ناص على الحصر، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي2؛ إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا: "لم أشرع هذا الحكم إلا لهذا الحكم"3، فإذا لم يثبت الحصر، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد؛ كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم، فنقص عن كمال غيره.
والثاني:
أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع، مما اطلع عليه أو لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة الحسن والقبح في كتب الأصول، وتقدم للمؤلف فيه كلام في جملة مواضع. "د". قلت: انظر ما قدمناه في التعليق على "1/ 125-129".
2 لأنه الدليل الذي يؤخذ به في ذلك. "د".
3 في الأصل: "الحكمة".(6/136)
ص -99-…يطلع عليه، وهذا أكمل من الأول؛ إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد، والقصد إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أنه هذا العمل شرع لمصلحة كذا، ثم عمل لذلك القصد؛ فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة، غافلا عن امتثال الأمر فيها؛ فيشبه مَنْ عملها مِنْ غير ورود أمر1، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق، أو الوجاهة2 عنده، أو نيل شيء من الدنيا، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه؛ فلا يكمل3 أجره كمال من يقصد التعبد.
والثالث:
أن يقصد مجرد امتثال الأمر، فهم قصد المصلحة أو لم يفهم؛ فهذا أكمل وأسلم.
أما كونه أكمل؛ فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرًا، ومملوكًا ملبيًا؛ إذ لم يعتبر [إلا مجرد الأمر]4.
أيضا، فإنه لما امتثل الأمر؛ فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا، ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل؛ فصار مؤتمرًا في5 تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل بمجرد هواه، وهذا مذموم؛ فيكون فعل ما يشبه المذموم. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص239": "والوجاهة".
3 تقدم أن من يأخذ في السبب المأذون فيه على أنه مأذون فيه، وكان تصرفه لقصد مصلحة نفسه يكون عاملا لمجرد الحظ، ولكنه لا يخلو من الأجر؛ لأنه لم يأخذه على أنه أمر عادي بمجرد الهوى الذي هو الحظ المذموم. "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 في "خ": "للمؤتمر".(6/137)
ص -100-…وأما كونه أسلم؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية، واقف على مركز الخدمة1، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد2 التعبد، بل لا يدخل عليه في الأكثر، إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء، بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح؛ فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم، وإن كان واسطة لنفسه أيضا؛ فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة؛ فتقوم لذلك نفسه.
وأيضا؛ فإن حظه هنا ممحو من جهته، بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها، ولهذا بسط في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: موضوعها الذي فيه الفائدة. "ماء/ ص239".
2 في نسخة "ماء/ ص239": "وقصد".(6/138)
ص -101-…المسألة التاسعة:
كل ما كان من حقوق الله؛ فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه؛ فله فيه الخيرة.
أما حقوق الله تعالى؛ فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها؛ كالطهارة على أنواعها، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد1، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات، والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو2 حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان، جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة، فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاة من الصلوات المفروضات، أو زكاةً أو صومًا أو حجًا أو غير ذلك؛ لم يكن له ذلك، وبقي مطلوبًا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلًا من غير3 ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق، أو الربا، أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنى أو الخمر أو الحرابة، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك؛ لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جدًا في مجموع الشريعة؛ حتى إذا كان الحكم دائرًا بين حق الله وحق العبد؛ لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه نهى عن المنكر، بل عن أنكر المنكرات، وتغيير له باليد؛ فإن الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، فمن وقف في طريق ذلك؛ حق على المسلمين حربه حتى يذعن ويترك العناد. "د".
2 في الأصل: "وحق".
3 في "ط": "مثلا بغير".(6/139)
ص -102-…فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه؛ فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت "لا" وهو الفقه؛ كان نقضًا لما أصلت لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: "نعم" خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يفوت عضوا من أعضائه، ولا مالًا من ماله؛ فقد قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ثم توعد عليه، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188].
وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة؛ فما ظنك بتفويته جملة؟ وحجر على مبذر المال، ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال1؛ فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة.
لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذي2 به يحصل [له]3 ما طلب به من القيام بما كلف به؛ فلا يصح للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك ضمن حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"عن المغيرة رضي الله عنه.
2 يصح رجوعه للثلاثة جملة وتفصيلا. "د".
3 زيادة من الأصل و"ط".(6/140)
ص -103-…ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه؛ فهنالك يتمحض حق العبد؛ إذ ما وقع مما لا يمكن رفعه؛ فله الخيرة فيمن تعدى عليه لأنه قد صار حقا مستوفًى في العير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي؛ قال الله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده؛ فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع المظالم عنك غير واجب1 على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال؛ فجار على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع؛ فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب.
وأما تحريم الحلال وتحليل2 الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به أو تحرم؛ فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة.
فإن قيل: فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق؛ فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ينظر ليطبق على ما ذكره قبل؛ حتى لا يعد مخالفًا له. "د". وفي "ط": "ودفع المظالم"، وفي غيره: "الظالم"!
2 في "ط": أو تحليل".(6/141)
ص -104-…فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرًا؛ فقسم العبد إذا ذاهب، ولم يبق إلا قسم واحد.
فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقًا له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقًا لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم1 هذا المعنى مبسوطًا في الكتاب، وإذا كان كذلك؛ فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق.
فأما ما هو لله صرفًا2؛ فلا مقال فيه للعبد.
وأما ما هو للعبد؛ فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار، وقد ظهر بما تقدم آنفًا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق؛ فله إسقاطها وله الاعتياض3 منها والتصرف فيما بيده من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المسألة التاسعة عشرة من النوع الرابع، والفصل الذي بعدها في تقسيم الأفعال إلى ثلاثة أقسام؛ فقوله بعد: "في آخر النوع الثالث" غير ظاهر. "د".
2 أي: أو كان حقه تعالى مغلبًا، وقوله: "وما هو للعبد"؛ أي: ما كان حقه فيه مغلبًا؛ كحق المدبر ألا يباع مثلًا، وكالأمور المالية وغيرها مما ذكر في هذه المسألة قبل هذا وما ذكره هنا؛ فكل هذا حق العبد فيه مغلب فله إسقاطه، وعلى هذا يفهم قوله: "تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة"، أي: وإن كان فيه حق لله ولكنه غلب حق العبد؛ فاجتمع كلام المؤلف أولًا وآخرًا، وقوله: "في أنواع المتناولات"؛ أي: لا في جنسها؛ فليس له أن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو اللباس أو المسكن وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله ومن الضروريات التي بها إقامة الحياة. "د".
3 أي: طلب العوض. "ماء/ 240".(6/142)
ص -105-…غير حجر عليه، إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العبادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله، وما هو حق للعباد، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب1، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتعرض المصنف في "الاعتصام" "2/ 570 - ط ابن عفان" إلى هذا المعنى أيضا، وأحال على هذا الكتاب.(6/143)
ص -106-…المسألة العاشرة1:
التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود، مع العلم بكونها لم تشرع له؛ فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين:
إحداهما: قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر.
والأخرى: جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام؛ هل2 يصح شرعًا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا؟
وهو3 محل يجب الاعتناء به، وقبل النظر في الصحة أو عدمها4 لا بد من شرح هذا الاحتيال.
وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرم أشياء؛ إما مطلقًا من غير قيد ولا ترتيب على سبب؛ كما أوجب الصلاة، والصيام، والحج وأشباه ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام على الحيل في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وهو في "الفتاوى الكبرى" "3/ 98-285"، وكذا تلميذه ابن القيم في المجلد الثالث من "إعلام الموقعين" والمجلد الرابع إلى صفحة "63" منه.
وانظر: "مقاصد الشرعية الإسلامية" "ص115 وما بعدها" لابن عاشور، و"الحيل" لأبي حاتم القزويني، نشر شاخت، و"الحيل الفقهية في المعاملات المالية" محمد بن إبراهيم، ولا سيما "ص21 وما بعدها"، و"كشف النقاب عن موقع الحيل من السنة والكتاب" لمحمد عبد الوهاب البحيري، نشر سنة "1974م"، و"الحيل المحظور منها والمشروع" لعبد السلام ذهني، نشر سنة "1946م".
2 الجملة الاستفهامية خبر عن قوله: "التحيل بوجه... إلخ". "د".
3 في نسخة "ماء/ ص240" و"ط": "هو".
4 في "ط": "وعدمها".(6/144)
ص -107-…و[كما]1 حرم الزنى والربا والقتل ونحوها، وأوجب أيضا أشياء مرتبة2 على أسباب، وحرم أخر كذلك؛ كإيجاب الزكاة والكفارات، والوفاء بالنذور، والشفعة للشريك، وكتحريم المطلقة، والانتفاع بالمغصوب أو المسروق، وما أشبه ذلك، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه، بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالًا في الظاهر أيضا.
فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلا، كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر؛ فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر أو دواء مسبت3، حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه، أو قصرها فأنشأ سفرًا ليقصر الصلاة، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها قضى الحاكم بذلك ثم وطئها4، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدًا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"خ" و"ماء/ ص241" و"ط".
2 في الأصل: "مترتبة".
3 أي: منوم "ماء/ ص241".
4 أجاز قوم هذه المسألة بناء على ما فصلوه من أن حكم الحاكم المخالف لما في الواقع إن كان في مال لم يكن موجبا للمحكوم له، وإن كان في مثل نكاح أو طلاق؛ فإنه يكون نافذًا ظاهرًا وباطًنا، ووقف هؤلاء في حديث: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا؛ فلا يأخذه"، على ما يدل عليه بظاهره وهو المال خاصة، والتحقيق أن حكم الحاكم إنما يجري على الظاهر، ولا نفاذ له في الباطن بحال، وحرمة الإبضاع فوق حرمة الأموال؛ فهي أحق بالاحتياط وأولى بأن لا يرفع حقها الثابت شهادة باطلة أو حكم قام على غير بينة عادلة. "خ".(6/145)
ص -108-…ثمنًا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببًا مجهزًا كإشراع الرمح1 وحفر البئر ونحو ذلك، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام وإسقاط الواجب2، ومثله جارٍ في تحريم الحلال؛ كالزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه، أو إثبات حق لا يثبت؛ كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين، وعلى الجملة؛ فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن، كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الزمل".
2 حرر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أن الممنوع من التحيل ما يقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه أو إسقاط الواجب مع قيام سببه، وذكر في إنكار أن يكون من الشريعة الحكيمة وجوهًا كثيرة أشدها أنه مخادعة لله كما يخادع المخلوق، ثم ما يتضمنه من المكر والتلبيس والإغراء به، وتعليمه لمن لا يحسبه، ثم تسليط أعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه، ويكفي من هذه الوجوه أنه إجهاد الفكر في نقض ما أبرمه الرسول وإبطال ما أوجبه أو تحليل ما حرمه. "خ".(6/146)
ص -109-…المسألة الحادية عشرة:
لحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة1، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات2 يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع.
فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] إلى آخر الآيات؛ فذمهم وتوعدهم وشنع عليهم، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم وأموالهم، لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار وتصديق قلبي، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار.
وقيل فيهم: إنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9].
وقالوا عن أنفسهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]؛ لأنهم تحيلوا بملابسة الدين وأهله إلى أغراضهم الفاسدة.
وقال تعالى في المرائين بأعمالهم: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الآية [البقرة: 264].
وقال: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 38].
وقال: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]؛ فذم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في الفصل التالي للمسألة الثانية عشرة أن بعض ما يصدق عليه حيلة بالمعنى المذكور يكون صحيحًا مشروعًا؛ فلذا قال: "في الجملة". "د".
2 سيأتي له حديث: "لا ترتكبوا"، وهو عام؛ فلعله لعدم قوته لم يعتد به دليلاً مستقلًا كافيًا للعموم. "د". قلت: سيأتي "ص112" أنه حسن في أقل أحواله.(6/147)
ص -110-…وتوعد1 لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي2 يتوصل بها إليه.
وقال تعالى في أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ...} الآية إلى قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17-20]؛ لما احتالوا على إمساك حق المساكين بما قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم3؛ عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم.
وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية [البقرة: 65]. وأشباهها؛ لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة4 الاصطياد في غيره.
وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا...} إلى قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التوعد في الآية الثانية؛ إما بناء على عطف {وَالَّذِين} على لفظ {الْكَافِرِين} قبله أو على أنه مبتدأ، وقوله بعد {فَسَاءَ قَرِينا} توعد بأن الشيطان يكون قرينه في النار فيتلاعنان. "د".
2 في آيات المنافقين المقدمتان السابقتان موجودتان؛ ففيها قلب الأحكام من عدم عصمة دمائهم وأموالهم إلى عصمتها، وفيها جعل ما قصد به الدخول تحت طاعة الله اختيارًا لما قصدوا إليه من الإحراز المذكور، أما في آيات الرياء؛ فتوجد مقدمة جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معنى وسيلة لغيره، ولكن ما هو الحكم الذي أسقطوه أو قلبوه؟ تأمل. "د".
3 كأنه كان في شرعهم أن من لا يحضر الجذاذ يسقط حقه؛ فاحتالوا بهذه الحيلة لسقوط حق المساكين. "د".(6/148)
4 بأن حفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول؛ فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج، فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء، فيصطادونها يوم الأحد وكانت الحيتان لا تظهر إلا يوم السبت؛ ففي الحقيقة اصطيادها يوم السبت في صورة أنه في يوم الأحد، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام. "د".(6/149)
ص -111-…بأن يطلقها، ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها.
وقد جاء في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا...} إلى قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 228] إن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد؛ فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ثم يطلقها، ثم يرتجعها كذلك قصدًا؛ فنزلت1: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ونزل مع ذلك: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} الآية [البقرة: 229] فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه، وهذه كلها حيل على بلوغ غرض2 لم يشرع ذلك الحكم لأجله.
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يوصي لوارث احتيالًا على حرمان بعض الورثة.
وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا3 أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6].
وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النساء: 19].
إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نحوه في "سنن أبي داود" "كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 259/ رقم 2195"، و"تفسير ابن جرير" "4/ 539"، وهو صحيح.
وانظر: "تفسير الثوري" "ص67"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 272"، و"أحكام القرآن" "1/ 189"، و"فتح القدير" "1/ 239"، و"الدر المنثور" "1/ 278".
2 أي: من إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بفعل سائغ أو غير سائغ. "د".
3 أي: بناء على أنهما مفعولان لأجله. "د".(6/150)
ص -112-…ومن الأحاديث: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بن مجتمع خشية الصدقة"1؛ فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب أو تقليله.
وقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى، يستحلون محارم الله بأدنى الحيل"2.
وقال: "من أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن3 أن تسبق؛ فهو قمار"4.
وقال: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها5 وباعوها وأكلوا أثمانها"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر، وتقدم تخريجه "1/ 424"، وسعد وغيرهما.
قلت: وفي الأصل: "مفترق".
2 أخرجه ابن بطة في كتابه "إبطال الحيل" "ص46-47"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إبطال الحيل" "3/ 23-24 - من مجموع الفتاوى": "وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة"، وحسنه أيضا "3/ 287"، وجوّده ابن كثير في تفسيره" "1/ 111 و2/ 268 - ط دار المعرفة"، وكذا ابن القيم في "إغاثة اللهفان" "1/ 348".
وانظر: "غاية المرام" "رقم 11"، و"إرواء الغليل" "5/ 375/ رقم 1535".
3 أي: فهو عالم بأن الرهان على مسابقة، ومع ذلك يدخل في صورة أن الأمر محتمل كما هو الشأن في عمل المسابقة. "د".
4 مضى تخريجه بإسهاب في "1/ 425-427"، وهو ضعيف.
5 أذابوها فصارت في صورة غير صورة الشحم، ولم يأكلوها هي، بل أخذوا أثمانها فانتفعوا بها. "د".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، 8/ 295/ رقم 633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وقد تقدم "1/ 447" ومضى تخريجه مسهبًا هناك.(6/151)
ص -113-…وقال: "ليشربنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف1 الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ط2.
ويروى موقوفًا على ابن عباس ومرفوعًا: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظره مع ما تقرر من أمن أمته صلى الله عليه وسلم من المسخ والخسف ويكفي أنه موقوف، وإنما يستشهد المؤلف بأمثاله من باب الاستئناس وضمه إلى القوي فيقوى، وقد ورد في "المصابيح" عن أنس في شأن البصرة: "أنه يكون بها خسف وقذف ورجم ومسخ إلى قردة وخنازير، وقد أوصاه صلى الله عليه وسلم أن يكون بضواحيها لا في داخلها وأسواقها"؛ فعليك باستكمال المقام، ومعروف أنهم يقولون: إن الأمن فيما عدا ما بين يدي الساعة؛ فالتوفيق ميسور. "د".
2 أخرجه أبو دواد في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في الداذي -وهو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر- 3/ 329/ رقم 3688"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1333/ رقم 4020"، وأحمد في "المسند" "5/ 432"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 305 و7/ 222"، ابن حبان في "الصحيح" "15/ 160/ رقم 6758- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3419"، البيهقي في "الكبرى" "8/ 295 و10/ 231" من طرق عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري به.
وإسناده ضعيف، رجاله ثقات؛ غير مالك بن أبي مريم، لم يروِ عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته المشهورة، قال ابن حزم: "لا يُدْرَى من هو"، وقال الذهبي: "لا يعرف"، ولأوله شواهد عديدة، تقدم منها "1/ 447" حديث عبادة بن الصامت، وهو صحيح.
وانظر تعليق المصنف على الحديث في كتابه" الاعتصام" "2/ 579-581 - ط دار ابن عفان".(6/152)
ص -114-…بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالبيع"1.
وقال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم2، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" بإسناد معضل؛ فهو ضعيف، وتقدم بيان ذلك في "1/ 488".
وقال المصنف في "الاعتصام" "2/ 583 - ط ابن عفان" شارحا بعض ما في الحديث: "وأما استحلال السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية؛ فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم "سياسة" و"أبهة الملك"، ونحو ذلك؛ فظاهر أيضا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة".
ثم فصل القتل في شريعة "المهدي المغربي"، وأنه جعله عقابا في ثمانية عشر صنفا، وذكر منها أشياء، ثم فصل فساد شريعته في أشياء أخر، فلتنظر.
2 أي: بخلو بإنفاقهما في سبيل الله، وقوله: "وتبايعوا بالعينة" فسرت بأن تبيع الشيء بثمن لأجل ثم تشتريه نقدا بثمن أقل؛ فآلت المسألة إلى نقد عاجل قليل في نقد آجل كثير، وهو الربا بعينه، وذلك هو الواقع في قصة زيد بن أرقم. "د".
3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "المسند" "2/ 28"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13583"من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي عمر عن ابن عمر مرفوعا.
ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي" "3/ 316-317"، والزيلعي في "نصب الراية" "4/ 17" عن ابن القطان قوله في هذا الطريق -وعزاه لأحمد في "الزهد"-: "وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات".(6/153)
وتعقب ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 19" ابن القطان بقوله: "قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني؛ فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر؛ فرجع الحديث إلى الإسناد =(6/154)
ص -115-…..................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأول، وهو المشهور".
قلت: العجب من الحافظ فإنه القائل عنه في "بلوغ المرام" "رقم 860": "رجاله ثقات"، وقد جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين "الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم وتجاوزوا لهم عنه"، ولم يقل أحد إن الأعمش يدلس تدليس التسوية، ولماذا يفعل ذلك وهو قد رواه عن نافع أيضا؟ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" وفي آخر كلام ابن حجر السابق إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274-275/ رقم 4362"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "2/ 65"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 316"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 208-209"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1998" من طريق إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر.
وإسناده ضعيف، قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 102-103": "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني، وفيه مقال".
وتابع عطاءً الخراساني فضالةُ بن حصين عن أيوب عن نافع؛ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "3/ 319"، ومتابعته هذه أخرجها ابن شاهين "في "الأفراد" "1/ 1"؛ كما قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 11".
وفضالة لا يصلح للمتاعبة، قال أبو حاتم عنه: "مضطرب الحديث".
وللحديث طرق أخرى يتقوى بها، منها:
ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 42، 84" من طريق شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر حديثه حسن، ولا سيما في الشواهد.(6/155)
وما أخرجه أبو يعلى في "المسند" "10/ 29/ رقم 5659"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13585"، والروياني في "المسند" "ق247/ ب"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق79/ أ"- كما في "الصحيحة "رقم 11"-، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 313-314 و3/ 318-319" من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، وبعضهم أسقط ابن أبي سليمان.
وليث ضعيف.(6/156)
ص -116-…وقال: "لعن الله المحلل والمحلل له"1.
وقال: "لعن الله الراشي والمرتشي"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 103-104"؛ فقال بعد أن سرد بعض طرقه: "وهذا يبين أن للحديث أصلا، وأنه محفوظ"، وساق له المصنف في "الاعتصام" "2/ 576- ط ابن عفان" شاهدًا مرفوعًا، وهو حديث: "وإذا تبايعتم بالعينة..."، وأثرا لعلي عند أبي داود في "السنن" "3382"، و"مسند أحمد" "1/ 116" وقال: "وهذه الأحاديث الثلاثة -وإن كانت أسانيدها ليست هناك- مما يعضد بعضه بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع".
وكتب "خ" ما نصه: "قد وقع المسلمون في هذه العلل؛ حتى أفضت بهم إلى أشد بلاء يصبه الله على رءوس الأمم، وهو استيلاء العدو على أوطانهم والقبض على زمام أمورهم؛ فهل لهم أن يغيروا ما بهم ويعطفوا على تعاليم دينهم؟ فنراهم كيف ينهضون لإعادة شرفهم المسلوب وحقهم المغتصب بنفوس سخية وعزائم لا تغتر.
شعور فعلم فاتحاد فقوة…فعزم فإقدام فإحراز آمال"
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والسنائي في "المجتبى" "6/ 149"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، ومضى تخريجه أيضا "1/ 429".(6/157)
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، 3/ 623/ رقم 1337"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب كراهية الرشوة، 3/ 300/ رقم 3580"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، 2/ 775/ رقم 2313"، وأحمد في "المسند" "2/ 164، 190، 194، 212"، والطيالسي في: "المسند" "رقم 2276"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 102-103"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، والطبراني في "الصغير" "1/ 28"، والدارقطني في "العلل" "4/ 275"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 138-139"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 87-88 / رقم 2493" من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح.
وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "3/ 622/ رقم 1336"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 103"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1196- موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، وعن أم سلمة عند الطبراني بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وإسناده جيد؛ كما في "الترغيب والترهيب" "3/ 143".(6/158)
ص -117-…ونهى عن هدية المَدْيَان؛ فقال: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدي إليه أو حمله على الدابة؛ فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الصدقات، باب القرض، 2/ 813/ رقم 2432"، والبيهقي في الكبرى" "5/ 350" من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي؛ قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذكره".
وعند البيهقي في أحد روايته: "يزيد بن أبي يحيى" بدلا من "يحيى"، وقال: "قال المعمري: قال هشام في هذا الحديث: "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي"، ولا أراه إلا وهم، وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس". ثم قال: "ورواه شعبة ومحمد بن دينار؛ فوقفاه".
ويحيى بن يزيد من رجال مسلم، ورجح ابن التركماني أن يكون "ابن أبي إسحاق"، وهو مجهول، وعلى كل حال؛ الحديث ضعيف، وله علل:
الأولى: ضعف إسماعيل بن عياش؛ فهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه عتبة في هذا الحديث بصري.
الثانية: ضعف عتبة بن حميد.
قال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف".
الثالثة: الاضطراب في سنده.
الرابعة: جهالة ابن أبي يحيى.
الخامسة: روايته موقوفًا، وانظر: "السلسة الضعيفة" "رقم 1162".(6/159)
ص -118-…وقال: "القاتل لا يرث"1.
وجعل هدايا الأمراء غلولا2، ونهى3 عن البيع والسلف4.
وقالت عائشة: أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.
2 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 425"، والبزار في "مسنده" "2/ 236-237/ رقم 1599- زوائده"، وأبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "4/ 118/ رقم 1797"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 295"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 59"، والتنوخي في "الفوائد العوالي المؤرخة من الصحاح والغرائب" "ص121/ رقم 6"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 138" من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي مرفوعا: "هدايا الأمراء غلول".
وإسناده ضعيف، مداره على إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد، ورواية إسماعيل عن غير الشاميين ضعيفة، ويحيى بن سعيد مدني، وقد فصل في ذلك البيهقي في "الخلافيات" "رقم 150، 151 - بتحقيقي"، قال التنوخي عقبه: "هذا حديث غريب من حديث أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي عبد الله عروة بن الزبير، لا أعلم حدث به عنه غير إسماعيل بن عياش بهذا اللفظ".
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 189" بعد عزوه للبيهقي وابن عدي: "وإسناده ضعيف"، وضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 151، 200 و5/ 249"، ولكن للحديث شواهد عن جابر وأبي هريرة وابن عباس، خرجها شيخنا الألباني في "الإرواء" "8/ 246-250/ رقم 2622"، وقال: "وفيما تقدم من الطرق والشواهد السالمة من الضعف الشديد كفاية، ومجموعها يعطي أن الحديث صحيح، وهو الذي اطمأن إليه قلبي، وانشرح له صدري، وفي كلام ابن عبد الهادي إشارة إلى ذلك، والله أعلم".
3 لأنه تحيل على أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ إن اقتران البيع بالسلف يجعل الثمن أقل من ثمن المثل في مقابلة القرض الذي لا يكون إلا لله. "د".(6/160)
4 جزء من حديث بلفظ "لا يحل سلف وبيع" مضى تخريجه "1/ 469".(6/161)
ص -119-…إن لم يتب1.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرًا غير جائز.
وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى لفظه وتخريجه في "1/ 456"، وهو حسن.
وقع في الأصل: "أبلغ".(6/162)
ص -120-…المسألة الثانية عشرة1:
ما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية؛ فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والمصلحة مخالفة؛ فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية2 ليست مقصودة [لأنفسها]3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تفصيل وافٍ لما أجمل في المسألة قبلها. "د".
قلت: وهو تفصيل وتقييد لما اتسمت به المسألة الرابعة من القسم الثاني من قسمي الأحكام "1/ 311 وما بعدها" من إجمال وإطلاق.
2 وكذا الحقوق، وهي مجرد وسائل شرعت لتحقيق غايات معينة قصد الشارع تحقيقها فكانت وسائل أو مقدمات لنتائج المصالح، وليست مقصودة لذاتها حتى تكون مصدرا لسلطة مطلقة يتصرف بها صاحبها كما يشاء، لأن هذا يؤدي إلى اعتبار الحق غاية في ذاته، وذلك يتنافى، والقاعدة المجمع عليها -وذكرها المصنف مرارًا- وهي أن المصالح المعتبرة في الأحكام؛ لأن التصرف المطلق قد يؤدي إلى مناقضة الشارع، ومناقضة الشرع عينا باطلة؛ فما يؤدي إليها باطل.
هذا وثمرة اعتبار الحق مجرد وسيلة إلى تحقيق مصلحة شرع من أجلها، أنه مقيد في استعماله بما يحقق هذه المصلحة، وإلا اعتبر المستعمل معتسفًا كأن يتخذه ذريعة إلى مجرد الإضرار بغيره، أو لتحقيق نتائج ضارة بغيره، ترجح على ما يجنيه من مصلحة وهذان الوجهان من الاعتساف يقتضيان النظر في البواعث النفسية أو النتائج المادية التي تنجم عن استعمال الحقوق؛ كمعيارين يعرف بهما التعسف، أما النظر إلى النتائج؛ فهو معنى النظر في مآلات الأفعال الذي يقرر المصنف أنه أصل معتبر مقصود في الشريعة؛ كما سيأتي "5/ 177 وما بعدها".(6/163)
ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يكفي توخي المصلحة التي شرع العمل من أجلها، بل لا بد فيها من امتثال نية امتثال أمر الله، وبيان ذلك أن العمل -وهو وسيلة تنفيذ الحق- بوجه عام إذا كان تعبديا؛ أي: يقصد به امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وهو حق الله فيه كما بينا؛ فإن المصلحة التي تقصد به تعبدية أيضا لأمرين:
الأول: لأنها من وضع الشارع الحكيم، وذلك آية حق الله في المصلحة؛ فلا يجوز للعباد ابتداع المصالح لأنه تشريع مبتدأ، وذلك محرم بالضرورة. =(6/164)
ص -121-…وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع1؛ فليس على وضع المشروعات.
فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله، والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع أو نفع؛ كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه وماله لا لغير2 ذلك، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به رتبة في الدنيا؛ فهذا العمل ليس من المشروع في شيء؛ لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل، بل المقصود به ضد تلك المصلحة.
وعلى هذا نقول3 في الزكاة مثلا: إن المقصود بشمروعيتها رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين، وإحياء النفوس المعرضة للتلف، فمن وهب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: أن المكلف إذا كان عليه أن يتوخى المصلحة التي قصدها الشرع، حتى يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع؛ فإن توخيه لمحض المصلحة ولذاتها لا يجعل عمله تعبديًّا؛ لأنه لا يختلف عن ابتغاء أي إنسان لحظوظه المجردة في الحياة؛ فلا بد ليؤدي حق الله في عمله أن تتجه نيته إلى امتثال أمر الله جل وعلا، وفي هذا تقديم قول المصنف "3/ 99": "فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا... فقد يعمل العمل قاصدًا للمصلحة غافلًا عن امتثال الأمر فيها...".
وإذا ثبت أن المصلحة تعبدية، سواء كانت معقولة المعنى أم غير معقولة؛ فما انبنى عليها وهو التصرفات والأعمال تعبدية أيضا.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
1 حيث تحايل على الحكم الشرعي؛ فحافظ على ظاهره، ولم يحافظ على جوهره ومقصوده، بل سعى به لغاية أخرى. انظر: "الفروق" "2/ 32": "الفرق الثامن والخمسون".
2 في نسخة "ماء/ ص243": "غير".
3 في نسخة "ماء/ ص243": "فنقول".(6/165)
ص -122-…في آخر الحول1 ماله هروبًا2 من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه؛ فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين3؛ فمعلوم أن صورة هذه الهبة [ليست هي الهبة]4 التي ندب الشرع إليها؛ لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه، غنيًا كان أو فقيرًا، وجلب لمودته وموآلفته، وهذه الهبة على الضد من ذلك، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقًا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعًا لرذيلة الشح، فلم يكن هروبًا عن أداء الزكاة؛ فتأمل4 كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدًا شرعيًا5، والقصد غير الشرعي6 هادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصول المعتمدة في التحقيق، والصواب "قرب نهاية الحول"، وإلا لو كانت الهبة في آخر الحول؛ لما وسعه الهرب لأن الزكاة تكون حينئذ قد وجبت، وشغلت بها الذمة؛ فتأمل.
2 سيأتي له بلفظ: "هربا"، وهو الصحيح لغة. "د".
3 أن مصلحة "إرفاق المساكين" ليست هي المصلحة الوحيدة في إخراج الزكاة؛ فإن مصارف الزكاة متعددة، و"إرفاق المساكين" واحد منها؛ فيكون بالتحيل على إسقاط هذه الفريضة قد عطل كافة المصارف الأخرى التي تصرف فيها الزكاة، فأثر التحيل في أيلولته إلى المفسدة أعظم مما ذكر المصنف، أفاده الأستاذ الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 420".
4 فالهبة المشروعة لا تنافي قصد الشارع من الزكاة، وهو رفع الشح، والإرفاق بالناس والإحسان إليهم، أما الهبة الصورية كالصورة التي فرضها؛ فإنها تنافي قصد الشارع في رفع الشح عن النفوس والإحسان إلى عباده. "د".(6/166)
قلت: ثمة فرق آخر بينهما، أشار إليه المصنف بقوله السابق: "ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه"؛ أي: رجع إلى الموهوب له ليسترجع ما وهبه إياه، وفي هذا إشارة إلى التواطؤ بينهما، ومعلوم أن العقد إذا فقد الإرادة أو الرضا؛ لم ينعقد، وهو باطل شرعًا، فما ذكره "د" من الفرق بينهما فمن حيث المقصد والمآل، وما ذكرناه؛ فمن حيث التكوين أو التكييف الفقهي.
5 بل جاء توثيقا لمقاصد الشريعة وتحقيقا لها، وليست وظيفته سلبية فقط، أي: لعدم هدمها، بل وإيجابية أيضا، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 422".
6 هو الباعث غير المشروع بعينه.(6/167)
ص -123-…للقصد الشرعي.
ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربًا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها، خوفًا من الوقوع في المحظور؛ فهذه بذلت ما لها طلبًا لصلاح الحال بينها وبين زوجها، وهو التسريح بإحسان، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة، لا فساد فيه حالًا ولا مآلًا، فإذا أضر بها لتفتدي منه؛ فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب، مع القدرة1 على الوصول إلى الفراق من غير إضرار، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحًا بإحسان، ولا خوفًا من أن لا يقيما حدود الله؛ لأنه فداء مضطر وإن كان جائزًا لها فمن2 جهة الاضطرار والخروج من الإضرار، وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع.
وكذلك نقول: إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص، أما الجزئية؛ فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته، وأما الكلية؛ فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته؛ فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها، حتى يرتاض بلجام الشرع، وقد مر بيان هذا فيما تقدم، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت3 له يتبع رخص4 المذاهب، وكل قول وافق فيها هواه؛ فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع5 وأخر ما قدمه، وأمثال ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن ذلك في يده دائما. "د". وفي الأصل وقعت: "إلى الوصول".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من".
3 أي: طرأت.
4 في موضوعنا هي الحيل في تلك المذاهب. "د".
5 أي: ولم يكن داخلا مع سائر المكلفين تحت القانون العام المعين في هذا التكليف. "د". قلت: في "ط": "الشرع".(6/168)
ص -124-…فصل:
إذا ثبت هذا1 فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيًا وناقض مصلحة شرعية2، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام:
أحدها:
لا خلاف في بطلانه، كحيل المنافقين والمرائين.
والثاني:
لا خلاف في جوازه؛ كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة3 التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك؛ إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بخلاف الأول؛ فإنه غير مأذون فيه، لكونه مفسدة أخروية4 بإطلاق، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع؛ فكان باطلًا، ومن هنا جاء في ذم النفاق وأهله ما جاء، وهكذا سائر ما يجري مجراه، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لهذا".
2 مراده من "الأصل الشرعي": "المصلحة الكلية أو القانون العام المعين، ومن "المصلحة الشرعية": "المصلحة الجزئية، انظر هامش "د" السابق.
3 أي: في أن كلا منهما نطق بكلمة من غير اعتقاد لمعناها توصلا إلى غرض دينوي. "د".
4 لما تقدم أنه استهزاء ومخادعة لله ولرسوله لا دنيوية؛ لأن في ذلك مصلحة المنافق الدنيوية من إحراز دمه وماله، لكنه إذا عارضت المصلحة الأخروية أهملت وكانت باطلة. "د".(6/169)
ص -125-…وأما الثالث:
هو محل الإشكال والغموض، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني، ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له، ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه؛ فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعًا فيه، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة؛ فالتحيل جائز، أو مخالف؛ فالتحيل ممنوع، ولا يصح أن يقال: إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع، بل إنما أجازه بناء1 على تحري قصده وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه؛ لأن مصادمة الشارع صراحًا علمًا أو ظنًا لا تصدر2 من عوام المسلمين، فضلًا عن أئمة الهدى وعلماء الدين، نفعنا الله بهم، كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح، ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها، وبالله التوفيق.
فمن ذلك نكاح المحلل؛ فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول، بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ فقد نكحت المرأة هذا المحلل؛ فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقًا، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط" بعد "بناء" كلمة غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى "منه".
2 في "ط": "يصدر".(6/170)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433" وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، ومضى تخريجه "1/ 430".(6/171)
ص -126-…ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني ذوق العسيلة، وقد صحل في المحلل، ولو كان قصد التحيل معتبرًا في فساد هذا النكاح لبينه عليه الصلاة والسلام، ولأن كونه حيلة لا يمنعه، وإلا لزم ذلك في كل حيلة؛ كالنطق بكلمة الكفر للإكراه، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق، فإذا ثبت هذا وكان موافقًا للمنقول؛ دل على صحة موافقته لقصد الشارع1.
وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة؛ فمصلحة هذا النكاح ظاهرة لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين، إذ كان تسببًا في التآلف بينهما على وجه صحيح، ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد، لأن هذا هو التضييق2 الذي تأباه الشريعة، ولأجله شرع الطلاق، وهو كنكاح النصارى، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها، إلى غير ذلك.
وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينًا حسبما تقدم، كما في نكاح حل اليمين، والقائل: إن تزوجت فلانة فهي طالق، على رأي مالك فيهما وفي نكاح المسافر وغير ذلك.
هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال بجواز الاحتيال هنا، وأما تقرير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 250-251" عن ابن حزم وأبي ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ أن الساعي في "التحليل" مأجور غير مأزور، وذكر أن هؤلاء حملوا أحدايث التحريم على إذا ما شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل، ثم رد هذا وناقشه مناقشة قوية، وكذلك فعل شيخه ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "30/ 73 وما بعدها".
ورد المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" نكاح المتعة بترك الصحابة له مع وجود الدواعي، وسيأتي تنبيه المصنف عليه في آخر "المقاصد".
2 في الأصل: "التضمين".(6/172)
ص -127-…الدليل على المنع؛ فأظهر1، فلا نطول بذكره، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في "شرح الرسالة"؛ فإليك النظر فيه.
ومن ذلك مسائل بيوع الآجال؛ فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدًا بدرهمين إلى أجل، لكن بعقدين كل واحد منهما مقصود في نفسه، وإن كان الأول ذريعة؛ فالثاني غير مانع لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة؛ فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح، وإلا كان قادحًا في جميع الوجوه المشروعة، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد، وإنما مقصوده الثاني؛ فالأول إذًا منزل منزلة الوسائل، والوسائل مقصودة شرعًا من حيث هي وسائل، وهذا منها، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل؛ فليجز ما نحن فيه، وإن منع ما نحن فيه؛ فلتمنع الوسائل على الإطلاق، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجع المصنف هذا، وأدخل "نكاح التحليل" في "مناط التحيل" لقطعه كما سيأتي بأن قصد الشرع الأصلي من "النكاح" هو التناسل؛ فكان "نكاح التحليل" غير مشروع؛ لمنافاته لهذا المقصد الأصلي، ولا سبيل إلى التوفيق؛ فتعين أن يكون القصد في "نكاح التحليل" غير شرعي، والقصد غير الشرعي على حد تعبيره هادم للقصد الشرعي، ومن هنا كان "البطلان" الحتمي.(6/173)
2 هذا النوع من التعامل مشهور هذه الأيام، ولا سيما في "البنوك الإسلامية"! وكلام المصنف السابق فيه نوع تساهل، يظهر ذلك من خلال التمعن والتأمل في كلام ابن القيم، فإنه أولى هذه المسألة أهمية كبرى، ولذا آثرت أن أنقله على الرغم مما فيه من طول؛ إلا أنه مما تشد اليد به، قال رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين" "3/ 148": "فإن أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل؛ فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما بالسلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة "يعني: ابن عباس": دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة؛ لا في شرع، ولا في عقل، ولا في عرف. =(6/174)
ص -128-…...............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال؛ فلم تذهب ولم تنقص، فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله، ويعده أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه، مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله.
هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل، وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه". انتهى.
وهذه الحيلة التي أجازها المصنف داخلة تحت صور العينة التي يمنعها الأئمة، وإن أجازها بعضهم بناء على ظواهر العقود وتوفر شروطها وأركانها، وبناء على ما جرت به عادة المسلمين من سلامة عقودهم من التحيل والخداع والغش والتلاعب بآيات الله.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 397" في مسألة العينة والتورق: "ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها".
وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "3/ 188" في بيان مسألة التورق وحكمها: "إن باعها إلى غيره "البائع الأول" بيعا ثابتا ولم تعد إلى الأول بحال؛ فقد اختلف الأئمة في كراهته، ويسمونه التورق؛ لأن مقصوده الورق" انتهى.(6/175)
وهذه الصورة التي ذكر ابن تيمية أن السلف اختلفوا في كراهتها، قال عنها تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 220": "وعن أحمد فيه "التورق" روايتان: الحرمة والكراهة"، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه "المتعامل بالتورق" مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه؛ فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا ابن تيمية يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر؛ فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيع ما هو أعلى... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، رواه الخمسة عدا ابن ماجه، وقوله: "من باع بيعتين؛ فله أوكسهما أو الربا"، رواه أبو داود، وإن ذلك لا يمكن وقوعه إلى على العينة انتهى.
قلت: الحديث الأول مضى تخريجه "1/ 469"، والثاني في "السلسلة الصحيحة" برقم "2326"؛ فلعل الذي يقول بجواز التورق وحرمة العينة للضرورة كما قال أحمد، وعلق عليه ابن =(6/176)
ص -129-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القيم بقوله: "وهذا من فقهه رضي الله عنه، وارتكاب أخذ الضررين، أو بناء على أصله من أن البيع الأول صحيح لوجود القبض والرضا، وعدم اشتراط رجوع المبيع إلى البائع الأول".
أما مالك رحمه الله؛ فيمنع العينة بناء على عدم القبض في البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا، وقد سد مالك باب الذرائع سدا محكما -كما عبر ابن القيم-، وقد عقد لها بابا في "الموطأ" بعنوان: "العينة وما يشبهها"، وأبطل كل صورها؛ كما تراه في "تنوير الحوالك" "2/ 63".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 294" تعليقا على الخلاف في مسألة العينة بكل صورها وبيان علله وأسبابه: "وإنما تردد من تردد من الأصحاب الحنابلة في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها إلى العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح.
وعلى هذا التقدير؛ فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسألة الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة، وهو أن الثمن إذا لم يستوفِ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مبينا عليه، وهو تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع؛ فصار للمسألة ثلاثة مآخذ...
قال شيخنا ابن تيمية: والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران...". انتهى.(6/177)
ويرى ابن القيم أن الحيل لا تمشي على أصول الأئمة بل تناقضها أعظم مناقضة، وبيان ذلك أن الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مُدّ عجوة "نوع من التمر" ودرهم بمد ودرهم، ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفًا أن يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل؛ فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟
وأبو حنيفة يحرم مسألة العينة، وتحريمه يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد العجوة بأن يبيعه أحد عشر درهما بعشرة في خرقة: دراهم بدراهم بينهما حريرة كما قال ابن عباس.
فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم =(6/178)
ص -130-…بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه، في قوله عليه الصلاة والسلام: "بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"1؛ فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع2، لكن على وجه مباح، ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد وعاقدين، إذ لم يفصل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقول القائل3: إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إبطال الحيلة في الباب الآخر.
وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم.
انظر: "إعلام الموقعين" "3/ 241-242".
وهذه المناقشة العليمة القوية تدل دلالة راجحة إن لم تكن قاطعة على تحريم المسألتين، كما تدل على ما يتحلى به ابن القيم رحمه الله من نزاهة علمية وسعة علم وقوة حجة في مناقشة هاتين المسألتين على مذهب إمامين جليلين اشتهرا بقوة العارضة والحجة البالغة والمكانة العملية المسلم بها لهما من علماء العالم الإسلامي كله تقريبا. وانظر: "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" "ص144 وما بعدها".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، 4/ 399-400/ رقم/ 2201، 2202، وكتاب الوكالة، باب الوكالة في الصرف والميزان، 4/ 481/ رقم 2302، 2303"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، 3/ 1215/ رقم 1593 بعد 95" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
و"الجمع" -بفتح الجيم وسكون الميم-: التمر المختلط، و"الجنيب" -بجيم ونون وتحتانية وموحدة، وزن عظيم- قال مالك: "هو الكبيس"، وقال الطحاوي: "هو الطيب"، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قاله ابن حجر في "الفتح" "4/ 400".(6/179)
2 قلت: وقد وقعت في الأصل: "بع الجميع"، وكذا جميع الكلمات بعدها جميع، ووافقت الأصل نسخة "خ" في الموطن الأخير، وفي الأصل أيضا: "التوصل" لا "التوسل".
3 أي المانع. "د".(6/180)
ص -131-…فإن الذرائع على ثلاثة أقسام:
- منها: ما يسد باتفاق؛ كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤدٍ إلى سبِّ الله تعالى، وكَسَبِّ أبوي الرجل إذا كان مؤديًا إلى سبّ أبوي السابّ؛ فإنه عد في الحديث1 سبًّا من الساب لأبوي نفسه، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها.
- ومنها: ما لا يسد باتفاق، كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه أو أدنى من جنسه؛ فيتحيل ببيع متابعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده، بل كسائر التجارات؛ فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها.
- ومنها: ما هو مختلف فيه، ومسألتنا من هذا القسم؛ فلم نخرج عن حكمه بعد، والمنازعة باقية فيه.
وهذه جملة ما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة؛ فطالعها في مواضعها2، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب3 لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله؛ إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب، وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورًا وإنكارًا لمذهب غير مذهبه، من غير اطلاع على مأخذه؛ فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد تقدم "ص76".
2 في كتاب "إعلام الموقعين" "المجلد الثالث" بسط عظيم في هذا الموضع. "د".
3 لعل الأصل: "للغريب" يعني في مقابلة الشهير الذي للمانعين. "د".(6/181)
ص -132-…الدين، واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتفِ بهذين المثالين؛ فهما من أشهر المسائل في باب الحيل، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما.
فصل:
هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا، وقد مر منها فيما تقدم تفريعًا على المسائل المقررة كثير، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعًا أيضًا، ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله.
فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟
والجواب أن النظر ههنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:
أحدها أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به، وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردًا1 عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي؛ إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح، وإن وقعت في بعض2؛ فوجهها غير معروف لنا على التمام، أو غير معروف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالمعاني والحكم والأسرار والمصالح التي تؤخذ من استقراء مصادر الشريعة ما لم تدل عليها الألفاظ بوضعها اللغوي لا يعول عليها في هذا النظر، ولا تعتبر من مقاصد الشارع. "د".
2 أي: فالمصالح غير مطردة ولا ملتزمة ولا معروف سرها؛ فالنسل مثلا في النكاح ما وجه كونه مقصودا للشارع؟ وهكذا، وقوله: "ويبالغ في ذلك حتى يمنع القول بالقياس" منع القول بالقياس مبني على هذا بناء ظاهرا، سواء أجرى على عدم مراعاة المصالح رأسا أو على أنها إن وقعت في البعض فسرها غير معروف؛ لأنه لا يتأتى القياس على كلا القولين، فقوله: "ويبالغ"؛ أي: يؤكد صحة ما يقول؛ فيلزم عليه عدم القول بالقياس، ويلتزم هذا اللازم. "د".(6/182)
ص -133-…ألبتة، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، ولعله يشار إليه1 في كتاب القياس إن شال الله؛ فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا.
والثاني في الطرف الآخر من هذا؛ إلا أنه ضربان:
الأول: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة؛ حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم الباطنية؛ فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله، والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء؛ فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول، وهو:
الضرب الثاني: بأن يقال: إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ2، بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق، فإن خالف النص المعنى النظري اطّرح وقدم المعنى النظري، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق، أو على عدم الوجوب، لكن مع تحكيم المعنى جدًا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية، وهو رأي "المتعمقين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "عليه".
2 لعل الأصل: "إلى المعاني النظرية" ليتسق الكلام مع ما يليه, وليكون هذا مقابلا للنظر الأول، أما على هذه النسخة؛ فإنه لا يوافق ما بعده، ولا يكون مقابلا للأول. "د".(6/183)
ص -134-…في القياس"، المقدمين له على النصوص، وهذا في طرف آخر من القسم الأول.
والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض1، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع؛ فنقول وبالله التوفيق: إنه يعرف من جهات:
إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرًا لاقتضائه الفعل؛ فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه؛ فعدم وقوعه مقصود له، وإيقاعه مخالف لمقصوده، كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده؛ فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة، ولمن اعتبر العلل والمصالح، وهو الأصل الشرعي.
وإنما قيد بالابتدائي تحرزًا من الأمر أو النهي الذي قصد به غيره2؛ كقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي؛ فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيًّا عنه بالقصد الأول، كما نهي عن الربى والزنى مثلًا، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به، وما شأنه هذا؛ ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف، منشؤه3 من أصل المسألة المترجمة "بالصلاة في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص246" زيادة بعدها: "وهو أولى الحمل بالوجهين؛ أي: عليهما".
2 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 290-292".
3 فأصل البيع مباح، ولكنه اقترن به وصف باعتبار الزمان، وهو أنه يكون معطلا عن السعي إلى الجمعة الذي هو واجب، وهو وصف منفك فيأتي فيه الخلاف. "د".(6/184)
ص -135-…الدار المغصوبة".
وإنما قيد بالتصريحي تحرزًا من الأمر أو النهي الضمني الذي ليس بمصرح به؛ كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر1، والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء، فإن النهي والأمر ههنا إن قيل بهما؛ فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول؛ إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر أو النهي المصرح به، فأما إن قيل بالنفي2؛ فالأمر أوضح في عدم القصد، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور3 إلا به المذكور في مسألة "ما لا يتم الواجب إلا به"؛ فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه؛ فليس داخلًا فيما نحن فيه، ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي.
الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر بهذا الفعل؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر؟ والعلة إما أن تكون معلومة أو لا، فإن كانت معلومة اتبعت؛ فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه؛ كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة4 في أصول الفقه، فإذا تعينت؛ علم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها زيادة في الأصل: "والأمر الذي تضمنه الأمر".
2 كما هو رأي الإمام الغزالي، وهو المختار، يقولون: ليس الأمر بالشيء هو النهي عن ضده ولا يتضمنه عقلا، والأول رأي القاضي ومن تابعه. "د".
قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "2/ 199"، و"المنهاج" "1/ 76-80- بشرحي ابن السبكي والإسنوي".
3 في "ط": "المأمور به إلا به".(6/185)
4 بعد أن عد الرازي في "المحصول" "5/ 137" المسالك المشهورة منها، وهي النص، والإجماع، والمناسبة، والدوران، والسبر، والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط؛ قال: "وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة، لا ينبغي تفصيل حكم الله بمجرد الاستناد إليه كالطرد الذي هو مقارنة الحكم للوصف من غير مناسبة؛ إذ المقارنة لا تدل على العلية؛ فإن الحد مع المحدود، والأبوة مع البنوة، والجوهر مع العرض قد حصلت بينها المقارنة مع عدم العلية". "خ". وفي "ط": "العلة ههنا...".
انظر مسالك العلة في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 168-184"، و"الرد على المنطقيين" "210"، و"شفاء الغليل" و"أساس القياس" "ص31-32، 37، 61، 74"، كلاهما للغزالي، و"نبراس العقول: "ص209-387"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "ص369 وما بعدها".(6/186)
ص -136-…مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه1، وإن كانت غير معلومة؛ فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا أو كذا2؛ إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر:
أحدهما:
أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين؛ لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل، وضلال على غير سبيل، ولا يصح3 الحكم على زيد بما وضع حكمًا على عمرو، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا؛ لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكمًا عليه، فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع؛ فالتوقف هنا لعدم الدليل.
والثاني:
أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعًا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي؛ لأن عدم نصبه دليلًا على التعدي دليل على عدم التعدي إذ لوكان عند الشارع متعديًا لنصب عليه دليلًا، ووضع له مسلكًا، ومسالك العلة معروفة، وقد خبر4 بها محل الحكم؛ فلم توجد له علة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأحكام الوضعية، وما قبله في الأحكام التكليفية؛ كما يرشد إليه تمثيله للقسمين وما يأتي بعد أيضا. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وكذا".
3 في الأصل ونسخة "ماء/ ص248" و"ط": "فلا يصح".
4 في الأصل: "جبر".(6/187)
ص -137-…يشهد لها مسلك من المسالك؛ فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع.
فهذان المسلكان كلاهما متجه في الموضع1؛ إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد؛ فيبقى الناظر باحثًا حتى يجد مخلصًا؛ إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع، ويمكن أن لا يكون مقصودًا له، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد؛ فينبني عليه2 نفي التعدي من غير توقف، ويحكم به علمًا أو ظنًا بأنه غير مقصود له، إذ لو كان مقصودًا لنصب عليه دليلًا، ولما لم نجد ذلك دلّ على أنه غير مقصود، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه، كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ثم يطلع بعد على دليل ينسخ حزمه3 إلى خلافه.
فإن قيل: فهما مسلكان متعارضان؛ لأن أحدهما يقتضي التوقف، والآخر لا يقتضيه، وهما في النظر سواء4، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما؛ فلا يبقى إلا التوقف وحده؛ فكيف يتجهان معًا؟
فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل؛ فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر، فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين أو مجتهد واحد في وقتين أو مسألتين؛ فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة، ومسلك النفي في مسألة أخرى؛ فلا تعارض على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص248": "الوضع" من غير ميم.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "على".
3 في الأصل و"ط": "جزمه".
4 أي: وحينئذ؛ فلا يبنى عليهما حكم، ولا يكون لها ثمرة؛ لأنهما متعارضان مع التساوي، فلا يتأتى ترجيح؛ فيسقطان؛ فكيف يتأتى الانتفاع بهما والعمل بمقتضاهما؟ "د".(6/188)
ص -138-…وأيضا؛ فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل، ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق، وفي رفع الأحداث النية وإن حصلت النظافة دون ذلك، وأمتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات، إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله، وغلب في باب العادات المعنى؛ فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه: "إنه تسعة أعشار العلم"1 إلى ما يتبع ذلك، وقد مر2 الكلام في هذا والدليل عليه، وإذا ثبت هذا؛ فمسلك النفي متمكن في العبادات، ومسلك التوقف متمكن في العادات.
وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريقة "الحنفية"، والتعبدات في باب العادات3، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريق الظاهرية، ولكن العمدة ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك، وعلق عليه المصنف في "الاعتصام" "2/ 138" بقوله: "وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة".
2 في المسألة الثامنة عشرة: "الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات الالفتات إلى المعاني". "د".
قلت: والعبارة في الأصل: "مر من الكلام" بزيادة "من".(6/189)
3 ما ذكره المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "قاعدة 73، 74، 296"، والفروع المنقولة آنفا في الطهارة والزكاة وقيم الزكاة ليس مما انفرد به مالك، بل هو مذهب جماهير الفقهاء.(6/190)
ص -139-…تقدم، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة.
والجهة الثالثة:
أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.
مثال ذلك النكاح؛ فإنه مشروع للتناسل على المقصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية؛ من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة، أو قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله1 على العبد، وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح؛ فمنه منصوص عليه أو مشار إليه، ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطبه وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف، الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل؛ فاستدللنا بذلك2 على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا، كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبًا لشرف النسب، ومواصلة أرفع البيوتات، وما أشبه ذلك؛ فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ، وأن قصد التسبب له حسن.
وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمزيد نعم الله...".
2 وهو مسلك المناسبة التي تتلقاها العقول السليمة بالتسليم، ويبقى النظر في عد هذا جهة ثالثة مستقلة عن الجهة الثانية التي قال فيها: وتعرف المناسبة هنا بمسالك العلة المعلومة"، ومعلوم أن منها المناسبة، فإذا كان هذا من المناسبة كما قلنا؛ احتيج إلى بيان سبب جعل هذا جهة ثالثة. "د".(6/191)
ص -140-…من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة، كما إذا نكحها ليحلها1 لمن طلقها ثلاثًا؛ فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط؛ إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع2 على دوام المواصلة، حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك.
وهكذا العبادات؛ فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرًّا وجهرًا، بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده؛ كالتعبد بقصد حفظ المال والدم، أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم؛ كفعل المنافقين والمرائين، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام، بل هو مقوٍ للترك ومكسل عن الفعل، ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلى ريثما يترصد به مطلوبه، فإن بعد عليه تركه، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11].
فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ليحللها".
2 لعل الأصل: "في مضادة قصد الشارع"؛ أي: أن نكاح المتعة الذي تعين له مدة مخصوصة أشد من سائر ما ذكر من التحليل وغيره في مضادة المواصلة التي يحافظ عليها الشارع؛ لأن التحليل لم يدخلا فيه على مدة، وقد لا يفارقها، نعم، إن المعنيين متلازمان، فمتى كان نكاح المتعة أشد مضارة لقصد الشارع لورود النهي عنه؛ كان أظهر دلالة على أن مقصد الشارع دوام المواصلة. "د".(6/192)
ص -141-…مقتضاه حاصلًا بالتبعية1 من غير قصد؛ فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له2 الفراق؛ فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل، والمتعبد لله على القصد المؤكد يحصل له حفظ الدم والمال ونيل المراتب والتعظيم، فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة، ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع.
فإن قيل: هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي المخالفة عينًا، أم يكتفي فيها بكونها لا تقتضي الموافقة؟ وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينًا؛ فلا يصح لأن مخالفته لقصد الشارع عينية، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة أو لأخذ مالها أو ليوقع بها وما أشبه ذلك مما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة؛ مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح، ولكنه لا يقتضي المخالفة عينًا؛ إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها، ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح، أو الحكم على الزوج، أو زوال ذلك الخاطر السببي، وإن كان القصد الأول مقتضيًا؛ فليس اقتضاؤه عينيًّا.
فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها وبطلان مقتضاها مطلقًا في العبادات والعادات معًا؛ فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد وإن أمكن كونه مشروعًا في نفس الأمر، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينًا كالنكاح بقصد المضارة، وكنكاح التحليل عند من يصححه؛ فإن هنا وجهين من النظر، فإن القصد وإن كان غير موافق؛ لم يظهر فيه عين المخالفة، فمن ترجح عنده جانب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قد يحصل بالتبعية. "د".
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص250": "به"، وفي "ط": "فيه".(6/193)
ص -142-…عدم الموافقة منع، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين1 المخالفة لم يمنع ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة؛ فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع؛ فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه، وهو في البقاء أو الفرقة ممكن، إلا أن المضارة مظنة للتفرق، فمن اعتبر هذا المقدار منع، ومن لم يعتبره أجاز.
فصل:
وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معًا، أما في العادات؛ فهو ظاهر، وقد مر منه أمثلة، وأما في العبادات؛ فقد ثبت [ذلك] فيها.
فالصلاة مثلًا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ2 أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
وفي الحديث: "إن المصلي يناجي ربه"3.
ثم إن لها مقاصد تابعة؛ كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "عدم التعين في...".
2 هذا هو المقصود هنا للدلالة على أصل المشروعية، بدليل جعله النهي عن الفحشاء من التوابع. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عز وجل، 2/ 14/ رقم 531" عن أنس مرفوعا: "إن أحدكم إذا صلى ينادي ربه؛ فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى".(6/194)
ص -143-…من أنكاد الدنيا في الخبر: "أرحنا بها يا بلال"1، وفي الصحيح: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"2، وطلب الرزق بها، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وفي الحديث3 تفسير هذا المعنى، وإنجاح الحاجات؛ كصلاة الاستخارة4 وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله، في الحديث: "من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله"5، ونيل أشرف المنازل، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]؛ فأعطى بقيام الليل المقام المحمود.
وفي الصيام سد مسالك الشيطان، والدخول من باب الريان، والاستعانة على التحصين في العزبة في الحديث: "من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج"، ثم قال: "ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم فإنه له وجاء"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.
2 قطعة من حديث أوله: "حبب إلي..." مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح.
3 سيأتي قريبا "ص146"، ومضى أيضا "1/ 333"، وهو ضعيف.
4 لم يكن السلف الصالح يعملون بغير هذه الاستخارة المأثورة في الحديث الصحيح؛ حتى قامت طائفة ممن ألصقوا بجوهر الشريعة بدعًا سيئة؛ فوضعوا الاستخارة المنامية، ثم الاستخارة بالمصحف والسبحة ونحوها، وتفننوا في أوصافها، وذلك كله من المحدثات المكروهة، ولا ينبغي لعاقل أن يعتمد عليها في فعل شيء أو تركه، وقد نص على المنع من الاستفتاح بالمصحف أبو بكر الطرطوشي وأبو بكر بن العربي وعداه من قبيل الأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان. "خ".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلة العشاء والصبح في جماعة، 1/ 454/ رقم 657" عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.(6/195)
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 4/ 119/ رقم 1905 - والمذكور لفظه- وكتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع الباءة؛ فليتزوج"، 9/ 106/ رقم 5065، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، 9/ 112/ رقم 5066"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1018/ رقم 1400" عن ابن مسعود رضي الله عنه.(6/196)
ص -144-…وقال: "الصيام جنة"1.
وقال: "ومن كان من أهل الصيام؛ دعي من باب الريان"2.
وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة3 للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها وسواها، وهي تابعة؛ فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم؛ فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام أو الخاص، وضده كطلب المال والجاه؛ فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي، بل هو على خلاف ذلك، والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام، وسائر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب فضل الصوم، 4/ 103/ رقم 1894، وباب هل يقول إني صائم إذا شُتم، 4/ 118/ رقم 1904"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 806" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، 4/ 111/ رقم 1896"، مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 808/ رقم 1152" من حديث سهل بن سعد مرفوعا: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم؛ أغلق فلم يدخل منه أحد".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا..."، رقم 3666"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم 1027" من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أنفق زوجين في سبيل الله..."، وفيه: "ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".
3 في "ط": "كلها توابع".(6/197)
ص -145-…ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ، وينبغي تحقيق النظر فيها، وفي الثاني المقتضي لعدم التأكد، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينًا، وما لا يقتضيه عينًا.
وأيضا؛ فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع وحلًى يحليه بها، وأول ذلك الثواب في الآخرة، من الفوز بالجنة والدرجات العلى، ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته؛ كان التعبد لله من جهته صحيحًا، لا دخل فيه ولا شوب؛ لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء؛ فقد مر الكلام عليه.
ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد أو يعظم أو يعطى؛ فهذا عامل1 على الرياء، ولا يثبت فيه كما تقدم.
وأيضا؛ فإن عمله على غير أصالة؛ إذ لا إخلاص فيه فهو عبث، وإن فرض خالصا لله لكن قصد به حصول هذه النتيجة؛ فليس هذا القصد بمقوٍ للإخلاص لله، بل هو مقو لترك الإخلاص.
اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء؛ فيسأل من الله العطاء، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس؛ فلا إشكال في صحة هذا؛ فإنه عمل مقتضٍ لما شرع له التعبد2 ومقوٍ له، وأصله قول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الخصوع لله والانتصاب على قدم الذلة بين يديه. "د".
2 في الأصل: "الحامل".(6/198)
ص -146-…وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه؛ أمرهم بالصلاة"1 لأجل هذه الآية؛ فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله.
وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي2 وشيخه فيمن أظهر علمه لتثبت عدالته، وتصح إمامته، وليقتدى به إذا كان مأمورًا شرعًا بذلك لتوفر شروطه فيه وعدم من يقوم ذلك3 المقام؛ فلا بأس به عندهما؛ لأنه قائم بما أمر به، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة، بخلاف من يقصد4 [نفس] ثبوت العدالة عند الناس أو الإمامة أو نحو ذلك؛ فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة؛ لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة.
ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية أو العلم أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران5، ودليل الجواز قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله: "لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث ضعيف، ومضى تخريجه "1/ 333".
2 في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511" وغيره.
3 في الأصل و"ط": "تلك".
4 أي: ولم يكن مأمورا شرعا بذلك، بحيث فقد شرطا من الشروط السالفة. "د".
5 وهما قصد أن يحمد أو يعظم أو يعطى، والقصد الذي قبله الذي لا مانع منه، وقوله: "ودليل الجواز"؛ أي: جواز أحد القصدين وهو السابق، أما الثاني؛ فلا يختلف في منعه. "د".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء من العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر رضي الله عنهما.(6/199)
ص -147-…وانظر في مسألة "العتبية"1 فأرى أن اختلاف مالك وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين.
ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ونيل الكرامات، والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك؛ فلقائل أن يقول: إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز وسائغ؛ لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية، وأن يكون من خواص الله ومن المصطفين من الناس، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا، ولا فرق، وقد يقال: إنه خارج عن نمظ ما تقدم، فإنه تخرص على علم الغيب2، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة؛ لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11].
كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به، وصار هو قصده من التعبد؛ فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة، وإن لم يصل رمى بالعبادة، وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين، وقد روى أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المتقدمة "2/ 361"، وانظرها في "البيان والتحصيل" "1/ 498".(6/200)
2 خرق العادة باطلاع أحد الأصفياء على بعض المغيبات هو من الجائزات الداخلة تحت متعلق القدرة، ولكن الناس أكثروا من دعوى وقوعها، وتسارعوا إلى تصديق من يزعم أنه حظي بها أو يحكيها عن غيره، مع أن العناية بهذا الشأن لا تعود على الأفراد ولا الجماعات بفائدة ذات بال، وقد تعدى بعضهم في هذا الأمر حتى ادعى العلم بما ورد الحديث الصحيح مصرحا بأن معرفته تختص بالخالق، وهي الخمس المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. "خ".(6/201)
ص -148-…بعض الناس سمع بحديث: من أخلص لله أربعين صباحًا؛ ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"1؛ فتعرض لذلك لينال الحكمة، فلم يفتح له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث سئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فأجاب في "أحاديث القصاص" "رقم 35" بقوله: "هذا قد رواه الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروي مسندا من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف لا يجوز الاحتجاج بحديثه".
وصدق شيخ الإسلام؛ فإن يوسف بن عطية مجمع على ضعفه كما في "الميزان" "4/ 470"، وقال عنه البخاري: "منكر الحديث".
والحديث روي مرفوعا عن طريق مكحول عن أبي أيوب مرفوعا، رواه أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144"، وقال: "فيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن، قال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم خالف الثقات في الرويات، ولا يصح لقاء مكحول بأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في روايته عن مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث".
والحديث روي من طريق آخر مرفوعا ذكره القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 285/ رقم 325"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 145".
وفيه سوار من مصعب متروك، وقال يحيى عنه: "ليس بثقة ولا يكتب حديثه".
وله شاهد مرفوع آخر ذكره ابن عدي في "الكامل" "5/ 307" عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة؛ أخرج الله تعالى على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه".
ومن طريق ابن عدي أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144".
قال ابن عدي: "متنه منكر، وعبد الملك له غير ما ذكرت وهو مجهول ليس بالمعروف".(6/202)
قلت: عبد الملك هذا هو ابن مهران الرفاعي، قال عنه العقيلي في كتابه "الضعفاء" "3/ 134": "صاحب مناكير، غلب عليه الوهم، لا يقيم شيئا من الحديث"، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ 370"، وقال: "مجهول الحديث".
وذكره ابن حبان في "الثقات" كما في "لسان الميزان" "4/ 69".
والحديث روي مرسلا كما أشار لذلك أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189" وقال: رواه ابن =(6/203)
ص -149-…بابها، فلبغت القصة بعض الفضلاء؛ فقال: "هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله"، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ونحوها، ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك؛ فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه، ولا حض على الوصول إليه.
وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا، ثم يصير إلى حالته الأولى؟ فنزلت1:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هارون ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله "أي: من طريق مكحول"، وكذا روي مرسلا كما في "الزهد" لهناد "678"، والمروزي في "زوائد الزهد" "359"، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 231"، وقال: عن مكحول: بلغني أن النبي "وذكره".
والحديث ذكره موضوعا ابن الجوزي كما مر وتبعه الصاغاني في "الدر الملتقط" "رقم 26".
ورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة" "2/ 327"؛ فضعفه وهو الحق، وعلى هذا حكم ابن تيمية والسخاوي في "المقاصد" "395"، والسيوطي في "الدرر المنتثرة" "242"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "243"، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" "2/ 305"، والزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 8، 9/ 329، 10/ 45"، والألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 38"، وهو الصواب، لذا قال المنذري في "الترغيب": "لم أقف له على إسناد صحيح ولا حسن، وإنما ذكر في كتب الضعفاء؛ كـ"الكامل" وغيره".
وذكر الزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 7"؛ أن عبد الحق الإشبيلي صحح معنى الحديث كما في "شرح الأحكام"، والله أعلم.
1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد".
قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269"، من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به.(6/204)
وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490".
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ" عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت.
وفيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.
وأخرجه نحوه ابن جرير عن قتادة بسند رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.
وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي" "1/ 118، 119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".(6/205)
ص -150-…{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189]؛ فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال؛ لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه.
ولا يقال: إن المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته، ومن جملتها العوالم الروحانية، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس، واتساع في درجة العلم بالله تعالى.
لأنا نقول: إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات، وما في عالم الشهادة كافٍ وفوق الكفاية؛ فالزيادة على ذلك فضل، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]؛ فإن الجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها:
أن طلب الخوارق بالدعاء، وطلب فتح البصيرة للعلم به1 لا نكير فيه، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء؛ فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعًا ما لم يدعُ بمعصية، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله وإخلاص العمل له، والخضوع بين يديه؛ فلا تحتمل الشركة، ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالدعاء، يعني أن طلب ذلك بالدعاء لا نكير فيه، إنما النكير في أن يقصد هذا بالعبادة، وسيدنا إبراهيم طلب ذلك بالدعاء لا بعبادة أخرى من العبادات؛ فليس طلب الخوارق بالدعاء كطلبها بالعبادة. "د".(6/206)
ص -151-…لله في العبادة؛ لما ساغ القصد إليه بالعبادة، مع أن كثيرًا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد؛ فكيف يجعلان مثلين؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل!
والثاني:
أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله1؛ لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب؛ فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ، السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية، لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار، ولو نظر العاقل في أقل الآيات2، وأذل المخلوقات، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب؛ لقضى العجب، وانتهى إلى العجز في إدراكه3، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه؛ كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 17-18] إلى آخرها.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] إلى تمام الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على كمالات الله وتنزيهه، وقدرته الشاملة، إلى آخر ما أشار إليه، وبالتأمل يدرك الفرق بين الجوابين. "د".
2 كالنخلة، والنملة، والفراشة، وما يسمى بالمكيروبات، وغير ذلك؛ فقد ألفت المجلدات الضخمة فيما عرف لها من الخواص، واعترف علماؤها بأنهم لا يزالون في أوائل البحث. "د".
3 ينظر جملة حسنة من هذه الحكم والعجائب في "مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" كلاهما لابن القيم، و"النحلة تسبح لله"، للحمصي، و"الطلب محراب الإيمان" لخالص جلبي كنجو.(6/207)
ص -152-…ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه، ولا مأمورًا بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها؛ فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعًا، وإذا لم يكن مطلوبًا؛ لم ينبغ أن يطلب.
والثالث:
أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي؛ فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالي التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث، من المتألهين منهم ومن غيرهم، ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية، من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان، أو ما يخرج من الحيوان، إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة، ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر، كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب، كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى.
والرابع:
أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات؛ كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية؛ كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية، والمغيبات تحت أطباق الثرى؛ لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى، فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد وخراسان وأقصى بلاد الصين؛ فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات.
والخامس:
أنه لو فرض كون هذا سائغًا؛ فهو محفوف بعوارض كثيرة، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ومقصوده، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها(6/208)
ص -153-…عباده لينظر كيف يعملون1، فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء وبين مفسدة ما يعترض2 صاحبها كانت جهة العوارض أرجح؛ فيصير طلبها مرجوحًا، ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون3 من الصوفية، ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر، حتى بالغ بعضهم؛ فقال في طلب الثواب4 ما تقدم، وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ونحوها مما يقتضي وضعها5 الإخلاص التام فلا يليق به طلب الحظوظ، فإن طالب العلم بالروحانيات؛ إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها، وهذا لا يوجد، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه؛ فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية، والعجائب المبثوثة في الأرض، لا لغير ذلك، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل، من التحقق بمحض العبودية.
فإن قيل: فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ؛ فقال: ترك المعاصي، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير؛ كما في الحديث6، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر؛ فهل للإنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ" و"ط": "تعملون".
2 في نسخة "ماء/ ص252": "يتعرض".
3 في نسخة "ماء/ ص252"، و"ط": "المحقون".
4 العبارة في نسخة "ماء/ ص252": "فقال بنفي طلب الثواب، وأشد...".
5 في "ط": "وضعه".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، 6/ 48-49/ رقم 2842"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا" عن أبي سعيد الخدري ضمن حديث طويل، فيه: "فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: "كيف قلت؟". قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير رسول الله صلى الله عبالشر؟ فقال له ليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو".(6/209)
ص -154-…أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا؟ فإن قلت لا؛ كان على خلاف هذه القاعدة، وإن قلت نعم؛ خالفت ما أصلت.
فالجواب أن هذا نمط آخر، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر، فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك؛ فهذا عون بالطاعة على الطاعة، ولا إشكال فيه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45].
وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2].
ومسألة الحفظ من هذا، وأما ما وقع الكلام فيه؛ فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص.
فالحاصل1 لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويًّا ومعينًا على أصل العبادة وغير قادح في الإخلاص؛ فهو المقصود التبعي السائغ، وما لا؛ فلا، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية، وربطها، والوثوق بها، وحصول الرغبة فيها؛ فلا إشكال2 أنه مقصود للشارع؛ فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح.
والثاني3:
ما يقتضي زوالها عينًا؛ [فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينًا]4؛ فلا يصح التسبب بإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا حاصل الفصل فيما يتعلق بتوابع العبادة، وقوله: "وأن المقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام..." إلى قوله: "الجهة الرابعة" حاصل للجهة الثالثة برمتها؛ عبادتها، وعادتها. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا شك".
3 أي: ولا فرق في القسمين بين العبادات والعادات. "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/210)
ص -155-…والثالث:
ما لا يقتضي تأكيدًا ولا ربطًا، ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينًا؛ فيصح في العادات دون العبادات1، أما عدم صحته في العبادات؛ فظاهر، وأما صحته في العادات؛ فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب، ويحتمل الخلاف؛ فإنه قد يقال: إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي، وقصد الشارع التأكيد، فلا يكون ذلك التسبب موافقًا لمقصد الشارع؛ فلا يصح، وقد يقال: هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف، إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه، وإنما قصد في التسبب أمرًا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب؛ فلذلك شرع في النكاح الطلاق، وفي البيع الإقالة، وفي القصاص العفو، وأباح العزل2، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع3 لما كان كل منها غير مخالف له عينًا، ومثله4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كطلب الاطلاع على عالم الروحانيات بالعبادات على ما حققه، أما مثل قطع الشهوة بالصيام؛ فمع كونه من هذا قد أحاله على ما تقدم من طلب الحظوظ في العبادة؛ فليراجع. "د".
2 أخذ الجمهور بالأحدايث الواردة بإباجة العزل، ولكن شرطوا رضا الزوجة وإذنها بذلك؛ لأن الجماع من حقوقها، وهو لا يتم بغير إنزال، ورجح طائفة منهم ابن حزم حرمته بإطلاق متمسكين بحديث جذامة المروي في "صحيح مسلم" وهو من قوله عليه السلام حين سئل عن العزل: "ذلك الوأد الخفي"، وجروا في هذا الترجيح على قاعدة أن النص الناقل عن البراءة الأصلية يقدم على ما يوافقها، وما يستعمل في هذا العصر من وضع غلاف رقيق على عضو التناسل ليمنع من نفوذ الماء إلى الرحم يجري على هذا الخلاف، والتحقيق ما ذهب إليه الجمهور، وتسميته في حديث جذامة بالوأد الخفي يكفي في وجهها أنه مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يتهافت عليه الناس فيحرم كما لو تتابعوا على ترك النكاح من أصله. "خ".(6/211)
3 أي: فلا يعول على ما ظهر ببادئ الرأي لما كان غير مخالف عينا؛ فيكون حينئذ صحيحا. "د".
4 أي: وهذا مثل ما إذا قصد... إلخ، فمع كونه لم يقصد قصد الشارع بل قصد أمرا =(6/212)
ص -156-…ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة، ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل؛ فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم؛ فكذلك غيره مما مضى تمثيله.
وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال1 بالتسبب على تحصيل أمر، على وجه يكون التسبب فيه عبثًا لا محصول تحته شرعًا إلا التوصل إلى ما وراءه، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله، ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعًا في أصل التسبب، وأما إذا أمكن أن لا ينخرم أو أمكن أن لا يكون منخرمًا من أصله؛ فليس بمخالف للمقصد الشرعي من [كل] وجه؛ فهو محل اجتهاد، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا2، وقد تقدم الكلام فيه، والله أعلم.
والجهة الرابعة:
مما يعرف به مقصد الشارع: السكوت عن شرع التسبب3، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل أصل العبارة هكذا: "وليس من هذا المخالف لقصد الشارع بلا بد، وهو الاحتيال... إلخ"، أي: ليس من هذا النوع الذي أكد جوازه بما قرره ما يكون فيه التسبب حيلة للوصول به إلى غرض آخر، بحيث يزول ما تسبب فيه بمجرد وصوله إلى غرضه، كما تقدم في بيوع الآجال، وكالهبة للفرار من الزكاة؛ فإنه لا يعد من هذا النوع الذي فيه الكلام هنا، وهو ما لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ولا رفعه؛ لأن هذا في الحقيقة يؤدي إلى رفعه وانخرامه، وقوله: "وأما إذا أمكن" يعني: وهو القسم الثالث هنا. "د".
2 وهو ما أشار إليه كثيرا بترجمة الصلاة في الدار المغصوبة. "د".
3 أي: في الأعمال العادية؛ كتضمين الصناع، وقوله: "أو عن شرعية العمل"؛ أي: في الأعمال العبادية، كتدوين المصحف. "د".(6/213)
ص -157-…أحدهما:
أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقدر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك؛ فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم؛ كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين1 الصناع، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها؛ فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعًا بلا إشكال؛ فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل2.
والثاني:
أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان؛ فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص3؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودًا ثم لم يشرع الحكم دلالة4 عليه؛ كان ذلك صريحًا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم صناع؟ بل كان؛ فالتمثيل به غير واضح لأن الموجب إذا كان موجودا؛ فإما أن يكون قد أخذ حكما من الشارع غير ما كان جاريًا قبل، أو لا، وعلى كل؛ فهو حكم إما بإقرار ما كان موجودا أو بتعديله، فلا يظهر عده فيما نحن فيه إلا إذا كان خلا زمانه عليه السلام عما يتعلق بذلك، وهو بعيد. "د".
2 أي: في الجهة الثالثة، وهي ما لم ينص عليه وعلم بمسلك استقرى من النصوص. "د".
3 أي: فهو تقرير لنفس ما كان جاريًا واعتبار له، وأنت ترى أصل الكلام عامًا في العادي والعبادي، ولكنه ساق الكلام في هذا القسم مساق الخاص بقسم العبادة، وهو الذي يقال فيه: بدعة وغير بدعة. "د".
4 في الأصل: "ولا له"، وفي "ط": "ولا نية".(6/214)
ص -158-…الشارع؛ إذا فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه1.
ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرر هذا المعنى2 في "العتبية"3 من سماع أشهب وابن نافع، قال فيها: "وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا. فقال: لا يفعل، ليس هذا مما مضى من أمر الناس. قيل له: إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله4؛ أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم أسمع له خلافًا. فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به. فقال: نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني: قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده؛ أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا؟ إذا جاءك5 مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء؛ فعليك بذلك فإنه6 لو كان لذكر؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه"، هذا تمام الرواية، وقد احتوت على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل هذا في "الاعتصام" "1/ 360 وما بعدها، ط- رشيد رضا و1/ 468 - ط ابن عفان".
2 وهو الجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع. "د".
3 "1/ 392 - مع شرحها "البيان والتحصيل"".
4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "2/ 367 - ط دار الفكر"، والبيهقي في "سننه" "2/ 371" بسند ضعيف فيه راوٍ مبهم.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "3/ 358/ رقم 5963" -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 288/ رقم 2882"- بإسناد منقطع.(6/215)
5 هذا إلى آخر الكلام هو الزائد عن مضمون ما أجاب به أولا، وبه يظهر قوله: "بشيء آخر لم تسمعه منه"، راجع "الاعتصام" "1/ 468 - ط ابن عفان" في فصل: "ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال... إلخ"؛ تجد اختلافًا في اللفظ يؤدي إلى بعض الاختلاف في المعنى.
6 كذا في "ط" و"العتبية"، وفي غيره: "لأنه".(6/216)
ص -159-…فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم.
وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا: إنها "فعل ما سكت الشارع عن فعله، أو ترك ما أذن في فعله"، أو تقول: "فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه، أو ترك ما أذن في فعله، أو أمر خارج عن ذلك"1؛ فالأول كسجود الشكر عند مالك، حيث لم يكن ثم دليل على فعله2، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات3، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات4، والثاني كالصيام من ترك الكلام، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة، والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة.
وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي، فلا يصح بحال5؛ فكونه بدعة قبيحة بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإشارة لفعل ما سكت عنه وترك ما أذن فيه؛ فإن إيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ليس مما سكت عنه الشارع، بل هو ضد لما نص عليه الشارع، وقوله: "أو أمر خارج عن ذلك"، هذا ما زادت به العبارة عن سابقتها. "د".
2 استحب الإمام الشافعي سجدة الشكر، وقال أحمد: "لا بأس بها"، وقال إسحاق وأبو ثور: "هي سنة"، وكره النخعي ذلك، وزعم أنه بدعة، وكره ذلك مالك والنعمان، قاله أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص189 - بتحقيقي". وانظر لزاما: "الأوسط" "5/ 287-289" لابن المنذر.
3 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي "1/ 473-475 - ط ابن عفان".
4 انظر في بدعية ذلك: "السنن الكبرى" "5/ 118" للبيهقي، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص149"، و"مجموع الفتاوى" "11/ 298، 576، 629"، و"منية المصلي" "573"، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي "ص115-117"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص117-119 - بتحقيقي"، و"البدع والنهي عنها" "ص46-47"، و"الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" "ص181-185 - بتحقيقي"، و"حجة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص128".
5 انظر في ذلك: "الاعتصام" "2/ 610-611 - ط دار ابن عفان".(6/217)
ص -160-…وأما الضربان الأولان -وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه-؛ فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع؟ وهما لم يتواردا1 مع المشروع على محل واحد، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة2، والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع، ولا لوضع الأعمال، أما القصد؛ فمسلم بالفرض3، وأما الفعل؛ فلم يشرع الشارع4 فعلا نوقض بهذا العمل المحدث، ولا تركًا لشيء فعله هذا المحدث؛ كترك الصلاة، وشرب الخمر، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع، والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة [ولا موافقة]، ولا يفهم5 للشارع قصدًا معينًا دون ضده وخلافه، فإذا كان كذلك؛ رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح؛ فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا؛ فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لا مشروع في هذه الفرض، وهو توجيه لإنكار الأمرين معا. "د".
2 أي: التي لم يرد من الشارع فيها نص أو دليل بخصوصها، فهي مرسلة عن الدليل. "د".
3 لأن فرض الكلام أنه وجد المقتضى للفعل مثلا أو للترك، كحصول النعمة المستحقة للشكر في سجوده؛ فلا مخالفة للقصد، لما علمناه سابقا في "الجهة الثانية مما يدل على قصد الشارع". "د".
4 أي: وهو أصل الفرض أيضا. "د".
5 هذه الزيادة لا حاجة إليها هنا؛ لأنه وإن كان المسكوت لا يفهم للشارع قصد معين فيه، ولكن أصل الموضوع أن قصد الشارع في هذه المسائل مسلم أنه يوافق البدعة؛ كشكر النعم المطلوب بوجه عام في موضوع سجود الشكر، وأن المقتضى موجود ولكنه لما لم يشرع له الحكم؛ دل على أنه لا زائد عما هو مقرر فيه، ولا يعزب عنك أن المصالح المرسلة إنما تجري في غير العبادات. "د".(6/218)
ص -161-…أيضا؛ فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى1؛ فما وجه ذم هذه ومدح هذه؟ ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص.
وتقرير الجواب ما ذكره مالك، وأما السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا -إذا وجد المعنى المتقضي للفعل أو الترك- إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان، وهو غاية في [تحصيل] هذا المعنى.
قال ابن رشد2: "الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين -يعني سجود الشكر- لا فرضا ولا نفلا؛ إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله3، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المصلحة والحكمة؛ لأن الفرض أن الجميع فيه المصلحة التي عرف اعتبار الشاع لها، وأي فرق بين سجود الشكر وجمع المصحف، أو بين الاجتماع للدعاء أدبار الصلوات وتدوين العلم؟ وكلاهما عون على الخير. "د".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 393".
3 في هذا الإطلاق نظر كبير؛ إذ أخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، 3/ 89/ رقم 2774"، والترمذي في "جامعه" أبواب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر، 4/ 141/ رقم 1578"- وقال: "هذا حديث حسن غريب" و"العمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا سجدة الشكر"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، 1/ 446/ رقم 1394"، وأحمد في "المسند" "5/ 45"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 291"، وابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287/ رقم 2880"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 34" عن أبي بكرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شيء يسره، أو جاءه سرور خر ساجدا لله.(6/219)
وهو حديث حسن، وله شواهد عديدة وكثيرة، وقد أثر عن علي وكعب بن مالك كما سيأتي عند المصنف "ص270"، ولذا قال ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287" بعد أن سرد الأقوال: "وبالقول الأول - أي: مشروعية سجود الشكر- أقول؛ لأن ذلك قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك؛ فليس لكراهية من كره ذلك معنى".
وقال شيخنا الألباني في "الإرواء" "2/ 226-232" بعد أن خرج الأحاديث والآثار في ذلك: "وبالجملة؛ فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذا الأحاديث، لا سيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح رضي الله عنهم".
قلت: وتفصيل المشروعية تجده في "الخلافيات" للبيهقي "مسألة رقم 116"، يسر الله إتمام تحقيقه بخير.(6/220)
ص -162-…أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه".
قال: "واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لوكان لنقل صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمروا بالتبليغ".
قال: "وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول، مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر"1 لأنا نزلنا2 ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها؛ فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها"3، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه، والمقصود4 من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 155"، وهو صحيح.
2 في "البيان والتحصيل": "أنزلنا".
3 ولكن المقدمة الأولى غير صحيحة؛ كما بيناه ولله الحمد. وفي "ط": "فيها:، وفي غيره: "فيه".
4 أي: مقصود المؤلف من نقل ما ذكر عنه في السؤال والجواب معرفة طريقته في توجيه وبيان معنى كونها بدعة، يعني ليأخذ منه القاعدة العامة التي يريد تأصيلها هنا، وهو أن البدعة ما كان المقتضى لها موجودا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع لها حكما زائدا؛ فيعلم أن السكوت دليل على أن قصده الوقوف عند هذا الحد، وليس غرض المؤلف العناية ببيان أن سجود الشكر بدعة، بل الذي يعنيه هو طريقة مالك في بيان بدعيتها، وكأن هذا شبه تبرؤ من تأييد كونها بدعة للأحاديث الواردة في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرا، راجع "المنتقى" في باب السهو. "د".
قلت: ونحوه في "الاعتصام" "1/ 466-471/ ط ابن عفان".(6/221)
ص -163-…وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل أنها بدعة منكرة، من حيث وجد في زمانه عليه الصلاة والسلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين، بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة1 على رجوعها إليه؛ دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها2، وهو أصل صحيح، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها، ودل على أن وجود المعنى المتقضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع؛ فبطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم "1/ 431".
2 صرح الشيخ ابن تيمية في "فتاويه" بأن التحليل بدعة مستندا إلى هذا الوجه الذي لوح إليه المصنف، وهو أن التحليل لو كان جائزا، لدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم بمياسير الأمور، وقال: "من علم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعًا أنه ليس من الدين، وهذه قاعدة محكمة لو تحراها علماء الإسلام؛ لما وجدت البدع المكروهة وكثير من الفتاوى السخيفة إلى تلويث جانب الشريعة سبيلا". "خ".
قلت: وصرح بهذا المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" أيضا.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 98-285".(6/222)
ص -164-…[بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم]1
كتاب الأدلة2 الشرعية:
والنظر فيه [فيما]3 يتعلق بها على الجملة، وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس4؛ فالنظر إذا يتعلق بطرفين5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م" و"ط".
2 قال ماء: "الأدلة جمع دليل، وهو ما يتوصل به إلى المقصود -أي: المنسوب- إلى الشرع".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م"، وسقطت "فيه" من "ط".
4 هذه أدلة شرعية من حيث ما صدقاتها "كذا" الجزئية المتعلقة بالأحكام، والأصولي يبحث عنها من حيث الإجمال، ولا تذكر في"فالنظر إ ها بخصوصها إلا على ضرب من التمثيل والإيضاح. "ف".
5 في "ط": فالنظر إذًا في طرفين".(6/223)
ص -167-…الطرف الأول: في الأدلة على الجملة
النظر الأول: في كليات الأدلة على الجملة
والكلام فيها "أ" في كليات1 تتعلق بها، و"ب" في العوارض اللاحقة لها.
والأول يحتوي على مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسيذكرها في أربع عشرة مسألة، وقوله: "وفي العوارض"، وسيذكرها في خمسة فصول: الإحكام والتشابه، الإحكام والنسخ، الأمر والنهي، العموم والخصوص، البيان والإجمال. "د".(6/224)
ص -171-…المسألة الأولى1:
لما انبنت الشرعية على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة2 في أبواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة تعتبر أُمًّا لجميع المسائل الأصولية المتعلقة بالأدلة الشرعية، بين بها شدة ارتباط هذه المسائل الأصولية بالأدلة الشرعية التفصيلية والقواعد الشرعية، بحيث لا يمكن استغناء المستنبط للأحكام عن النظر للأمرين معا؛ فلا يستغنى بالنظر في الجزئيات -أي الأدلة التفصيلية- عن النظر في الوقت نفسه للقاعدة الأصولية التي تعتبر كلية لها ليعرف بها هذا الجزئي من أي مرتبة هو، وما مقصد الشارع في مثله؟ كما أنه لا يستغنى بالكلية فيجريها في الجزئيات دون أن ينظر في الدليل الخاص بهذه الجزئية الوارد من الكتاب والسنة وما معهما، وقد ساق المصنف تمهيدا لذلك أول المسألة، ثم بين وجه حاجة الجزئيات إلى الكليات بقوله: "وإذا كان كذلك... إلخ"، ثم بين عدم استغناء الكليات عن الجزئيات بقوله: "وكما أن... إلخ"، ومد النفس في هذا الجانب؛ لأنه موضع التوهم لمخالفته المألوف في مثله. "د".
2 "وذلك أن الله تعالى لما اقتضت حكمته الأزلية سعادة الخلق في الأولى والآخرة، ناطها بأحكام معقولة التناسب، ورتب عليها مصالح كفيلة بذلك". "ف".(6/225)
وكتب "د" ما نصه: "أي: إن المراتب الثلاثة لا تخلو منها جزئية من مسائل الشريعة وفروعها، وأدلتها الشرعية التفصيلية مستغرقة لهذه الفروع والجزئيات، لا فرق بين ضروريات الدين وحاجياته وتحسيناته، ولا بين الأمور العادية والعبادية؛ فلا فرق في ذلك بين الصلاة والبيع والقضاء وغيرها، ولا بين قاعدة الغرر وقاعدة الربا مثلا، والغرض التعميم، وأن الأدلة التفصيلية عامة شاملة، إن لم تكن من الكتاب؛ فمن السنة أو الإجماع أو غيرهما من الاستحسان والمصالح المرسلة باعتبار الجزئيات في تلك الأدلة؛ فهذه كلها أدلة تفصيلية تتعلق بجزئيات المراتب الثلاث المذكورة، وكما أن الأمر هكذا في الأدلة التفصيلية؛ فهو كذلك أيضا في كلياتها التي أخذت من استقرائها، هي أيضا عامة لكل ما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، لا تخص أدلة تفصيلية تتعلق ببعض المراتب دون بعض، ولا بعض القواعد الشرعية دون بعض، بل إنها كليات عامة تقع على جميع الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المسماة جزئيا إضافيا؛ فتضبط مقاصدها ويتزن بها طريق إجرائها والعمل بها، فكما أن الجزئيات التي هي الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المذكورة مبثوثة في جميع فروع =(6/226)
ص -172-…الشريعة وأدلتها، غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، ولا بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر الشرعي فيها أيضا عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كليات تقضي على كل جزئي1 تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا2 أم حقيقيا3؛ إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة، وقد تمت؛ فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره؛ فهي الكافية في مصالح الخلق عموما وخصوصا؛ لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}4 [المائدة: 3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المراتب الثلاث؛ كذلك هذه الكليات المأخوذة من استقرائها قاضية على كل الجزئيات وعلى أفراد الأدلة التفصيلية التي تندرح تحتها؛ فلا يتأتى أن يفقد بعض تلك الكليات حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره لأن ذلك إنما يعقل في فروع الأحكام لا في أصولها، وإلا؛ لما كانت الشرعية تامة. وهنا يخطر السؤال الذي يريد المؤلف أن يجعل هذه المسألة لتحقيقه، وهو أنه هل يصح إذًا للمجتهد ألا ينظر في الجزئيات والأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام ويكتفي بالكليات، كما هو الشأن في قواعد اللغة مثلا، يجري التطبيق في كل فاعل على أنه مرفوع عند قراءة كلام العرب، بدون نظر إلى أن هذا الفاعل بخصوصه ورد عن العربي المتكلم به مرفوعا؟ وهكذا يكون الشأن هنا؛ فيقال مثلا: إن هذا الجزئي إن كان ضروريا قدم على الحاجي، وإن كان حاجيا قدم على ما بعده، والضروريات نفسها ما كان منها متعلقا بالدين قدم على المتعلق بالنفس، وهذا يقدم على ما بعده منها، وهكذا؛ فيستغنى بالنظر في الكليات عن النظر في الدليل الشرعي الخاص على طبق قواعد النحو مثلا، وكذلك يستغنى عن النظر في الجزئيات الإضافية اكتفاء بالكليات؟(6/227)
فكان الجواب عن السؤال أن الأمر ليس على ما يظن، بل لا بد منهما معا كما بسطه، ولما كانت هذه المسألة كأصل عام في كتاب الأدلة جعلها فاتحة مسائل هذا الباب؛ فلله درّه ما أسد نظره، ولقد صدق فيما يقول بعد: "إن النظر في هذه الأطراف فيه جملة الفقه"، وسيأتي لهذا المبحث بقية في كتاب الاجتهاد في المسألة الثالثة عشرة".
1 في "ط": "جزء".
2 أي كما قال: "ولا بقاعدة دون قاعدة". "د".
3 كذا في "د"، وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط": "أو حقيقيا".
4 المراد بذلك بيان ما لزم بيانه وما يستنبط منه غيره، كالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد؛ فكل ما يستنبطه المجتهدون ويخرجه العلماء الراسخون من أحكام الوقائع مأخوذ من الكتاب والسنة، وإليهما يرجع الإجماع. "ف".
قلت: انظر في تفسير الآية: "الاعتصام" للمصنف "2/ 816-817 - ط دار ابن عفان".(6/228)
ص -173-…وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وفي الحديث: "تركتكم على الجادة"1 الحديث.
وقوله: "لا يهلك على الله إلا هالك"2.
ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر وإيضاح السبيل.
وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات3 وهي أصول الشريعة؛ فما تحتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه رزين في "جامعه" المسمى "التجريد للصحاح الستة"، كما في "جامع الأصول" "1/ 293" لابن الأثير -وقد نقل هذا الكتاب مفرقا على أبوابه، كما صرح "1/ 55"- عن علي رضي الله عنه قوله، وتتمته: "منهج عليه أم الكتاب"، وانفرادات رزين من مظان الضعف، وورد حديث فيه: "تركتكم على البيضاء"، سيأتي تخريجه "4/ 133، 135"، وهو صحيح.
قال "ماء": "الجادة: معظم الطريق، وقيل: وسطه، وقيل: هي الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق ولا بد من المرور عليه".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، 1/ 118/ رقم 131 بعد 208" عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، وأوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات..."، وأصل الحديث -دون القطعة المذكورة- في "صحيح البخاري" "رقم 6491".
ومعنى: "لا يهلك على الله إلى هالك" أي: من أصر على التحري على السيئة عزمًا وقولًا وفعلًا، وأعرض عن الحسنات همًّا وقولًا وفعلًا، قاله ابن حجر في "الفتح"، وفي "م": "إلا الهالك".
3 أي: الحقيقة؛ كنصوص الأدلة التفصيلية، أو الإضافية؛ كالقواعد الكلية التي تندرج تحت كليات المراتب الثلاث الأعم منها؛ فلذا قال: "وهي أصول الشريعة فما تحتها". "د".(6/229)
ص -174-…مستمدة1 من تلك الأصول الكلية، شأن2 الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجوادات؛ فمن الواجب اعتبار3 تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي4 معرضا عن كليه؛ فقد أخطأ5.
وكما أن من أخذ بالجزئي6 معرضا عن كليه؛ فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه.
وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما7 هو من عرض الجزئيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الأدلة الشرعية وما أخذ عنها من القواعد إنما جاء تقريرًا وتفصيلًا للمقاصد الشرعية العامة في المراتب الثلاث، وكل ما جاء من ذلك لاحظ فيه الشارع المحافظة على هذه المراتب، التي بحفظها ينتظم أمر المعاش والمعاد. "د".
2 أي: أن تكون متفرعه عنها، داخلًا في قوامها ما اعتبر مقومًا لهذه الأنواع. "د".
3 أي: بالتحقق من اندراجها تحتها، بحيث لا يحصل اشتباه ما يدخل تحت الضروري بما يدخل تحت المرتبتين الأخريين، وإلا؛ لما صح الحكم على الجزئي. "د".
4 حقيقي أو إضافي؛ أي: سواء أكان دليلًا خاصًا من الكتاب وما معه، أم كان قاعدة مما يندرج تحت كلي أعم منه؟ "د".
5 أي: قد يدركه الخطأ، وإلا فقد يصادف الثواب؛ فكثيرًا ما يستدل الشخص بحديث على جزئي، ولا يلتفت لكليه ويصادف الصواب، أو يقال: أخطأ في طريق الاجتهاد، وإن لم يخطئ النتيجة. "د".
6 في الأصل و"ف": "أخذها لجزئي"، وقال "ف": "لعل المناسب: كما أن من أخذ به في جزئي معرضًا إلخ...".
قلت: وما في "د" هو الصواب.
7 هذا بالنسبة لنفس المستقرئ المثبت للكلي، أما بالنسبة لغيره الذي أخذ العلم بالكلي بعد ما تم استقراؤه من غيره؛ فلا يقال فيه ذلك، إلا بواسطة من أخذ عنه الكلي، أما بالنسبة إليه هو؛ فلا توقف. "د".(6/230)
ص -175-…واستقرائها؛ [وإلا] فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات؛ فإذًا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف1 مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي2 هو مظهر العلم به.
وأيضا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئيا؛ إلا لكون3 الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض4، ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته5 للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما6 نأخذه من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي7 لم يأخذه المعتبر جزءًا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع إلى الوجه الأول من البيان. "د".
2 راجع إلى الوجه الثاني منه، وكلاهما لا يخلو من نظر. "د".
3 ظاهر بالنسبة للجزئي الإضافي. "د".
4 أي: الإعراض عن الجزئي مع اعتبار الكلي تناقض؛ لأن الإعراض عن الجزئي إعراض عن الكلي بمقتضى تقريره؛ فيكون اعتبارا للكلي وإعراضا عنه معا، وهو تناقض. "د".
5 بحيث لا يرد إليه بالطريق المؤدي إلى تعرف أنه جزئيه ويندرج فيه. "د".
6 بما قدمناه لا يذهب عليك صحة عباراته المتبادر منها التناقض، حيث يقول تارة: "الجزئي مستمد من الكلي شأن الجزئيات مع أنواعها"، وتارة يقول: "الكلي مأخوذ من الجزئي"، وكل صحيح بالمعنى المتقدم في كل منها. "د".(6/231)
7 أي: من كليه الحقيقي، وقوله: "لم يأخذه المعتبر جزء منه"؛ أي: مما ادعى أنه كليه، يعني: فلا يكون هو كليه. "د".(6/232)
ص -176-…لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك1، الجزئي كذلك أيضا؛ فلا بد من اعتبارهما معا2 في كل مسألة.
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، [إذ كلية]2 هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع3، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي. فإن قيل: الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها أو أكثرها، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي لأن الاستقراء قطعي إذا تم4 فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء5، وفرض مخالفته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأن اعتبار الكلي وملاحظته عند النظر في الجزئيات إنما يقصد منه المحافظة على مقاصد الشارع، ولا يكون ذلك دون النظر للجزئي أيضا. "د".
2 سقطت من "ط".
3 أي: مما تضمنته القواعد، وإذًا؛ فالقواعد معتبرة لم يهدمها هذا النص في هذا الجزئي، ولكن هذا لا يقضي باعتبار الكلي وحده مطردًا ويلغي الجزئي؛ فلا بد من اعتبار الكلي في غير موضع المعارضة حتى لا يهدر الكلي ولا الجزئي، وسيأتي له بيان وتمثيل. "د".
4 قال بعضهم: "وتمامه بالنظر في الأدلة الجزئية، وما انطوت عليه من الوجوه العامة على حد التواتر المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة ينضاف بعضها إلى بعض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، وتقدم أن الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي العام، وأن تخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا؛ لأنه إذا خرج عن ضروري مثلا، فإنما يخرج لحاجي أو كمالي لعارض لا لذاته، ولا يتجاوز الأصول الثلاثة" ا. هـ. "د".
قلت: قوله: "قال بعضهم..." هو "ف".
5 في "ط": "عماء".(6/233)
ص -177-…غير صحيح، كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية؛ لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان؛ فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف، وجد أو لم يوجد؛ فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلي من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات؛ فليس بجزئي له كالتماثيل وأشباهها، فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين أو النفس أو النسل1 أو المال أو العقل في الضروريات معتبر2 شرعا، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة؛ حصل لنا القطع بحفظ ذلك، وأنه المعتبر حيثما وجدناه؛ فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان، لا يخالفه على حال؛ إذ لا يوجد بخلاف ما وضع، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا3 كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي؟
فالجواب: أن هذا صحيح على الجملة، وأما في التفصيل؛ فغير صحيح، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر، فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة؛ فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها؛ فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة؛ فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة4 نفسها، كما قالوا في القتل بالمثقل: إنه لو لم يكن فيه قصاص؛ لم ينسد باب القتل بالقصاص، إذا اقتصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النسب".
2 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "معتبرا".
3 بحيث تكون الأشياء يجمعها كلي واحد، وتكون من وادٍ واحد، ومع ذلك تتعارض أحكامها وتتنافى، وذلك غير واقع في الشريعة قطعًا. "د".
4 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "للعادة"، وقال: "ف": "لعله للقاعدة"، وفي "ط": "الإطلاق وهو إما للقاعدة...".(6/234)
ص -178-…به على حالة واحدة وهو القتل بالمحدد، وكذلك الحكم في اشتراك1 الجماعة في قتل الواحد، ومثله2 القيام في الصلاة مثلا مع المراض وسائر الرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قاد عمر من خمسة أو سبعة في رجل واحد قتلوه غيلة؛ لأنه رضي الله عنه أدرك جهة حفظ النفس بالقصاص، وأنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لم ينسد باب القتل بحكم القصاص، وهذه قد يقف العقل دونها؛ فيفهم أن قتل سبعة بشخص واحد ليس حفظًا للنفس؛ فهذا اجتهاد عمر حيث قال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا" لأنه فهم جهة الحفظ التي قد يقف فيها غيره، على أنه رضي الله عنه كان مترددًا فيه حتى قال له علي: أرأيت لو اشترك جماعة في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال: نعم. قال: فكذا هنا"؛ فحكم بالقتل، أما القتل بالمثقل فقد ورد فيه قصة اليهودي الذي قتل الجارية على أوضاح لها بحجر، فرضخ رسول الله رأسه بحجرين قتل بهما؛ فانظر وجه ذكره مع أنه منصوص، ثم لا يتوهم فيه عدم القصاص لمانع يرجع لحفظ النفس، وكذلك قال ابن الحاجب: "إنه ثبت بالقياس على المحدد"، وكأنه لم يكتفِ بالنص الذي أشرنا إليه في الحديث لمانع في الحديث، ولا يعترض بأنه من باب القياس في الأسباب، وهو ممنوع؛ لأن السبب الواحد وهو القتل العمد العدوان؛ فلا قياس في السبب. "د".
قلت: أثر عمر أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟ 12/ 227/ رقم 6896" بسنده عن نافع عن ابن عمر؛ أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم"، ثم قال: "وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه، إن أربعة قتلوا صبيًّا؛ فقال عمر.... مثله".(6/235)
قلت: وصل نحوه عبد الرزاق في "المصنف" "18075، 18077"، والخطابي في "الغريب" 2/ 83-84"، ومالك "2/ 192"، والبيهقي "8/ 40-41"، وانظر: "تغليق التعليق" "5/ 252"، و"تحفة الطالب" "ص435"، والمعتبر" "ص218-219"، و"موافقة الخبر الخبر" "2/ 419-421"، و"فتح الباري" "12/ 227-228"، و"الاعتصام" للمصنف "2/ 623-624 - ط ابن عفان"، أما قصة اليهودي؛ فسيأت تخريجها.
2 فالمحافظة على الضروري وهو الدين هنا في الصلاة مثلًا إذا جرى الأمر فيها لنهايتها، ولو أدى إلى المشقة الفادحة محافظة على هذا الضروري ما كان يرخص في القعود مثلا للمريض، ومثله يقال في فطر رمضان للمريض القادر بمشقة، فلو لم ينص الشارع على هذه الجزئيات ويلتفت إليها في الاستنباط، وأكتفي بأصل الحفظ للضروري لما كان هذا الترخص، ولو لم يكن لأدى إلى الضيق والحرج المرفوع قطعًا؛ فقد نظر إلى قاعدة الحاجيات في هذه المسائل مع أنها في موضوع الضروريات. "د". وفي "ط": "ومثله القائم...".(6/236)
ص -179-…الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي؛ إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات، ومثل ذلك المستثنيات1 من القوعد المانعة؛ كالعرايا، والقراض، والمساقاة، والسلم، والقرض، وأشباه ذلك، فلو اعتبرنا الضروريات كلها2؛ لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات3 أيضا، فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها؛ كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات؛ فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضها ويخصص بعضها بعضا، فإذا كان كذلك؛ فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها.
وأيضا؛ فقد يعتبر الشارع من ذلك4 ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا بناء على أن البيع والإجارة من الضروري، ولم يجر المحافظة على الضروري فيهما للنهاية، بل أعملت قاعدة رفع الحرج التي هي الخاصية للحاجيات؛ فاستثنيت من القواعد التي تقتضي منعها كالغرر في القراض والمساقاة، وهكذا. "د".
2 أي: بحيث نلتزم الوفاء بها في كل جزئياتها لأجل ذلك بالحاجيات في كثير من جزئياتها؛ فيقع الحرج المنبوذ في الشريعة، وقد يخل ذلك بالضروري نفسه. "د".
وكتب "ف": "لعله "في كلها"؛ أي: كل الجزئيات". وفي "ط": "فلو اعتبرت الضروريات بكلياتها"، وهو الصحيح.
3 أي قد يؤدي الأخذ بالمحافظة على ضروري إلى الإخلال به نفسه أبو بضروري آخر مثال الأول إذا لم نبح التيمم للمريض خشية المرض أو زيادته؛ فقد يؤدي الوضوء إلى شدة المرض حتى لا يستطيع الصلاة رأسًا، أو لا يستطيعها بالمقدار الذي يستطيعه لو تيمم، ومثال الثاني ظاهر. "د".
وكتب "ف": "لعله "بل بالضروريات"؛ فأو بمعنى بل".
4 أي: من المحافظة على المراتب في جزئياتها ومواردها ما يشتبه أمره على العقل ولا يعرف جهة الحفظ فيه إلا بالنص. "د".(6/237)
ص -180-…وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات؛ لأن العقلاء في الفترات1 قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء2 بمقتضى أنظار عقولهم، لكن على وجه لم يتجهوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعًا، والمصلح تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد؛ فجاء الشارع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين [وفي كل حال]، وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة، كما في استثناء العرايا ونحوه، فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق؛ لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع، ولأنه من جملة المحافظة على الكليات؛ لأنها يخدم بعضها بعضًا، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح، والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن3 هذا على الكمال.
فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وهو منتهى4 نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم5 في مرامي الاجتهاد.
وما قرر في السؤال على الجملة صحيح؛ إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأزمنة بين بعثة الرسل. "ف".
2 الضروريات ومكملاتها. "د".
3 فإذن لا بد من الرجوع لجزئيات الأدلة، وهي النصوص والأقيسة، ولا يمكنه الاستغناء عنها بالكليات كما يستغنى بكل فاعل مرفوع عما جاء في رواية تفاصيل كلام العرب مثلا. "د".
4 إذ يجمعون بين النظر للدليل الخاص وبين كليه المندرج تحت المراتب الثلاثة، فيصلون بذلك لمعرفة مقصد الشارع في مثله على العموم؛ فينضبط به قصده بهذا الدليل الخاص على وجه الخصوص. "د".
5 بفتح الطاء واللام؛ أي: سيرهم. "ف".(6/238)
ص -181-…والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة؛ فإن1 الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات، وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره؛ فالكلي صحيح في نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج، ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي أو عدم جريانه، وينظر2 في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما3 لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب، وكذلك4 بالعكس؛ فالشارع هو الطبيب الأعظم، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس، وتبين للأطباء5 أنه شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه، حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار؛ فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة، بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره، مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط؛ فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية، وحكموا6 بها على الجزئي، واعتبروا الجزئي7 أيضا في غير الموضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بأن"، وفي "ط": "كما أن".
2 فالطبيب يعرف أن مرض كذا مشخصاته كذا ودواؤه كذا، ولكن هل الشخص الذي يعالجه توجد فيه الخواص اللازمة لهذا المرض، هذا نظره الأول، فإذا وجدها كذلك وعرف أن الكلي متحقق فيه، لا بد له من النظر للجزئي أيضا نظرة ثانية: أليس عنده من المقارنات لهذا المرض ما يمنع من هذا الدواء؛ فيخفف، أو يمزج بغيره، وهكذا ينظر فيما يرد هذا الجزئي الخاص إلى ما يناسبه من كلي الأدوية؛ فلا يجري عليه الدواء المعروف لكلي المرض بمجرد أنه دواء لكلي مرضه، بل لا بد من النظر في حالة الشخص أو لا؛ فكذا الأمر هنا، وقد أحسن كل الإحسان في التمثيل. "د".
3 في "ط": "فكلما".(6/239)
4 في "ف" و"م": "فكذلك".
5 في "ط": "للأطباء فيه".
6 فقالوا: إنه شفاء قطعًا. "د".
7 فبهذا الجزئي من التجرية في بعض الأشخاص وإحداثه الضرر، قالوا: إن الكلي لا يجري اطراده على استقامة؛ فيستثني موضع المعارضة وهو أصحاب الصفراء مثلا؛ فقد أعملوا كلا منهما. "د".(6/240)
ص -182-…المعارض1؛ لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء، فمن لم يكن كذلك؛ فهو له شفاء، أو فيه له شفاء.
ولا يقال: إن هذا تناقض لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي وعدم اعتباره معا؛ لأنا نقول: إن ذلك من جهتين2، ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل3 جزئي وفي كل حال4، بل المراد بذلك أنه يعتبر5 الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه كالعرايا وسائر المستثنيات، ويعتبر الكلي6 في تخصيصه للعام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العارض".
2 فعدم اعتباره من حيث ذاته مع ذات الكلي؛ لأنه لا يتأتى وهو جزئي أن يخالف حكم الكلي، ولكن من حيث أمر خارج عنه قد يخالف حكمه، كما قيل في المرض المقترن به علة أخرى؛ فإنها تجعله ينظر فيه بنظر آخر كالصفراء في المثال. "د".
3 أي: بل بعض الجزئيات في بعض الأحوال قد يأخذ حكمًا غير حكم الكلي. "د".
4 لعله: "أو في كل حال" بدليل ما بعده. "ف".(6/241)
5 معنى اعتبار الجزئي الأخذ بالدليل الخاص وإن خرج عن حكم الكلي الذي هو القاعدة الأصولية التي أخذت من الاستقراء للأدلة، ومعنى اعتبار الكلي تخصيصه للدليل الشرعي التفصيلي العام أو تقييده لمطلقه، كما في المثال السابق، حيث أعملت القاعدة الكلية وهي امتناع أن يأتي في الشرعية خبر بخلاف مخبره؛ فقيدوا بها المطلق الوارد في نفع العسل من مرض الإسهال، بحيث لا يكون إخلالًا بالدليل المطلق أو العام الوارد في هذا الجزئي، وهو جزئي نفع العسل في الإسهال، ولا يشتبه عليك الأمر فتفهم أن كلمة العام تنافي كلمة الجزئي المجعول صفة له؛ لأن عمومه جاء له من كون الدليل الشرعي التفصيلي الوارد فيه من آية أو حديث ورد بلفظ عام، وجزئيته جاءت له من كونه متعلقا بجزئي؛ كصلاة، أو زكاة، أو بيع، أو نكاح، أو داوء مرض كمثاله، بخلاف أصل القاعدة الأصولية؛ فإنها لا تخص بابًا دون باب؛ كقاعدة "الأمر بالشيء ليس أمرًا بالتوابع" مثلا، وبه يتبين أن العبارة كلها محررة. "د".
6 تحريره: "يعتبر الجزئي في تخصيصه للعام الكلي"! "ف".
قلت: هامش "د" السابق فيه رد على هذا، وفي الأصل: "... في تخصيصه للعالم -كذا- الجزئي".(6/242)
ص -183-…الجزئي، أو تقييده لمطلقه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يكون إخلالًا بالجزئي على الإطلاق، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل؛ فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ مَن أخطأ، وحقيقته1 نظر مطلق في مقاصد الشارع، وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب؛ فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا بد من النظر المطلق في مقاصد الشرع بواسطة الكليات، ولا بد من تتبع النصوص أيضا مع ذلك وهي الجزئيات، وبالأمرين معًا تصدر من الناظر صور صحيحة الاعتبار عند الشارع، وما أصعب هذا العمل! وبه يعرف المدعون للاجتهاد من هؤلاء أشباه العوام قيمة دعواهم. "د".(6/243)
ص -184-…المسألة الثانية:
كل دليل شرعي؛ إما أن يكون قطعيًّا1 أو ظنيًّا، فإن كان قطعيًّا؛ فلا إشكال في اعتباره؛ كأدلة وجوب الطهارة من الحدث، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتماع الكلمة، والعدل، وأشباه ذلك، وإن كان ظنيًّا؛ فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي؛ فهو معتبر أيضا، وإن لم يرجع؛ وجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول بقبوله، ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلا [قطعيا]، وقسم لا يضاده ولا يوافقه؛ فالجميع أربع أقسام.
فأما الأول:
فلا يفتقر إلى بيان.
وأما الثاني:
وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي؛ فإعماله أيضا ظاهر، وعليه عامة [إعمال]2 أخبار الآحاد؛ فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
ومثل3 ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى، والصلاة، والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يكون قطعي الدلالة، سواء أكان قطعي السند بأن كان لفظه متواترا أم كان متواترا تواترا معنويا بحيث تعاضدت عليه الروايات وموارد الشريعة حتى صار مما لا شك فيه، ولا يكفي في ذلك مجرد تواتر اللفظ إذا كان ظني الدلالة والظني ما يقابل ذلك، وهذا في الكتاب والسنة ظاهر، والإجماع أيضا منه ظني وقطعي، أم القياس؛ فكله ظني، ولا يتأتى فيه القطع مع احتمال الاعتراضات الخمسة والعشرين؛ فقوله: "كل دليل" ليس على عمومه لأنه لا يجيء هذا التقسيم في القياس كما عرفت. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
3 في "ط": "ومثال".(6/244)
ص -185-…وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة1 من البيوع والربا وغيره، من حيث هي راجعة إلى قوله [تعالى]: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275].
وقوله: {ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188].
إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر2؛ إلا أن دلالتها ظنية.
ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"3؛ فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات4، وقواعد كليات5؛ كقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية [البقرة: 233].
ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار6 أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي كثيرة؛ كالمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، وغيرها. "د".
قلت: للشيخ صالح الفوزان رسالة في البيوع المنهي عنها، وكتبت رسائل عدة في "بيع الغرر"، أجمعها رسالة أستاذنا ياسين درادكة: "نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية"، وهي مطبوعة في مجلدين.
2 في "ط": "بالتواتر".
3 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
4 كما في الآيات الثلاث. "د".
5 كما في التعدي على النفوس وما بعده؛ فإنه كما قال: معنى في غاية العموم في الشريعة لا شك فيه؛ فهو قطعي في قواعد كليات، وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" راجع له؛ فهو من الظني الراجع إلى قطعي. "د".
6 في الأصل: "ضرر".(6/245)
ص -186-…النفس أو العقل أو النسل أو المال؛ فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك1.
وأما الثالث:
وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي2؛ فمردود بلا إشكال.
ومن الدليل على ذلك أمران.
أحدهما: أنه مخالف لأصول الشرعية، ومخالف أصولها لا يصح؛ لأنه ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يعدّ منها؟
والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط الاعتبار، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب3 بمن أفتى4 بإيجاب شهرين متتابعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا النادر الذي يكون غالبا في الأخبار، كما في القصص عن بني إسرائيل مثلا، وأحاديث الملاحم والفتن، وأشراط الساعة ونحوها؛ كأحاديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود"، و"لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزًا وكرمان من الأعاجم"، وسيأتي له حديث: "القاتل لا يرث"، وأنه لا يرجع لأصل قطعي. "د".
2 ظاهره ولو شهد له أصل ظني، وعليه يكون قوله: "ليس له ما يشهد له بصحته"؛ أي: قطعي لأنه الذي يتأتى فرضه مع فرض أنه معارض لقطعي؛ فإنه لا يعقل تعارض قطعيين، فإن وجد ما ظاهره ذلك أُوِّل كما سيأتي له في مسألة رؤية الباري.(6/246)
3 الغريب نوعان: نوع هو قسم مقابل للمؤثر والملائم والمرسل؛ فهو أربع أربعة أقسام المناسب، ونوع آخر هو قسم من أقسام ثلاثة المرسل: الغريب، ومعلوم الإلغاء، والملائم؛ فالغريب ومعلوم الإلغاء اللذان هما من أقسام المرسل مردودان باتفاق، وفي الملائم منه خلاف، أما الغريب الذي هو قسم رابع للمناسب؛ فلا يقال فيه: دل الدليل على إلغائه، فإن ذلك إنما هو في أقسام المرسل، وسيأتي للمؤلف في الكلام عن القسم الرابع أنه أعمله العلماء في باب القياس؛ فالمراد بالغريب هنا أحد أقسام المرسل الثلاثة، الذي قالوا فيه وفي معلوم الإلغاء: إنهما مردودان اتفاقا، إلا أنهم جعلوا مثاله المذكور -وهو إيجاب الشهرين- مثالا لمعلوم الإلغاء، لا للغريب؛ =(6/247)
ص -187-…..............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فليراجع المقام في كتب الأصول. "د".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "المناسب هو الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقودا للشارع، والغريب ما دل الدليل على إلغائه وعدم اعتباره؛ فلا يعلل به".
4 أفتى بعض العلماء ملكا جامع في رمضان بصيام شر عين؛ فأنكر عليه؛ فقال: لو أمرته بالعتق لسهل عليه بذل ماله في شهوة فرجه؛ فو مناسب تترتب عليه مصلحة الزجر التي يقصدها الشارع، لكنه ضد الدليل الشرعي في تأخر الصيام عن العتق ولم يشهد له أصل آخر، وقوله: "فلا بد من رده"؛ أي: كمثاله هذا. "د".
قلت: نقل المصنف في "الاعتصام" "2/ 610" نحوه عن الغزالي، ولكنه جعل المسألة عن الوقاع في نهار رمضان، وليست عن الظهار، وقال: "فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام"، ثم قال:
"وهذه الفتيا باطلة؛ لأن العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق عن الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به"، ثم ذكر نقلا عن ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان، وعين أن الذي أفتاه يحيى بن يحيى الليثي! ثم قال: "فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفا للإجماع".(6/248)
قال أبو عبيدة: عندي نظر في صحة هذه القصة عن الإمام يحيى رحمه الله تعالى، وذكرها بإبهام إمام الحرمين في كتابه "الغياثي" "ص222-223"؛ فأحسن، وعلق عليها بعبارات قوية فيها نصرة للحق إن شاء الله تعالى؛ فأجاد؛ قال: "وأنا أقول: إن صح هذا من معتز إلى العلماء؛ فقد كذب على دين الله وافترى، وظلم نفسه واعتدى، وتبوأ مقعده من النار في هذه الفتوى، ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمد الأقصى، ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا، وقولا وازعا فاجعا؛ لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله، وأليم عقابه، وحاق عذابه، وأبان له أن الكفارات وإن أتت على ذخائر الدنيا، واستوعبت خزائن من غبر ومضى؛ لما قابلت همًّا بخطيئة في شهر الله المعظم وحماه المحرم، وذكر له أن الكفارات لم تثبت ممحصات للسيئات وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف.
ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله تعالى بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح؛ فإنه قد يشيع في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم؛ فلا يعتمدونهم، وإن صدقوهم؛ فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب على الله، وعلى رسوله، والسقوط عن مراتب الصادقين، والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين".(6/249)
ص -188-…ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة.
وهذا القسم على ضربين:
أحدهما:
أن تكون مخالفته للأصل قطعية؛ فلا بد من رده.
والآخر:
أن تكون ظنية؛ إما بأن يتطرق الظن1 من جهة الدليل الظني، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين، ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق، وهو مما لا يختلف فيه.
والظاهري وإن ظهر [من]2 أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه3، فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وإذا ثبت هذا؛ فالظاهري لا تناقض4 عنده في ورود نص مخالف لنص آخر أو لقاعدة أخرى، أما على اعتبار المصالح؛ فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر، علمناها أو جهلناها، وأما على عدم اعتبارها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأنه ليس مخالفا للقطعي، وهذا التقسيم واضح من أن الفرض عدم مخالفته لقطعي مخالفة قطعية؛ فالنفي منصب على القيد، أو عليه والمقيد جميعًا، وسيأتي له ما يصح أن يكون أمثلة له، وتطرق الظن إلى الظني يكون بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 سقط من "ط".
4 أي: فكل منهما صحيح، ولا تعارض. "د".(6/250)
ص -189-…فأوضح، فإن للشارع أن يأمر وينهى كيف يشاء؛ فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير.
فإذا تقرر هذا؛ فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفًا فيها، تر جع إلى الوفاق في هذا المعنى؛ فقالوا: خبر الواحد إذا كملت شروط صحته؛ هل يجب عرضه على الكتاب، أم لا؟ فقال الشافعي1: "لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه إلى وهو غير مخالف للكتاب". وعند عيسى بن أبان2 يجب، محتجا بحديث في هذا المعنى، وهو قوله: "إذا روي لكم حديث؛ فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه، وإلا؛ فردّوه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه العظيم: "الرسالة" "رقم 1108".
2 وكذا قال الرازي في "المحصول" "4/ 438"، وانظر في المسألة "البحر المحيط" للزركشي "4/ 351-352".
3 أخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1387"، والخطيب في "الكفاية" "430"، والهروي في "ذم الكلام" "ص155" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "سيأتيكم عني أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي؛ فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي؛ فليس مني".
قال الدراقطني: "صالح بن موسى ضعيف، ولا يحتج بحديثه"، وقال ابن عدي عقبه -وساق أحاديث أخر-: "وهذه الأحاديث عن عبد العزيز غير محفوظات، إنما يرويها عنه صالح بن موسى".
وأخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208-209"، والهروي في "ذم الكلام" "ص170" عن علي مرفوعًا بلفظ: "إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث؛ فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن؛ فخذوا به، وما لم يوافق القرآن؛ فلا تأخذوا به".
وقال الدراقطني: "هذا وهم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وأبو بكر بن عياش لما كبر ساء حفظه، وقد خولف؛ كما يفهم من كلام الدراقطني.(6/251)
وفي الباب أحاديث كثيرة كلها فيها مقال، انظر: "ذم الكلام" "ص170-171"، و"السلسلة الضعيفة" "رقم 1083-1090"، وما عند المصنف "4/ 329 وما بعدها".
قال "ف": "هذا العرض إنما يعتد به إذا كان من العلماء الراسخين، وهم الأئمة المجتهدون ومن على قدمهم من الفقهاء والمحدثين".(6/252)
ص -190-…فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق1، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى.
وللمسألة2 أصل في السلف الصالح؛ فقد ردت عائشة [رضي الله تعالى عنها] حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"3 بهذا الأصل نفسه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من حيث إنه لا يقبل إلا ما كان موافقًا، ويرد ما كان مخالفًا، والخلاف بينهما في الطريق لمعرفة ذلك. "د".
2 وهي أن مخالفة الظني لأصل قطعي تسقط اعتبار الظني. "د".
قلت: وتوسع المتأخرون؛ فخرجوا كثيرا من الأمثلة الآتية على "عرض أخبار الآحاد على القياس" مثل: "الدبوسيّ في "تأسيس النظر" "65-67"، وأبو زهرة في كتابه "مالك" "298-300"، ورد ذلك عبد العزيز البخاري؛ فقال في كتابه "كشف الأسرار" "2/ 697": "وقد حكي عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، ولا يدرى ثبوته منه"، وقال ابن تيمية في "صحة أصول مذهب أهل المدينة" "ص24": "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره؛ فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصحِّحوه".
وانظر: "شرح تنقيح الفصول" "387"، "وتوثيق السنة في القرن الثاني الهجري" "ص391-413" لرفعت فوزي عبد المطلب؛ ففيها رد على هذا القول.
3 مضى تخريجه من حديث عمر رضي الله عنه "2/ 385"، وهو في "الصحيحين" وغيرها.(6/253)
ويشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، 3/ 151-152/ رقم 1288"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 642/ رقم 929" ضمن حديث فيه قال: ابن عباس قال: "لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"، ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وانظر لزامًا: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للزركشي "ص67-68، 91-92، 107".(6/254)
ص -191-…لقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39].
وردَّتْ حديث1 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين، 6/ 313/ رقم 3234، 3235"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن مسروق؛ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن؛ فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية، قال وكنت متكئًا فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا(6/255)
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]. لفظ مسلم.
وانظر "الإجابة "84-89".(6/256)
ص -192-…الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وإن كان عند غيرها غير مردود؛ لاستناده1 إلى أصل آخر لا يناقض الآية، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع، ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة.
وردَّتْ هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء2؛ استنادًا إلى أصل مقطوع به، وهو رفع الحرج وما لا طاقة به3 عن الدين؛ فلذلك قالا: "فكيف يصنع بالمهراس"4؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن عارض أصلًا قطعيا؛ إلا أنه يشهد له أصل قطعي، على أنه قد ينازع في قطعية الدلالة في آية: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}؛ فلا يكون مما نحن فيه. "د".
2 ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن عثمان وعلي وغيرهما، جمعها أبو عبيد في كتابه "الطهور" "باب السنة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، ص325-330"، وقد خرجتها ولله الحمد في التعليق عليه، وقال أبو عبيد عقبها: "هذا عندنا هو سنة الوضوء، أنه لا يدخل المتوضئ يده الإناء حتى يغسلها، وإن كانت نظيفة إنما هذا الاتباع، فإن ترك ذلك تارك، ولم يكن على يده قذر؛ فإنه لا ينجس الماء غير أنه جفاء في الدين". وقال: "والذي نختار الأخذ بالآثار الأولى، فنرى غسل اليد على كل حال". وفي "ط": "إدخالهما الإناء".(6/257)
3 تقدم في المشقات تقييدها بأن تكون غير معتادة في مثل العمل المفروض، ومثل إمالة الإناء لا يظهر فيها ذلك؛ فإنها قد تكون أقل من البحث عن الماء للوضوء مثلا، واستخراجه من البئر العميقة بأدوات ومشقات؛ فقد يقال: إن هذا من القسم الثاني الذي لم يتحقق كونه قطعيًّا؛ لأن ذلك إنما يثبت بكون هذا من الخروج قطعا، وقد علمت ما فيه، وقولهما: فكيف يصنع بالمهراس؟ إذا كان هو ما يسع ماء كثيرا فليس إناء وضوء؛ فلا تظهر شبهة اقتضائه للحرج لأن الحديث في الإناء المعتاد للوضوء، وهو الذي يسع ماء قليلا يمكن أن يحصل له التغير من قليل ما يحل فيه، وقد قال الحافظ: لا وجود لردهما عليه في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قاله له رجل يقال له قين الأشجعي، راجع "شرح التحرير" في مسألة "معارضة القياس لخبر الواحد". "د".
4 المهراس: حجر مستطيل، ينقر ويدق فيه، ويتوضأ منه، وكتب "ف": "في النهاية" [5/ 259]: "هو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء" انتهى.
قلت: لم يذكر الزركشي في "الإجابة" رد عائشة رضي الله عنها واستدراكها على أبي هريرة =(6/258)
ص -193-….................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا الخبر، وقال في "المعتبر" "رقم 82": "لم أقف على مخالفتهما"، وتذكره كتب الأصول، انظر مثلا: "مختصر المنتهى" ص88" لابن الحاجب، قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 126، 127": "وأما مخالفة ابن عباس وعائشة لأبي هريرة في ذلك؛ فلا يحضرني الآن نقله"، ثم قال: "وإنما روى البيهقي ["1/ 47، 48"] من حديث الأعمش عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله بن مسعود قالوا: "فكيف يصنع أبو هريرة بالمهراس؟".
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه" "1/ 99"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 461": "تبع المصنف -أي: ابن الحاجب- في ذلك كلام الآمدي، ولا وجود لذلك في شيء من كتب الحديث"، قال الزركشي وابن حجر: "ذكر أبو إسماعيل الهروي في كتاب "ذم الكلام" "رقم 299 - المحققة" بعد أن ساق قصة قين مع أبي هريرة -وسيأتي بيان ذلك- ما نصه: "وروي أن ابن عباس قال لأبي هريرة: أرأيت إن كان حوضا؟ فقال: لا يضرب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال". زاد ابن حجر: "ولم يقع لي هذا الأثر موصولا إلى الآن".
قلت: ظفرت بحديث يُنمى إليها مرفوعًا بلفظ: "إذا استيقظ أحدكم من النوم فليغرف على يده ثلاث غرفات قبل أن يدخلها في وضوئه، فإنه لا يدري حيث باتت يده"، والصواب فيه: "عن أبي هريرة"، أفاده أبو زرعة كما في "العلل" "1/ 62/ رقم 162" لابن أبي حاتم، ونقله ابن حجر في "التخليص الحبير" "1/ 62" -وتبعه الشوكاني في "النيل"- عن أبي حاتم وليس عن أبي زرعة، ووهم، كما أفاده المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "1/ 111"، وقد فصلت الوهم الواقع في الحديث -وهو من قِبَلِ ابن أبي ذئب- في تعليقي على كتاب "الطهور" "ص326-327" لأبي عبيد، ولله الحمد.(6/259)
نعم، وقع نحو المذكور عند المصنف عن قين الأشجعي، أخرج أبو عبيد في "الطهور" "رقم 279" و"الغريب" "2/ 274"، وأحمد في "المسند" "2/ 348، 382"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 377-378/ رقم 5973"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 22"، والبيهقي "1/ 47"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 298" عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قام أحدكم من النوم؛ فليفرغ على يديه من وضوئه؛ فإنه لا يدري أين باتت يداه".
فقال قين الأشجعي: فإذا جاء مهراسكم هذا؛ فكيف نصنع؟ قال: أعوذ بالله من شركم.
إسناده حسن: من أجل محمد بن عمرو.(6/260)
ص -194-…وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم، وقالت: "إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية"1؛ لمعارضته الأصل القطعي، أن الأمر كله لله، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا، ولا طيرة ولا عدوى.
وقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام، فأخبر أن الوباء قد وقع بها، فاستشار المهاجرين والأنصار؛ فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح، فإنهم اتفقوا على رجوعه؛ فقال أبو عبيده: أَفِرارًا من قدر الله؟"؛ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي، قال عمر: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"2؛ فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضًا، وهو أن الأسباب من قدر الله، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة، وأن الجميع بقدر الله، ثم أخبر بحديث2 الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ردت عائشة خبر أبي هريرة في الشؤم، وليس خبر ابن عمر، كما قال المصنف، أخرج ذلك أحمد في "المسند" "6/ 150، 240، 246"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 822 - مسند عائشة"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 341"، و"شرح معاني الآثار" "4/ 314"، وابن جرير في "تهذيب الآثار" "رقم 37"، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" "1/ 146" بإسناد حسن عن أبي حسان -وهو الأعرج الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله- قال: جاء رجل إلى عائشة؛ فقال: إن أبا هريرة يقول: الطيرة في الفرس والدار والمرأة. فغضبت غضبًا شديدًا، حتى صارت منها شقة في السماء وشقة في الأرض، وقالت: ما قاله، إنما قال: "كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك".
وأخرج الطيالسي في "المسند" "رقم 1537"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 479"، وابن خزيمة -كما في "الفتح" "6/ 236"- عن مكحول: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول "وذكر نحوه".(6/261)
وإسناده منقطع، لم يسمع مكحول من عائشة، وانظر: "الإجابة" "ص103-106"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 777، 780، 789، 799، 993، 1897".
نعم، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم 5093"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، رقم 2225" عن ابن عمر مرفوعًا: "الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار"، ولكن لا يوجد لعائشة رضي الله عنها ذكر فيه.
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في =(6/262)
ص -195-…وفي الشريعة من هذا كثير جدا، وفي اعتبار السلف له نقل كثير.
ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار، ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا1: "جاء الحديث ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة، ونحوها، 4/ 1740-1741/ رقم 2219" عن عبد الله بن عباس؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعاهم؛ فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم؛ فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديًا له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه".(6/263)
قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف". لفظ البخاري.
وقال "د" في هذا الموطن ما نصه: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد؛ ففي نفيه إشارة إلى رد معتقد الجاهلية من استقلال الأسباب بالتأثير، وفي إثباته إشارة إلى أن الجذام من الأسباب التي أجرى الله العادة بإفضائها إلى المسببات".
1 ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، أوردها الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه القيم "الطهور" "رقم 201-204"، وخرجتها بتفصيل ولله الحمد في التعليق عليه، وكذا في مسألة رقم "38" من "الخلافيات"، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الماء الذي =(6/264)
ص -196-…أدري ما حقيقته؟"، وكان يضعفه ويقول: "يؤكل صيده؛ فكيف نكره لعابه؟"1.
وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس2؛ حيث قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يغسل به شعر الإنسان، 1/ 274/ رقم 172"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، 1/ 234/ رقم 279" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات".
قال أبو عبيد في كتابه "الطهور" "ص270 - بتحقيقي" بعد أن ساق الأحاديث: "وقد اختلف القول فيه على مالك في الكلاب؛ فحكى بعضهم عنه: إنه كان لا يجعل معنى هذا الحديث لكلاب الصيد والماشية، يقول: إنما هذه مثل الهرة التي يقتنيها الناس".
قال أبو عبيد: "وروي عنه قول آخر: إنه كان يعم به الكلاب كلها". قال: "وكذلك القول عندنا على العموم بجميعها؛ لأنا لا نخص إلا ما خصت السنة، ولم يأتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خصوصية شيء منها دون شيء؛ فهي عندنا على كل الكلاب".
وانظر تفصيل مذهب مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، و"الإشراف" "1/ 41-42" للقاضي عبد الوهاب، و"الاستذكار" "1/ 262"، و"المنتقى" "1/ 73" للباجي، و"المقدمات" "1/ 91" لابن رشد، و"بداية المجتهد" "1/ 21"، و"حاشية الدسوقي" "1/ 83"، و"تفسير القرطبي" "6916"، و"أحكام القرآن" "3/ 1422-1423" لابن العربي، و"الكافي" "1/ 161"، و"بذل الإحسان" الجويني "2/ 177-178"، و"الشرح الصغير" "1/ 43"، و"القوانين الفقهية" "45"، و"انتصار الفقير السالك" "ص286"، و"الذخيرة" 1/ 183 - ط دار الغرب"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 242".(6/265)
1 فكان يضعف الحديث لمعارضته للقطعي، وهو طهارة فمه، ومع ذلك؛ فما بال العدد، وما بال التراب، مع أنهما لا يراعيان في غسل النجس؟ هذا وقد ظهر الوجه، وهو اكتشاف المادة السمية في لعاب الكلب بسبب لعقه لدبره بلسانه كثيرا، وفي برازه الجرثومة المرضية "الميكروب" الذي متى انتقل من حيوان إلى آخر أضر به. "د". "استدارك 1".
2 يشير إلى حديث مضى لفظه "1/ 425"، وهو في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(6/266)
ص -197-…بعد ذكره: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه"1 إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا؛ فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطًا بالشرع؟2 فقد رجع إلى أصل إجماعي.
وأيضا؛ فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية، وهي تعارض هذا الحديث3 الظني.
فإن قيل: فقد4 أثبت مالك خيار المجلس في التمليك5 قيل: الطلاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموطأ" "2/ 671 - رواية يحيى". وانظر -لزاما-: "ترتيب المدارك" "1/ 72"، و"تنقيح الفصول" "2/ 214" مع حاشية الشيخ علي جعيط عليه، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف" "ص10" للدهلوي، و"أربع رسائل في علوم الحديث" ص"25-26" مع التعليق عليه، وترجمة "الفضل بن زياد البغدادي" في "تاريخ بغداد" "2/ 302"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 251".
2 ولو كان جائزا أصله؛ لكان جائزا شرطه، كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو رد. "د".
3 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر: اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع خيار" أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 425"، والكلام مستوفى في هذا المقام في "الاستذكار" "20/ 219-225"، و"التمهيد" "14/ 11 وما بعدها"، و"الذخيرة" "5/ 20-23 - ط دار الغرب" للقرافي، والتفريع" "2/ 171" لابن الجلاب، و"الإشراف" "1/ 249-250" للقاضي عبد الوهاب، و"انتصار الفقير السالك" "ص222-225" للراعي، و"إعلام الموقعين" "2/ 197-198 و4/ 22-23"، و"المعلم" للمازري "2/ 167-168"، و"أحكام القرآن" "2/ 175" للجصاص، و"القبس" "2/ 844-845"، و"فتح الباري "4/ 330"، و"بداية المجتهد" "2/ 169"، و"حاشية الدسوقي" "3/ 81"، و"البيوع والمعاملات المالية المعاصرة" "ص60" لمحمد يوسف موسى، ط دار الكتاب العربي -مصر، ط الثانية، سنة 1954م.
4 في "ط": "قد".
5 تمليك الزوج لزوجته عصمتها؛ فله الرجوع ما دام في المجلس. "د".(6/267)
ص -198-…يعلق على الغرر، ويثبت في المجهول1؛ فلا منافاة بينهما، بخلاف البيع.
ومن ذلك أن مالكًا أهمل اعتبار حديث: "من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه"2، وقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟"3 الحديث؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي4، نحو قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39]، كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر5.
وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم6 تعويلًا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة؛ فأجاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإنه يصح أن يطلقها على ما في قبضة يدها وهو مجهول، بخلاف البيع؛ فالجهل فيه ضار، وما قاله المصنف هو جواب ابن العربي في "القبس" "2/ 845"، وقال عقبه: "ولو لم يكن في هذا "القبس" إلا هذه المشكاة؛ لكفاه".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192/ رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147" عن عائشة رضي الله عنها.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" عن ابن عباس رضي الله عنهما.
4 الشامل للصيام وغيره من أنواع العبادات، وهو قطعي أيضا مبثوث في الشريعة. "د".
5 مضى تخريجه "ص190".(6/268)
6 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، 5/ 131/ رقم 2488، وكتاب الذبائح، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، 9/ 638/ رقم 5509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر، 3/ 1758/ رقم 1968" عن رافع بن خديج؛ قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصبنا غنما وإبلا، فعجل القوم، فأغلوا بها القدور، فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور". لفظ مسلم.(6/269)
ص -199-…أكل الطعام1 قبل القسم2 لمن احتاج إليه، قاله ابن العربي3.
ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث4 فيه؛ تعويلًا على أصل5 سد الذرائع6.
ولم يعتبر في الرضاع خمسًا ولا عشرًا؛ للأصل7 القرآني في قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطعام نوعان: إبل ذبحت أو غنم ذبحت من الغنيمة قبل قسمها، وهذه هي التي ورد فيها الأمر بإكفاء القدور، وأنه صلى الله عليه وسلم جعل يمرغ اللحم في التراب، وهذا هو محل الخلاف بين مالك وغيره؛ فأجازه مالك تعويلا على الأصول المرعية، ولم يعول على هذا الخبر لمخالفته تلك الأصول، أما الطعام الآخر؛ كالشحم والزيت، والعسل؛ فإنه مباح بالنص المؤيد بالقواعد، فقد وجد عبد الله بن المغفل جرابا من الشحم في غزوة خيبر، واختص به بمحضره صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عن ذلك. "د".
قلت: وفعل ابن المغفل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، 6/ 255/ رقم 3153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772".
2 أي: قسم الغنيمة بين الجيش. "ف".
3 في كتابه: "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 605-606".
4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ كان كصيام الدهر"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وانظر ما سيأتي "4/ 106" وتعليقنا عليه.
5 أي: وسد الذرائع أصل مقطوع به في بعض أنواعه، وتقدم أنه ثلاثة أنواع. "د".(6/270)
6 أي: الوسائل إلى المنهي عنه، وهو هنا ظن وجوبها، وقد شنع الشوكاني في هذا تشنيعا شنيعا على مالك وأبي حنيفة؛ حتى قال: "إن قولهما باطل، لا يصدر عن عاقل" ا. هـ. وما أجدره بأن يقال له هذا القول، كما يعلم ذلك من مراجعة "الزرقاني على الموطأ"، وكتاب "مجموع الأمير في فقه مالك". "د".
7 ليس هذا معارضا، إنما هو بيان للمجمل، أو تقييد للمطلق؛ فلعل له وجها غير =(6/271)
ص -200-…{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
وفي مذهبه من هذا كثير.
وهو أيضا رأي أبي حنيفة؛ فإنه قدم خبر1 القهقهة في الصلاة على القياس، إذ لا إجماع في المسألة.
ورد خبر2 القرعة؛ لأنه يخالف الأصول، لأن الأصول قطعية وخبر الواحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا. "د".
قلت: نعم، له وجه آخر، بينه القرافي في "الذخيرة" "4/ 274- ط دار الغرب"، قال في الرد على الشافعية المحتجين بقول عائشة: "كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات؛ فتوفي عليه السلام وهو فيما يقرأ من القرآن"، قال: "إن إحالته على القرآن الباقي بعده عليه السلام يقتضي عدم اعتباره؛ لأنه لو كان قرآنا لتلي الآن لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]"، ثم قال: "إذا ظهر ذلك بطل قول الشافعية: إن القرآن مطلق والسنة مقيدة؛ فيحمل المطلق على المقيد".
1 وهو أن أعمى تردى في بئر والنبي عليه السلام يصلي بأصحابه؛ فضحك بعضهم؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، قدم أبو حنيفة هذا الخبر على القياس، قياس القهقهة في الصلاة عليها خارج الصلاة، وهي لا تنقض الوضوء خارجها، وأيضا ليست حدثا؛ لأنه ما يخرج من أحد السبيلين، قال الأحناف: لأن القياس لا يصار إليه مع الدليل الخبري، وبعد؛ فهذا ليس من موضع المسألة، وهو رد الظني لمخالفته القطعي، بل من العمل بظني هو الخبر في مقابلة ظني هو القياس؛ لما أن رتبة القياس متأخرة عن الخبر. "د".
قلت: وحديث القهقهة ضعيف؛ فهو من مرسل أبي العالية، وقد خرجته ولله الحمد على وجه مستوعب في تعليقي على كتاب "الخلافيات" للإمام البيهقي "المجلد الثاني، مسألة رقم 22، حديث رقم 683 وما بعده".(6/272)
2 الذي تضمن أنه صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مماليك أعتقهم سيدهم عند موته ولا مال له سواهم، فخرجت القرعة لاثنين؛ فأجاز عتقهما وأبقى الأربعة أرقاء، ووردت القرعة في غير حديث، وقد جمعها وتكلم عليها بكلام علمي محرر الإمام ابن القيم في "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا وهناك تخريجها، وانظر مذهب الحنفية في "تبيين الحقائق" "5/ 271"، و"المبسوط" "15/ 7"، ومذهب المالكية في "الذخيرة" "11/ 170 وما بعدها - ط دار الغرب".(6/273)
ص -201-…ظني، والعتق حل في هؤلاء العبيد، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده؛ فلذلك رده. كذا قالوا1.
وقال ابن العربي2: "إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من قواعد الشرع؛ هل يجوز العمل به، أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في المسألة".
قال: "ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه".
ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب؛ قال3: "لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين"
أحدهما:
قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
الثاني:
أن علة الطهارة هي الحياة، وهي قائمة في الكلب.
وحديث العرايا4 إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المبسوط" "7/ 75-76"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 13"، وانظر للرد عليهم: "المغني" "12/ 275-277 - مع الشرح الكبير"، و"الفروق" "4/ 112".
2 في كتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 812-813".
3 أي: تعليلا لقول مالك السابق: "جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته؟". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، 5/ 50/ رقم 2381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، 3/ 1174/ رقم 1536" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وأن لا تباع إلا بالدينار =(6/274)
ص -202-…وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر1 لتلك العلة أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدرهم؛ إلا العرايا". لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم في آخره: "ورخص في العرايا".
والعرايا: جمع "عرية"، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم باقي البستان، يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها، انظر "تحرير ألفاظ التنبيه" "180" للنووي.
وذكر المصنف هذا الحديث كمثال تطبيقي على قوله: "إن عضدته قاعدة أخر عمل به".
وانظر في المسألة: "الكافي" "2/ 654" لابن عبد البر، و"التفريع" "2/ 150" لابن الجلاب.(6/275)
1 أخرج مالك في "الموطأ" "2/ 624"، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" 2/ 159" وفي "الرسالة" "ص331-332"، والطيالسي في "مسنده" "رقم 214"، وعبد الرزاق في "المصنف" "8/ 32"، وأحمد في "مسنده" "1/ 279"، وأبو دواد السجستاني في "سننه" "كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر/ رقم 3359"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب في النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم 1225"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، 7/ 269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر، رقم 2284"، والحميدي في "مسنده" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "6/ 182 و14/ 204" وفي "مسنده" "ورقة 64 أ"، وأبو يعلى في "مسنده" "2/ 68 و141"، والبزار في "مسنده" "ق208"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 6"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "ورقة 69ب"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 657"، والدارقطني في "سننه" "3/ 49"، والخطابي في "غريب الحديث" "2/ 225"، وابن جميع في "معجمه" "ص201"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 38 و43"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 211"، والبيهقي في "السنن" "5/ 294"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 78"، والضياء المقدسي في "المختارة" "قسم 2/ 218" من طريق عبد الله بن يزيد بن زيد أبي عياش؛ أن سعدا سئل عن البيضاء بالسلت؛ فكرهه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرطب بالتمر، فقال: "أينقص التمر إذا يبس؟". قالوا: نعم. قال: "فلا إذا". وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد في "المسائل" "ص275 - رواية ابنه عبد الله" من طريق ابن عيينة عن =(6/276)
ص -203-…قال ابن عبد البر1: "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول"، قال: "لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن؛ فما شذ من ذلك ردّه وسماه شاذا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد به.
قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث؛ إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصا في حديث أهل المدينة"، ثم قال: "والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش"، وقال الخطابي في "معالم السنن" "5/ 35": "قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص"، وقال: "زيد أبو عياش راويه ضعيف"، ثم قال: "وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في "الموطأ"، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم" ا. هـ.
وفي الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الكبير" "2/ 216"، وفي "الدر المنثور" "2/ 112"، وعزاه لمالك، وابن أبي شيبة، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، والشافعي، والبيهقي.
وقوله: "بالسلت" هو نوع من الشعير، رقيق القشر، صغار الحب، وقوله: "أينقص الرطب؟"، قال الخطابي في "معالم السنن": "هذا لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير والتنبيه بكنه الحكم وعلته لكي يكون معتبرا في نظائره، وإلا؛ لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه؛ فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام" ا. هـ.(6/277)
وقال البغوي في "شرح السنة" "8/ 79": "وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وجوزه أبو حنيفة وحده، وأما بيع الرطب بالرطب، وبيع العنب بالعنب؛ فلم يجوزه الشافعي وجوزه الآخرون".
1 في كتابه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" "ص149".(6/278)
ص -204-…وقد رد أهل العراق مقتضى حديث1 المُصَرَّاة وهو قول مالك؛ لما رآه2 مخالفا للأصول، فإنه قد خالف أصل3: "الخراج بالضمان"4، ولأن متلف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما ثبت عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر، 4/ 361/ رقم 2150"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، 3/ 1155/ رقم 1515، وباب حكم بيع المصراة، 3/ 1158-1159/ رقم 1524".
2 في الأصل و"ط": "لما رأياه"، ولا معنى لها.
3 فكان مقتضى هذا الأصل ألا يدفع شيئا ما؛ لأنه ضامن، والغلة بالضمان، والأصل الآخر أن متلف الشيء... إلخ، وهو يقتضي ألا يدفع في اللبن قل أو كثر صاعا، بل يدفع إما لبنا بمقداره، أو يدفع القيمة بالغة ما بلغت، ولا يتقيد بالصاع ولا بالتمر. "د".(6/279)
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا، 3/ 777-779/ رقم 3508-3510"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا، 3/ 581-582/ رقم 1285"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، 7/ 254-255"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، 2/ 754/ رقم 2242 و2243"، وأحمد في "المسند" "6/ 49، 161، 208، 237"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1464"، والشافعي في "المسند" "رقم 479"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1125، 1126 - موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 626، 627"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 21-22"، والدارقطني في "السنن" "3/ 53"، الحاكم في "المستدرك" "2/ 15"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 321"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 162-163"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1702"، والخطيب في "التاريخ" "8/ 297-298" عن عائشة، والحديث صحيح.
وكتب "د" هنا ما نصه:
وفسره الترمذي بأن يشتري الرجل العبد يستغله ثم يظهر به عيب فيرده؛ فالغلة للمشتري لأن العبد لو هلك هلك في ضمانه، ونحو هذا يكون فيه الخراج بالضمان. ا. هـ. يعني: وهو يقتضي أن =(6/280)
ص -205-…الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته، وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض؛ فلا1.
وقد قال مالك فيه: "إنه ليس بالموطأ ولا الثابت"2، وقال به في القول الآخر شهادة بأنه له أصلًا متفقًا عليه يصح رده إليه، بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر، وإذا ثبت هذا كله؛ ظهر وجه3 المسألة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اللبن للمشتري؛ فكيف يرد عنه الصاع من التمر؟ وقد أجيب عنه أولا بأن حديث المصراة أقوى من حديث الخراج بالضمان، وثانيا بأن اللبن المصرَّى كان حاصلًا قبل الشراء في ضرعها؛ فليس من الغلة التي إنما تحدث عند المشتري، فلا يستحقه المشتري بالضمان؛ فلا بد من قيمته، وإنما كانت صاعًا محددًا، ومن تمر لما يعلم من مراجعة شرحه "نيل الأوطار" "5/ 245" للشوكاني مبسوطا، ومن "إعلام الموقعين" "1/ 367" موجزا مضبوطا؛ فلذلك قال بأن له أصلا متفقا عليه لا يضاد هذه الأصول الأخر، والمعول عليه عند المالكية أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد، وقالوا إن التمر في الحديث لأنه كان غالب قوت المدينة، وسيأتي للمصنف كلام على شرح الحديث، انظر: "ص437".
1 ذكر الحنفية ثمانية أوجه في مخالفة الحديث أصول الشريعة، ذكرها العيني في "عمدة القاري" "11/ 270"، وصاحب "إعلاء السنن" "13/ 60"، وانظر في مناقشتها: "فتح الباري" "4/ 364-365"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "10/ 162"، و"شرح السنة" "8/ 125" للبغوي، و"إعلام الموقعين" "1/ 367 وما بعدها".(6/281)
2 قال ابن العربي في "القبس" "2/ 852-853": "ومن غرائب مذهبنا أن أشهب ذكر عنه في "العتبية" أنه "أي مالك" قال: إن ردها لم يرد معها شيئا لأن الخراج بالضمان"، ثم قال: "وهذا قول باطل"، وقال: وأشهب أجل قدرا من هذا فهما ودينا، وإنما هي من مسائل "العتبية" التي لم تثبت فيها رواية، وإنما هي منقولة من صحف ملفقة من البيوت، وفي مثلها قال مالك: لا يجوز بيع كتب الفقه، يعني: القراطيس والأوراق التي كانت تكتب عنه، فأما كتاب محصل مروي مضبوط بالفصول والأصول؛ فإنه يجوز بيعه إجماعا". وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 10 - ط دار الحديث".
3 في "ط": "ظاهر وجوه".(6/282)
ص -206-…وأما الرابع1، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلًا قطعيًّا؛ فهو في محل النظر، وبابه2 باب المناسب الغريب؛ فقد يقال: لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله، والاستقراء يدل على أنه غير موجود، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق؛ لأنه في محل الريبة؛ فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع؛ إذ3 كان عدم الموافقة مخالفة، وكل ما خالف أصلًا قطعيًّا مردود؛ فهذا مردود.
ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقًا لأصل؛ فلا مخالفة فيه أيضا، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة؛ فيتعارضان ويسلم أصل العمل بالظن، وقد وجد منه في الحديث قوله عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا كالمناسب المرسل الذي لم يدل الدليل على اعتباره ولا على إلغائه؛ فقد علل به مالك ومن تبعه، ورده الأكثرون. "ف".(6/283)
2 أي أن شبيه به، وهو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه، لكن لم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وإلا؛ لكان ملائما، وإنما ثبت بالقياس، ومثاله أن يقال في البات في مرض الموت لئلا ترث زوجته: يعارض بنقيض قصده؛ فترث قياسًا على القاتل ليرث؛ فحكم بعدم إرثه، والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد؛ فهو مناسب غريب في ترتيب الحكم عليه مصلحة، وهو زجرهما عن الفعل الحرام، لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار على الوجه المتقدم، بل إنما ثبت بالقياس المشار إليه، وبهذا البيان تفهم أن معنى قوله: "وقد وجد منه في الحديث... إلخ"؛ أي: وجد من القسم الرابع حديث: "القاتل لا يرث"؛ فإنه ظني، لم يشهد له ولم يرده أصل قطعي، وليس الغرض أن الحديث من باب المناسب الغريب، يعني: وحيث كان ما هنا شبيها به في وجهي الإعمال والإهمال وأدلة كل، وقد اعتبر العلماء المشبه به في باب القياس؛ فليكن شبهه هنا معتبرا في الأدلة. "د".
3 في "ط": "إذا".(6/284)
ص -207-…والسلام: "القاتل لا يرث"1، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس، وإن كان قليلا في بابه، فذلك غير ضائر إذا دلّ الدليل على صحته.
فصل:
واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة2 الدليل القطعي على صحة العمل به؛ كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أبو بالقياس واجب مثلا، بل المراد ما هو أخص3 من ذلك؛ كما تقدم في حديث: "لا ضرر ولا ضرار"4 والمسائل المذكورة معه، وهو5 معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.
2 في "ط": إقامة".
3 لأن الغرض هنا أن يتفق في معناه مع مقطوع به، وهذا أخص مما عناه الأصوليون؛ لأنه قد يكون معنى الخبر غير متفق مع مقطوع بخصوص معناه، ولكنه من حيث العمل به يعد مقطوعًا به لدخوله تحت قاعدة مقطوع بها، وهي العمل بخبر الواحد؛ فخبر القاتل لا يرث يقال: إنه راجع إلى قطعي بالمعنى الذي عناه الأصوليون لا بالمعنى المراد هنا؛ لأنه لم يتفق في معناه مع مقطوع به يؤيده؛ فلذا كان ما هنا أخص. "د".
4 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو حديث صحيح بشواهده.
5 في "ف": "وهي".(6/285)
ص -208-…المسألة الثالثة:
الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول1، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها2:
أنها لو نافتها؛ لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء؛ فدل [على]3 أنها جارية على قضايا العقول، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين؛ حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها؛ لم تتلقها فضلا [عن]4 أن تعمل بمقتضاها، وهذا معنى كونها خارجة5 عن حكم الأدلة، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
والثاني6:
أنها لو نافتها؛ لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أحكام العقول السليمة الراجحة دون السقيمة المدخولة؛ فإنه لا عبرة بها. "ف".
قلت: انظر بسط ما عند المصنف وأدلة أخرى في هذا المعنى: "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية، و"الصواعق المرسلة" "3/ 796 وما بعدها"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 52"، و"العبادي على شرح الورقات" "48"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 124"، و"الإحكام" "1/ 9"، و"العضد على ابن الحاجب" "1/ 36"، و"المسودة" "573"، و"إرشاد الفحول". "5".
2 هكذا في الأصل و"م" و"ف"، وفي "د": "أحدهما".
3 و4 الزيادتان من "م" و"ط" فقط.
5 أي: الذي هو التالي في الشرطية، وهو قوله: "لم تكن أدلة". "د".
6 هذا ظاهر في أدلة الأحكام الإلهية والاعتقادات، أما الأحكام العملية؛ فليس المطلوب بها التصديق، بل مجرد العمل، وبقية الوجوه يمكن أن تكون كالأول يستوي فيها أدلة الاعتقادات والعمليات. "د".(6/286)
ص -209-…خلافه ويصدقه، فإذا كان كذلك؛ امتنع على العقل التصديق ضرورة، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.
والثالث:
أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام؛ حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسًا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق1 العقل بالأدلة في لزوم التكليف، فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه؛ لكان لزوم التكليف على العاقل أشد2 من لزومه على المعتوه والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطًا عن هؤلاء؛ لزم أن يكون ساقطًا عن العقلاء أيضا، وذلك مناف لوضع الشريعة؛ فكان ما يؤدي إليه باطلًا.
والرابع:
أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به3 لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا يفترون عليه وعليها؛ فتارة يقولون: ساحر، وتارة: مجنون، وتارة يكذبونه، كما كانوا يقولون في القرآن: سحر، وشعر، وافتراء، وإنما يعلمه بشر، وأساطير الأولين، بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يعقل، أو هو مخالف للعقول، أو ما أشبه ذلك، فلما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اعتبار تمكن العقل من التصديق بالأدلة؛ أي: ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأدلة في ذاتها صالحة لأن يصدق العقل بها بألا تتنافى مع قضاياه، هذا، أما التصديق بالفعل؛ فظاهر أنه لا يعتبر. "د".
2 لأن العاقل عنده نفس العقل يضاد التكليف ويمنعه؛ لأنه يصادمه ويعقل خلافه، بخلاف المجنون مثلا؛ فليس عنده تعقل له ولا لخلافه؛ فالذي عنده أنه غير مستعد للتكليف، أما العاقل؛ فمستعد لخلافه، وفرق بين من فقد آلة الشيء ومن تسلح بآلة ضده؛ فبعد الثاني عنه آكد وأقوى. "د".
3 في "ط": "الكفار أولى... بهم".(6/287)
ص -210-…لم يكن من ذلك شيء؛ دلَّ على أنهم عقلوا ما فيه، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول؛ إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدعى؛ فكان قاطعا في نفيه عنه.
والخامس:
أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول، [بحيث تصدقها العقول]1 الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة2، ولا كلام في عناد معاند، ولا في تجاهل متعام، وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها، ولا محسنة فيها ولا مقبحة، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد3 في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
فإن قيل: هذه دعوى عريضة، يصد عن القول بها غير ما وجه:
أحدها:
أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا؛ كفواتح السور، فإن الناس قالوا: إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، [وفيه ما لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة]4، وفيه ما لا يعلمه إلا الله5؛ فأين جريان هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: راغبة في ذلك بدون سبق عناد، أو مع سبقه، والكره غير الإكراه الذي لا يتأتى معه التصديق والانقياد العقلي، وقوله: "تصدقها" ظاهر في الاعتقاديات، وقوله: "وتنقاد لها" ظاهر في العمليات على رأي أهل السنة، أما على مذهب المعتزلة؛ فيجريان فيها معا بوضوح، وتكون العقول مصدقة لحسن مقتضى هذه الأدلة، بحيث تكون الأدلة ملائمة لما يدركه العقل من الحسن، وعلى رأي أهل السنة يمكن أن يكون انقياد العقول جاريا في أدلة العمليات أيضا على معنى أنها تدرك بوجه عام أن الشريعة على وجه مطرد لم تجئ إلا لمصلحة العباد الدنيوية أو الأخروية، سواء أدركت خصوص المصلحة في الحكم الخاص أو لم تدركها؛ فهذا معنى انقيادها، وقوله: "لا أن... إلخ"؛ أي: على خلاف للمعتزلة في ذلك. "د".
3 انظر: تعليقنا على "1/ 127-130".(6/288)
4 ما بين المقعوفتين سقط من الأصل.
5 ومنه فواتح السور، وهذا القسم غير قسم المتشابهات؛ لأن المتشابهات تدرك بوجه إلا أنها تشتبه، أما هذا فلا يدرك معناه أصلا؛ فظهر وجه كون الثاني وجهًا مغايرًا للأول، وقوله: "كالمتشابهات... إلخ" على ترتيب اللف، وقوله: "فلا تفهمها أصلا" راجع للأصولية على رأي، وقوله: "أو لا يفهمها... إلخ" راجع للفروعية على الرأي المتقدم أو للمتشابهات مطلقا على الرأي الآخر. "د". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "ما لا يعرفه..."!!(6/289)
ص -211-…القسم على مقتضى العقول؟
والثاني:
أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، أو لا1 يعلمها إلى الله تعالى؛ كالمتشابهات الفروعية، وكالمتشابهات الأصولية، ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول؛ فلا تفهمها أصلًا، أو لا1 يفهمها إلا القليل، والمعظم مصدودون عن فهمها؛ فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول؟
والثالث:
أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا، وتحزبوا أحزابا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار2 عقله ودينه؛ فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة؛ كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث؛ قول الله تعالى: {فَعَلْنَا}، و{قَضَيْنَا}، و{خَلَقْنَا}3، ثم [من]4 بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام، الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به5 العقل كما هو الواقع، فلو كانت الأدلة جارية على تعلقات6 العقول؛ لما وقع في الاعتياد هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "ولا".
2 في "ط": "قدر".
3 انظر: "الاعتصام" "2/ 739 - ط دار ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 276"، وسيأتي تفصيل ذلك مع تخريجه "ص316".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
5 أي: يضعف عن فهمه. "د". وفي "ط": "يزل فيه".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعقلات".(6/290)
ص -212-…الاختلاف، فلما وقع؛ فهم أنه من جهة ماله خروج عن المعقول ولو بوجه ما.
فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال1 بناء على أنه مما يعلمه العلماء، وإن قلنا: إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة؛ فليس مما يتعلق به تكليف على حال، فإذا خرج عن ذلك؛ خرج عن كونه دليلًا على شيء من الأعمال، فليس مما نحن فيه، وإن سلم؛ فالقسم الذي2 لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا؛ لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه، وليس كلامنها فيه، إنما الكلام على ما يؤدي مفهومًا لكن على خلاف المعقول، وفواتح السور خارجة عن ذلك؛ لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها؛ لم تكن إلا على مقتضى العقول، وهو المطلوب.
وعن الثاني3 أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك؛ فبناء على اتباع هواه، كما نصت عليه الآية قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي مما يعقل معناه، وقوله: "ليس مما يتعلق به تكليف على حال"؛ أي: لا بأمر عملي ولا بأمر اعتقادي، وقوله: "على شيء من الأعمال"؛ أي: القلبية أو البدنية، وقوله: "وإن سلم"؛ أي: إن سلم كونها من الأدلة، فمع كونها نادرة لا تنافي هذا الأصل لأنها ليست مؤدية لمعنى يفهم العقل أنه على خلاف قضاياه؛ فقوله: "ولا تنخرم... إلخ" هو روح الجواب بالتسليم. "د".
2 هكذا في "د" و"ف" و"ط"، وهي ليست في الأصل، وفي "م": "الثاني الذي".(6/291)
3 أدمج فيه الجواب عن الثالث؛ لأن مبنى الاعتراضيين متقارب، فإن اختلاف الإخبار بالمعاني المتعددة واختلاف العقول فيها إنما جاء من تشابهها على العقول حتى تفرقت فيها؛ فلذلك قال: "وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة... إلخ"، وهو تمهيد للجواب عن الثالث، وإن لم يعنون له بعنوان خاص؛ إلا أن الاشتباه الذي يكون بين الإخبار بالمعاني المتعددة كما سيذكر أمثلته لا يتناوله الفرض الثاني في كلامه؛ فلا يدخل فيما لا يعلمه إلا الله؛ فقوله: "وهذا كما لا يأتي... إلخ" ليس المراد به كل ما تقدم، بل ما يصلح لذلك، وهو خصوص أن التأويل فيها يرجع بها إلى معقول موافق بخلاف قوله: "وإن فرض أنها... إلخ". "د".(6/292)
ص -213-…مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] لا أنه بناء على أمر صحيح، فإنه إن كان كذلك؛ فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر1 خارجي لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة؛ فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف، وكذلك الأعجمي الطبع2 الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه؛ فتاهوا، فإن القرآن والسنة لما كان عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما؛ إذًا لا يصح له نظر حتى يكون عالمًا بهما، فإنه إذا كان كذلك؛ لم يختلف عليه شيء3 من الشريعة.
ولذلك مثال يتبين به المقصود، وهو أن نافع بن الأزرق4 سأل ابن عباس؛ فقال له:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لمعنى".
2 قيد به لأن نصارى نجران كانوا عربا لا عجما، ولكن غلبت عليهم تعابير الأعاجم المجاورين لهم حتى لم يفهموا أن لفظ "نا" كما يكون للجماعة يكون للواحد المعظم نفسه. "د".
3 أي؛ فالاختلاف منشؤه أحد أمرين: ضعف في اللغة العربية واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة، أو هما معا. "د".(6/293)
4 "مسائل نافع بن الأزرق" لابن عباس، أوردها السيوطي في كتابه "الإتقان" "1/ 120-133"، قال في أولها بعد أن ساق الإسناد من طريق الطستي إلى عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه؛ قال: بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن؛ فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه؛ فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله؛ فتفسرها لنا، وتأتينا =(6/294)
ص -214-…"إني أجد في القرآن أشياء تختلف1 علي. قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بمصادفة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما..." وذكرها.
قال السيوطي بعد ذلك "1/ 133": "هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، وقد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، وهي أسئلة مشهورة، أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس"، ثم بين أن هذه المسائل قد أودعها بعضهم قديما في مصنفاتهم؛ فقال: "وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء" ["1/ 76-98"] منها قطعة، قال: حدثنا بشر بن أنس أنبأ محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أنبأنا أبو صالح هدبة بن مجاهد أبنأنا مجاهد بن شجاع أنبأنا محمد بن زيد اليشكري عن ميمون بن مهران؛ قال: دخل نافع بن الأزرق المسجد..."؛ فذكره.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير" ["10/ 304-312/ رقم 10597"] منها قطعة، من طريق جويبر عن الضحاك عن مزاحم؛ قال: "خرج نافع بن الأزرق... فذكره".
قلت: وانظرها في "مجموع الزوائد" "6/ 303-310 و9/ 278-284"، وقد أفردها محمد فؤاد عبد الباقي ورتبها على حروف المعجم، وألحقها بآخر كتابه "معجم غريب القرآن" "ص238-292"، وقام بدراستها اعتمادا على النص الوارد في "الإتقان" كل من أبي تراب الظاهري في "شواهد القرآن" وعائشة عبد الرحمن في "الإعجاز البياني للقرآن" "القسم الثاني"، ومن هذه المسائل نسخة عتيقة مصورة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، تحت رقم "3849" تحتوي على روايتين لها، وتختلف عما أورده السيوطي في "الإتقان".
والمذكور من الأسئلة أخرجه البخاري في "صحيحه" "8/ 555-556 - مع الفتح" معلقا، ثم وصله بقوله: "حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا".(6/295)
وانظر: "فتح الباري" "8/ 559"، و"الاعتصام" "2/ 825 وما بعدها - ط دار ابن عفان".
1 هذا المثال ظاهر فيه أن الاختلاف جاء من السبب الثاني، وهو عدم معرفة مقاصد القرآن؛ فاختلفت عليه الآيات، ويبقى الكلام في أن نافعا؛ هل كان من الطاعنين، أم طلب أن يزيل شبها طرأت عليه بسبب عدم فهمه المقاصد؟ فيدخل سؤاله في قسم ما أشكل على الطالبين، وظاهر قوله: "وهكذا سائر ما ذكره الطاعنون... إلخ" أنه من القسم الأول؛ فلينظر: هل كان نافع من الخوارج؟ ولين ابن عباس معه لا يدل على الواقع من ذلك، ثم رأيت المؤلف في "الاعتصام" ["2/ 727 - ط دار ابن عفان"] يحكي عن الخوارج إلى أن قال: "ثم رجع عبادة بن قرط من القتال يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة وهم صنف من الخوارج"، هذا وقد عبر البخاري عن السائل برجل؛ فاتفق الشراح على أنه نافع بن الأزرق، وفي "شرح القسطلاني" لأحاديث السجدة أنه صار بعد أسئلته لابن عباس رئيس الأزارقة من الخوارج"؛ فاجتمع الكلام أوله وآخره. "د".(6/296)
ص -215-…{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42].
{رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؛ فقد كتموا في هذه الآية.
وقال: {بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا...} إلى قوله {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 28-30]؛ فذكر خلق السماء قبل [خلق] الأرض.
ثم قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ...} إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية [فصلت: 9-11]؛ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء.
وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، {عَزِيزًا حَكِيمًا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا}؛ فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى ينفخ1 في الصور؛ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]؛ فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]؛ فإن الله يغفر لأهل الأخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تعالوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".(6/297)
ص -216-…نقول: "ما كنا مشركين"؛ فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42].
وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض؛ أي: أخرج الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين؛ فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك، وذلك قوله؛ أني1 لم أزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله".
هذا تمام ما قال في الجواب.
وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته، وأتى من بابه، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما وقف فيه الراسخون، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كافٍ والحمد لله، وقد ألف الناس2 في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا، فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل؛ طلبه في مظانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" وفي غيره: "أي".
2 من المؤلفات في ذلك "مشكل الآثار"، و"شرح معاني الآثار"، كلاهما للطحاوي، وهما في الأحاديث والآثار، ودفع إيهام الاضطراب، للشنقيطي، وهو في الآيات التي في ظاهرها اضطراب، وهو مطبوع آخر" أضواء البيان"، ومفردًا وهو من نفائس الكتب.(6/298)
ص -217-…المسألة الرابعة1:
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها، وهذا لا نزاع فيه؛ إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة ترتبط بمسألة: "يستحيل كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا من جهة واحدة"، وبمسألة: "إذا أمر بفعل مطلق؛ فالمطلوب... إلخ" المذكورتين في الأصول، راجع ابن الحاجب وما كتب عليه، يريد المؤلف أن يبسط المقام ويبين سبب اختلافهم في مثل صحة الصلاة في الدار المغصوبة؛ فمهد أولا ببيان الاعتبارين: العقلي والخارجي، ثم ردد الكلام في أن متعلق التكليف الجهة العقلية أو الخارجية، ولا يعني أن المطلوب تحصيله هو نفس الأمر العقلي لأن هذا وإن قيل به، فله معنى آخر غير ما يتبادر منه، وإلا؛ لكان تكليفًا بالمحال، بل غرضه ما صرح به بعد بقوله: "إذا أوقعنا الفعل في الخارج عرضناه على المعقول الذهني؛ فإن صدق عليه صح، وإلا فلا".(6/299)
وقوله أيضا في أثناء الأدلة، وهو: "دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة"، ولما تم له التمهيد ببيان الاعتبارين؛ قال: "إن هذا هو منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة"، يعني فيمن قال: إن قصد الشارع بالأمر مثلا منصرف إلى المعقول الذهني، يبني عليه أنه إذا فعل المأمور به مستوفيًا لشرائطه وأركانه التي اعتبرت له في الذهن؛ كان صحيحًا بقطع النظر عما يلابسه من الصفات الخارجية، وسواء أكانت الصفات الخارجيه الزائدة عن المقعول من الحقيقة الشرعية فيها مفسدة تقتضي النهي أم ليس فيها؛ صح المأمور به لأن قصد الشارع قد حصل بهذا المقدار، وكفى، وذلك لأن هذا المقدار الذهني الذي قصد إليه الشارع واحد بالشخص لا تعدد فيه، وذو جهة واحدة لا تعدد فيها؛ لأن التعدد إنما يجيء من اعتبار الكيفيات والأحوال الخارجية، والشارع إنما ينظر إليه من جهة حقيقته العقلية الشرعية، وهي شيء واحد، وحينئذ يستحيل -بناء على القاعدة الأصولية- أن يتعلق بها وجوب وحرمة معًا؛ فمثلا الصلاة في المكان المغصوب صحيحة متى استوفت ما راعاه الشارع في حقيقتها من أركان وشروط ولا نظر إلا ما تعلق بها في الخارج من وصف هو مفسدة تقتضي النهي؛ لأنه إنما جاء من الكيفيات والأحوال الخارجية الزائدة عن الحقيقة الشرعية؛ فلا يعتبر جزءًا من المأمور به حتى يكون العمل تكوّن من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فيقتضي فساد المجموع هذا، وأما إذا قلنا: إن منصرف الأدلة إلى الأفراد الخارجية لهذا المعقول الذهني، ومعروف أنها لا تتحقق إلا بهيئات وكيفيات تكون داخلة في حقيقة تلك الأفراد، =(6/300)
ص -218-…اعتبار من جهة معقوليتها.
واعتبار من جهة وقوعها في الخارج.
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها؛ كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمة، وهذا هو الاعتبار العقلي، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج1، لازمة أو غير لازمة، وهو الاعتبار الخارجي؛ فالصلاة المأمور بها مثلًا يتصور فيها هذان الاعتباران، وكذلك الطهارة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات وغيرها، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها، وكذلك سائر الأفعال.
فإذا صح الاعتباران عقلا؛ فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو، ألجهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو لازمة لوجودها؛ كما يقولون في جزئي أي نوع، كما في زيد مثلا: كل مشخصاته الزائدة عن حقيقته النوعية معتبرة جزءًا منه أو كجزء -إذا قلنا ذلك- لزم أن كل ما اقترن به المأمور به في الخارج من كيفيات وأحوال، معتبرة فيه جزءًا له أو كجزء؛ ففي مثل الصلاة في مكان مغصوب يعتبر الشرع الانتفاع بالمغصوب كجزء من الصلاة، فتكون قد تكونت من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فتكون فاسدة، وهكذا كل مأمور به اقترن به في الخارج ما فيه مفسدة يكون فاسدًا، على ما سيفصله المؤلف في الفصل التالي من الكلام في الأوصاف السلبية والوجودية. وبهذا البيان تتضح المسألة، ويظهر انسجام أدلتها على كل من هذين النظرين، وتظهر غزارة مادة المؤلف وعلو كعبه في هذا الفن رحمه الله، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة في الأوامر والنواهي ما يساعدك على فهم ما قررنا به كلامه هنا، وقد ذكر الآمدي في هذه المسألة في الأوامر، وصحح أن الأمر بالمطلق أمر بالمقيد؛ فراجعه إن شئت. "د".(6/301)
قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-306".
1 في الأصل: "الخارجة".(6/302)
ص -219-…المعقولية أم لجهة الحصول [في]1 الخارج؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف2، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، وأدلة المذاهب3 منصوص عليها مبينة في علم الأصول، ولكن نذكر من ذلك طرفًا يتحرى منه مقصد4 الشارع في أحد الاعتبارين.
فمما يدل على الأول أمور5:
أحدها:
أن المأمور به أو المنهي عنه أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء، وهذا أمر ذهني في الاعتبار؛ لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك في المعقول الذهني، فإن صدق عليه صح، وإلا؛ فلا.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها؛ حتى تكون له أفعالًا خارجية لا أمورًا ذهنية، بل الأمور الذهنية هي مفهومات6 الخطاب، ومقصود7 الخطاب ليس نفس التعقل، بل الانقياد، وذلك الأفعال الخارجية؛ سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية، وعند ذلك؛ فلا بد أن تقع موصوفة، فيكون الحكم عليها كذلك8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 لا نزاع في أن الأوامر والنواهي متعلقة بالمطلق ظاهرا وهو الماهية بلا قيد، وأما المطلوب تحصيله؛ فهو الماهية من حيث اتحادها بالفرد الخارجي أو وجودها فيه على خلاف في ذلك، ولا قائل بأن المطلوب هو الماهية المجردة فيما أظن، وإنما ذلك مقول في معنى المطلق الذي تتعلق به الأوامر والنواهي ظاهرا، وبذلك تعلم ما في الأدلة المسوقة عليه. "ق".
3 في "ط": "المذهب".
4 في "ط": "مقاصد".
5 ذكر له ثلاثة أدلة، عبر عنها بالأول والثاني والثالث، وذكر في مقابل كل منها معارضته من طرف المذهب الآخر بقوله: "ولصاحب الثاني". "د".
6 في "ط": "مفهومة".
7 في "ط": "ومفهوم".(6/303)
8 أي: ملاحظا فيها وقوعها في الخارج، لا مجرد المقدار الذي يطابق ما في الذهن، وإذا كان الحكم عليها إنما يكون باعتبار الوقوع في الخارج؛ فلا بد فيه من مراعاة الأوصاف من الكيفيات الأحوال التي تكون عليها في الخارج، فإن اقترن بها موجب للفساد أفسدها، والدليل لكل منهما -كما ترى- كأنه مجرد دعوى كلام في مقابلة كلام. "د".(6/304)
ص -220-…والثاني:
أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال؛ لزمت1 شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام؛ لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام، ويلقى فيه جميع ما تقدم، وقد مر بطلانه.
ولصاحب الثاني أن يقول: لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردًا عن الأوصاف الخارجية؛ لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق، وذلك باطل باتفاق؛ فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة، وهو من هذا النمط2 وكذلك3 كل فعل سائغ في نفسه وفيه تعاون4 على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان، إلى ما أشبه ذلك، ولم يصح5 النهي عن صيام يوم العيد، ولا عن الصلاة عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لو اعتبرنا الخارج في المباح، ومعلوم أنه يلزمه أن يكون فيه ترك حرام؛ لزم أن يكون كل مباح واجبًا كما يقول الكعبي، يعني: وأنتم متفقون معنا على وجود المباح المستوي الطرفين ضمن الأحكام الشرعية. "د".
2 أي: لوحظت فيه الأوصاف الخارجية قطعا، وإلا؛ لما صح منعه. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "كذلك"، وكتب "ف": "لعله "وكذلك"؛ أي أنه منظور فيه للأوصاف الخارجية.
4 كالأكل يقصد به التقوي على الطاعة أو التقوي على الإثم؛ فالأصل مباح، وبالقصد المذكور تحصل الطاعة أو المعصية، وهذا نوع آخر غير سد الذرائع التي هي أمر سائغ يتحيل به إلى ممنوع؛ كبيوع الآجال كما سبق، وقد ذكر ثلاثة أنواع مما اعتبر الشارع فيه الأوصاف الخارجية وبنى حكمه عليها هذان النوعان، وصحة النهي عن صوم يوم العيد والصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، والأنواع الثلاثة يستدل بها على بطلان اعتبار المعقول الذهني مجردًا؛ فقوله: "ولم يصح النهي" داخل تحت مضمون قوله: "لزم ألا تعتبر الأوصاف" وليس مقابلا له، وإنما هو نوع مغاير لسد الذرائع والتعاون الذي اعتبر فيهما كما اعتبر فيه الأوصاف الخارجية. "د".
5 عطف على قوله: "لزم أن لا تعتبر". "ف".(6/305)
ص -221-…طلوع الشمس أو عند غروبها، وهذا الباب واسع جدا.
والثالث:
أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط؛ لم يصح للمكلف1 عمل إلا في النادر؛ إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا2 بعضها ببعض، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة؛ لأنه ترك بها واجبا، وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر سيئا؛ فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما3 في الخارج، وهو على خلاف قول الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما كالوصف للثاني4؛ لم يكن العمل الصالح صالحا5، فلم يكن ثم خلط عملين، بل صارا6 عملا واحدا؛ إما صالحًا، وإما سيئًا7، ونص الآية يبطل هذا، وكذلك جريان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "المكلف".
2 كما تقدم في المسألة السابعة من النوع الثالث من مقاصد الشارع، حيث يقول: "إن الحقوق متزاحمة، وإن بعضها يضاد بعضا؛ كالحج والجهاد مثلا في وقت واحد، وبعضها يؤدي إلى نقض في غيره... "إلخ ما ذكر هناك. "د".
3 أي: بحيث يكون وجدوه الخارجي مما يلزمه العمل السيء؛ فيكون من الموضوع المتكلم فيه؛ أي: فإذا اعتبر العمل السيء وصفا للعمل الصالح لأنه مقترن بوجوده الخارجي؛ فلا يكون هناك عملان، بل عمل واحد، والآية تسميهما عملين، وتبقي وصف كل منهما بالصلاح ومقابله. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "للوصف الثاني"، وكتب "د": "لعل الأصل: "كالوصف الثاني"، يعني كما هو مقتضى القول الثاني، ويؤيد هذا التصحيح قوله الآتي في جواب الإشكال عن الآية: "كالوصف للآخر".
5 لو زاد هنا جملة "أو السيء سيئا"؛ لناسب قوله بعد: "إما صالحا، وإما سيئا". "د".
6 في "د": "صار"، المثبت من الأصل و"م" و"ف".
7 نوسع في البيان، وإلا؛ فسابقه يقتضي أنه سيء فقط. "ف".(6/306)
ص -222-…العوائد1 في المكلفين؛ فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن الأمور الذهنية مجردة من2 الأمور الخارجية تعقل3، وما لا تعقل3 لا يكلف به، أما أن ما لا يعقل3 لا يكلف به؛ فواضح، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل3 مجردة؛ فهو ظاهر أيضا، في4 المحسوسات؛ فكالإنسان مثلا، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج؛ لأنها كلية حتى تتخصص، ولا تتخصص5 حتى تتشخص، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر؛ فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف؛ كالضحك، وانتصاب القامة، وعرض الأظفار، ونحوها وخواص شخصية وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر، ولولا ذلك؛ لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة.
فقد صارت إذًا الأمور الخارجية العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج، وأما في الشرعيات؛ فكالصلاة مثلا؛ فإن حقيقتها المركبة من القيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما يجري في الأمور العبادية يجري في العاديات كما سيقول بعد في الذبح بالسكين والبيوع الفاسدة. "د".
وكتب "ف": "المراد بـ"العوائد" هنا العادات، جمع "عادة"، وهي الديون يعاد إليها".
2 في الأصل "عن"، والمثبت من "ف" و"د" و"م" و"ط".
3 في "د" و"م" في جميع المواطن: "تفعل" أو "يفعل"، وفي "ف": "لا يفعل"، وفي هامشها: "في الأصل: لا يعقل، وهكذا ما بعده".
قلت: وهكذا في الأصل و"ط" و"ماء"، ثم قال "ف": "وهو غير ظاهر؛ فتنبه"، وكتب "ف" ما نصه: "وهذا يشبه أن يكون مغالطة؛ لأنه أخذ ظاهر الدعوى من أن الحقيقة الذهنية هي المكلف بها، واعترض بما قال، ولكنه لو نظر غلى غرضه الذي قاله وسيقوله؛ لم يتوجه هذا، وسيتضح ذلك بعد". قلت: الكلام مستقيم على النحو الذي ضبطناه، ولله الحمد.
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "أما في".
5 في "ط": "حتى تختص، ولا تختص".(6/307)
ص -223-…والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلى على كيفيات وأحوال وهيئات شتى، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة أو1 البطلان، وهي متشخصات، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك، إذ هي في الذهن كالمعدوم، وإذا كان كذلك؛ فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج2، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها؛ فهو إذا مخاطب بما يصح له ان يحصله في الخارج، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية؛ فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها، وهو المطلوب، فإن حصلت بزيادة وصف أو نقصانه؛ فلم تحصل إذا على حقيقتها، بل على حقيقة أخرى، والتي خوطب بها لم تحصل بعد.
فإن قيل: فيشكل معنى الآية إذا، وهو قوله: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان3 وتصح مع ذلك، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة، وهو الاعتبار الذهني.
قيل: أما الآية؛ فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين وفي حالين، وفي مثله نزلت الآية، وإذا تلازمت حتى صار أحدها كالوصف للآخر، فإن كان كالوصف السلبي؛ فلا إشكال في عدم التلازم لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية، وأما إن كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "والبطلان".
2 الخصم يقول له: إننا متفقون في هذا، ولكن نحن نقول بما وقع في الخارج منطبقا عليه الحقيقة الكلية فقط؛ لأنها هي المرعية في التكليف، أما الزيادات الخارجية التي يقترن بها؛ فلا شأن لها في قصد الشارع، وأنت تقول: لها شأن، وتتحكم في صحة المأمور به وعدمها. "د".
3 في "ط": "بنقصان".(6/308)
ص -224-…صفة وجودية أو كالصفة الوجودية1، فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج، ولا يدخل مثله تحت الآية2، وأما الزيادة غير المبطلة أو النقصان؛ فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به؛ فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها، لا أنه3 اعتبر فيها الاعتبار الذهني في الجملة، والبحث في هذه المسألة يتشعب وينبني عليه مسائل فقهية.
فصل:
ويتصدى النظر4 هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران، وما لا يصير كذلك؛ فلا يجريان فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي في ترك الطهارة للصلاة؛ فإنها وإن كانت سلبية، لكن لما ثبت اعتبارها شرعا؛ كانت كأنها وجودية. "د".
2 لأن الآية في جمعهم بين أعمال صالحة وتركهم الجهاد في هذه الغزوة، والترك هنا وصف سلبي صرف ليس كالطهارة للصلاة مثلا. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "نزلت على ما رواه البيهقي [في "الدلائل" "5/ 272"] في عشرة من المسلمين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، والواو في الآية بمعنى الباء؛ كما في قولك: "خلطت الماء واللبن"، ومعنى خلط العمل الصالح بالسيء وعكسه: استعقاب آخرهما الآخر، بحيث يقعان في زمانين".
قلت: أخرج سبب النزول المذكور ابن جرير في "التفسير" "11/ 16"، وابن مردويه من طريقين عن ابن عباس، في أحدهما عبد الله بن صالح، كاتب الليث وهو ضعيف، وفي الآخر محمد بن سعد العوفي وآباؤه، وهم ضعفاء.
وانظر "الدر المنثور" "4/ 275"، و"لباب النقول" "ص123-124"، و"الفتح السماوي" "2/ 697-698"، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" "ص271"، و"الكافي الشافي" "ص80" لابن حجر.
3 في "ط": "أنها".(6/309)
4 إنما يحتاج إلى ضبط هذا الموضع ومعرفة الأفعال التي تعتبر وصف لما اقترن بها والتي لا تعتبر كذلك، بناء على النظر الثاني، أما إذا نظر إلى الأمر الذهني المعقول، وأنه إذا صدق على ما في الخارج صح بقطع النظر عن الأوصاف التي تقترن به في الخارج؛ فلا حاجة له بهذا الضابط وتفصيله لأن الضابط عنده مجرد صدق الحقيقة الذهنية عليه باستيفائه أركانها وشروطها. "د".(6/310)
ص -225-…وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة؛ إما أن يصير أحدها وصفًا للآخر أو لا، فإن كان الثاني؛ فلا تلازم؛ كترك الصلاة مع ترك الزنى أو السرقة، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر؛ لعدم التزاحم في العمل، إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع أو غير مشروع، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين1 على المكلف وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي والسلبيات اعتباريات لا حقيقية، وإن كان الأول؛ فإما أن يكون وصفا سلبيا أو وجوديا، فإن كان سلبيا؛ فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعًا على الخصوص، أو لا، فإن كان الأول؛ فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية2؛ كترك الطهارة في الصلاة، وترك الاستقبال، وإن كان الثاني؛ فلا اعتداد بالوصف السلبي؛ كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة، [فإن الصلاة]3 وإن وصفت بأنها فرار من واجب؛ فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا، لا حقيقة له في الخارج، وإن كان الوصف وجوديا؛ فهذا هو محل النظر؛ كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوبة، والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمتزاحمين".
2 نقول: ولا إشكال في اعتبار المعقول الذهني أيضا متى لوحظ تقييد المعقول المذكور بالشروط مع الأركان، على ما سقناه في تقرير الكلام من أوله؛ فإنه إذا لم تعتبر الشروط أشكل عليه الأمر، واضطر إلى اعتبار بعض الأمور الخارجية دون بعض؛ فلا يكون اعتباره لمجرد الأمر المعقول مقبولا بإطلاق. "د".
3 سقط من "ط".(6/311)
ص -226-…الأفعال مع التروك؛ إلا أن يثبت تلازمها شرعا، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي؛ كالطهارة للصلاة، وأما الأفعال مع الأفعال؛ فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج، فيحدث منها فعل واحد موصوف؛ فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم، والله أعلم.
ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي.(6/312)
ص -227-…المسألة الخامسة:
الأدلة الشرعية ضربان:
أحدهما:
ما يرجع إلى النقل المحض.
والثاني:
ما يرجع إلى الرأي المحض.
وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا؛ فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول؛ فالكتاب والسنة، وأما الثاني؛ فالقياس والاستدلال1، ويلحق بكل واحد منهما وجوه؛ إما باتفاق، وإما باختلاف؛ فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه2 قيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس شرعي، وإن كان راجعًا إلى النص؛ إذ الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل شرعي. "ف".
قلت: انظر "الإحكام" "7/ 53"، و"النبذ" "37-51، 120-135" كلاهما لابن حزم، و"الوجيز في أصول الفقه" "148-149".
2 أي: سواء جرينا على أنه يختص بالصحابة كما روي عن أحمد أو لا، وسواء قلنا: إجماع أهل المدينة حجة كما يقول مالك أو لا، وسواء قلنا: يشترط عدد التواتر في حجية الإجماع أو لا، وسواء قلنا: يصح أن يكون مستند الإجماع قياسًا كما هو الحق أو لا كما يقول الظاهرية، وهكذا مما يدور حول الإجماع من الخلاف المقتضي لتوسيع مجال الإجماع أو تضييقه؛ إلا أنه يقال إذا كان مستنده قياسا: لا يكون ملحقًا بالضرب الأول بل بالثاني. "د".
وكتب "ف": ما نصه: "أما الإجماع؛ فلأنه لا بد له من سند من كتاب أو سنة، فيعتد به من هذه الجهة، ولا يلزمنا البحث عن سنده لحديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، ومذهب الصحابي محمول على الرواية والنقل ما لم يثبت أنه رأي له واجتهاد؛ فيجري الخلاف في حجيته، وأما شرع من قبلنا؛ فلإقراره في شرعنا".(6/313)
ص -228-…به ومذهب1 الصحابي وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية، حسبما يتبين في موضعه2 من هذا الكتاب بحول الله.
فصل:
ثم نقول: إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول؛ لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل، وإنما أثبتناه بالأول؛ إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه، وإذا كان كذلك؛ فالأول هو العمدة، وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين:
إحداهما:
جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية.
والأخرى:
جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية.
فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، والصيد، والذبائح، والبيوع، والحدود، وأشباه ذلك، والثانية3 كدلالته على أن الإجماع حجة، وعلى أن القياس حجة، وأن قول الصحابي حجة، وشرع من قبلنا حجة، وما كان نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظاهر إذا لم يكن اجتهادًا منه، وإلا؛ رجع لما يناسبه من الضربين. "د".
2 في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد أن مآلات الأفعال معتبرة. "د".
3 في الأصل: "الثاني".(6/314)
ص -229-…فصل:
ثم نقول: إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب، وذلك من وجهين:
أحدهما:
أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب؛ لأن الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي"1، هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا، بعضه يؤمن على مثله البشر2، ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله.
وأيضا؛ فإن الله قد قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} في مواضع كثيرة.
وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. إلى ما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 جاء معنى هذا الكلام في حديث صحيح، يأتي نصه وتخريجه "4/ 180".(6/315)
ص -230-…والوجه الثاني:
أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، ولذلك قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وذلك التبليغ من وجهين:
تبليغ الرسالة، وهو الكتاب.
وبيان معانيه.
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم [وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله]؛ فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب، هذا هو الأمر العام فيها.
وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد1 إن شاء الله، فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى؛ فإنه كلام الله القديم: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وبيان هذا مذكور بعد2 إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثانية من الدليل الثاني وهو السنة. "د".
2 في المسألة الرابعة من السنة؛ فسيشرح فيها كيف أن الكتاب تضمن ما في السنة. "د".
وفي "ط": "أنه مذكور".(6/316)
ص -231-…المسألة السادسة1:
كل دليل شرعي؛ فمبني على مقدمتين:
إحداهما:
راجعة إلى تحقيق مناط2 الحكم.
والأخرى:
ترجع إلى نفس الحكم الشرعي.
فالأولى نظرية وأعني بالنظرية هنا3 ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر، ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية، والثانية نقلية، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي، بل هذا4 جار في كل مطلب عقلي أو نقلي؛ فيصح أن نقول: الأولى راجعة إلى تحقيق المناط، والثانية راجعة إلى الحكم، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية، فإذا قلت: إن كل مسكر حرام؛ فلا يتم القضاء عليه5 حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تفصيل ذلك "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254-255 و22/ 329-330".
2 "المناط هو الوصف الذي نيط به الحكم، وتحقيقه إثبات العلة في إحدى صورها التي خفيت فيها العلة؛ كتحقيق أن النباش سارق، بأنه وجد فيه أخذ المال خفية وهو السرقة، فتقطع، ولكن المؤلف هنا أراد بتحقيق المناط إثبات الوصف الذي نيط به الحكم مطلقًا؛ ففي حرمة السكر كونه خمرًا، وفي جواز الوضوء بالماء كونه مطلقا، وفي رفع زيد ونصب عمرو كونه فاعلًا، وفي حدوث العالم كونه متغيرًا". "ف".
3 في "م": "ههنا".
4 أي: حاجة الدليل إلى مقدمتين بحيث ترجع إحداهما إلى تحقيق المناط... إلخ لا بقيد أن تكون الثانية نقلية؛ إذ قد تكون المقدمتان عقليتين، وسيأتي له توجيه اطراد ذلك في العقليات أيضا بأنه يجب أن تكون إحدى المقدمتين العقليتين جارية مجرى النقليات في خاصيتها وهي أن تكون مسلمة. "د".(6/317)
5 أي: على الجزئي بهذا الدليل الشرعي حتى يكون الجزئي بهذه الحيثية ليستعمل هذا المشروب المشار إليه إذا لم يتحقق فيه المناط، ولم يندرج في موضوع الكبرى أو يجتنب، ولا يستعمل إذا لم يتحقق فيه ذلك، كما يقولون: إن الأصغر في مقدمة الدليل المنطقي يجب أن يكون مندرجًا في الأوسط حتى ينتقل حكمه إليه؛ فتحقيق المناط يرجع إلى تحقيق اندراج الأصغر في الأوسط. "د".(6/318)
ص -232-…منه ليستعمل أو لا يستعمل، لأن الشرائع إنما جاءن لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا؛ قيل له: أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر؛ قال: نعم، هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال. فيجتنبه، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء؛ فلا بد من النظر إليه: هل هو مطلق أم لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم وشم الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته؛ فقد تحقق مناطه عنده، وأنه مطلق، وهي المقدمة النظرية، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية، وهي أن كل ماء مطلق؛ فالوضوء به جائز، وكذلك إذا نظر: هل هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ فينظر: هل هو محدث أم لا؟ فإن تحقق الحدث؛ فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء، [وإن تحقق فقده؛ فكذلك؛ فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء]1، وهي المقدمة النقلية.
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة2 ومقيدة3، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلى على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "... مطلوب بالرضى"؟!
2 في البعض؛ كالقاعدة القائلة: "المرتد يقتل". "د".
3 وهو الأكثر، كما في قاعدة "القاتل يقتل"؛ أي: إذا لم يكن أبا أو إذا لم يعف أولياء الدم مثلا: وعلى هذا يكون معنى الإطلاق والتقييد وغيرهما في المسألة السابعة، ويظهر أنه لا مانع من جعلهما بالمعنى الآتي في المسألة المذكورة. "د".(6/319)
ص -233-…تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد، وهو مقتضى المقدمة النظرية، والمسألة ظاهرة في الشرعيات.
نعم، وفي اللغويات والعقليات؛ فإنا إذا قلنا: ضرب زيد عمرا، وأردنا أن نعرف [ما] الذي يرفع من الاسمين وما الذي ينصب؛ فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا حققنا الفاعل وميزناه؛ حكمنا عليه بمقتضى [المقدمة]1 النقلية، وهي أن كل فاعل مرفوع، ونصبنا المفعول كذلك؛ لأن كل مفعول منصوب، وإذا أردنا أن نصغر عقربًا حققنا أنه رباعي؛ فيستحق من أبنية التصغير بنية "فعيعل"2 لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية، وهكذا في سائر علوم اللغة، وأما العقليات؛ فكما إذا نظرنا في العالم؛ هل هو حادث أم لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم3 وهو العالم، فنجده متغيرًا، وهي المقدمة الأولى، ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا: كل متغير حادث.
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات: إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية، وهي المفيدة لتحقيق المناط -وذلك مطرد في العقليات أيضا-، والأخرى نقلية؛ فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات؟ هذا لا بد من تأمله.
والذي يقال فيه4 أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "فعيل".
3 مناط الحكم هو الوصف الذي به يندرج في موضوع الكبرى، وهو هنا التغير. "د". وكتب "ف": "المناسب وهو تغير العالم كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه".
4 هذا يشير غلى أن المقدمة المعتبرة لتحقيق المناط في كل من الشرعيات والعقليات هي المقدمة النظرية، وأما المقدمة الثانية الراجعة إلى الحكم؛ فهي إلى الشرعيات نقلية، وفي العقليات عقلية، وكلتاهما تؤخذ مسلمة. "ف".(6/320)
ص -234-…أنها نقلية؛ فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلًا، ونظير هذا1 في العقليات المقدمات المسلمة، وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع مسلمًا عند الخصم؛ فهذه خاصية إحدى المقدمتين، وهي أن تكون مسلمة، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه، ولا حاجة إلى البسط هنا؛ فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "د" و"م"، وفي الأصل: "وينظر في هذا"، وفي "ف" و"ط": "وينظر إلى هذا"، وقال "ف": "لعله "ونظير هذا".(6/321)
ص -235-…المسألة السابعة:
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب1 مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص؛ فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى؛ كالعدل، والإحسان، والعفو، والصبر، والشكر في المأمورات، والظلم، والفحشاء، والمنكر، والبغي، ونقض العهد في المنهيات.
وكل دليل ثبت فيها2 مقيدا غير مطلق، وجعل له قانون وضابط؛ فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكِّلَ إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها3، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية4؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ومثله السنة؛ لأن الكلام في هذه المباحث يتعلق بالأدلة على وجه العموم، بل الأدلة الواردة مقيدة. "د".
2 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "المناسب ثبت فيه أي الكتاب"، زاد "د": "أي الكتاب بمعنى الشريعة على هذا الوجه أكثر ما توجد في السنة كتابا وسنة"، كما أشرنا إليه آنفا. "د".
3 في "ط": "كيفيتها".
4 أي: التي شرعت بالمدينة النبوية ويقابلها الأصول المكية، وستأتي أمثلة ذلك في كلام المصنف. "ف" ونحوه عند "م".(6/322)
ص -236-…المسألة الثامنة1:
فنقول: إذا رأيت2 في المدنيات أصلًا كليًّا فتأمله تجده جزئيا3 بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا4 لأصل كلي، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل5، والمال.
أما الدين؛ فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما، وهو أول ما نزل بمكة.
وأما النفس؛ فظاهر إنزال حفظها بمكة؛ كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8],.
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}6 [الأنعام: 119].
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا أيضا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126".
2 في "ط": "أردت".
3 كالجهاد؛ فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيقرره قريبا، لم يفرض إلا في المدينة بعد الإذن به أولا بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...} إلخ [الحج: 39]، ثم لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، ثم قال المشركين كافة، خلافا لمن قال: إنه فرض بمكة؛ فإنه غلط لوجوه ستة ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" [3/ 70-71]. "د". وانظره: "5/ 235-236".
4 كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما سيقول. "د".
5 في الأصل: "والنسب" وتكرر ذلك.
6 ومحل الدليل قوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}؛ أي: من محرمات الأكل لحفظ النفس؛ فواجب تناوله. "د".(6/323)
ص -237-…وأما العقل، فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة1؛ فقد ورد في المكيات مجملا، إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء، ومنافعها2 من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعها3؛ فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء [وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله] ساعة أو لحظة4، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فآية التحريم البات: في المائدة، وآيات التمهيد: في النساء والبقرة، وكلها مدنية. "د".
2 لعله زائد يستغنى عنه بقوله: "وكذلك منافعها". "د".
3 في "ف": "منافعهما"، وقال: "المناسب "منافعها" ليشمل منافع السمع والبصر وغيرهما من بقية الأعضاء".
4 قال بعضهم: لعل الأصل: "لا ساعة أو لحظة" كما يدل عليه السياق.
[قلت: هذا نص عبارة "ف"]. والظاهر أن الأصل: "أو ساعة أو لحظة"*، ويكون حاصل كلامه أنه وإن لم يرد في المكي نص في مفسد العقل وهو الخمر تفصيلا؛ إلا أنه ورد إجمالا لأن حفظ العقل ومنفعته داخل ضمنا في حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها؛ فما يزيل العقل رأسًا يعد مزيلًا لجزء من الإنسان، وما يزيل منفعته دوامًا أو زمنًا ما يعد مزيلًا لمنفعته؛ فحرمة حفظ النفس كلي يندرج فيه إجمالا حفظ العقل نفسه، وكذا حفظ منفعته؛ فما يزيل منفعته ولو لحظة منهي عنه، كمزيل منفعة أي عضو دائما أو لحظة، هذا وجه، ويرجع إلى الأول في صدر المسألة، ثم قال: "وأيضا؛ فإن حفظه على هذا الوجه"؛ أي: بحيث لا يزول ولو لحظة يعد مكملا، "أي لحفظ النفس والدين والنسل والمال والعرض، وإن كان في ذاته من ضروري حفظ العقل؛ فالنهي عن الخمر المذهب للعقل رأسا أو لمنفعته وقتا ما من ضروري حفظ العقل الداخل ضمنا في ضروري حفظ النفس والأعضاء ومنافعها، وهو أيضا مكمل لحفظ الضروريات الأخرى؛ كالدين وغيرها، فلذلك قال: إن حفظه على هذا الوجه من المكملات".(6/324)
وعليه؛ فيرجع النهي عن الخمر على هذا الوجه إلى القسم الثاني في صدر المسألة، هذا إذا قدرنا الساقط من العبارة لفظ "أو" وأما إذا قدرناه لفظ: "لا" كما يقول بعضهم؛ فيكون المعنى أن ما يزيل العقل رأسا من الضروري الداخل في حفظ النفس إجمالا، وأما حفظه على وجه أنه يزول ساعة ثم يعود؛ فيكون من المكملات إنما هو شرب القليل الذي لا يسكر عادة، كما عد النظر =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بل الصواب ما جاء في "ط" فقط، وهو بين معقوفتين.(6/325)
ص -238-…وأيضا؛ فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات؛ لأن شرب الخمر1 قد بين الله مثالبها في القرآن، حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] إلى آخر الآية، فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان.
وأم النسل2؛ فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى، والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وأما المال؛ فورد فيه3 تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم، والإسراف، والبغي ونقص المكيال والميزان4، والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى.
وأما العرض الملحق بها؛ فداخل تحت النهي عن إذايات5 النفوس.
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم6 إلا وحفظها من جانب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للأجنبية مكملا لحرمة الزنا، وأما ثانيا، فلو كان الغرض أن ما يزيله رأسا هو الذي يعد فقط من الضروري وما عداه مكمل؛ لكان ذكر المؤلف منافع الأعضاء حشوا مفسدا لأنه يقتضي أن إذهاب منافع العقل بحيث يغطي وينكشف معدود من نفس الضروري الداخل إجمالا في حفظ النفس، وأما ثالثا؛ فإنه كان المناسب إذا في التعبير بدل قوله: "وأيضا؛ فإن حفظه... إلخ" أن يقول المؤلف: "أما حفظه على هذا الوجه؛ فإنه من المكمل لحفظ العقل"؛ لأن قوله "وأيضا" يفيد أنه وجه آخر غير السابق لا أنه تكميل للكلام المتقدم، وإنما أطلنا الكلام ليتم فهم المقام. "د".
1 قال "ف": "الأنسب: لأن الخمر".
2 في الأصل: "النسب".
3 في الأصل و"ف" و"ط": "فيها"، وقال "ف": "المناسب: "ورد فيه"".
4 في "د": "أو الميزان".
5 قال "ف": "لعله: أذيات النفوس، جمع أذية، وهي ما يتأذى به".
6 أي: من جهة ما يقضي بهدمها وإفسادها، من الظلم ونقص الكيل وما معها، وقوله: "من جانب الوجود"؛ أي: الأسباب التي تحفظها وتستبقي وجودها؛ كالأكل والشرب في حفظ النفس مثلا. "د".(6/326)
ص -239-…الوجود حاصل؛ ففي الأربع الأواخر ظاهر، وأم الدين؛ فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح1، والتصديق بالقلب آتٍ بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ ليتفرع2 عن ذلك كل ما جاء3 مفصلا في المدني؛ فالأصل وارد في المكي، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد4، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا.
وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد، وأما الصوم والحج؛ فمدنيان من باب التكميل5، على أن6 الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم؛ فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا7، وردهم فيه إلى مشاعرهم8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هنا كلمة غير واضحة في الأصل لعلها: فقط.
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيره: "ليفرع".
3 أي: من شعب الإيمان ومحبة الله ورسوله، وما إلى ذلك، وقوله: "فالأصل"؛ أي: الإيماني. "د".
4 أي: متى وجد تكليف واحد بدني؛ فإنه يتحقق به معنى كلي الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين. "د".
5 ولم نقل: إنهما داخلان في كلي الانقياد بالجوارح؛ فيرجعان للوجه الأول في صدر المسألة، حيث اكتفى فيه بالدخول إجمالا في مسألة الخمر؛ لأن هذا يستدعي التوسع في معنى الإجمال، والكلية هنا أكثر مما يحتاج حفظ العقل عند دخوله إجمالا في حفظ النفس والأعضاء؛ فتصير القاعدة بعد ذلك أشبه بالأمور الاعتبارية، وإنما كانا تكميليين للدين؛ لأن الحج اجتماع يظهر فيه اتحاد وجهة المسلمين وتآلفهم وأبهة الإسلام، وهكذا من كل ما فيه تعزيز لشأنه، وفي الصوم تكميل لتهذيب النفس وانقيادها لامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ فهما من مكملات ضروري الدين.
6 هذا الترقي لا يفيد شيئا في أصل الدعوى، وهي أن كل مدني لا نجد فيه كليا إلا وهو جزئي أو تكميلي لما شرع في مكة؛ لأن إصلاح ما أفسدوه لم يجئ إلا في المدينة. "د".
7 في "م": "أفسدوه".(6/327)
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "مشارعهم".(6/328)
ص -240-…وكذلك الصيام أيضا؛ فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا، حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء1؛ فأحكمهما التشريع المدني، وأقرهما عل ما أراد2 الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه3؛ حين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؛ فلهما أصل في المكي على الجملة4.
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع5 من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة؛ كقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17]، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفظه عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء؛ فمن شاء صامه، ومن شاء تركه". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، 4/ 244" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2/ 792/ رقم 1125".
قال "د": "المؤلف يريد أن أصل مشروعية الصيام كانت بمكة، ويكفي في إثبات هذا صيامه صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء فيها؛ لأنه بعد الرسالة إنما كان يتعبد بالشرع قطعًا، وكونه كان خاصًا به لا يمنع أن أصل المشروعية للصيام كان بمكة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أقر".(6/329)
3 يشير إلى أن سنة الله في التشريع كسنته في التكوين، يرى المتأمل فيها من الحكم البالغة ما يبهر النظر؛ فإنه سبحانه بدأ في إنزال أوضاع الشريعة بالضروري الذي لا تصلح الأمة بدونه، ولا تخرج من ظلمة الجاهلية بغيره؛ فشرع لها بمكة ما يكفل ذلك، ثم لما صلب عودها، وبلغت أشدها، واستعدت العقول لما يكمل ذلك من الأوضاع الشرعية؛ شرع لها بالمدينة ما أكمل به الدين وأتم به النعمة، ولولا ذلك التدرج؛ لنأت الأمة بالتكاليف، وشرد عن قبولها كثير؛ فلله الحمد والمنة. "ف".
4 علمت أنه وإن أفاد في الصوم لكنه لا يفيد في الحج. "د".
5 بل هو أعلى فروعه كما سبق لنا بيانه. "د".(6/330)
ص -241-…المسألة التاسعة1:
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا، وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا2 إلا ما خصه الدليل؛ كقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}3 [الأحزاب: 50]، وأشباه ذلك، والدليل على ذلك أن المستند؛ إما أن يكون كليا، أو جزئيا، فإن كان [كليا؛ فهو المطلوب، وإن كان جزئيا، فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة التاسعة تقدمت له نظيرتها في النوع الرابع من المقاصد المسألة التاسعة أيضا، ولا فرق بينهما إلا من جهة أن تلك في أن الشريعة بحسب المكلفين عامة، وهذه تقول: إن الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة، وظاهر أن هذه مرتبة على تلك ولازمة لها؛ لأنه متى كانت الشريعة عامة لا تخص مكلفًا دون مكلف؛ فكل دليل ولو كان لفظه غير عام كأن ورد على جزئي؛ فإنه يعتبر عاما، ولذا تجد الأدلة هنا بعضا من الأدلة هناك، وقد توسع هناك بأدلة عقلية، ثم فرع على المسألة فوائد جليلة، وكان يمكنه هنا أن يذكر المسألة ويجعلها مفرعة على تلك، ويحيل في الاستدلال عليها، لكنه زاد هنا قوله: "وقد بين ذلك بقوله وفعله... إلخ"؛ فهذا من إيجازه فيه هو محل الفائدة الجديدة. "د".
2 أي: في صيغته ولفظه، وكذلك يقال في أوله: "المستند"؛ أي: اللفظ الوارد عن الشارع في الموضوع. "د".
قلت: "انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339 و15/ 82، 364، 444-445، 451 و16/ 148-149".
3 علم من الآية أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتا، وإلا؛ فما معنى تخصيص هذا الموضع الاختصاص؟ ويتأكد ذلك أن ما أجله الله له من الأزواج والمملوكات أطلق، وفي الواهبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أنه حيث سكت عن التقييد؛ فذلك دليل الاشتراك، أفاده ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "4/ 444".
4 أي: وذلك بأدلة، أي: كون جزئيته لا بحسب التشريع بأدلة، وأما كونها بحسب النازلة؛ فظاهر. "ف".(6/331)
ص -242-…- منها]1 عموم التشريع في الأصل؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وهذا معنى مقطوع به، لا يخرم2 القطع به ما جاء3 من شهادة خزيمة4 وعناق أبي بردة5، وقد جاء في الحديث: "بعثت للأحمر والأسود"6.
- ومنها أصل شرعية7 القياس؛ إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة كالعام الصيغة في المعنى8، وهو معنى متفق عليه، ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق؛ لما ساغ ذلك.
- ومنها أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]؛ فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره، ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي؛ فقال: {لِكَيْ لا}، ولذلك قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 بالخاء والراء: أي لا يخل ولا يبطل القطع به ما جاء... إلخ. "ف".
3 في الاجتزاء في الشهادة على المال بشاهد واحد، وعناق أبي بردة كانت صغيرة غير مستوفية للشرط؛ فقال له: لا تجزئ عن أحد غيرك. "د".
4 مضى لفظه وتخريجه "2/ 469".
5 مضى لفظه وتخريجه "2/ 410".
6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
7 في "ط": "أصل شرعي في".
8 فآية تحريم الخمر صيغتها باعتبار الدلالة الوضعية خاصة بتحريم ما يسمى خمرا، وباعتبار الدلالة المعنوية؛ أي: دلالة العلة عامة لكل ما يشارك الخمر فيما نيط به حكمه؛ فالقياس تعميم في دلالة النصوص مختص بنظر المجتهد. "ف". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "الصيغة عام".(6/332)
ص -243-…{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء؛ كهبة المرأة نفسها له1، وتحريم نكاح أزواجه من بعده2، والزيادة على أربع، فذلك3 لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستنثى؛ فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم، وإن لم يكن لها صيغ عموم، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة.
- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله وفعله؛ فالقول كقوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"4، وقوله في قضايا خاصة سئل فيها؛ أهي لنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في [الأحزاب: 50]: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وفي "ط": "بنفسها له".
2 كما في [الأحزاب: 53]: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي "3/ 1579".
3 في "د": "فلذلك".
4 قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 180": "لم أر لهذا قط سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحجاج "أي: المزي" وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا؛ فلم يعرفاه بالكلية"، وقال الزركشي في "المعتبر" "رقم 123": "لا يعرف بهذا اللفظ"، وقال ابن الملقن في "غاية الراغب" "ق19/ 2": "مشهور متكرر في كتب الأصول، ولا يعرف مخرجه بعد البحث عنه"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث المنهاج" "رقم 25": "ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي؛ فأنكراه".(6/333)
ونقل كلام العراقي وأقره جماعة منهم: السخاوي في "المقاصد" "416"، والقاري في "المصنوع" "125" و"الأسرار" المرفوعة" "430"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "ص200" - وزاد: "وقد ذكره أهل الأصول؛ فاستدلوا به فأخطئوا"- والعجلوني في "كشف الخفاء" "11161"، والحوت في "أسنى المطالب" "566".
وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 527": "هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين، ولم نره في كتب الحديث"، ونقل كلام ابن كثير السابق، وزاد: "وكذا قال السبكي: إنه سأل الذهبي عنه؛ فلم يعرفه"، قال الزركشي: "لكن معناه ثابت"، وقال ابن حجر: "وقد جاء ما يؤدي معناه" وساقا حديث أميمة بنت رقيقة، وفيه: "وإنما قولي لمائة امرأة كقولي -أو مثل قولي- =(6/334)
ص -244-…خاصة، أم للناس عامة: "بل للناس عامة"1، كما في قضية الذي نزلت فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لامرأة واحدة".
أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 982-983"، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 357"، والنسائي في "عشرة النساء"، والدارقطني في "السنن" "4/ 147"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 471"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 417/ رقم 4553 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 146" -عن محمد بن المنكدر- عن أميمة به، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب بيعة النساء، 7/ 149"، الترمذي في "الجامع" "أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، 4/ 152/ رقم 1597"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، 2/ 959/ رقم 2874"، وأحمد في "المسند" "6/ 357"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1621"، والحميدي في "المسند" "رقم 341"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 470، 472، 473، 475، 476"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 71"، والدارقطني في "السنن" "4/ 146" من طرق عن ابن المنكدر به.
والحديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما. انظر: "الإلزامات والتتبع" "ص154".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، 2/ 8/ رقم 526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، 4/ 2115-2116/ رقم 2763" عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؛ فقال الرجل: يا رسول الله؟ ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم". لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم: "بل للناس كافة".(6/335)
واللفظ الذي أورده المصنف وقع نحوه في حديث معاذ، وفيه انقطاع؛ كما قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 325"، وقد خرجته وتكلمت عليه بإسهاب ولله الحمد في تحقيقي لـ"الخلافيات" للبيهقي "رقم 434"، وفيه زيادة لذكر الوضوء والصلاة.
وما أورده المصنف هو لفظ الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود، 5/ 292/ رقم 3115" عن أبي اليسر، وإسناده فيه قيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره.(6/336)
ص -245-…{أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] وأشباهها.
وقد جعل نفسه عليه الصلاة والسلام قدوة للناس؛ كما ظهر في حديث الإصباح جنبا وهو يريد أن يصوم1، والغسل من التقاء الختانين2.
وقوله: "إني لأنسى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ"3.
وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه "4/ 93".
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 100 و339 - رواية محمد بن الحسن"- ولفظه ابن الحسن: "إني أنس لأسن"- بلاغا.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "24/ 375": "أما هذا الحديث بهذا اللفظ؛ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه، والله أعلم، وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، والله أعلم".
وقال: "ومعناه صحيح في الأصول، وقد مضت آثار في باب نومه عن الصلاة، تدل على هذا المعنى، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، وبعث صلى الله عليه وسلم معلما؛ فما سن لنا اتبعناه، وقد بلغ ما أمر به، ولم يتوفاه الله حتى أكمل دينه سننا وفرائض، والحمد لله".(6/337)
قال ابن الصلاح في "الرسالة التي وصل فيها البلاغات الأربع في الموطأ" "ص14-15": "وأما حديث النسيان؛ فرويناه من وجوه كثيرة صحيحة"، ذكر منها حديث عثمان بن أبي شيب عن جرير عن ابن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ قال صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث السهو، وأنه عليه السلام قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني"، قال: "وأخرجه الشيخان في "صحيحهما"، وإنما به من حديث مالك طرف منه". وانظر: "الاستذكار" "4/ 402-403".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.(6/338)
ص -246-…و"خذوا عني مناسككم"1.
وهو كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، 2/ 943/ رقم 1297"، وأحمد في "المسند" "3/ 318" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: "لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المناسك، باب الركوب إلى الجمال واستظلال المحرم، 5 270"، وفيه: "يا أيها الناس! خذوا مناسككم".
وفي "مسند أحمد" "3/ 366": "... ألا فخذوا مناسككم".(6/339)
ص -247-…المسألة العاشرة:
الأدلة الشرعية ضربان1:
أحدهما:
أن يكون على طريقة البرهان العقلي؛ فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين، وهو في أول2 الأمر موضوع لذلك، ويدخل هنا جميع البراهين العقلية وما جرى مجراها؛ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44].
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81].
وقوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ...} إلى قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40].
وهذا الضرب يستدل به على الموالف3 والمخالف؛ لأنه أمر معلوم عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "المسودة" "ص496"، و"مجموع الفتاوى" "2/ 7-14 و17/ 437 و19/ 228-234".
2 في "ط": "الأول".
3 في "م": "الموافق".(6/340)
ص -248-…من له عقل؛ فلا يقتصر به على الموافق [في النحلة]1.
والثاني:
مبني على الموافقة في النحلة، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية؛ كدلالاة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف، ودلالة2 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [البقرة: 183]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187]؛ فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين، ولا أتي بها في محل استدلال، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها، فإذا3 ثبت برهان المعجزة؛ ثبت الصدق وإذا ثبت الصدق؛ ثبت التكليف على المكلف.
فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه هو واضعه، وإذا استدل بالضرب الثاني أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما والتزاما، فإذا أطلق لفظ الدليل على الضربين؛ فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني؛ فهو بالمعنى الأول جارٍ على الاصطلاح المشهور عند العلماء، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 زاده لأن هذه ليس أوامر ونواه لفظا، بل هي أخبار في معنى الطلب. "د".
3 في "م": "إذا".(6/341)
ص -249-…المسألة الحادية عشرة:
إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ؛ لم يستدل به على المعنى المجازي إلا على القول بتعميم1 اللفظ المشترك، بشرط2 أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ، وإلا، فلا.
فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31]؛ فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]، وربما ادعى قوم أن الجميع3 مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحنفية وبعض الشافعية وبعض المعتزلة: "لا يستعمل اللفظ في الحقيقة والمجاز مقصودين معا بالحكم، وأجازه الشافعية والقاضي وبعض المتعزلة مطلقا، إلا إذا لم يمكن الجمع؛ كافعل أمرا وتهديدا؛ لأن الأمر يقتضي الإيجاب، والتهديد يقتضي الترك؛ فلا يصح اجتماعهما، وقال الغزالي وأبو الحسين: إنما يجوز عقلا لا لغة؛ إلا في غير المفرد من المثنى والمجموع؛ فيجوز لغة أيضا، فيكون حينئذ كل لفظ مستعملا في معنى. "د".
قلت: انظر في هذا: "جلاء الأفهام" "ص85"، و"البحر المحيط" "2/ 127، 139 وما بعدها" للزركشي، و"المحصول" "1/ 278".
2 أي: بشرط أن يكون هذا المعنى مما يستعمل فيه مثل هذا اللفظ عند العرب، وهذا هو محل الزيادة في كلامه على كلام المجيزين، يقيد به هذا الجواز، ولا يخفى أن استعمال ألفاظ الكتاب في المجاز فقط محتاج أيضا إلى هذا القيد. "د".(6/342)
3 هذا هو محل التمثيل، وقوله: "أو سكر النوم... إلخ"؛ أي: فيصح أن يكون من موضوع المسألة مما تحقق فيه الشرط. "د".(6/343)
ص -250-…ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر النوم، وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته، فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع1 سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وأن الجنابة المراد بها التضمخ2 بدنس الذنوب، والاغتسال هو التوبة؛ لكان هذا التفسير غير معتبر لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم3 من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى خلق الكونين4؛ فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها، وربما نقل في [معنى] قوله صلى الله عليه وسلم: "تداوَوا؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء"5 أن فيه إشارة6 إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب، وكل ذلك غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون مما استعمل فيهما بدون تحقق الشرط. "د".
2 أي: مجازا مرادا مع الحقيقة؛ لأن أرباب الإشارة من الصوفية لا يقصرون المعنى المراد على المجاز في مثل هذا. "د".
3 أي: ولا تفهم من السكر سكر الغفلة والشهوة لا مجازا ولا حقيقة. "د".
4 كما في "لطائف الإشارات" "2/ 448" للقشيري، وانظر: "4/ 250".
5 مضى تخريجه "1/ 217"، وهو حديث صحيح.(6/344)
6 ليست الإشارة في كلامهم مما يراد منه استعمال اللفظ في المعنى المذكور، وحاشاهم أن يقولوا ذلك، بل معناه أن الألفاظ مستعملة في معناها الوضعي العربي، وإنما يخطر المعنى الإشاري على قلوب العارفين عند ذكر الآية أو الحديث، بعد فهمه على الطريق العربي الصحيح، كما أفاده ابن عطاء الله في كتابه "لطائف المنن". "د".(6/345)
ص -251-…معتبر1؛ فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه، ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا الكتاب، وهذا الاستعمال خارج عنه، ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا الكتاب، والحمد لله، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم؛ فالقول فيه مبسوط بعد هذا3 بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما: "الاعتصام" "1/ 322 - ط ابن عفان" للمصنف، و"فضائح الباطنية" أو "المستظهري" "الباب الخامس، ص35 وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 37"، كلاهما للغزالي.
2 سبق في المسألة الرابعة من النوع الثاني من المقاصد، وسيأتي أيضا في المسألة التاسعة من مباحث الكتاب العزيز. "د".
3 أي: في الفصل الثاني من المسألة التاسعة المذكورة، فيما روى عن سهل بن عبد الله من تفسير آيات على هذا النحو. "د".(6/346)
ص -252-…المسألة الثانية عشرة1:
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما أو أكثريا، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما، أو لا يثبت به عمل؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا؛ فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم، كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو غير ذلك من الأحكام؛ كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل، والزكاة بشروطها، والضحايا والعقيقة، والنكاح والطلاق، والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة، وبيَّنها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره، ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه؛ فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق، فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون؛ جرى فيه ما تقدم2 في كتاب الأحكام من اعتبار3 الكلية والجزئية، فلا معنى للإعادة.
والثاني:
أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت4 من الأوقات أو حال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في المسألة: "تيسير التحرير" "1/ 255"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 461-464، 2/ 180-181" للأشقر.
2 في "ف" و"ط": "جرى ما تقدم في"، وأثبت الصواب في الهامش.
3 لم يظهر معنى اعتبار الكلية والجزئية في هذا، إنما يظهر ما تقدم في فصل ما يدخل تحت العفو وهو في موضوع الخروج عن الدليل، حيث قسمه إلى أقسام ثلاثة، فليراجع. "د".(6/347)
4 هو وما بعده بيان وتفصيل لقوله: "قليلا"؛ فقوله: "في وقت" أي: كما يأتي في صلاته عليه السلام آخر الوقت المختار لمن طلب منه معرفة الأوقات، وقوله: "أو حال"؛ أي: كتأخيره عليه السلام الظهر للإبراد والجمع بين الصلاتين في السفر كما سيأتي له. "د".(6/348)
ص -253-…من الأحوال، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما1 أو أكثريا؛ فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة2، وأما3 ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا؛ فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر؛ فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل؛ إما أن يكون لمعنى شرعي، أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي؛ فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك؛ فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة4؛ فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه.
وأيضا؛ فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفرض أنه وقع العمل بدليل قليلا؛ فكيف يتأتى معه أن يكون العمل بالدليل المقابل له دائما؟ "د". قلت: "وفي "ط": "والعمل عليه دائما".
2 أي: المسلوكة والطريق: السبيل؛ تذكر وتؤنث، نقول: الطريق المستقيمة، والطريق العظمى. "ف".
3 هذا نوع من الترجيح غير ما ذكره الأصوليون في مباحث الترجيح بالأمر الخارج كعمل أهل المدينة أو الخلفاء الأربعة، أو بعمل أكثر السلف، فما هنا ترجيح وإن كان بخارج أيضا؛ إلا أنه يكون عمله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه وبعده كان عليه ولم يخالفوه إلا لأسباب اقتضت المخالفة يأتي ذكرها، ولا ينافي أنه من الترجيح بخارج جعله المعارضة بين العمل والمعنى الذي تحروه؛ لأن الواقع أن المعارضة إنما هي بين الخبرين، ومعارضة العمل تابعة، يرشدك إلى هذا قوله: "فإن فرض أن هذا... إلخ"؛ فقد عقد المعارضة بين نفس الخبرين حتى اقتضى ذلك التخيير في العمل بأيهما. "د".
4 أي: لضعفه بإزاء ما كثر العمل على وفقه. "د".(6/349)
ص -254-…يقتضيان1 التخيير؛ فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه، كما نقول في المباح مع المندوب: إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه؛ إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة2؛ فصار المكلف كالمخير فيهما، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة؛ فكذلك ما نحن فيه.
وإلى هذا3؛ فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر؛ لاحتمالها في أنفسها، وإمكان4 أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر، ومن ذلك في كتاب5 الأحكام وما بعده، فإذا كان كذلك؛ ترجح العمل على خلاف ذلك القليل، ولهذا القسم أمثلة كثيرة، ولكنها على ضربين:
أحدهما: أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببًا للقلة، حتى إذا عدم السبب عدم المسبب، وله مواضع؛ كوقوعه بيانًا لحدود حدت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأنهما دليلان متعارضان ولا مرجح؛ فالحكم إما الوقف، وإما التخيير على الخلاف بينهم في ذلك. "د".
2 وإن كان في ترك المندوب كليا حرج، كما سبق أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل. "د".
3 يعني: ويضاف إلى ما ذكرناه من أدلة الأخذ بما عليه العمل في الأعم الأكثر أن قضايا الأعيان... إلخ، ولا يخفى أن العمل إذا كان قليلا عد من قضايا الأعيان التي لا يحتج بها، وهذا يوهن الأخذ بما كان العمل عليه قليلا. "د".
4 عطف تفسير لقوله: "احتمالها في أنفسها". "د".
5 كما تقدم في ترك بعض الصحابة ومن بعدهم لبعض المباحات؛ حتى كان يظن بهم أنهم لا يرونها مباحة. "د".
قال "ف": "ولعله: ومن ذلك ما في كتاب..." إلخ.(6/350)
ص -255-…أو أوقات عينت، أو نحو1 ذلك.
كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين2، وبيان رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وأوقات عينت ونحو".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، 1/ 281-283/ رقم 150"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب آخر وقت العصر، 1/ 255"، وأحمد في "المسند" "3/ 330"، والدارقطني في "السنن" "1/ 257"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 195"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 368" عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام؛ فقال له: "قم فصله. فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب؛ فقال: قم فصله. فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاء العشاء؛ فقال: قم فصله. فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاء الفجر؛ فقال: قم فصله. فصلى الفجر حين برق الفجر "أو قال: سطع الفجر"، ثم جاءه من الغد للظهر؛ فقال: فصله. فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله. فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل "أو قال: ثلث الليل"؛ فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر جدا، فقال: قم فصله. فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت". لفظ أحمد.(6/351)
قال الترمذي: "حديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر"، وقال: "وقال محمد -يعني: البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح مشهور"، وقال ابن القطان -كما في "نصب الراية" "1/ 222" -: "هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا؛ لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل من قول النبي صلى الله عليه وسلم".
وتعقبه ابن دقيق العيد في "الإمام" -كما في "نصب الراية" "1/ 223"- فقال: "وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة". =(6/352)
ص -256-…صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة؛ فقال: "صل معنا هذين اليومين"1؛ فصلاته في اليوم2 في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختياري الذي لا يتعدى، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض؛ كالإبراد في شدة الحر3 والجمع بين الصلاتين في السفر4، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: والأقوى من جواب ابن دقيق العيد ما وقع في لفظ الترمذي في حديث جابر هذا: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل...".
فإذن؛ رواه جابر من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشاهد أبو هريرة وابن عباس وغيرهما ممن روى هذا الحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستووا مع جابر في ذلك؛ وهذه علة غير قادحة، والحديث صحيح، وله شواهد عديدة وكثيرة وشهيرة؛ حتى عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص22" وغيره من الأحاديث المتواترة. وانظر "نصب الراية" "4/ 221-226".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، 1/ 428/ رقم 613" عن بريدة رضي الله عنه.
2 لعل فيه سقط كلمة "الثاني" كما يدل عليه الحديث في باب مواقيت الصلاة. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، 2/ 15/ رقم 533، 534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، 1/ 410/ رقم 615" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا اشتد الحر؛ فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وقد عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14" متواترا.(6/353)
4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، 2/ 582/ رقم 112"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين، 1/ 489/ رقم 704" عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب".
وفي رواية لمسلم: "كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما".(6/354)
ص -257-…وكذلك قوله: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح"1، إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا؛ فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "أسفروا بالفجر"2 مرجوح بالنسبة إلى العمل3 على وفقه، وإن لم يصح؛ فالأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، 2/ 56/ رقم 579"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أدرك من الصلاة، 1/ 424/ رقم 608" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب الإسفار، 1/ 372"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، 1/ 289/ رقم 154"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح، 1/ 249/ رقم 424" -بلفظ: "أصبحوا بالصبح"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، 1/ 221/ رقم 672"، وأحمد في "المسند" "3/ 465 و4/ 140"، والشافعي في "المسند" "1/ 50، 51"، والحميدي في "المسند" "رقم 408"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 2159"، والطيالسي في "المسند" "رقم 959"، والدرامي في "السنن" "1/ 277" والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 178"، والطبراني في "الكبير" "رقم 4283-4290"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 357، 358/ رقم 1490، 1491- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" 1/ 457"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 94"، و"ذكر أخبار أصبهان" "2/ 329"، والحازمي في "الاعتبار" "ص75"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 458"، والخطيب في "التاريخ" "13/ 45" عن رافع بن خديج مرفوعا، وهو صحيح.(6/355)
والعجب من السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14"؛ فإنه عده متواترا؛ فقال: "أخرجه الأربعة عن رافع بن خديج، وأحمد عن محمود بن لبيد، والطبراني عن بلال وابن مسعود وأبي هريرة وحواء، والبزار عن أنس وقتادة، والعدني في "مسنده" عن رجل من الصحابة".
ولم يتفطن رحمه الله أن زيد بن أسلم اضطرب في طرقه؛ فجعله تارة من مسند رافع، وتارة من مسند أنس، وتارة عن محمود بن لبيد، وتارة عن رجل من الأنصار، وتارة عن حواء؛ فهؤلاء خمسة يرجع حديثهم إلى اضطراب زيد بن أسلم، وحكم ابن حبان في "المجروحين" "1/ 324-325" على حديث أبي هريرة بالوهم، وحديث بلال وابن مسعود ضعيفان، ورواه عاصم بن عمر بن قتادة، واختلف عليه فيه؛ فجعله مرة عن رافع، ومرة عن قتادة بن النعمان؛ فلم يسلم من هذه الأحاديث إلا حديث رافع، وهو صحيح.
وانظر: "الخلافيات" للبيهقي "4/ مسألة رقم 67" وتعليقنا عليه.
3 أي: لقلة العمل على الإسفار، والمرجوحية أخذ بها مالك، وقوله: "وإن لم يصح؛ فالأمر واضح"، الأوضحية بالنسبة لمساعدة مالك فقط، وإلا؛ فهو خروج عن الموضوع لأن الكلام في دليلين صحيحين ترجح أحدهما بأن العمل به أكثري. "د".(6/356)
ص -258-…واضح.
وبه أيضا يفهم1 وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك2، واحتجاج عروة بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"3، ولفظ: "كان يفعل" يقتضي الكثرة4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن لم يذكر أبو مسعود هذا الوجه في احتجاجه، بل ذكر قوله: "بهذا أمرت" كما يجيء بعد. "د".
2 وسيأتي تخريج ذلك قريبا.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 6/ رقم 522 - وهذا لفظه-، وباب وقت العصر، 2/ 25/ رقم 544، 545، 546" عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرج نحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 433-434/ رقم 621" عن أنس رضي الله عنه.
ولفظ البخاري في "545": "والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها".
قال "ف": "لم يظهر: لم يزل، وقيل: لم يصعد، ولم يعل على الحيطان والأول أظهر، تأمل. اهـ"، وفي لفظ البخاري: "الشمس لم تخرج من حجرتها"، قال "د": "والمعنى قبل أن تزول الشمس عن وسط الدار".
4 ولذلك أفرد بعض المصنفين في الحديث بابا لـ"كان"، وسموه "باب الشمائل"، وقال =(6/357)
ص -259-…بحسب العرف؛ فكأنه احتج عليه في مخالفة ما دوام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال: "بهذا أمرت"1 وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على المنبر: "أية ساعة هذه؟"2، وأشباهه.
وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد، ثم ترك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أهل الأصول: إن لفظ "كان يفعل" يفيد عرفا ذلك. "د".
قلت: في جميع النسخ المطبوعة: "كان فعل يقتضي الكثرة"، وما أثبتناه من الأصل و"ط"، وهو الصواب.
وقال المصنف في "الاعتصام" "1/ 456 - ط ابن عفان": "يأتي في بعض الأحاديث: "كان يفعل" فيما لم يفعله إلا مرة واحدة، نص عليه أهل الحديث".
وانظر: إحكام الأحكام" "1/ 90"، و"جمع الجوامع" "1/ 425" مع "شروحه"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص115"، و"شرح الورقات" "ص155" لابن القاسم.
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 3/ رقم 521" عن ابن شهاب؛ أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما؛ فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري؛ فقال: "ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بهذا أمرت". فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث، أو: إن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، 2/ 356/ رقم 878".(6/358)
وهذا الداخل هو عثمان، كما وقع التصريح به في رواية عند مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، 2/ 580/ رقم 845"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 125/ رقم 1748"، وابن المنذر في "الأوسط" "4/ 42/ رقم 1777".(6/359)
ص -260-…مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم1، ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر؛ حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب؛ فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك2؛ فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام، واستحبه مالك لمن قدر عليه3.
وإلى هذا الأصل4 ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى؛ فعملت بها لزوال العلة بموته، فقالت: "ما رأيت5 رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي [سبحة] الضحى قط، وإني لأسبحها"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التروايح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، ومضى لفظه عند المصنف "2/ 137".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 250/ رقم 2010"، ومالك في "الموطأ" "1/ 114-115".
3 انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 393"، و"الاستذكار" "5/ 158-159"، و"التمهيد" "8/ 119"، وقد اختار التفرد على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، وإلا؛ فلا.
4 الأصل الخاص، وهو ترك العمل خشية أن يفرض لا الأصل الذي فيه الكلام، وهو ترجيح الدليل باستدامة أو أكثرية العمل به. "د".
5 لا ينافي ما جاء عنها في أحاديث أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها أربعا؛ لأن وقت صلاة الضحى ليس من الأوقات التي يكون فيها عادة بين نسائه، وقد ثبت لها فعله صلى الله عليه وسلم للضحى وإن لم تره؛ فلذلك كانت تصليها، ولو كان داوم عليها لاتفق له رؤيته يصليها؛ فلذلك حكمت بأنه ما كان يداوم عليها. "د".(6/360)
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب من لم يصل الضحى ورآه واسعا، 3/ 55/ رقم 1177" بلفظ: "ما رأيت رسول صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها". أي: ما رأيته داوم عليها، وإني أداوم عليها، أفاده ابن حجر، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/ رقم 718" باللفظ المذكور، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول كلها بدلا: من "لأسبحها": "لأستحبها"، وما أثبتناه من "الصحيح" وما بين المعقوفتين استدركناه من "الصحيح" أيضا.(6/361)
ص -261-…وفي رواية: "وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"1.
وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: "لو نشر لي أبواي2 ما تركتها"3.
فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، 3/ 10/ رقم 1128"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/ رقم 718" -والمذكور لفظه- وأحمد في "المسند" "6/ 169"، ومالك في "الموطأ" "1/ 152-153"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ 78"، والطيالسي في "المسند" "1/ 121"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 406"، والنسائي في "الكبرى" "رقم 402"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 49-50".
2 أي: ما كان فرحها بهما عند خروجهما من القبر بِمُلْهٍ لها عن صلاة الضحى، وذلك دليل على تأكدها من رأيها. "د".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 153- رواية يحيى، ورقم 405 - رواية أبي مصعب" من طريق زيد بن أسلم عن عائشة، وفي سماع زيد بن أسلم من عائشة نظر. انظر: "جامع التحصيل" "رقم 211".
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 138" من حديث أبان بن صالح عن أم حكيم عن عائشة به.
وأخرجه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 763"، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" "ق1683" من طريق محمد بن المنكدر، وال
نسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "12/ 390" من طريق عاصم بن عمر بن قتادة؛ كلاهما عن رميثة عن عائشة عنها.(6/362)
ص -262-…فلا حرج على من فعلها1.
ونظير ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يواصل الصيام ثم نهى عن الوصال2، وفهم الصحابة من ذلك -عائشة وغيرها- أن النهي للرفق؛ فواصلوا3، ولم يواصلوا كلهم، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال، ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات.
وأمثلة هذا الضرب كثيرة، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنًا ما كان، وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه، أما فيما كان4 تعريفا بحد وما أشبهه؛ فقد استمر العمل الأول5 على ما هو الأولى؛ فكذلك يكون بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المداومة. "د".
2 مضى تخريج ذلك. "2/ 239".
3 ينظر في تفصيل ذلك: "الاستذكار" "10/ 151 وما بعدها"، و"التمهيد" 14/ 363"، و"القبس" "2/ 478"؛ ففيها كلام جيد على هذه المسألة.
ومن اللطائف ما قاله ابن العربي في "القبس" "2/ 478": "ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث -أي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا... فقد أفطر الصائم"- وذلك أن رجلا قال -وهو صائم-: امرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى بارد، فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصباغ -إمام الشافعية بالجانب الغربي- فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفطر على أحد هذين. ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي بالمدرسة؛ فقال: لا حنث عليه؛ فأنه قد أفطر بدخولها على غير هذين، وهو دخول الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم... وساق الحديث إلى قوله: "فقد أفطر الصائم"، وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك رضي الله عنه".
4 وهو النوع الأول من هذا الضرب المذكور في كلامه آنفا. "د".(6/363)
5 أي: في عهده صلى الله عليه وسلم، وقوله: "فكذلك يكون... إلخ"؛ أي يكون الشأن فيما جاء من الصحابة والسلف موافقتهم فيه له صلى الله عليه وسلم، أي الحكم فيه للعمل الغالب قطعا بدون توهم؛ فقوله: "بعد" بالضم، وقوله: "موافقته" فاعل، ولعل فيه تحريف كلمة موافقتهم له بموافقته لهم كما هو الأنسب، أي: وأما إذا حصل اختلاف بعد لترخيص منهم بسبب اقتضاه؛ فسيأتي أنه وإن كان طريقًا يصح سلوكه؛ إلا أن الأصل هو الأولى، وهذا معنى قوله: "وأما غيره... إلخ"؛ أي: فغير ما وافقوا عليه فربما يفهم فيه أن الحكم ليس للعمل الغالب الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع أن الأمر فيه مثل ما وافقوا عليه؛ كما يتبين ذلك من إرجاع الأمثلة التي حصلت فيها المخالفة إلى أن الأولى فيها أيضا ما كان العمل جاريًا فيه على عهده صلى الله عليه وسلم، وغيره يعتبر مرجوحًا، مع كونه صح في ذاته لسبب اقتضاه. "د".(6/364)
ص -263-…ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك، وأما غيره؛ فكذلك أيضا، ويظهر ذلك بالنظر في الأمثرة المذكورة.
فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم؛ فإن هؤلاء منتصبون1، لأن يقتد بهم فيما يفعلون، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا2 بيان؛ فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداومًا عليه أنه واجب، وسد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع، وفي هذا الكتاب له ذكر، اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان؛ فلا بأس، وسنتهم [سنة] ماضية، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب، مع أنهم لم يجتمعوا3 على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل، ويتحرونه أيضا؛ فكان على قولهم وعملهم القيام في البيوت أولى4، ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي، فكانت أولويته لعذر كالرخصة، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى5؛ فعلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منصوبون".
2 سقطت من "ط".
3 في "ط": "يجمعوا".
4 أي: فهم وإن أقاموها في المسجد بإمام واحد على خلاف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم لهذا العذر ولارتفاع المانع الذي هو خوف الافتراض؛ إلا أن عملهم وقولهم جار على أن الأفضل الموافقة للعمل الغالب في عهده. "د".
5 انظر أيهما الأفضل صلاة قيام رمضان في المساجد أم في البيوت: "الاستذكار" "5/ 158 وما بعدها"، و"التمهيد" "8/ 119"، و"تفسير القرطبي" "8/ 372".(6/365)
ص -264-…تقدير ما دوام عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا، ولذلك يقول بعضهم: لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة؛ لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة.
وأما1 صلاة الضحى؛ فشاهدة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها، وإنما دوام من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت؛ عملا2 بقاعدة الدوام على الأعمال، ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم؛ إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء.
ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق، بل في بعض مؤكداتها؛ كالعيدين، والخسوف، ونحوها وما سوى ذلك؛ فقد بين عليه الصلاة والسلام أن النوافل في البيوت أفضل، حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث3 أفضل من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقابل لقوله: "فقيام رمضان"؛ فالمثالان وكذا مثال الوصال بيان لقوله: "وأما غيره؛ فكذلك أيضا" على ما سبق شرحه. "د".
2 أي: فهم لم يبتدعوا، بل عملوا بقاعدة شرعية لا يعارضها ما خشيه صلى الله عليه وسلم من الإيجاب، ولا ظن الوجوب بفعلهم لأنهم كانوا يخفونها كما قال المؤلف: "إلا أن ضميمة إخفائها... إلخ". "د".(6/366)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 280"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في التطوع في البيت، 1/ 439/ رقم 1378"، وأحمد في "المسند" "4/ 342"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 145/ رقم 865"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 210/ رقم 1202"، والمزي في "تهذيب الكمال" "15/ 22" عن عبد الله بن سعد رضي الله عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد؛ فقال: "قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولإن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة". إسناده صحيح. =(6/367)
ص -265-…صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يُصلى فيها؛ فلذلك صلى عليه الصلاة والسلام في بيت مليكة ركعتين في جماعة1، وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة2، ولم يظهر ذلك في الناس، ولا أمرهم به ولا شهره فيهم، ولا أكثر من ذلك، بل كان [عامة] عمله في النوافل على حال الانفراد؛ فدلت هذه القرائن كلها -مع ما انضاف إليها من أن ذلك3 أيضا لم يشتهر4 في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا- أنه مرجوح، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا؛ فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي هذا الحديث بيان أفضلية صلاة النافلة على الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح به أيضا في حديث زيد بن ثابت الصحيح، أخرج أبو داود في "سننه" "1/ 274/ رقم 1024"بإسناد صحيح عنه مرفوعا: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا؛ إلا المكتوبة".
وأما عموم أفضلية صلاة المرء النافلة في بيته؛ فقد وردت في أحاديث كثيرة، أصحها ما في "الصحيحين": "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة". وانظر: "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 177-178".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، 1/ 488/ رقم 380"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير، 1/ 457/ رقم 266"، ومالك في "الموطأ" "رقم 406 - رواية أبي مصعب و1/ 153- رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "3/ 131، 149، 164".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب الذوائب، 10/ 363/ رقم 5919"، وخرجته في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 83" بتفصيل وإسهاب، ولله الحمد والمنة.
3 في "ط": "ذاك".(6/368)
4 فيكون ما يتعلق بصلاة النافلة جماعة مما حصلت فيه الموافقة لفعله تماما، بحيث لم يوجد ما يقتضي رخصة لمخالفة البعض مثلا، ولا يكون هذا من أمثلة قوله: "وأما غيره". "د".(6/369)
ص -266-…في الرجلين والثلاثة ونحو ذلك، وحيث لا يكون مظنة اشتهار، وما سوى ذلك؛ فهو يكرهه1.
وأما مسألة الوصال2؛ فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم، ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له؛ لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله عليه الصلاة والسلام: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"3، مع أن بعض4 من كاد يسرد الصيام قال بعد ما ضعف: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
وأيضا؛ فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع -وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب6 الأحكام- فكان الأحرى الحمل على التوسط، وليس إلا ما كان عليه العامة وما واظبوا عليه، وعلى هذا؛ فاحمل نظائر هذا الضرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا كره ابن تيمية للإمام الراتب أن يقيم في المسجد جماعة يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل. انظر: "مجموع الفتاوى" له "23/ 113-114".
2 الوصال صوم يومين أو أكثر دون فصل بينهما بفطر في الليل، والسرد أن يتابع صوم الأيام مع الفطر بالليل، ومنه يفهم أن قوله: "مع أن بعض من كان يسرد... إلخ" كلام فيما يشبه الوصال من جهة أن كلا غير ما هو الأولى في نظر الشارع. "د".
قلت: الوصال من المندوب فيما اختص به صلى الله عليه وسلم على ما ذكر الجويني؛ كما في "الخصائص الكبرى" للسيوطي "3/ 284"، وانظر: "المحقق من علم الأصول" "ص53" لأبي شامة، و"أفعال الرسول" "1/ 273" للأشقر.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964" عن عائشة رضي الله عنها، ومضى "2/ 239".
4 هو عبد الله بن عمرو.
5 مضى تخريجه "2/ 240".
6 في باب الرخصة، وأن مقصد الشارع بها الرفق بالمكلف.(6/370)
ص -267-…والضرب الثاني: ما كان على خلاف ذلك1، ولكنه يأتي على وجوه:
- منها: أن يكون محتملا في2 نفسه؛ فيختلفوا3 فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه أو يختلف في أصله4، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب.
كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا، فإن العمل المتصل تركه؛ فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم5، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس6، ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل؛ حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس؛ فقال: "إن تقوموا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة. "ف".
2 أي: يكون وقوعه متفقا عليه، ولكنه يكون محتملا للمعنى المستدل عليه ولغيره كما في القيام للقادم. "د".
3 في "ط": "فيختلف".
4 أي: يكون ثبوته محل خلاف؛ كما في تقييد اليد، وسجود الشكر. "د".
5 بل كان ينهاهم عن ذلك، أخرج البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 946، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل/ رقم 2755"، و"الشمائل" "رقم 328"، وأحمد في "المسند" "3/ 132، 250-251"، والطحاوي في "المشكل" 2/ 39"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 418/ رقم 3784"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 127"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 294/ رقم 3329"، و"الشمائل" "رقم 392" بإسناد صحيح عن أنس؛ قال: "ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا له لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك".(6/371)
6 أخرج أبو داود في "السنن" "رقم 4698"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 140"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "50"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 393" بإسناد صحيح عن أبي هريرة وأبي ذر؛ قالا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب ولا يدري أيهم هو حتى يسأل؛ فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين؛ فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه".(6/372)
ص -268-…نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين"1؛ فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه2 وقوله: "قوموا لسيدكم"3 إن حملناه على ظاهره؛ فالأولى خلافه لما تقدم، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون4 القيام على وجه الاحترام والتعظيم5، أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص39"، وأشار إليه ابن حجر في "الفتح" "11/ 51".
وأسند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ 170/ ب" إلى الأوزاعي؛ قال: "حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز؛ قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا".
2 الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لأخيه من الرضاعة، وأجسله بين يديه، أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 5145" بسند معضل، وفي بعض رواته كلام. انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1120".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "قوموا إلى سيدكم"، 11/ 49/ رقم 6262"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، 3/ 1388-1389/ رقم 1768" عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "قوموا إلى سيدكم". وفيه قصة.(6/373)
والاستدلال بهذا الحديث على القيام فيه نظر، أفاده ابن حجر في "الفتح" "11/ 51"، وزاد: "وقد وقع في "مسند عائشة" عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا، وفيه: "قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم؛ فأنزلوه"، وسنده حسن". قال: وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه". ثم نقل أجوبة حسنة لابن الحاج على المستدلين بهذا الحديث على مشروعية القيام للقادم، ومما ينبغي أن ينتبه له أن الحديث في "الصحيحين" بلفظ: "قوموا إلى"، وليس "قوموا لسيدكم" كما أورده المصنف.
4 في الأصل: "يقوم".
5 وهذا هو الذي كانوا يتحاشونه ويرونه موجبا لكراهيته، كما أشار إليه بقوله: "وإنما يقوم الناس لرب العالمين". "د".(6/374)
ص -269-…له، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود، أو للإعانة على معنى من المعاني، أو لغير ذلك مما يحتمل.
وإذا احتمل الموضع؛ طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير1 معارض له، فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل؛ لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجهًا للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر، وذلك لا يقوى قوة معارضه2.
ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة؛ فإن مالكا قال له: "كان ذلك خاصًّا بجعفر". فقال سفيان: ما يخصه يخصنا، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين3، فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل؛ فجعل معانقة النبي عليه الصلاة والسلام أمرًا خاصًا، أي: ليس عليه العمل؛ فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه.
وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا أو سلمنا صحة ما روي فيه4 فإنه لم يقع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سبق أن قضايا الأعيان لا تقوم حجة إلا إذا عضدها دليل آخر؛ لاحتمال ألا تكون مخالفة... إلخ. "د".
2 أي: لأنه مع كونه قليلا محتمل لغير المعنى المستدل عليه في مقابلة الكثير الذي لا احتمال فيه. "د".
وفي الأصل: "تعارضه".
3 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1663"، وعنه القرطبي في "تفسيره" "15/ 361".
وانظر: جزء "القبل والمعانقة" لابن الأعرابي.
4 ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة، تراها في جزء ابن المقرئ "الرخصة في تقبيل اليد"، وكذا في جزء الغماري "إعلام النبيل"، وكلاهما مطبوع وقال ابن تيمية في "الفتاوى المصرية" "ص563"، ونقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 271": "تقبيل اليد لم يكن يعتادونه إلا قليلا"؛ فالكراهة أن يتخذ التقبيل شعارا، أو أن يكون ذلك لدينا أو لظالم أو مبتدع، أو على وجه الملق. انظر: "شرح السنة" "12/ 293" للبغوي.(6/375)
ص -270-…تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين؛ فدل على مرجوحيته.
ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم1؛ فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه، والنعم التي أفرغت عليه إفراغا؛ فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك، ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك؛ إذ نزلت توبته2؛ فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم.
ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل3 مقدما على الأحاديث؛ إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر4 ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث، وكان ممن أدرك التابعين وراقب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ثبت في غير حديث، مضى تخريج واحد منها "ص163"، وانظر لزاما كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 297-298، 320 - ط دار الحديث".
2 كما في "صحيح البخاري" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك, 8/ 113-116/ رقم 4418"، و"صحيح مسلم" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".
3 المستند إلى الديل الشرعي لا مجرد العمل؛ فالعمل المستمر عنده يرجح الدليل على سائر الأدلة التي لم يصاحبها العمل المستمر، هكذا ينبغي أن يفهم؛ كما ذكره الأصوليون، قالوا: يرجح الخبر على معارضه بعمل أكثر السلف وعمل أهل المدينة، وسيأتي عن مالك أنه قال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه". "د".
قلت: ينظر عن حجية عمل أهل المدينة: رسالة ابن تيمية "صحة أصول أهل المدينة"، ورسالة أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين".
4 في الأصل و"ط": "الأكثري".(6/376)
ص -271-…أعمالهم، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذًا عن العمل المستمر في الصحابة، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قوة المستمر.
وقد قيل لمالك: إن قوما يقولون: إن التشهد فرض. فقال: "أما كان أحد يعرف التشهد؟". فأشار إلى الإنكار عليه1 بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه ما تقدم.
وسأله أبو يوسف عن الأذان؛ فقال مالك: "وما حاجتك إلى ذلك؟ فعجبًا من فقيه يسأل عن الأذان"، ثم قال له مالك: "وكيف الأذان عندكم؟". فذكر مذهبهم فيه؛ فقال: "من أين لكم هذا؟". فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم، فأذن لهم كما ذكر عنهم. فقال له مالك: "ما أدري ما أذان يوم؟ وما صلاة يوم؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده من بعد يؤذنون في حياته وعند قبره، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده"2.
فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في الاتباع وأولى أن يرجع إليه3.
وقد بين في "العتبية"4 أصلا لهذا المعنى عظيمًا يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتيه5 الأمر يحبه فيسجد لله شكرا؛ فقال: "لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس". فقيل له: إن أبا بكر الصديق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "عليهم".
2 المذكور عند عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 50 - ط المغرب"، وعنه الراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص218".
3 تجد قائمة طويلة في كتاب أحمد نور سيف "عمل أهل المدينة" "ص323-359" فيها احتجاج مالك بعمل أهل المدينة، جمعها من "الموطأ" و"المدونة" وكتب العلماء الأقدمين.
4 "1/ 392 - مع "البيان والتحصيل"".
5 كذا في "العتبية" و"ط"، وفي غيره: "يأتي إليه".(6/377)
ص -272-…-فيما يذكرون- سجد يوم اليمامة شكرا1؛ أفسمعت ذلك؟ قال: "ما سمعت ذلك، و[أنا] أرى أن [قد] كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم نسمع له خلافا". ثم قال: "قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده؛ أفسمعت أن أحدا منهم سجد؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء؛ فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك الأمر لا تعرفه؛ فدعه"2.
هذا ما قال.
وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان، وفي أي محل وقع، ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل، ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير.
- ومنها: أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به، أو خاص بحال من الأحوال؛ فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به؛ كما قالوا في مسحه عليه الصلاة والسلام على ناصيته وعلى العمامة في الوضوء: إنه كان به مرض3، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص158".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 468-471 - ط ابن عفان"، وما علقناه على "ص158-159".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، 1/ 308/ رقم 204، 205" عن عمرو بن أمية الضمري؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمح على عمامته وخفيه.(6/378)
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، 1/ 230/ رقم 274 بعد 81" عن المغيرة ضمن حديث فيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفية"، وفي لفظ برقم "274 بعد 82": "يمسح على الخفين، ومقدم رأسه، وعلى عمامته". وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن أبي بكر وعمر في المسح على العمامة؛ حتى قال الإمام أحمد: "المسح على العمامة من خمس وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وانظر بسط المسألة في: "المغني" "1/ 300"، و"المجموع" "1/ 406"، و"الأوسط" "1/ 466-472"، و"مسائل أحمد" "ص8" لأبي داود، والحجة على أهل المدينة" "1/ 16"، و"الموطأ" "1/ 43"، و"الأم" "1/ 26".(6/379)
ص -273-…بعد ثلاثٍ بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخًا، وهو قوله: "إنما نهيتكم لأجل الدافة"1.
- ومنها: أن يكون مما فعل فلتة2؛ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره، ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأذن فيه ابتداء لأحد؛ فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره؛ كما في قصة الرجل3 الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله؛ فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنه لو جاءني لاستغفرت له"4، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد رضي الله عنه مرفوعا.
قلت: وقد جاء في الأصل و"ف": "الرأفة"، وهو خطأ.
2 بدون سبق تشريع فيه. "د".
3 هو أبو لبابة الأنصاري في قصة بني قريظة؛ لما استشاروه أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم: نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ يعني: الذبح، وسيأتي تخريج القصة.
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "21/ 151-152" هكذا مطولا.
وأخرج القصة مختصرة ضمن قصة مطولة أخرى أحمد في "المسند"، وفيه محمد بن عمرو ابن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 138".
وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" "21/ 81-83": "أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه""، ثم قال: "هذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة". وانظر "سيرة ابن كثير" "3/ 238"، و"تفسير القرطبي" "14/ 139-140".
5 بقبول توبته، وقد أبره صلى الله عليه وسلم في يمينه؛ فأطلقه بيده الكريمة. "د".(6/380)
ص -274-…فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دوامًا، أما الابتداء؛ فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما دوامًا؛ فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه، وهذا خاص بزمانه؛ إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي، وقد انقطع بعده؛ فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر1 الحكم فيه.
وأيضا؛ فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله، لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده؛ فإذا العمل بمثله أشد غررًا؛ إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له، ولو كان [قبله]2 تشريع؛ لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته.
- ومنها: أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم يتابع عليه؛ إذ كان في زمانه عليه الصلاة والسلام ولم يعلم به فيجيزه أو يمنعه؛ لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردًا وهو صائم في رمضان؛ فقيل له: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال: "إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا، وإنه ليس بطعام ولا شراب"3.
قال الطحاوي: "ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة والسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "ينظر".
2 سقط من "ط".
3 أخرحه أحمد في "المسند" "3/ 279"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 348"، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83"، وأخرجه البزار في "مسنده" "رقم 1022 - زوائده" أيضا، وزاد: "فذكرت ذلك لسيعد بن المسيب؛ فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ"، وقال: "لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة". انظر "مجمع الزوائد" "3/ 171-172".(6/381)
ص -275-…عليه1؛ فيعلّمه الواجب عليه فيه". قال2: "وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يرَ ذلك عمر شيئا، إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره"3.
فكذلك ما روي عن أبي طلحة؛ قال: "والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع؛ قال: كنت عن يمين عمر بن الخطاب؛ إذ جاءه رجل، فقال: زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل4 من الجنابة برأيه. فقال: اعجل5 به علي! فجاء زيد، فقال عمر: قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي عليه الصلاة والسام برأيك؟ فقال زيد: والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي، ولكني6 سمعت من أعمامي شيئا فقلت به. فقال: من أي أعمامك؟ فقال: من أبي بن كعب، وأبي أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إليّ عمر، فقال: ما يقول هذا الفتى؟ فقلت: إنا كنا نفعله7 على عهد رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد جاء في رواية فيها عقب نحو الأثر السابق وفيها زيادة عن أنس: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال: "خذها عن عمك". أي: أبو طلحة في أكله البرد، وقوله عنه ما قال.
أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 347"، والبزار في "المسند" "رقم 1021 - زوائده"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 15/ رقم 1424 و7/ 73-74/ رقم 3999" بإسناد ضعيف فيه علي بن زيد، وهو ضعيف، قال عنه شعبة: "حدثنا علي بن زيد، وكان رفاعا"، ورفعه منكر؛ فقد رووه الثقات عن أنس ووقفوه على أبي طلحة.
2 في "مشكل الآثار" "2/ 348-349"، ونقل المصنف عنه بتصرف.
وفي نسخة الأصل: "قال: فقد...".
3 إذ لو أخبر بذلك؛ لكان مما يصلح العمل على وفقه. "ف".
4 في "المشكل": "يفتي الناس بعدم الغسل".
5 في "ط": "اعجلوا".
6 في "المشكل": "ولكن".
7 أي: الجماع بغير إنزال. "د".(6/382)
وقال "ف": يشير إلى أنهم كانوا لا يغتسلون عند عدم الإنزال، والعمل الكثير الذي استمر الاغتسال مطلقا أنزل أو لا من التقاء الختانين".(6/383)
ص -276-…صلى الله عليه وسلم ثم لا نغتسل. قال: أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقلت: لا". ثم قال في آخر الحديث: "لئن أُخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة"1.
فهذا أيضا من ذلك القبيل2، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال؛ فكفى بمثله حجة على الترك.
- ومنها: [إمكان] أن يكون عمل به قليلا ثم نسخ، فترك العمل به جملة؛ فلا يكون حجة بإطلاق، فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام.
ومثاله حديث الصيام عن الميت3؛ فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس4،]وهما أول من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 348-349" و"شرح معاني الآثار" "1/ 58-59"، وأحمد في "المسند" "5/ 115"، والطبراني في "الكبير" "5/ 34-35/ رقم 4536" بسند رجاله رجال الصحيح؛ غير ابن إسحاق، وهو مدلس؛ وقد عنعن.
2 المعروف فيه أنه مما عمل به قليلا ثم نسخ، أو تخصص حديثه الذي هو قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" بالحلم، وقد ورد في الحديث: "لعلنا أعجلناك؟". فقال: نعم يا رسول الله. قال: "فإذ أعجلت أو أقحطت؛ فلا غسل عليك". وهذا لفظ البخاري ومسلم، والإقحاط عدم الإنزال، وعن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها"، أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي. "د".
3 مضى لفظه وتخريجه "ص198".
4 لفظ حديث عائشة مضى "ص198" ووقع في رواية إسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 900" عنها: "من مات وعليه صوم نذر؛ فليصم عنه وليه". قال إسحاق عقبه: "السنة هذا".
وتقدم ايضا عن ابن عباس في قضاء صوم النذر، وهو في "الصحيحين"؛ فالقول بقضاء صيام الولي مقيد بصيام النذر لأسباب:
الأول: الرواي المطلقة تحمل على المقيدة إن اتحد السبب، وهذا باتفاق.(6/384)
الثاني: ورد التقييد بالنذر في رواية إسحاق، وهو الذي أجاب عنه ابن عباس. وانظر: "شرح السنة" "6/ 324". =(6/385)
ص -277-…خالفاه1 فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، فقالت: "أطعموا عنها"2، وعن ابن عباس]3؛ أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد"4.
قال مالك: "ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثالث: من روى حديث عائشة: "من مات وعليه صيام"، قال: "هذا في النذر"، كما قال أبو داود، انظر: "مسائل أحمد" لأبي داود "ص69"، و"الاستذكار" "10/ 170".
الرابع: "ثبت عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان؛ فقال: يطعم، وفي النذر: يصام عنه؛ كما في "مصنف عبد الرزاق" "4/ 236، 237، 240"، و"سنن البيهقي" "4/ 253"، و"المحلى" "6/ 263"، و"أحكام القرآن" "1/ 211" للجصاص، و"الاستذكار" "1/ 171-172"، و"المجموع" "6/ 431".
ويحمل قول ابن عباس: "لا يصومن أحد عن أحد" على من شهد رمضان، أما صيام النذر؛ فإن المرء أوجبه على نفسه، فإذا مات ولم يصمه؛ انتقل إلى أوليائه، فيصومون عنه كما ينتقل الدين إلى تركته التي أصبحت بعد موته من حق أوليائه، فيخرج منها.
الخامس: إعمال الأدلة كلها خير من إهمالها أو إهمال بعضها، وفي التوجيه السابق إعمال بالمرفوع والموقوف، وما أحسن قول ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 173": "لولا الأثر المذكور؛ لكان الأصل القياس على الأصل المجتمع عليه في الصلاة، وهو عمل بدن لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يصلي أحد عن أحد". وانظر: "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 279-282".
1 في "ط": "خالفهما".
2 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 142"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 4" بإسناد صحيح.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "4/ 257"، وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 202 - رواية يحيى، ورقم 835 - رواية أبي مصعب عن ابن عمر مثله.(6/386)
5 "الموطأ" "1/ 323/ رقم 837 - رواية أبي مصعب".(6/387)
ص -278-…فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم، وهو الذي عول عليه في المسألة1، كما أنه عول عليه في جملة عمله.
وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل، وقيل له: أتسجد أنت فيه؟ فقال: "لا". وقيل2 له: إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز. فقال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من حديث الناس، وأعظم من ذلك القرآن، يقول الله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]؛ فالقرآن أعظم خطرا وفيه الناسخ والمنسوخ3؛ فكيف بالأحاديث؟ وهذا مما لم يجتمع عليه"4.
وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر؛ إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانتصر لهذا ودافع عنه دفاعا قويا ابن العربي في "القبس" "2/ 517-519"، قال في آخر مسألة الصيام عن الميت: "فأنت إن اتبعت حديثا واحدا دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث وتستخلص الحق من بينها؛ فأنت ممن في قلبه زيغ، أو عليه رين، والذي تفطن له مالك رضي الله عنه تلقفه من عبد الله بن عمر تعليمًا لا تقليدًا".
قلت: وقد سبق استخلاص الحق في مسألة الصيام عن الميت بالتفرقة بين صيام النذر وغيره، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
2 في "ط": "فقيل".
3 هذا بناء على تفسير المحكم بالناسخ والمتشابه بالمنسوخ، أما على ما هو مشهور من أن المحكمات الواضحات؛ فلا يأتي استشهاد الإمام بالآية. "د".
4 انظر مذهب مالك والخلاف عليه في هذه المسألة أو مناقشته فيها في: "الموطأ" "1/ 207- رواية يحيى"، و"المنتقى" "1/ 349" للباجي، و"شرح الزرقاني على الموطأ" "1/ 371"، "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 308"، و"الأم" "7/ 187، 188".(6/388)
وانظر أدلة المسألة في: "نصب الراية" "2/ 182"، و"فتح الباري" "2/ 377"، و"الدراية" "1/ 211"، و"شرح معاني الآثار" "1/ 353"، و"عمدة القاري" "7/ 96"، و"التلخيص الحبير" "2/ 8".
5 أصله من كلام لابن عباس تذكره كتب الأصول غالبا. وهو قوله: "كنا نأخذ بالأحدث =(6/389)
ص -279-…وروي عن ابن شهاب؛ أنه قال: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه"1، وهذا صحيح، ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه؛ انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر، والحمد لله.
وثم أقسام أخر يستل على الحكم فيها بما تقدم ذكره.
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين؛ فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل؛ إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى2 معنى التخيير، ولم يخف3 نسخ العمل، أو عدم 4 صحة في الدليل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالأحدث". انظر مثلا: "مختصر المنتهى" "ص133" لابن الحاجب، و"اللمع" للشيرازي "ص239".
أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، 2/ 784-785" عن ابن عباس: "خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره".
وقصر ابن كثير في تخريجه في "تحفة الطالب" "رقم 204"؛ إذ اقتصر على إيراد ما عند البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان على حديث في آخره: "وإنما يؤخد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر".
والأشد منه قصورا ما فعله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع" "رقم 70"؛ إذ أورد تحته: "كان آخر الأمرين..."، و"أكل آخر أمريه..."، ولم يخرج الأثر المذكور، والله الموفق.
1 أخرجه الحازمي في "الاعتبار" "ص3-4"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 3".
2 الضمير للقليل في قوله: "العمل بالقليل"؛ أي: بأن كان الدليل الذي أخذ به يصلح معارضًا لما عمل به الأكثر، ولا يكون ذلك إلا حيث يحتج به وإن ترجح الآخر بكثرة العمل به. "د".
3 الضمير للعامل؛ فهو مبني للفاعل، وقوله: "أو احتمالا" معطوف على مفعول. "د".(6/390)
قلت: لأنه ضبطها بفتحتين، أما "ف"؛ فقد قال: "بضم الياء، وفتح الخاء".
وفي "م": "يُخْفَف".
4 في الأصل: "وعدم".(6/391)
ص -280-…أو احتمالًا1 لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك.
أما لو عمل بالقليل دائما؛ للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها.
والثاني2: استلزام ترك ما داوموا عليه؛ إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث3: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه؛ إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به؛ كان أشد.
الحذرَ الحذرَ4 من مخالفة الأولين! فلو كان ثم فضل [ما]5؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان.
والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال؛ فهو أشد مما قبله، والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة؛ إذ لو كان دليلا عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل6؛ فما عمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله: "أو احتمال" بالعطف على ما قبله، أي: أمن ذلك كله، تأمل "ف".
2 لازم لما قبله؛ أي: خالفهم فعلا وتركا، وهما متلازمان في مثله. "د".
3 الأول والثاني عامان، وهذا الثالث خاص بما إذا كان من مقتدى به. "د".
4 منصوب على التحذير. "ف".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
6 أي: ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه، تأمل "ف".(6/392)
ص -281-…المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة1، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ2، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى3.
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما4 مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما5 في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم بما هو شهير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما جاء في الحديث الصحيح بشواهده، ومضى تخريجه "2/ 434".
2 هذه قاعدة بديعة، ركز عليها المصنف كثيرا فيما سبق وفيما سيأتي، وعليها مدار نجاة المرء، وتكلم عليها الفقهاء المحققون كثيرا، مثل: الشافعي في "رسالته" البغدادية، ونقل عنها ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 80 و1/ 69- ط دار الحديث"، وأولاها عناية تامة ابن تيمية؛ كما تراه في "مجموع الفتاوى" "3/ 157 و4/ 91-94 و132 وما بعدها، و157-158 و5/ 7، 8 و13/ 24"، و"شرح العقيدة الأصفهانية" "ص128"، و"نقض المنطق" "7، 8"، و"الإيمان" "ص417"، وكذلك تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 79 وما بعدها و4/ 118 وما بعدها و147-155"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 345-349".
3 فهو مصادم بعمل السلف الأولين. "ف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "يحملونها"، قال "ف": "الأنسب يحملونها، وكذا قوله بمشتبهاتها، الأنسب فيه التثنية".
5 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "بمشتبهاتها".(6/393)
ص -282-…في النقل عنهم، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8].
وكثير من فرق الاعتقادات1 تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه؛ مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك.
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة2، وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع3 بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسُونه فيما بينهم"4 الحديث، والحديث الآخر: "ما اجتمع قوم يذكرون الله..."5 إلخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ف": "تعلق -أي: تمسك به- كعمل ملحدي زماننا ومتفلسفة عصرنا، وفقنا الله للهدى".
2 في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الأسكندرية؛ فكره ذلك، وأنكر أن يكون من عمل الناس، قال في "الاعتصام" "2/ 31 و1/ 509 - ط ابن عفان" بعد ذكر ما تقدم: "وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده"، وقال قبل ذلك: "ومن أمثلة ذلك قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد؛ فإن هذه الهيئة زائدة على مشروعية القراءة". وانظر في بدعية ذلك أيضا: "الحوادث والبدع" "ص161"، وما سيأتي "ص497".
3 انظر ما سيأتي "ص497".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، 4/ 2074/ رقم 2699" عن أبي هريرة مرفوعا ضمن حديث طويل، مما فيه: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".(6/394)
5 أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20577"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 94"، والبغوي في "شرح السنة" 4/ 64-65/ رقم 947"- وإسناده صحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعا، وتتمته: "إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"، وله تتمة في "الصحيحين".(6/395)
ص -283-…وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية [الأنعام: 52].
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم: "دونكم يا بني أرفدة"1.
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة2؛ فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 950، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94-95/ رقم 2907"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 609/ رقم 892 بعد 19" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
وقال "ف" على "بني أرفدة": "هو لقب لجنس من الحبشة: يرفضون، أو هو اسم أبيهم الأقدم".
2 وكتاب "الاعتصام" للمؤلف قد أوضح الطريق لتمييز المصالح المرسلة عن البدع على وجه محكم متين، وعالج المسائل المذكورة وبين أنها ليست من البدع في أي وجه من الوجوه؛ فانظره غير مأمور، وكتب "ف" ما نصه: "وقد أسهب المؤلف في ذلك وفي معنى البدعة وأقسامها وما يرتبط بها في كتابه "الاعتصام"، وأنه لكتاب قيم جليل ينبغي الاطلاع عليه ليميز الإنسان بين البدع والمصالح المرسلة؛ فإنه مما اشتبه على كثير من الناس فخلطوا".(6/396)
ص -284-…تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين؛ فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على1 هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا2 عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالاتهم3 وعملهم مخطئون ومخالفون4 للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛ قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على5 زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المُتَقَوِّل، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصلاح؛ فهو الضلال بعينه.
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين، وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ؛ فلا مخالفة، إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "من".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو حادوا".
3 كذا في "ط" وفي غيره: "استدلالهم".
4 في "ط": "مخطئون مخالفون".
5 في "م": "عن".(6/397)
ص -285-…المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده، وهو البدعة المنكرة، قيل له: بل هو مخالف؛ لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين:
أحدهما:
أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه؛ فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له، فمن استلحقه صار مخالفا للسنة، حسبما تبين في كتاب المقاصد.
والثاني:
أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد؛ فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله، وهي المصالح1 المرسلة، وهي من أصول الشريعة المبني عليها؛ إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع، حسبما تبين في علم الأصول؛ فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع.
وأيضا؛ فالمصالح2 المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل؛ فلا مزيد عليه، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه؛ لم يكن حجة في غيره3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المصلحة".
2 في "ط": "فالمسائل".
3 قال الآمدي في "الإحكام" [المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول، 2/ 480]: "أثبته الأكثرون"، ثم قال في [باب المطلق، 3/ 3]: "كل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار، فهو بعينه جارٍ في تقييد المطلق". نقول: ولا شك أن المطلق ليس حدة في غير ما قيد به، والمسألة في ابن الحاجب أيضا في باب التخصيص. "د".(6/398)
ص -286-…فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق؛ فرأيت الأولين قد عنوا1 به على وجه واستمر عليه عملهم؛ فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر، بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب، لكن على وجه آخر؛ فإذًا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه، ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة؛ فلم يبق إذًا أن يكون إلا من2 قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين، وكفى بذلك مزلة قدم، وبالله التوفيق.
فصل
واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة بل فيها ما هو3 خفيف، ومنها ما هو شديد، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا؛ فلنَكِلْهُ إلى نظر المجتهدين، ولكن المخالف على ضربين:
أحدهما:
أن يكون من أهل الاجتهاد؛ فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع4 أو لا، فإن كان كذلك؛ فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه؛ فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول.
والثاني:
أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"ط": "عملوا".
2 في "ط": "فلم يبق إلا أن يكون من...".
3 قال "ف": "لعله منها ما هو... إلخ" بدليل ما بعده، وهو ظاهر.
4 كما سبق في مسألة الوصال في الصيام من بعض الصحابة بعد ورود النهي عنه. "د".(6/399)
ص -287-…مغالطة إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة، ولا رأوه أهلا للدخول معهم؛ فهذا مذموم.
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم1؛ لأن المجتهدين وإن اختلفوا فالأمر العام في المسائل أن يختلفوا إلا فيما اختلف فيه الأولون2، أو في مسألة [من] موارد الظنون لا ذكر لهم فيها؛ فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه العمل.
أما القسم الثاني3؛ فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان؛ فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع؛ فإنه نوع من الإجماع فعلي، بخلاف4 ما إذا خالفه؛ فإن المخالفة موهنة له أو مكذبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لوجود التزكية والهدي الحسن في حقهم، وبعدهم عن ركوب ما لا يرتضى.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون"!! وعلق "د" على "اختلف" بقوله: "أي: مذهبا ورأيا، وكان عمل كل منهم جاريا على مقتضى مذهبه، هذه صورة، أو في مسألة لم تظهر للمتقدمين؛ أي: الصحابة مثلا اختلاف في المذهب، ولم يحصل استدلال كل على مذهبه، ولكن روي عنهم الاختلاف في العمل، فإذا اختلف المجتهدون بعد ذلك يكون رأي كل منهم موافقا لرأي البعض وعمله في الصورة الأولى، وموافقا للعمل في الصورة الثانية، لكن بقيت صورة ثالثة، وهي أنه قد يختلف المجتهدون في أمر لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه، فضلا عن الرأي؛ فلا يأتي فيه قوله: "والثاني يلزم منه الجريان... إلخ"؛ لأن ذلك إنما يكون فيما حصل فيه منهم عمل؛ إلا أن يقال: إنه قيد كلامه أولا بقوله: "في الأمر العام"؛ أي: إن هذا في الجملة والأغلب".
3 وهم ممن ليسوا أهلا للاجتهاد وأدخلوا أنفسهم فيه غلطا. "د".(6/400)
4 هكذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "الفعلي"، ثم ذكر في الحاشية أنه في نسخته: "فعلي".(6/401)
ص -288-…وأيضا؛ فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل1 المقدرة الموهنة2؛ لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة، لا يستقيم إعمال الدليل دونها، والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها [حتما]3، ومعين لناسخها من منسوخها، ومبين لمجملها، إلى غير ذلك؛ فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم، ولذلك اعتمده مالك بن أنس ومن قال بقوله، وقد تقدم منه أمثلة.
وأيضا؛ فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها.
ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها4 في الافتئات على الشريعة، وانظر في مسألة التداوي من الخمار في "درة الغواص"5 للحريري وأشباهها، بل قد استدل بعض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الاحتمالات العشرة؛ من المجاز، والنسخ، والتعارض العقلي... إلخ. "د".
2 في الأصل: "المكدرة".
3 سقط من "د".
4 في "ف": "ما أشنعهما".
5 جاء فيه "ص122-123 - ط ليدن" ما نصه: "حكي أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار وقد علق به؛ فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله عن ذلك؛ فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال النبي عليه السلام: "استعينوا في الصناعات بأهلها"، والأعشى هو المشهور بهذه =(6/402)
ص -289-…النصارى1 على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيل؛ فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد، {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43].
فلهذا2 كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل، ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذة…وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام؛ فقال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء…وداوني بالتي كانت هي الداء
فأسفر حينئذ وجه حامد بالجواب، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟".
وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله عز وجل أولا، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبين الفتيا، وأدى المعنى وتقصى من العهدة؛ فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة.
قال "د": "ولا شك أن هذا مجون مرذول من قاضي القضاة لا يصدر إلى عن الفساق المستهترين".
قلت: وحديث: "استعينوا في الصناعات بأهلها" ذكره الثعالبي في كتاب "اللطائف واللطف"، وابن النجار في "تاريخه" ضمن القصة المذكورة، وهو مما لا سند له. انظر: "الدرر المنتثرة" "رقم 81"، و"التمييز" "127"، و"كشف الخفاء" "رقم 340"، و"أسنى المطالب" "178".
1 وما زالوا يفعلون، وكتب ردا عليهم الشيخ عبد الله القلقيلي رحمه الله تعالى بعنوان: "ليس في كتاب الله ما يدل على أن المسيح ابن إله أو أنه إله"، وهو مطبوع في رسالة لطيفة.
2 هكذا في الأصول و"ط"، وفي "ف": "فهذا كله"، قال: "الأنسب: فلهذا كله".(6/403)
ص -290-…المسألة الثالثة عشرة1:
فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما:
أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن2 توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
والثاني:
أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر [في]3 بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة.
ويظهر هذا المعنى من4 الآية الكريمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها، وغنما مرادجهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الادلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 203-220".
2 في الأصل: "فإن هذا".
3 هكذا هي في الأصل، و"ط"، وفي "د" و"ف" و"م": "أن يظهر بادئ"، قال "د": "لعل الأصل بأن يظهر"، وكتب "ف": "لعله إن ظهر في بادئ الرأي الموافقة؛ أي: وبعد النظر والتمحيص يظهر نبو الدليل عن الغرض".
4 في "م": "في".(6/404)
ص -291-…مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، ويقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى.(6/405)
ص -292-…المسألة الرابعة عشرة:
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين1:
أحدهما:
الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة، وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.
والثاني:
الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع2 الأخبثان، وبالجمة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي.
فإذا تبين المعنى المراد؛ فهل يصح الاقتصار في الاستدلال على3 الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد4 دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها؟ هذا مما فيه نظر وتفصيل.
فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أو لا؛ فإن أخذه مجردا صح الاستدلال، وإن أخذه5 بقيد الوقوع فلا يصح6، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيقول في آخر المسألة: "وإذا اعتبرت الأقضية والفتاوى في القرآن والحديث؛ وجدتها على هذا الأصل"، يعني: فالمسالة تساعدك على تنزيل ما ورد فيها من ذلك على ما تعلمه من هذا الأصل. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ويدافعه".
3 في "د": "عن".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يتقيد".
5 في الأصل: "يأخذه".
6 ليس كل ما اعتبر فيه الوقوع ينضم إليه توابع تخرجه عن الحكم الأصلي، وعليك بالنظر =(6/406)
ص -293-…المعين، وتعيين المناط موجب -في كثير من النوازل- إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها؛ إذ ليس موضع الحاجة، بخلاف [ما]1 إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال؛ فلا بد من اعتباره.
فقول الله تعالى: {يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 95]، لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط [أصلي]1 من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابع؛ فلم يتنزل2 حكم أولي الضرر، ولما اشتبه3 ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء، يستوي4 فيه ذو الضرر وغيره، فخاف من ذلك وسأل الرخصة؛ فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر}.
ولما قال عليه الصلاة والسلام: "من نُوقش الحساب؛ عُذب"5 بناء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أمثلته السابقة لتعلم منها صحة هذا، وأيضا سيقول بعد: "موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم"؛ أي: إن هناك نوازل أيضا لا ضمائم لها، وعليه، فلو أخذ الدليل معتبرا فيه الواقع الذي لا ضمائم فيه، وجعل الدليل مفردًا؛ فهو صحيح لأنه لم يختلف حكمه عن الحكم الأصلي، ولم يقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره كما قال؛ فإطلاقه عدم الصحة غير ظاهر، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} نازل على المناط ملاحظ فيه الواقع المعتاد، وانظر قوله بعد: "فأما إن لم يكن ثم تعيين... إلخ"، وقوله أيضا: "فإن سأل عن مناط غير معين... إلخ". "د".
1 سقطت من "ط".
2 في "ط": "ولم ينزل".
3 في "ف": "ولما شبه"، قال: "ولعله: ولما اشتبه"، وفي "ط": "ولما تنبه".(6/407)
4 هذا مبني على أن الآية بعد نزول الاستثناء أفادت أن ذوي الضرر يستوون مع المجاهدين، وليس كذلك؛ لأن الآية إنما تفيد أنهم خارجون عن هذه المقارنة، وأنهم أفضل فقط من القاعدين بغير عذر، وهذا ما فهمه ابن أم مكتوم السائل؛ فلذلك كان يذهب إلى الجهاد بعد ذلك ويقف في الصفوف. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876" عن عائشة رضي الله عنها، وهو قطعة من حديث.(6/408)
ص -294-…تأصيل قاعدة أخروي، سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]؛ لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث؛ فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"1 إلخ؛ فسألته عائشة عن هذه الكراهية: هل هي الطبيعية2 أم لا؟ فأخبرها أن "لا" وتبين مناط الكراهية المرادة.
وقال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] تنزيلا على المناط المعتاد، فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد وهو المرض؛ بيَّنه عليه الصلاة والسلام بقوله وفعله3 حين جُحِش شِقُّه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا وكافل اليتيم كهاتين"4، ثم لما تعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقائق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، 11/ 357/ رقم 6507"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، 4/ 2065/ رقم 2683" عن عبادة بن الصامت مرفوعا.
2 فهمت أنه من أحب الموت أحبه الله، ومن كره الموت كرهه الله، ومعلوم أن النفس بمقتضى الفطرة تكره الموت؛ فخافت وقالت: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته؛ فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته؛ فليس شيء أكره إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه".
3 فقد قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به..." إلى أن قال: "وإذا قعد فاقعدوا، وصلى بهم قاعدا" الحديث متفق عليه، ومضى تخريجه "1/ 467، 523".
قال "ف": "جحش: بالنباء للمجهول؛ أي: انخدش جلده، وفي الحديث أنه سقط من فرس فجحش شقه"، وقال "ماء": "جرح شقه".
قلت: مضى تخريج سقوطه صلى الله عليه وسلم عن فرسه في "1/ 523".(6/409)
4 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب اللعان، 9/ 439/ رقم 5304، وكتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، 10/ 436/ رقم 6005" عن سهل بن سعد مرفوعا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا.(6/410)
ص -295-…مناط فيه نظر؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: "لا تولين مال يتيم"1.
والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى، واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل، فلو فرض نزول حكم عام، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه؛ لكان الجواب على وفق هذه القاعدة، نظير وصيته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر؛ كما قال: "قل ربي الله ثم استقم"2، وقال لآخر: "لا تغضب"3، وكما قَبِلَ من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا، رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" عن أبي ذر.
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، 4/ 607/ رقم 2410" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "4/ 20"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، 2/ 1314/ رقم 3972"، وأحمد في "المسند" "3م 413 و4/ 384-385"، والدارمي في "السنن" "2/ 296"، والطبراني في "الكبير" "7/ 78/ رقم 6396"، وابن حبان في "الصحيح" "13/ 5/ رقم 5698، 5699"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 323/ رقم 1585"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 1، 6"، الخطيب في "التاريخ" "2/ 370 و9/ 234 و454" عن سفيان بن عبد الله الثقفي به، وهو صحيح.(6/411)
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، 1/ 65/ رقم 38"، وأحمد في "المسند"3/ 413"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 222/ رقم 1584"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 16"عن سفيان بن عبد الله الثقفي؛ قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 519 / رقم 6116" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: "لا تغضب"، فردد مرارا؛ قال: "لا تغضب".
وفي "مسند أحمد" "2/ 175" ما يدل على أن السائل هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإسناده حسن.(6/412)
ص -296-…بعضهم جميع ماله1، ومن بعضهم شطره2، ورد على بعضهم ما أتى به3 بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله، إلى سائر الأمثال.
فصل
ولتعين المناط مواضع:
- منها: الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام، كما إذا نزلت آية أو جاء حديث على سبب؛ فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق البيان التمام فيه؛ فقد قال تعالى4: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [فَتَابَ عَلَيْكُمْ]} الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أبو بكر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70".
2 وهو عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70".
3 كما حصل مع أبي لباباة وكعب بن مالك رضي الله عنهما، ومضى تخريج ذلك "ص70".
4 ليست الآيتان والحديثان من المناط الخاص المفروض فيه أنه يختلف حكمه عن العام بسبب طروء عوارض؛ حتى يكون من الاقتضاء التبعي الذي يخالف حكم الأصل، ويكون الحكم فيه مقصورا عليه بحسب هذه العوارض؛ فإن إباحة مباشرة النساء ليلة الصيام ليست قاصرة علىحالة من كان يختان نفسه، بل ذلك عام، وكذا إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ليست خاصة بمن يخافون عدم العدل في اليتامى، وكذا كون الأعمال بالنيات ليس قاصرا على مسألة الهجرة، وكذا الوعيد في عدم استيعاب الغسل للأعضاء ليس قاصرا على الأعقاب، كما قال المؤلف؛ فالأحكام فيها ليست قاصرة على المناط وهو السبب، بل حكمه حكم غيره، وسيأتي له أنهما إذا لم يختلفا؛ فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص؛ فهذه الأمثلة منه، أما المناطات الخاصة المخالفة لحكم العام فقد ذكر أمثلتها قبل هذا الفصل؛ فلا يشتبه عليك المقام. "د".(6/413)
ص -297-…[البقرة: 187]؛ إذ كان ناس يختانون أنفسهم؛ فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعًا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ1} الآية [النساء: 3]؛ إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا، وما أشبه ذلك.
وفي الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله..."2 الحديث، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب، وقال: "ويل للأعقاب من النار"3 مع أن غير الأعقاب يساويها حكما، لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومع ذلك كثير.
- ومنها: أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم [عام]، أو خارجًا عنه، ولا يكون كذلك في الحكم4؛ فمثال الأول ما تقدم في قوله عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب؛ عذب"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة منها "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 91/ رقم 1"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907" عن عمر رضي الله عنه.
3 وردت في هذا الباب أحاديث عديدة، سردها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الطهور" "ص374-384" تحت "باب غسل القدمين ووجوب ذلك مع العقبين، رقم 371-381"، وقد خرجتها بتفصيل وإسهاب في التعليق عليه، ولله الحمد والمنة.
ومما ورد في ذلك حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 60، 69، 163"، ومسلم في "الصحيح" "1/ 214/ رقم 241" وغيرهما.
4 أي: فبين الشارع المناط، ويزيل اللبس. "د".
5 مضى تخريجه "ص293"، وهو في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها.(6/414)
ص -298-…وقوله: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه"1.
ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي: "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل عليّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [إِذَا دَعَاكُمْ]} الآية [الأنفال: 24]؟"2.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية.
- ومنها: أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء؛ فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين، وقد يقع لبعضهم دون بعض؛ فمثال العام قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]؛ فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة؛ فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله مبينة لذلك.
ومثال الخاص3 قصة عدي بن حاتم4 في فهم الخيط الأبيض من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص294" وهو في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، هو تتمة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ...}، 8/ 307/ رقم 4647" عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه؛ قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني؛ فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته؛ فقال: "ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ...}...".(6/415)
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 450 و4/ 211"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 2م 139"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب، 2/ 150/ رقم 1458"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، 2/ 1244/ رقم 3785".
3 فإن الإجمال كان عنده خاصة، ولم يكن مجملا عند الصحابة في الآيتين. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ =(6/416)
ص -299-…الخيط الأسود؛ حتى نزل بسببه: {مِنَ الْفَجْر} [البقرة: 187].
وقصته1 في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لَكُمُ}، 8/ 182/ رقم 4509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، 2/ 766-767/ رقم 1090" عن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]؛ قال له عدي ين حاتم: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار". لفظ مسلم.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 4511"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1091" عن سهل بن سعد؛ قال: أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما؛ فأنزل الله بعده: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ فعلموا أنما يعني الليل من النهار.(6/417)
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة التوبة، 5/ 278/ رقم 3059"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 81"، والطبراني في "الكبير" "17/ 92/ رقم 218"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 490-491"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 116" و"المدخل" "رقم 261"، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "2/ 230"- المزي في "تهذيب الكمال" "ق1090" من طرق عن عدي بن حاتم؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي! اطرح عنك هذ الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه".
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 365" في تخريجه: "أخرجه الترمذي وحسنه"، ولم يحسنه الترمذي. وانظر: "تحفة الأشراف" "7/ 284"، =(6/418)
ص -300-…وقصة ابن عمر1 في طلاق زوجته، إلى أمثال من ذلك كثيرة.
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة.
فأما إن لم يكن ثم تعيين2؛ فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و"العارضة" "11/ 246".
قلت: غضيف ضعيف، ضعفه الدارقطني. انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 430"، و"اللسان" "4/ 240".
وللحديث شاهد أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 272"، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "السنن" "10/ 116"عن حذيفة موقوفا، وله حكم الرفع؛ كما هو مقرر في علم المصطلح، وله شاهد آخر جيد من حديث أبي العالية أخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 81".
فالحديث حسن بطرقه المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه" الإيمان" "64"، وعزاه ابن كثير في "التفسير" "2/ 348" للإمام أحمد من حديث عدي، ولم أظفر به في "مسنده" "4/ 256، 377" "مسند عدي".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، 9/ 351/ رقم 5252"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093" عن ابن عمر؛ أنه طلق أمرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلق لها النساء". لفظ مسلم.
2 وفي هذه الحالة لا يظهر فرق بين الأخذين؛ لأن فرض الوقوع المعتاد لا يغير شيئا. "د".(6/419)
ص -301-…بد من اعتبار توابعه، وعند ذلك نقول: لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف1 يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك؛ أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه، لأنه سئل عن مناط معين؛ فأجاب عن مناط غير معين.
لا يقال: إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من أفراد عام، أو مقيد من مطلق؛ لأنا نقول: ليس الفرض هكذا2، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله، فإن فرض عدم اختلافهما؛ فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص.
وما مثل هذا إلا مثل من سأل: هل يجوز بيع الدرهم3 من سكة كذا بدرهم3 في وزنه من سكة أخرى، أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه؟ فأجابه المسئول بأن الدرهم3 بالدرهم3 سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد؛ فقد أربى، فإنه لا يحصل4 له جواب مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عن أمر له كيفية وتوابع خاصة في وقوعه، بحيث يكون مما له مناط معين. "د".
2 أي: ليس الفرض الذي نحكم فيه بالخطأ إذا لم يلاحظه في الجواب هكذا؛ اي: أي مناط خاص كائنا ما كان. "د".
3 في "ط": "الدراهم"بالجمع في الموطنين.(6/420)
4 أما بالنسبة إلى الجزء الأول من السؤال؛ فإنه جواب بالعام في موضع يتعين فيه الخاص لأن قوله: "فمن زاد... إلخ" يحتمل زاد في عدد الدراهم مع تساويها في الوزن ولو كانا من سكتين، ويحتمل أن يفهم أن اختلاف السكتين لا يقال فيه الدرهم بالدرهم؛ لأنه نوع آخر، وعلى هذين الاحتمالين لا يكون الجواب صحيحا لأنه قد يفهم منه أن اختلاف السكة أو العدد مع اتحاد الوزن يكون ربا، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة في الوزن؛ فيكون الجواب صحيحا، ومع بقاء هذه الاحتمالات يكون الجواب غير مطابق للسؤال ولا يفيد لأنه يبقى أن يقول: ومسألتنا ما حكمها؟ وأما بالنسبة إلى الجزء الثاني؛ فهو جواب بالمباين لأن المسئول عنه غير داخل في الجواب؛ إذ غير المسكوك لا يعد درهما، فلو حذفه كان أولى، وقوله: "لكان مصيبا" يقال عليه: إن الجواب حينئذ يكون أخص من السؤال؛ لأن الدرهم أخص من مطلق الفضة، هذا إذا كان الدرهم ما هو المعروف أنه المسكوك من الفضة للتعامل به، فإذا كان المراد بالدرهم نوعا من الصنج؛ فلا يناسب كلامه. "د".(6/421)
ص -302-…ما سألتك عنه من قبيل الربا، أم لا؟ أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه؟ فأجابه كذلك؛ لحصل المقصود، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه.
فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام؛ لكان مصيبًا، لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق، فأجابه بمقتضى الأصل، ولو فصّل له الأمر بحسب الواقع لجاز، ويحتمل فرض صور كثيرة، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين، وكثرت أعداد المسائل؛ غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله، فإن سأل عن مناط غير معين؛ أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي، وإن سأل عن معين؛ فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة، وجدها على وفق هذا الأصل، وبالله التوفيق.(6/422)
ص -305-…النظر الثاني: في عوارض الأدلة
[فينحصر القول فيه في خمسة فصول]1
الفصل الأول: في الإحكام والتشابه
وله مسائل:
[المسألة الأولى]2
المحكم يطلق بإطلاقين: عام، وخاص، فأما الخاص؛ فالذي يراد به خلاف المنسوخ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ، سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا؛ فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة، وأما العام؛ فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره3؛ فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ، وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه، كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا، وعلى هذا الثاني مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]} [آل عمران: 7].
ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى [الثاني]4 ما نبه عليه الحديث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مكانه بياض في الأصل.
2 مكانه بياض في الأصل.
3 فهو كالمفسر في أحد استعماليه عند الأصوليين. انظر: "الحدود" "ص46، 47"، للباجي، و"تفسير القرطبي" "4/ 11"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 59-63 و13/ 143، 274، 275 و17/ 307 وما بعدها".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/423)
ص -306-…من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"1؛ فالبين هو المحكم، وإن كانت وجوه التشابه تختلف2 بحسب الآية والحديث؛ فالمعنى واحد لأن ذلك راجع إلى فهم3 المخاطب، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه، كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة4 تحت معنى المحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
2 سيأتي أن الآية في التشابه الحقيقي صراحة، وظاهر أن الحديث في التشابه الإضافي، وقد يندرج فيه أيضا التشابه الواقع في المناط. "د".
3 أي: فكل منهما لا يتبين المراد به من لفظه عند المخاطب. "د".
4 أي: بعد معرفة أنه الناسخ... إلخ، فإنه صار واضحا لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. "د".(6/424)
ص -307-…المسألة الثانية1:
التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات، لكن النظر في مقدار الواقع منه: [هل هو]2 قليل أم كثير؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة؛ لأمور:
أحدها:
النص الصريح، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]؛ فقوله في المحكمات: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يدل أنها المعظم والجمهور، وأم الشيء معظمه وعامه، كما قالوا: "أم الطريق" بمعنى معظمه، و"أم الدماغ" بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه، و"الأم" أيضا الأصل، ولذلك قيل لمكة: "أم القرى"؛ لأن الأرض دُحيت من تحتها، والمعنى يرجع3 إلى الأول، فإذا كان كذلك؛ فقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إنما يراد بها القليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لهذه المسألة والتي تليها فوائد كثيرة؛ فالغاية منها اطمئنان القلب بالقرآن، وحينئذ تسد أبواب الاحتمالات الباطلة المتناقضة حوله؛ فللمفسر أن يرد الكلام إلى أصله الأول، ويبين حكمه صرفه عن الأصل، وعليه أن يعلم الأصول الراسخة ولا يعول على غيرها، ويذكرها بقدر الحاجة، وكذلك ربما يكون التأويل الواضح الصحيح خفيا بعيدا عن الناس؛ إما لتمكن خطأ منهم، أو لعدم علمهم ببعض ما يتوقف عليه التأويل؛ فيضطر المفسر إلى دفع هذه الأمور وهو كاره، فإنه يشمئز عن ذكر الحماقات، ولكنه إن تركها لم يحسم جراثيم الباطل! مع أن ذلك متعب ومضيع للوقت؛ فإن أبواب الجهل والكذب لا تحصى.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(6/425)
3 لا يظهر رجوعه للأول الذي هو المعظم؛ لأن المعنى الثاني يرجع إلى أنه المنشأ الذي تفرع عليه غيره كما يؤخذ من التمثيل بأم القرى، وتعليلها بأن الأرض دحيت من تحتها، ولا يخفى أن الفرع قد يكون أكثر من الأصل، ولو قال: "والأم أيضا الأصل والعماد" كما في "القاموس"؛ لظهر رجوعه للأول، فإن الذي عليه المعتمد والمعول هو معظم الشيء وجمهوره، والنادر لا حكم له. "د".(6/426)
ص -308-…والثاني:
أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى؛ كقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ1 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال2 وحيرة لا بيان وهدى، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى؛ فدل على أنه ليس بكثير، ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها؛ لم يصح القول به، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق3 بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء، وهذا واضح.
والثالث:
الاستقراء؛ فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر، واتسقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1].
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، يعني: يشبه بضعه بعضا، ويصدق أوله آخره وآخره أوله، أعني: أوله وآخره في النزول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقتضي الاستدلال أن معنى "لتبين"؛ أي: به، فيكون بينا، ويؤكد أن غرضه ذلك سابق الكلام ولاحقه، وهو خلاف ما فسرت به الآية من أنه بيان السنة للقرآن. "د".
2 في "ف": "إشكالا"، قال: "المناسب إنما هو إشكال وخيرة لا بيان وهدى، أو إنما هو ورد إشكالا... إلخ".
3 لعله: "لم يتعلق"، والجملة خبر، والمبتدأ قبله. "ف".(6/427)
ص -309-…فإن قيل: كيف يكون المتشابه قليلا؟ وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا؛ فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول1 كثير، وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال: "لا عام إلا مخصص؛ إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [البقرة: 282]"2.
وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد؛ فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى وأنحاء لا تنحصر، وهكذا سائر ما ذكر مع العام.
ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل، ومعلوم أن المتفق عليه واضح، وأن المختلف فيه غير واضح؛ لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه، وإلى هذا؛ فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي، وقد اختلف فيه أولا في معناه3، ثم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قبل معرفة ما يقتضي تأويله، وإلا؛ فبعدها يكون محكما. "د".
وقال "ف": "سبق إدخاله في المحكم؛ فتأمل".
2 لم أظفر به، وهو من كلام الأصوليين، وليس بمسلم لهم؛ كما تراه في "إجابة السائل" "ص309 وما بعدها"، بل قال عنه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442": "من أكذب الكلام وأفسده"، وفي "6/ 444": "في غاية الجهل، وإما في غاية التقصير في العبارة"، ولذا شكك المصنف في ثبوت هذا الأثر عن ابن عباس، انظر "ص312، 4/ 48".(6/428)
3 أي: هل هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء، أم هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به؟ وقوله: "في صيغته"؛ أي: هل له صيغة تخصه أم لا؟ وقوله: "فيما تقتضيه"؛ أي: الوجوب، أم الندب، أم الأمر المشترك، وهل تقتضي التكرار أم لا تقتضيه، وهل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، والنهي عنه يقتضي الأمر بضده أم لا؟ "د".(6/429)
ص -310-…صيغته، ثم إذا تعينت له صيغة "افعل" أو "لا تفعل" فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة؛ فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه أو مختلف فيه مختلف1 فيه أيضا، إلا أن يثبت فيه تعينه2 إلى جهة بإجماع، وما أعز ذلك؟
وأيضا؛ فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم [من]3 القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب، وذلك عسير جدا، وأما الإجماع؛ فمتنازع فيه أولا، ثم إذا ثبت؛ ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط4 كثيرة جدا، إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة أو اختلف فيه، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء؛ هل له صيغة5 موجودة أم لا؟ وإذا قلنا بوجودها؛ فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط، وأوصاف تعتبر، وإلا؛ لم يعتبر، أو اختلف في اعتباره، وكذلك المطلق مع مقيده، وأيضا، فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص بل محتملة للتأويل؛ لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حقيقة أو حكما، حيث بنى على مختلف فيه. "د".
قلت: في الأصل: "مختلفا".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "إلى أن يثبت تعيينه".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 فاشترط بعضهم فيه انقراض العصر، وبعضهم أن يكون المجمعون عدد التواتر، وهل لا بد له من مستند أم لا، وهل يجوز أن يكون مستنده القياس أم لا؟ وهكذا. "د".
قلت: انظر ذلك في مبحث الإجماع في كتب الأصول، منها: "المحصول" "4/ 17 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "4/ 511 وما بعدها" للزركشي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 38-39، 19/ 167-168"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص316، 320 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 450- ط الرشد"، و"المستصفى" "1/ 182"، و"الإحكام" "1/ 226" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "241".
5 أي: هل الألفاظ والصيغ التي قيل إنها للعموم؛ كمن، والذي، والنكرة في سياق النفي، وهكذا؛ هل هي موضوعة للعموم، أم هي للخصوص، أم نقول بالوقف؟(6/430)
ص -311-…ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة، وهي أكثر الأدلة، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف؛ حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا، وإذا كانت حجة؛ فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل أو اختلف في إعمالها، ومن جملة ما يقتنص1 منه الأحكام "المفهوم"، وكله مختلف فيه؛ فلا مسألة تتفرع عنه متفقا2 عليه.
ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه3 على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا، ثم في أصنافه، ثم في مسالك علله، ثم في شروط صحته، ولا بد مع ذلك أن يسلم عن4 خمسة وعشرين اعتراضا، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا.
وأيضا؛ فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين:
إحداهما شرعية، وفيها من النظر ما فيها.
ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط، وليس كل مناط معلوما بالضرورة، وبل الغالب أنه نظري؛ فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة، وهو رأي القاضي أيضا، والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها؛ فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا، بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه.
فالجواب أن هذا كله5 لا دليل فيه، أما المتشابه بحسب التفسير المذكور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ف "ط": "يقتص".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "منه متفق".
3 يقال: طم السيل القرى؛ علاها وغلب عليها. "ف".
4 في "د": "من".
5 الوجوه التي ذكرها ترجع إلى وجهين فقط، فصل ثانيهما بثمانية مسالك للاختلاف، وقوله: "بحسب التفسير المذكور"؛ أي: وهو الذي لا يتبين معناه من لفظه، بل يحتاج إلى غيره، يعني: وأما على ما سيأتي في المسألة الثالثة في معنى المتشابه الحقيقي؛ فلا تدخل تلك الأنواع، وهذا الجواب خاص بالوجه الأول من وجهي الإشكال، وسيأتي جواب الثاني في المسألة التالية حيث يقول: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت... إلخ". "د".(6/431)
ص -312-…وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها؛ فلا تشابه فيها بحسب الواقع إذ هي قد فسرت، فالعموم1 المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه، وبين المراد به، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس: "لا عام إلا مخصص"2؛ فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه؟ ومثله سائر الأنواع، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه، والبرهان قائم على البيان وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا؛ إذ كان حقيقة البيان3 مع الجمع بينهما؛ فالعام مع خاصه هو الدليل، فإن فقد الخاص؛ صار العام مع إرادة4 الخصوص فيه من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه5 زيغا وانحرافا عن الصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالعموم".
2 في صحته عن ابن عباس نظر، ولم أظفر به مسندا عنه، وانظر ما علقناه على "ص309".
3 الأنسب حذف كلمة مع "ف".
4 أي: وهذا غير موجود في الشريعة؛ فلا عام أريد به الخصوص وفقد فيه مخصصه، بل لا بد من قيام دليل الخصوص. "د".
5 أي: إهمال المخصص وعدم الأخذ به مع وجوده في الشريعة؛ لأن الدليل الشرعي هو مجموع العام ومخصصه؛ فالأخذ بالعام وحده زيغ. "د".
قلت: قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 245-246": "من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه؛ فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد؛ صار واضحا".(6/432)
ص -313-…ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ؛ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40].
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وتركوا مبينه وهو1 [قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، واتبع الخوارج نحو قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} [يوسف: 40]، وتركوا مبينه وهو] قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95].
وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].
واتبع الجبرية نحو قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96],
وتركوا بيانه وهو قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82 و95] وما أشبهه.
وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها، ولو جمعوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير مفهوم أن تكون الآيتان في التحكيم بيانا لآيتي نسبة الفعل للخلق مربوطا بمشيئتهم، وفي "الاعتصام [1/ 303 - ط ابن عفان] في نفس هذا الموضوع أن الآيتين في التحكيم يردان على الخوارج في إنكارهم التحكيم على علي رضي الله عنه، استدلالا منهم بآية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه}، أما آيتا نسبة الفعل؛ ففي تهذيب الكلام أن مما يرد على المعتزلة في ذلك آية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، وعليه؛ فيتعين أن يكون قد سقط من الكلام.
1- الآية التي بينت آيتي نسبة الفعل. و2- رأي الخوارج، و3- استدلالهم بآية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه}.(6/433)
فتكون آيتا التحكيم المذكورتان في الكتاب مبينتين لما في هذه الآية الأخيرة، وسيأتي في المسألة الثامنة من الطرف الثاني من الأدلة ما يؤيد ما كتبناه هنا، وسيأتي أيضا في المسألة الثالثة من فصل الأحكام والنسخ ما لو انضم إلى هذا عين الجمل الساقطة هنا، وانظر قوله في المسألة بعد هذه: "ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة الخوارج وغيرهم"، مع أن النسخة هنا ليس فيها ذكر الخوارج. "د". قلت: وانفردت "ط" بذكرهم، وما بين المعقوفتين منها فقط.(6/434)
ص -314-…بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل؛ لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبت هذا؛ فالبيان مقترن بالمبين، فإذا أخذ المبين من غير بيان؛ صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم؛ فضلوا عن الصراط المستقيم، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة، وهي:(6/435)
ص -315-…المسألة الثالثة:
وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين1:
أحدهما حقيقي.
والآخر إضافي.
وهذا فيما يختص بها نفسها، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل2 عليه الأحكام.
فالأول هو المراد بالآية، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه، ولا نصب لنا دليل على المراد منه، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها؛ لم يجد فيها ما يُحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا شك في أنه قليل لا كثير، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 143-147 و17/ 307-308، 372-373، 380، 418-426"، و"الاعتصام" "1/ 221"، و"إيثار الحق" "ص93-101"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 62-63"، و"التكميل في أصول التأويل" للفراهي "ص23-29"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص195 وما بعدها" للكافيجي.
2 في "ط": "تنزل".
3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "3/ 177" بإسناد ضعيف، وضعفه ابن حجر في "الفتح" "8/ 210"؛ إذ ذكر قولا آخر في سبب نزولها ورجحه.
وأورد الزمخشري في "الكشاف" نحوه، وقال الزيلعي في "تخريجه" "1/ 369": "عزاه الواحدي في "أسباب النزول" للكلبي". وانظر ما مضى "ص211".
وانظر الثابت عنه -صلى الله عليه وسلم- في وفد نجران في "تاريخ المدينة" لابن شبة "2/ 580 وما بعدها". وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(6/436)
ص -316-…قال ابن إسحاق1 بعد ما ذكر منهم جملة ووصف من شأنهم، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم -يريد في شأن عيسى-: "يقولون: هو الله؛ لأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، ويقولون: هو ولد الله؛ لأنه لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد2 آدم قبله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة؛ لقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، ولو3 كان واحدا؛ لما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ، ولكنه هو وعيسى ومريم".
قال: "ففي كل ذلك من أمرهم4 قد نزل القرآن، يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]؛ ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم5 ما قدروا الله حق قدره إذ قاسوه بالعبيد؛ فنسبوا له الصاحبة والولد، وأثبتوا للمخلوق ما لا يصلح إلا للخالق، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله وتنزيهه عما لا يليق به فيم يفعلوا، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "سيرته" "2/ 164 - مع "سيرة ابن هشام - ط دار الخير".
2 في "سيرة ابن هشام": "... يصنعه أحد من ولد...".
3 في "ط": "فيقولون: لو...".
4 في "سيرة ابن هشام": "من قولهم".
5 أي: فليس الفرض أن ما تكلموا فيه من المتشابه؛ لأن المباحث المذكورة عنهم في عيسى، إنما هي من المحكم في آياتها التي وردت فيها؛ لا يوجد فيها اشتباه، ولكن في الموضوع اتباع أهوائهم مبررين لها بهذه الخيالات الفاسدة، وهي أشبه بما يصنعه الذين يتبعون أهواءهم في تفسير الآيات المتشابهة، ولذلك قال: "وفي نحو من هذا نزلت آية... إلخ"، ولم يقل: وفيه نزلت. "د".(6/437)
ص -317-…آرائهم، فزاغوا عن الصراط المستقيم.
والثاني: وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية، وإن كان في المعنى داخلا فيه لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة1 من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر، ولكن الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى؛ فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة2، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة؛ فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنه إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان؛ فما ظنك بهم مع عدمه؟ فلهذا قيل إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية.
ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان؛ قال: "سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]؛ فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب؛ فلا يخرج -يعني مع من خرج من ولده- حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد3 عليًا أنه ينادي-: اخرجوا مع فلان! يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف"4.
فهذه الآية أمرها واضح، ومعناه ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها، كما دل الخاص على معنى العام، ودل المقيد على معنى المطلق، فلما قطع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الشرع".
2 وإن كان الاشتباه حصل فيها بأحد هذين السببين، بخلاف القسم الثالث؛ فالدليل فيه مفهوم لا أثر للاشتباه فيه، وإنما الاشتباه في التطبيق. "د".
3 في الأصول كلها و"ط": "تريد"، وما أثبتناه من مصدر تخريجه.
4 أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه" "1/ 20-21".(6/438)
ص -318-…جابر الآية عما قبلها ما بعدها، كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق؛ صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه؛ فكان من حقه التوقف، لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية.
وأما الثالث؛ فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، وإنما هو عائد على مناط الأدلة؛ فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك، فإذا اختلطت الميتة بالذكية؛ حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع، مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل؛ فلا مدخل له في المسألة1.
فصل
فإذا ثبت هذا؛ فلنرجع إلى الجواب عن باقي2 السؤال، فنقول:
قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص وما ذكر معه قليل، وأن ما عد منه غير معدود منه، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة.
وأما مسائل الخلاف وإن كثرت؛ فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر؛ كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسختي "ف" و"م" زيادة: "أ. هـ"! ولم يسبق أن المصنف أشار إلى نقل حتى تثبت إشارة الانتهاء، وفي "ط": "مقتضي حكمه في اشتباهه...".
2 وهو الخاص بمسائل الخلاف، وقوله: "ظهر مما تقدم" هذا كتمهيد لربط أطراف المقام بعضها ببعض، وكفذلكته على الجواب عن الشق الأول من السؤال لإحضار المقام كله لدى السامع. "د".(6/439)
ص -319-…يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء، والنزول، والضحك، واليد، والقدم، والوجه، وأشباه ذلك.
وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها1؛ دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن؛ لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها؛ فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها2 ومناطاتها، والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر3، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه، والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة؛ فلكل مأخذ يجري عليه، وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب4 ما في نفس الأمر؛ فخرج المنصوص5 من الأدلة عن أن يكون متشابها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل أثبتوا معانيها، وتركوا الخوض في كيفياتها، وانظر لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 54-59 و6/ 35 و16/ 390-401"، و"الرسالة التدمرية" "2/ 144 وما بعدها - مع التحفة المهدية"، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص77"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص67 وما بعدها".
نعم، من أطلق التشابه عليها مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها؛ فهذا قد يسوغ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، انظر: "منهج ودراسات لآيات الصفات" "ص23، 24" للشنقيطي، وتعليقنا المتقدم "2/ 195، 257"، والآتي على "ص323-326".
2 أي: فيما يخرج عليه الدليل ويحمل عليه معناه؛ فعطف المناطات عليه مغاير ليصح قوله: "وإنما قصاراه... إلخ"، ويكون قوله: "إلى التشابه الإضافي وهو الثاني" راجعا إلى قوله مخارجها، وقوله: "أو إلى التشابه الثالث" راجعا إلى قوله ومناطاتها. "د".
3 أي: إن قلنا: إن لله حكما في نفس الأمر في كل مسألة، وهو رأي المخطئة، فإن قلنا: إن حكم الله في كل مسالة هو ما وصل إليه المجتهد بعد بذل وسعه؛ فيكون الأمر أظهر. "د".(6/440)
4 في الأصل: "لا في حسب".
5 قد يفهم من التقييد أن هذا الجواب إنما يفيد في أدلة الكتاب والسنة وقد يلحق بهما الإجماع الناشئ عنهما، أما القياس وما ينشأ عنه من إجماع؛ فلا يخرج عن التشابه، وربما أيد ذلك قوله فيما سبق: "ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى... إلخ"، ولكنا لا نأخذ بهذا الفهم؛ لأنه مهما كانت إشكالات القياس لا تزيد عن أن تصير إلى التشابه الإضافي أو الضر الثالث كغيره من الأدلة الشرعية. "د".(6/441)
ص -320-…بهذا الاعتبار، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني، أو إلى التشابه الثالث.
ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه وما حصل له من علم الشريعة؛ فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل1 لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه، واستمرت أدلتها على استقامة، ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها؛ لتشابهت على أكثر الناس، ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل، والأمر على ضد ذلك، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها، ومعترف بأن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] على ظاهره من غير شك فيه؛ فيستقرئ من هذا إجماع على أن المتشابه في الشريعة قليل؛ وإن اعترفوا بكثرة الخلاف.
وأيضا؛ فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف، أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع2 بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت، وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه؛ فخلافها لا يعد خلاف، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة، وإلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهذا النوع من المتشابه نسبي؛ فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، كما أن الملائكة يعلمون من أخبار الغيب ما يكون متشابها عند بني آدم، أفاده ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 380".
2 في "ط": "تجتمع".(6/442)
ص -321-…ذلك؛ فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق، وهذا مذكور1 في كتاب الاجتهاد؛ فيسقط2 بسببه كثير مما يعد في الخلاف، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد، ووجه آخر، وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم3 الشريعة قد أدخل4 فيها وصار من مسائلها، ولو فرض رفعه من الوجود رأسا؛ لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شيء بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها -دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم-، وبل من ولد بعد ما فسد اللسان فأحتاج إلى علم كلام العرب؛ كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ومن قبلهم أو بعدهم من أمثالهم5؛ فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها، ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف6.
ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده، فإذا جمعت هذه الأطراف؛ تبين منها أن المتشابه قليل، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في المسألة الحادية عشرة وما بعدها مباحث ذاخرة بالفوائد في هذا الموضوع. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فسقط".
3 في "ط": "علوم".
4 أي: قد أدخل في علم الشريعة -بعدما احتاج إليه هؤلاء المجتهدون وأمثالهم- شيء كثير وقع فيه خلاف، لا حاجة إلى علم الشريعة به، وقد حسب عليها وعد من الخلاف فيها، وأنت إذا رجعت لمسالك الخلاف الثمانية التي أشار إليها سابقا تحققت صحة ما يقول. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وأمثالهم".
6 قال الشافعي: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، نقله السيوطي في "صون المنطق" "ص15"، وقال "ص22": "وقد وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع الجهل بلسان العرب".(6/443)
قلت: "من ذلك قول الحسن البصري في بعض المبتدعة: "أهلكتهم العجمة" كما في "التاريخ الكبير" "5/ 93" للبخاري.(6/444)
ص -322-…المسألة الرابعة:
التشابه1 لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك2.
والثاني: أن الأصول لو دخلها التشابه؛ لكان أكثر الشريعة من المتشابه، وهذا باطل.
وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله؛ يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح باتضاحه، ويخفى بخفائه، وبالجملة؛ فكل وصف في الأصل مثبت3 في الفرع؛ إذ كل فرع فيه ما في الأصل، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها4 ببعض في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الحقيقي الذي ظهر من تحقيقه في المسألة قبلها أنه قليل، وكما سيشير إليه في آخر المسألة، وعلى كل حال؛ هذا بحث آخر غير تشابه نفس الآيات. "د".
2 قال "ف": "الأنسب: استقراء أن الأمر كذلك".
3 هكذا في "د"، وفي الأصل وفي "ف": "مثبوت"، وفي "ط": مبثوث".
4 أي: فكثيرا ما يتوقف التفريع على أصل على ملاحظة أصل آخر، فإذا كان في هذه الأصول متشابه؛ فكل ما تفرع عليه مباشرة أو بتوقف أصل عليه؛ فإنه يكون متشابها، فيسري التشابه إلى الفروع التي انبنت على المتشابه أو إلى الأصول الأخرى التي ترتبط بهذا الأصل المتشابه، ومعلوم أن هذا كثير جدا؛ فيكون أكثر الفروع متشابها، فقوله: "لزم سريانه في جميعها"؛ أي: جميع فروع الأصول التي نيط التفريع عليها بهذا الأصل المتشابه، وليس المراد جميع فروع الشريعة؛ لأنه:
أولا: لا يوافق مدعاه من أن الأكثر يكون متشابهًا.
وثانيًا: لأنه ليس من المسلم أن جميع الفروع يلزم أن تبنى على أصل متشابه مباشرة أو بالواسطة. "د".(6/445)
ص -323-…التفريع عليها، فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في سائرها1؛ فلا يكون المحكم أم الكتاب، لكنه كذلك؛ فدل2 على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب.
فإن قيل: فقد وقع في الأصول أيضا؛ فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع، ولو كان زيغهم في الفروع؛ لكان الأمر أسهل عليهم.
فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية، كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة، وإنما [وقع]3 في فروعها؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها4 فروع عن أصل التنزيه الذي هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "جميعها".
2 لا يخفى ما في هذا البيان من الخطابة. "ف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
4 دندن المصنف على المتشابه، ثم تكلم على الصفات، ثم ألمح في قوله هذا أن آيات وأحاديث الصفات من المتشابه.
وصرح الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" "16/ 218" أن الصفات من باب المتشابه، ونقل ذلك عن الغزالي في "المستصفى، وأقره عليه؛ فقال في مبحث المتشابه: "ويطلق على ما ورد في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى تأويل".
وهذا هو القول بتفويض المعنى الذي جنح إليه، بل صرح به النووي في "شرحه" أكثر من مرة، وسبق أن أشرنا إلى أن السلف الصالح كفوا عن الخوض في البحث في كيفية الصفة الواردة في الآية القرآنية أو الحديث النبوي، وقالوا كلمات في معانيها لها معان مفهومة وصحيحة، ولا يليق أن يكون مذهبهم فيها أن تكون آيات الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم أحد معناه؛ فإنهم رحمهم الله تكلموا في جميع آيات الصفات، وفسروها بما يوافق معناها ودلالتها، ولم يسكتوا عن بيان معنى آية ما، سواء في ذلك المحكم والمتشابه.(6/446)
وهنا لا بد لنا من كلمة عن المحكم والمتشابه، وهل الراسخون في العلم يعلمون معنى =(6/447)
ص -324-…..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المتشابه أم يفوضون العلم فيه إلى الله؟ وبمعنى آخر: هل الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] لازم، وما معنى التأويل فيها؟
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن التأويل المذكور في الآية هو معرفة الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ورأى آخرون أن التأويل الوارد فيها بمعنى المآل والعاقبة، وشاركوا شيخ الإسلام في القول بالوقف المذكور؛ لأن الراسخين في العلم لا يعلمون مآل أخبار القرآن وعواقب أمره على سبيل التفصيل والتحديد والكنه والحقيقة، وهذا قريب من قول شيخ الإسلام؛ إذ هذه الأمور من الغيب الذي استأثر الله به، بينما رأى فريق ثالث أن التأويل مستعمل عند السلف بمعنى التفسير والبيان؛ فقال هؤلاء بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وكلا الفريقين مصيب فيما ذهب إليه؛ لأن أصحاب القول بالوقف على لفظ الجلالة يستبعدون أن يكون هناك بشر يشارك الله في علم غيوبه، وأصحاب القول بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يستبعدون أن يكون تفسير القرآن وبيان معناه لا يعلمه إلا الله، في الوقت الذي أنزل فيه ليفهم ويتدبر.(6/448)
ولم يقف فريق آخر من علماء الكلام والفقه والتفسير على مأخذ كل رأي من الآراء المذكورة، وعلى الأصل الذي بنوا عليه رأيهم، ووجدوا بين أيديهم روايات مختلفة عن السلف، كل يختار رأيًا في الوقف؛ فصوروا أن في المسألة نزاعًا وخلافًا بين السلف، وليس الأمر على التحقيق كذلك، وكان عليهم أن يمعنوا النظر أكثر وأكثر؛ فإن المسألة ليست محل نزاع لو عرف مأخذ كل رأي وأصل كل قول؛ فإن جميع الأقوال التي رويت على أن الوقف على لفظ الجلالة محمولة على أن المراد بالتأويل في الآية عواقب أخبار القرآن ومصائرها، وجميع ما روي على أن الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} محمول على أن التأويل المذكور هو التفسير والبيان.
وبهذا يزول الإشكال والاشتباه الذي نشأ بين المتأخرين لعدم تفرقتهم بين معنى الآية وبين تأويلها، وعدم إدراكهم ما قد يترتب على إهمال التفرقة بين المعنيين من آراء ربما قد احتجموا عنها لو تنبهوا إلى ذلك.
تعرض السلفيون -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لهذه المشكلة التي فرقت كلمة العلماء، ووضعوا أيديهم على بدايتها متعمقين في أسبابها، باحثين عن نتائجها، =(6/449)
ص -325-….......................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= متسائلين: هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب، وهل يجوز كذلك أن يقول الرسول لأمته: إن ربكم قد خاطبكم بكلام لا يعلم معناه إلا هو، وهل يجوز أن يقول لهم: إن القرآن أنزل ليتدبر في الوقت الذي لا يعلم معناه إلا الله؟
إن المشكلة تزداد خطورة خصوصًا في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية حين يرى أن وظيفة الرسول هي البلاغ الموصوف بأنه {بَلاغٌ مُبِينٌ}، وأن وظيفة القرآن أنه أنزل: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً}، ثم يكون الرسول نفسه لا يفهم معنى ما تكلم به بدعوى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وبدعوى أن الصفات من المتشابه.
لعل هذه المشكلة كانت سببًا في أن ابن تيمية قد خصص حياته لخدمتها من قريب ومن بعيد؛ فهو إن خاض غمار الفلسفة أو علم الكلام، أو ناقش الفقهاء والصوفية؛ فسلاحه في كل ميدان هو آيات الكتاب، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح؛ لأنه ليس هناك آية لا معنى لها، أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها، وليس هناك لبس ولا خفاء، ولقد تتبع ابن تيمية أقوال السلف تتبع الخبير بمصادرها، واضعًا أدلة هؤلاء وهؤلاء أمام النصوص؛ فظهر له الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، والسليم من السقيم.
وفي القول السابق ادعاء أنه يوجد في ظاهر النصوص ما يوهم التشبيه، وهذا ليس بصحيح،(6/450)
والخلاصة أنه ما من قول يدعي أن هذه الآية أو تلك من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله؛ إلا وقد تكلم السلف في بيان معناها، حتى من أطلق المتشابه على نصوص الصفات مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها التي هي عليها، فهذا يسوغ أن يسمى متشابها؛ لأن حقائق الصفات وما هي عليه من الكيفيات لا يعلمه إلا الله، وهذا هو تفويض الكيفية الذي يقول به السلف؛ إلا أننا على الرغم من ذلك نعلم معنى الاسم والصفة؛ فنعلم معنى سميع وبصير وعليم، ومعنى السمع والبصر والعلم، ونعلم معنى أن له يدين ووجها، كل هذا ونحوه نعلم معناه بمقتضى لغة التخاطب، ولا يقتضي علمنا بمعاني هذه النصوص أن تكون مثل ما في الشاهد من سمع المخلوق وبصره وعلمه ويديه ووجهه، ومع هذا كله؛ فلا ينبغي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات لأجل هذا إلا به، ولهذا لم يؤثر عن السلف إطلاقه عليها.
وكذا إذا تتبعنا أقوال العلماء في معنى المتشابه؛ فلا نجد رأيًا إلا وقد بين السلف معناه ووضحوه، فإذا جعلنا المتشابه هو المنسوخ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي =(6/451)
ص -326-…قاعدة من قواعد العلم الإلهي، كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط؛ فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتبر هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وغيرهم؛ علمنا يقينا أن العلماء يعلمون معنى المتشابه لأنهم يعلمون معنى المنسوخ، سواء كان منسوخا لفظه أو لفظه ومعناه، وهذا يدل على كذب من قال عن ابن عباس وابن مسعود أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه.
وإذا جعلنا المتشابه أخبار القيامة وما فيها؛ فمعلوم بين المسلمين أن وقت قيام الساعة وحقيقة أمرها لا يعلمه إلا الله، لكن ذلك لا يدل على أننا لم نفهم معنى الخطاب الذي خوطبنا به في ذلك، والفرق واضح بين معرفة الخبر وبين حقيقة المخبر عنه.
وإذا جعلنا المتشابهات أوائل السور المفتتحة بحروف المعجم؛ فهذه الحروف ليست كلاما تاما مكونا من الجمل الاسمية والفعلية، ولهذا؛ فلا تعرف لأن الإعراب جزء من المعنى، بل ينطق بها موقوفة كما يقال: أ ب ت، ولهذا تكتب في صورة الحروف المقطعة لا بصورة اسم الحرف.
يقول ابن تيمية: "فإذا كان على هذا كل ما سوى هذه محكمًا حصل المقصود؛ فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله.
وانظر موقف شيخ الإسلام من المتشابه ورده على مفوضة المعنى في: "تفسير سورة الإخلاص" "ص143 وما بعدها"، و"الحموية" "160-163"، "مجموعة الرسائل "1/ 189"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 54-67 و5/ 35-37، 234، 347-439 و10/ 560 و13/ 279-280، 374-375، 384-385 و16/ 173، 407-422"، و"الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل" "ص164 وما بعدها"، وقد أخطأ رشيد رضا في "تفسير المنار" "3/ 165" عندما نقل عن ابن تيمية أن المتشابه عنده آيات الصفات خاصة، ومثلها أحاديث الصفات.(6/452)
وانظر في المسألة: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة "ص62، 73"، و"منهج ودراسات" "ص23-24" للشنقيطي، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 472-500"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص77-82"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص188 وما بعده" للكافيجي.(6/453)
ص -327-…المعنى؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي؛ فعند ذلك [لا]1 فرق بين الأصول والفروع في ذلك، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال، وليس هو المقصود2 ههنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وإن كان مقصودا بالمعنى، والله أعلم؛ لأنه تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية [آل عمران: 7]؛ فأثبت فيه متشابها، وما هو راجع لغلط3 الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة، وإن نسب إليه؛ فبالمجاز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت إلا من "ط"، ولذا قال "د": "لعله سقط منه لفظ "لا"؛ أي: فعند ملاحظة التشابه الإضافي لا يوجد فرق بين الأصول والفروع، وقوله: "ومن تلك الجهة"؛ أي: وبسبب التشابه الإضافي في الأصول جاء الزيغ في العقائد؛ كما تقدم له أمثلته". ونحوه عند "م".
2 أي: إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، وليس الإضافي مقصودا في هذا المبحث، كما أنه ليس مقصودا بلفظ الآية وإن كان داخلا فيها بالمعنى كما ذكره سابقا. "د".
3 الناشئ من عدم ضمه لأطراف الأدلة بعضها إلى بعض كما سبق؛ فليس في نفس الأدلة اشتباه، إنما هو من تقصيره أو اتباع هواه. "د".(6/454)
ص -328-…المسألة الخامسة1:
تسليط التأويل على المتشابه فيه تفصيل فيا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي أو من الإضافي، فإن كان من الإضافي؛ فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بيّن العام بالخاص، والمطلق بالمقيد، والضروري بالحاجي، وما أشبه ذلك؛ لأن مجموعهما هو المحكم، وقد مر بيانه، وأما إن كان من الحقيقي؛ فغير لازم تأويله؛ إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا2 لأنه3 إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح أو بالحديث الصحيح، أو بالإجماع القاطع، أو لا، فإن وقع بيانه بأحد هذه؛ فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه، وهو الإضافي، وإن لم يقع بشيء من ذلك؛ فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم، وهو غير محمود.
وأيضا؛ فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا4 لهذه الأشياء، ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الاعتصام" "1/ 221"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 145، 275-276 و17/ 378 و389-390".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "موحدا"، وعلق "د": "راجع المسألة الثانية عشرة في باب البيان والإجمال تجد في أولها أنه؛ إما لا يتعلق بالمجمل تكليف، وإما أنه لا وجود له، أي: إذا وقفنا على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وعليه؛ فلعل الأصل هنا إن كان "موجودا"؛ أي: على فرض وجود المجمل بمعنى المتشابه الحقيقي".
3 الضمير للحال والشأن كما يعلم بالتأمل؛ لأن هذا التشقيق لا يجيء في المجمل الحقيقي الذي يقول فيه: "إن كان موجودا"، وكذا الضمير في "بيانه" للمجمل مطلقا. "د".
قلت: قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 386": "وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به"، وانظر الآثار الواردة في ذلك عند ابن جرير في "التفسير" "3/ 185-186".(6/455)
4 أي: لم يتعرضوا ويتصدوا له في باب ضرب، من قولهم: عرض له أشد العرض واعترض له؛ قابله بنفسه كما في "شرح القاموس". "د".
قلت: انظر الموقف السليم من المتشابه: "القواعد الحسان لتفسير القرآن" "ص70-71" للسعدي، و"إعلام الموقعين" "2/ 294-295، 304".(6/456)
ص -329-…تأويل من غير دليل، وهم الأسوة والقدوة، وإلى ذلك؛ فالأية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} الآية [آل عمران: 7].
ثم قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
وقد ذهب جملة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضًا رجوعًا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها، من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع؛ تأنيسًا للطالبين، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم، مع إمكان الوقوف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وهو أحد1 القولين للمفسرين؛ منهم مجاهد، وهي مسألة اجتهادية، ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف، وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى بـ"إلجام العوام"2؛ فطالعه من هنالك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعليه؛ فلا يوجد المتشابه بالمعنى الحقيقي. "د".
قلت: انظر تعليقنا على "ص323-326".
2 "ص34".(6/457)
ص -330-…المسألة السادسة:
إذا تسلط التأويل على المتشابه؛ فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة: أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار، متفق1 عليه في الجملة بين المختلفين، ويكون اللفظ المؤول قابلًا له، وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أو لا2، فإن لم يقبله؛ فاللفظ نص لا احتمال فيه، فلا يقبل التأويل، وإن قبله اللفظ؛ فإما أن يجري على مقتضى العلم3 أو لا، فإن جرى على ذلك؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الوصف الثاني، ولم يبن عليه شيئًا في بيانه الآتي، وكأنه لازم للوصف الأول، وهو صحة المعنى في الاعتبار؛ لأنه لا يكون كذلك إلا حيث يتفق عليه في الجملة وإن خولف في التفصيل؛ فرجع الأمر إلى شرطين:
الأول: صحة المعنى في الاعتبار بأن يكون متفقًا مع الواقع المعترف به إجمالًا ممن يعتد بهم.
والثاني: أن يكون وضع اللفظ قابلًا له لغة بوجه من وجوه الدلالة حقيقة أو مجازًا أو كناية، جاريًا في ذلك على سنن اللغة العربية. "د".
قلت: مما ينبغي التنبه له في الأول: معرفة مراد المتكلم بكلامه، لا معرفة ما يحتمله اللفظ من المعاني من جهة اللغة فحسب، وفي الثاني أن يعلم أن ورود اللفظ بمعنى لا يلزم منه أن يكون هذا المعنى ملازمًا له في جميع النصوص الأخرى، وإن اختلف السياق، وكذا الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في النصوص؛ فغلبته فيه دليل على عدم خروجه عن معنى النص؛ فالحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره، انظر في هذا كله ومع التمثيل عليه: "مجموع فتاوى ابن تيميه" "6/ 13، 14، 366 و7/ 286"، و"الصواعق المرسلة" "1/ 192، 193"، و"إرشاد الفحول" "ص176"، و"أضواء البيان" "1/ 328"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 552-555". وفي "د" "إذ تسلط..".
2 في الأصل و"ف": "أم لا".(6/458)
3 يعني أن اللفظ إذا كان قابلًا بحسب اللغة للمعنى المؤول به ينظر: هل معنى التركيب بعد اعتبار هذا التأويل يجري على مقتضى ما نعلمه في هذه القضية من الخارج، أم لا يجري بل يخالف الواقع المعلوم لنا من طريق غير هذا الخبر؟ فإن جرى على ذلك؛ فلا يصح طرحه لأن =(6/459)
ص -331-…إشكال في اعتباره؛ لأن اللفظ قابل له، والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه؛ فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدًا، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله أو مرجوحيته، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم؛ فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال1، والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر2 رجوعًا إلى العمى، ورميًا في جهالة؛ فهو ترك للدليل لغير شيء، وما كان كذلك؛ فباطل.
هذا وجه.
ووجه ثان، وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه؛ فالناظر3 بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادًا على الراجح، ولا يلزم نفسه الجمع، وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة، وإما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشرطين قد تحققا؛ فاللفظ قابل، والمعنى المقصود من التركيب لا يأباه، أي: لا يأبى اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته؛ لأن المعنى المقصود من التركيب مع اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته يرجع إلى معنى صحيح في الواقع لا يخالف المعلوم لنا من قبل، وبهذا يتبين أن اللفظ في قوله: "والمعنى المقصود من اللفظ" ليس هو اللفظ المفرد الذي فيه التأويل، وإلا؛ لكان حاصله أن المعنى المقصود من اللفظ المؤول لا يأبى المعنى المؤول به اللفظ؛ فيتحد الآبي والمأبي، بل اللفظ هو اللفظ الخبري، والمعنى المقصود منه هو المعنى التركيبي. "د".
1 أي: ولو قبله اللفظ. "د". قلت: في "ط": "حال الدليل" بدون "و".
2 وهو اللفظ المتشابه الظاهر في معناه الوضعي، أي: تركه إلى معنى لا يجري على اعتبار صحيح في مقتضى العلم يكون رجوعًا إلى عدم صرف، وقوله: "ترك الدليل"؛ أي: وهو اللفظ الظاهر المتشابه. "د".
قلت: انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 191".(6/460)
3 أي: أن الناظر في أمر تعارض عليه دليلان، أحدهما راجح والآخر مرجوح، له طريقان في التخلص من المعارضة؛ إما أن يهدر المرجوح بما يقتضي إهداره، وإما أن يحمله على معنى يكون صحيحًا متفقًا عليه، ولا يعارض دليله الراجح، أما أنه يحمل المرجوح على وجه آخر لا يعارض الراجح، ولكنه لا يكون صحيحًا في ذاته أو لا يوافقه عليه الخصم؛ فعمل باطل حقيقة أو صناعة. "د".(6/461)
ص -332-…أن لا يبطله ويعتمد القول به على وجه، فذلك الوجه إن صح واتفق1 عليه؛ فذاك، وإن لم يصح؛ فهو نقض الغرض لأنه رام تصحيح دليله المرجوح بشيء2 لا يصح؛ فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل، وذلك يقتضي بطلانه عندما رام أن يكون صحيحًا، هذا خلف.
ووجه ثالث3، وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلًا في الجملة؛ فرده إلى ما لا يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه، وهو جمع بين النقيضين، ومثاله تأويل4 من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] بالفقير؛ فإن ذلك يصيّر المعنى القرآني غير صحيح5، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حتى يسلم الخصم صحة المعنى في ذاته؛ فيتأتى له دعوى حمل المرجوح عليه. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لشيء".
3 لا يبعد عما قبله. "د".
4 انظر طائفة من الأمثلة القرآنية أولت تأويلًا فاسدًا في "التحبير" للسيوطي "باب غرائب التفسير، النوع الثاني والتسعون، ص335-336"؛ ففيه أمثلة أظهر، وفيه: "هذا النوع من زياداتي".
قال أبو عبيدة: وفي كُنَّاشاتي "قصاصاتي المنثورة" أمثلة كثيرة، وكذا في تأويلات خاطئة لأحاديث نبوية، عسى أن أنشط لجمعها في تأليف مستقل، يسر الله ذلك بمنه وكرمه، وسيذكر المصنف في "4/ 225 وما بعدها" أمثلة على هذا الموضوع.
5 لأن إبراهيم الذي يقدم العجل السمين المشوي لضيوفه من عند أهله لا يصح أن يعد فقيرًا؛ فهذا غير صحيح في الاعتبار، لم يجر على مقتضى العلم، وما بعده تخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له، ومثال بيان تخلف فيه الجميع؛ لأن اللفظ لا يقبله، لا من الإشارة في "هذا"، ولا من العطف في قوله: "وهدى... إلخ"، ولا يجري على مقتضى العلم. "د".(6/462)
ص -333-…فَغَوَى} [طه: 121] أنه من غَوِيَ1 الفصيل لعدم صحة غَوَى بمعنى غوي2؛ فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ، والأول لا يصح فيه من جهة المعنى، ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان3 بن سمعان في قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آل عمران: 138].
فصل
وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل، بل هو جارٍ في باب التعارض والترجيح؛ فإن الاحتمالين4 قد يتواردان على موضوع واحد، فيفتقر إلى الترجيح فيهما؛ فذلك ثانٍ عن قبول المحل لهما، وصحتهما في أنفسهما، والدليل في الموضعين واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالكسر: إذا بَشِم من شرب اللبن؛ أي: فالتأويل فاسد لأن ما في القرآن بالفتح، وسيأتي له هذا في المسألة التاسعة من الطرف الثاني من الأدلة. "د"، ونحوه في "م".
قلت: كتب في هامش الأصل ما نصه: "في المصباح": غوى غيًا من باب ضرب؛ انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد، وغوي الفصيل، غوي من باب تعب؛ فسد جوفه من شرب اللبن، وفساد هذا التأويل ظاهر".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 301 - ط ابن عفان" للمصنف.
3 يأتي للمؤلف في المسألة التاسعة المشار إليها آنفًا بيان عن بيان هذا. انظر "4/ 225، 226".
وقال "ف": "هو بيان بن سمعان التميمي الهندي اليمني الشيعي، وله شرذمة تنسب إليه تسمى البيانية، تنتحل نحلًا باطلة".
قلت: انظر عن حاله وكفره "الفصل" "4/ 185" لابن حزم، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"لسان الميزان" "2/ 69".
4 لعل الأصل: "الدليلين"، وسيأتي بسطه في مبحث التعارض من كتاب الاجتهاد. "د".
قلت: قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" "1/ 187": "وبالجملة؛ فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك".(6/463)
ص -335-…[الفصل الثاني: في الإحكام والنسخ.
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى]1:
اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولًا، وهي التي2 نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها3 الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة؛ كالصلاة، وإنفاق المال وغير ذلك4، ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر؛ كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله [تعالى، وما جعل لله] وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها؛ كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر، والشكر، ونحوها، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين سقط من "ط".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "والذي نزل...".
3 أي: القواعد المكية. "ف".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126".(6/464)
ص -336-…والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنى، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر.
ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واتسعت خطة1 الإسلام؛ كملت2 هنالك الأصول الكلية على تدريج؛ كإصلاح ذات البين، والوفاء بالعقود، وتحريم3 المسكرات، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية وما يكملها ويحسنها، ورفع الحرج بالتخفيفات4 والرخص، وما أشبه ذلك، [وإنما ذلك] كله تكميل للأصول الكلية.
فالنسخ إنما وقع معظمة بالمدينة؛ لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولًا للقريب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطة: بوزن سدرة، وجمعها خطط كسدر؛ أي: اتسعت بلاده. "ف".
2 تراجع المسألة الثامنة من كتاب الأدلة ليفهم معنى كمال تلك الأصول، وأنه ليس الغرض أن هناك أصولا لم تكن حاصلة رأسا في مكة ثم أنشئت في المدينة، ويدل عليه أيضا قوله أول مسألتنا: "التي وضع أصلها بمكة". "د".
3 تقدم في المسألة الثامنة أن تحريم المسكر داخل إجمالا في حفظ النفس؛ فالذي كان بالمدينة في ذلك إكماله بالتصريح بتحريمه، ووضع الحدود في شربه، والنص على تحريم القليل منه من باب التكميل أيضا. "د"(6/465)
4 لا ينافي هذا قوله الآتي: "إنما هو لما كان فيه تأنيس.... إلخ" الذي يقتضي أنه روعي أولًا التخفيف ثم روعي التشديد بالمدينة؛ لأن التخفيف بالرخص إنما جاء بعد تفصيل التكاليف التي كانت مطلقة، وتفصيلها اقتضى اقترانها بمشقات وحرج في بعض الأحيان، فروعيت الرخص؛ فهي حتى مع الرخص أشد منها حينما كانت بمكة بدون رخص، ويحسن بك أن تراجع المسألة الخامسة من باب النسخ في كتاب "الأحكام" "3/ 196" للآمدي؛ لتزداد بصيرة في هذا الموضوع، وتعرف الخلاف في جواز نوع النسخ الذي جعله المؤلف معظم النسخ. "د"(6/466)
ص -337-…العهد بالإسلام واستئلاف لهم، مثل كون الصلاة كانت صلاتين ثم صارت خمسًا، وكون إنفاق المال مطلقًا بحسب الخيرة1 في الجملة ثم صار محدودًا مقدارًا، وأن القبلة كانت بالمدينة ببيت المقدس ثم صارت الكعبة، وكحِلّ نكاح المتعة2 ثم تحريمه، وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ثم صار ثلاثًا، والظهار كان طلاقًا ثم صار غير3 طلاق، إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيًا على حاله قبل الإسلام ثم أزيل، أو كان أصل مشروعيته قريبًا خفيفًا ثم أحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في نوعه ومقداره، وإلا؛ فالإنفاق مطلوب من أول التشريع لا خيرة فيه بمعنى الإباحة، وهذا معنى قوله: "في الجملة". "د"
وكتب "ف": "بفتح الياء، بمعنى: الخيار".
2 التحقيق أن نكاح المتعة أبيح في غزوة الفتح ثلاثة أيام ثم حرم؛ فالتحليل كان لضرورة وقتية ثم نسخ، وكلاهما كان بالمدينة؛ فالمثال على ما ترى. "د".
وقال "ف": "أي: مؤبدًا إلى يوم القيامة؛ فالحل منسوخ خلافًا لمن زعم عدم نسخه".
3 يعني: وهو أشد لأنه يحتاج لكفارة بخلاف الطلاق. "د".(6/467)
ص -338-…المسألة الثانية:
لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر؛ اقتضى ذلك أن النسخ فيها1 قليل لا كثير؛ لأن2 النسخ لا يكون في الكليات وقوعًا، وإن أمكن عقلًا.
ويدل على ذلك3 الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويحكمها ويحصنها، وإذا كان كذلك؛ لم يثبت نسخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على أن النسخ لا يكون في الكليات، لا على أصل الدعوى؛ فهو استدلال على مقدمة الدليل. "د".
2 ذكر المؤلف ثلاثة أوجه في الاستدلال على أن النسخ فيما نزل بمكة قليل -أو نادر كما يقول بعد-:
أ- وجه خاص، وهو أن أكثر ما نزل بها كليات، وهي لا نسخ فيها، أما أن أكثر ما نزل بها كليات؛ فقد تقرر في المسألة الأولى، وأما أن الكليات لا نسخ فيها؛ فدليله الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية... إلخ، وإذا صحت المقدمتان؛ ثبت أنه لا نسخ في أكثر الأحكام المكية، بل في القليل منها، وهو المطلوب.
ب- ما أضافه بقوله: "وإلى هذا؛ فإن الاستقراء....إلخ"، وحاصله أن من تتبع الناسخ والمنسوخ من الأحكام الجزئية نفسها تبين له أن ما نسخ من الجزئيات أقل من المحكم منها، وهذا كما يصح دليلًا على قلة النسخ في الأحكام المكية يدل على قلته في الأحكام المدنية أيضًا، وإن كان سياقه للاستدلال على المكي.
ج- في قوله: "ووجه آخر وهو أن الأحكام... إلخ"، وهو كسابقه عام للمكي والمدني، ولذلك أحال عليهما في الفصل عند الاستدلال على أن الأمر كذلك في سائر الأحكام. "د".
3 أي: في الأحكام المنزلة بمكة، لا في الأحكام الكلية؛ حتى لا يتنافى مع قوله بعد: "لا يكون فيها وقوعًا... إلخ"، وقوله: "لم يثبت نسخ لكلي"، ولو قال فيه؛ لكان نصًا في المراد. "د".(6/468)
ص -339-…لكلي ألبتة، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى؛ فإنما يكون النسخ من الجزيات منها، والجزيات المكيه قليلة.
وإلى هذا؛ فإن الاستقرار يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكمًا قليلة، ويقوى1 هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه وغير المنسوخ من المحكم؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
فدخول النسخ في الفروع المكية قليل، وهي قليلة؛ فالنسخ فيها قليل [في قليل]، فهو إذًا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر2.
ووجه آخر، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف؛ فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق3 لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق، ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ4 القرآن ولا الخبر المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون؛ فاقتضى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه حينئذ يكون مقابلًا للمحكم الذي نصت الآية على أنه أم الكتاب وأصله والغالب فيه. "د".
2 أي: لأنه قليل فيما هو في ذاته قليل. "د".
3 يشبه كلام ابن النحاس الآتي بعد؛ فلعله مأخذه. "د".
4 نعم هو قول الأكثرين، وحجتهم واضحة، وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين، بخلاف النسخ؛ فإنه إبطال. "د".(6/469)
قلت: انظر توسعا في المسألة في: "الرسالة" "106"، و"التبصرة" "264"، و"المنخول" "292"، و"المستصفى" "1/ 80" و"أصول السرخسي" "2/ 67"، و"المحصول" "3/ 519"، و"الإحكام" "4/ 617" لابن حزم، و"الإحكام" "7/ 217" للآمدي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 195-197"، و"البحر المحيط" "4/ 97-98"، و"كشف الأسرار" "7/ 175"، و"المسودة" "201-204"، و"تيسير التحرير" "3/ 203"، و"إرشاد الفحول" "191" و"مذكرة في أصول الفقه" "84".(6/470)
ص -340-…هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما.
فصل
وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية.
ويدل على ذلك الوجهان الأخيران، ووجه ثالث، وهو أن غالب1 ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل2؛ وجدته متنازعًا فيه، ومحتملًا، وقريبًا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه، من كون الثاني بيانًا لمجمل، أو تخصيصًا لعموم، أو تقييدًا لمطلق، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني.
وقد أسقط ابن العربي من "الناسخ والمنسوخ"3 كثيرًا بهذه الطريقة، وقال الطبري: "أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت، ثم اختلفوا في نسخها".
قال ابن النحاس: "فلما ثبتت بالإجماع وبالأحاديث4 الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يجز أن تزال إلا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنه يعلم أن الطريقة التي جرى عليها مثل الجلالين في "التفسير" ليست على ما ينبغي، وإن كان جريًا على الاصطلاح الآتي في المسألة بعد؛ فهو تساهل في التعبير غير محمود في بيان كلام الله تعالى. "د".
2 في "م" و"ط": "تؤمل".
3 طبع في مجلدين سنة "1413هـ" عن مكتبة الثقافة الدينية بمصر، بتحقيق د. عبد الكبير المدعري.
4 في مطبوع "الناسخ والمنسوخ" و"ط": "... وبالأسانيد".(6/471)
ص -341-…يأتِ من ذلك شيء"1 انتهى المقصود منه.
ووجه رابع يدل على قلة النسخ وندوره؛ أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين2 كالخمر والربا؛ فإن تحريمهما3 بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخًا لحكم الإباحة4 الأصلية، ولذلك قالوا في حد النسخ: إنه رفع الحكم الشرعي5 بدليل شرعي متأخر، ومثله رفع براءة الذمة بدليل.
وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضًا إلى أن نزل6: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الناسخ والمنسوخ" "ص294".
2 انظر له: "حاشية التفتازاني" "2/ 185".
3 في "ط": "كالخمر والزنا فإن تحريمها...".
4 يدل على أن الخمر كان مباحا بحكم الأصل قبل نزول تحريمه بالمدينة، وهذا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما سبق له أن تحريمه داخل في الأصل المكي إجمالًا وهو حرمة الجناية على النفس والأعضاء. "د".
5 أي: والمباح بحكم الأصل والعادة الجارية قبل الشرع لا يعتبر حكمًا شرعيًا. "د".
قلت: انظر في تعريفات النسخ: "الإحكام" "7/ 180" للآمدي، و"الإحكام" "4/ 59" لابن حزم، و"البرهان" "2/ 56" للزركشي، وأثبت الدكتور مصطفى زيد في كتابه "النسخ في القرآن الكريم" "1/ 60 وما بعدها" الأقوال التي ذكرت في حده، وناقشها مناقشة مطولة؛ فانظره فإنه مفيد.
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين}، 8/ 198/ رقم 4534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 2/ 383/ رقم 539" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام". لفظ مسلم.(6/472)
قال ابن حبان في "صحيحه" "6/ 27-28 - مع الإحسان": "هذا الخبر يوهم من لم يطلب العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة"، قال: "وذاك أن زيد بن أرقم من =(6/473)
ص -342-…وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل1 "قوله": {الَّذِينَ هُم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأنصار، وقال: كنا نتكلم في الصلاة بالحاجة، وليس مما يذهب إليه الواهم فيه في شيء منه، وذلك أن زيد بن أرقم كان من الأنصار الذين أسلموا بالمدينة، وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليهما، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نُسخ ذلك بمكة؛ نُسخ كذلك بالمدينة؛ فحكى زيد ما كانوا عليه، لا أن زيدًا حكى ما لم يشهده".
وقال "ف": "القنوت هنا: الإمساك عن الكلام".
1 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 393"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 283" "والحازمي في "الاعتبار" "60"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 3"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص227" عن ابن سيرين؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء، تدور عيناه ينظر ههنا وههنا؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}؛ فطأطأ ابن عون رأسه، ونكس في الأرض".
وصله الحاكم عن أبي هريرة، وقال البيهقي عن المرسل: "هذا هو المحفوظ"، وقال: "ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلا، وهذا هو المحفوظ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولولا خلاف فيه على محمد؛ فقد قيل عنه مرسلًا"، قال الذهبي: "الصحيح مرسل" "وهذا الذي رجحه شيخنا في "الإرواء" "2/ 71-73/ رقم 354"، وعزاه ابن ضويان في "منار السبيل" "1/ 92" لأحمد في "الناسخ والمنسوخ"، وسعيد بن منصور في "السنن". وانظر: "زاد المعاد" "1/ 249"؛ فالحديث ضعيف.(6/474)
وسرد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 308" ما ورد عن ابن سيرين، وأتبعه بقوله: "وروي عن غيره أن المؤمنين كانوا يلتفتون في الصلاة ويتكلمون؛ فنسخ الله ذلك"، ثم قال "2/ 309": "وحديث ابن سيرين باطل، وما روى غيره لا أصل له، إنما روي في "الصحيحين": "إنا كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين}؛ فأُمرنا بالسكوت".
قلت: قضية الكلام مضى تخريجها في الحديث السابق، والمصنف نقل عن ابن العربي ولم ينقل حكمه على الحديث، ومثل هذا يقع كثيرا له؛ فهو لا يفلِّي الأخبار، ولا يمحص الآثار، ولا يبحث عن ناقليها، وشاب كتابه -وهو جوهرة عديمة النظير-بمثل هذا، عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وألمح ابن العربي أيضا في "أحكام القرآن" "3/ 1295" لتضعيف هذا الحديث، والله الموفق. وفي "ط": "نزلت".(6/475)
ص -343-…فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، قالوا: وهذا إنما نسخ أمرًا1 كانوا عليه. وأكثر القرآن2 على ذلك، معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة؛ فهو مما لا يعد نسخًا، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام3 الجاهلية.
فإذا اجتمعت هذه الأمور، ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة؛ لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر، على أن ههنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس نسخًا لحكم شرعي، بل تعمير للذمة بعد أن كانت غير مشغولة، وقد تفنن في تسمية هذا النوع تحريم ما هو مباحة بالإباحة الأصلية، أو رفع براءة الذمة بدليل، أو نسخ أمر كانوا عليه، وهي عبارات ثلاث استعملها في معنى واحد زيادة في إيضاح الفرق بينه وبين نسخ الحكم الشرعي. "د".
2 أي: أكثر تشريع القرآن رفع ونقض لما كانوا عليه، وإن كان أمهلهم مدة وأخذهم بالتدريج في تشريع ما به إصلاح عاداتهم وعبادتهم؛ فلا يعد نسخًا لأنه إنشاء لأحكام لم يسبقها تشريع في موضوعها. "د".
3 في "م": "الأحكام".(6/476)
ص -344-…المسألة الثالثة:
وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين1؛ فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحدًا، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرًا؛ فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده؛ فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن2 المطلق لم يفد مع مقيده شيئًا؛ فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار؛ فأشبه الناسخ والمنسوخ؛ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه3 الخاص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 29-30، 272-273"، و"الإحكام" لابن حزم "4/ 67"، و"فهم القرآن" "398" للمحاسبي، و"إعلام الموقعين" "1/ 29"، و"تفسير القرطبي" "2/ 288"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" "ص112-113" للدهلوي، و"النسخ في دراسات الأصوليين" "521"، و"أحكام القرآن" "1/ 197"، ومقدمة محقق "الناسخ والمنسوخ" "1/ 197" لابن العربي، و"محاسن التأويل" "1/ 13"، و"الإتقان" "2/ 22" لنادية العمري، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص88-90" لمكي بن أبي طالب.
2 إنما قال "كأن"؛ لأن الواقع أن المطلق لم يهمل مدلوله جملة كما سيأتي في العام بعد؛ فيقال نظيره هنا، أي أن الذي أهمل إنما هو الاحتمالات الأخرى لغير المقيد. "د".(6/477)
3 أي: أهمل منه ما دل الخاص على إهماله، وهو ما عدا مدلول الخاص. "د". قلت: في الأصل: "وإنما العمل عليه...".(6/478)
ص -345-…وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم1 كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك؛ استهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد.
ولا بد من أمثلة تبين المراد: فقد روي عن ابن عباس2 أنه قال في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] أنه ناسخ لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20].
وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق؛ إذ كان قوله: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} مطلقا، ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله في "الآية" الأخرى: {لِمَنْ نُرِيد}، وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها3 النسخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يأتي مثاله بعد في قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مع قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الآية. "د".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص254" بإسناد ضعيف، وقال: "والقول الآخر إنها غير منسوخة، وهو الذي لا يجوز غيره؛ لأن هذا خبر...".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 355" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "219-220" لابن الجوزي.(6/479)
3 أي: لا يدخل النسخ مدلول الخبر وثمرته إن كان مما لا يتغير؛ كالإخبار بوجود الإله وبصفاته؛ فدخول النسخ في هذا المدلول محال بإجماع، أما إذا كان مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو؛ ففيه خلاف، والمختار جوازه، وأما نسخ تلاوة الخبر أو نسخ تكليفنا به كما إذا كلفنا بأن نخبر بشيء ثم ورد نسخ التكليف بذلك؛ فكل من هذين جائز لأنه من التكليف فيدخله النسخ، فانظر معنى الآية: هل هو مما يتغير فيدخله النسخ على المختار، أم لا يتغير فلا يدخله؟ وقالوا: إن من أمثلة ما لا يتغير أن تقول: أهلك الله زيدًا؛ لأنها حادثة واحدة تقع مرة واحدة؛ فلا يتأتى فيها التغيير، والتحقيق أن بعض الأخبار يجوز في مدلولها النسخ كما إذا كان الخبر عامًا؛ فيأتي الثاني يبين تخصيصه وقصره على البعض كما في الآية؛ إلا أنه يكون على اصطلاح المتقدمين لا اصطلاح الأصوليين، وكلامه في هذا. راجع "الإحكام" "3/ 163" للآمدي. "د".(6/480)
ص -346-…وقال في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون....} إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُون} [الشعراء: 224-226]: هو منسوخ بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}1 الآية [الشعراء: 227].
قال مكي2: "وقد ذكر ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء؛ أنه قال: منسوخ".
قال: "وهو مجاز لا حقيقة؛ لأن المستثنى3 مرتبط بالمستثنى منه، بيّنَه حرف الاستثناء أنه4 في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول، والناسخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" بإسناد ضعيف، وقال بعد كلام: "..... هذا الذي تسميه العرب استثناء لا نسخا....".
وأخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر، رقم "5016" من طريق علي بن حسين بن واقد المروزي -وهو صدوق يهم- عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون}؛ فنسخ من ذلك واستثنى؛ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}.
وأخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "19/ 179"، وابن النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن.
والشاهد أن النسخ هنا بمعنى التخصيص؛ كما هو ظاهر من قوله: "واستثنى"، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 323" لابن العربى.
2 في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص373-374".
3 في مطبوع "الإيضاح": "الاستثناء".
4 قال "ف": "الأنسب: "بيّن حرف الاستثناء أنه..." إلخ، أو "نبه حرف الاستثناء أنه" ا. هـ.(6/481)
رد عليه "د" بقوله: "إنه بدل من الضمير في بينه؛ فالكلام واضح لا يحتاج لتصحيح كما ظن". قلت: نص عبارة مكي في "الإيضاح" "ص374": "... بالمستثنى منه، يليه حرف الاستثناء الذي يلزمه؛ فبين أنه في بعض الأعيان..."، ومنه يظهر صواب ما عند "ف".(6/482)
ص -347-…منفصل1 من المنسوخ رافع لحكمه، وهو بغير حرف".
هذا ما قال، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ؛ إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.
وقال في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]: إنه منسوخ بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَة} الآية [النور: 29]2.
وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء؛ غير أن قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}] يثبت3 أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.
وقال في قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]: إنه منسوخ4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه قد أخذ في تعريفه أن يكون الدليل الناسخ متأخرًا عن المنسوخ، ويلزمه أن يكون بغير حروف الاستثناء. "د". وفي "د": "منفصل عن..."، وفي مطبوع "الإيضاح" "ص314": "منفصل من المنسوخ، وهو رافع لحكم المنسوخ، وهو بغير حرف الاستثناء".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص231" بإسناد ضعيف، وقال المحاسبي في "فهم القرآن" "ص426": "وقد كان بعض من مضى يرى أن آية الاستئذان منسوخة، والعلماء اليوم مجمعة أنها ثابتة؛ إلا أن بعضهم رأى أن دق الباب يجري من الاستئذان".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 316-317"، وأحكام القرآن "3/ 1347-1352"، كلاهما لابن العربي.
3 بل في نفس الآية الأخرى ما يثبت أنها خاصة بالمسكونة؛ لأن قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} يقتضي ذلك. "د". في "ط": "بينت" بدل "يثبت"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(6/483)
4 وبه قال عطاء، وهو مبني على أن الآية الثانية في الجهاد، وقد بين الفخر مع هذا أنه لا يلزم النسخ، وقيل: إنها في أحكام التفقه في الدين لا دخل لها بالجهاد كما قاله المؤلف؛ إلا أنه لا داعي إذن لقوله: "ولكنه نبه.... إلخ" لأن هذا هو معنى النسخ. "د".(6/484)
ص -348-…بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة}1 [التوبة: 122]، والآيتان في معنيين، ولكنه نبّه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع.
وقال في قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} [الأنفال: 1]: منسوخ بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الآية]2 [الأنفال: 41]، وإنما ذلك بيان لمبهم3 في قوله: {لِلَّهِ وَالرَّسُول}.
وقال في قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 69]: إنه منسوخ بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} الآية4 [النساء: 140]، وآيه الأنعام5 خبر من الأخبار، والأخبار لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في نسخ نفير العامة، رقم 2505"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 385"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 47"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص201" من طرق عنه، ولا تسلم أي طريق من طرقه من ضعف، ولكن الضعف يسير في كل منها، وهو قابل للجبر، والله الموفق.
وانظر لزامًا: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 248-251" لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص463-464" للحارث المحاسبي، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص315".
2 أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 400"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 217"، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص182"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 224"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "464"، ومكي في "الإيضاح" "ص295"" وما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة.
3 في "م": "المبهم".
4 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص168-169" بإسناد ضعيف، وانظر: "فهم القرآن" "ص416-417"، و"الإيضاح" "ص282".(6/485)
5 نزل بمكة: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} الآية؛ فشكا المسلمون أنهم يحرمون =(6/486)
ص -349-…تَنْسَخ ولا تُنْسَخ.
وقال في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من المسجد الحرام والطواف؛ إذ كان كلما حصل من المشركين خوض واستهزاء تركوا المكان الذي يجلسون فيه، وهذا حرج؛ فنزلت الرحمة والرخصة بقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون}؛ أي: الشرك والمعاصي، {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى}؛ فأبيح لهم البقاء في أماكنهم مع تذكير الخائضين وإرشادهم، ثم إن المنافقين في المدينة كانوا يجالسون أحبار اليهود ويسمعون منهم الهزء والطعن في الإسلام والقرآن؛ فنزلت الآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} خطابا للمنافقين بأنه نزل عليكم في القرآن أن إذا سمعتم آيات الله... إلخ إلى أن قال: إنكم أيها المنافقون إذًا مثل هؤلاء الأحبار الكفار، وعليه؛ فالمراد بما أنزل عليهم في الكتاب هو آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} إلخ الموجبة لقيامهم من مجلس الخائضين. راجع الفخر الرازي في الآيتين، وعلى ما قاله يكون حصل نسخ مرتين: نسخ لعزيمة القيام بالتخفيف وإباحة الجلوس مع الذكرى، وكل من الناسخ والمنسوخ في سورة الأنعام، ونسخ للتخفيف ثانيًا بآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} إلخ في سورة النساء، وقد قالوا: إن هذا لا يعهد مثله في الشريعة؛ كما قاله ابن القيم في غير موضع من كتابه "زاد المعاد"، هذا ثم لا يخفى أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} يفيد حكمًا شرعيًا هو رفع الحرج؛ فيصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا لأنه ليس بخبر معنى، خلافًا لما قاله المؤلف أولًا وآخرًا، وسيأتي مثله في الأمر غير الصريح. "د".(6/487)
قلت: نقل ابن العربي في "ناسخه" "2/ 211" أن الذي عليه أهل التفسير أنه لا نسخ في هذه الآية، قال: "لأنه خبر، والآيتان محكمتان، ومعنى الآية أنه إذا نهى عن المنكر؛ فليس عليه حساب من فعله"، ثم تعقب هذا القول بكلام شديد، قال: "هذه غباوة ظاهرة، ليس هذا بخبر، بل هو صريح أمر؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه}، فإن نسيت فتذكرت؛ فقم ساعة تذكارك عنهم، ولا تقعد بعد ذلك معهم، وهذا منسوخ بأمره بالقتل والقتال بلا إشكال، والآية التي في النساء مثلها؛ فإنه نهاهم الله أن يجالسهم إذا سمعهم يكفرون، وهذه أيضًا منسوخة بالأمر بالقتال إذا كان مأجورًا أن يقوم عنهم إذا سمعهم يستهزئون بآيات الله ويكفرون، وصار بعد ذلك مأمورًا بأن يقاتلهم ويقيم الحد بالقتل في ذلك عليهم، وهذا نسخ بين".(6/488)
ص -350-…فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [النساء: 8]: إنه منسوخ بآية المواريث1.
وقال مثله الضحاك والسُّدِّي وعكرمة. وقال الحسن: "منسوخ بالزكاة".
وقال ابن المسيِّب: "مسخه الميراث والوصية"2.
والجمع بين الآيتين ممكن؛ لاحتمال [حمل]3 الآية على الندب، والمراد بأولي القربى من لا يرث، بدليل قوله: {وَإِذَا حَضَرَ} [فقيد] كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه -كما في "فتح الباري" "8/ 242"- والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص115"، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" "ص199" من أوجه ضعيفة؛ كما قال ابن حجر.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ}، 5/ 388/ رقم 4576" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال عن الآية: "هي محكمة، وليست بمنسوخة".
وأخرج البخاري أيضًا في "صحيحه" "كتاب الوصايا، باب قوله الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى}، 5/ 388/ رقم 2759" عن ابن عباس؛ قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس، هما واليان: وال يرث وذاك الذي يرزق، ووال لا يرث؛ فذاك الذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك".
وأخرج نحوه الحاكم في "المستدرك" "2/ 302-303"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 266-267".
2 قال ابن حجر في "الفتح" "8/ 243": "وصح ذلك -أي: النسخ- عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم".
قلت: وأسند النسخ عن الضحاك: سعيد بن منصور في "سننه" "3/ 1172"، وابن جرير في "تفسيره" "8/ 10/ رقم 8680 - ط شاكر"، وفيه جويبر، وهو ضعيف.(6/489)
وانظر: "تفسير القرطبي" "5/ 48-49"، و"أحكام القرآن" للشافعي "ص147-149"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 146-147"، و"أحكام القرآن" "1/ 329"، كلاهما لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص439-440" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص210"، وفيه ما عند المصنف.
3 ما بين المعقوفين سقط من الأصل.(6/490)
ص -351-…ترى1 الرزق بالحضور؛ [فدل أن]2 المراد غير الوارثين، وبين الحسن3 أن المراد الندب أيضًا بدليل آية الوصية والميراث؛ فهو من بيان المجمل والمبهم.
وقال هو وابن مسعود في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]: إنه منسوخ بقوله: [{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، مع أن الأخبار لا تنسخ، وإنما المراد -والله أعلم-: ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان، وبين ذلك قوله]: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}4 [البقرة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "ط" فقط، وسقط ما بين المعقوفتين من الأصل والنسخ المطبوعة، ولذا قال "ف": "في العبارة تحريف، ولعل الأصل بدليل قوله "إذا حضر"، حيث قيد الرزق بالحضور؛ فدل على أن المراد غير الوارثين لأن الوارث يرزق مطلقًا حضر أو غاب". وتابعه "م"، أما "د"؛ فقال: "تحريف، ولعل الأصل: لما شرط الرزق بالحضور كان المراد.... إلخ".
2 كذا في "ط"، وبدله في غيره: "فإن".
3 أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" "1/ 149" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "116"- وابن جرير في "تفسيره" "8/ 9/ رقم 8667، 8671"، وسعيد بن منصور في "تفسيره" "3/ 1170/ رقم 579"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص254" من طرق عن الحسن بألفاظ منها: "هي محكمة، وذلك عند قسمة ميراث الميت". لفظ عبد الرزاق.
و"هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا". أحد ألفاظ ابن جرير.
و"فغير قرابة الميث يرضخ -والرضخ: العطية القليلة- لهم القدح أو الشيء؛ فكان يقول لهم: إنها لم تنسخ". لفظ سعيد بن منصور، وإسناده صحيح.(6/491)
ويتأكد الندب بما قاله مكي في "الإيضاح" "ص210-211": "ويدل على أنها على الندب قوله في آخر الآية: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}؛ أي: إن لم تعطوهم شيئًا ولم توصوا لهم؛ فقولوا لهم قولا حسنا، وأيضًا؛ فإنها لو كانت فرضا لكان الذي لهم معلوما محدودا كسائر الفرائض"، ثم ذكر أن الإجماع عليه، وقال: "وهذا هو الصواب إن شاء الله، وهو مذهب مالك وأكثر العلماء"، ثم قال: "فالآية محكمة على الندب والترغيب غير منسوخة".
4 أخرج النسخ عن ابن مسعود: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 506"، وابن جرير =(6/492)
ص -352-…286] بدليل أن ابن عباس فسر1 الآية بكتمان الشهادة2؛ إذ تقدم3 قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في "التفسير" "6/ 112/ رقم 6478 - ط شاكر".
وأخرجه عن ابن عباس: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 515"، وأحمد في "المسند" "1/ 322"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص436"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 287"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6458، 6459، 6461، 6462" -وصححه الحاكم ووافقه الذهبي- والشافعي في "مسند" "422 - رواية المزني"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10769، 10770"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 1626-1628 - ط الجديدة"، وأبو داود في "ناسخه"، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب" -كما في "الدر المنثور" "2/ 128"- وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "فتح الباري" "8/ 206".(6/493)
1 معنى الآية على كلام ابن عباس: إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة بأن تقولوا لصاحب الحق: نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق، فيكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا...} إلخ من باب بيان المجمل لقوله: {وَلا تَكْتُمُوا}؛ فقد كان يحتمل الأمرين كما يحتمل أحدهما فقط، وعليه لا تكون آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مرتبطة بهذه الآية؛ فقوله: "بدليل... إلخ" سقط منه كلام تقديره1: "وليس بمنسوخ بدليل..."، أما على رواية أنه لما نزلت آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} شق الأمر على الصحابة وجثوا على ركبهم أمامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كلفنا من الأمر ما نطيق، من صوم وصلاة... إلخ، ولكن نزلت هذه الآية وليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة؛ فأنزل الله آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، يعني: فلا يكلفكم بالخواطر وما يكون في النفس غير العزم على الفعل الذي تطيقونه؛ فيكون معنى كونها ناسخة لآية {وَإِنْ تُبْدُواْ} أنها مبينة لإجمالها أو مخصصة لها ببعض ما يشمله قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}.
والحاصل أنه على رأي ابن عباس لا تعلق لآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} بآية: {وَإِنْ تُبْدُواْ} [البقرة: 283]، وتكون هذه محكمة ولا تخصيص فيها، بل هي مبينة لإجمال آية: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}، وأما إذا جرينا على رواية جثو الصحابة على الركب؛ فتكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لإجمال آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} الذي كان بظاهره يشمل الهواجس والخواطر؛ فنزلت الآية =
1 أثبتناه من "ط" وحده بنحوه، وهو بين معقوفتين.(6/494)
ص -353-…{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، ثم قال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284]؛ فحصل أن ذلك من باب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه، ويكون قوله: "فحصل أن ذلك من باب التخصيص... إلخ" "صحيحا، لكن بما شرحناه، ويكون في الكلام سقط آخر قبل قوله: "فحصل" تقديره: وعلى فرض رواية الجثو وعدم مسايرة ابن عباس تكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لآية {وَإِنْ تُبْدُوا} لا ناسخة، ولا يخفى عليك أن الكلام لا يستقيم إلا بتقدير شيء ساقط منه؛ لأن ابن مسعود الذي يقول كما في البخاري ومسلم: "والله الذي لا إله إلا هو؛ ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تعالى تبلغه الإبل؛ لركبت إليه"، الذي يقول ذلك لا يقول: إنها منسوخة بدليل أن ابن عباس فسر الآية، ولكنه إذا قال بالنسخ؛ فإنما يقول بعلمه هو.(6/495)
هذا وقد روى البغوي* في "تفسيره" [1/ 514] بجملة طرق؛ أن ابن عباس يقول: إنها منسوخة بآية: {لا يُكَلِّفُ} راويا حديث جثو الصحابة وشدة ما لحقهم بسبب هذه الآية، ومعنى كونها منسوخة على رأيه هذا أن تكون مخصوصة أو مبنية بها على ما شرحناه، ولم يذكر البغوي عنه الوجه الذي ذكره المؤلف من رجوعها إلى قوله: {وَلا تَكْتُمُوا}، بل ذكر وجها آخر عنه: إنها محكمة على أن معنى يحاسبكم يخبركم به، وأن الحساب لا يستلزم العقاب، وأنها تتلاقى مع حديث: "فأما المؤمن؛ فيقول له ربه: ألم تفعل كذا، ألم تفعل كذا؟ ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك، وأما الفاجر؛ فيحاسبه على شركه وكفره"، وهذا معنى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، ولا شك أن هذا غير ما نقله المؤلف عنه هنا. "د".
2 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 502"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 247"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6450، 6454" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسم عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: "نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها".
ويزيد ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعيًا، ومقسم صدوق، وكان يرسل؛ فالأثر ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 6449" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس.
3 في "ط": "إذ قد تقدم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أورد ذلك من غير إسناد، وقد سبق أن خرجناه؛ فاقتضى التنبيه.(6/496)
ص -354-…تخصيص العموم، أو بيان المجمل.
وقال في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]: إنه منسوخ1 بقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النور: 60]، وليس بنسخ، إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم.
وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] أنه ناسخ لقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}2 [الأنعام: 121]، فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه؛ فهو تخصيص للعموم، وإن كان المراد [أن]3 طعامهم حلال بشرط التسمية؛ فهو أيضا من باب التخصيص4، لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول، وفي الثاني بالعكس5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "18/ 165"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص200"، وقال: "وكذلك قال الضحاك، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية فيمن يخاف الافتتان بها، وهذه الآية في العجائز؛ فلا نسخ"، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 317-318"، وقال مكي في "الإيضاح" "366": "فهذا بالتخصيص أشبه منه بالنسخ".
2 حكاه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص145"، ومكي في "الإيضاح" "ص261" عن أبي الدرداء وعبادة، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 214-215" عن عكرمة، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "156" عن جماعة منهم الحسن وعكرمة، ورجحوا جميعا أن المراد بالنسخ إن صح؛ التخصيص.
3 زيادة من "د" و"ط"، وسقطت من الأصل و"م" و"ف".
4 في "ف": "تخصيص"، وقال: "لعله التخصيص"، وفي "ط": "تخصيص العموم".(6/497)
5 إلا أنه يتوقف على صحة تخصيص المتقدم للمتأخر؛ لأن سورة المائدة متأخرة عن الأنعام، وهو رأي الأكثر، يقولون: يخصص العام بالخاص مطلقًا تقدم أو تأخر، وقال بعضهم: لا يخصص الكتاب الكتاب مطلقًا تقدم المخصص أو تأخر، وقال إمام الحرمين وأبو حنيفة: "إنما يتخصص العام بالخاص إذا تقدم العام في التاريخ، وإلا كان العام المتأخر ناسخًا". "د".(6/498)
ص -355-…وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]: إنه منسوخ بقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] إلى آخر الآيتين1، وإنما هو تخصيص، وبيان لقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ}؛ فكأنه على معنى: ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين؛ فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق2 الأخير.
وقال في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]: إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها أو [على] خالتها3، وهذا من باب تخصيص العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكماء النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص184"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 226-228"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص165-166"، وقال: "وقال آخرون: هي محكمة، وهذا هو الصحيح؛ لأنها محكمة في النهي عن الفرار؛ فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير".
قلت: وذلك في "تفسيره" "9/ 135"، وخطأ ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 366" القول بالنسخ، وقال عنه: "وهذا خطأ من قائله؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاث مائة ونيفا، والكفار كانوا تسع مائة ونيفا؛ فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة -وهي الواحد بالعشر- فلم ينقل أن المسلمين صافوا المشركين عليها قط، ولكن البارئ فرض ذلك عليهم أولا، وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه، ثم نسخ ذلك، قال ابن عباس: كان هذا ثم نسخ بعد مدة طويلة وإن كانت إلى جنبها".
2 في "ط": "بإطلاق".
وانظر: "فهم القرآن" "459-460" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص296-297".(6/499)
3 انظر: "الناسخ والمنسوخ" "ص122" للنحاس، ومضى تخريج حديث الجمع بين المرأة وعمتها في "ص82" وهو في "الصحيحين"، وأفاد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 162" ما عند المصنف، وزاد أيضا على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ فقال: "ومن حرم من جهة الرضاع غير الأم والأخت".
وانظر: "نواسخ القرآن" "124" لابن الجوزي، و"الإيضاح" "ص218-219" لمكي بن أبي طالب، وما بين المعقوفتين ليست في "د".(6/500)
ص -356-…وقال وهب بن منبه في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]: نسختها الآية التي في غافر: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}1 [غافر: 7].
وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى؛ إذ هو خبر محض2، والأخبار لا نسخ فيها.
وقال ابن النحاس: "هذا لا يقع فيه3 ناسخ ولا منسوخ؛ لأنه خبر من الله، ولكن يجوز أن يكون وهب بن منبه أراد أن هذه الآية على نسخة4 تلك الآية، لا5 فرق بينهما، يعني أنهما بمعنى واحد، وإحداهما تبين الأخرى".
قال: "وكذا6 يجب أن يتأول للعلماء، ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم، إذا كان لما قالوه وجه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص253"، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص218" عن ابن منبه والسدي ومقاتل بن سليمان، وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 351، 354-355": "ليس هذا نسخًا، إنما هو تخصيص عموم، والتخصيص يدخل في العموم؛ كان جزاء أو تكليفا باتفاق".
قلت: ويلزم من القول بالنسخ أن الملائكة استغفرت أولا للمشركين، وهذا كذب لأن الله جل وعز يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، ولم يكن الملائكة يشفعون لمن في الأرض ممن قد علموا أن الله لا يغفر له أبدا، قاله المحاسبي في كتابه "فهم القرآن" "474-475"، وانظر كلامه أيضا: "358-359"، وكلام مكي بن أبي طالب في "الإيضاح" "ص399".
وورد في غير "د": "التي في الطور"، وهو خطأ.
2 أي: ولا يؤول إلى تكليف حتى يدخله النسخ؛ إذ لو كان بمعنى الأمر لصح دخول النسخ فيه. "د".
3 هكذا في "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس و"ط"، "وفي الأصل وباقي النسخ: فيها".
4 وهل قرأها ابن النحاس: "نسختها" اسما مبتدأ خبره الآية التي... إلخ، أم قرأها فعلا؟ الأول أقرب إلى غرضه، وأيسر في تأويله كلامه. "د".
قلت: الكلمة جاءت في "م": "نسق".
5 في "ط": "لأنه لا".
6 في "ط": "وكذلك".(7/1)
ص -357-…قال: "والدليل على ما قلناه ما حدثناه أحمد بن محمد ثم أسند عن قتادة في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]؛ قال: للمؤمنين منهم"1.
وعن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب؛ أن قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية: [التوبة: 34] منسوخ بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}2 [التوبة: 103]، وإنما هو بيان3 لما يسمى كنزا، وأن المال إذا أديت زكاته لا يسمى كنزا، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية؛ فليس من النسخ في شيء.
وقال قتادة في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]: إنه منسوخ بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}4 [التغابن: 16]، وقاله الربيع بن أنس والسدي وابن زيد5، وهذا من الطراز المذكور؛ لأن الآيتين مدنيتان، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 190" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "253"- والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص428".
2 حكاه مكي في "الإيضاح" "ص314"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 930"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 259"، وأسنده ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص154" عن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز به.
3 بدليل الأحاديث والآثار الكثيرة الواردة في أن الكنز هو الذي لا تؤدى زكاته، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، 8/ 324/ رقم 4661" عن خالد بن أسلم؛ قال: "خرجنا مع عبد الله بن عمر؛ فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة؛ فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال".
4 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 128"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص107"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص470"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 68، 69/ رقم 7557 - ط شاكر"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "107".(7/2)
5 قاله مكي في "الإيضاح" "ص203"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ =(7/3)
ص -358-…تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]: فيما استطعتم وهو معنى قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؛ فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيدة بسورة التغابن.
وقال قتادة أيضا في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]: إنه نسخ1 من ذلك التي لم يدخل بها، بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُر.....} إلى قوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}2 [الطلاق: 4].
وقال ابن عبد الملك بن حبيب في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 126"، والقرطبي في "تفسيره" "4/ 157"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "108" و"زاد المسير" "1/ 432"، وقال: "قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها؛ فالمعتقد نسخها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به؛ فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته؛ فكان قوله تعالى: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لـ{حَقَّ تُقَاتِهِ}، لا ناسخا ولا مخصصا.
1 يريد: وحكمه يجري على ما سبق من أنه بيان وتخصيص. "د".(7/4)
2 ذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص76"، ومكي في "الإيضاح" "ص176"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 84-85"، وأسنده عن قتادة ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "86-87"، وقال: "واعلم أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة؛ لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل، والآيسة والصغيرة؛ فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ، وأما الارتجاع؛ فإن الرجعية زوجة". وانظر: "فهم القرآن" "419-420" للمحاسبي.(7/5)
ص -359-…وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]: إن ذلك منسوخ بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد، وهو معنى لا يصح نسخه؛ فالمراد1 أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره، بل هي مقيدة بمشيئة الله سبحانه2.
وقال في قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97]، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98]: إنه منسوخ بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 99]3، وهذا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يستأنس بهذا لتصحيح النقص الذي أشرنا إليه في المسألة الثانية من المتشابه. "د".
2 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 352" عند هذا الموطن: "وقد سقط فيها ابن حبيب لليدين والفم؛ حتى تكلم فيها بأمر لم تعلم حقيقته ولم تفهم"، ثم سرد قوله الذي ذكره المصنف، وقال: "وهذا جهل عظام، وخطب جسام؛ فإن الحقائق لا تنسخ لا سيما إذا كانت في العقائد، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} عقيدة حق، وكلمة صدق، ولم تزل الحقيقة كذلك ولا تزال، ولم يختلف قط هذا بحال حتى يمحى في حالة ويثبت في أخرى، كما أن قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} عقيدة حق وكلمة صدق، متفقة متسقة، غير مختلفة ولا مفترقة"، وذكر نحو ما عند المصنف.
وانظر أيضا: "2/ 287"، و"نواسخ القرآن" "ص215".(7/6)
3 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 261" عند هذا الموطن: "لقد مني ابن حبيب بالوهم أو بنقل ما لم يقل عنه، ومني بالرد ممن لا يعلم، قال بعضهم: وهذا خبر لا ينسخ، ومتى بلغنا إلى هذا الحد؟ وليست الآية في شيء من هذا الغرض، إنما سميت براءة: الفاضحة؛ لأنه لم يزل ينزل: ومنهم، ومنهم... حتى ظننا أنها لا تبقي أحدا؛ فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي}، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}، ومن الأعراب من يكره الغزو، يرى أن الذي ينفقه مغرم، ومنهم من يرى أن الذي ينفقه قربة..."، ثم قال: "فأي نسخ في هذا لولا التسور على الدين، والتصور بصورة علماء المسلمين، والله ينصرنا بالحق، ويشرح صدورنا للعلم برحمته".
وانظر لزاما: "أحكام القرآن" "2/ 1011-1012" له.(7/7)
ص -360-…الأخبار التي لا يصح نسخها، والمقصود أن عموم1 الأعراب مخصوص فيمن2 كفر دون من آمن.
وقال أبو عبيد3 وغيره: إن قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الآية الأولى مخصوص بالآية الأخيرة، أما الآية الوسطى مع الأخيرة؛ فلا تعارض بينهما لأن كلا منهما صريح في بعض الأعراب؛ فلا يتوهم فيهما نسخ ولا تخصيص. "د".
2 في "د": "بمن".
3 سرد الآثار والأقوال في المسألة في كتابه "الناسخ والمنسوخ" "ص147-154"، ثم قال بعد أن ذكر أن شهادة التائب من القذف جائزة ما نصه: "وهذا قول أهل الحجاز جميعا، وأما أهل العراق؛ فيرون شهادته غير مقبولة أبدا وإن تاب، وكلا الفريقين إنما تأول فيما نرى الآية؛ فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع من عند قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، ثم استأنف؛ فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}؛ فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون؛ فذهبوا إلى أن الكلام بعضه معطوف على بعض، فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل الكلام، ورأوا أنه منتظم له".(7/8)
ثم قال: "والذي يختار هذا القول؛ لأن من قال به أكثر وأعلى، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمن وراءه مع أنه في النظر على هذا أصح، ولا يكون المتكلم بالفاحشة أعظم جرما من راكبها، ألا ترى أنهم لا يختلفون في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب؟ فراميه بها أيسر جرمًا إذا نزع عما قال وأكذب نفسه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله عز وجل التوبة من عبده كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، من ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}، ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}؛ فليس يختلف المسلمون أن هذا الاستثناء ناسخ للآية من أولها، وأن التوبة لهؤلاء جميعا بمنزلة واحدة، وكذلك قوله عز وجل في الطهور حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}؛ فصار التيمم لاحقا بمن وجب عليه الاغتسال كما لحق من وجب عليه الوضوء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر عمارا وأبا ذر بذلك، وعلى هذا المعنى تأول من رأى شهادة القاذف جائزة؛ لأنه كلام واحد بعضه معطوف على بعض وبعضه تابع بعضا، ثم انتظمه الاستثناء وأحاط به".(7/9)
ص -361-…الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] منسوخ بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية [النور: 5]، وقد تقدم لابن عباس1 مثله.
وقيل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] منسوخ بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}2 الآية [النساء: 48]، [وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 93]، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ.
وفي قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 275"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 62"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 153" عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، قال: ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، قال: "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله عز وجل تقبل". وهذا ليس بنسخ، وإنما هو استثناء.
وانظر: "أحكام القرآن" "3/ 1327"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 313-315"، كلاهما لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "199" لابن الجوزي، و"فهم القرآن" "ص466-467" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص364" لمكي بن أبي طالب.
2 انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "رقم 479"، و"الإيضاح" "ص398" لمكي، و"تفسير ابن جرير" "8/ 101/ رقم 8867 - ط شاكر"، و"فهم القرآن" "471" للمحاسبي.
وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 350" بعد كلام: ".... فصارت الآية من جميع هذه الوجوه ساقطة في باب النسخ، ضعيفة في باب التخصيص، والله أعلم".
3 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط" و"الإيضاح" "ص398".(7/10)
ص -362-…[الأنبياء: 98]: إنه منسوخ:1 بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}2 [الأنبياء: 101].
وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] منسوخ بها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن من المعبودين عيسى وأمه كثيرا من الملائكة. "د".
2 أخرج الطبراني في "الكبير" "12/ 153/ رقم 12739"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1758 - موارد"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 173، 174" بسنده إلى ابن عباس؛ قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، قال عبد الله بن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا؛ فقال: يا محمد! أليس فيما أنزل الله عليك {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}؟ قال: "نعم". قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيزا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وفي إسناده عاصم بن بهدلة، ضعفه جماعة.
وأخرجه البزار من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه: "ثم نسختها {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ...}"، وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "7/ 68".(7/11)
وأخرجه من طرق أخرى: الحاكم في "المستدرك" "2/ 385"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 97"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص206"، والهروي في "ذم الكلام" "ص165"، وابن أبي حاتم والحارث بن أبي أسامة وابن مردويه في "تفاسيرهم"، ومن طريق ابن مردويه والواحدي والحارث ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 172"، والضياء في "المختارة"، والخبر عند ابن هشام في "السيرة" "1/ 259"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 88-89"، وقال عنه في "تحفة الطالب" "رقم 235": "مشهور في كتب التفسير والسير والمغازي"، وسيأتي لفظه بتمامه عند المصنف "4/ 24"، وقال ابن حجر: "هذا حديث حسن".
وانظر: "الإيضاح" "ص93، 351-352"، و"فهم القرآن" "ص357 و473" للمحاسبي.(7/12)
ص -363-…أيضا1، وهو إطلاق النسخ في الأخبار، وهو غير جائز.
قال مكي2: "وأيضا؛ فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون الله كلهم النار؛ لأن النسخ إزالة الحكم الأول وحلول3 الثاني محله، ولا يجوز زوال الحكم الأول في هذا بكليته، إنما زال بعضه؛ فهو تخصيص4 وبيان".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وكأن الأول ما حصل، وهو وإن لم يفد أنهم ومعبودهم ممن سبقت لهم الحسنى؛ إلا أنه قد زال كونهم حصب جهنم، وهو غير صحيح، هذا مراده. "د".
قلت: قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" بعد كلام: "وهذا يبطل أن يكون ناسخا من وجهين ظاهرين:
أحدهما: أن الأول عموم، والثاني خصوص؛ والخصوص لا ينسخ العموم، وإنما يخصه.
الثاني: أن هذا ليس بتكليف بحكم ولا بفعل تعلق بأمر ونهي، وإنما هو وعيد ووعد، وليس فيها نسخ؛ إلا على الوجه الذي قدرناه من ارتفاع سبب الوعيد ليرتفع الوعيد بارتفاع سببه، وهذا بين لمن تأمله، والله أعلم".
2 انظر: "زاد المسير" "5/ 256"، و"تفسير القرطبي" "11/ 136"، و"الوسيط" "3/ 190"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 289-291" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "ص193"، وفيه: "وهذا من أفحش الإقدام على الكلام في كتاب الله سبحانه بالجهل، وهل بين الآيتين تناف؟ فإن الأولى تثبت أن الكل يردونها، والثانية تثبت أنه ينجو منهم من اتقى، ثم هما خبران، والأخبار لا تنسخ".
3 في تفسيره "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره"، ونحوه في "الإيضاح" "ص93، 345-346".(7/13)
4 أي: لمن يدخل النار من المعبودين، ويبقى الكلام في ورودها؛ فهل هو مخصص أيضا بآية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} مع أن آية الورود فيها ما يفيد بقاء عمومها، وهو قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}؟ وهو الذي يفيده حديث مسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد". فقالت حفصة: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت: وإن منكم إلا واردها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية". وكذا حديث ابن مسعود، راجع: "التيسير" في الآيتين، وعليه؛ فالآية الثانية لا يتعلق بها نسخ ولا تخصيص، وهذا هو الذي درج عليه شراح الحديث. "د".(7/14)
ص -364-…وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا1 أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية: [النساء: 2]: إنه منسوخ بقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات2.
والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما3 في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره4 إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع؛ فهو أعم من إطلاق الأصوليين؛ فليفهم هذا، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بالطول الغنى والسعة كما فسره ابن عباس ومجاهد، والمراد بالمحصنات المؤمنات هنا الحرائر. "ف".
2 انظر: "الإيضاح" "ص219-220" لمكي بن أبي طالب، و"أحكام القرآن" "1/ 394" لابن العربي.
3 لفظ "ما" واقع على الدليل من الكتاب أو السنة، ومعنى الكلام حينئذ واضح، لا حاجة فيه إلى حذف ولا تغيير في لفظه. "د".
4 هكذا في الأصل و"د" و"ط" و"ف"، وعلق "ف": "لعله من مجرد ظاهرها من إشكال، تأمل" ا. هـ. وهكذا أثبتها "م".(7/15)
ص -365-…المسألة الرابعة:
القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع1 فيها نسخ، وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء؛ فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها؛ فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل؛ فأصل الحفظ باقٍ؛ إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس.
بل زعم الأصوليون2 أن الضروريات مراعاة في كل ملة وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات، وقد قال3 الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وقال بعد ذكر كثير4 من الأنبياء عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وقال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} الآية [المائدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الكلام سبق، ولكنه أعاده مقدمة لقوله بعد: "بل زعم الأصوليون"، واستدلاله بالآيات على كلام الأصوليين. "د".
2 انظر: "تعليل الأحكام" "285" للشلبي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص155" ليوسف العالم.
3 ففي الآية الأولى إقامة أصل الدين وعدم التفرق فيه، وفي الثانية الصبر وهو من مكارم الأخلاق، وهكذا الآيات بعدها فيها أصول الصلاة، والصيام، وإنفاق المال للفقراء، والقصاص "د".
4 في "ط": "كثيرا".(7/16)
ص -366-…وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة، وهي في شريعتنا، ولا فرق بينهما.
وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
وقال في قصة موسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [البقرة: 183].
وقال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17].
وقال: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [المائدة: 45].
إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات.
وكذلك الحاجيات؛ فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق، هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة؛ فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات، ومثل ذلك التحسينات؛ فقد قال تعالى1: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات؛ من الصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن، وغير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كيف يعد ما في هذه الآية من ضد التحسينات ومكارم الأخلاق، لا من ضد الضروريات، لا سيما قطع السبيل. "د".
وكتب "م" ما نصه: "في اعتبار المؤلف ما ذكر في الآية من باب الحاجيات نظر، فإن بعضها على الأقل من باب الضروريات؛ فتأمل، والله يعصمك".(7/17)
ص -367-…وأما قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؛ فإنه يصدق1 على الفروع الجزئية، وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها وثبتت ولم تنسخ؛ فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى2، والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيحمل عليه بخصوصه بحيث لا يتناول الكليات، لا سيما الضروريات المحفوظة في كل ملة وإن اختلفت تفاصيل الحفظ. "د".
2 انظر التوسع في هذا عند ابن تيمية: "قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع" مطبوع وضمن "مجموع الفتاوى" له "19/ 106-128"، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "3/ 128-165"، والشوكاني في رسالته المطبوعة "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع"، وانظر منها "ص19-27، 48 وما بعدها"، وابن العربي في "أحكامه" "4/ 1654-1655"، والقسطلاني في "إرشاد الساري" "5/ 416".
وانظر في عدم جواز النسخ في الأخبار: "درء تعارض العقل والنقل" "5/ 208"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 590-591"، و"فهم القرآن" "359" للمحاسبي.(7/18)
ص -369-…الفصل الثالث: في الأوامر والنواهي
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة1 من الآمر؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به وإرادة إيقاعه، والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه، ومع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس المراد بها أثر الصفة التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه؛ لأن هذه لا تلازم الأمر عند أهل السنة كما سيقول، بل ذلك عند المعتزلة؛ حتى اضطروا إلى التزام أنه تعالى يريد الشيء ولا يقع ويقع وهو لا يريده، وقد استدل السنيون بجملة أدلة منها إيمان أبي لهب مطلوب بالاتفاق، وهو ممتنع الوقوع، وإلا؛ لانقلب العلم جهلا، وإذا كان ممتنعا؛ فلا تصح إرادته بالاتفاق منا ومنهم، وقد اعترف أبو علي وابنه أبو هاشم بأن الطلب غير الإرادة، قال ابن برهان: "لنا ثلاث إرادات: إرادة إيجاد الصيغة، وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر، وإرادة الامتثال"، والأخيرة هي محل النزاع بيننا وبين أبي علي وابنه، وقد ذكر هذه الثلاث الغزالي والإمام، واحتج أبو علي بأن الصيغة كما ترد للطلب تأتي للتهديد، ولا فارق إلا الإرادة، وأجيب بأن التهديد مجاز، والمؤلف ذكر رابعا. "د".
قلت: انظر في المسألة: "البحر المحيط" "4/ 65"، و"المحصول" "2/ 19 وما بعدها"، و"التمهيد" "1/ 124"، و"المسودة" "54"، و"البرهان" "1/ 204"، و"المستصفى" "1/ 415"، و"التبصرة" "18"، و"روضة الناظر" "2/ 601"، والمقرر فيها جميعا أنه لا يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر، وهذا مذهب أهل السنة، ونسب إلى الآئمة الأربعة، وهو مذهب الجماهير وقول الأكثرين، والاشتراط مذهب المعتزلة؛ كما تراه في "المعتمد" "1/ 50"، و"المغني" "17/ 113-114" لعبد الجبار، والمتأمل في المسألة يعلم أن المصنف يفصل في المسألة كما سيأتي، وأن الخلاف من باب "لا مشاحة في الاصطلاح" على حد تعبيره.(7/19)
ص -370-…هذا؛ ففعل المأمور به وترك المنهي عنه يتضمنان أو يستلزمان إرادة1، بها يقع الفعل أو الترك أو لا يقع.
ويبان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين2:
أحدهما3:
الإرادة الخَلْقية القدرية المتعلقة بكل مراد؛ فما أراد الله كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه، -أو تقول-4: وما لم يرد أن يكون؛ فلا سبيل إلى كونه.
والثاني:
الإرادة الأمرية المتعلقة5 بطلب إيقاع المأمور به وعدم إيقاع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من المأمور والمنهي؛ لأنه بإرادته يقع الفعل أو لا يقع، وإن كانت إرادته لا تكون نافذة إلا بمشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. "د".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 412-414 و8/ 58-61، 8/ 159-161، 187-190، 197-200، 440-442، 476-478 و10/ 24-27 و11/ 266 و17/ 62-65".
3 في الأصل: "إحداهما".
4 التشقيق في العبارة مبني على أن الأعدام التي لا توجد؛ هل تعلقت الإرادة بألا توجد، أو أنه لم تتعلق الإرادة بوجودها فقط؟ وليس بلازم تعلقها بعدم الوجود كما قالوه في المكلف به في النهي الكف أو نفي الفعل، فمن قال: نفي الفعل؛ قيل عليه: إنه عدم لا يصلح أثرا للقدرة، يعني: ولا يصلح أثرا للإرادة فيجيب بأنه يصلح؛ إذ يمكنه ألا يفعل فيستمر العدم، ويمكنه أن يفعل فلا يستمر؛ فيصلح العدم أن يكون متعلقًا للقدرة والإرادة، وعليه؛ فالعبارة الثانية أوسع في الشمول من الأولى. "د".(7/20)
5 ظاهره أن الإرادة تنص على الطلب نفسه، مع أنه لو كان كذلك؛ لنافى غرضه من تعلقها بنفس المراد على معنى محبته والعناية بشأنه، ولكان هذا هو الذي أجاب به الفخر عن استشكال آية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما سيأتي، مع أن جوابه مبني على المعنى الأول في الإرادة، لذلك يلزم فهمه على معنى أنها ملازمة للطلب، ويدل عليه قوله: "فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني... إلخ"، ولا ينافيه قوله بعد: "وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع"؛ لأنه يجب حمله على ما قرره هنا. "د".(7/21)
ص -371-…المنهي عنه، ومعنى هذه الإرادة أنه يجب1 فعل ما أمر به ويرضاه، [ويحب أن يفعله المأمور ويرضاه]2 منه، من حيث هو مأمور به، وكذلك3 النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه.
فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر؛ إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقته4 إلزام المكلف الفعل أو الترك5؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا، وإلا لم يكن إلزاما ولا تصور له معنى مفهوم.
وأيضا؛ فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة؛ فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم، فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول وهو القدري، ولم يعن أهل المعصية؛ فلم يرد وقوع الطاعة منهم؛ فكان الواقع الترك، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر؛ فقد يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد، وأما بالمعنى الثاني؛ فلا يأمر إلا بما يريد، ولا ينهى إلا عما لا يريد.
والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة؛ فقال: تعالى في الأولى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يجب" بياء وجيم، وهو تحريف، وصوابه: "يحب"، وكذا فيما بعده. "ف". قلت: ووقعت على الجادة في جميع النسخ.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "لعله: وكذلك [في] النهي" ا. هـ.
قلت: وقد أضافها "م" كعادته.
4 في "ط": "حقيقة".
5 في العبارة تسامح لا يخفى؛ فإن الترك ليس حقيقة الأمر. "ف".(7/22)
ص -372-…{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الآية [الأنعام: 125].
وفي حكاية نوح عليه السلام: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].
وقال تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ...} إلى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
وهو كثير جدا.
وقال في الثانية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ1 بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ...} إلى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26-28].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الفخر: استدل به المعتزلة على أنه يقع من العبد ما لا يريده الله؛ لأنه إذا تكلف المريض وصام يكون قد فعل العسر الذي لم يرده الله، وأجاب بأنه لم يرد الأمر به وإن كان يريد نفس العسر، ولم أجد في "الآلوسي" ولا في "البغوي" أيضا تفسير الإرادة بالرضا والمحبة في هذه الآيات كما قاله المؤلف، ومتى ثبت له مستند من اللغة؛ كان أفضل حل لإشكالات المعتزلة في مثل هذه الآيات، أما صاحب "القاموس"؛ فقال: "الإرادة: المشيئة"، وأما شارحه؛ فلم يزد شيئا، وقال في "اللسان": "أراد الشيء: شاءه"، ثم قال: "أراد الشيء: أحبه، وعني به"؛ فتم للمؤلف ما أراد رحمه الله. "د".
قلت: انظر "التفسير الكبير" "5/ 78-79" للرازي.(7/23)
ص -373-…{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33].
وهو كثير جدا أيضا.
ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا1، [وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقًا وأثبتها2 في الأمر مطلقا]3، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك.
وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع4، ولا بد من إثباتها بإطلاق، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين، فإذا رأيت في هذا التقييد5 إطلاق لفظ القصد6 وإضافته إلى الشارع؛ فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير، وهي أيضا إرادة التكليف، وهو شهير7 في عرف8 الأصوليين أن يقولوا: "إرادة التكوين"، [ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف] ويعنون بالمعنى الثاني9 الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخذا بظاهر رأي أهل السنة في عدم التلازم بين الأمر والإرادة، غافلا عن تعدد معنى الإرادة. "د".
2 أخذا بظاهر رأي المعتزلة في تضمن الأمر الإرادة أو استلزامه لها. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: التي تقع في مقام التشريع كما في الآيات الأخيرة، ومثله يقال في قوله: "إرادة التكوين". "د".
5 أي: التصنيف، وهو هذا الكتاب. "ف".
6 وسترى منه في المسألة الثانية الشيء الكثير. "د".
7 لعل في العبارة تحريفا، وتحريرها: "وقد اشتهر في علم الأصوليين أن يقولوا: إرادة التكوين، ويعنون بها المعنى الثاني". "ف".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم".
9 فيطلقون إرادة التكوين على إرادة التشريع، وهو خلاف اصطلاح هذا الكتاب، وقد لا تخلوا العبارة من تحريف. "د". قلت: لا تحريف مع إثبات ما بين المعقوفتين، وهو من انفراد "ط".(7/24)
ص -374-…المسألة الثانية:
الأمر بالمطلقات1 يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها، كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها.
وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك2، ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم3 مطلوبا والقصد4 لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هذا.
ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن5 أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به، وأن يرد النهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيًا، هذا خلف، ولصح6 انقلاب الأمر نهيا وبالعكس، ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل أو عدمه7؛ فيكون المأمور به أو المنهي عنه مباحا8 أو مسكوتا عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر التقييد بالمطلقات؛ هل سببه أن الأمر دائما لا يكون إلا بمطلق، فيكون لبيان الواقع؟ "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "22/ 529-530".
2 أي: أو الكف، على الخلاف في معنى النهي. "د".
3 أي: لأنه معنى نسبي لا يتحقق إلا بطالب ومطلوب. "د".
4 هو عين الدعوى. "د".
5 لأن فرض ذلك حينئذ لا يكون محالا؛ فيتحقق حينئذ معنى الإمكان. "د".
6 لازم لقوله: "لأمكن... إلخ"؛ فقد رتب على هذا الفرض في هذا الوجه ثلاثة لوازم باطلة: ألا يكون الأمر أمرا، وهو سلب الشيء عن نفسه، وانقلاب كل من الأمر والنهي إلى الآخر، وهو قلب الحقائق، والثالث أن يكون المأمور به أو المنهي عنه مباحًا أو مسكوتًا عن حكمه، وهو قلب للحقيقة أيضا. "د".
7 في "م": "وعدمه".(7/25)
8 أي: إن اعتبر الأمر المذكور دليلًا شرعيًا لا قصد فيه لإيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو حقيقة المباح، وقوله: "أو مسكوتًا عنه"؛ أي: إذا لم يعتبر دليلًا شرعيا رأسًا، وهذا الثاني توسيع في الغرض، وإلا؛ فأصل الكلام أن هناك صيغة لم يقصد بها إيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو المباح لا غير، ومحل اللازم المحال قوله: "فيكون المأمور به أو المنهي عنه... إلخ".(7/26)
ص -375-…حكمه، وهذا كله محال.
والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق، والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه.
فإن قيل: هذا مشكل من أوجه:
أحدها:
أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه؛ فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك وإن لم يقع، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن1 إيقاعه عبث؛ فيلزم أن يكون القصد2 إلى الأمر بما لا يطاق عبثا، وتجويز العبث على الله محال؛ فكل ما يلزم عنه محال وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع، بخلاف ما إذا قلنا: إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع؛ فإنه لا يلزم منه محظور عقلي، فوجب القول به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عادة حتى يتكرر الحد الأوسط؛ فإن هذا هو ما لا يطاق الذي جوز التكليف به وإن لم يقع، أما ما لا يمكن عقلا؛ فلا، وسيأتي في قوله: "لأن حقيقته إلزام ما لا يقدر على فعله" ما يفيد ذلك. "د".
2 لو قال: فيلزم أن يكون الأمر الذي يلزمه القصد إلى إيقاع ما لا يطاق عبثًا؛ لكان أوضح، أو يحذف كلمة القصد ويكتفي عنها بقوله بعد: "وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع"؛ أي: وسبب المحال استلزام... إلخ، ولكنه في الجواب الآتي يجعل القصد منصبًا على الأمر نفسه، لا على المأمور به، ويأتي للكلام بقية هناك؛ فتنبه. "د".(7/27)
ص -376-…والثاني:
أن مثل1 هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده، زاعما أنه لا يطيعه، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك؛ فإنه يأمر العبد وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه، وذلك2 لا يصدر من العقلاء؛ فلم يصح أن يكون قاصدًا وهو آمر، وإذا لم يصح؛ لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به، وكذلك النهي حرفا بحرف3، وهو المطلوب.
والثالث:
أن هذا لازم في أمر التعجيز، نحو {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]، وفي أمر التهديد نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وما أشبه ذلك؛ إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة.
فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه، ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله؛ إذ القصد إلى الأمر4 بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء، إلا على قول من يقول: إن الأمر إرادة الفعل، وهو رأي المعتزلة5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قال "مثله"؛ لأنه مما يطاق، غاية ما فيه أنه لا يصدر عن العقلاء وإن أمكن؛ إلا أنه يشارك الأول في أن كلا لا يصدر عن العاقل. "د".
2 عورض هذا بأنه لا يصدر عن العاقل أيضا طلب تكذيب نفسه المؤدي لإهلاك نفسه في تصوير هذا، مع أنهم اتفقوا جميعا على دلالة الأمر على الطلب، وأنه لا ينفك عنه، وإن اختلفوا في استلزامه الإرادة؛ فما هو جوابهم فهو جوابنا. "د".
3 أي: في الإشكالين جميعا. "د".
4 أي: الذي يستلزم قصد إيقاعه لا يستلزم إرادة حصوله، ولا يخفى عليك أن لفظ القصد هنا ليس هو محل القصد في موضوع المسألة؛ لأنه في موضوع المسألة واقع على المطلوب، لا على نفس الأمر؛ فلا يشتبه عليك، ولو حذفه؛ لكان أظهر، وقد سبق نظيره. "د".
5 يقولون: إن الإرادة تستلزم الأمر والرضا والمحبة. "د".(7/28)
ص -377-…وأما الأشاعرة؛ فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة، وإلا وقعت1 المأمورات كلها.
وأيضا، لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه؛ لم يكن تكليف ما لا يطاق لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم القصد إلى أن يفعل، فإذا عدم2 ذلك؛ فلا تكليف به؛ فهو طلب للتحصيل3 لا طلب للحصول، وبينهما فرق واضح.
وهكذا القول في جميع الأسئلة، فإن السيد إذا أمر عبده؛ فقد طلب منه أن يحصل4 ما أمر به، ولم يطلب حصول ما أمره به، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أو لم يقع ما يريده منها؛ فلم يقع مراد الله ووقع مراد عبده، ولا تخفى شناعته وإن التزمه المعتزلة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم"، وقال "د": "لعل الأصل: "عدم" بالدال؛ أي: فحيث كان تكليف ما لا يطاق هو إلزام المكلف به، وإلزام الفعل هو قصد أن يفعل، فحيث يعدم القصد؛ فلا تكليف، وهو خلاف الفرض".
3 وتكون فائدة التكليف ابتلاء الشخص واختباره بتوجهه لمبادئ الامتثال أو عدم توجهه، وكان حقه أن يذكر هذا؛ لأنه في الحقيقة هو الجواب عن لزوم العبث، وأما كون حصوله غير مقصود؛ فهو مما يقوي العبث لا أنه يزيله ويدفعه. "د".
4 لا يخفى عليك ضعف هذا الجواب لأنه لا يطلب تحصيله أيضا؛ لأن العاقل لا يطلب تحصيل ما فيه هلاكه بمقتضى تصويره المسألة؛ فالأحسن ما قالوه، وهو أن هذا صيغة أمر لا حقيقته كما في أمر التعجيز والإباحة، ثم وجدت الاعتراض مقررا في المسألة من جانب المعتزلة بأن العاقل لا يطلب ما فيه مضرته وتحقيق عقابه؛ فما يكون جواب أصحابنا عند تفسير الأمر بالطلب يكون جوابًا للمعتزلة عن تفسيره بالإرادة، وإن كانت الإرادة عندهم يلزم في تخلف مرادها شناعة، انظر تقريره في "الإحكام" للآمدي [2/ 119]. "د".(7/29)
ص -378-…وأما أمر التعجيز والتهديد؛ فليس في الحقيقة1 بأمر، وإن قيل: إنه أمر بالمجاز؛ فعلى ما تقدم2 إذ الأمر وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون3 أمرا، فيتصور4 وجه المجاز، وإلا؛ فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذلك أخرجوه من تعريف الأمر بظهور أن المراد بالأمر الصيغة مرادًا منها ما يتبادر عند الإطلاق، وهو الطلب. "د".
2 أي: يجري على ما تقدم من أن المقصود التحصيل لا الحصول، وكلامه صريح في أن فرض كونه مجازا لا يفيد بمجرده في دفع الإشكال؛ لأنه يستلزم أيضًا القصد الذي يكون به أمر... إلخ، وهذا إنما يظهر فيما لو جعلنا صيغة الخبر طلبًا ومجازًا؛ فيجيء فيه أنه لا بد من قصد إيقاع المطلوب، وموضوعنا بالعكس، وهو أن صيغة الأمر إذا أخرجت عما وضع له الأمر الحقيقي وهو الطلب رأسًا إلى معنى آخر كالإباحة والتهديد والتعجيز والتسخير... إلخ؛ فليس هنا طلب يحتاج إلى قصد إيقاع المطلوب؛ فعليك بالتأمل. "د".
3 في "ط": "يكون به".
4 لا يتوقف وجه المجاز على هذا، راجع ما في الإسنوي في هذا المقام؛ فقد ذكر فيه القرائن والعلاقات بين معنى الأمر الموضوع له وبين المعاني الأخرى التي استعمل فيها لفظه. "د".(7/30)
ص -379-…المسألة الثالثة:
الأمر بالمطلق1 لا يستلزم الأمر بالمقيد، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرًا بالمطلق، وقد فرضناه كذلك، هذا خلف، فإنه إذا قال الشارع: "أعتق رقبة"؛ فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين، فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه: أعتق الرقبة المعينة الفلانية؛ فلا يكون أمرًا بمطلق ألبتة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غير المقيد بقيد خاص اختلفوا فيه، قال في "الإحكام" "2/ 269": "قال أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة، ولا تعلق له بشيء من جزئياتها، [وذلك] كالأمر بالبيع؛ فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل؛ إذ هما متفقان في مسمى البيع، ومختلفان بصفتهما، والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك، وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين؛ فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص؛ إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد المعنيين"، ثم قال "2/ 270": "وهو غير صحيح؛ لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان، وإلا كان موجودا في جزئياته، ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك، وهو محال، وعلى هذا؛ فليس معنى اشتراك الجزيئات في المعني الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية، بل إن تصور وجوده؛ فليس في غير الأذهان"، ثم قال: "وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب، وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه؛ فلا يكون متصورا في نفس الطالب، فلا يكون أمرا به، ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق، ومن أُمر بالفعل مطلقًا لا يقال: إنه مكلف بما لا يطاق، فإذًا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان، لا بالمعنى الكلي" ا. هـ.(7/31)
قال "د": "أما المؤلف؛ فله رأي آخر غير هذين الرأيين؛ كما سيتبين لك عند الجواب عن الإشكال الأول".
قلت: قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "16/ 79" أنه "ليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم آخر إليه"، وهذا وما قاله المصنف مسلك حسن؛ فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، وانظر: "المسودة" "ص149"، و"المحصول" "2/ 254".(7/32)
ص -380-…والثاني:
أن الأمر من باب الثبوت، وثبوت الأعم لا يستلزم [ثبوت]1 الأخص؛ فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص، وهذا على اصطلاح بعض2 الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية.
والثالث:
أنه لو كان أمرًا بالمقيد؛ فإما أن يكون معينًا أو غير3 معين، فإن كان معينًا4؛ لزم تكليف ما لا يطاق وقوعًا؛ فإنه لم يعين في النص، وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور، وهذا محال5، وإن كان غير معين؛ فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا لأنه أمر بمجهول، والمجهول لا يتحصل به امتثال؛ فالتكليف به محال، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد؛ لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد6؛ فلا يكون مقصودًا له لأنا قد فرضناه أن قصده إيقاع المطلق، فلو كان له قصد في إيقاع المقيد؛ لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 سيأتي له في الجواب أن المعتبر عند العرب غير ذلك، وهو ما يريد حمل الكلام عليه بعد، يعني: فهذا الدليل مبني على هذا الاصطلاح الذي لم يكن يبن كلامه عليه، وهو يضعف هذا الدليل. "د".
3 لا يلزم من كونه مقيدا بقيد مخصوص أن يكون معينا؛ لأن التعيين إنما يكون بتشخصه تشخصا تامًا لا اشتراك فيه، ومجرد التقييد بقيد مخصوص كتقييد البيع بثمن المثل لا يفيد هذا التشخص؛ فصح كلامه، ولا يقال: كيف يكون الفرض أنه أمر بمقيد، ويشقق فيه بين كونه معينا وغير معين؟ "د".
4 وهو جزئي من جزئيات لا تتناهى، ولم يعينه الشارع بنص؛ فالتكليف به حينئذ تكليف بما ليس في وسع المكلف الوصول إلى ما يعينه ويحدده ليمتثل بفعله. "د".(7/33)
5 أي: محال أن يقع الشيء الواحد المعين من كل واحد من المأمورين؛ لأن الجزئي الذي يفعله زيد غير الذي يقوم به عمرو، وهكذا، ويكون التكليف به تكليفا بمحال، وإنما يلزم أن يكون هذا المعين بالنسبة إلى كل المأمورين لأنه المطلوب الموجه إلى سائرهم بلفظ واحد مطلق أريد منه هذا المعين كما هو الفرض. "د".
6 أما من حيث إنه فرد تحقق فيه المطلق المقصود إيقاعه فيتعلق به القصد. "د".(7/34)
ص -381-…قصده إيقاع المطلق، هذا خلف لا يمكن.
فإن قيل: هذا معارض بأمرين:
أحدهما1:
أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد؛ لكان التكليف به محالًا أيضًا لأن المطلق لا يوجد في الخارج، وإنما موجود في الذهن، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج؛ إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج، وإذ ذاك يصير مقيدًا [لا مطلقًا]2؛ فلا يكون بإيقاعه ممتثلًا، والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج؛ فيكون3 التكليف به تكليفًا بما لا يطاق، وهو ممتنع؛ فلا بد أن يكون الأمر به مستلزمًا للأمر بالمقيد، وحينئذ يمكن الامتثال؛ فوجب المصير إليه، بل القول4 به.
والثاني:
أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم5 يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف؛ لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساوٍ، فكأن يكون الثواب على تساوٍ أيضًا، وليس كذلك، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق؛ فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الرقاب؛ فقال: "أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها"6،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الاعتراض هو بعينه دليل الآمدي على عدم صحة رأس المسألة هنا كما نقلناه لك، وقد ترك اللازم الأول في كلامه، واكتفى بلزوم التكليف بما لا يطاق. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا يكون"، ولذا كتب "د": "لا يستقيم المعنى إلا بحذف كلمة "لا".
قلت: سبقة "ف"؛ فقال: "لعله: فيكون، تأمل" ا. هـ.
4 في "ط": "إليه، والقول".
5 في "ط": "يقصد بالأمر لم...".
6 أخرجه البخاري في الصحيح "كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل، 5/ 148/ رقم 2518"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 84" عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.(7/35)
ص -382-…وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا1، وبإكمال الصلاة وغيرها2 من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل وأكثر ثوابًا من غيره، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبًا للتفاوت في الدرجات؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع وإن حصل الأمر بالمطلقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدل عليه فعله صلى الله عليه وسلم مما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا/ رقم 2796"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، 4/ 85/ رقم 1496"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا"، باب الكبش، 7/ 221"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يستحب من الأضاحي/ رقم 3128"، والحاكم في المستدرك "4/ 228" عن ابن سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويشرب في سواد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
و "الأقرن": ذو القرنين، و"الفحيل": الكريم المختار للفحلة، ويقال: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم الخلقة، و"يأكل في سواد..." أراد أن فمه وما أحاط بملاحظ عينه من وجهه وأرجله أسود، وسائر بدنه أبيض.
والأقرب إلى لفظ المصنف ما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 424"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 231"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 69/ رقم 1384"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 268" عن أبي الأسد -بالسين، وقيل بالشين المعجمة- السلمي عن أبيه عن جده؛ قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر فجمع كل رجل منا درهمًا، فاشترينا أضحية بسبعة رداهم؛ فقلنا: يا رسول الله! لقد أغلينا بها. قال: "إن أفضل الضحايا أغلاها ثمنًا وأنفسها".(7/36)
وإسناده ضعيف، أبو الأسد -أو الأشد- مجهول، وكذا أبوه، وقيل: إن جده عمرو بن عبس، وفيه أيضًا عثمان بن زفر الجهني، وهو مجهول أيضا؛ كما في "التقريب"، وممن أشار إلى ضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 21"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1678".
2 وهذه كانت صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، أخرجه البخاري، ومضى تخريجه.(7/37)
ص -383-…فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني، بل معناه التكليف بفرد1 من الأفراد الموجودة في الخارج، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقًا لمعنى اللفظ، [بحيث]2 لو أطلق عليه اللفظ صدق وهو الاسم النكرة عند العرب، فإذا قال: "أعتق رقبة"3؛ فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها4 لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس، هذا هو الذي تعرفه العرب، والحاصل أن الأمر به أمر بواحد مما5 في الخارج، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية.
وعن الثاني أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع؛ إما أن يكون القصد إليه مفهومًا من نفس الأمر بالمطلق أو من دليل خارجي، والأول ممنوع؛ لما تقدم من الأدلة، ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وبهذا يكون قد قال في المسألة قولًا وسطًا؛ فالأمر عنده ليس متوجهًا إلى الماهية الذهنية لما ورد عليه من إشكالات، ولا إلى المقيد لما ورد عليه من إشكالات، بل إلى فرد من الأفراد الخارجية التي يصدق عليها معنى اللفظ، وللمكلف اختياره في أحدها، ويؤول هذا إلى أن المكلف به الماهية المتحققة في فرد ما مما تصدق عليه تلك الماهية؛ فلا ترد الإشكالات التي تقدمت في هذه المسألة وفي المسألة الرابعة من كتاب الأدلة، وقد عرفت فيما نقلناه عن الآمدي أن هذه المسألة كما هي من مسائل الأصول المدونة، وقد خالف المؤلِّف في البحث عن هذه المسألة طريقته في هذا المؤلَّف؛ ليفيد أن له اختيارًا خاصًا يخلص من الإشكالات فيها. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(7/38)
3 أي معناه: وإلا؛ فلفظ الرقبة لا صدق له، وإذا كان الصادق هو معناه وصدقه حملة عليه حمل الكلي على جزئيه قطعًا؛ رجعنا إلى أن التكليف بماهية المطلق المتحققة في فرد ما من أفرادها، وهذا هو المعنى الذي جرى عليه سابقًا في المسألة الرابعة. "د".
4 في "ط": "فكأنها".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "كما"، وكتب "د": "لعل الأصل: مما في الخارج".(7/39)
ص -384-…[المطلق]1، وهذا صحيح، والثاني مسلم؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي؛ كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها2، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك3، وكذا سائر المسائل؛ فمن هنالك كان مقصودًا للشارع4، ولذلك كان ندبًا لا وجوبًا وإن كان الأصل واجبًا لأنه زاد على مفهومه؛ فإذًا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد، وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق، بل [بدليل من]5 خارج؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد.
بخلاف الواجب المخير؛ فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن، فإذا أعتق المكلف رقبة، أو ضحى بأضحية، أو صلى صلاة ومثلها موافق للمطلق؛ فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق؛ إلا أن يكون ثَمّ فضل زائد، فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي، وهو مطلق أيضًا، وإذا كفر بعتق؛ فله أجر العتق، أو أطعم فأجر الإطعام، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل، لا لأن6 له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [به]7؛ فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره، وعدم تعيينه في المطلقات8 يقتضي عدم قصده إلى ذلك.
وقد اندرج هنا أصل آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 مضى ما يدل عليه "ص381".
3 مضى ما يدل عليه "ص382".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مقصود الشارع".
5 كذا في "ط"، وبدل ما بين المعقوفتين في غيره: "من دليل".
6 في "ط": "لا أن له"، وقال "د": "لعله: "لا أن له"، ويكون محصل الفرق أن ثواب الزائد من دليل خارجي المطلق، ومن نفس دليل الواجب في المخير".
7 زيادة من "م"، وسقطت من الأصل و"ف" و"د" و"ط".
8 في "م": "المطلق".(7/40)
ص -385-…المسألة الرابعة:
وترجمتها أن الأمر بالمخير1 يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها.
المسألة الخامسة:
المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما: ما كان شاهد الطبع خادما له ومعينا على مقتضاه2، بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب؛ كالأكل، والشرب، والوقاع، والبعد3 عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها، أو كانت العادة الجارية من العقلاء4 في محاسن الشيم ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي؛ كستر العورة5، والحفظ6 على النساء والحرم7، وما أشبه ذلك، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزًا من الزنى ونحوه8 مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "المخير".
2 لفظ: "مقتضى" مقتحم، والأصل: "معينًا عليه"؛ كما يدل عليه قوله: "باعثًا على مقتضى الطلب" الذي هو المطلوب. "د".
3 جعله فيما يأتي مما يقتضيه الوازع الطبيعي والمحاسن العادية معًا، وهو ظاهر في الأكل والتضمخ كما هنا، أما مجرد إصابة الثوب بمثل البول؛ فإنه يظهر رجوعه لمحاسن العادات" "د".
4 في "ط": "بين العقلاء".
5 في الأصل و"ط": "منازع طبعي؛ كستر العورات".
6 جعله من مقتضى عادة العقلاء في محاسن الشيم، وقد يتوقف فيه ويجعل من دواعي الطبع المحافظة على النساء والحرم والأولاد، بل ربما يقال: إنه طبع في الحيوان كله، وما يرى في بعض أفراد الإنسان من ضعف الغيرة؛ فذلك لعوارض، ونقول: إنه ضعف فقط لا تجرد منها. "د".
7 حرم الرجل عياله ونساؤه وما يحمي ويقاتل عنه. "ف".
8 من أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والربا... إلخ؛ فإن محاسن الشيم وإن كانت تقتضي عدم السرقة والتعدي على الغير في نفسه وماله وعرضه؛ إلا أن هناك منازعًا من الطبع يطلب الدخول في هذه الأشياء طلبًا لما يراه مصلحة له؛ فشدد فيها النهي. "د".(7/41)
ص -386-…يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب.
والثاني: ما لم يكن كذلك؛ كالعبادات من الطهارات، والصلوات، والصيام، والحج، وسائر المعاملات1 المراعى فيها العدل الشرعي، والجنايات2، والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة، وما أشبه ذلك.
فأما الضرب الأول؛ فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية3 والعادات الجارية؛ فلا يتأكد الطلب تأكد غيره، حوالة على الوازع الباعث على4 الموافقة دون المخالفة وإن كان في نفس الأمر متأكدًا، ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء5 الأخروي؟
ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن، أو مندوب إليها، أو مباحات على الجملة، مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة؛ لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى، كما جاء في قاتل6 نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن قواعد المعاملات التي سنها الشارع ليتعامل على مقتضاها الخلق لا يقال فيها: اقتضاه الطبع ولا محاسن العادات من العقلاء، بل هي تشريع موازين في المعاملات، علم الله سبحانه أنها تحقق العدل بين الخلق، وتمنع الجور والغبن، وتحسم مادة الخصومات والمنازعات بينهم؛ لأنهم يجدون في هذه القواعد حكمًا يحتكمون إليه في جميع مرافقهم ومعاوضاتهم. "د".
2 هذا مما احترز عنه بقيد عدم المنازع الطبيعي. "د".
3 في "ط": "بمقتضى الحيلة الطبعية".
4 هكذا في "د" و"ط" و"م"، وفي الأصل: "من"، وفي "ف": "عن"، وقال: "الأنسب على الموافقة".
5 أي: على المخالفة. "د".
6 كذا في "د"، وفي الأصل و"ف" و"ط" و"م": "قتل"، قال "ف": "لعله فيمن قتل".
7 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به =(7/42)
ص -387-…وجاء في مذهب مالك1 أن من صلى بنجاسة ناسيًا؛ فلا إعادة عليه إلا استحسانًا، ومن صلى بها عامدًا أعاد أبدًا من حيث خالف الأمر الحتم؛ فأوقع على إزالة النجاسة لفظ: "السنة" اعتمادًا على الوازع الطبيعي2 والمحاسن العادية، فإذا خالف3 ذلك عمدًا رجع إلى الأصل4 من الطلب الجزم؛ فأمر بالإعادة أبدًا.
وأبين من هذا أنه لم يأتِ نص جازم في طلب الأكل والشرب، واللباس الواقي من الحر والبرد، والنكاح الذي به بقاء النسل، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر5 وأبيح له المحرم، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وما يخاف منه والخبيث، 10/ 247/ رقم 5778"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 103/ رقم 109" عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من حلف بملة سوى الإسلام، 11/ 537/ رقم 6652"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 104/ رقم 110" عن ثابت بن الضحاك مرفوعًا، وذكر حديثًا في آخره: "ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة".
قال "ف": "فويل لمن يحمله ضعف الدين والهمة على ارتكاب رذيلة الانتحار الفاشية في هذا العصر".
1 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 22"، و"عقد الجواهر الثمينة" "1/ 18-19".
2 في "ط": الطبعي.
3 في "ط": "وخولف".
4 أي: مقصود الشارع في الواقع ونفس الأمر، وإن لم يوجه فيه الخطاب الجزم اعتمادًا على الباعث النفسي عند المكلف. "د".(7/43)
5 بخطاب النهي عن الضد: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} كما هو أحد التفاسير في الآية، وقوله: "وأبيح له المحرم" كأكل الميتة. "د".(7/44)
ص -388-…وأما الضرب الثاني؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات؛ إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه وينازعه؛ كالعبادات لأنها مجرد تكليف.
وكما يكون ذلك1 في الطلب الأمري كذلك يكون في النهي؛ فإن المنهيات على الضربين؛ فالأول كتحريم الخبائث، وكشف العورات، وتناول السموم، واقتحام المهالك وأشباهها، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة، ولا باعث طبعي؛ كالملك الكذاب، والشيخ الزاني، والعائل المستكبر2، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ومحاسن العادات؛ فلا تدعو إليه شهوة، ولا يميل إليه عقل سليم؛ فهذا الضرب لم يؤكد بحد3 معلوم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التقسيم إلى الضربين، وقوله: "كتحريم الخبائث... إلخ"، ذكر فيه أمثلة لصنفي الضرب الأول، ثم أجرى حكم الضرب الأول الأمري على هذا؛ فقال: "فهذا الضرب... إلخ"؛ إلا أنه أغفل الضرب الثاني من المنهيات، فلم يمثل له ولم يذكر حكمه كما فعل في الأوامر. "د".
2 ستأتي الإشارة إلى الحديث الوارد في ذلك قريبًا، قال "ف": "والعائل: الفقير".(7/45)
3 أي: بعدد كذبات الملك، وزنيات الشيخ، وكيفية استكبار العائل، وقوله: "ولا وضعت له عقوبة معينة"؛ أي: باعتبار هذه الأوصاف زيادة عن حد الزنا مثلًا ممن كان غير شيخ، وقد يقال: إن هذا جارٍ أيضًا في الكذب والاستكبار لشهوة، فإن لم يوضع لهما حد معلوم عددًا ولا كيفية ولا وضعت لهما عقوبة دنيوية خاصة؛ فالمثال ظاهر الأثر في الزنا لا فيهما، ومما هو داخل في اقتحام المحرمات لغير شهوة ما تواتر عن أمة الترك في هذه الأيام أنهم يتهافتون على أكل لحم الخنزير لا لشعوة، ولكن ليفهموا رئيس حكومتهم المدعو مصطفى كمال كما أنهم شديدو الامتثال له في اطراح الأوامر الإسلامية، وأنهم صاروا إلى الفرنجة في كل شيء، أما أنه ليس لشهوة؛ فظاهر من أن القوم لم يألفوه، بل كانوا يستقذرونه إلى سنة واحدة مضت، وهم يقلدون في هذا شر تقليد؛ لأنهم لا يعرفون أن لحم الخنزير لا يأكله الفرنجة إلا بعد مباحث خاصة ليتحققوا من سلامته من الجراثيم القتالة التي يصاب بها هذا الحيوان بالتوارث أو العدوى، وقد أعدوا لذلك آلات وعددًا بكتريولوجية كما شوهد في بلغاريا الألمانية، وهذا بالضرورة بعض أسباب منع أكله في الدين الإسلامي. "د".(7/46)
ص -389-…الغالب، ولا وضعت له عقوبة معينة، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا1 يكون الطبع خادمًا لها؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفًا لوازع الطبع ومقتضى العادة، [زيادة]2 إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع، أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي، المعاند فيها، بل هو هو؛ فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظًا عاجلًا، ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة، ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة: "الشيخ الزاني وأخويه"3 ما جاء، وكذلك فيمن قتل نفسه.
بخلاف العاصي بسبب شهوة عنّت، وطبع غلب، ناسيًا لمقتضى الأمر، ومغلقًا عنه باب العلم بمآل المعصية، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الآية: [النساء: 17].
أما الذي ليس له داعٍ إليها، ولا باعث عليها؛ فهو في حكم المعاند المجاهر4، فصار هاتكًا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب؛ فكان الأمر فيه أشد، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما ينتظم المعنى على حذف "لا" كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، 1/ 102-103/ رقم 107" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر".
4 في "ط": "بالمجاهرة".(7/47)
5 ومن غير الغالب الغصب؛ فهو مما يقتضيه الطبع، ولم يجعل له حد مخصوص ولا عقوبة بدنية خاصة لمكان التحرز منه وسهولة تخليص المغصوب بالترافع للحاكم، والغاصب غالبًا يدعي الحق في المغصوب؛ فلم يبقَ إلا إثبات الحق لصاحبه بالترافع، وإنما ورد فيه الخبر ببيان من الجزاء الأخروي؛ كحديث: "من غصب قيد شبر طوقه من سبع أرضين"* وأمثاله، مع الزجر والأدب في الدنيا بما يراه الحاكم. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، 6/ 292/ رقم 3195، وكتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، 5/ 103/ رقم 2453"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، 3/ 1231-1232/ رقم 1612" بنحوه.(7/48)
ص -390-…حدود وعقوبات مرتبة، إبلاغًا في الزجر عما تقتضيه الطباع، بخلاف ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعًا عنه؛ فإنه لم يجعل له حد محدود.
فصل
هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل؛ فوقع التنبيه عليه لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتا إليه، فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه1 فيما يفهم من مجاريها؛ فيقع الشك في كونها من الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع.
وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك؛ فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات، وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعًا، وربما وجد الأمر بالعكس2 من هذا؛ فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو التنزيه".
2 فستر العورة في الصلاة واجب ولو في خلوة*، وهو من محاسن العادات ومكارم الأخلاق، أما سترها عن غير الزوج والزوجة، فهو مكمل للضروري لأنها تثير الشهوة، فكشفها ذريعة للزنا الداخل تحريمه في قسم الضروريات. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا قال النووي في "شرح مسلم" "4/ 32"، ونازع في ذلك ابن القطان في "أحكام النظر" "ص112".(7/49)
ص -391-…على بالٍ؛ إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم، والقاعدة التي لا تنخرم، فكل أحد وما رأى، والله المستعان.
وقد تقدم التنبيه على شيء منه في كتاب1 المقاصد، وهو مقيد بما تقيد به هنا أيضا، [والله أعلم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثالثة من النوع الرابع. "2/ 305".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(7/50)
ص -392-…المسألة السادسة:
كل خصلة أمر بها أو نهي عنها مطلقًا من غير تحديد ولا تقدير؛ فليس الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها؛ كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو من الأخلاق، والإعراض عن الجاهل، والصبر، والشكر، ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء، والاقتصاد في الإنفاق والإمساك، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف، والرجاء، والانقطاع إلى الله، والتوفية في الكيل والميزان، واتباع الصراط المستقيم، والذكر لله، وعمل الصالحات، والاستقامة، والاستجابة لله، والخشية، والصفح، وخفض الجناح للمؤمنين والدعاء إلى سبيل الله، والدعاء للمؤمنين، والإخلاص، والتفويض، والإعراض عن اللغو، وحفظ الأمانة، وقيام الليل، والدعاء والتضرع، والتوكل، والزهد في الدنيا، وابتغاء الآخرة، والإنابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتقوى، والتواضع، والافتقار إلى الله، والتزكية1، والحكم بالحق، واتباع الأحسن، والتوبة، والإشفاق، والقيام بالشهادة، والاستعاذة عند نزغ الشيطان، والتبتل2، وهجر الجاهلين، وتعظيم الله، والتذكر، والتحدث بالنعم، وتلاوة القرآن، والتعاون على الحق، والرهبة، والرغبة، وكذلك الصدق، والمراقبة، وقول المعروف، والمسارعة إلى الخيرات، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع، والتسليم لأمر الله، والتثبت في الأمور، والصمت، والاعتصام بالله، وإصلاح ذات البين، والإخبات3 والمحبة لله، والشدة على الكفار، والرحمة للمؤمنين، والصدقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 للنفس بمعنى التطهير لها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، وهي غير التزكية الآتية في المنهيات التي بمعنى الثناء عليها، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}. "د".
2 التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى والإخلاص إليه. "ف".
3 الخشوع. "د".(7/51)
ص -393-…هذا كله في المأمورات1. وأما المنهيات؛ فكالظلم2، والفحش، وأكل مال اليتيم، واتباع السبل المضلة، والإسراف، والإقتار، والإثم3، الغفلة، والاستكبار، والرضى بالدنيا من الآخرة، والأمن من مكر الله، والتفرق في الآهواء4 شيعًا، والبغي واليأس من روح الله، وكفر النعمة، والفرح بالدنيا، والفخر بها، والحب لها، ونقص المكيال والميزان، والإفساد في الأرض، واتباع الآباء من غير نظر، والطغيان، والركون للظالمين، والإعراض عن الذكرى5، ونقض العهد، والمنكر، وعقوق الوالدين، والتبذير6، واتباع الظنون، والمشي في الأرض مرحًا، وطاعة من اتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كانت هذه المأمورات يدخل بعضها في البعض الآخر، وبعضها لازم لبعض آخر؛ إلا أنه أراد أن يذكر الخصال حسبما وردت بها الأوامر، وهذه كلها واردة في الكتاب والسنة، وكذا يقال في المنهيات. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فالظلم".
3 الذنب مطلقًا. "د".
4 سواء أكانت دينية أم غير دينية، مما يؤدي إلى التفرق واختلاف الكلمة؛ فيغاير اتباع السبل المضلة لأنه خاص بالدين، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [الأنعام: 153]، ولا يلزم في تحققه التفرق شيعًا. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "الذكر".(7/52)
6 انظر: هل له معنى يغاير به الإسراف المتقدم ولو بالعموم والخصوص حتى لا يكون تكرارًا محضًا؟ نعم، إنهما وردا في القرآن: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 3]، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، ولكنه كان يحسن إذا أراد ذكرهما معًا لهذا الغرض أن يذكرهما متواليين، ومثله يقال في "المنكر" و"الإثم" و"الإجرام"؛ إذ الثلاثة بمعنى واحد وإن اختلفت بالاعتبار، وكذا ينظر في "الظن" الآتي مع "اتباع الظنون" هنا، وقد يقال: إن اتباع الظن في مقام البرهان والتعويل عليه حسبما أشير إليه في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] غير نفس الظن السيئ وإن لم يعول عليه صاحبه ولا بنى عليه حكمًا، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن} [الحجرات: 12]، وظاهر أيضًا أن اتباع الهوى يكون في الرأي والمذهب، وهو غير اتباع الشهوات والانقياد لحكم اللذائذ الحسية المنهي عنها. "د".(7/53)
ص -394-…هواه، والإشراك في العبادة، واتباع الشهوات، والصد عن سبيل الله، والإجرام، ولهو القلب، والعدوان، وشهادة الزور، والكذب، والغلو في الدين، والقنوط، والخيلاء، والاغترار بالدنيا، واتباع الهوى، والتكلف، والاستهزاء بآيات الله، والاستعجال1، وتزكية النفس، والنميمة، والشح، والهلع2، والدجر3، والمن، والبخل، والهمز واللمز، والسهو عن الصلاة، والرياء، ومنع المرافق، وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله، ولبس الحق بالباطل، وكتم العلم، وقساوة4 القلب، واتباع خطوات الشيطان، والإلقاء باليد إلى التهلكة، واتباع الصدقة بالمن والأذى، واتباع المتشابه، واتخاذ الكافرين أولياء، وحب الحمد بما لم يفعل، والحسد، والترفع عن حكم الله، والرضى بحكم الطاغوت، والوهن للأعداء والخيانة، ورمي البريء بالذنب وهو البهتان، ومشاقة الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي"، وفي رواية: "يستعجل"*، وفي الحديث: "الإناة من الله والعجلة من الشيطان"**. "د".
2 الهلع: أفحش الجزع، وقد ورد: "شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع"***. "د".
3 الدجر محركًا: الحيرة، وهي منهي عنها؛ لأنها لازمة لعدم الصبر والاعتماد على الله. "د". قلت: وفي "ط": "والزجر".
4 في "د": "وقسوة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 8/ 153"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، 2735" عن أبي هريرة مرفوعًا.
** أخرجه الترمذي "2012" عن سهل بن سعد وضعفه، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 346" لشيخنا الألباني حفظه الله تعالى.
*** أخرجه أبو داود "3511"، وابن حبان "808 – موارد"، وأحمد "2/ 302-303"، وأبو نعيم "9/ 50" عن أبي هريرة، وإسناده صحيح.(7/54)
ص -395-…والرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، والميل عن الصراط المستقيم، والجهر بالسوء من القول، والتعاون على الإثم والعدوان، والحكم بغير ما أنزل الله، والارتشاء على إبطال الأحكام، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، ونسيان الله، والنفاق، وعبادة الله على حرف، والظن، والتجسس، والغيبة، والحلف الكاذب1.
وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن2 على ضربين:
أحدهما:
أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء3، وعلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "الكاذبة".
2 أي: مثلًا، وإلا؛ ففي السنة كذلك. "ف".(7/55)
3 أي: من المناطات والأمور التي تتعلق بها، وقوله: "وعلى كل حال"؛ أي: لم يفرق في النص عليها بين حال المأمور والمنهي وحال آخر؛ فلم تبين النصوص حينئذ أنها تكون واجبة إذا كان كذا ومندوبة إذا كان كذا، ولا محرمة إذا كان كذا ومكروهة إذا كان كذا، بل تجيء في هذا الضرب مطلقة إطلاقًا تامًا بدون تفريق بين مراتبها الكثيرة وتفاصيلها المختلفة في قوة الطلب أو النهي حتى يصل إلى الوجوب أو التحريم، وقد يصل إلى الكفر أو عدم قوته؛ فلا يتجاوز المندوب أو المكروه، وهذا الضرب هو الغالب في غالب هذه الخصال من نوع الأوامر الذي ذكر فيه ثلاثًا وسبعين خصلة، وكذا من نوع النواهي الذي ذكر فيه إحدى وتسعين خصلة، ولا يقال: إن بعض المنهيات؛ كالإشراك في العبادة، والقنوط من رحمة الله، والاستهزاء بآيات الله، ونسيان الله وغيرها مما لا تتفاوت أفراده؛ لأن هذه درجة واحدة هي الكفر؛ لأنا نقول: بل هي متفاوتة أيضًا، ألا ترى في الإشراك حديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه"*؛ فهذا قد يكون رياء وهو نوع من الشرك، وكذا يقال: إن غفلة القلب عن تأدية أوامر الله نسيان لله وقد تعد استهزاء بآيات الله، فهما بذلك من المعاصي التي لا تبلغ درجة الكفر، وقد تقدم له في تفسير {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] أنها نزلت في مضارة الزوجة بالطلاق ثم الرجعة ثم الطلاق... إلخ، وهكذا لو تأملت الباقي؛ لوجدت الأمر على ما قرره. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مضى تخريجه "2/ 355، 3/ 10"، وهو صحيح.(7/56)
ص -396-…حال، لكن بحسب كل مقام، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع، لا على وزان واحد، ولا حكم واحد، ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف؛ فيزن بميزان نظره، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف، آخذًا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية؛ كالعدل، والإحسان، والوفاء بالعهد، وإنفاق عفو المال، وأشباه ذلك؛ ألا ترى إلى قوله في الحديث: "إن الله كتب الإحسان1 على كل شيء، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة" إلخ2.
فقول3 الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ليس الإحسان فيه مأمورًا به أمرًا جازمًا في كل شيء، ولا غير جازم في كل شيء، بل ينقسم بحسب المناطات؛ ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب، وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب؟
ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث، وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب، وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعًا إلى تتميم الأركان والشروط، وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأمور وغيرها؛ فلا يصح إذًا إطلاق القول في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] أنه أمر إيجاب أو أمر ندب؛ حتى يفصل الأمر فيه، وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة، وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدًا تارة أخرى، بحسب ظهور المعنى وخفائه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو فعل الحسن ضد القبيح. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955" عن شداد بن أوس مرفوعًا، وتتمته: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
3 أي: فيؤخذ من هذا الأصل هذا المعنى في الآية. "د".(7/57)
ص -397-…والضرب الثاني:
أن تأتي في أقصى مراتبها1، ولذلك تجد الوعيد مقرونًا بها في الغالب، وتجد المأمور به منها أوصافًا لمن مدح الله من المؤمنين، والمنهي عنها أوصافًا لمن ذم الله من الكافرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تارة تأتي الأوامر والنواهي مطلقة دون أن تقترن بعظيم الوعد ولا شديد الوعيد، وتارة يأتي الأمر بالخصلة في أفضل مرتبته من تأكيد أمره وتفخيم شأنه؛ حتى لا يسع المكلف التساهل فيه، سواء أكان أمرًا صريحًا أم في معنى الصريح؛ كما في قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] الآيتين، وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9، التغابن: 16] مع قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن: 17] الآية، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13 والفتح: 17] الآيتين، وكما في حديث: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حق الله فيها؛ إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت"* الحديث، وفي طلب الرفق بمخلوقات الله: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها"** الحديث، "الرحمة شجنة من الرحمن؛ من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله"***، وهكذا ما لا يحصى من الأوامر والنواهي لقوله تعالى: {لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه} الآية [يوسف: 87]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية، والمشاقة أن يكون المرء في شقٍ والشرع في شقٍ آخر؛ فهي المخالفة مطلقًا، ولكن في الآية جاءت على أقصى مرتبة كما يدل عليه الوعيد، ومنه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} الآية [آل عمران: 28]، والحديث: "لا تكذبوا علي؛ فإنه من كذب علي متعمدًا يلج النار"، وكأحاديث الرياء وما فيها من التشديد والتهويل في أمره.(7/58)
"د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة/ رقم 987".
** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، 6/ 515/ رقم 3482"، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242".
*** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من وصلها وصله الله، 10/ 417/ رقم 5988"، ومسلم في "صحيحه" كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، 4/ 1981/ رقم 2555".(7/59)
ص -398-…ويعين ذلك أيضًا أسباب التنزيل لمن استقرأها؛ فكان القرآن آتيًا1 بالغايات تنصيصًا عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهًا بها على ما هو دائر2 بين الطرفين، حتى يكون العقل3 ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع؛ فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين؛ كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم، أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود، تربية حكيم خبير.
وقد روي في هذا4 المعنى [عن أبي بكر الصديق] في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له: "ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ف": "آت"، قال "ف": "قوله الأنسب: آتيًا بالنصب خبر كان الناقصة ونصب قوله: ومنبه، بعده عطفًا عليه، ويبعد من جهة المعنى جعل كأن حرفًا للتشبيه، ويدل لذلك ما يأتي عند قوله، وأيضًا؛ فمن حيث كان القرآن آتيًا بالطرفين... إلخ".(7/60)
2 لا يقال: إنما يظهر ذلك إذا كانت الغايتان المذكورتان في الدليل الشرعي متعلقتين بخصلة واحدة، واقترن الأمر بها بالوعد العظيم، والنهي عن ضدها بالوعيد الشديد؛ فيكون لها طرف محمود، وطرف مذموم، وبينهما مراتب ينظر العقل في قربها وبعدها من الطرفين، وهذا غير مطرد في الأوامر والنواهي؛ لأنا نقول: بل الأمر كذلك لأنه بفرض أنه لم يرد في الخصلة الواحدة إلا الأمر؛ فالطرف الثاني المذموم وهو النهي وإن لم ينص عليه دليل خاص؛ فدليله هو نفس الأمر الذي يقتضي النهي عن ضده"، وكذا يقال في عكسه، على أن هذا ليس بلازم في معنى الطرفين هنا، بل المراد الطرف العام الذي يستوجب الرجاء بامتثال الأوامر التي فيها الوعد جملة، والطرف المقابل له وهو الطرف العام الذي يستوجب الخوف من غضب الله جملة، وإن كان ذلك في عدة خصال لا في خصلة واحدة ينظر بين طرفيها، وهذا المعنى الثاني هو المناسب؛ لما رواه في قصة أبي بكر، ولمساق الكلام الآتي إلى قوله: "فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضًا ويرجو". "د". وفي "ط": "ومنبه بها على...".
3 في "ف": "الفعل"، وحشى عليه بقوله: "صوابه العقل، بقاف معجمة قبلها عين مهملة".
4 في "ط": "من هذا".(7/61)
ص -399-…الشدة مع آية الرخاء؛ ليكون المؤمن راغبًا راهبًا؛ فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيده إلى التهلكة، أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم؛ لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخشى أن أكون منهم، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ، فإذا ذكرتهم؛ قلت: إني مقصر، أين عملي من أعمالهم؟"1، هذا ما نقل، وهو معنى2 ما تقدم.
فإن صح؛ فذاك، وإلا؛ فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء.
وقد روي: "أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم؛ لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فيقول القائل: أنا خير منهم؛ فيطمع، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ، فيقول قائل: من أين أدركُ درجتهم؟ فيجتهد"3. والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضًا يتنزل على المساق المذكور، فإذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص32-33" بإسناد ضعيف وفيه انقطاع أيضًا، أبو المليح الهذلي لا يعرف له سماع من أبي بكر ولا عمر، ورواه عنه عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطاب، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال: "يروي عن أبي المليح عجائب"، وقال النسائي: "متروك"، وقال دحيم: "ضعيف".
2 هو على هذه الرواية مال إلى الخوف عند ذكر أهل النار؛ لما ذكر أهل الجنة لم تسكن نفسه إلى الرجاء، بل ذكر تقصيره ليجتهد؛ فلم يرج، بل هو خائف في الحالتين، وليس دائرًا بين الأمرين الذي هو المعنى المتقدم، أما في الرواية بعد؛ فالمعنى فيها يوافق ما تقدم، والظاهر أن الرواية الأولى تبين حال أبي بكر نفسه، وهي غلبة الخوف عليه كما هو معروف عنه، والرواية الثانية يقولها على لسان غيره رضي الله عنه. "د".
3 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص34-35" بإسناد ضعيف منقطع، قتادة بن دعامة لم يدرك أبا بكر.(7/62)
ص -400-…كان الطرفان مذكورين؛ كان الخوف والرجاء جائلًا بين هاتين الأَخِيَّتين1 المنصوصتين، في محل مسكوت عنه لفظًا، منبه عليه تحت نظر العقل، ليأخذ كل على حسب اجتهاده ودقة نظره، ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر. وأيضًا؛ فمن حيث كان القرآن آتيًا بالطرفين الغائبين2 حسبما اقتضاه المساق؛ فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير؛ فكما يدل المساق على أن المراد أقصى3 المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق، كذلك قد يدل اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه، فيزن المؤمن أوصافه المحمودة؛ فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضًا ويرجو.
مثال ذلك أنه إذا نظر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان} [النحل: 90]؛ فوزن نفسه في ميزان العدل، عالمًا أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ثم شكره عليها، وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه، والخروج عن الكفر واطراح توابعه، فإن وجد نفسه متصفًا بذلك؛ فهو يرجو أن يكون من أهله، ويخاف أن لا يكون بلغ4 في هذا المدى غايته؛ لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة، فإن نظر بالتفصيل؛ فكذلك أيضًا، فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل؛ كالعدل بين الخلق إن كان حاكمًا والعدل في أهله وولده ونفسه؛ حتى العدل في البدء بالميامن5 في لباس النعل ونحوه، كما أن هذا جارٍ في ضده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تثنية الأخية بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الياء، وهي العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرض، وجمعها أخايا أو أخي مشددًا. "ف".
2 هكذا في الأصول، وفي "ط": "الغائلين"، قال "ف": "لعله الفائتين بدليل ما تقدم".
3 أي: كما في الضرب الثاني. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يبلغ".(7/63)
5 في "ف" في الموضعين: "بالميامن"، وعقب في الموضع الأول بقوله: "لعله بالمياسر، تأمل".(7/64)
ص -401-…وهو الظلم؛ فإن أعلاه الشرك بالله، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13].
ثم في التفاصيل أمور كثيرة، أدناها مثلا البدء بالمياسر1، وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها؛ فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك.
فلأجل هذا قيل: إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد بل منها ما يكون من الفرائض أو من2 النوافل في المأمورات ومنها ما يكون من المحرمات أومن المكروهات في المنهيات، لكنها3 وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور.
كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم، ويتحرجون عن أن يقولوا: حلال أو حرام، هكذا صراحًا، بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه: لا أحب هذا، وأكره هذا، ولم أكن لأفعل هذا، وما أشبهه4؛ لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها، غير محدودة في الشرع تحديدًا يوقف عنده لا يُتعدى، وقد قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].
وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة على الاستقراء المقطوع به فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} الآية: [الأنعام: 82]، فإنها لما نزلت قال الصحابة: وأينا لم يظلم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13].
وفي رواية: لما نزلت هذه الآية؛ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحاشية السابقة.
2 في "ط": "ومن".
3 في الأصل: "لأنها".
4 انظر: "إعلام الموقعين" "1/ 31 - وما بعده".(7/65)
ص -402-…وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بذلك، ألا تسمع1 إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13]!"2. وفي "الصحيح": "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"3.
فقال ابن عباس وابن عمر -وذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهمهما من هذا الحديث-: فضحك عليه الصلاة والسلام، فقال: "ما لكم ولهن؟ إنما خصصت بهن المنافقين، أما قولي: إذا حدث كذب؛ فذلك فيما أنزل الله علي: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} الآية: [المنافقين: 1]؛ أفأنتم كذلك؟". قلنا: لا. قال: "لا عليكم، أنتم من ذلك برآء، وأما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فتكون الآية من قبيل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}؛ فلا يقال: كيف يتأتى لبس الإيمان بالشرك ولا يوجد الإيمان معه؟! وفي قصة الصحابة في الآية والحديث الدلالة الواضحة على أن هذه المطلقات من النواهي غير الصريحة لم تحدد تحديدًا يوقف عنده؛ فهي في الآية والحديث في أعلى مراتب النهي، وقد فهم الصحابة أنها شاملة للمراتب الأخرى. "د".(7/66)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم، 1/ 87/ رقم 32، وكتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 389/ رقم 3360، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 6/ 465/ رقم 3428، 3429، وكتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم}، 8/ 294/ رقم 4629، وباب سورة لقمان، 8/ 513/ رقم 4776، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، 12/ 264/ رقم 6918، وباب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/ 114-115/ رقم 124" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 89/ رقم 23"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.(7/67)
ص -403-…قولي: إذا وعد أخلف؛ فذلك فيما أنزل [الله]1 علي: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنّ} الآيات الثلاث [التوبة: 75-78]؛ أفأنتم كذلك؟". قلنا: لا. قال: "لا عليكم، أنتم من ذلك برآء، وأما قولي: إذا ائتمن خان؛ فذلك فيما أنزل الله علي: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَال} الآية [الأحزاب: 72]؛ فكل إنسان مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية، ويصوم ويصلي في السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك؛ أفأنتم كذلك؟". قلنا: لا. قال: "لا عليكم، أنتم من ذلك برآء"2.
ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"م" و"ف" و"ط"، وسقطت من "د".
2 ذكره سهل بن عبد الله التستري في "تفسيره" "ص48-49" من غير إسناد، ولا إخاله يصح، ولم يذكره السيوطي في "الدر" في مواطن الآيات المذكورة.(7/68)
ص -404-…المسألة السابعة:
الأوامر والنواهي ضربان1 صريح، وغير صريح، فأما الصريح؛ فله نظران:
أحدهما:
من حيث مجرده لا يعتبر2 فيه علة مصلحية، وهذا3 نظر من يجري مع مجرد الصيغة4 مجرى التعبد المحض من غير تعليل؛ فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر، ولا بين نهي ونهي؛ كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مع قوله: "اكْلَفُوا من العمل ما لكم به طاقة"5.
وقوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الجمعة: 9] مع قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
وقوله: "ولا تصوموا يوم النحر"6 مثلًا مع قوله: "لا تواصلوا"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار الصيغة. "د".
2 أي: حتى يقال: إنه يفهم الغرض من الأمر والنهي بميزان تلك المصلحة. "د".
3 هذا طريق الظاهرية. "د".
4 في الأصل: "الصفة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 206/ رقم 1966"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 774-775/ رقم 1103" عن أبي هريرة، والمذكور بعض ألفاظ مسلم.
وقال "ف" و"م" في معنى "اكلفوا": "هو من كلفت بالأمر إذا أولعت به وأحببته".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر، 4/ 240/ رقم 1993"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799/ رقم 1138" عن أبي هريرة؛ قال: "ينهى عن صيامين وبيعتين: الفطر والنحر، والملامسة والمنابذة".
ونحوه في الصحيحين" عن أبي سعيد، وسيأتي "ص469". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 53" عن أبي سعيد، وفيه: "ولا تصوموا يوم الفطر ولا يوم الأضحى".
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "8/ 388" عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "لا تصوموا يومين: يوم الفطر، ويوم النحر".
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1961" عن أنس و"رقم 1963" عن أبي سعيد.(7/69)
ص -405-…وما أشبه ذلك مما يفهم1 فيه التفرقة بين الأمرين.
وهذا نحو ما في "الصحيح"؛ أنه عليه الصلاة والسلام خرج على أبي ابن كعب وهو يصلي؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبي!"؛ فالتفت إليه ولم يجبه، وصلى فخفف فخفف ثم انصرف؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبي! ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟". فقال: يا رسول الله! كنت أصلي. فقال: "أفلم تجد فيما أوحي إلي: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟". قال: بلى يا رسول الله، ولا أعود إن شاء الله.
وهو في البخاري2 عن أبي سعيد بن المعلى، وأنه صاحب القصة؛ فهذا منه عليه الصلاة والسلام إشارة3 إلى النظر لمجرد الأمر وإن كان ثم معارض.
وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فسمعه يقول: "اجلسوا". فجلس بباب المسجد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "تعال يا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمقتضى القرائن، وسيأتي في بيان النظر الثاني ما يتضح به تطبيق وجهة هذا النظر الأول على هذه الآيات والأحاديث التي مثل بها هنا. "د".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 قد يقال: إن الآية مخصصة لآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} التي أوجبت على المصلي ألا يتكلم؛ فالنبي صلى الله صلى الله عليه وسلم يرشده إلى التخصيص، وأنه تجب عليه الاستجابة للرسول -ولو في الصلاة- بمقتضى هذه الآية، على أي وجه نظر إلى الأمر؛ فلا دلالة فيه على غرض المؤلف. "د".(7/70)
ص -406-…عبد الله"1.
وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالطريق يقول: "اجلسوا". فجلس بالطريق، فمر به عليه الصلاة والسلام؛ فقال: "ما شأنك؟". فقال سمعتك تقول اجلسوا. فقال له: "زادك الله طاعة"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "2/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلد هو شيخ". قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء* عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد، وكان يدلس تدليس التسوية، وهشام بن عمار كان يتلقن".(7/71)
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 166/ 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة..."، ثم قال: "ذكره أبو داود في "كتاب الجمعة" من "السنن"؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك بل هو -عن أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثيرًا من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدًا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، كما في "كنز العمال" "رقم 37170، 37171" بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر: "مسند الحارث" "1015 - زوائده"، و"ذم الكلام" "279".(7/72)
ص -407-…وفي البخاري: قال عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب: "لا يُصَلِّ أحد العصر إلا في بني قريظة"1، فأدركهم وقت العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يُرِدْ منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعنف2 واحدة من الطائفتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
2 عدم التعنيف لا يدل على صواب النظرين؛ لأن المجتهد المخطئ مأجور، فضلًا عن كونه لا يعنف؛ فليس في الحديث ما يدل على غرض المؤلف من صحة النظر إلى مجرد الأمر، على أن المؤخرين للصلاة قد يكونون فهموا من النهي عن الصلاة أن هناك مصلحة دينية أو دنيوية علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يبادر لبيانها لهم؛ فلا يكونون قد استندوا لمجرد الأمر. "د".(7/73)
قلت: وسمعت شيخنا الألباني -حفظه الله- مرارًا يقول عن الصلاة في بني قريظة: إنها من قضايا الأعيان، ولن تتكرر، ولذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفريقين، مع أن أحد الفريقين مصيب لا كلاهما، قال حفظه الله في التعليق على حديث "رقم 1981" من "السلسة الضعيفة" ما نصه: "يحتج بعض الناس اليوم بهذا الحديث على الدعاة من السلفيين، وغيرهم، الذين يدعون إلى الرجوع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة، يحتج أولئك على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خلاف الصحابة في هذه القصة، وهي حجة داحضة واهية؛ لأنه ليس في الحديث إلا: "أنه لم يعنف واحدًا منهم"، وهذا يتفق تمامًا مع حديث الاجتهاد المعروف، وفيه أن من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؛ فكيف يعقل أن يعنف من قد أجر؟! وأما حمل الحديث على الإقرار للخلاف؛ فهو باطل لمخالفته للنصوص القاطعة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة =(7/74)
ص -408-…............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية.
وإن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يزعمون أنهم يدعون إلى الإسلام، فإذا دعوا إلى التحاكم إليه؛ فقالوا: قال عليه الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة"، وهو حديث ضعيف لا أصل له كما تقدم تحقيقه في أول هذه السلسلة، وهم يقرءون قول الله تعالى في المسلمين حقًا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ووجدت كلامًا جيدًا حول هذا الحديث للحافظ ابن كثير في كتابه "الفصول في اختصار سيرة الرسول" "ص152-153"، قال رحمه الله تعالى: "قال ابن حزم [في "جامع السيرة" "ص192"]: وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعلم الله لو كنا هناك لم نصلِّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام".(7/75)
قلت: أما ابن حزم؛ فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد؛ فكل منهما مصيب ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد -وهو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة- فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق وللفريق الآخر أجر؛ فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق؛ لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، وهي العصر على الصحيح المقطوع به -إن شاء الله- من بضعة عشر قولًا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها، فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا، كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضًا، كما جائ في حديث رواه النسائي [في "المجتبى" "1/ 297"، وفيه انقطاع عن ابن مسعود، ورواه عن أبي سعيد بإسناد صحيح؛ كما في "النيل" "2/ 32"] من طريقين؛ فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانًا، فقد تأسف على ذلك حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال: "والله ما صليتها"، وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيًا لها لما هو فيه من الشغل؛ كما جاء في "الصحيحين" عن علي رضي الله عنه؛ قال: =(7/76)
ص -409-…وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء؛ لمجرد قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9].
وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عامًا، وإن كان غيره أرجح منه، وله مجال في النظر منفسح؛ فمن وجوهه أن يقال: لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح، أولا، فإن لم نعتبرها؛ فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها، وإن اعتبرناها؛ فلم يحصل1 لنا من معقولها أمر يتحصل2 عندنا دون3 اعتبار الأوامر والنواهي؛ فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة؛ فنحن جاهلون بها على التفصيل فقد علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه4 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا".
والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة، وفهموا المعنى؛ فلهم الأجر مرتين، والآخرين حافظوا على أمره الخاص؛ فلهم الأجر رضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم". انتهى، وما بين المعقوفتين من إضافاتي، وانظر: "تفسير ابن كثير "3/ 486 - ط المعرفة"، و"مدارج السالكين" "1/ 386 - ط الفقي".
1 أي لم يتحقق عندنا فيما نعقله من أنواع المصلحة في المأمورات والمنهيات ما يصح أن نعتمده ونجري تفهم الأوامر على مقتضاه، مغفلين النظر إلى صريح الأمر أو النهي، وذلك لمعنيين: أحدهما أنا قد نعقل الحكمة في أمر كالزجر في رجم الزاني المحصن، ولكن لا نعقل لماذا تعين هذا طريقًا للزجر، مع أنه كان يمكن الزجر بضرب العنق أو الجلد حتى يموت مثلًا، وهكذا؛ فهذا المقدار من العلم الإجمالي بالمصلحة لا يصح أن يبنى عليه شيء قد يكون فيه إهدار الأمر والنهي، وسيأتي المعنى الثاني في قوله: "وكثيرًا مما يظهر... إلخ". "د".
2 أي: حتى يصح أن نفهم بواسطته تجديد المصلحة أو المفسدة التي يقصدها الشارع بالأمر أو النهي. "د".(7/77)
3 أي: بأن نجعل تلك المصلحة ميزانًا لتفهم الأمر والنهي، بحيث تجعل المصلحة هي الحاكمة في توجيه الأوامر والنواهي الشرعية، وإن أدت إلى عدم اعتبار معناها الأصلي، ويؤول هذا إلى اعتبار المصلحة دونهما. "د".
4 في "ط": "فكونه".(7/78)
ص -410-…المحصن الرجم، دون ضرب العنق، أو الجلد إلى الموت، أو إلى عدد معلوم، أو السجن، أو الصوم، أو بذل مال كالكفارات، وفي غير المحصن جلد مائة وتغريب عام دون رجم، أو القتل أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها، إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل.
هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك -ولا يمكن ذلك للعقول- دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في سائر ما يعقل معناه، أما التعبدات1؛ فهي أحرى بذلك، فلم يبق لنا إذًا وزر2 دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي.
وكثيرًا3 ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر أو النهي معنى مصلحي، ويكون4 في نفس الأمر بخلاف ذلك، يبينه نص آخر يعارضه؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى.
وأيضًا5؛ فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: التي مبناها على مجرد التلقي دون النظر إلى المعقول من المصالح والحكم. "د".
2 بفتحتين: الملجأ والمعتصم. "ف".
3 مقابل لقوله: "وإن علمناها على الجملة، فنحن جاهلون بها على التفصيل"؛ أي: قد نعلمها إجمالًا، وهذا هو المعنى الأول، وقد نفهم ببادئ النظر أنا عرفناها ثم يتبين أنها غير ما فهمناه، بسبب وقوفنا على نص آخر، أو بسبب اكتشاف قاعدة من أحكام الكون نفهم بها مصلحة للحكم الشرعي غير ما كنا نفهمها، يعني: وإذا لم نتحقق تعيين الحكمة للأمر؛ فلا يمكننا الخروج عما تقتضيه الصيغ بحسب ظاهرها. "د".
4 في "ط": "فيكون".
5 انظر: هل يستقل هذا بأن يكون وجهًا ثالثًا مغايرًا لما سبق، بحيث لا يستغنى عنه بقوله: "أما التعبدات.... إلخ؟ وإن كان في هذا لاحظ التعبد في الجميع. "د".(7/79)
ص -411-…تعبدي، وإذا ثبت هذا؛ لم يكن لإهماله سبيل؛ فكل معنى يؤدي إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه، فإذًا المعنى1 المفهوم للأمر والنهي إن كرّ عليه بالإهمال؛ فلا سبيل إليه، وإلا؛ فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه؛ فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي، وهو المطلوب.
ولا يقال: إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة؛ كما في قول2 القائل: لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان، فإن كان قد بال في إناء ثم صبه في الماء؛ جاز الوضوء به.
لأنا نقول: هذا أيضًا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ، كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: "في أربعين شاةً شاةٌ"3: إن المعنى قيمة شاة؛ لأن المقصود سد الخلة، وذلك حاصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الحكمة المعقولة للأمر والنهي إذا كانت تعارضهما وتؤدي إلى إهمالهما وإبطال مقتضاهما؛ فلا سبيل للأخذ بهذه الحكمة والبناء عليها، وسيأتي تمثيله بالشاة في الزكاة، وإن كانت لا تعارضهما، فمن باب أولى أن العمل إنما هو بمقتضاهما؛ فالمآل أنهما المرجع ومبنى الأحكام دون المعنى المصلحي، حتى على اعتبار المصالح. "د".
2 قال الفقهاء: لا فرق بين أن يقع البول في الماء مباشرة أو في إناء ثم يصب فيه، خلافًا للظاهرية وقوفًا منهم عند حرفية الدليل في حديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ منه"، أو: "يغتسل منه"، أو: "فيه"* على الروايات الثلاث، حتى فرقوا بين البول فيه والتغوط فيه؛ فحرموا الأول دون الثاني، قال النووي: "وهو أقبح ما نقل عنهم من الجمود على الظاهر"؛ فقولهم بهذا الفرق إعراض منهم عن مقاصد الشرع الظاهرة. "د".(7/80)
3 أخرج البخاري في "صحيحة" "كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، 4/ 317/ رقم 1454" ضمن حديث طويل فيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر لتخريجه "نصب الراية" "1/ 101، 112".(7/81)
ص -412-…بقيمة الشاة؛ فجعل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة، وهو عين المخالفة، وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني.
وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ؛ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع، ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر.
والثاني من النظرين: هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء1، وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(7/82)
1 أي: استقراء ما ورد في الكتاب والسنة من الأوامر أو النواهي في خصوص هذه المأمورات أو المنهيات؛ فإن تنوع الصيغ في مختلف التراكيب مع الالتفات للقرائن المحتفة بها يدل على عين المصلحة المقصود للشارع تحصيلها، وفيه إشارة إلى دفع ما سبق من أنه لا يمكن تحديد المصلحة وتعيينها؛ فيقول هنا: إن ذلك ممكن باستقراء موارد هذه الأوامر وبالقرائن، وحينذاك تعرف المصلحة عينًا، ويصح أن يبنى عليها فهم الغرض من الأمر والنهي كما سيمثل له، أما مثاله هناك في حد الزنا؛ فيمكن أن يقال: نحن لا ندعي أن كل أمر يفهم منه قصد الشارع في المصلحة قصدًا محدودًا معينًا بمعرفة حكمته وسره، بل نقول: إذا دل الاستقراء على مقصود الشارع محدودا معينا، وإن لم تعرف الحكمة الخاصة؛ عول على المقصد وإن لزمه تأويل لفظ الأمر واستعماله في معنى مجازي، وإن لم نتحقق بالاستقراء والقرائن مقصوده كذلك؛ كان مما يحب فيه الوقوف عند الأمر والنهي حسب وضعه الأصلي، وكما أن فيه دفع الشق الأول وهو عدم تعيين المصلحة وتحديدها، فإن فيه دفع الشق الثاني السالف، وهو قوله: "وكثيرًا ما يظهر ببادئ الرأي... إلخ؛ فكأنه يقول له: وما لنا ببادئ الرأي وأوله؟ إنما نقول بحسب الاستقراء وتتبع القرائن، فإذا كان كذلك؛ فإنه لا يتبين بنص آخر خلاف المعنى المصلحي الذي يبنى عليه فهم الأمر على حقيقته، على فرض توقف فهم قصد الشارع من الأمر على العلم بالمعنى المصلحي تفصيلًا. "د".(7/83)
ص -413-…أعيان المصالح في المأمورات، والمفاسد في المنهيات1؛ فإن المفهوم من قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاة} المحافظة عليها والإدامة2 لها، ومن قوله: "اكلفوا من العمل ما لكم له طاقة"3 الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع، لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة، أو ترك الدوام على التوجه لله.
وكذلك قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الجمعة: 9] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها، لا الأمر بالسعي إليها فقط.
وقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] جارٍ مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي، لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقًا4 في ذلك الوقت، على حد النهي عن بيع الغرر5، أو بيع الربا، أو نحوهما6.
وكذلك إذا قال: "لا تصوموا يوم النحر"7 المفهوم مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصًا، ومن قوله: "لا تواصلوا"8، أو قوله: "لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" 25/ 282-283 و29/281-292".
2 وهذا فُهِم بتتبع الأوامر الواردة في المحافظة على الصلاة، ومن القرائن المحتفة بهذه الأوامر وهي فعله صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته في إقامه الصلاة مع القرائن المقالية؛ كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات} [البقرة: 238]، وهكذا. "د".
3 مضى تخريجه "ص404".
4 أي: بل ذلك لمن تلزمه الجمعة فقط، لأنه يكون معطلًا له وشاغلًا عنها؛ فليس النهي عنه مقصودًا لذاته، بل هو تبعي مكمل لطلب إقامة الجمعة؛ فلذلك قال: "جارٍ مجرى التوكيد"؛ لأن الأمر بالسعي متضمن للنهي عما يشغل عنه؛ فكان التصريح بهذا المنهي كالتأكيد. "د".
5 سيأتي تخريجه "ص416".
6 في الأصل: "نحوها".
7 مضى تخريجه "ص404"، وهو صحيح.
8 مضت الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك.(7/84)
ص -414-…تصوموا الدهر"1 الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يواصل ويسرد الصوم2، كان يصوم حتى يقال3: لا يفطر، ويفطر حتى يقال3: لا يصوم4.
وواصل عليه الصلاة والسلام، وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي؛ تحققًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة5، لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله.
وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى؛ كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة6، وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض} [الجمعة: 10]؛ إذ علم قطعًا أن مقصود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد في النهي عن صيام الدهر أحاديث كثيرة، تراها في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب صوم الدهر، 4/ 220"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو....، 2/ 812-818"، ومنها ما عند مسلم "رقم 1159": "لا صام من صام الأبد".
2 مضى تخريجه "2/ 239"، وفي "ط": "ويسرد الصيام".
قال "ف": "أي: يواليه ويتابعه تعليمًا للأمة كيف تجاهد نفسها وتصبر عند صدمات الشدائد".
3 في "ط": "يقولوا".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ رقم 1971"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ 1157" عن ابن عباس؛ قال: "ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم".
5 كما جاء النص به، وقد مضى "2/ 240".(7/85)
6 وقد ذكروا للأمر ستة عشر معنى مجازيًا، وقالوا: يجب أن تكون الإباحة وغيرها معلومة من غير الصيغة، حتى يكون العلم قرينة على إرادة غير الطلب. "د".(7/86)
ص -415-…الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال، ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة، وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال، وهو انقضاء1 الصلاة، وزوال2 حكم الإحرام.
فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضًا، وقد مر منه أمثلة.
وأيضًا؛ فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعًا، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها، فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق؛ لكنا قد خالفنا3 الشارع من حيث قصدنا موافقته، فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر؛ كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه؛ فيوشك4 أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر، وذلك أن الوصال وسرد5 الصيام قد جاء النهي عنه، وقد واصل عليه الصلاة والسلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1 و2" من إضافة الصفة للموصوف فيهما، والمقصود هو الموصوف. "د".
وكتب "ف": "أي: السبب بوصف الزوال هو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام، وإلا؛ فالإحرام والصلاة هما السببان المانعان".
3 أي: قد تحصل المخالفة من حيث قصدنا الموافقة بفعل مقتضى الصيغة مجردة عن القرائن التي تحدد معناها؛ كما سيقول: "فيوشك.. إلخ". "د".
4 لأن إهمال اعتبار المصلحة التي ورد الأمر أو النهي لتحقيقها يجعلنا غير ضابطين لحدود الأمر أو النهي؛ لأنه لا يكون لنا مرشد إلى مقصد الشارع سوى مجرد الصيغة، وقد لا تكون كافية في تحديد المقصد، فإذا التزمنا الوقوف معها فقط؛ فقد ننحرف عن الغرض الذي يرمي إليه الشرع، كما في مثاله بعد الذي كان يلزمه المحظوران المذكوران. "د".
5 في "ط": "أو سرد".(7/87)
6 حتى قال لهم: "لو تأخر الشهر لزدتكم"؛ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، قاله المصنف "1/ 526"، وكان يقول: "لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم، وتخريجه هناك في التعليق عليه، والله الموفق للخيرات، والهادي للصالحات.(7/88)
ص -416-…وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي:
أحدهما:
أنه نهاهم فلم ينتهوا؛ فلوا كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة، وقابلوه بالعصيان صراحًا، وفي القول بهذا ما فيه.
والآخر:
أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه، ولو كان النهي على ظاهرة؛ لكان تناقضًا1، وحاشى لله من ذلك، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة، وإبقاء عليهم، فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة، وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله؛ أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله، وهو دخول المشقة، حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة والسلام هو الرفق بهم، والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء2 في مرضاة ربهم.
وأيضًا؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء، وأطلق القول فيها إطلاقًا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي؛ فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته3، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردًا من الالتفات إلى المعاني.
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر4، وذكر منه أشياء؛ كبيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أقرهم على الوصال على أنه عبادة، مع أنه لو أخذ النهي على ظاهره لكان معصية، ولا يقال: إنه نسخ؛ لأن الحكم الأول بقي على حاله. "د".
2 أي: المشقة والشدة. "ف".
3 بضم الميم: القوة، وخص بعضهم بها قوة القلب. "ف".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4 /1153/رقم 1513" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر".(7/89)
ص -417-…الثمرة قبل أن تزهى1، وبيع حبل الحبلة2، والحصاة3 وغيرها.
وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 397/ رقم 2167" عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: "يحمار أو يصفار".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 398/ رقم 2199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، 3/ 1166/ رقم 1534" عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "هي مضارع أزهى النبت يزهى إذا احمر أو اصفر، ويقال: زها النبت يزهو إذ
ا نبت ثمره، وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، قال أبو الخطاب: لا يقال للنخل إلا يزهي، ولا يقال فيه يزهو. اهـ بتصرف".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة، 4/ 356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة، 3/ 1153-1154/ رقم 1514"، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية: "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها"، فالمحتصل من معنى "بيع حبل الحبلة"، أي: بيع نتاج النتاج، أو أن يجعلوه أجلًا يتبايعون إليه.
3 مضى في التعليق على "2/ 522" حديث أبي هريرة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"، وتقدم هناك معنى بيع الحصاة، وقد فسر بعدة تفاسير، وكلها فيها الخطر والغرر الذي يجعلها كالقمار.(7/90)
وقال "ف": "في الحديث نهي عن بيع الحصاة، وهو أن يقول المشتري أو البائع: إذا نبذت الحصاة إليك؛ فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، والكل فاسد من بيوع الجاهلية، وغرر لما فيها من الجهالة".
قلت: انظر فيه أيضًا "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 160".(7/91)
ص -418-…وشراؤه؛ كبيع الجوز واللوز والقسطل1 في قشرها، وبيع الخشبة2 والمغيبات في الأرض، والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب؛ كالديار، والحوانيت المغيبة الأسس، والأنقاض3، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز، ومثل هذا لا يصح4 فيه القول بالمنع أصلًا؛ لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررًا مترددًا5 بين السلامة والعطب؛ فهو مما خص بالمعنى6 المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "التذكرة": هو عند أهل مصر اسم للنبت المسمى شاه بلوط، وهو المعروف الآن بأبي فروة. "ف".
2 في "ط": "الخشب".
3 جمع نقض -بكسر النون- وهو اسم البناء المنقوض إذا هدم، وفي الاستعمال هنا توسع لا يخفى. "ف".
4 قال شراح الحديث: يستثنى من بيع الغرر أمران: الأول ما يدخل في المبيع تبعًا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثاني ما يتسامح فيه؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه، ومما يدخل تحت ما ذكر بيع أساس البناء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن الدابة، والقطن المحشو في الجبة، إذا كانت تبعًا. "د".
5 أليس الجوز واللوز وأمثالهما مما تردد بين السلامة والعطب عند العقلاء؟ فالأفضل الرجوع إلى ما قلناه عن شراح الحديث من أن مثل هذا يتسامح فيه عادة للمشقة في معرفته، وكان يلزم إذا منع شرعًا دخوله في المعاوضات أن يحصل حرج ومشقة؛ فاقتضى التوسعة والرخصة. "د".
قلت: انظر "إعلام الموقعين" "1/ 360 وما بعده - ط دار الحديث"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 159-160" للمازري.(7/92)
6 ألم يرد من الشارع في ذلك شيء من القول أو الفعل أو التقرير لبيع الدور ذات الأسس المغيبة في الأرض، والمقاثئ كالبطيخ، والجوز واللوز ونحوهما مما لا يعرف طعمه وموافقته إلا بكسره؟ يبعد جدًا أن ينقضي عهده صلى الله عليه وسلم ولا يكون في هذه الأشياء معاملة، حتى نضطر إلى أن القول بأنها إنما خصصت من الغرر بالمعنى المصلحي؛ أي: من المصالح المرسلة، على أنه قد يقال: كيف أنها تعد مرسلة مع أن اللفظ الوارد يشملها؟ إلا أن يقال: بل مراده الاستحسان، نعود للسؤال فنقول: ألم يكن البطيخ في عهده صلى الله عليه وسلم يباع ويشترى في السوق جهارًا؟ ففي "زاد المعاد" "4/ 353" أنه صح في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: "يدفع حر هذا برد هذا". "د".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب القثاء، 9/ 572/ رقم 5447"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب أكل القثاء بالرطب/رقم 2043" عن عبد الله بن جعفر؛ قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب"، والزيادة المذكورة عند أبي داود "رقم 3835"، والترمذي "رقم 1845"، وابن ماجه "رقم 3225"، وإسنادها صحيح.(7/93)
ص -419-…وأيضًا؛ فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساوٍ في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض؛ فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة1 تقع، وبالاستقراء2 المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد، لا على أقسام متعددة، والنهي كذلك أيضًا، بل نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى3 المساق في دلالة الصيغ، وإلا صار ضحكة وهزءة4، ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط5، وما لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أمن الضروريات هي، أم من الحاجيات، أم من التحسينات؟ "د".
2 أي: في موارد الأوامر وما يحتف بها من القرائن الحالية والمقالية كما سبق. "د".
3 ليكون قرينة ضابطة لغرض المتكلم، وصارفة له إلى حيث يريد وإن لم يكن هو المعنى الأصلي؛ كما مثله بعد. "د".
4 في "اللسان": "رجل ضحكة؛ بالتسكين: يضحك منه، وعن الليث: الضحكة؛ بفتح الحاء: الرجل الكثير الضحكة، يعاب عليه" ا. هـ. ورجل هزأة؛ بالتسكين: يهزأ به، وقيل: يهزأ منه. ا. هـ. "ف".
5 كناية عن لازمه وهو طول الجيد، وقد عدوه من الكناية القريبة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل…أبوها وإما عبد شمس وهاشم "د"
أما "ف"؛ فقال: "بضم فسكون: نوع من الحلي يعلق في الأذن يعرف بالحلق، ويقال له لغة أيضًا: الشنف؛ بفتح فسكون".(7/94)
ص -420-…ينحصر من الأمثلة، لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول؛ فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وعلى هذا المساق يجري التفريق1 بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه.
وقد حكى إمام الحرمين2 عن ابن سريج3 أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج3: "أنت تلتزم الظواهر، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة: 7]؛ فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فقال مجيبًا: الذرتان ذرة وذرة. فقال ابن سريج3: فلو عمل مثقال ذرة ونصف؟ فتبلد وانقطع"4.
وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين5، وهذا وإن كان تغاليًا في رد العمل بالظاهر؛ فالعمل بالظواهر أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلو اعتبر اللفظ بمجرده فيه كما اعتبره الظاهرية؛ لم يكن له معنى معقول، بل المعقول مما سيق له الحديث أنه لا فرق بين الأمرين؛ لأن كلا منهما قد يكون سببًا في تنجيس الماء وإفساده. "د".
2 في كتابه "البرهان في أصول الفقه" "2/ 881".
3 في "ط" في المواضع كلها: "ابن شريح"، وهو خطأ.
4 في "البرهان" "2/ 881": "فتبلد وظهر خزيه".
5 انظر آراء شديدة تهاجم الظاهرية في: "عارضة الأحوذي" لابن العربي "10/ 108-112"، و"طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 45"، و"لسان الميزان" "2/422-424"، وكتابنا هذا "5/ 149".
ومن أحسن ما قيل في أهل الظاهر وأكثره موضوعية نقد ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" "2/ 26-40" الذي ذكر فيه أن لأهل الظاهر حسنات يقابلها سيئات؛ فقد أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها.
وانظر: "الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي" "ص143 وما بعدها".(7/95)
ص -421-…على تتبع وتغالٍ بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضًا، كما تقدم [تقريره] في آخر كتاب المقاصد، وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى.
فصل
فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي؛ فهو جارٍ على السنن القويم، موافق لقصد الشارع في ورده وصدره، ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في العبادة، والتحري في الأخذ بالعزائم، وقهروها تحت مشقات التعبد؛ فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهي {لِنَنْظُرَ1 كَيْفَ تَعْمَلُون} [يونس: 14]، و{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
لكن لما كان المكلف ضعيفًا في نفسه، ضعيفًا في عزمه ضعيفًا في صبره؛ عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه؛ فجعل2 له من جهة ضعفه رفقًا يستند إليه في الدخول في الأعمال، وأدخل في قلبه حب الطاعة وقوّاه عليها، وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة، والخواطر المشغبة3، وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالًا في رفع الحرج عن صدماته، وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف، استقبالًا بذلك ثقل المداومة، حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه، فإذا دخل العبد حب الخير، وانفتح له يسر المشقة؛ صار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع: "لينظر" بلام وياء، وفي [الأعراف: 129] {فَيَنْظُر}، وفي [يونس: 14]: {لِنَنْظُر} بنون.
2 وقال: "اكفلوا من العمل ما لكم به طاقة"، ونحوه من موجبات الرفق. "د".
3 في "اللسان": "قال الجوهري: التشويش التخليط، وقال أبو منصور: لا أصل له في العربية، وإنما هو من كلام المولدين، وأصله التهويش وهو التخليط. "المشغبة"؛ أي: الموقعة في الشغبة بسكون الغين، وهو الفتنة والعامة تفتحها". "ف".(7/96)
ص -422-…الثقيل عليه خفيفًا، فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56].
فكأن المشقة وضدها إضافيان لا حقيقيتان1 كما تقدم في مسائل الرخص فالأمر متوجه، وكل أحد فقيه نفسه، فإذا كان الأمر والنهي المراد بهما الرفق والتوسعة على العبد؛ اشتركت الرخص معهما في هذا القصد، فكان الأمر والنهي في العزائم مقصودًا أن يمتثل على الجملة، وفي الرفق راجعًا إلى جهة العبد: إذا اختار مقتضى الرفق؛ فمثل الرخصة، وإذا اختار خلافه؛ فعلى مقتضى العزيمة التي اقتضاها قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] وأشباهه.
فصل
وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة؛ فضروب:
أحدها:
ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [البقرة: 183].
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنّ} [البقرة: 233].
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}2 [النساء: 141].
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين} [المائدة: 89].
وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر؛ فهذا ظاهر الحكم، وهو جارٍ مجرى الصريح من الأمر والنهي.
والثاني:
ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر، أو ذمه أو ذم فاعله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "حقيقتان".
2 فالمراد النهي عن جعل المؤمنين أنفسهم تحت سلطة الكافرين بأي طريق كان، وليس هذا خبرًا محضًا، وإلا؛ لكان بخلاف مخبره، وهو محال. "د".(7/97)
ص -423-…في النواهي، وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر وترتيب العقاب في النواهي أو الإخبار1 بمحبة الله في الأوامر والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي.
وأمثلة هذا الضرب؛ كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون} [الأعراف: 81].
وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13].
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14].
وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [آل عمران: 134].
وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31].
{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر} [الزمر: 7].
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وما أشبه ذلك.
فإن هذه الأشياء الدالة على طلب الفعل في المحمود، وطلب الترك في المذموم، من غير إشكال.
والثالث: ما يتوقف عليه المطلوب؛ كالمفروض في مسألة "ما لا2 يتم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "والإخبار".
2 كغسل جزء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه؛ فهذا لا يتم عادة غسل الوجه بدونه؛ فهل يجب غسل هذا الجزء وجوبًا تابعًا لإيجاب غسل الوجه، أم لا يجب شرعًا وإن كان لا بد منه عادة؟ وإذا لم يفعله المكلف؛ فهل يأثم بتركه غير إثمه بترك غسل الوجه، أم لا إثم إلا بالأخير فقط؟ والمختار كما عند ابن الحاجب أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب شرعًا إلا إذا كان شرطًا شرعيًا، وأما الشرط العقلي أو العادي؛ فالمختار أنه لا يجب تبعًا، وليس هنا إلا وجوب واحد لغسل الوجه، وقيل: الشروط كلها واجبة، وقيل: كلها غير واجبة، وهذا الخلاف في غير الأسباب، أما =(7/98)
ص -424-…الواجب إلا به"، وفي مسألة "الأمر بالشيء هل هو نهي1 عن ضده؟"، و"كون المباح مأمورًا به"2 بناء على قول الكعبي، وما أشبه ذلك من الأوامر والنواهي التي هي لزومية للأعمال، لا مقصودة لأنفسها.
وقد اختلف الناس فيها وفي اعتبارها، وذلك مذكور في الأصول، ولكن إذا بنينا على اعتبارها؛ فعلى القصد الثاني لا على القصد الأول، بل هي أضعف3 في الاعتبار من الأوامر والنواهي الصريحة التبعية؛ كقوله: {وَذَرُوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأسباب؛ فقد نقل الإجماع على وجوبها، بل قالوا: إن التكليف في المسببات إنما هو في الحقيقة بأسبابها كالحز بالسكين بالنسبة للقتل؛ لأن المسببات غير مقدورة، والمقدور هو السبب كما تقدم. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "البحر المحيط" "1/ 223"، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص26"، و"البرهان" "1/ 257"، و"الإحكام" "1/ 110" للآمدي، و"المسودة" "60"، و"المستصفى" "1/ 71". و"التمهيد" "1/ 322"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص160"، و"القواعد" للمقري "2/ 393، القاعدة الرابعة والأربعون بعد المائة"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 159".
1 والمختار أنه ليس نهيًا عن ضده، بل ولا يتضمنه، والكلام فيه يرجع في كثير من مباحثه إلى الكلام في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به، وفي كل منهما لا يوجد تعلق لخطاب شرعي، مع أنه لا تكليف بغير تعلق الخطاب. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "المحصول" "2/ 199"، و"البحر المحيط" "2/ 416"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 174-178 و10/ 531-532 و11/ 673-675 و16/ 37، 20/ 118-119، 159-160".
2 انظر في هذه القاعدة: "المستصفى" "1/ 74"، و"إحكام الفصول" "ص193" للباجي، و"المسودة" "ص65"، و"البرهان" "1/ 102"، و"البحر المحيط" "1/ 241، 279"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 161 وما بعدها"، وما مضى "1/ 175 و3/ 220".(7/99)
3 ولذلك اختلف في أنها أوامر ونواهي شرعية بخلاف الصريحة التبعية؛ فلا يتأتى فيها الاختلاف في هذا وإن اختلف في ترتب أحكام خاصة عليها؛ كنسخ البيع وقت النداء. "د".(7/100)
ص -425-…الْبَيْع} [الجمعة: 9]؛ لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار أصلًا.
وقد مر في كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية ومقاصد تابعة؛ فهذا القسم في الأوامر والنواهي مستمد من ذلك، وفي الفرق بينهما فقه كثير1، ولا بد من ذكر مسألة2 تقررها في فصل يبين ذلك، حتى تتخذ دستورًا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله.
فصل
"الغضب" عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب، و"التعدي" مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب3.
فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب؛ فهو منهي عن ذلك، آثم4 فيما فعل من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا الرقبة؛ فكان النهي أولًا عن الاستيلاء على الرقبة، وأما التعدي على المنافع؛ فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة؛ فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد، وهو لم يقصد إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يترتب على تمييز المقاصد الأصلية عن المقاصد التابعة فقه كثير لمسائل الشريعة، وإدراك لأحكام تفاريع كثيرة مما ينبني على كل منهما. "د".
2 أي: من مسائل المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة المناسبة لهذا المقام بخصوصه مقام الأمر والنهي الأصلي والتبعي، وما يترتب على كل منهما من حيث اعتباره وعدمه؛ ليستفاد منها حكم أمثالها في الأوامر والنواهي الأصلية والتبعية في غير مسألة الغصب والتعدي التي عقد لها الفصل. "د".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 184-185"، و"عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق" "ص926 وما بعدها" للونشريسي.
4 ويؤدب وجوبًا بما يراه الحاكم. "د".(7/101)
ص -426-…المنافع، لكن كل واحد منهما يلزمه1 الآخر بالحكم التبعي، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
فإذا كان غاصبًا؛ فهو ضامن للرقاب لا للمنافع، وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب، لا بأرفع2 القيم؛ لأن الانتفاع تابع، فإذا كان تابعًا؛ صار النهي عن الانتفاع تابعًا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة، فلذلك لا يضمن قيمة المنافع؛ إلا على قول بعض3 العلماء، بناء على أن المنافع مشاركة4 في القصد الأول، والأظهر أن لا ضمان عليه؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن غصب الرقبة يتبعه الاستيلاء على المنفعة، وعدم تمكين المالك منها، كذلك التعدي على المنفعة لا يكون إلا إذا استولى على الرقبة، وحال بينها وبين مالكها؛ فهما عمليًّا متلازمان، ولا يفرق بينهما إلا بالقصد، ومتى قصد أحدهما كان الثاني تابعًا له، وهناك يجيء الكلام في اختلاف الأحكام، وظاهر أنه بالاعتراف أو بالقرائن يعرف قصده من الغصب أو التعدي حتى يرتب الحاكم حكمه، والتلازم في هذا غير التلازم الذي أشار إليه فيما لا يتم الواجب إلا به، وفي مسألة الأمر بالشيء وما معهما؛ فلذلك قال بعد أن قرر ما يتعلق بالغصب: "وهذا البحث جارٍ... إلخ"؛ فمسألة الغصب والتعدي صنف آخر مما يندرج في المقاصد الأصلية والتابعة غير صنف ما لا يتم الواجب إلا به، وما معه كما هو ظاهر. "د".
2 أي: من حين الغصب إلى وقت الحكم. "د".(7/102)
3 قال ابن القاسم: "وأعتمد أن ربه إذا أخذ القيمة؛ فلا غلة له"، وقال بعضهم: إن غلة المغصوب لمالكه إذا كان أرضًا أو عقارًا استعملا في السكنى أو الزرع أو الكراء مثلا، وكذا غلة الحيوان التي لا تحتاج إلى تحريك؛ كالصوف، واللبن، وأما غلة الحيوان الحاصلة من التحريك؛ كالركوب، والإجارة، والحرث وما أشبه ذلك؛ فللغاصب في مقابلة الإنفاق عليه لأن الخراج بالضمان، وأما ما عطل ولم يستغل كمن غصب أرضًا بورًا؛ فلا كراء عليه، وإذا قصد غصب المنفقة؛ فعليه الكراء. "د".
4 أي: فالغاضب يقصد الرقبة والمنافع معًا قصدًا أصليًا. "د".(7/103)
ص -427-…"الخراج1 بالضمان"2، وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الانتفاع غير مقصود لنفسه، بل هو تابع للنهي عن الغصب، وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء، فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحًا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه؛ فأولى أن يصح3 مع النهي الضمني.
وهذا البحث جارٍ في مسألة "ما لا يتم الواجب إلا به؛ هل هو واجب أم لا؟"، فإن قلنا: "غير واجب"؛ فلا إشكال، وإن قلنا: "واجب"؛ فليس وجوبه مقصودًا في نفسه، وكذلك مسألة "الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟"، و"النهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده"، فإن قلنا بذلك؛ فليس بمقصود لنفسه، فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه بالقصد الأول، وليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد دخل المغضوب في ضمان الغاصب من وقت الاستيلاء عليه. "د".
2 مضى تخريجه "ص204"، وهو صحيح، كتب "ف" هنا ما نصه: "الخراج غلة العابد والأمة، قال ابن الأثير -في تفسير الحديث-: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا ثم يعثر على عيب قديم؛ فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن على البائع شيء، و"باء" الضمان متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان؛ أي: بسببه" ا. هـ. ولأبي عبيد وغيره من أهل العلم ما يشبه هذا".
وقال "ماء": "أي غلة المشتري للمشتري، بسبب أنه في ضمانه، وذلك بأن يشتري شيئًا ويستغله زمانًا ثم يعثر -أي: يطلع منه- على عيب دلسه البائع ولم يطلع عليه؛ فله رده -أي الشيء المشترى- على البائع، والرجوع عليه بالثمن جميعه، وأن الغلة التي استغلها المشترى؛ فهي له لأنه كان في ضمانه، ولو هلك من ماله".(7/104)
3 أي: البيع إذا فرض أنه لم ينه عنه صراحة، بل اكتفى باندراجه ضمن الأمر في قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]؛ فيكون شبيهه وهو النهي التبعي عن الاستيلاء على منافع المغصوب كذلك؛ أي: لا يرتب عليه حكم النهي؛ فلا يعتد بقيمة المنافع ولا تضمن، لأن النهي عنها حينئذ ليس أصليًا بل تبعي، وقد عرفنا أن التبعي حتى الصريح كما ورد في {وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9] لم يرتب عليه حكمه؛ فهذا أولى. "د".(7/105)
ص -428-…كذلك.
أما إذا كان متعديًا؛ فضمانه ضمان1 التعدي لا ضمان الغصب؛ فإن الرقبة تابعة، فإذا كان كذلك؛ صار النهي عن إمساك الرقبة تابعًا للنهي عن الاستيلاء على المنافع، فلذلك يضمن بأرفع2 القيم مطلقًا، ويضمن ما قل وما كثر، وأما ضمان الرقبة في التعدي؛ فعند التلف3 خاصة، من حيث كان تلفها عائدًا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء.
ولو كان أمرهما واحدًا؛ لما فرق بينهما مالك ولا غيره، قال مالك في الغاصب والسارق: "إذا حبس المغصوب أو المسروق عن أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يُضَمِّنَهُ4 وإن كان مستعيرًا5 أو متكاريًا ضمن قيمته"6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرقوا بين ضمان الغصب وضمان التعدي بأمور: منها أن التلف بسماوي يضمنه في الغصب لا التعدي، ومنها أن تغير السوق في الغصب لا يعتبر، وفي التعدي يعتبر مفوتًا فيضمن أعلى القيم، والسرقة كالغصب، ومنها أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء واليسير من المتعدي يستوجب أخذ أرش النقص الحاصل فقط مع نفس المتعدى عليه، ومنها أنه إذا تعيب المغصوب بغير تعدي الغاصب خير ربه بين أخذه معيبًا ولا شيء له في نظير العيب وبين أخذ القيمة يوم الغصب، ومن صور التعدي زيادة المكتري والمستعير على المسافة المشترطة أو المدة المشترطة أو الحمل المشترط بغير إذن ربه ورضاه؛ فواضح أن المقصود فيهما المنافع، والذات تابعة. "د".
2 لأن من منافعها قيمتها؛ فأرفع القيم لها داخل في منافعها، فيضمنه مطلقًا سواء أكان الأرفع سابقًا ثم رخصت، أم لاحقًا بعدما كانت رخيصة، وسواء أكان للمتعدي دخل في علو القيمة أم لم يكن، كما يضمن غلتها قليلة كانت أو كثيرة. "د".
3 أي: التلف بتعديه هو؛ لأن التلف بتعديه لا فرق فيه بين الغصب والتعدي. "د".
4 أي: لا أعلى القيم ولا المنافع. "د".
قلت: في "د" و"ف": "ربه أن".(7/106)
5 أي: وزاد على ما اشترط، كما أسلفنا؛ فيكون تعدي بالزيادة. "د".
6 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".(7/107)
ص -429-…وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك وأصحابه، وإلا فإذا بنينا على غيره؛ فالمأخذ آخر، والأصل المبني عليه1 ثابت.
فالقائل2 باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ:
- منها: القاعدة التي يذكرها أهل المذهب، وهي: "هل الدوام كالابتداء؟"3، فإن قلنا: ليس الدوام كالابتداء؛ فذلك جار على المشهور في الغصب؛ فالضمان يوم الغصب، والمنافع تابعة، وإن قلنا: إنه كالابتداء؛ فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب، فهو ضامن في كل وقت ضمانًا جديدًا: فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع4 القيم كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك، قال ابن شعبان: "لأن عليه أن يرده في كل وقت، ومتى لم يرده؛ كان كمغتصبه حينئذ".
- ومنها: القاعدة المتقررة، وهي "أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى، وإنما للعبد منها المنافع"5، وإذا كان كذلك؛ فهل القصد إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هنا وهو أن الأمر والنهي التبعيين غير منحتمين، وإنما المنحتم المقصود الأصلي ثابت، والمخالف للمشهور لا يفرع على ما ينافيه، بل على مآخذ أخرى لا تخرم هذا الأصل، أي: فمع بقاء اعتبار هذا الأصل يتأتى للمخالف مخالفة المشهور بناء على تلك المآخذ التي سيذكر منها أربعة؛ لأن كونه غير منحتم بمجرده لا ينافي أن ينضم إليه ما يجعله قويًا متأكدًا ينبني عليه ما ينبني على المقصد الأصلي، وبهذا يتضح معنى قوله بعد: "فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة؛ ظهر وجه الخلاف"، وذلك لأنه لولا ثبوت هذه القاعدة وكان التبعي منحتمًا؛ لكان الواجب في الغصب ضمان المنافع قطعًا، ولم يكن للخلاف وجه. "د".
2 كالشافعية. "د".
3 انظر عنها: "إيضاح المسالك" "ص163" للونشريسي، و"قواعد المقري" "رقم 56".
4 أي: فيعتبر تغير الأسواق ويكون مفتونًا. "د".(7/108)
5 انظر عنها: "المعيار المعرب" "5/ 334"، و"المعلم" للمازري "2/ 210"، و"الملكية ونظرية العقد في الفقه الإسلامي" "ص72" لمحمد أبو زهرة.(7/109)
ص -430-…ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا؟ فإن قلنا: هو منصرف إليها إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان، بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة؛ فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي في1 ضمان المنافع، وإن قلنا: ليس بمنصرف؛ فهو مقتضى2 التفرقة.
- ومنها: أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة؛ فهل يتقرر له عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا؟ فإن قلنا: إنه يتقرر عليها [شبهة مالك]3، كالذي في أيدي الكفار من أموال المسلمين؛ كان داخلا تحت قوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان"4، فكانت كل غلة، وثمن يعلو أو يسفل، أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان؛ كالاستحقاق والبيوع الفاسدة، وإن قلنا: إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك، بل المغضوب على ملك صاحبه؛ فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له؛ فلا بد للغاصب من غرمها لأنه قد غصبها أيضًا.
وأما5 ما يحدث من نقص؛ فعلى الغاصب بعدائه6 لأن نقص الشيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لا ضمان".
2 في "د": "بمقتضى".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 مضى تخريجه "ص204".
5 تكميل لقوله: "وإن قلنا: إنه لا يتقرر.... إلخ" يريد به دفع ما يقال إذا كان كذلك؛ فالمعقول إذا حدث نقص بسماوي ألا يضمن في الغصب أيضًا، فأجاب بأنه ضمن لتعديه بالغصب؛ لأن النقص يرجع للذات، وهو ضامن لها، فيضمن أبعاضها، وقوله: "كما يضمن التعدي على المنافع" علمت أن ذلك إنما يكون في النقص الحاصل بتعديه لا بسماوي، وأن الغاصب يضمن مطلقًا. "د".
6 بفتح المهملتين، مصدر "عدا"؛ أي: ظلم. "ف".(7/110)
ص -431-…المغضوب إتلاف لبعض ذاته، فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع؛ لأن قيام الذات من جملة المنافع، هذا أيضا ً مما يصح أن يبنى عليه الخلاف.
- ومنها: أن يقال: هل المغضوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه يعد كالمتعدي فيه لأن الصورة فيهما معًا واحدة، ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحًا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد، وإلغائه الوسائط، أم لا يعد كذلك؟ فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرًا، وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له، ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يُضَمِّنَهُ، وإن كان مستعيرًا أو متكاريًا ضمن قيمته، قال ابن القاسم1: "لولا ما قاله مالك؛ لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري".
فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك وغيره عليها، مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها، وهي أن ما كان من الأوامر أو النواهي بالقصد الأول؛ فحكمه منحتم، بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني، فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف، وربما2 خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان، ولا تنقض أصل القاعدة، والله أعلم.
واعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عرضت على هذا الأصل تبين3 منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها، ووجه مذهب ابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".
2 يريد أخذ الحيطة لتثبيت هذا الأصل بأنه لا تضره مخالفة بعض الفروع له؛ لأن ذلك إنما جاء من مراعاة دليل شرعي آخر، وهو الاستحسان. "د".
3 لأن إقامة الصلاة فيها استيلاء على بعض منافعها، والنهي عنه تابع للنهي عن الاستيلاء على الذات؛ فيعود الكلام السابق برمته، بما في ذلك من الوجوه الأربعة التي ينبني عليها الخلاف في الصحة والبطلان. "د".(7/111)
ص -432-…حنبل وأصبغ وسائر القائلين ببطلانها.
وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع1 إلى هذا المعنى، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من جهة أن المعتبر هو المتبوع، هذا هو المقدار الذي تشترك فيه المسألتان، وما عداه يختلفان فيه؛ فموضوعها مختلف، وكون الاعتبار للمتبوع مختلف من حيث إنه في هذه يكون التابع ملغى وساقط الاعتبار شرعًا لأن اعتباره ينافي اعتبار المتبوع، بخلافه في المسألة السابقة؛ فإنه فقط غير منحتم بمجرده، وقد يعتبر إذا انضم إليه ما يقويه، واعتباره لا ينافي اعتبار المتبوع، وسيأتي له أن التابع لا يتعلق به أمر ولا نهي، مع أنه في المسألة السابقة تعلق به الأمر والنهي، لكن لا على وجه الانحتام. "د".(7/112)
ص -433-…المسألة الثامنة:
الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين، فكان أحدهما مأمورًا1 به والآخر منهيًا عنه عند فرض الانفراد، وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجودًا أو عدمًا2 فإن المعتبر3 من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع، وأما ما انصرف إلى جهة التابع؛ فملغى وساقط الاعتبار شرعًا، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
ما تقدم4 تقريره في المسألة قبلها، هذا5 وإن كان الأمر والنهي هنالك غير صريح وهنا صريح؛ فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية، ولذلك نقول: إن القائل ببطلان البيع وقت النداء لم يبنَ على كون النهي تبعيًّا6، وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: مأذونا فيه؛ ليعم المباح كما سيأتي في الأمثلة. "د".
2 في "ط": "عرفًا".
3 أي: عند الاجتماع "د".
قلت: انظر في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305".
4 أي: في الفرق بين القصد الأصلي والتابع، واعتبار الأول دون الثاني، وبيان ذلك في الغصب والتعدي، وإن كان التابع هناك، كان الاقتضاء المتعلق به غير صريح بخلافه هنا؛ لأنه لا فرق بينهما متى ثبت حكم التبعية، إنما الفرق آتٍ من جهة القصد الأصلي والتبعي لا غير، والدليل كما ترى استئناس لا يصلح وحده أن يكون دليلًا في مسألة أصولية، مع العلم باختلاف موضوعي المسألتين، أما باقي الأدلة؛ فجيد. "د".
5 كلمة "هذا" للفصل بين الكلامين، وهي تقع قليلًا في كلام المؤلفين. "ف".(7/113)
6 يعني: أن النهي مع كونه صريحًا لم يلتفت للبناء على الصراحة، ويرتب الحكم بالبطلان عليه في هذه الجهة، بل بناه على كونه مقصودًا قصدًا أصليًا؛ كالسعي سواء بسواء في أن كلا مقصود لذاته، وقد ذكر هذا تأييدًا لقوله: "فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية"، ولكن يقال له: من أين لك هذا، ولم لا يجوز أن يكون مبناه على النهي الصريح وإن كان تبعيًا؟ فهذه دعوى محتاجة لدليل، ولا يفيد فيه ما يأتي من الدليلين بعده؛ لأنهما ليسا متلازمين كما هو موضوع الأدلة الآتية، بل موضوع المسألة هنا. "د".(7/114)
ص -434-…بنى البطلان على كونه مقصودًا.
والثاني:
أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين؛ إما أن يردا معًا عليهما1، أو لا يردا ألبتة، أو يرد أحدهما دون الآخر، والأول غير صحيح؛ إذ قد فرضناهما متلازمين؛ فلا يمكن الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي، فمن حيث أخذ في العمل صادمه النهي عنه، ومن حيث تركه صادمه الأمر؛ فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فَعَلَ أو تَرَكَ2، وهو تكليف بما لا يطاق وهو غير واقع3؛ فما أدى إليه غير صحيح.
والثاني كذلك أيضًا؛ لأن الفرض أن الطلبين توجها فلا يمكن ارتفاعهما معًا؛ فلم يبقَ إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني، وقد فرضنا أحدهما متبوعًا وهو المقصود أولًا، والآخر تابعًا وهو المقصود ثانيًا؛ فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع دون ما تعلق بالتابع، ولا يصح العكس لأنه خلاف المعقول.
والثالث:
الاستقراء من الشريعة؛ كالعقد على الأصول مع منافعها4 وغلاتها، والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها؛ فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه؛ فللإنسان أن يتملك الرقاب ويتبعها منافعها، وله أيضًا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بحيث يعتبر كل من الاقتضاءين في محله فقط؛ فيكون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًّا عنه، لا أن كل من الاقتضاءين متوجه إلى كل من المحلين كما هو ظاهر العبارة. "د".
2 أي: أن فعل أو ترك؛ فكل منهما إذا أخذ به صادمه الآخر فيجتمع عليه الأمر والنهي معًا. "د".
قال "ف": "الأنسب العطف بالواو".
3 أي: وموضوع المسألة ليس فرضيًّا وعقليًّا فقط، بل هو واقع كالأمثلة. "د".
4 أي: التي قد لا تكون موجودة وقت العقد، بل قد لا توجد أصلًا وذلك مما كان يقتضي فساد العقد لو انفردت، لكنها لما كانت تابعة للمقصود الأصلي؛ جاز العقد عليها مع المتبوع؛ فلم تعتبر جهة النهي وهي ما فيها من الغرر والجهالة. "د".(7/115)
ص -435-…يتملك أنفس المنافع خاصة، وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع، ويصح القصد إلى كل واحد منهما.
فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها، وذلك أن العقد في شراء الدار أو الفدان1 أو الجنة2 أو العبد أو الدابة أو الثوب وأشباه ذلك جائز بلا خلاف، وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها؛ لأن المنافع قد تكون موجودة3، والغالب أن تكون وقت العقد معدومة، وإذا كانت معدومة؛ امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ومن كل طريق؛ إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك، بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا؛ فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها4 للنهي عن بيع الغرر والمجهول، بل العقد على الأبضاع5 لمنافعها جائز، ولو انفرد العقد على منفعة البضع6؛ لامتنع مطلقًا إن كان وطئًا، ولامتنع فيما سوى البضع أيضًا إلا بضابط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "اللسان": "الفدان بتشديد الدال: المزرعة" ا. هـ. "ف".
2 الجنة: البستان والحديقة، وقيل: لا تكون الجنة في كلام العرب إلا وفيها نخل، فإن لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر؛ فهي حديقة، وليست بجنة. "ف".
3 وسيأتي أن هذه قسمان أحدهما حكمه حكم المعدومة أيضا. "د".
4 أي: ولكن مع تبعيتها للرقاب يكون النهي ساقط الاعتبار شرعًا. "د".
5 جمع بضع بالضم: وهو الفرج؛ فالكلام على تقدير مضاف، أي ذوات الفرج، والواقع أن العقد على الرقيق مطلقًا إنما هو لمنافعه، وليس لمالكه التصرف في ذاته كسائر مملوكاته. "د".
ونحوه عند "م" مختصرًا.(7/116)
6 على تقدير مضاف كسابقه، أما في قوله "سوى البضع"؛ فلا يحتاج لتقدير، سواء أكان بالمعنى السابق أم كان بمعنى الوطء، أي: فالعقد على ذات الرقيق ورقبته جعل منافعه من الوطء وغيره مباحة مطلقًا لكونها تابعة للذات، ولو كانت وحدها؛ لامتنعت إما مطلقًا كالوطء، وإما إذا لم تستوفِ شرطها من تعينها بضابط يميزها، وهذا الموضع هو الذي سيقول فيه في الجواب عن الإشكال الثاني: "وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب... إلخ".(7/117)
ص -436-…يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم؛ كالخدمة، والصنعة، وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد. والعكس كذلك1 أيضًا كمنافع الأحرار، يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة2 باتفاق، ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق3، ومع ذلك؛ فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة؛ إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد، وذلك أثر كون الرقبة معقودًا عليها، لكن بالقصد الثاني، وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه، وهو على الجملة يعطي أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي، وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء، وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة.
فإن قيل: هذا مشكل بأمور:
أحدها:
أن العلماء4 قالوا: إن الرقاب -وبالجملة الذوات5- لا يملكها إلا الله تعالى، وإنما المقصود6 في التملك شرعًا منافع الرقاب؛ لأن المنافع هي التي تعود على العباد [بالمصالح]7، لا أنفس الذوات؛ فذات الأرض أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيصح العقد على ذات الرقيق وتتبعه المنافع التي منها البضع، ولو انفرد هذا لمنع، والحر يصح العقد على منافعه وتتبعه ذاته، ولو انفردت ذاته؛ لم يصح العقد عليها، والبضع في الأول تابع، والرقبة في الثاني تابعة؛ فلم يؤخذ فيهما بدليل النهي. "د".
2 أي: إذا وجد الضابط المذكور. "د".
3 لأنه تملك والحر لا يملك. "د".
4 نحو المذكور عند المازري في "المعلم" "2/ 210-211".
5 أعم لأن الرقاب جمع رقبة، وهي لغة المملوك من الرقيق. "د".(7/118)
6 هذه المقابلة كانت تقتضي أن يقال: إن الذوات لا يملكها إلا الله، ولا يقصد شرعًا تمليكها للخلق، يعني: والمنافع وإن كانت لا يملكها إلا الله، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف: 85]؛ إلا أن الشارع يقصد تمليكها للعبيد حسبما يناسبهم في ذلك، أما التقابل في عبارته؛! فليس بجيد. "د".
7 سقط من "ط".(7/119)
ص -437-…الدار أو الثواب أو الدرهم مثلًا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات، وإنما يحصل1 المقصود بها من حيث إن الأرض تزرع مثلا، والدار تسكن، والثواب يلبس، والدرهم2 يشترى به ما يعود عليه بالمنفعة؛ فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه، وإذا كان كذلك؛ فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة، والرقاب لا تدخل تحت الملك؛ فلا تابع ولا متبوع، وإذا لم يتصور فيما تقدم وأشباهه تابع ومتبوع بطل، فكل ما فرض3 من المسائل خارج عن تمثيل الأصل المستدل عليه؛ فلا بد من إثباته أولًا واقعًا في الشريعة، ثم الاستدلال عليه ثانيًا.
والثاني:
إن سلمنا أن الذوات هي المعقود4 عليها؛ فالمنافع هي المقصود [أولًا]5 منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات؛ فصار المقصود أولًا هي المنافع، وحين كانت المنافع لا تحصل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثله يقال فيما يؤكل ويشرب مثلًا، فإنما حصل المقصود به من حيث منفعته من التغذية والإرواء وهكذا؛ فلا يقال: إن هذا ينتفع به ذاته، ولكنه اختار التمثيل بما هو واضح القصد إلى منفعته لا إلى ذاته، وترك النوع الذي ذكرناه لأنه يشتبه أمره في بادئ النظر، وغرضه المهم ترويج الإشكال؛ فلا يأتي فيه إلا بما هو أقرب توصيلًا إلى هذا الغرض؛ فهو رحمه الله في طريقة الجدل صناع. "د".
2 في "ط": "أو الدار... أو الثوب.... أو الدرهم".
3 أي: أن جميع الصور التي ذكرتها لتحقيق هذا الأصل فيها إنما فرضتها في ملك الذوات؛ فتكون المنافع تابعة، أو في ملك المنافع فقط؛ فتكون الذوات تابعة، وحيث إن ملك الذوات بطل ولا يوجد إلا ملك المنافع؛ فحقق أولًا متلازمين في الوجود، أحدهما تابع والآخر متبوع في صور لا يفرض فيها ملك الذوات، ثم استدل على الحكم الذي تدعيه فيه من إلغاء حكم التابع، أما ما صنعت؛ فإنه بناء فروض على فروض، ومثل هذا ليس من العلم في شيء على ما سبق من المقدمات. "د".(7/120)
4 أي: مقصودة بالتملك شرعًا؛ ليكون تسليمًا لما منعه أولًا، أما كون المعقود عليه والذي تجري عليه الصيغ هو الذوات؛ فلم يكن محل المنع هناك، بل كان المنع لقصد تملكها رأسًا؛ فهنا يقول: سلمنا قصد تملكها، لكن ليس قصدًا أوليًّا؛ فإنها إنما حصلت واستولى عليها لمنافعها. "د"
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(7/121)
ص -438-…الجملة إلا عند تحصيل الذوات؛ سعى العقلاء في تحصيلها؛ فالتابع إذًا في القصد هي الذوات والمتبوع هو1 المنافع فاقتضى هذا بحكم ما تحصل2 أولًا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم3 المعدوم، وذلك باطل؛ إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم منافعه باتفاق، بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء يتبعه ذات ذلك الشيء؛ فاكتراء الدار يُمَلِّك منفعتها ولا يتبعه ملك الرقبة، وكذلك كل مستأجر من أرض أو حيوان أو عرض أو غير ذلك؛ فهذا أصل منخرم إن كان مبنيًا4 على أمثال هذه الأمثلة.
والثالث:
أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك؛ فإنه قال: "من باع نخلًا قد أبرت فثمرها للبائع؛ إلا أن يشترطها المبتاع"5، وقال: "من باع عبدًا وله مال؛ فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع"6؛ فهذان حديثان لم يجعلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "هي".
2 في "ط": "تأصل"، وقال "د": "أي: القاعدة والأصل الذي ذكرته".
3 أي: دائمًا، وفي كل صورة فرضت، وهو خلاف ما أصلت. "د".
4 لأن تصويره فيها أدى إلى هذا الباطل، وهو تبعية الذوات في كل مادة للمنافع؛ فحاصل هذا الإشكال الثاني نقض إجمالي، ومآل ما بعده إلى المعارضة بإثبات أن كلًّا من الذوات والمنافع منفصل عن الآخر؛ فلا تبعية بينهما، والمعارضة مبنية على ما اعتبره الشرع في مسألتي النخل والعبد، ومآل الرابع معارضة مبنية على الجاري بين العقلاء في المعاملة التي أقرها الشرع من اعتبار كل منهما وعدم إلغاء المنافع في جانب الأصل. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممرًا أو شرب في حائط أو نخل، 5/ 49/ رقم 2379، وكتاب الشروط، باب إذا باع نخلا قد أبرت، 5/ 313/ رقم 2716"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر، 3/ 1172/ رقم 1543" عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخره: "إلا أن يشترط المبتاع".(7/122)
قال "ف": "أبرت؛ بضم أوله وكسر الباء المشددة؛ أي: أصلحت ولقحت" ا. هـ.
6 هو قطعة من الحديث السابق، أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 2379"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1543 بعد80"، ولفظه: "..... ومن ابتاع عبدًا؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع"، ولفظ البخاري: "ومن ابتاع عبدًا وله مال؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع".(7/123)
ص -439-…المنفعة للمبتاع بنفس العقد، مع أنها عندكم1 تابعة للأصول كسائر منافع الأعيان، بل جعل فيهما التابع للبائع، ولا يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكمًا، وهو يعطى في الشرع انفصال التابع من المتبوع، وهو معارض لما تقدم؛ فلا يكون صحيحًا.
والرابع:
أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء وأرباب العوائد، وإن فرض الأصل مقصودا؛ فكلاهما مقصود، ولذلك يزاد في ثمن الأصل بحسب زيادة المنافع، وينقص منه2 بحسب نقصانها، وإذا ثبت هذا؛ فكيف تكون المنافع ملغاة وهي مثمونة3، معتد بها في أصل العقد، مقصودة؟ فهذا4 يقتضي القصد إليها عدم القصد إليها معًا، وهو محال.
ولا يقال: إن القصد إليها عادي وعدم القصد إليها شرعي، فانفصلا فلا تناقض؛ لأنا نقول: كون الشارع غير قاصد لها في الحكم مبني على عدم القصد إليها عرفًا وعادة؛ لأن من أصول الشرع إجراء5 الأحكام على العوائد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمقتضى الأصل المستدل عليه. "د".
2 في "ف": "منها"، وقال: "الأنسب "منه"؛ أي: من ثمن الأصل".
3 في "القاموس" و"شرحه": "أثمنه سلعته وأثمن له: أعطاه ثمنها، وأثمن المتاع فهو مثمن: صار ذا ثمن، وأثمن البيع: سمى له ثمنًا، وليس في المادة مثمون". "د".
وقال "م": "صوابه "وهي مثمّنة"؛ لأن الفعل من مثال أكرم".
4 أي: ما أورد في مادة هذه المعارضة منضمًا إلى أصل القاعدة بإلغاء المنافع في جانب الأصل، هذا والاعتراض بهذا المحال يمكن ترتيبه على الثالث أيضًا، زيادة عن مخالفته لما يقضي به حكم الشارع. "د".
5 كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا". "د".(7/124)
ص -440-…ومن أصوله مراعاة1 المصالح ومقاصد المكلفين فيها، أعني: في غير العبادات المحضة، وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع، وأن المنافع مقصودة عادة وعرفًا للعقلاء؛ ثبت2 أن حكم الشرع بحسب ذلك، وقد قلتم: إن المنافع ملغاة شرعًا مع الأصول؛ فهي إذًا ملغاة في عادات العقلاء، لكن تقرر أنها مقصودة في عادات العقلاء، هذا خلف محال.
فالجواب عن الأول: أن ما أصلوه3 صحيح ولا يقدح في مقصودنا؛ لأن الأفعال4 أيضًا ليس5 للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ما له في الصفات والذوات؛ فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك تضاف إليهم الصفات والذوات، ولا فرق بينهما إلا أن من الأفعال ما هو لنا مكتسب، وليس لنا من الصفات ولا الذوات شيء مكتسب لنا، وما أضيف لنا من الأفعال كسبًا؛ فإنما هي أسباب لمسببات هي أنفس6 المنافع والمضار أو طريق إليها، ومن جهتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي تقتضي مراعاة العوائد، وقوله: "مصالح الأصول"؛ أي: المصالح المقصودة عادة للعقلاء من هذه الأصول. "د".
2 لأن قصد الشارع يلزم أن يكون مبنيًّا على قصد العقلاء وعرفهم؛ فتكون مقصودة للشارع بمقتضى هذا، غير مقصودة له بمقتضى القاعدة؛ فبقي الاعتراض بالمعارضة الأخيرة كما هو، وهذا المقدار كافٍ في تثبيت الاعتراض المذكور، ولكنه زاد عليه قوله: "وقد قلتم... إلخ" ليرتب عليه محظورًا وهو أن تكون مقصودة في عادات العقلاء، غير مقصودة فيها. "د".
3 وهو أن الذوات لا يملكها إلا الله؛ لأنه خالقها مدها بأسباب بقائها؛ فهو المالك الحقيقي. "د".
4 ورد في الأصل و"ف" و"ط": "لأن الصفات أيضا والأفعال ليس".
قلت: وصوب "ف" ما أثبتناه.
5 أي: على مذهب الأشاعرة؛ لأنه ليس خالقًا لفعل من الأفعال المنسوبة إليه. "د".(7/125)
6 فتناول الماء سبب للري الذي هو المنفعة، والحرث سبب للنبات، وليس النبات هو المنفعة، بل طريق إليه قريب أو بعيد؟ أي: فالأفعال المنسوبة إلينا نسبة ضعيفة بالكسب ليست هي المنافع، بل هي أسباب لها قريبة أو بعيدة؛ فآل الأمر إلى أنه لا فرق بين المنافع والذوات في أنها ليست مقدورة لنا، فليس ملكنا لها ملكًا حقيقيًّا ولا كسبيًّا، وقد سلمتم نسبة المنافع لنا؛ فسلموا نسبة ما كان مثلها وهو الذوات إلينا بلا فارق، على المعنى الذي يليق بنا في الأمرين معًا. "د".(7/126)
ص -441-…كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي، وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات؛ فمخلوقة لله تعالى، حسبما تقرر في كتاب الأحكام، فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا وإن كانت غير داخلة تحت قدرتنا؛ كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق بنا.
ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف والتغيير؛ كذبح الحيوان وقتله للمأكلة، وإتلاف المطاعم والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس وما أشبه ذلك، وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيًا، أو لم يكن مؤذيًا وكان إتلافه تكملة لما1 ليس بضروري ولا حاجي من المنافع؛ كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك، وما أشبه ذلك؛ فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغير وغيرهما دليل على صحة تملكها شرعًا، ولا يبقى بيننا وبين من أطلق تلك العبارة -أن الذوات لا يملكها إلا الله- سوى الخلاف في اصطلاح، وأما حقيقة المعنى؛ فمتفق عليها، وإذا ثبت ملك الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها؛ صح كون المنافع تابعة، وتصور2 معنى القاعدة.
والجواب عن الثاني: أنه إن سلم على الجملة؛ فهو في التفصيل غير مسلم، أما أن المقصود المنافع؛ فكذلك نقول، إلا أن المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها، وذلك أن منافع الأعيان لا تنحصر، وإن انحصرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قيد به لأنه لو كان إتلافه تكملة لضروري من المنافع؛ لكان مطلوبًا لا مباحًا؛ فلا يتوقف على كونه مملوكًا للمتلف، فلا يدل على مدعاه، كإتلاف جدار لغيرك لتسد بأنقاضه ثلمة في جسر ماء انطلق ويخشى منه على البلد إن لم تسرع بهدم الجدار مثلًا. "د".
2 أي: واقعًا في الشريعة؛ فصح أن تستدل عليه. "د".(7/127)
ص -442-…الأعيان فإن العبد مثلًا قد هُيّئ في أصل خلقته إلى كل ما يصلح له الآدمي من الخِدم، والحرف، والصنائع، والعلوم، والتعبدات، وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد تفوت الحصر، وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى، هذا وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور؛ فدخوله في جنس واحد معرقًا فيه أو في بعض أصنافه يكفي1 في حصر ما لا يتناهى من المنافع، بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤاجرته عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره2، وكذلك كل رقبة من الرقاب وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها؛ فالنظر إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع.
وأما إذا نظرنا إلى المنافع فلا يمكن حصرها في حيّز واحد وإنما يحصر3 منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال والإمكان، فحصل القصد من جهتها جزئيًا لا كليًا، ولم تنضبط المنافع من جهتها4 قصدًا، لا في الوقوع وجودًا ولا في العقد عليها شرعًا؛ لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى حد محدود، وشيء معلوم، وذلك كله جزئي لا كلي، فإذًا النظر إلى المنافع خصوصًا5 نظر إلى جزئيات المنافع، والكلي مقدم على الجزئي طبعًا وعقلًا، وهو أيضا مقدم شرعًا كما مر6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن ما لا يتناهى في المنافع وجزئيات الصنعة يمكن ضبطه وحصره بنسبته إلى هذا العبد. "د".
2 متعلق بمحذوف؛ أي: ويستمر هكذا في طول حياته، ولا يصح تعلقه بقوله: "ينتفع"، ولا بقوله: "تصح"؛ كما هو ظاهر. "د".
3 في "ط": "حصر".
4 أي: من جهة نفس النافع، وقوله: "لا في الوقوع وجودًا"؛ كما أشار إليه بقوله: "وكل نوع تحته... إلخ"، وقوله: "ولا في العقد... إلخ" تابع للوجود، وقوله: "حتى يضبط منها... إلخ"؛ أي: فتنضبط قصدًا فيهما، ولكنه نظر جزئي. "د".
5 أي: والنظر إليها من جهة الذات التي لها تلك المنافع نظر كلي. "د".
6 أي: في صدر المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".(7/128)
ص -443-…فقد تبين من هذا -على تسليم أن المقصود المنافع- أن الذوات هي المقدمة المقصودة أولا، المتبوعة، وأن المنافع هي التابعة، وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب لأجل المنافع وإن كانت غير معلومة ولا محصورة، ومنع ملك المنافع خصوصًا1 إلا على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان؛ لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع؛ فهو معلوم من جهة الكلية الحاصلة، بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها؛ فإنها غير منضبطة في أنفسها، ولا معلومة أمدًا ولا حدًّا ولا قصدًا ولا ثمنًا ولا مثمونًا، فإذا ردت2 إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها، والقصد في العادة إليها؛ فإن أجازه3 الشارع جاز، وإلا امتنع.
وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هي المقصودة؛ فالرقاب تابعة؛ إذ هي الوسائل إلى المقصود، فإن أراد أنها تابعة لها مطلقًا؛ فممنوع بما تقدم4، وإن أراد تبعية ما فمسلم، ولا يلزم من ذلك محظور؛ فإن الأمور5 الكلية قد تتبع جزئياتها بوجه ما، ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: دون الرقاب. "د".
قلت: في "ف" و"م": "ومنع مالك"، والأصل لا يرجح شيئًا؛ لأن مالك وملك تكتب فيه: "ملك".
2 في الأصل: "أردنا"، وهو خطأ.
3 بأن كان مستوفيًا للشروط الأخرى غير العلم. "د".
4 من هذا البيان، وأن النظر إلى الأعيان نظر كلي، وأنه المقدم طبعًا وشرعًا.... إلخ "د".
5 أي: والأصول مع منافعها كذلك؛ لأنه اعتبر في المنافع انضباطها بالأعيان كانضباط الجزئيات بكليها، وقوله: "أولا ترى" يقوى به التشبيه الذي جاء به ليوضح المقام. "د".(7/129)
ص -444-…وأيضًا؛ فالإيمان1 أصل الدين، ثم إنك تجده وسيلة وشرطًا في صحة العبادات، حسبما نصوا عليه، والشرط من توابع المشروط؛ فيلزم إذًا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هي الأصول والإيمان تابع لها، أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصانها؟ لكن ذلك باطل؛ فلا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية.
وكذلك نقول: إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول، من حيث2 إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول؛ فلا تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها وتحجيرها عن انتفاع صاحبها بها، كالعقد على الأصول سواء، وهي معنى الملك؛ إلا أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها، ومنقضٍ بانقضائها؛ فلم يُسَمَّ في الشرع ولا في العرف ملكًا، وإن كان كذلك في المعنى؛ لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي، الذي لا ينقطع إلا بالموت، أو بانتفاع صاحبها بها أو المعاوضة عليها.
وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي3 لأنه لما ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته، وامتنع4 شراء الشيء على شرط فيه تحجير؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال شرعي للأصل وتوابعه يحقق فيه تبعية الأصل لهذه اللواحق باعتبار من الاعتبارات، وإن لم يكن مما نحن فيه. "د".
2 أي: من جهة هذه التبعية الجزئية التي تقتضي بعض أحكام التبعية الكلية، وهي هنا إبقاء يد المنتفع عليها، وقوله: "كالعقد على الأصول سواء"؛ أي: في خصوص هذا. "د".
3 قال ابن القاسم في "المدونة الكبرى" "3/ 444": "وقد بلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني".
4 في م: "ومنع".(7/130)
ص -445-…كشراء الأمة على أن يتخذها أم ولد، أو على أن لا يبيع1 ولا يهب، وما أشبه ذلك، لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة؛ فكأنه لم يملكها ملكًا تامًا، وليس بشركة؛ لأن الشركة على الشياع، وهذا ليس كذلك، وانظر في تعليل2 مالك المسألة3 في باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في "الموطأ"4؛ فقد تبين أن هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم، والحمد لله.
والجواب عن الثالث: أن ما ذكر فيه شاهد5 على صحة المسألة، وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع؛ فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها، على حكم التبعية للأصل، فلما صار الأصل للمشتري ولم يكن ثم اشتراط، وكانت قد أبرزت وتميزت بنفسها عن أصلها؛ لم تنتقل المنفعة إليه بانتقال الأصل، إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل إليه، فلو صارت للمشتري إعمالًا للتبعية؛ لكان هذا العمل بعينه قطعًا وإهمالًا للتبعية بالنسبة إلى البائع، وهو السابق في استحقاق التبعية؛ فثبتت أنها [له]6 دون المشتري.
وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل7 عنه أشبه الثمرة مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو: لا يبيع إلا له مثلًا، ولذا قالت السيدة عائشة لأم ولد زيد بن أرقم: "بئسما شريت" لما اشترت منه الجارية، وتشارطا على أنها لا تبيعها إلا له. "د".
2 هو بمعنى التعليل المذكور؛ فما هنا محصله. "د".
3 في "ط": "للمسألة".
4 قال مالك في "الموطأ" "2/ 616 رواية يحيى": "فيمن اشترى جارية على شرط أن يبيعها ولا يهبها أو ما أشبه ذلك من الشروط؛ فإنه لا ينبغي للمشتري أن يطأها، وذلك أنه لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها، فإذا كان لا يملك ذلك منها؛ فلم يملكها ملكًا تامًا لأنه قد استثني عليه فيها ما ملكه بيد غيره، فإذا دخل هذا الشرط؛ لم يصح، وكان بيعًا مكروهًا".
5 فهو لنا لا علينا، قلب المعارضة؛ فجعلها دليلًا للمعارض. "د".(7/131)
6 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وفي "ط": "فثبت أنها له".
7 أي: بانتزاع السيد له. "د".(7/132)
ص -446-…الأصل؛ فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له، فإن اشترطه المشتري؛ فلا إشكال، وإنما جاز اشتراطه وإن تعلق به المانع1 من أجل بقاء التبعية أيضا؛ فإن الثمرة قبل الطيب مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه؛ فأشبهت وصفًا من أوصاف الأصل.
وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه وإن لم يجز2 شراؤه وحده؛ لأنه ملك العبد وفي حوزه، لا يملكه السيد إلا بحكم الانتزاع؛ كالثمرة التي لم تطب.
فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق3، غير أن مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية: جهة البائع وجهة المشتري؟ فكان البائع أولى لأنه المستحق الأول، فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية، وهذا واضح جدًا. والجواب عن الرابع: أن القصد إلى المنافع لا إشكال في حصوله على الجملة، ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى النظر: هل [هي]4 مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال، أم هي مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه؟
فإن قلت: إنها مقصودة على حكم الاستقلال: فغير صحيح لأن المنافع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الغرر والجهالة. "د".
2 أي: ما لم يرد إلى ضابط يميزه حدًا وقصدًا وثمنًا.... إلخ، أما مع العبد؛ فلا حاجة إلى شيء من هذا، وهو روح المسألة. "د".
3 في جميع الأصول ولواحقها، أي: حتى في مسألتي الحديث؛ فدعوى أن الحديث يعطي انفصال التابع عن المتبوع غير صحيح، بل هو يؤيد التبعية. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وكتب "ف": "الأنسب: "هل هي مقصودة؟" بذكر الضمير العائد على المنافع".(7/133)
ص -447-…التي1 لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة، ويجوز العقد عليها مع الأصل، ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل؛ فالقصد راجح إلى الأصل، فالشجرة إذا اشتريت أو العبد قبل أن يتعلم خدمة أو صناعة ولم يستفد مالًا، والأرض قبل أن تكرى أو تزدرع، وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع وغيرها؛ لكن من جهة الأعيان والرقاب، لا من جهة أنفس المنافع إذ هي غير2 موجودة بعد؛ فليست بمقصودة إذًا قصد الاستقلال، وهو المراد بأنها غير مقصودة، وإنما المقصود الأصل.
فالمنافع إنما هي كالأوصاف في الأصل؛ كشراء العبد الكاتب3 لمنفعة الكتابة، أو العالم4 للانتفاع بعلمه، أو لغير ذلك من أوصافه التي لا تستقل في أنفسها، ولا يمكن أن تستقل؛ لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات قد5 زيد في أثمان الرقاب لأجلها؛ فحصل لجهتها6 قسط من الثمن؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصر الكلام عليها -مع أن القاعدة التي فيها المناقشة أوسع من ذلك- ليتأتى له في هذا الفرض إلزامه بأنها غير مقصودة على حكم الاستقلال؛ فيثبت به أنه لا تنافي بين القصد وعدم الاستقلال. "د".
2 ومع ذلك؛ فإنه يزيد الثمن وينقص بسببها، ألا ترى أن الشجرة المعتاد إثمارها وإن لم يكن فيها ثمر يزيد ثمنها عن الشجرة مثلها التي اعتيد عدم إثمارها؟ فالمنافع مقصودة، ويزيد وينقص الثمن للأصل بسببها، وإن لم تكن المنافع موجودة بالفعل. "د".
3 في الأصل و"ف": "المكاتب"، وهو خطأ، يرده السياق؛ فتأمل.(7/134)
4 إلا أن المثالين وإن كانت المنفعة فيهما غير مستقلة لأنها وصف للذات؛ إلا أن التهيئة حاصلة في المثالين للانتفاع بالعلم والكتابة، فهما من القسم الثالث الآتي في الفصل بعده، وفرضه كان في القسم الأول ولا مانع؛ فستعرف أن حكم الأول والثالث واحد على الجملة، وغرضه تحقيق القصد مع عدم الاستقلال، وهو واضح في المثالين لكون المنفعة فيهما وصف ذات، ولو مثل بما ذكرناه من الشجرة المعتادة الإثمار؛ لكان أوفق مما فرضه أولًا. "د".
5 الجملة حال من ضمير لا تستقل أو معطوفة عليها بإسقاط الواو، أو استئناف لتطبيق المثال في قوله: "كشراء"، والمعنى أنها مع كونها أوصافًا صرفة غير مستقلة زيدت أثمار الرقاب لأجلها، وقوله: "بالكلية"؛ أي: بطريق كلي كما قال سابقًا: إنه يكفي لحصر ما لا يتناهى من المنافع نوطها بالذات الخاصة. "د".
قلت: ولعل هذا رد على "ف"، حيث قال: "لعله ولهذا قد زيد"، ووقع في "ط": "وقد".
6 أي: بسببها وإن لم تكن مقصودة على الاستقلال، وهذا حسم لروح الاعتراض. "د".(7/135)
ص -448-…لا من حيث الاستقلال، بل من حيث الرقاب، وقد مر أن الرقاب هي ضوابط المنافع بالكلية، وإذا ثبت1؛ اندفع التنافي والتناقض، وصح الأصل المقرر، والحمد لله، وحاصل الأمر2 أن الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة، وإنما توجه الطلب إلى المتبوع خاصة.
فصل
وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم، وهو أن منافع الرقاب وهي التي قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكمًا ولا وجودًا؛ كثمرة الشجر قبل الخروج، وولد الحيوان قبل الحمل، وخدمة العبد، ووطء قبل3 حصول التهيئة وما أشبه ذلك؛ فلا خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كون المنافع مقصودة غير مستقلة. "د".
2 أي: حاصل هذا الأصل أنه لم يحصل توارد الطلبين المتنافيين أمرًا ونهيًا على الأصل وتابعه، بل توجه الطلب دائما إنما هو إلى المتبوع، وهذا هو المراد بكون الطلب المتوجه إلى التابع ملغى وساقط الاعتبار، أي: ما كان متوجها إليه عند انفراده لا يتوجه إليه عند كونه تابعا. "د".
3 لا يحتاج إليه في المثالين الأولين؛ فإنه قيدهما بما يناسبهما، فهو قيد في خدمة العبد وما بعده، فإن المنفعة فيهما لم تبرز وجودا وهو واضح؛ لأن وجود الأمثلة الأربعة في أصلها بالقوة والاستعداد فقط، ولا حكمًا لأنها لم تعطِ حكم البارز المحسوس كما سيأتي في القسم الثالث. "د". وقال "ف": "هو قيد فيما تقدمه من الأمثلة"، وفي الأصل: "ووطئ قبل التهيئة".
قلت: في "ط": "ووطء الجارية قبل....".(7/136)
ص -449-…غير مستقلة في الحكم؛ إذ لم تبرز إلى الوجود فضلًا عن أن تستقل؛ فلا قصد إليها هنا ألبتة، وحكمها التبعية كما1 لو انفردت فيه الرقبة بالاعتبار.
والثاني:
ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودًا وحكمًا أو حكمًا عاديًا أو شرعيًا؛ كالثمرة بعد اليبس، وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه، ومال العبد بعد الانتزاع، وما أشبه ذلك؛ فلا خلاف أيضًا أن حكم التبعية منقطع عنه، وحكمه2 مع الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا، لا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقًا.
والثالث:
ما فيه الشائبتان؛ فمباينة الأصل فيه ظاهرة، لكن على غير الاستقلال؛ فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني، وهو ضربان:الأول: ما كان هذا المعنى فيه محسوسًا؛ كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة3 الأصل، والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه، وولد الحيوان قبل الاستغاء عن أمه، ونحو ذلك. والآخر: ما كان في حكم المحسوس؛ كمنافع العروض والحيوان والعقار، وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات الفعلية؛ كاللبس، والركوب، والوطء، والخدمة، والاستصناع، والازدراع، والسكنى، وأشباه ذلك؛ فكل واحد من الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه، وانفرد عنه من وجه، ولكن الحكم فيهما واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا فرق بين أن يقول: بعت الشجرة بمنافعها التي تحدث مثلا، وبعت الشجرة، بدون ذكر المنافع، أما القسم الثاني؛ فتعتبر المنافع شيئًا آخر منفصلا تمام الانفصال عن الأصل، ويجري على كل حكمه الخاص به. "د".
2 في "ف": "وحكم"، وقد استظهر "ف" و"م" المثبت.
3 أي: وقبل اليبس والاستغناء عن أصلها. "د".(7/137)
ص -450-…فالطرفان1 يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم، ولكن لما ثبتت التبعية على الجملة؛ ارتفع توارد الطلبين عنه2، وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه، ومن جهة أخرى لما برز التابع وصار مما يقصد؛ تعلق الغرض في المعاوضة عليه، أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة.
ولا ينازع في هذا أيضًا؛ إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة، وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال، ولا العبد الكاتب3 كالعبد غير الكاتب، فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطرفان هما القسم الأول والقسم الثاني؛ لأنهما طرفان من جهة المعنى في الاستقلال وعدمه لا من جهة الوضع في عبارة الكتاب كما فهم بعضهم، وقوله: "صاحبه" تحريف بدل "سابقيه"؛ أي: أن كل واحد من ضربي القسم الثالث اجتمع مع كل واحد من القسمين السابقين في وصف وخالفه في وصف كما أوضحه سابق الكلام، "والحكم فيهما"؛ أي: الضربين المذكورين، "واحد" لا فرق بين المحسوس وما كان في حكمه، وقوله: "يتجاذبان" حقه "يتجاذبانهما"؛ أي: الضربين، أي أن الأول والثاني يطلبان أن يأخذ الضربان حكمهما. "د".
أما "ف"؛ فقال: "هما القسم الأول والثالث من هذا التقسيم"!!
2 أي: ارتفع عن القسم تعلق الطلبين به أمرًا ونهيًا، ولم يبقَ إلا ما يتعلق بالمتبوع فقط، شأن المتلازمين كما هو الأصل الذي تقرر، ولكن بقي لتجاذب الطرفين اعتبار آخر من جهة الجوائح وكلفة السبق وغير ذلك مما يترتب اختلاف حكمه على اختلاف النظر والاجتهاد، بناء على قوة جذب أحد الطرفين لصور هذا القسم الثالث بضربيه؛ فبين ذلك بقوله: "ومن جهة أخرى لما برز" إلى آخر الفصل. "د".
3 جاء في الأمثلة المذكورة باثنين للمحسوس، وواحد لغير المحسوس، وهما الضربان المشار إليهما في كلامه؛ فالكلام متسق جميعه. "د".(7/138)
قلت: ورد في الأصل: "المكاتب" بدل "الكاتب".(7/139)
ص -451-…وأيضًا؛ فليس تجاذب الطرفين [فيه]1 على حدّ واحد، بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال، ولا يقوى في حال أخرى، وأنت تعلم أن الثمرة حين بروزها [وقبل]2 الإبار3 ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار وقبل بدو الصلاح، ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح وقبل اليبس؛ فإنها قبل الإبار للمشتري، فإذا أبرت؛ فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فتكون له عند الأكثر، فإذا بدا صلاحها؛ فقد قربت من الاستقلال وبعدت من التبعية؛ فجاز بيعها بانفرادها، ولكن مَن اعتبر الاستقلال قال: هي مبيعة على حكم الجذ4 كما لو يبست على رءوس الشجر؛ فلا جائحة فيها.
ومن اعتبر عدم الاستقلال وأبقى حكم التبعية؛ قال: حكمها على التبعية لما5 بقي من مقاصد الأصل6 فيها ووضع7 فيها الجوائح اعتبارًا بأنها لما افترقت إلى الأصل كانت كالمضمومة إليه التابعة له؛ فكأنها على ملك صاحب الأصل، وحين8 تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة؛ فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها؛ لأن اليسير في الكثير كالتبع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د"، وأثبته من "ف" و"م" و"ط".
3 هو مصدر أبر النخل والزرع، يأبُره ويأبِره -بضم الباء وكسرها-: إذا أصلحه. "ف".
4 بالذال المعجمة؛ أي: الصرم والقطع، يقال: جَذّ النخل يجذّه جذًّا، كما يقال: جَدَّ النخل جدًّا -بالمهملة-: إذا صرمه. "ف" قلت: هي في "ط": "الجد....، يبست في...".
5 يؤخذ من قوله بعد: "ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه" أن اللام لتعليل قوله: "وحكمه... إلخ". "د".
6 أي: لا المقاصد التكميلية؛ كبقاء النضارة، وحفظ المائية. "د".(7/140)
7 أي: وضعها عن المشتري وتكون خسارتها على البائع؛ لأنها لم تستقل عن أصلها، فما يصيبها على حسابه، وهذا هو فائدة جذب الطرف الأوّل لها. "د".
8 هذا هو فائدة جذب الطرف الثاني لها.(7/141)
ص -452-…ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح: هل هو على البائع، أم على المبتاع؟ فإذا انتهى الطيب من الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه، وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة مِن بقاء النضارة وحفظ المائية؛ اختلف: هل بقي فيها حكم الجائحة، أم لا؟ بناء1 على أنها استقلت بنفسها وخرجت عن تبعية الأصل مطلقًا أم لا، فإذا انقطعت المائية والنضارة؛ اتفق الجميع على حكم الاستقلال، فانقطعت التبعية، وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل تحت هذه الترجمة.
فصل
وعلى هذا الأصل تتركب فوائد:
- منها: أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جارٍ2 في الحكم مجرى التابع والمتبوع المتفق3 عليه، ما لم يعارضه أصل آخر4، كمسألة الإجارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتب على النفي قبله، وقوله: "مطلقًا" أي: يسيرة كانت الجائحة أو كثيرة. "د".
2 ومنه ما قاله أبو حنيفة من جواز الشرب في الإناء المفضض، والجلوس على السرج والكرسي المفضضين، إذا كان يتقي موضع الفضة، وعلل الجواز بأن ذلك تابع له ولا عبرة بالتوابع. "د".
قلت: انظر المسألة في "الخلافيات" "1/ مسألة رقم 6" للبيهقي، وتعليقي عليها.
3 هو القسم الأول في الفصل قبله، فمن اكترى دارًا أو أرضًا فيها شجر مثمرٌ لم يبد صلاحه، وكانت قيمة الثمر ثلث مجموع الأجرة فأقل، وكانت الإجارة إلية مدة محدودة يطيب فيها الثمر لا مشاهرة، وكان الغرض منع التضرر من دخول غير المستأجر الأرض أو الدار لأجل الشجر؛ فإنه يجوز إدخال الشجر المثمر في الإجارة لأنه لما كانت قيمته الثلث فأقل كان تابعًا للأصل، وهو الدار والأرض؛ فجاز، وإن كانت الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز اشتراؤها منفردة؛ فعوملت معاملة اشتراء الثمرة التي لم يبد صلاحها تبعًا لأصلها. "د".
4 كسد الذرائع، وتقديم درء المفاسد وقاعدة التعاون، وغيرها مما يأتي في مسألة الصباغة آخر المسألة. "د".(7/142)
ص -453-…على الإمامة، مع1 الأذان أو خدمة المسجد، ومسألة اكتراء الدار تكون فيها الشجرة، أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض اليسير2، ومسألة الصرف3 والبيع إذا كان أحدهما يسيرًا، وما أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس4 أو في القصد أو في المعنى، ويكون بينها قلَّة وكثرة؛ فإن للقليل مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكره الأجرة على الإمامة من المصلين، أما من الوقف؛ فكإعانة، قال ابن عرفة في جوازها على إمامة الفرض: "ثالثها: تجوز إن كانت تبعًا للأذان"، أي: ومثله -بل أولى- خدمة المسجد؛ لأن مشقتها أشد من مشقة الإمامة، فلما كانت تابعة لما هو جائز جازت، ومعلوم جواز الأجرة على الأذان وخدمة المسجد؛ فقد كان يعطي عمر أجرًا على الأذان، لكن قال ابن حبيب: "إنما كان يعطي من بيت المال إعانة كأعطية الولاة والقضاة، ولا يجوز لهؤلاء أن يأخذوا ممن يقضون لهم". "د".
قلت: انظر "الفروق" "3/ 2"، و"القواعد" للمقري "2/ 432-433، القاعدة السابعة والثمانون بعد المائة".
2 أي بحيث يكون كراؤه الثلث فأقل من مجموع كرائه مع قيمة ثمرة الشجر عادة بعد إسقاط كلفة الثمر، بشرط أن يكو البذر من طرف العامل، كما أن جميع عمل المساقاة من طرقه، وأن يكون الجزء الذي يخصه منه كالجزء المشترط له في المساقاة على الشجر؛ إن كان ربعًا فربع، أو ثلثًا فثلث، وهكذا حتى تتحقق التبعية للشجر، ومثل ذلك في المساقاة على الزرع إذا كان فيه شجر تابع له بأن كان الثلث قيمة فأقل؛ فيدخل في المساقاة تبعًا، ويكون الحكم للمتبوع هو الشجر أو الزرع ساريًا على التابع، وإن لم يكن الحكم كذلك إذا انفرد التابع؛ فإن الأحكام مختلفة بين مساقاة الزرع ومساقاة الشجر؛ وبين مساقاة الشجر والمزارعة التي منها مثال المؤلف. "د".(7/143)
3 يحرم اجتماع البيع والصرف في عقد واحد لتنافي لوازمهما لجواز الأجل والخيار في البيع دون الصرف، إلا أن يكونا بدينار واحد، كأن يشتري شاة وخمسة دراهم بدينار، أو يجتمع البيع والصرف فيه، كأن يشتري عشرة أثواب وعشرة دراهم بأحد عشر دينارًا وكان الدينار بعشرين درهمًا؛ فجعل الصرف تابعًا للبيع. "د".
4 كالمثال الثاني والثالث، وقوله: "أو القصد" كمثال الأول، وقوله: "أو المعنى"؛ أي: كالبيع والصرف؛ فدفع الحاجة اقتضى البيع، وهو نفسه اقتضى هذا الصرف ليتم التبادل في هذه الصفقة. "د".
قلت: انظر أيضا: "عدة البروق" "ص: 550 وما بعدها".(7/144)
ص -454-…الكثير حكم التبيعة، ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة، وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود، ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدًا؛ فكان كالملغى حكمًا.
- ومنها1 أن كل تابع قصد؛ فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة على الجملة لا على التفصيل، أم هي مقصودة على الجملة والتفصيل؟ والحق الذي تقتضيه التبيعة أن يكون القصد جمليًّا لا تفصيليًّا؛ إذ لو كان تفصيليًّا لصار إلى حكم الاستقلال؛ فكان النهي واردًا عليه فامتنع، وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد، فإن كان جمليا؛ صح بحكم التبعية، وإذا ثبت حكم التبعية؛ فله جهتان:
جهة زيادة الثمن لأجله.
وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه.
فإذا فات ذلك التابع؛ فهل يرجع بقيمته أم لا؟ يختلف في ذلك، ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط، كالعبد إذا رُد بعيب وقد كان أتلف ماله؛ فهل يرجع على البائع بالثمن كله، أو لا2 وكذلك ثمرة الشجرة، وصوف الغنم، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الفائدة مكونة من فائدتين ترتبت إحداهما على الأخرى؛ فحكم التبعية استفيد منه أولًا أن القصد جملي لا تفصيلي، وإلا؛ لكان مستقلًا فامتنع، وهو لم يمتنع؛ فليس مستقلًا، فليس تفصيليًّا، وترتبت فائدة أخرى على هذه التبعية، وهي وجود جهتين له تقضي كل منهما بحكم كان سببًا في اختلاف الفقهاء في التفريع في هذا المقام على ما ذكره. "د".
2 فإن راعينا زيادة الثمن لأجل المال رجع على البائع بما عدا قيمة مال العبد، وإن راعينا عدم القصد إلى التفصيل فيه رجع بالثمن كله، وكان المال لاحظ له في الثمن. "د".(7/145)
ص -455-…- ومنها: قاعدة: الخراج بالضمان؛ فالخراج تابع للأصل، فإذا كان الملك حاصلًا فيه شرعًا؛ فمنافعه تابعة، سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أم لا، فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك؛ كان كانتقال الملك على الاستئناف1 وتأمل مسائل الرجوع2 بالغلَّات في الاستحقاق أو عدم الرجوع؛ تجدها جارية على هذا الأصل.
- ومنها: في تضمين الصناع ما كان تابعًا للشيء المستصنع فيه، هل3 يضمنه الصناع؛ كجفن السيف، ومنديل [الثوب]4، وطبق الخبز، ونسخة الكتاب المستنسخ، ووعاء القمح، ونحو ذلك بناء على أنه تابع؛ كما يضمن نفس المستصنع أم لا؟ فلا يضمن؛ لأنه وديعة عند الصانع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كأن الملك استؤنف الآن عند طرو الاستحقاق؛ فليس للمستحق شيء من الغلة التي حصلت قبل ثبوت الاستحقاق. "د".
2 كما قال خليل: "والغلة لذي الشبهة للحكم"؛ أي: من يوم وضع يده إلى يوم الحكم؛ كوارث من غير غاصب، وموهوب من غير غاصب، ومشترٍ كذلك، إن لم يعلموا بأنها مستحقة لغير من انتقلت منه إليهم؛ فلا رجوع عليهم بالغلة التابعة للملك الحاصل شرعًا بهذه الأسباب، بخلاف ما إذا علموا؛ فإنه لا تبعية حينئذ لملك صحيح فترد الغلة للمستحق، فكل من الرد وعدمه مبني على القاعدة المشار إليها، وهي إعطاء التابع حكم المتبوع. "د".
3 في المسألة أقوال ثلاثة: قيل: لا يضمن غير ما يصنعه نفسه، سواء أكان عمل المصنوع يحتاج له كالكتاب المستنسخ منه، أم لا؛ كعلبة وضع فيها القماش ليوصله فيها للخياط، وقيل يضمن التابع مطلقًا احتاج له المصنوع في صناعته أم لا، وقيل: إنما يضمن التابع إذا كان يحتاج إليه المصنوع؛ كالكتاب الذي يستنسخ منه، والمؤلف جمع من الأمثلة ما يحتاج إليه وما لا يحتاج. "د".
قلت: لابن رحال المعداني كتاب "تضمين الصناع"، وهو مطبوع، وفيه تفصيل وتقعيد لهذه المسألة.
4 سقط من "ط".(7/146)
ص -456-…- ومنها: في الصرف ما كان من حلية1 السيف والمصحف ونحوهما تابعًا أو غير2 تابع.
ومسائل هذا الباب كثيرة3.
فصل4
ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا5 منفعة فيه من المعقود عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحلى بأحد النقدين يجوز بيعه بأحد النقدين إن أبيحت التحلية؛ كسيف ومصحف، وكان في نزع الحلية فساد أو غرم، وعجل المعقود عليه، لا بد من هذه الشروط سواء كانت الحلية تابعة أم لا، بيع بصنفه أو غير صنفه، ويزاد في البيع بصنفه رابع، وهو أن تكون الحلية الثلث فأقل؛ فيكون تابعًا، وهذا ما يعنيه المؤلف؛ إلا أنه يبقى الكلام حينئذ في تسميته صرفًا، مع أن الصرف في عرفهم بيع النقد بنقد من غير صنفه، وأما بصنفه عددًا؛ فهو مبادلة وبه وزنًا مراطلة، فمسألتنا من المبادلة أو المراطلة؛ لأنها فيما كان من صنفه، أما ما كان غير صنفه؛ فلا يلزم فيه الشرط الرابع الذي يحقق موضوع التبعية كما عرفت. "د".
2 في "د": "وغيره".
3 ومنها جواز حمل المحدث المصحف إذا كان تابعًا لحمله أمتعته، ومنها ما إذا اشترى جملة أشياء ثم ظهر أن بعضها لا يجوز بيعه؛ فإنه يرد الكل وليس له التمسك بالباقي الحلال بما يخصه من الثمن إلا إذا كان وجه الصفقة؛ فيعد متبوعًا، ومثله ما قالوه في العيوب وجواز التمسك بالجزء الذي ليس فيه عيب بما يقابله من الثمن إذا كان وجه الصفقة، وهكذا من المسائل المتفرعة على هذا الأصل. "د".
4 ما تحته وكثير من أمثلة تقعيد وعميق وتفريع لما عند المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157 وما بعدها".(7/147)
5 اشترطوا في المعقود عليه أن يكون منتفعًا به انتفاعًا شرعيًا، واحترزوا به عن الحيوان محرم الأكل إذا أشرف على الموت بحيث لم يبلغ حد السياق؛ لأنه لا ينتفع به، عن آلة اللهو، وهذا ظاهر في ذاته، ولكن على أي شيء في المسألة السابقة يتفرع هذا؟ نعم، إن الذي يظهر تفريعه عليها القسم الثالث بتفاصيله الآتية وما ذكر قبله تمهيد وتوطئة للمقصود. "د".(7/148)
ص -457-…المعاوضات لا يصح العقد عليه، وما فيه منفعة أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون جميعها حرامًا أن ينتفع به؛ فلا إشكال في أن جارٍ مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة.
والثاني: أن يكون جميعها حلالًا؛ فلا إشكال في صحة العقد به وعليه.
وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيدٌ أن يوجدا في الخارج؛ إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة؛ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب1 المقاصد؛ فلا بد من هذا الاعتبار، وهو ظاهر بالاستقراء؛ فيرجع القسمان إذًا إلى القسم الثالث، وهو أن يكون بعض المنافع حلالًا وبعضها حرامًا؛ فههنا معظم نظر المسألة، وهو أولًا ضربان:
أحدهما: أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفًا، والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة؛ إلا أن يقصد2 على الخصوص وعلى خلاف العادة؛ فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف، والآخر لا حكم له؛ لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح3 لنا تملك عين من الأعيان، ولا عقد عليه لأجل منافعه؛ لأن فيه منافع محرمة، وهو من الأدلة4 على سقوط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الخامسة من النوع الأول، حيث قرر أنه لا يوجد شيء من الأمور المبثوثة في هذه الدنيا متمحضًا للمصلحة ولا للمفسدة، ولكن إذا رجحت المصلحة، قيل: إنه مصلحة وكان مطلوبًا، وبالعكس، وقوله: "هذا الاعتبار"؛ أي: عدم التمحض وبناء المبحث عليه. "د".
2 الاستثناء منقطع، وسيأتي حكم هذه الصورة في قوله: "اللهم... إلخ". "د".
3 لما عرفت من تمحض عين ما للمصلحة؛ فإذًا كل عين فيها جهة مفسدة ولو تابعة، فلو اعتبر الجانب التابع أيضًا؛ لم تبقَ عين يمكن تملكها. "د".(7/149)
4 لأنه يترتب عليه نهاية الضيق والحرج، بل قد يكون التبادل من مرتبة الضروري، ويترتب على منعه الإخلال بالضروري، وهذا الدليل المتين لم يسبق له إقامته على مسألة إلغاء التابع؛ فلذا قال: "وهو من الأدلة... إلخ"؛ أي: فليضم إلى الأدلة الثلاثة التي قدمها في صدر المسألة. "د".(7/150)
ص -458-…الطلب في جهة التابع، وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة، وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب؛ فكذلك ههنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص؛ فإن هذا يحتمل وجهين:
الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع1 وإن كان مقصودًا؛ فيرجع إلى الضرب الأول.
والآخر: اعتبار القصد الطارئ؛ إذ صار بطريانه2 سابقًا أو كالسابق، وما سواه كالتابع؛ فيكون الحكم له، ومثاله في أصالة المنافع المحللة3 شراء الأمة بقصد4 إسلامها للبغاء كسبًا به، وشراء الغلام للفجور به، وشراء العنب ليعصر خمرًا، والسلاح لقطع الطريق، وبعض الأشياء للتدليس بها، وفي أصالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي له حكاية الاتفاق على حرمة شراء العنب ليعصر خمرًا. "د".
قلت: وبما وقع في هذا النوع مسائل تُشكل على العالِم؛ فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرَّمة ملتبسًا أمرُها: هل هي مقصودة أم لا، ويرى ما سواها منافع مقصودة محللة؛ فيمتنع من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع محللًا، ولا ينشط لإطلاق الإباحة لأجل الإشكال في تلك المنفعة المحرَّمة؛ هل هي مقصودة أم لا؟ فيقف ههنا المتورِّع، ويتساهل آخر فيقول بالكراهة ولا يمنع ولا يحرم، ولكنه يكره لأجل الالتباس، فاحتفظ بهذا الأصل؛ فإنه من مُذْهَبَات العلم، ومن قتله علمًا هان عليه جميع مسائل الخلاف الورادة في هذا الباب، وأفتى وهو على بصيرة في دين الله تعالى، قاله المازري في "المعلم" "2/ 158".
2 لو قال: إذ صار بسبب قصده على الخصوص سابقًا... إلخ؛ لكان ظاهرًا. "د".
3 أي: مثال ما كان القصد فيه إلى الطارئ بالخصوص، وكان المقصد الأصلي فيه الحل شراء الأمة... إلخ؛ فإن شراء الجارية يقصد به عرفًا قصدًا أوليًّا الخدمة والتسري مثلًا، وعكسه يقال في أصالة المنافع المحرمة؛ فإن شراء الخمر مثلًا الأصل فيه الشرب المحرم. "د".(7/151)
4 وسيأتي حكاية الاتفاق على تحريم هذه الأمثلة "د".(7/152)
ص -459-…المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع1 ذلك، وشراء2 السِّرقين لتدمين المزارع، وشراء الخمر للتخليل، وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس، وما أشبه ذلك.
والمنضبط هو الأول3، والشواهد عليه أكثر؛ لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختلفوا في جواز بيع كلب الصيد والحراسة، مع اتفاقهم على جواز قنيته؛ فبعضهم أجازه وحمل النهي عن ثمن الكلب الوارد في الحديث على ما ليس للصيد والحراسة، ويكون اعتبر القصد الطارئ لما فيه من المصلحة متبوعًا وما سواه تابعًا، وبعضهم منعه حملًا للحديث على العموم؛ فيكون اعتبر المتبوع ما كان غالبًا، وهو عدم قصد الحراسة والصيد، وإن كان هذا يختلف فيه الأغلب عرفًا باختلاف البلاد؛ إلا أنه الآن في مقام التمثيل لما كان في الأصل محرمًا باعتبار القصد الأصلي عرفًا، ولكنه قصد فيه اعتبار طارئ جعله سابقًا أو كالسابق مما يقتضي خروجه عن التحريم إلى الحل؛ فكان مقتضاه أن يقول: على رأي من أجازه؛ لأنا إذا جرينا على رأي من منع بيع كلب الصيد كنا ألغينا التابع، وإن كان مقصودًا على الخصوص ورجعنا به للضرب الأول، ولم نكن اعتبرنا القصد الطارئ الذي هو بصدد تمثيله. "د".
قلت: انظر في مسألة "بيع كلب الصيد والحراسة": "المعلم" "2/ 158"، و"القبس" "2/ 798-799"، و"المنتقى" "5/ 28" للباجي، و"المجموع" "9/ 228"، و"المغني" "4/ 189". وفي "ط": "...أو للضرع أو الزرع...".
2 التدمين: هو بفتح أوله وكسر: الدمال أو الدمان الذي يوضع في الأرض لإصلاحها، وهو ما توطأته الدواب من البعر والتراب، ويقال له السرجين أيضًا. "ف".(7/153)
قلت: وفي الأصل: "الزبل"، وكتب "د" ما نصه: "اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع مطلقًا فيهما، والجواز لضرورة إصلاح الأرض به، وكان يناسب أن يؤخر قوله: "على رأي... إلخ" عن هذه الأمثلة مع ملاحظة إبدال منع بأجاز".
قلت: انظر "المعلم" "2/ 158".
3 أي: الوجه الأول من الوجهين المذكورين، وهو اعتبار القصد الأصلي وإلغاء القصد الطارئ ولو قصد على الخصوص، وقوله: "المنضبط"؛ أي: المطرد حكمه، أي: وأما اعتبار الطارىء؛ فإن وجد في بعض الفروع ما يمكن تطبيقها عليه؛ إلا أنه لا يطرد. "د".(7/154)
ص -460-…والعادة هو الذي جاء في الشَّريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل؛ فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إنْ كانت مِنْ عليِّ1 الرقيق، أو الخدمة إن كانت من الوخش2، وشراء الخمر للشرب، والميتة والدم والخنزير للأكل، هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم، ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...} إلى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 23]، فوجّه التحليل والتحريم عل أنفس الأعيان لأن المقصود مفهوم.
وكذلك قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، وأشباهه.
وإن كان ذلك محرمًا في غير الأكل لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل، وما سوى ذلك ما يقصد بالتبع، ولا3 يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له.
وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام في شحم الميتة: إنه تطلى به السفن، ويستصبح به الناس؛ فأوردَ ما دل على منع البيع، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات؛ لأن المقصود وهو الأكل محرَّم، وقال: "لعن الله اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشُّحومُ فجَملوها؛ فباعوها وأكلوا أثمانها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "على".
2 بفتح الواو وسكون الخاء والمعجمة: الدّنيء. "ف".
3 في "د": "وما لا".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر}، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما سيأتي قريبًا.(7/155)
قال "ف": "حرم الله عليهم من الشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من البقر والغنم، قال تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 164]، وجملوها: أي: أذابوها، يقال: جمل الشحم: أذابه كأجمله واجتمله" ا. هـ.(7/156)
ص -461-…وقال في الخمر: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"1.
و"إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"2 لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم وما سواه تبع لا حكم له.
ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ولم يكن قصده البقاء؛ لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح، ولا تعتبر3 في أنفسها، وإنما تعتبر من حيث هي توابع، ولو كانت التوابع مقصودة شرعًا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب؛ لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة، بل لم يجز النكاح لأن الرجل إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الخمر، 3/ 1206/ رقم 1579"، ومالك في "الموطأ" "2/ 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخمر، 7/ 307-308" عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 280/ رقم 3488"، وأحمد في "المسند" "1/ 242، 293، 322"، والطبراني في "الكبير" "رقم 12887"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 313/ رقم 4938 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 13-14" عن ابن عباس ضمن حديث أوله: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم..."، وصنيع المصنف هنا موهم أن هذه القطعة جزء من الحديث السابق، وهو ليس كذلك، فلو فصل الحديثين بقوله: "وقال"؛ لكان أليق.
3 راجع الفصل اللاحق للمسألة الثالثة عشرة في الأسباب. "د".
قلت: في "ط": "ولا تعتبر بأنفسها".(7/157)
ص -462-…نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق، وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع، وهذا ثمن مجهول؛ فالمنافع التابعة للرقبة1 المعقود عليها أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية، هي المعتبرة، وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم؛ إلا أن يقصد قصدًا فيكون فيه نظر.
والظاهر أن لا حكم له في2 ظاهر الشرع؛ لعموم ما تقدم من الأدلة3، ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة، وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح، وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة، ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض4 القصد العام.
فإن5 صار التابع غالبًا في القصد، وسابقًا في عرف بعض الأزمنة حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المنافع المقصودة قصدًا أوليًّا التابعة للرقبة مباشرة، وكذا المنافع التابعة لهذا النوع من المنافع، هذان هما المعتبران، أما ما سواهما من التوابع؛ فلا، ففي النكاح المقصود الأول النسل مثلًا، ويتبعه الاستمتاع، أما بقاء ذلك ودوامه؛ فليس واحدًا منهما، فلذلك جاز النكاح للبر باليمين، هذا إذا قلنا: إن غرضه من النكاح المشار إليه سابقًا، ويصح أن يكون المراد لم يجز عقد النكاح مطلقًا لأن المنافع التابعة مجهولة؛ فما صح إلا بعد طرح النظر في التوابع. "د". وفي "ط": "الرقبة المعقود عليه".
2 في الأصل: "وفي".
3 أي: على عدم اعتبار حكم التابع في مخالفة حكم المتبوع؛ فبعد ما تردد وقال: "المنضبط هو الأول والشواهد عليه كثيرة... إلخ"، عاد فتوى عنده ذلك، واستظهر أنه لا حكم للتابع ولو قصد إليه بالخصوص، وهذا لا ينافي ما لاحظناه عليه من أنه كان الموافق للمقام هناك أن يقول: "على رأي من أجاز" لا "من منع"؛ لأن الكلام كان في فرض وتقدير لا في إعطاء أحكام متفرعة قطعًا. "د".
4 أي: فيبقى الحكم كما هو حلًّا أو حرمة. "د".(7/158)
5 هذا هو النتيجة الأصولية، وإن كانت المباحث السابقة والترديدات والاستظهارات لا تخلو من فوائد وتثقيف في سبيل فقه الدين وطريقة التوصل إلى قواعده. "د".(7/159)
ص -463-…يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح1؛ فحينئذ ينقلب الحكم، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق، ولكن إن فرض اتفاقه انقلب الحكم، والقاعدة مع ذلك ثابتة2 كما وضعت في الشرع وإن لم يتفق3، ولكن القصد إلى التابع كثير؛ فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفًا، والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارًا بالاحتمالين، وقاعدة الذرائع أيضًا مبنية على سبق4 القصد إلى الممنوع، وكثرة ذلك في ضم العقدين، ومن لا يراها بنى على أصل القصد في انفكاك العقدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "المطروح".
2 لأن القاعدة "اعتبار ما قصد غالبًا عرفًا"، فلو تغير المقصود عرفًا؛ فالتغير فيه لا فيها. "د".
3 أي: وإن لم يتفق صيرورة التابع متبوعًا في القصد عرفًا، ولكنه صار يقصد كثيرًا كثرة لا تصيره متبوعًا؛ فهل يعتبر؟ قال: إذا بنى على القاعدة من اعتبار ما يقصد مثله عرفًا؛ فإنه يعتبر لأنهم لم يشترطوا في هذه القاعدة كونه بحيث يصير متبوعًا، بل مجرد قصد مثله عرفًا، وهو متحقق في هذا الفرض، وقوله: "الاحتمالين"؛ أي: المعبر عنهما سابقًا بالوجهين: اعتبار القصد الأصيل، واعتبار الطارئ؛ إلا أن هذا يكون ههنا أقوى لكون القصد إلى التابع قيد هنا بالكثرة، وفي الكلام السابق لم يقيد بها، ولعل هذا هو الفارق، حيث حكم آنفًا على ذي الوجهين بأنه لا اعتبار له في ظاهر الشرع، وهنا قال: "المسألة مختلف فيها" مما يؤخذ منه الفرق بين ما كثر القصد إليه وغيره. "د".(7/160)
4 بدون مراعاة لكونه تابعًا، بل يكفي كثرة حصول ذلك كما قال: "وكثرة ذلك في ضم العقدين"؛ أي: في ضم بعضهما إلى بعض في عقدة واحدة كبيع أدى إلى بيع وسلف كما قال خليل وشراحه: "ومنع عند مالك -للتهمة لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدًا للذريعة- بيع كثر قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع كبيع وسلف"؛ أي: كبيع جائز في الظاهر يؤدي إلى بيع وسلف، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا؛ فآل الأمر إلى بيع للسلعة بأحد الدينارين وسلف الدينار الآخر يدفعهما بعد شهر، ومثله سلف بمنفعة؛ كبيعه سلعة بعشرة لأجل ويشتريها بخمسة نقدًا، وإنما قال: "عند مالك"؛ لأنه لا خلاف في منع صريح البيع والسلف، وليس من الذريعة، إنما الذريعة مثل ما ذكره خليل. "د".(7/161)
ص -464-…عرفًا، وأن القصد الأصلي خلاف1 ذلك.
والضرب الثاني: أن لا يكون أحد الجانبين تبعًا في القصد العادي، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة؛ كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة2 مقصودتين معًا عرفًا أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفًا؛ فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي لأن متعلقيهما متلازمان؛ فلا بد من انفراد أحدهما واطراح الآخر حكمًا، أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع، وأما على عدم اعتبارها؛ فيصير التابع عفوًا3، ويبقى التعيين4؛ فهو محل اجتهاد، وموضع إشكال، ويقل وقوع مثل هذا في الشريعة، وإذا فرض وقوعه؛ فكل أحد وما أداه إليه اجتهاده.
وقد قال المازري5 في نحو هذا القسم في البيوع: "ينبغي أن يلحق بالممنوع؛ لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تعتبر هذه الكثرة ما دامت على خلاف الأصل في المقاصد، والأصل في مسألة العقدين انفكاكهما هذا، ولكن قد يدعي أن الأصل عند اجتماع العقدين سبق القصد إلى الممنوع. "د".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 601": "وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلًا، والصاغة عندنا كلهم -أو غالبهم- إنما يتبايعون على ذلك: أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم!".
3 أي: لم يتعلق به طلب، فضلًا عن سقوطه. "د".
4 أي: هل التابع هو صوغها حليًا لمن لا يجوز له استعماله -والأصل هو تملك الذهب والفضة- أم الأمر العكس؟ فعلى الأول يجوز البيع والشراء، وعلى الثاني لا يجوز. "د".
5 في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157-158 - ط دار الغرب".(7/162)
ص -465-…والعقد واحد1 على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه، والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة؛ فمنع الكل لاستحالة التمييز، وإن2 سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولًا لو قدر انفراده بالعقد"3، هذا ما قال، وهو متوجه4.
وأيضا؛ فقاعدة الذرائع تقوى ههنا، إذًا قد ثبت القصد5 إلى الممنوع.
وأيضًا فقاعدة "معارضة درء المفاسد لجلب المصالح" جارية هنا؛ لأن درء المفاسد مقدم، ولأن قاعدة التعاون6 تقضي بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان، ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العبارة في "المعلم": "... كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع سواها، وهو عقد واحد...".
2 أي: ووجه ثانٍ لمنعه وهو لزوم الجهالة في ثمن ما عدا المنافع المحرمة. "د".
قلت: عبارة المازري في "المعلم": "وأن الباقي من المنافع...".
3 في "المعلم": "انفراده بالتعاوض".
4 وانظر لِمَ لَمْ يجرِ هنا ما جرى في مساقاة الشجر يكون بينه البياض اليسير، واجتماع البيع والصرف في دينار، وهكذا مما جعل فيه القليل الممنوع تابعًا للكثير الجائز؛ فكان يفصل هنا فيما إذا كانت قيمة الصياغة الثلث فأقل فتكون تابعة، وما إذا كانت قيمة العين الثلث فأقل فتكون تابعة، ويترتب على ذلك الجواز وعدمه، ويكون تفريعًا على الفائدة الأولى من الفصل الثاني، ولا فرق إلا أنه فيما سبق كان أصل المنع للغرر والجهالة، وهذا المنع لنفس الانتفاع بالمبيع؛ فلعل لهذا دخلًا في التفرقة، وسيأتي توجيهه. "د". وفي "ط": "متجه".
5 أما فيما ذكره من سبق القصد إلى الممنوع وكثرته في ضم العقدين كأمثلة خليل السابقة؛ فإنه كان فيها تهمة القصد إلى الممنوع فقط، بسبب كثرة ذلك في مثله؛ فما هنا أقوى. "د". وفي "ط": "إذ قد".(7/163)
6 أي: التعاون بالجائز على الممنوع الذي هو ممنوع شرعًا، يعني: ولما وجدت أصول أخرى كثيرة معارضة لقاعدة التبعية ألغي جانب اعتبار التبعية، كما أشار إليه أول الفصل الثاني بقوله: "ما لم يعارضه أصل آخر". "د". وفي "ط": "التعاون هنا تقتضي".(7/164)
ص -466-…وشراء السلاح لقطع الطريق، وشراء الغلام للفجور، وأشباه ذلك وإن كان ذلك القصد تبعيًا؛ فهذا أولى1 أن يكون متفقًا على الحكم بالمنع فيه لكنه2 من باب سد الذرائع، وإنما وقع3 النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم، وكون المعارضة فاسة [أو غير فاسدة]4، وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه ليس أحد الجانبين تبعًا للآخر، بل كل منهما يسبق القصد إليه كما هو الفرض في هذا الضرب، بخلاف شراء العنب وما معه. "د".
2 لعل الأصل: "لكونه"، وهذا التعليل إنما ينتج لو كان الغرض قصد الخلاف والوفاق على المالكية القائلين بسد الذرائع ومن يشاركهم في ذلك الأصل. "د".
3 جواب سؤال تقديره أنه كان مقتضى هذه القواعد الأصولية أن يتفقوا على منع هذا الضرب، مع أنهم اختلفوا فيه، فقال: بل هم متفقون على المنع والحرمة، والخلاف إنما هو في فساد المعاوضة وصحتها، ومعلوم أنه لا يلزم من القول بالحرمة القول بالفساد، والشافعية والمالكية يقولون: إن لم يدل دليل على الصحة كان فاسدا، سواء أكان الدليل متصلًا أو منفصلًا، وعند الحنفية خلاف فيه بالنسبة لبعض صوره. "د".
4 سقط من "ط".(7/165)
ص -467-…المسألة التاسعة:
ورود1 الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع2 للآخر، ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري؛ إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معًا في عمل واحد، وفي غرض واحد؛ كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة، ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة3؛ لأن الحكم فيهما واحد، ولأن4 الأمر قد يكون للإباحة؛ كقوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} [الجمعة: 10].
وإنما5 قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح، والمعنى في المساق المفهوم؛ فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض، ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد؛ لأن القصد يأباه، والمقاصد معتبرة في التصرفات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م" و"د": "ورد"، ولذا علق "د" بقوله: "لعل فيه سقط كلمة "إذا"، ويكون جوابها قوله: "فمعلوم... إلخ"، ويكون قوله: "ولنصطلح... إلخ" معترضًا.
قلت: والمثبت من الأصل و"ط"، وعليه؛ فلا حاجة للتعليق السابق.
2 أي: بأي نوع من أنواع التبعية التي تقدمت في المسألة السابقة وفصولها؛ فقوله: "متلازمان... إلخ" بيان للتبعية المنفية.
3 أي: في موضع ما يشمل الإباحة، بحيث يكون المراد به ما يكون طلبًا أو تخييرًا، وسيأتي في الأمثلة الجمع بين الأختين، وكل منهما مباح عند الانفراد، والجمع بين بيع وسلف، والبيع مباح والسلف مندوب مأمور به، وقوله: "الحكم فيهما واحد"؛ أي: في هذا المقام لأنهما يقابلان النهى هنا؛ فما يثبت للمأمور به إذا اجتمع مع المنهي عنه؟ وقد يثبت للمباح إذا اجتمع مع المنهي عنه، وقوله: "لأن الأمر" لعل الأصل: "ولأن الأمر"؛ فهو تعليل ثان لاختياره هذا الاصطلاح، لا أنه تعليل لكون حكمهما واحدًا لأنه لا يظهر، وكان يمكنه أن يضع بدل كلمة "المأمور" كلمة "المأذون فيه"، وهي تشملها في الاصطلاح العام؛ إلا أن عبارته أخصر. "د".(7/166)
4 في الأصل و"ف" و"د": "لأن"، وزيادة الواو من "م" و"ط".
5 في "ف": "وإذا".(7/167)
ص -468-…ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون حالة الانفراد.
ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين أو منهيين؛ فقد نهى عليه الصلاة والسلام: "عن بيع وسلف"1، وكل منهما لو انفرد لجاز.
ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها، وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال: "إذا فعلتم ذلك؛ قطعتم أرحامكم"2، وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد؛ فكان الاجتماع مؤثرًا، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أحمد في "المسند: "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/رقم 2188"، والدارمي في السنن "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع...".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب ا لنكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة رضي الله عنه.(7/168)
ص -469-…دليل، وكان تأثيره في قطع1 الأرحام وهو رفع الاجتماع، [وهو دليل أيضًا على تأثير الاجتماع]2.
وفي الحديث النهي عن إفراد يوم3 الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله أو ما بعده4.
وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين5 وعن صيام يوم الفطر6 لمثل ذلك أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ففي عبارة الحديث نفسها -بقطع النظر عن عبارة النهي الواردة فيه- ما يفيد أن الجمع ينشأ عنه ما لم يكن عند الانفراد، كما أن نفس النهي عن الجمع يفيد ذلك، ولو لم يقل: "إذا فعلتم..." إلخ؛ فقوله: "قطعتم أرحامكم"؛ أي: قطعتم هذه الصلة، وهذا الاجتماع المعنوي بينكم بهذا الجمع. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 وهذا من اجتماع مأمور به ومنهي عنه؛ فأثر ذلك الجمع الأمر بهما معًا، وقوله: "وكذلك نهى عن تقدم... إلخ" بالعكس؛ فرمضان وحده مطلوب"، وجمع يوم من شعبان إليه منهي عنه، وكذا يقال في يوم الفطر. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده"، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا يومًا قبله أو بعده".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه".(7/169)
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 779-800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر".(7/170)
ص -470-…ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع1 خشية الصدقة، وذلك يقتضي أن للاجتماع2 تأثيرًا ليس للانفراد، واقتضاؤه أن للانفراد حكمًا ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكمًا ليس للانفراد، ولو في سلب3 الانفراد.
ونهى عن الخليطين في الأشربة4؛ لأن لاجتماعهما تأثيرًا في تعجيل صفة الإسكار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما، مضى تخريجه "1/ 423" وعن سعد وغيرهما.
قال "د": "وهو يفيد أن للاجتماع والافتراق حكمًا يعول عليه ما لم تكن له نية سيئة، فيعامل بنقيض قصده؛ فالأصل ثابت في الحديث".
2 اقتصر على هذا، والحديث فيه الأمران لأن الذي يعنيه الآن أن يكون للاجتماع حكم ليس للانفراد، ولذلك لما أخذ الثاني أخذه مع تغيير الأسلوب ليجعله راجعًا إلى غرضه في الاجتماع أيضًا، وهو أنه يؤثر في الانفراد بسلبه؛ لأنه لا انفراد مع الاجتماع، ويكفيه هذا في غرضه، وسيأتي مقابل ذلك في قوله: "وللافتراق أيضًا تأثير... إلخ". "د".
3 إلا أن سلب صفة الانفراد عند الاجتماع لم يفقد الأجزاء خاصتها؛ لما سيجيء في توجيه مقابله، فإزالة هذه الصفة لا تفيد عدم الاعتداد بكل من الأجزاء على حدة، وإعطاءه ما يناسبه من الحكم. "د".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرهما مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".(7/171)
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574" عن جابر بن عبد الله، أن النبي نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".(7/172)
ص -471-…وعن التفرقة1 بين الأم وولدها2، وهو في "الصحيح".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يفوت مصلحة الاجتماع برعايتها لابنها سكون نفسها برؤيته، ولذلك يفسخ العقد عند مالك إذا كان العقد المتضمن لذلك عقد معاوضة. "د".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 580/ رقم 1283"، وأحمد في "المسند" "5/ 414"، والدارمي في "السنن" "2/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55-56"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67"، والطبراني في "الكبير" "4/ 217"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 126" بإسناد حسن عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: "من فرق بين الوالدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".
وفي الباب عن أبي موسى، أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 2250"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عنه؛ قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها، وبين الأخ وأخيه"، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عن عمران بن حصين بلفظ: "ملعون من فرق..."، وهو منقطع، طليق بن محمد -مع ما قيل فيه- لم يسمع من عمران، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب" "5/ 51".(7/173)
وفي الباب عن عبادة بن الصامت وعلي كما سيأتي في الحديث الآتي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 15-16"، و"سنن سعيد بن منصور" "رقم 2654-2661 - ط الأعظمي"، وقول المصنف عن الحديث: "وهو في "الصحيح" غير صحيح، بل الثابت في "صحيح مسلم" "كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، 3/ 1375-1376/ رقم 1755" من حديث سلمة بن الأكوع في الحديث الطويل، الذي أوله: "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر..."، وفيه: "وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر؛ فنفلني أبو بكر ابنتها".
وأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد"، وبوب عليه "باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم، 3/ 64/ رقم 2697"، وأحمد في "المسند" "4/ 46، 51".
وانظر في تحديد اسم المرأة وابنتها في: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 703" مع تعليقنا عليه.
وقال ابن العربي في "القبس" "2/ 800" في فقه المسألة: "اختلف العلماء على ثلاثة أقوال؛ فمنهم من قال: إن ذلك لحق الأم في التولية، وقيل: لحق الطفل، وقيل: لحق الله؛ فالبيع فاسد في ذلك؛ إلا على القول بأنه حق للأم فيقف على إجازتها".(7/174)
ص -472-…وعن التفرقة بين الأخوين1، وهو حديث حسن وهو كثير في الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 581/ رقم 1284"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن التفريق بين السبي، 2/ 755-756/ رقم 2249"، وأحمد في "المسند" "1/ 97-98، 102، 126-127"، والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والمخلص في "فوائده" "ق28/ ب"، والبزار في "البحر الزخار" "2/ 227/ رقم 624" من طرق عن علي رضي الله عنه؛ قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي! ما فعل غلامك؟". فأخبرته؛ فقال: "رده، رده". لفظ الترمذي وغيره.
ولفظ البزار وغيره: "كان عندي غلامان أخوان، فأردت بيع أحدهما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعهما جميعًا، أو أمسكهما جميعًا".
والحديث ورد بألفاظ مختلفة، وبطرق متعددة، وضعفه شيخنا الألباني في تعليقه على "المشكاة" "رقم 3362".
اختلف فيه على بعض الرواة كما بسطه الدارقطني في "العلل" "رقم 401"، ورجح البيهقي صحة الحديث لشواهده، ولكن بلفظ: "إنه باع جارية وولدها ففرق بينهما؛ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك"، وليس فيه ما يدل على ما ذكره المصنف، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "السنن" "3/ 63-64/ رقم 2696" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 126"- والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 375-376"، وإسناده منقطع؛ لأن ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عليًا، كما قال أبو داود، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 16".
قلت: ويشهد له ما تقدم في الحديث السابق، والله الموفق.(7/175)
ص -473-…وأيضًا، فإذا أخذ الدليل في الاجتماع أعم1 من هذا؛ تكاثرت الأدلة على اعتباره في الجملة، كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة2؛ لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد؛ كالتعاون [والتظاهر، وإظهار أبهة الإسلام وشعائره، وإخماد كلمة الكفر، ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد، وشرعت المواصلات]3 بين ذوي الأرحام خصوصًا وبين سائر أهل الإسلام عمومًا، وقد مدح الاجتماع وذم الافتراق، وأمر بإصلاح ذات البين وذم ضدها وما يؤدي إليها، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
وأيضًا؛ فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرًا زائدًا لا يوجد مع الافتراق، هذا وجه تأثير الاجتماع.
وللافتراق أيضًا تأثير من جهة أخرى، فإنه إذا كان للاجتماع معانٍ لا تكون في الافتراق؛ فللافتراق4 أيضًا معانٍ لا تزيلها5 حالة الاجتماع؛ فالنهي عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقطع النظر عما قيد به أولًا من الجمع بين مأمورين أو مأمور ومنهي عنه... إلخ، فإن الأمر بالاجتماع لا يقال فيه: إنه واحد مما صور فيه الكلام أولًا. "د".
2 في الأصل و"ط": "الفرقة".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أي: للمفترقات أيضًا "ف"، وكتب "د": "وانظر لِمَ لم يذكر من آثاره ما أشار له في الحديث المتقدم من أن لتفريق الخليطين نعمهما أثرًا في الزكاة بزيادتها أو نقصها ما لم يفعلا ذلك خشية الصدقة".(7/176)
5 لم يقل: ليست توجد عن الاجتماع، بل اقتصر في كل المحاولة الآتية على أن يثبت أن الأمور المتعددة عند اجتماعها لا تفقد كل واحد منها خواصها؛ أي: فمعاني المجتمعات التي تثبت لها عند الانفراد لا تزال متحققة عند الاجتماع، وهذا هو الذي يعنيه، وسيرتب عليه التعارض واختلاف النظر؛ فلا يصح أن تكون المقابلة بين الانفراد والاجتماع إلا على هذا الوجه، لا بأن تكون على أن معاني الافتراق لا توجد عند الاجتماع، وقوله: "وللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به"؛ أي: لا يصح ولا يعقل أن تبطل بالاجتماع؛ لأن بطلانها يبطل المعنى الذي في الاجتماع كما مثل، فإن الأعضاء عند الاجتماع حافظة لخاصتها ولو لم يكن كذلك، بل صار المجموع بمنزلة اليد أو الرجل أو العين فقط لم يكن هو الإنسان؛ فاحتفاظ كل واحد بخاصته حفظ للإنسان المكون من هذه المجتمعات؛ فهذا كالترقي على ما قبله؛ كأنه يقول: ليس فقط أن الاجتماع لا يهدم خاصة كل واحد على انفراده، بل إن الاجتماع نفسه لا يتحقق إلا بهذا الحفظ. "د".(7/177)
ص -474-…البيع والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما1 معنى هو2 موجود حالة الاجتماع وهو الانتفاع بكل واحد منهما؛ إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي، وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية، ومثله3 الجمع بين الأختين وما4 في معناه مما ذكر من الأدلة.
وأيضًا؛ فإن كان للاجتماع معانٍ لا تكون في الانفراد؛ فللأفراد5 في الاجتماع خواص لا تبطل به، فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان، فإن مجموعها هو الإنسان، ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد وعلى6 تحصيل معنى واحد؛ لبطل الإنسان، بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد، واليد تفيد ما لا تفيده الرجل، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق وغيرها، فإذا ثبت هذا؛ فافهم مثله في سائر7 الاجتماعات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن لهما عند الافتراق. "د".
2 سقط من "ط".
3 فمنافع الزوجية موجودة في كل من الأختين عند اجتماعهما أيضا، ولكن النهي ورد للمعنى الزائد في الاجتماع. "د".
4 في "ط": "ومما".
5 في "ط" كذا، وفي غيره: "فللانفراد".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو على".
7 لكن هذا ليس جمعًا اعتباريًا كاجتماع الشيئين المتباينين في عقدة وصيغة واحدة مثلًا؛ فهناك لأعضاء الإنسان نظام طبيعي يجعل الحياة مشتركة والعمل موزعًا كما يقول، وأين من هذا مجرد جمع الشيئين في صيغة أو قصد واحد؟ فلعل المراد بهذا التشبيه التقريب، وإلا؛ فكيف يبني على مجرد هذا قاعدة أصولية في الشريعة تبنى عليها أحكام وتفاريع؟ نعم، إن الأحكام مبنية كما سبق على مجرى العادة في الإنسان، سواء كانت طبيعية أو غيرها، ولكنها تكون حقيقة لا تشبيهًا واعتبارًا. "د".(7/178)
ص -475-…فالأمر1 بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد2 الأفراد حالة الاجتماع، فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع؛ فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضًا حالة الاجتماع، وأيضًا؛ فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضًا؛ فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها؛ فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد. ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين.
وإذا كان كذلك؛ فحين امتزج الأمران في المقصد3 صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي [معًا]4 فيهما كما تقدم في المتلازمين، ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر أو بالنهي أو لا5؛ فإن من العلماء من يجري عليهما حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارًا بالعرف الوجودي والاستعمال، إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه، والخلاف موجود بين العلماء في مسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الدليل على تأثير الاجتماع بالمعنى الأعم السالف: "غير مبطل"؛ أي: بالدليلين السابقين، وهذا منه شروع في استغلال المقامات السالفة من أول المسألة إلى هنا لتأصيل القاعدة الآتية. "د".
2 بل كل واحد من أفراد الإنسان المندمجين في هذا الاجتماع حافظ لسائر خواصه كما هو واضح، وقوله: "فمن حيث حصلت الفائدة... إلخ"، هذا مرتب على مجموع ما قرره من أن لكل من الاجتماع وأجزائه تأثيرًا حاصلًا عند الاجتماع، وقوله: "وأيضًا" هذا إشارة إلى فرض المسألة، وأنه ليس أحد المجتمعين تابعًا للآخر، بل بحيث يصح استقلال كل منهما بالحكم؛ فهل يعتبر تأثير الاجتماع أم يعتبر بقاء أثر الانفراد؟ يعني: فيكون هناك مدركًا لأصحاب النظر والاجتهاد، أحدهما مبني على تأثير الاجتماع، والآخر مبني على حفظ المفترقات خواصها عند الاجتماع. "د".
3 في "ط": "القصد".
4 سقط من "ط".(7/179)
5 أي: لا يتوجه عليهما معا حكم واحد بالأمر أو النهي، بل لكل حكمه، وهذا نظر من يلتفت لبقاء الخواص للمنفردات عند الاجتماع، وما قبله لما قبله؛ فقوله: "فإن من العلماء... إلخ" بيان لقوله: "أولًا". "د".(7/180)
ص -476-…"الصفقة تجمع بين حرام وحلال"1، ووجه كل قول منهما قد ظهر.
ولا يقال: إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول، فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع وأن له حكمًا لا يكون حالة الانفراد؛ فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع2 مع المتبوع؛ فإنه صار جزءًا من الجملة، وبعض الجملة تابع للجملة.
ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل، أو مندوبًا بالجزء واجبًا بالكل، وسائر الأقسام التي يختلف3 فيها حكم الجزء مع الكل، وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معًا، فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودًا في الجملة، فتوجه4 النهي لما تعلق به من ذلك، ووجه ما تقدم في تعليل المازري [وما ذكر معه]5.
لأنا نقول: إن صار كل واحد من الجزأين كالتابع مع المتبوع؛ فليس جزء6 الحرام بأن يكون متبوعًا أولى من أن يكون تابعًا، وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر، وله معارض وهو اعتبار الأفراد كما مر، وأما توجيه المازري؛ فاعتباره مختلف7 فيه، وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ولا غيره؛ فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد، ويمكن أن لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر عنها: "معالم السنن" "5/ 24" للخطابي.
2 أي: وقد تقدم أنه لا حكم للتابع غير حكم المتبوع. "د".
3 في "ط": "وسائر الأحكام التي تختلف...".
4 في "ط": "فيتوجه".
5 سقط من "ط".
6 في الحقيقة لم يجعل المتبوع هو الجزء الحرام، بل الهيئة المكونة منه ومن غيره التي اقتضت المفسدة والنهي يعتمد المفسدة. "د".
7 بقي عليه أن يجيب عن القواعد التي ذكرها من درء المفاسد وسد الذرائع والتعاون، وليس من السهل على المجتهد الإغضاء عن ثلاث قواعد أصولية مهمة كهذه، في مقابلة قاعدة تأثير الانفراد وبقاء خواصه التي لم تثبت في نفسها إلا بمجرد التشبيه البعيد بأعضاء الإنسان... إلخ. "د".(7/181)
ص -477-…المسألة العاشرة:
الأمران1 يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه، إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعهما2 في عمل واحد أو في3 غرض واحد؛ فقد تقدم أن للجميع تأثير، وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد، كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع.
ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام الآخر، أو لا؛ فإن كان كذلك4 رجع في الحكم إلى اجتماع الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان5 قصدًا وذلك مقتضى المسألة قبلها، ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية تقترن به؛ فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء، وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين، كان ذلك العمل عادة أو عبادة، فإن اقترن عملان وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر، فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الاجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت المصالح؛ فتنافت وجوه المصالح وتدافعت، وإذا تنافت؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تشترك هذه المسألة مع ما قبلها في أن الشيئين اللذين قصد المكلف جمعهما في عمل واحد ليس أحدهما تابعًا لآخر بوجه من أوجه التبعية المتقدمة، وتخالفها في أن تلك ورد الأمر فيها على أحد الشيئين، والنهي على الآخر عند الانفراد، أما هذه؛ فلم يتوجه فيها نهي لأحد الشيئين، ولكن لكل منهما لوازم معتبرة شرعًا، وهذه اللوازم متنافية، فهل يعتبر تنافي اللوازم موجبا لعدم صحة اجتماعهما في عمل واحد وغرض واحد فيبطل العقد، أم لا؟ "د".
2 في "د": "جمعها"، وفي "ط": "جمعهما معًا".
3 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "وفي".
4 راجعة للصورة الأولى، وهي ما كان بين أحكامهما تنافٍ. "ف".
5 في الأصل و"ف" و"ط": "الشيء مجتمعان، وكتب "ف": "لعله "الشيئين يجتمعان قصدًا".(7/182)
ص -478-…لم تبقَ مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد، فاستقرت الحال فيها على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه؛ فاستويا في تنافي الأحكام لأن النهي يعتمد المفاسد، والأمر يعتمد المصالح، واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما مر؛ فامتنع ما كان مثله.
وأصل هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف1؛ لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة، وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع؛ فخرج السلف عن أصله؛ إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب نسيئة، فرجع إلى أصله المستثنى2 منه من حيث كان ما استثنى منه وهو الصرف3 أصله المغابنة والمكايسة، والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة، فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع؛ امتنع من وجهتين4:
إحداهما: الأجل الذي في السلف.
والأخرى: طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى.
وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به؛ إما وجوبًا، أو ندبا، أو إباحة5 إذا لم يكن أحدهما تبعا6 للآخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص468".
2 في "ط": "مستثنى منه".
3 صوابه البيع، وقوله: "والمكايسة فيه"؛ أي: في السلف. "د".
4 في "د": "جهتين".
5 لا يظهر عطفه على ما قبله إلا على اصطلاحه في المسألة قبلها. "د".
6 كالتبرد والنظافة وإيقاظ الحواس مع رفع الحدث بالوضوء والغسل، وكالحمية مع العبادة بالصوم، والصحة مع تأدية الفريضة في السفر للحج، وهكذا مما كان شأنه التبعية للعبادة في القصد، وقد تقدم له الخلاف بين ابن العربي والغزالي في خروج العبادة عن الإخلاص وعدمه، بناء =(7/183)
ص -479-…وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي1 في الصلاة، وجمع2 النية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معًا، وجمع3 فرضين معًا في فعل واحد؛ كظهرين، أو عصرين، أو ظهر وعصر، أو صوم رمضان أداء وقضاء معًا، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على صحة انفكاك القصدين كما هو نظر ابن العربي، أو على مجرد الاجتماع وجودًا ولو صح الانفكاك كما هو رأي الغزالي، راجع الفصل التالي للمسألة السادسة من النوع الرابع في المقاصد، وقد تقدم آنفًا أنه إذا كان أحدهما تبعًا للآخر، وكانت أحكامهما متنافية كاجتماع البيع والصرف في دينار واحد؛ فلا يضر لإلغاء التابع، فإذا حمل كلامه في التابع على مثل صورة الصرف والبيع المذكورة يظهر كلامه، ولا يتعارض مع ما سبق، ولا مع ما يأتي بعد من جعل التبرد وما معه مما فيه الخلاف؛ فيتعين أن يحمل قوله هنا: "إذا لم يكن تبعًا" على ما يماثل الصورة المذكورة وإن كانت في المعاملات، وكلامه فيما يجتمع مع العبادات. "د".
1 في "ط": "المتنافي".(7/184)
2 كمن يعيد صلاته مع الجماعة مثلًا، فينوي بها أنها فرض ونفل معًا؛ فقد جمع بين متنافيين في الأحكام، فالفرض يأثم بتركه والنفل لا يأثم، والفرض تسن فيه الجماعة والنفل لا، والفرض تقام له الصلاة والنفل لا، والفرض يجب فيه القيام على القادر والنفل لا، وهكذا، وكمن ينوي بالظهر الفرض والركعات المطلوبة قبله أو بعده ندبًا؛ فإن هناك تنافيًا ظاهرًا بين كونها معتبرة قبلًا أو بعدًا وبين تأديتها بها الآن، ولذلك لم يجز مثل هذا أحد، أما إذا نوى الظهر وتحية المسجد مثلا؛ فقالوا: إنه بذلك يثاب ويسقط عنه طلب التحية، وإن لم ينو سقطت التحية ولا ثواب، وقالوا: إن من عليه قضاء رمضان له أن ينوي معه مثل نفل صوم عاشوراء والأيام البيض ويوم عرفة، والواقع أن النفل أعم من الفرض من جهة شروطه وما يطلب فيه؛ فيمكن أن يجتمع معه النفل بدون منافاة إذا لم يكن مانع آخر يقتضي المنافاة مثل الصورتين اللتين ذكرناهما، ولم نر خلافًا في نية تحية المسجد مع الفرض، وقوله: "والعبادة"؛ أي: مطلقًا ولو غير صلاة، وقد عرفت مسألة الصيام، ومثلها الحج مع العمرة النافلة مع أنهما صحيحان. "د".
قلت: انظر في بيان الجمع بين عبادتين بأكثر من نية: "الأشباه والنظائر" "39" لابن نجيم، ط دار الفكر - دمشق، و"قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي".
3 لأنهما متنافيان من جهة أن أحدهما عن واجب لوقت خاص، والآخر عن واجب لوقت آخر، ولذلك لم تجز كفارة واحدة عن مقتضى كفارات مثلًا. "د".(7/185)
ص -480-…ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض، وإن كان في بعضها خلاف، فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارًا بمعنى الانفراد1 حالة الاجتماع؛ فمنع من اجتماع الصرف والبيع، والنكاح والبيع، والقراض والبيع، والمساقاة والبيع، والشركة والبيع، والجُعْل والبيع -والإجازة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع- ومنع من اجتماع2 الجزاف والمكيل، واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع.
وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام3 المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييف حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس4 والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير5، ولا بقاء علقة6، وليس البيع كذلك.
والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة، ولذلك سمى الله الصداق نحلة، وهي العطية لا في مقابلة عوض، وأجيز فيه نكاح التفويض بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة؛ إذ هما مستثنيان من أصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما قال أشهب: لا يحرم الصرف والبيع، وأنكر أن يكون مالك حرمه نظرًا إلى أن العقد احتوى على أمرين كل منها جائز على الانفراد، قال: "وإنما حرم مالك الذهب بالذهب على أن يكون مع كل منهما سلعة، قال ابن عرفة: وهو أوجه في النظر، وإن كان خلاف المشهور" "د".
2 الممنوع اجتماع جزاف من حب مع مكيل منه في عقد واحد، وكذا جزاف من أرض مع مكيل منها، وكذا اجتماع جزاف من حب مع مكيل من أرض؛ لأن في ذلك خروج أحدهما عن أصله أو خروجهما معًا عن أصلهما؛ إذ الأصل في الحب الكيل، وأصل الأرض أن تباع جزافًا، أما إذا اشترى أرضًا جزافًا مع مكيل حب؛ فلا مانع لأنهما جاءا على أصلهما. "د".
3 في "ط": "كله لاجتماع الأحكام".
4 فلا يجوز الصرف بتصديق في الجنس، وكذا في العدد أو الوزن، بل لا بد من التحقق من هذا كله قبل البت في الصرف. "د".(7/186)
5 قالوا: إنه أضيق ما يطلب فيه المناجزة. "د". وفي "ط": "التي لا تردد...".
6 ولو بأن يوكل غيره في القبض بغير حضوره. "د".(7/187)
ص -481-…ممنوع، وهو الإجارة المجهولة؛ فصارا1 كالرخصة، بخلاف البيع، فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك؛ فأحكامه تنافي أحكامهما.
والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين، والبيع يضاد ذلك، والجعل مبني على الجهالة بالعمل، وعلى أن العامل بالخيار2، والبيع يأبى هذين، واعتبار الكيل في المكيل3 قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل، والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم، والإجارة عقد على منافع لم توجد؛ فهو4 على أصل الجهالة، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة، والبيع ليس5 كذلك.
وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى، والمنع بناء على تضاد البت والخيار.
وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما أو عدم تضادها6؛ كذلك اختلفوا أيضًا في جمع العبادي مع العادي؛ كالتجارة7 في الحج أو الجهاد، وكقصد التبرد مع الوضوء، وقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فصار".
2 لأن الجعل لا يلزم بالعقد، بخلاف البيع ما لم يكن على الخيار. "د".
3 في "ط": "بالمكيل".
4 في "ط": "فهي".
5 أي: فلا يجوز اجتماعهما، لكن المعروف في المذهب غير هذا، ونص خليل عدم فسادها مع البيع، قال الشراح: فلا تفسد مع البيع لعدم منافاتهما، سواء أكانت الإجارة في نفس المبيع أم في غيره؛ إلا أنها إذا كانت في غير المبيع لا يشترط فيها شيء، وإذا كانت فيه كما إذا اشترى منه قماشًا ليخيطه له ثوبًا اشترط لها شروط كعدم تأخير العمل... إلخ. "د".
6 في "ط": "تضادهما".(7/188)
7 التجارة في الحج ورد الإذن فيها بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وإن خالف أبو مسلم وادعى المنع وحمل الآية على ما بعد الفراغ من أعمال الحج؛ فهو محجوج بالآثار الصحيحة، فضلًا عن كونه يبعد بالآيه عن سبب النزول. "د".(7/189)
ص -482-…الحمية مع الصوم، وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة1، وقد مر هنا وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة، وبالله التوفيق.
وإن كانا غير متنافيي الأحكام؛ فلا بد أيضا من اعتبار قصد الاجتماع، وقد تقدم الدليل عليه قبل؛ فلا يخلو أن يحدث الاجتماع حكمًا يقتضي النهي، أو لا.
فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيًا عنها واتحدت جهة2 الطلب، فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء، وصارت الجملة شيئًا واحدًا يتعلق به إما الأمر وإما النهي؛ فيتعلق به الأمر إن اقتضى المصلحة، ويتعلق به النهي إن3 اقتضى مفسدة؛ فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة؛ فلا بد أن يتعلق به النهي؛ كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها، والجمع بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله وما بعده، والخليطين في الأشربة، وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه في مذهب مالك4 فإن الجمع يقتضي عدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب الجمهور خلافًا لابن حزم في "المحلى" "2/ 43"، ونقل عدم الإجزاء عن جماعة من السلف، وساق آثارًا كثيرة تدل عليه، وفاته ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 282" بإسناد حسن عن عبد الله بن أبي قتادة؛ قال: "دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة؛ فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة. قال: أعد غسلًا آخر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". وانظر تبويب البيهقي في "الكبرى" عليه.
2 في "ط": "والحدث جهة....".
3 في "د": "إذا".
4 انظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل" "6/ 43".(7/190)
ص -483-…اعتبار الإفراد بالقصد الأول؛ فيؤدي ذلك إلى الجهالة1 في الثمن بالنسبة إلى كل واحد من البائعين، وإن كانت الجملة معلومة؛ فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها.
وأما المجيز؛ فيمكن أن يكون اعتبر أمرًا آخر، وهو أن صاحبي السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك [في]2 معنى الشركة فيهما3، فكأنهما قصدا الشركة أولًا، ثم بيعهما والاشتراك في الثمن، وإذا كانا في حكم الشريكين، فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين؛ لأن كل واحدة كجزء السلعة الواحدة؛ فهو قصد تابع لقصد الجملة؛ فلا أثر له، ثم الثمن يفض على4 رءوس المالين إذا أرادا القسمة، ولا امتناع في ذلك؛ إذ لا جهالة5 فيه، فلم يكن في الاجتماع حدوث فساد.
وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي؛ فالأمر متوجه؛ إذ ليس إلا أمر أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المؤدية إلى التنازع والشحناء، على خلاف المصلحة الاجتماعية بين الناس. "د".
2 سقطت إلا من "ط"، وكتب "ف": "ولعله "في المعنى".
3 وقع خلاف بين الفقهاء في المحل في الشركة؛ فاتفقوا على جوازها في النقدين، واختلفوا في العروض قيميًّاكان أو مثليًّا أو عدديًّا متقاربًا وغير متقارب، والراجح الجواز، وهو ما أومأ إليه المصنف، وانظر في المسألة: "فتح القدير" "5/ 16"، و"بدائع الفوائد" "6/ 59"، و"المغني" 5/ 14"، و"حاشية الشرقاوي" على التحرير" "2/ 11"، و"كشاف القناع" "2/ 254"، و"الإقناع" "1/ 292"، و"الشركات في الفقة الإسلامي" "ص37" للخفيف، و"الشركات في الشريعة الإسلامية" "1/ 108-115" للخياط.
4 أي: يفرق على حسب رءوس الأموال. "ف". قلت: في "ط": "يقبض على".
5 لأن رأس مال كل منهما هو ما دفعه ثمنًا لسلعته، وهو معلوم. "د".(7/191)
ص -484-…المسألة الحادية عشرة
الأمران1 يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما راجعًا إلى الجملة2، والآخر راجع إلى بعض تفاصيلها أو إلى بعض أوصافها، أو إلى بعض جزئياتها؛ فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول.
والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع وهو3 الأمر الراجع إلى الجملة، وما سواه تابع؛ لأن ما يرجع إلى التفاصيل أو الأوصاف أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة لها، وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا مطلقا، وهذا [معنى كونه تابعًا، وأيضًا4، فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون]5 مقتضى الأمر بالجملة، بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن6 إيقاع التفاصيل؛ لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل، والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف، والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي، وإذا كان كذلك؛ فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة.
ولذلك أمثلة كالصلاة -بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية والخبثية، وأخذ الزينة، والخشوع، والذكر، والقراءة، والدعاء، واستقبال القبلة، وأشباه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأمر هنا على حقيقته لا على الاصطلاح في المسألتين السابقتين. "د".
2 أي: إلى نفس المطلق، وقوله: "بعض تفاصيلها"؛ أي: أجزائها؛ كالقراءة، والذكر في الصلاة، وقوله: "بعض أوصافها؛ أي: كتطويل الركوع والسجود فيها وكونها بخشوع، وقوله: "بعض جزئياتها"؛ كصلاة الظهر أو التهجد أو الوتر، وهكذا من الجزئيات الداخلة تحت كل صلاة. "د".
3 في "ط": "فالمتبوع هو...".
4 دليل ثانٍ على أن ما سوى الأمر بالجملة تابع للأمر بها وليس مستقلًّا. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: من حيث كونها تفاصيل مع فرض فقدان الأمر بالجملة. "ف". وعنده بدل "يمكن": "لكن"، وقال: "وهكذا بالأصل، ولعله يمكن".(7/192)
ص -485-…ذلك، ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب1 الكسب [فيها] وإخراجها في وقتها وتنويع2 المخرج ومقداره، وكذلك الصيام، مع تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وترك الرفث3، وعدم التغرير4، وكالحج مع مطلوباته التي هي له كالتفاصيل والجزئيات والأوصاف التكميليات، وكذلك القصاص مع العدل واعتبار الكفاءة5، والبيع مع توفية المكيال والميزان، وحسن القضاء والاقتضاء والنصيحة6، وأشباه ذلك؛ فهذه الأمور مبنية في الطلب على طلب ما رجعت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو وما يليه للوصف، وتنويع المخرج ومقداره للجزئي. "د".
وفي "ف": "انتقاء" بالفاء، ولعله بالقاف كما يقتضيه المعنى.
2 كونه من النقدين أو الزروع أو الأنعام، ومقداره كون الواجب في الأول ربع العشر مثلًا، وهكذا؛ فكل هذه الأوامر تابعة لـ{آتُوا الزَّكَاة}، وقوله: "مع تعجيل الإفطار"، هذا وما بعده في الصوم وكلها من الأوصاف الكمالية فيه. "د".
3 السحور هو بضم السين: الفعل، وبفتحها: ما يؤكل آخر الليل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخره حتى يبقى على الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية.
والرفث: الفحش. "ف"، وقال "ماء": "الجماع".
4 التغرير: التعرض للهلكة والأذى، وقد ورد النهي عن تعرض الصائم لما يفسد صومه من المباشر ومقدمات الجماع والمبالغة في المضمضة والاستنشاق؛ لأن ذلك كله مظنة لإفساد الصوم، ومثله الحجامة للحاجم والمحتجم. "د".
قال "ف": "كذا بالأصل؛ فليتأمل". ا. هـ.
5 المماثلة في الحرية والإسلام مثلًا، بحيث لا يقتل الحر بالعبد ولا المسلم بالكافر؛ فهذان مكملان لهذا الضروري. "د".(7/193)
6 الأمثلة الأربعة متعلقة بالبيع من باب الأوصاف؛ إلا أنه يقال: إن البيع من المباح، وهذه الأمور الأربعة الأوامر فيها بين واجب ومندوب، وكيف يقال فيه: تواردت الأوامر على المتبوع باعتباره في نفسه وباعتبار تفاصيله؛ إلا أن يقال: إن البيع من الضروريات أو الحاجيات على ما سبق؛ فهو إذا مطلوب تتوجه إليه الأوامر باعتبار ذاته كما تتوجه إليه باعتبار توابعه، على أنه وإن كان أصله الإباحة بالجزء؛ فإنه مطلوب بالكل. "د".(7/194)
ص -486-…إليه، وانبنت عليه؛ فلا يمكن أن تفرض1 إلا وهي مستندة إلى الأمور المطلوبة الجمل، وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات.
بخلاف2 الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع كالشجرة المثمرة قبل الطيب؛ فإن النهي لم يرد على بيع الثمرة إلا على حكم الاستقلال، [فلو فرضنا عدم الاستقلال]3 فيها؛ فذلك راجع إلى صيروة الثمرة كالجزء التابع للشجرة4، وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة، وهو معنى القصد إلى العقد عليهما معًا؛ فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم، وحصل5 من ذلك اتحاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعرض" بالعين.(7/195)
2 أي: فالأمر فيهما بالعكس؛ ففي توارد الأمرين لم يرد الأمر بالتابع إلا مستندًا للأمر بالمتبوع، بحيث لا يتأتى الأمر بالتابع وحده مقطوعًا فيه النظر عما جعل تابعًا له، بخلاف توارد الأمر والنهي؛ فإنه ما توجه النهي على التابع مثلا إلا مع قطع النظر عن المتبوع، حتى إذا نظر إلى المتبوع سقط النهي وأُلغي، هذا في ذاته ظاهر، ولكن الكلام في فائدة هذه المسألة عمليًّا، ولا يخفى أن معنى الاتحاد الذي ذكره بعد هو اتحاد في مورد الأوامر، على معنى أن ما يرد على التفاصيل والأوصاف وارد على الجملة باعتبار هذه الأوصاف، وإن كان هذا لا يقتضي ألا يكون للأمر بالأوصاف أثر جديد زائد على الأمر الوارد على المتبوع باعتبار التابع أقوى من الوارد على نفس المتبوع، وذلك كالتوفية في الكيل والميزان بالنسبة للبيع، وقد يكون بالعكس كما في الأمر بتأخير السحور، وقد يكون آتيًا ببيان أن هذا التفصيل تتوقف عليه الجملة كجزء أصلي منها أو كشرط، وهكذا، وسيأتي له في المسألة الثالثة عشرة بيان أوفى تعلم منه فائدة جليلة عملية لمسألتنا هذه، وقد أشار إليه هنا إشارة إجمالية بقوله: "وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات... إلخ"؛ أي: فالضروريات تعتبر هي الجملة، وهي المتبوع والأصل، وما عداها من الحاجيات والتحسينات تفاصيل تابعة بين مؤكدة وغير مؤكدة. "د".
3 سقط من "ط".
4 في "ف": "الشجرة"، واستظهر المحقق الصواب.
5 رجوع إلى أصل المسألة وتلخيصها. "د".(7/196)
ص -487-…الأمر إذ ذاك، بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها.
وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينات؛ فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج، وهو الضروريات بلا شك1، والتحسينات مكملات ومتممات؛ فلا بد أن تستلزم أمورًا تكون مكملات لها؛ لأن التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع، بل قبيحًا مثلا أو ناقصًا أو ضيقًا أو حرجا؛ فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب أن يكون تحسينًا وتوسيعًا تابع في الطلب للمحسن والموسع، وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية، وإذا ثبت هذا؛ تصور في الموضع قسم آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بالشك".(7/197)
ص -488-…المسألة الثانية عشرة:
فنقول: الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى [الجملة، والآخر راجع إلى] بعض أوصافها أو جزئياتها1 أو نحو ذلك؛ فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز اجتماعهما، وله صورتان:
إحداهما: أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها، وهذا كثير؛ كالصلاة بحضرة الطعام، والصلاة مع مدافعة الأخبثين، والصلاة في الأوقات المكروهة، وصيام أيام العيد، والبيع المقترن بالغرر والجهالة، والإسراف في القتل، ومجاوزة الحد في العدل فيه، والغش والخديعة في البيوع ونحوها، إلى ما كان من هذا القبيل.
والثانية: أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها، وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله عليه الصلاة والسلام: "من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء؛ فليستتر بستر الله"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضمير راجع إلى الجملة المفهومة من السياق. "ف". وفي "ط": "وجزئياتها".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305".
2 أخرج الطحاوي في "المشكل" "1/ 20"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 244"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 330" عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رجم الأسلمي؛ فقال: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم؛ فليستتر بستر الله تعالى، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته يقم عليه كتاب الله".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وقال شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 663": "وهو كما قالا"، وعزاه أيضًا إلى أبي عبد الله القطان في "حديثه" "56/ 1"، والعقيلي في "الضعفاء" "203"، وأبي القاسم الحنائي في "المنتقى من حديث الجصاص وأبي بكر الحنائي" "160/ 2"، وابن سمعون في "الأمالي" "2/ 183/ 2".
قلت: إسناده حسن من أجل أسد بن موسى، صدوق، وباقي إسناد المتقدمين على =(7/198)
ص -489-…وإتباع السيئة الحسنة لقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17].
وروي: "من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدًا"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شرطهما، وأسد لم يخرجا له، ولا أحدهما، ولذا قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 487": "ليس على شرط البخاري"، وحسن إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 135".
وأخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825 - رواية يحيى، ورقم 6769 - رواية أبي مصعب، و698 - رواية محمد بن الحسن الشيباني" ومن طريقه الشافعي في "الأم" "6/ 145"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 326"، و"المعرفة" "13/ رقم 17484، 17509" - عن زيد بن أسلم مرسلًا بلفظ: "من أصاب من هذه القاذورات شيئًا؛ فليستتر بستر الله، فإنه من...".
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 321" و"الاستذكار" "24/ 85": "لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه"، ومراده من حديث مالك، وإلا؛ فقد ذكر أن ابن وهب قد وصله في "موطئه" عن ابن عباس من طريق آخر، وبلفظ آخر، وقد ورد موصولًا -كما رأيت- من حديث ابن عمر، والعجب من إمام الحرمين؛ فإنه قال في النهاية عن هذا الحديث: "حديث متفق على صحته"، وقد تعجب منه ابن الصلاح وقال: "أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم"؛ لأن في اصطلاحهم أن المتفق عليه ما رواه الشيخان معًا، انظر: "شرح الزرقاني على موطأ مالك" "4/ 147".(7/199)
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 170-171/ رقم 10239"، و"الأوسط" -كما في "المجمع" "10/ 286"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 188 و8/ 340"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 158-159" مختصرًا دون ذكر ما عند المصنف- والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 146-147، 261/ رقم 199، 422"، وابن الأعرابي، ومن طريقه الخطابي في "العزلة" "ص36 - ط القديمة وص106 - ط المحققة"، ووقع في الطبعتين إسناد هذا الحديث للحديث الآتي بعده فيه، وهو خطأ؛ إذ سرد الخطابي الحديث، ثم قال: "أخبرنا" على أنه للمتن السابق"، وفي الطبعتين: "أخبرنا"، جميعهم من طريق إبراهيم بن زياد العجلي ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعًا: "الغنى اليأس عما في أيدي الناس، ومن مشى منكم إلى طمع فليمش رويدًا". قال أبو نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد به عنه أبو بكر فيما أرى"، =(7/200)
ص -490-…وأشباه ذلك.
فأما الأول؛ فقد تكلم عليه1 الأصوليون، فلا معنى لإعادته هنا.
وأما الثاني؛ فيؤخذ الحكم فيه من معنى2 كلامهم في الأول، فإليك النظر في التفريع، والله أعلم.
وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال في الموطن الأول: "تفرد به إبراهيم عن أبي بكر".
قلت: وإبراهيم بن زياد متروك، ولذا قال الحضرمي محمد بن عبد الله: "قلت لإبراهيم بن زياد: هذا -أي: روايته الحديث- رأيتَه في المنام؟". فغضب، وقال: "تقول هذا؟". قال أبو الفتح الأزدي: "إبراهيم بن زياد متروك الحديث". قال ابن الجوزي، وضعفه الصغاني في "الدر الملتقط" "رقم 11"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "260"، وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" للعسكري في "المواعظ"، وأشار إلى ضعفه، وكذا شيخنا الألباني في "ضعيفه" "رقم 3939". وانظر عن معناه: "تفسير القرطبي" "13/ 69".
1 وأن له أثرًا بفساد ما تعلق به النهي إذا كان للتحريم في العبادات خاصة، أو فيها وفي غيرها، والتفصيل بين ما تعلق النهي لعين الفعل وما تعلق بوصف ملازم، وما تعلق بوصف منفك، والخلاف في ذلك كله. "د".
2 المقام يحتاج إلى فضل تأمل، فإن مثل اتباع السيئة الحسنة كل منهما أمر منفصل عن الآخر عملًا ووقتًا، وكأنه قال: إذا صدرت منك سيئة؛ فالمطلوب منك أن تتدارك الأمر بفعل حسنة، هل هذا إلا طلب واحد بخلاف المثالين اللذين معه؟ فإنه توجه النهي للجملة والطلب للتابع ظاهر فيهما. "د".(7/201)
ص -491-…المسألة الثالثة عشرة1:
وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعًا مع التابع له، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلا رتبة وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل أو الأوصاف أو خصوص الجزئيات. والدليل على ذلك ما تقدم من أن [المتبوع بالقصد الأول، وأن] التابع2 مقصود بالقصد الثاني، [وما قصد بالقصد الأول آكد في الشَّرع والعقل مما يقصد الثاني]، ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في جنب المتبوع، فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال3، أو يصير منه كالجزء أو كالصفة أو التكملة.
وبالجملة؛ فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم وكلّه دليل على قوة المتبوع في الاعتبار وضعف التابع؛ فالأمر المتعلق بالمتبوع آكد4 في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة مرتبطة بالمسألة الحادية عشرة ارتباط الفرع بأصله؛ فهي مبنية عليها، وهي الفائدة العملية لها. "د".
2 في "ف": "المتبوع"، وقال: "كذا بالأصل، والصواب أن التابع…إلخ لأنه هو الذي يقصد ثانيًا بالعرض"، وما بين المعقوفتين فقط من "ط"، وفيه "التابع إنما يقصد بالقصد…".
3 كما سبق في المسألة الثامنة، وقوله: "أو يصير منه كالصفة"؛ كما في المسألة الحادية عشرة، ومعنى عدم اعتباره ظاهر في الأول؛ لأن النهي مثلًا يرد على التابع كثمرة الشجرة قبل بدو صلاحها، فإذا بيعت تابعة للأصل ألغي النهي، أما إلغاء التابع في الثاني؛ فليس على معنى إهداره، بل معناه أنه متوجه إلى المكمل والموصوف باعتبار الوصف والتكملة، وليس هذا إلغاء حقيقة بل اعتبارًا فقط، ويحتمل أن يقرأ قوله: "أو يصير" بالنصب وأو بمعنى إلا. "د".(7/202)
4 تقدم النظر في هذا بأنه قد لا يطرد؛ كما في مثال البيع وصفته من التوفية في الكيل مثلًا، وبالتتبع تجد في الشريعة من هذا أمثلة كثيرة؛ كصفات الصلاة النافلة المعتبرة من أركانها، وكأجزائها من القراءة والركعات فعلًا، وسيأتي يقول في الضابط: "فإن لم يصح؛ فذلك المطلوب قائم مقام الركن، والجزء من الضروري المقام، وبه يقيد الكلام هنا"، يعني: إلا إذا كان قصده ثانويًّا، ولكنه صار كجزء المتبوع؛ فلا يكون أضعف من المتبوع. "د".(7/203)
ص -492-…وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحدًا، وأنها لا تدخل تحت قصد واحد؛ فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة1 للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزانٍ واحد؛ كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل، إلى سائر أصناف الضروريات.
والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى التمتعات المتاحة2 التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ما له معارض؛ كالتمتع بالذات المباحة مع استعمال القرض3، والسَّلم، والمساقاة، وأشباه ذلك، ولا أيضًا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة، ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق، وكذلك التحسينيات4 حرفًا بحرف.
فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب5، أو للندب، أو للإباحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كحرمة النظر المكملة لحرمة الزنا، وحرمة شرب القليل من الخمر التي من شأنها عدم الإسكار مكملة لحرمة شرب الكمية المسكرة شأنًا. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "الممتعات المباحة".
3 لما فيه من النسيئة؛ فهو مستثنى من المحرم للتوسعة ودفع الحرج، ومثله القراض والسلم وما معه، كلها دخلها نوع من الترخيص لدفع الحرج؛ فليست تستوي مع المباحات التي لا تعارضها كليات أخرى في الشريعة، فطلب هذه أقل من طلب المباحات التي لا معارض لها، وما في تركه حرج على الجملة كالتيمم في بعض أحواله، وما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق كأكل الميتة للمضطر آكد؛ لأنه واجب إذا خشي الهلاك، وهي درجة تكليف ما لا يطاق لو كلف بالصبر. "د". وفي "ط": القراض... وما أشبه ذلك".(7/204)
4 أي: فليس طلب ستر العورة للمرأة الحرة كطلب إكرام الضيف، ومنع الربا ليس كطلب الورع في المتشابهات، وليس طلب مندوبات الطهارة كطلب أصل الطهارة، وكل هذه الأمثلة من مرتبة التحسينيات. "د".
5 أي: كما هو رأي الجمهور، وقال الرازي: "إنه الحق"، وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة =(7/205)
ص -493-…أو مشترك، أو لغير ذلك مما يعد1 في تقرير الخلاف في المسألة إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه؛ فإنهم يقولون: إنه للوجوب ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، فكأن المعنى يرجع2 إلى اتَّباع الدليل في كل أمر، وإذا كان كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حقيقة في الندب، وتوقف الأشعري والقاضي في أنه موضوع لأيهما، وقيل: توقفا فيه بمعنى أنه لا يدرى مفهومه؛ فيحتمل أن يكون مشتركًا بينهما وبين التهديد والتكوين والتعجيز، إلى آخر المعاني التي تذكر للأمر، وقيل: مشترك بين الوجوب والندب، وقيل: مشترك بينهما وبين الإباحة أيضًا، وقيل: هو للإباحة لأن الجواز محقق ولكل دليل في كتب الأصول، وقوله: "إلى هذا المعنى يرجع... إلخ" لعله يعني أنه ينبغي رجوع إلى هذا وإن كان بعيدًا من كلامه، أما ظاهر كلامه من أن في تقريرهم ما يؤخذ منه الرجوع لهذا؛ فلا يظهر، وقولهم: "إنه للوجوب ما لم يدل دليل... إلخ" لا يفيد مدعاه؛ لأن الخلاف في وضعه لغة أو شرعًا لأي معنى من هذا المعاني، فمن يقول بوضع لواحد منها يقول إنه مجاز في غيره، ومعلوم أن المجاز لا بد له من قرين؛ فهي الدليل الذي ينقله المؤلف عنهم بقوله: "ما لم يدل دليل" وشتان بين هذا وبين أن ما ذهب إليه من أن الأمر لم يوضع لواحد من هذا المعاني بخصوصه، وكيف يتأتى هذا ممن يقول إنه حقيقة في الوجوب أو حقيقة في الندب مثلًا، إنما كان يصح تقريبه ممن قال بالاشتراك الذي لا بد له من قرينة، أو ممن قال بالوقف كما قال المؤلف: إنه أقرب المذاهب إلى القبول!! "د".(7/206)
قلت: الراجح أنه للوجوب، وهو مذهب الجماهير واختيار كثير من المحققين، وانظر في المسألة: "المحصول" "2/ 44 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "2/ 423" و"التمهيد" "1/ 145" و"المستصفى" "1/ 423"، و"البرهان" "1/ 216"، و"الإحكام" "1/ 329" لابن حزم و"الإحكام" "2/ 144" للآمدي، و"روضة الناظر" "2/ 604"، وأصول السرخسي" "1/ 14"، و"إحكام الفصول" "ص195"، و"ميزان الأصول" "1/ 220"، و"التلويح" "1/ 150 – مع التوضيح"، و"المرآة" "1/ 28 – مع حاشية الإزميري"، و"جمع الجوامع" "1/ 291 – مع شرح المحلّي"، و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي" "ص704–706".
1 أي: يذكر وهو بيان لقوله غير ذلك، وقوله إلى هذا المعنى لا متعلق بقوله: "يرجع" الواقع خبرًا عن قوله: "فإطلاق"؛ فافهم. "ف".
2 بعيد من معنى قولهم: "مالم يدل... إلخ"؛ فإنه يفيد أن القائل بالوجوب مثلا يطلق القول فيه بدون دليل، ولا يخرج عنه إلا إذا وجد دليل على خلافه، وشتان بين المعنيين، وانظر قوله: "لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب" الذي يفيد أنهم يطلقونه مع عدم الدليل؛ فلا يتم رجوع كلامهم إلى ما ذكره. "د".(7/207)
ص -494-…رجع إلى ما ذكر، لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب، وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية، وليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها.
فالضابط في ذلك أن ينتظر في كل أمر: هل هو مطلوب [طلب الضروريات، أو الحاجيات، أو التكميليات، فإذا كان من قسم الضروريات -مثلا- نظر هل هو مطلوب] فيها1 بالقصد الأول، أم بالقصد الثاني؟ فإن كان مطلوبًا بالقصد الأول؛ فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع2، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر؛ هل يصح إقامة أصل الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق3 على العمل اسم ذلك الضروري، أم لا؟ فإن لم يصح؛ فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقوِّم4 لأصل الضروري، وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه؛ فذلك المطلوب ليس بركن، ولكنه مكمل5 ومتمم؛ إما من الحاجيات، وإما من التحسينيات، فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه، بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوضح أن يقول: "هل هو مطلوب فيه... إلخ". "م".
2 أي: الذي فرض توجه الطلب إليه. "د".
3 أي: بحيث يبقى الضروري المذكور قائمًا، ولا ينهدم بانهدام هذا التابع كصلاة مثلا لم يستعمل لها السواك، أو لم يفعل سنة من سننها؛ فإنها لا تزال يطلق عليها شرعًا اسم الصلاة. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "المقام"، وكتب "د": "لعل الأصل هكذا: "والجزء لأصل الضروري المقام" بضم الميم: صفة للضروري".
5 يعني: وهذا هو الذي يقال فيه: إنه أضعف في الطلب من المتبوع، أما ما يعتبر جزءًا ينهدم الأصل بانهدامه؛ فلا يقال فيه ذلك. "د".
6 في "ط": "الاستقرار في كل جزء منه".(7/208)
ص -495-…المسألة الرابعة عشرة:
الأمر بالشيء، على القصد الأول ليس أمرًا بالتوابع1، بل التوابعُ إذا كانت مأمورًا بها مفتقرةٌ إلى استئناف أمر آخر، والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات؛ فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص، والأمرُ إنما تعلق بها مطلقًا لا مقيدًا، فيكفي فيها إيقاع مقتضى2 الألفاظ المطلقة؛ فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه، ولا على صفة دون صفة؛ فلا بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص، واللفظُ لا يشعر به على الخصوص؛ فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص، وهو المطلوب.
[فصل]
وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل، فإنا إذا فرضناه مأمورًا بإيقاع عمل من العبادات مثلا، من غير تعيين وجه مخصوص؛ فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصًا بوجه ولا بصفة3 بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق؛ فالمأمور بالعتق مثلا أُمِر بالإعتاق مطلقًا من غير تقييد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بالتوابع هنا ما هو أخص مما سبق له في معناها كما قال بعد: "فالتوابع هنا راجعة... إلخ" يعني: ليس أمرًا بجزئي خاص من جزئيات المأمور به معتبر من توابعه، وليس المراد أنه ليس أمرًا بأي تابع؛ فذلك لا يصح لأنه فيما سبق اعتبر الأجزاء مثلًا من توابع الكل كما قال في القراءة والذكر والخشوع بالنسبة للصلاة، ولا يعقل أن يقال: إن الأمر بالصلاة مثلا ليس أمرًا بالركعات والقراءات والسجدات، وفائدة المسألة قوله: "وينبني على هذا... إلخ". "د".(7/209)
2 كما تقدم أن المطلوب بالمطلق فرد مما يصدق عليه اللفظ لا فرض خاص، أي: فإذا أريد ذلك الخاص كان لا بد له من دليل يخصه، والمقيدات معتبرة توابع كما تقدم في المسألة الحادية عشرة؛ فإنها جزئيات، والمراد مما قصد بالقصد الأول ما عبر عنه فيها بالجملة، وقوله: "فلا بد من تعيين....إلخ"؛ أي: حيث كانت مأمورًا بها كما هو الفرض. "د".
3 في "ط": "صفة".(7/210)
ص -496-…مثلا بكونه ذكر دون أنثى، ولا أسود دون أبيض ولا كاتبًا دون صانع1، ولا ما أشبه ذلك.
فإذا التزم هو في الإعتاق نوعًا من هذه الأنوع دون غيره؛ احتاج في هذا الالتزام إلى دليل، وإلا؛ كان التزامُه غيرَ مشروع، وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائمًا2، أو أن يتطهر من ماء [البئر دون ماء]3 الساقية، أو غير ذلك من الالتزامات التي هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات؛ فلا بد من طلب دليل على ذلك، وإلا، لم يصح في التشريع، وهو عرضة4 لأن يكُرّ5 على المتبوع بالإبطال.
وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق، ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع؛ فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل مطلق، لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه، ولا وصف دون وصف؛ فالمخصص6 له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق؛ فافتقر إلى دليل [يدل] على ذلك التقييد، أو صار مخالفًا لمقصود الشارع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد بالصانع من له حرفة أخرى غير صنع لكتابة بدليل المقابلة، أو لعله صائغ بالغين المعجمة. "ف".
2 كما في الأذكار الخلوتية، ومثلها صلوات الأسبوع لياليه وأيامه؛ كما في "قوت القلوب" "1/ 58" وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 197"، وانظر: "فوائد حديثية" "ص111" لابن القيم وتعليقي عليه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأشار لذلك ناسخُه.
4 أي: لأن هذا المقيد متى وقف عنده، فقد لا يتيسر له فعله، كما في مثال التزام الوضوء من البئر، وقد يبطل ثوابه بمخالفة قصد الشارع في التزام ما لم يشرعه، وعده مشروعًا. "د".
5 مضارع كر من باب قتل. "ف".
6 أي: فالملتزم تخصيصه، وإلا؛ فهو لا يقع في الوجود إلا مخصصًا. "د".(7/211)
ص -497-…وقد سئل مالك عن القراءة1 في المسجد؛ فقال: "لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث"، قال: "ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن"، وقال أيضًا: "أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى؟".
قال ابن رشد2: [يريد أن] التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما [يفعل] بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح؛ فرأى ذلك بدعة".
قال: "وأما القراءة على غير هذا الوجه؛ فلا بأس بها في المسجد، ولا وجه لكراهيتها" والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر؛ فإنه قال في القوم يجتمعون جميعًا فيقرءون3 في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية؛ فكره ذلك، وأنكر أن يكون من عمل الناس.
وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء؛ فكرهه، فقيل له: فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه ويكبرون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تقييده في كلام ابن رشد. "د". والنقل من "العتبية" "1/ 242- مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 242"
3 وهو ما تقدم له تسميته بطريق الإدارة، أي: يديرون الكلمات بينهم على صوت واحد كما ذكره في "الاعتصام" "2/ 30-31 و2/ 58-59 - ط ابن عفان"، وهو المسمى في عرف زماننا بالقراءة الليثية، وهي مع كونها ليست من عمل السلف فيها ضرر أنه قد يبني بعضهم على قراءة بعض مما يؤدي إلى سقوط بعض الكلمات من بعض القارئين، ومن ذلك حسنت تسميتها بالإدارة، كما يدير الشركاء مال الشركة بينهم ويبني بعضهم عمله على عمل شريكه. "د".
قلت: انظر أيضًا: "الحوادث والبدع" "ص161"، و"البيان والتحصيل" "1/ 298".
4 لعلها "ويكثرون" بالمثلثة، فإن كان بالباء؛ فيكون من كبُر بالضم في الماضي والمضارع أي عظم، لا أنه من كبَّر بالتشديد من التكبير؛ أي قول: الله أكبر؛ لأنه غير الدعاء الذي جعله سببًا للاجتماع أولًا وآخرًا. "د".(7/212)
ص -498-…قال: "ينصرف، ولو أقام في منزله كان خيرًا له"1.
قال ابن رشد2: "كره هذا وإن3 كان الدعاء حسنًا وأفضله يوم عرفة لأن الاجتماع لذلك بدعة4 وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضلُ الهدْي هدْيُ محمد، وشرُّ الأمور مُحدَثاتُها، وكلُّ بدعة ضلالة"5" وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد6 القارئ مواضع السجود فقط ليسجد فيها7، وكره في "المدونة"8 أن يجلس9 الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلمًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل نحوه عنه مالك: الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص115 - ط المغربية".
وأبو شامة في "الباعث" "29 - بتحقيقي"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص181–182 – بتحقيقي"، وهو في "العتبية" "1/ 274 – مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 274".
3 في "م": "لو".
4 انظر في بدعية ذلك: "الاعتصام" "1/ 463" – ط ابن عفان"، و"الباعث" "117-123 – بتحقيقي"، و"الحوادث والبدع" "ص115-116" للطرطوشي، و"البدع والنهي عنها" "ص46" لابن وضّاح، و"السنن الكبرى" "5/ 118"، و"تاريخ دمشق" "16/ ق660-661 – المخطوط المصوّر"، و"المغني" "2/ 259 - مع الشرح الكبير"، و"المجموع" "8/ 277" و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص309-310"، و"الأمر بالاتباع" "ص181-185 – بتحقيقي".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، ولكن بلفظ: "وخير الهدي..." إلخ. "خطبة الحاجة" لشيخنا الألباني.
6 أي: فالقصد إليها للسجود وصف واعتبار زائد يحتاج إى دليل. "د".
7 انظر في بدعية ذلك: "المدونة الكبرى" "1/ 200"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "261" لأبي شامة، و"الأمر بالاتباع" "ص192" للسيوطي، كلاهما بتحقيقي.
8 "1/ 201" ونحوه في "العتبية" "1/ 278".(7/213)
9 أي: ليسجد السجدة تبعًا له؛ لأنه لا يطلب بها إلا إذا جلس عند القارئ يتعلم منه، أي ليستفيد حفظًا أو تجويدًا كما هو مذهبه، ويبقى النظر في إدخال هذا في سلك الالتزامات التي يعيبها ويقول: إنها محتاجة لدليل لا وجود له. "د".(7/214)
ص -499-…وأنكر على من يقرأ1 في المساجد ويجتمع عليه، ورأى أن يقام. وفيها2: "ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه".
وقال ابن القاسم3: "سمعت مالكًا يقول: إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرّك رجليه قد عرف وسمي؛ إلا أني لا أحب أن أذكره، وكان مساءً4 يعني يُساء الثناء عليه".
قال ابن رشد: "جائز عند مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة، وإنما كره أن يقرنهما5 حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام، وهو من محدثات الأمور"6.
وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء، وفي الدعاء عند ختم القرآن7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان ملتزمًا لذلك؛ كان من موضوعه. "د".
2 أي: في "المدونة" "1/ 201".
3 نحو في "المدونة الكبرى":1/ 196"، والمذكور لفظ "العتبية"؛ كما في "الاعتصام" "2/ 542 – ط ابن عفان".
4 بفتح الميم: مصدر ساء يسوء، والثناء: الذكر بوصف حسن أو قبيح، والمعنى: أن هذا الرجل كان إذا ذكر يذكر بما يسوء، ولذلك كره الإمام أن يذكره. "ف".
5 أي: فالمكروه هو التزام أن يجعل رجليه متقارنين، بحيث يكون الاعتماد في كل الصلاة عليهما معًا بحالة متساوية، يقول: إن هذا التضييق بالتزام هذا القيد لم يأت فيه دليل؛ فهو بدعة. "د".
6 "البيان والتحصيل" "1/ 296"، ونقله المصنف عن ابن رشد في "الاعتصام" "2/ 542" بحروفه.
7 انظر: "الباعث" "ص261".(7/215)
ص -500-…وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة1، والتثويب للصلاة2، والزيادة في الذبح على التسمية المعلومة، أو القراءة في الطواف دائمًا3، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب4، وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس، يكون الأمر واردًا على الإطلاق؛ فيقيد بتقييدات تلتزم، من غير دليل دل على ذلك، وعليه أكثر البدع المحدثات.
وفي الحديث: "لا يجعلن أحدكم للشيطان حظًّا من صلاته، يرى أن حقًّا عليه أن لا ينصرف5 إلا عن يمينه"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كلامًا مسهبًا، وتحريرا بديعا غاية للمصنف في بدعية ذلك في: "الاعتصام" "1/ 452-479 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" له "ص127-129"، وقد أثارت هذه المسألة على المصنف بعض معاصريه، وأثر هو في بعض تلاميذه ومحبيه؛ فنزعوا مثله للمنع، انظر التفصيل ذلك في: "المعيار المعرب" "1/ 280-284، 286"، و"نفح الطيب" "5/ 512"، و"أزهار الرياض" "2/ 7".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 327، 328 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" "ص207" للشاطبي، و"المعيار المعرب" "2/ 467".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 426".
4 انظر في تقرير الكراهة: "الحاوي" "1/ 392" للسيوطي، و"تفسير القاسمي" "12/ 147-148، النور: 16"، و"نفحة الريحانة" "4/ 429" للمحبي، و"معجم المناهي اللفظية" "ص214".
5 أي: بحيث يكون يمينه إلى المصلين، ويساره إلى القبلة وقت التسبيح والتحميد أو عند مفارقة مكان صلاته، أي: فذلك بدعة ليست من الدين؛ فهي من حظ الشيطان ونصيبه، أما الانصراف منها بالسلام؛ فيندب فيه التيامن بتسليمة التحليل. "د".
6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337/ رقم 852"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين، 2/ 492/ رقم 707" عن ابن مسعود؛ قال: "لا يجعل =(7/216)
ص -501-…وعن ابن عمر وغيره1 أنه سئل عن الالتفات في الصلاة يمينًا وشمالًا؛ فقال: [بل] نلتفت هكذا وهكذا، ونفعل ما يفعل الناس" كأنه [كره]2 التزام عدم الالتفات، ورآه من الأمور التي لم يرد3 التزامها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل أنس، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337" تعليقًا: "كان أنس ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى -أو من يعمد- الانفتال عن يمينه"، ووصله مسدد في "مسنده الكبير"؛ كما في "الفتح" "2/ 338".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 708" بسنده إلى السدي قال: "سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت؛ عن يمين، أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه".
قال ابن حجر في "تغليق التعليق" "2/ 341": "والجمع بين هذين الأثرين أن أنسًا كان ينكر على من يرى الانصراف عن اليمين حتمًا واجبًا، أما كونه يفعل على سبيل الاستحباب؛ فلعله كان لا ينكره إن شاء الله جمعًا بين روايته ورأيه، والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 339-340/ ط دار الفكر"، وعبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3212" عن واسع بن حبان؛ قال: "كنت أصلي وابن عمر يسند ظهره إلى جدار القبلة، فانصرفت عن يساري؛ فقال: ما يمنعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: لا؛ إلا أني رأيتك فانصرفت إليك. فقال: أصبت، إن ناسًا يقولون: تنصرف عن يمينك، وإذا كنت تصلي فانصرف إن أحببت عن يمينك أو عن يسارك".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3211" عن نافع؛ قال: "ما كان ابن عمر يبالي على أي ذلك انصرف، عن يمينه أو عن شماله. قال: وذلك أني سألته عن ذلك".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" والأصل، وأثبته من "م" و"ف" و"ط".(7/217)
3 كيف هذا وقد ورد النهي الشديد عن الالتفات في الصلاة بجملة أحاديث، خرج بعضها الشيخان والنسائي، وبعضها أبو داود والبخاري والنسائي، وقد نص المالكية على كراهته بغير حاجة مهمة، وعند الشافعية والحنفية أيضًا كراهته. "د". قلت: الصواب "سئل عن الانفتال" وليس "الالتفات"، وإلا؛ فقد كان ابن عمر يكره الالتفات كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 41"، وكان يتغيظ منه غيظًا شديدًاكما في "الأوسط" "3/ 96" لابن المنذر، ولم يكن يلتفت في صلاته كما في "الموطأ" "1/ 137".(7/218)
ص -502-…وقال عمر: "واعجبًا لك يابن العاص، لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل الناس يجد ثيابًا؟ والله لو فعلت لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره"1.
هذا فيما لم يظهر2 الدوام فيه؛ فكيف مع الالتزام؟
والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة، جميعها يدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل، وإلا كان قولًا بالرأي واستنانًا بغير مشروع، وهذه الفائدة انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مالك في "الموطأ" "1/ 50 - رواية يحيى و1/ 56/ رقم 137 - رواية أبي مصعب" عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب "أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريبًا من بعض المياه، فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح، فلم يجد مع الركب ماء؛ فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال له عمر بن الخطاب: واعجبا لك يا عمرو بن العاص... إلخ". وإسناده صحيح. وأخرجه البيهقي "1/ 170" وفي "المعرفة" "1/ 265"، والخطيب في "التالي" "رقم 203 - بتحقيقي"، وانظر: "الاستذكار" "3/ 116". وفي "ط": "لو فعلتها لم أره".
2 أي: ومع ذلك خشي أن يداوم عليه، كما قال: "لكانت سنة". "د".(7/219)
ص -503-…المسألة الخامسة عشرة:
المطلوب الفعل1 بالكل هو المطلوب بالقصد الأول2، وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني، كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني3 وكل واحد منهما لا يخرج4 عن أصله من القصد الأول.
أما الأول؛ فيتبين من أوجه:
أحدها: أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه، وهذا هو الأصل؛ فيتناول على الوجه5 المشروع، وينتفع به كذلك، ولا ينسى حق الله فيه لا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكان من المباحات أو من المندوبات أو من الواجبات المطلوبة طلب العزائم؛ كما سيشير إليه بعد في قوله: "وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب... إلخ"، وإن كان المهم الذي سيفرع عليه فوائد المسألة هو بيان الفرق في أولية القصد وثانويته بين نوعي المباح المطلوب الفعل بالكل والمطلوب الترك بالكل، والذي سماه فيما تقدم ما لا حرج فيه، وعالج إخراجه من المخير فيه بين الفعل والترك، راجع المسألة الثالثة والمسألة الرابعة من المباح. "د".
2 قال "ماء": "أعني مقصد الشارع".
3 سيأتي تمثيله بالغناء المتضمن لراحة النفس والبدن، والراحة منشطة على الخير والعبادة... إلخ؛ فالشارع لم يقصد إلى الغناء مباشرة، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على الخير؛ فقصده إليه بالتبع لتضمنه الراحة المنشطة التي تكون به وبالمطلوب بالكل وغير ذلك. "د".
4 يأتي بيانه في الوجوه بعد، من مثل قوله: "وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم، لا أنفس النعم"، ومثله قوله: "إن جهة الامتنان لا تزول أصلًا"، ومثل قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم قد تضمن النعمة، واندرجت تحته لكنه غطى عليها هواه"؛ أي: فهي حتى عند كونها انتقلت إلى القصد الثاني لا يزال ما يتعلق به القصد الأول باقيًا فيها، كما قال: "ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا؛ لانهدم أصل المباح"، وكذا يقال في المطلوب الترك بالكل. "د".(7/220)
5 يأتي شرحه وما بعده في مثال الرغيف الآتي. "د".(7/221)
ص -504-…سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه، فإذا أخذ على ذلك الوزان؛ كان مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل، فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق، بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين، وهو الاقتصاد فيها، ومن هذه الجهة جعلت نعمًا، وعدت مننًا، وسميت خيرًا وفضلًا.
فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد [إلى] أن تكون1 ضرارًا عليه في الدنيا أو في الدين؛ كانت من هذه الجهة مذمومة لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة أو عن بعضها؛ فدخلت المفاسد بدلًا عن المصالح في الدنيا وفي الدين، وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله؛ فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما2، أو بنوع ما، أو بقدر ما، وكانت مصالحه تجري على ذلك، ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره وقوته البدنية والقلبية؛ كان مسرفًا، وضعفت قوته عن حمل الجميع؛ فوقع الاختلال وظهر الفساد؛ كالرجل يكفيه لغذائه مثلًا رغيف، وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار لأن تهيئته لا تقوى على غيره؛ فزاد على الرغيف مثله؛ فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولًا من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى، فصار يتكلف كلفة اثنين وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة، وفي جهة تناوله؛ فإنه يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار [ذلك] شاقًّا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه، وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" والأصل، وفي "د" و"ف" و"م": "بأن تكون"، وصوب "ف" المثبت.(7/222)
2 أي: من وجوه الكسب مثلًا في صنعة لها فروع متعددة، وقوله: "أو بنوع" كتجارة مثلًا، وقوله: "بقدر" بأن كان يكفيه من الأول أو الثاني حد فيتعلق في كل منهما بما هو خارج عن كفايته، مع كونه لا يحتمله استعداده، ومثله تعدد الزوجات وتنوع المآكل والملابس والمساكن ومقادير ذلك وهكذا. "د".(7/223)
ص -505-…وفي جهة عاقبته؛ فإن أصل كل داء البردة1، وهذا قد عمل على وفق الداء فيوشك أن يقع به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي بفتحات: التخمة وثقل الطعام على المعدة، وفي حديث ابن مسعود: "كل داء أصله البردة". "ف".
قلت: الحديث ضعيف بمفرداته كلها، كما أفاده السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص62".
فورد مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، هم:
أنس بن مالك: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 513"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 204"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 96"- والمستغفري في "الطب النبوي" -وهو مطبوع قديمًا في طهران، لم أظفر به للآن- والداقطني في "العلل" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"- وفي إسناده تمام بن نجيح، وهو هالك، يروي أشياء موضوعة عن الثقات، كأنه المتعمد لها.
عبد الله بن عباس: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "6/ 2318"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وفيه مسلمة بن علي، قال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن معين ودحيم: "ليس بشيء"، وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: "متروك".
أبو سعيد الخدري: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "3/ 981"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27-28"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 97"-.
قال ابن عدي: "والحديث بهذا الإسناد باطل".
قلت: هو من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، ورواية دراج عن أبي الهيثم مشهور ضعفها.
وورد عن ابن مسعود قوله، يرويه الأعمش عن خيثمة عنه، قاله ابن قتيبة في "غريبه" "2/ 225"، والخطابي في "غريبه" "3/ 263" و"إصلاح خطأ المحدثين" "ص33 - ط لجنة الشبيبة السورية بالقاهرة، سنة 1355هـ -1936م"، وقال: "البرَدة؛ مفتوحة الراء: التخمة، أصحاب الحديث يقولوا: البُرْدَة "البَرْد"، وهو غلط.(7/224)
وقال ابن قتيبة: "وسميت التخمة بردة، لأنها تبرد حرارة الجوع والشهوة وتذهب بها، وما أكثر ما تأتي "فعلة" في الأدواء والعاهات". وذكر الزمخشري في "الفائق" "1/ 102" أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
ورجح الدارقطني أنه من قول الحسن، وقال: "وهو أشبه بالصواب".
وانظر: "تذكرة الحفاظ" "رقم 119" لابن ظاهر المقدسي، و"الميزان" "1341"، و"إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"، و"الدرر المنتثرة" "15".(7/225)
ص -506-…وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف؛ فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة، لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة.
فإذا تأملت الحالة1؛ وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم، لا أنفس2 النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة وهو القصد الثاني؛ لأنه مبني على قصد المكلف المذموم، وإلا؛ فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه، وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق، وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق، وإنما ذُمت حين صدت من صدت عن سبيل الله3، وهو ظاهر لمن تأمله.
والثاني: أن جهة الامتنان لا تزول4 أصلًا، وقد يزول الإسراف رأسًا، وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول، بخلاف ما قد يزول؛ فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد5 له لم يكن فيه من وجوه الذم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الحاجة".
2 في "ط": "نفس".
3 في الأصل و"ط": "حين صدت عن سبيل الله من صدت".
4 وحيث إنها لا تزول رأسًا، فتجيء مع جهة الإسراف المذموم ويغطي عليها؛ فهذا قريب من قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم... إلخ"؛ فهما متلازمان شديدا القرب، إلا أنه لوحظ في الأول مجرد عدم الزوال، ولوحظ في الثاني الاندراج تحت وجه الذم وتغطيته عليه؛ فلذلك جعلهما في معنى دليل واحد، وترجم لما بعدهما بالثالث لا بالرابع" "د".
5 في "ف": "كما حاله"، واستظهر المحقق المثبت، وهو الصواب.(7/226)
ص -507-…شيء، وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له، صار مذمومًا في الوجه الذي اتبع فيه هواه، وغير مذموم في الوجه الآخر.
وأيضًا؛ فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته، لكن غطى عليها هواه، ومثاله أنه إذا تناول مباحًا على غير الجهة المشروعة؛ فقد1 حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة، وإن كانت مشوبة؛ فبمتبوع هواه2، والأصل هو النعمة، لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد، ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا؛ فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح لأن البناء إنما كان عليه، فلم يزل أصل المباح وإن كان مغمورًا تحت أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم3؛ فهذا أيضًا مما يدل4 على أن كون المباح مذمومًا ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني لا بقصد الأول.
والثالث: أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى؛ كقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "قد".
2 ولعله: "فبمتبوعيته هواه"؛ أي: بسبب جعله هواه متبوعًا؛ فتأمل. "ف".
3 الاستعمال المذموم هو التعسف بعينه؛ لأن أصل المباح مشروع وغير مذموم، ومأتى الذم هو كيفية هذا الاستعمال وتوجيهه؛ إذ فيه الخروج عن الاعتدال والاقتصاد في التصرف، وقد وردت في الاقتصاد والاعتدال والإنصاف وذم الغلو والإجحاف نصوص كثيرة، ذكر بعضًا منها السخاوي في "الجواب الذي انضبط"، انظره بتحقيقنا، وانظر "الوسيطة في الإسلام" لمحمد مدني، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "254-257" للأستاذ فتحي الدريني.(7/227)
4 أي: كما يدل على صحة قوله هناك: "وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول"؛ كما أشرنا لذلك، وهو ظاهر باعتبار أحدهما الذي شرحه هنا وهو المطلوب الفعل، وإنما اقتصر على إفادة دلالته على ما قال؛ لأنه الذي جعله رأس المسألة، ثم ينظر في المطلوب الترك: هل يؤخذ من كلامه الآتي ما يدل على أنه أيضًا عندما صار مطلوبًا بالقصد الثاني بقي ما يتعلق به القصد الأول؟ فعليك بالتأمل؛ لأن قوله: "وكل منهما لا يخرج عن أصله" دعوى أخرى غير أصل المسألة، تحتاج إلى بيان ودليل. "د".(7/228)
ص -508-…يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
[وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243، يوسف: 38].
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا...} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث؛ إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط1 التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب، لا من جهة ما وضعت له أولًا؛ فإنها من الوضع الأول خالصة، فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع؛ فذلك هو الشكر، وهو جريها على ما وضعت له أولًا، وإن جرت على غير ذلك؛ فهو الكفران، ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف، وكل بقضاء الله وقدره، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
وفي الحديث: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا". فقيل: أيأتي الخير بالشر؟ فقال: "لا يأتي الخير إلا2 بالخير، وإن مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "نياط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.(7/229)
2 أي: إذا سار في طريقه واستعمله في حدود، فإذا انحرف به عن حده؛ جر إلى المفاسد، ولكن ليس هذا من طبيعة الخير، وإنما هو مما دخل عليه، كما أشار إليه الحديث؛ فإن الربيع به حياة الإنسان والحيوان، ومع ذلك؛ فقد تستعمل الماشية من آثاره النابتة ما يقتلها أو يقرب من قتلها، وذلك من تصرفها هي، فإذا كان ما أكلته ضارًا بطبعه؛ فيكون ذلك من تركها النافع وتناولها الضار، وإذا كان ما أكلته في ذاته نافعًا ولكنها زادت عن حاجتها منه؛ يكون المثل أظهر، ورواية البخاري وبعض روايات مسلم هكذا: "مما بنبت الربيع"، وفي بعض روايات مسلم: "كل ما ينبت الربيع"، والمعنى عليه متعين في الوجه الثاني، وأن جميع ما ينبته المطر يضر إذا استعمل على غير وجهه، أما إذا استعمل على وجهه وبالمقدار المناسب كعمل آكلة الخضر؛ فإنه لا يضر، والحبط انتفاخ بطن البعير من المرعى الوخيم، يقال: حبط بطنه إذا انتفخ فمات. "د".(7/230)
ص -509-…ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم"1 الحديث.
وأيضًا؛ فباب سد الذرائع مع هذا القبيل؛ فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب2 فعله لعارض يعرض، وهو أصل متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله؛ فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة؛ لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108].
وشبه ذلك، والشواهد فيه كثيرة.
وهكذا3 الحكم في المطلوب طلب الندب، قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك، حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد4، والنهي عن الوصال5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومضى "1/ 177".
وفي الأصل: "للربيع".
والحَبَط، بفتحتين: وجع يأخذ الإبل في بطونها من كلأ تستوبله، والمرض الحُباط -بالضم-، وقوله: "يُلِم" -بضم فكسر- أي: يقرب من القتل، وهو مثل المفرط في جمع الدنيا، مع منع ما جمعه من حقه. "ف".
2 المراد بالطلب الإذن وسيأتي في المسألة الثامنة عشرة، يقول في "سد الذرائع": "هو منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع"، وقد أولنا الجائز هناك بهذا أيضًا. "د".
3 تكميل لبقية أنواع ما دخل في القسم الأول من المسألة، ولما كان كون طلب المندوب والواجب بالقصد الأول لا يحتاج إلى بيان كما احتاج المباح، وإنما الحاجة فيهما إلى بيان أنهما قد يصيران مطلوبي الترك بالقصد الثاني اقتصر عليه. "د". وفي "ط": "وهذا".
4 انظر ما مضى "1/ 527 و2/ 208، 228".
5 انظر ما مضى "1/ 526، 2/ 208".(7/231)
ص -510-…وسرد الصيام1، والتبتل2، وقد تقدم من ذلك كثير.
ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة، قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك، إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشًا3 وعائدًا على الواجب بالنقصان؛ كقوله: "ليس من البر الصيام في السفر"4، وأشباه ذلك.
فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني، وهو المطلوب.
فإن قيل: هذا معارض بما يدل على خلافه، وأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض وعلى ما وضع فيها من المنافع على سواء5؛ فإن الله عز وجل قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى "2/ 240"، وفي "ط": "أو سرد".
2 انظر ما مضى "1/ 522، 2/ 228".
3 وهو ما تبلغ المشقة فيه حالة لا طاقة للمكلف بالصبر عليها طبعًا؛ كالمرض الذي يعجز فيه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلًا، أو عن الصوم خوف فوت النفس، أو شرعًا؛ كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها؛ فهذا الضرب راجع إلى حق الله، فالترخص فيه مطلوب، وقد جاء في مثله: "ليس من البر..." الحديث كما تقدم له في المسألة الخامسة من مبحث الرخص؛ فقد صار المطلوب واجبًا بالقصد الأول، مطلوب الترك بالقصد الثاني عند هذه العوارض. "د".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلِّل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه، ومضى تخريجه مفصلًا "1/ 517".
5 راجع إلى المدح والذم؛ أي: فليس القصد الأول للشارع فيها أنها ممدوحة كما هي الدعوى. "د".(7/232)
ص -511-…وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب، وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، لكن بحسب ذلك الابتلاء، والابتلاء إنما يكون بما له1 جهتان، لا بما هو ذو جهة واحدة، ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم، ولا أمر ولا نهي، وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها، وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء، فإذا عدت نعمًا ومصالح من حيث تصرفات المكلف؛ فهي معدودة فتنًا ونقمًا بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضًا، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيئة للتصرفين معًا، فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد وعلى هذا الوجه؛ فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر؟ حتى يعد القصد الأول هو بثها نعمًا فقط؟ وكونها نقمًا وفتنًا إنما هو على القصد الثاني.
فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب؛ إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها، وهو المطلوب الأول، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك، وهذا الثاني لا يصح؛ إذ لا يمكن2 في العقل ولا يوجد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في غير "د": "يكون له"، وكتب "د": "لعله: "بما له جهتان" كما يدل عليه لاحقه".(7/233)
2 هذا الوجه الأول لإثبات أنه لا تصح المعارضة، وذلك بنقض دليلها نقضًا إجماليًّا بأنه لو صح لما صحت جهة امتنان الله بها المقتضية أنها نعم خالصة، وأيضًا؛ فإننا باستقراء أنواع النعم نتحقق أنها نعم خالصة قطعًا كما صنع، والوجه الثاني بإزالة سبب الشبهة التي انبنت عليها المعارضة، وذلك أن ما يرى من كون هذه الأشياء نقمًا على البعض ليس آتيًا من جهتها، بل من جهة سوء التصرف فيها من المكلف كما سيوضحه؛ فتغاير الوجهان. "د".(7/234)
ص -512-…في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه؛ فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة، كما أنها ليست بنقم خالصة؛ فإخبار الله عنها بأنها نعم وأنه امتن بها وجعلها حجة على الخلق ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول، ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم؛ كقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] إلى آخر الآيات.
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل: 10].
إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها؛ أفيصح في واحدة منها أن يقال: إنها ليست كذلك بإطلاق، أو يقال: إنها نعم بالنسبة إلى قوم ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين؟ هذا كله خارج عن حكم المعقول [والمنقول]1.
والشواهد2 لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، وأنه النور الأعظم، وطريقه هو الطريق المستقيم، وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك، مع أنه قد جاء فيه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
وأنه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لا لغيرهم.
وأنه: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3]. إلى أشباه ذلك.
ولا يصح أن يقال: أُنزل القرآن ليكون هدًى لقوم وضلالًا لآخرين، أو: هو محتمل لأن يكون هدًى أو ضلالًا، نعوذ بالله من هذا التوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "والشاهد".(7/235)
ص -513-…لا يقال: إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين1 في أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأنها سلم إلى السعادة، وجد لا هزل، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38].
لأنا نقول: هذا حق2 إذا حملنا التعرف3 بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص، كما يصح في كون القرآن هدى وشفاء ونورًا كما دل عليه الإجماع، وما سوى ذلك؛ فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم.
والوجه الثاني: أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف4؛ لأنها لم تصر نقمًا في أنفسها، بل استعمالها على غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحدهما الاعتبار المجرد عن الحكمة التي وضعت لها الدنيا، من كونها متعرفًا للحق ومستحقًا لشكر الواضع لها، والثاني: الاعتبار المنظور فيه لهذه الحكمة، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة من تعارض الأدلة بيان مسهب حسن جدًّا في توجيه الاعتبارين، يعني: وعليه، فيصح توجه المدح والذم إلى النعم بهذين الاعتبارين. "د".(7/236)
2 أي: صحيح توجيه الأمرين إلى النعم بهذين الاعتبارين، ولكن على أنهما ليسا مستويين، بل الأصل هو الوجه الممدوح وهو التعرف بالنعم؛ كما يدل عليه ظاهر الآيات، وما عداه من الفتن واللهو والغرور ليس بالقصد الأول، بل باعتبار العوارض الخارجة عما قصد منها قصدًا أوليًّا، كما يقال في هداية القرآن: هي الأصل الذي لا شك فيه، وقد عرض لأصحاب النفوس الفاسدة ما جعله يزيدهم غيًّا وضلالًا بالطعن فيه بأنه سحر وكذب إلى آخر إفكهم، وعند التأمل لا يجد أنه ضللهم في شيء من الحقائق كانوا عرفوها وبسببه انحرفوا عنها، وإنما كل ما يتعلق بإضلالهم به زيادتهم في الكفر بجحده والطعن فيه وفيمن جاء به، فلم يكن أحد على هدى ثم ضل بسبب القرآن؛ فاعرف هذه السانحة، وهي تؤيد ما يريده المؤلف، وأن ذلك ليس من القصد الأول بالقرآن، وفي قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] إشارة إلى هذا كما يأتي. "د".
3 في "م": "التعريف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "التكليف"، واستظهر "ف" الصواب وقال: "أي: استعماله المكلف لها وأخذه إياها على غير وجهها" ا. هـ.(7/237)
ص -514-…الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك؛ فإن كون الأرض مهادًا والجبال أوتادًا وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير1؛ فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حد2 صارت عليهم وبالًا، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة، لا هي؛ لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه.
وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن، فإنهم لما مثلت أصنامهم التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه، تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك، وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود3، وقالوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26]؛ فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لا تتغير".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "غير مأخذ".
3 أخرج الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26]، قال: وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73]، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا...}.
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الغني، وهو واهٍ جدًّا، وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية، قاله السيوطي في "لباب النقول" "ص16".(7/238)
وأخرج عبد الرزاق "1/ 41"، وابن جرير "1/ 177"، وابن أبي حاتم "1/ 93/ رقم 274"، كلهم في "التفسير" عن معمر عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران!! فأنزل الله الآية، وحكاه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" نحوه عن الحسن وقتادة بلا إسناد بلفظ: "قالت اليهود".
وأخرجه ابن أبي حاتم "برقم 273"، وابن جرير "1/ 177" عن السدي بلفظ: "قال المنافقون"، وهو أنسب. وانظر: "4/ 212".(7/239)
ص -515-…ثم استدرك البيان المنتظر بقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] نفيًا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم، أي: هو هدي كما قال أولًا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، لكن الفاسقين1 يضلون بنظرهم إلى غيرهم المقصود من إنزال القرآن، كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه، وهو الذي أنزل من أجله، وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى2، فإذا تقرر هذا؛ صارت النعم نعمًا بالقصد الأول، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها، وذلك معنى القصد الثاني، والله أعلم.
وأما الثاني، وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول3؛ فكذلك أيضًا؛ لأنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل؛ صار مطلوب الترك؛ لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة، وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص؛ فسماع4 الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي، بل قطع الزمان به صد عما هو خادم5 لذلك؛ فصار خادمًا لضده.
ووجه ثان: أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلًا؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11]، يعني: الطبل أو المزمار أو الغناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الفاسقون".
2 حيث تقرر فيها أن الإرادة جاءت على معنيين: قدرية، وأمرية، وأنه تعالى أعان أهل الطاعة؛ فجاء فعلهم على وفق الإرادتين، ولم يعن أهل المعصية؛ فجاء فعلهم على وفق الأولى فقط، وتقدم له إشارة إليه آنفًا في قوله: "وكل بقضاء الله وقدره". "د".
3 أي: وإن كان لا حرج في جزئيه بالقصد الثاني، بل قد يكون مطلوبًا بهذا القصد. "د".
4 هكذا في الأصل، وفي غيره: "فصار".(7/240)
5 لم يقل: "صد عن هذه الأمور الثلاثة"؛ لأنه لو كان كذلك لكان منهيًّا عنه بالجزء أيضًا لا بالكل فقط، وإنما هو معطل للمباحات الأخرى من طريق الكسب وغيرها، الخادمة للمراتب الثلاثة، فيكون خادمًا لضد هذه المراتب، فكان مذمومًا بالقصد الأول. "د".(7/241)
ص -516-…[أو اللعب على حسب اختلاف المفسرين، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وهو الغناء]، وقال في معرض الذم للدنيا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}1 الآية [محمد: 36]. وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة2"3. فعده مما لا فائدة فيه؛ إلا الثلاثة، فإنها4 لما كانت تخدم أصلًا ضروريًّا أو لاحقًا به؛ استثناها، ولم يجعلها باطلًا.
ووجه ثالث: وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به، ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول؛ فلم يقع امتنان باللهو من حيث [هو]5 لهو، ولا بالطرب ولا بسببه6 من جهة ما يسببه، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فاللهو ذكر في هذه الآية في معرض الذم، وقد جعل الطبل وما معه في الآية السابقة من اللهو، فيكون الطبل وما معه مما هو في معرض الذم في نظر الشارع بالقصد الأول. "د".
2 تقدم أنها الزوجة والفرس وآلات الرمي.
3 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد.
4 في الأصل: "لأنها".
5 زيادة من الأصل و"م" و"ط".(7/242)
6 أي: والامتنان بالثلاثة المذكورة وأمثالها ليس من جهة أنها لهو، بل من جهة ما فيها من الفائدة الخادمة للنسل كما في الأول، أو للدين كما في غيره، فانظر إلى قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية [الروم: 21]، وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وقد فسرت القوة ببعض ما تنطلق عليه من رمي النبل، وما وقع فيه من الفائدة، وإن كان ظاهره من اللهو، لكنه لما جرت به محاسن العادات، ففيها التزاوج، وتأديب الخيل، وتعلم الرماية، أما قسم الغناء وما معه، فإنه خارج عن العادات المستحسنة، ويمكن أن يعتبر قوله: "وهو على وفق... إلخ" وجهًا آخر مستأنفًا؛ كأنه يقول: وأيضًا؛ فإن ما فيه الفائدة المذكورة جارٍ على وفق محاسن العادات، بخلاف هذا القسم فخارج عنها، وهذا دليل على ذمه بالقصد الأول، وإن كان ظاهر كلامه أنه من الوجه الثالث؛ إلا أنه يبقى الكلام في ضابط محاسن العادات وسيئاتها: هل ما يتفق على كونه حسنا في كل أمة وكل وقت، أم ما هو؟ "د".(7/243)
ص -517-…لخدمة ما هو مطلوب، وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات؛ فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة.
ويتحقق ذلك أيضًا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقًا واختراعًا؛ فحصلت المنة بها من تلك الجهة، ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص1 به في أصل الخلق، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة، ألا ترى إلى قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وقال: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ...} إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 10-22].
وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].
إلى أشباه ذلك2، ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب.
فإن قيل: إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود، ولذلك كان مبثوثًا في القسم الأول، كلذة الطعام، والشراب، والوقاع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب، ولكن هذين يصرف إليهما ما خلق للفوائد مما يكون قابلًا للتلهي به، ولذلك لم يحصل من جهة اللهو تعرف بالنعم وامتنان بها كما أشار إليه في الآيات، فالأولى جعل الامتنان فيها بإخراج وخلق ما يعدونه زينة لهم، والثانية بذكر الأرض وما فيها من المنافع الغذائية للإنسان، وبالبحرين وأنه يخرج منهما ما به الزينة، ولم يمتن بالتزين بهما، وكذا الآية الثالثة، وقد جعل الزينة فيها تابعة لمنافع الركوب، وهذا كله مما يحقق الوجه الثالث الذي يقول فيه: إنه لم يقع الامتنان باللهو، أي: لأنه إذا لم يخلق شيء يختص بأصل خلقته للهو، فلا يتأتى الامتنان به كذلك. "د".
2 تتميم لقوله: "ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق". "د".(7/244)
ص -518-…والركوب، وغير ذلك، وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز، وإن لم يطلب1 ما وراءها من خدمة الأمور ونحوها، فليكن جائزًا أيضًا في اللهو واللعب بالتفرج في البساتين، وسماع الغناء، وأشباهها مما هو مقصود للشارع فعله.
والدليل على ذلك أمور:
- منها: بثها2 في القسم الأول.
- ومنها3: أنه جاء في القرآن ما يدل على القصد إليها، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].
وقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا4 وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وحيث سلمتم أن هذه اللذات ومروحات النفس تقصد وإن لم يقصد معها ما يخدم الضروري، وهي حينما تتجرد عن قصده لا يكون فرق بينها وبين السماع وأنواع اللهو، يلزم أن تسلموا بجوازها وقصدها قصدًا أوليًّا، وبهذا يعلم أنه يصلح دليلًا معارضًا، فانظر لِمَ لَمْ يعده رابعًا مع الثلاثة بعده؟ "د".
2 أي: انتشارها ومصاحبيتها لأنواعه، حتى كأنها ملازمة لها، أي: فحكم الجواز في القسم الأول يكون منصبا عليها أيضًا. "د".
3 معارضة للوجه الثالث. "د".
4 سيأتي له الكلام عليه بما يفيد أن اتخاذهم منه سكرًا ليس من مواضع الامتنان، فلا شأن له بإفادة الحل حتى نحتاج إلى القول بالنسخ كما صنعه بعض المفسرين. "د".
وقال "ف": "السكر: الخمر، وإليه ذهب الجمهور، والآية نزلت بمكة والخمر إذ ذاك كانت حلالًا وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا؛ فالآية منسوخة بآية المائدة".
وروي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة. وعن أبي عبيدة أنه المطعوم المتفكه به.
وعن علماء الحنفية أنه ما لا يسكر من الأنبذة؛ فلا نسخ في الآية.
والرزق الحسن التمر والزبيب وغير ذلك" ا. هـ.(7/245)
ص -519-…وما كان نحو ذلك، وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين1 لها، واتخاذ السكر راجع2 إلى معنى اللهو واللعب؛ فينبغي أن يدخل في القسم الأول.
- ومنها: أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل، فهي خادمة للمأمور به أيضًا3؛ لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير، كما كان المطلوب بالكل كذلك، فالقسمان متحدان؛ فلا ينبغي أن يفرق بينهما.
فالجواب: أن استدعاء النشاط واللذات4 إن كان مبثوثا5 في المطلوب بالكل؛ فهو فيه خادم للمطلوب بالفعل، وأما إذا تجرد عن ذلك؛ فلا نسلم أنه مقصود، وهي مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري أو نحوه.
ومما يدل على ذلك قوله في الحديث: "كل لهوٍ باطل إلا ثلاثة"6؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التزين".
2 بل لا شيء أدخل في باب اللهو من تناول المسكر. "د".
3 أي: وإن كانت خادمةً لضد بعض المطلوب بالكل، فهي خادمة لبعض آخر منه كالعبادة وفعل الخير؛ لما فيها من تنشيط البدن، وراحة النفس من الأتعاب والهموم الموجبة للفتور والكسل عن الأعمال، عبادة وغيرها. "د".
4 في الأصل و"ط": "واللذة".
5 ففرق بين ما يكون استدعاء النشاط تابعًا لخدمة ضروري كما هو القسم الأول وبين ما يكون مجرد لهو، والثاني محل النزاع، والذي يدل لنا الحديثان بعد، ولا يخفى عليك صلاحية هذا الجواب لرد الأدلة الثلاثة المعارضة، بل الأربعة على ما قررناه. "د".
6 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد والمنة.(7/246)
ص -520-…فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد، وأبطل البواقي.
وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة؛ فقالوا: يا رسول الله! حدثنا "يعنون بما ينشط النفوس". فأنزل الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}1 الآية [الزمر: 23].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 13" ثنا حجاج، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم قبل اختلاطه، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد، كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؟ فهو مرسل، بل معضل بلا شك.
وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند.
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.(7/247)
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "3/ 343 وق136/ ب -المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209 - الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183": أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا. فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ...} [يوسف: 1-3]؛ فتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا. فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرًا من طريق محمد بن سعيد =(7/248)
ص -521-…فذلك1 في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم2 وذلك ما بث فيه من الأحكام، والحكم، والمواعظ، والتحذيرات، والتبشيرات الحاملة على الاعتبار، والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم، وهذا خلاف ما طلبوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86 - مسند سعد و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير" "رقم 24": ثنا حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عمر بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير خلاد وهو ثقة، وثقة ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديث مقارب".
وأعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وصححه الحاكم/ ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن"، وفي "ف": "فقال: يا رسول الله!"، والصحيح: "فقالوا"، كما أثبتناه.
1 في "ط": "فكان ذلك".(7/249)
2 انظره مع قوله: "وهذا خلاف ما طلبوه" لتوقف بينهما، ولعل الفرض بهذا أنه أولى ما يقع طلبكم له؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، فأجيبوا إلى خير مما طلبوا، يعني: ولو كان ما طلبوه مما فيه اللهو واللعب مما يقصد شرعًا لأجابهم إليه، ولما ازدادت رغبتهم في طلبهم الأول لم يجبهم إليه مباشرة، بل بما يكون مبثوثًا فيه فقط مع كونه خادمًا لأصل ضروري، وهو الدين. "د".(7/250)
ص -522-…قال الراوي: "ثم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا شيئًا فوق الحديث ودون القرآن! فنزلت سورة يوسف1" فيها آيات ومواعظ، وتذكيرات وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله، وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك؛ فدلوا على ما تضمن قصدهم مما هو2 خادم للضروريات، لا ما هو خادم لضد ذلك.
وفي الحديث أيضًا: "إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك3؛ فقد هلك"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه في الحديث السابق.
2 كذا في "ط"، وفي الأصل: "هما"، وفي غيرهما: "بما هو".
3 إنما يظهر الشاهد في الحديث على وراية: "ومن كانت فترته إلى غير ذلك"، وهو يشمل اللهو واللعب، وذلك كما هو الواقع أن كثيرًا ممن تشددوا في العبادة حصل لهم بعدها فترة وارتخاء عنها، ثم مالوا إلى اللهو واللعب وملاذ النفوس، والبدعة بالمعنى الذي يحدده لها المؤلف، وهو أنها لا تكون إلا في عبادة ليس لها أصل فيما ورد عن الشارع، إذا أخذ بها في معنى الحديث يبعد أن يكون حكمها حكم اللهو واللعب الذي يقصده كالغناء وما معه الذي هو موضوع كلامنا. "د".
4 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 158، 165، 188، 210"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 51"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 11 - الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 126/ رقم 1026"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 196" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا، وإسناده صحيح.(7/251)
وأخرجوه بألفاظ، الأول منها في "مسند أحمد": "إن لكل عابد"، وعند غيره "[إن] لكل عامل"، أو "إن لكل عمل"، وعندهم جميعهم: "شرة" بالراء، وفي الأصول كلها: "شدة" بالدال، وهو خطأ، و"الشرة" هي الحرص على الشيء والرغبة والنشاط، قال الطحاوي: "فوقفنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عز وجل". =(7/252)
ص -523-…وأما آيات الزينة والجمال والسكر؛ فإنما ذكرت فيها1 لتبعيتها لأصول تلك النعم، لا أنها [هي] المقصود الأول في تلك النعم.
وأيضًا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول؛ لأنه خادم2 له، ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2453"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 349"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 89"، وتمام في "الفوائد" "5/ 61-62/ رقم 1669 - ترتيبه" بإسناد جيد.
وعن ابن عباس أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1027"، والبزار، ورجاله رجال الصحيح، كما في "مجمع الزوائد" "2/ 258-259".
1 أي: ذكرت الزينة وما معها في الآيات المذكورة تبعًا لما ذكر فيها من أصول النعم المعتد بها، كالدفء، وحمل الأثقال إلى الجهات البعيدة، وغيرها من المنافع التي أشار إليها هنا إجمالًا، وفصلها في آيات أخرى، كاللبن، والجلود تتخذ منها البيوت، وغير ذلك كما قال فيه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 21]، ومما يحقق غرضه أنه مع تكرير ذكر النعم إجمالًا وتفصيلًا لم يذكر الجمال والزينة في الآيات الأخرى، أعني: التي في معرض الامتنان، لا التي مثل آية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46]؛ فإن هذه من باب آية: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وعدم ذكره في الآيات الأخرى يدل على أنها إنما ذكرت فيما ذكرت فيه تبعًا، وقد عرفت منزلة التابع في المسائل السابقة، هذا ومتى كان نائب فاعل "ذكرت" عائدًا على نفس الزينة وما معها كما قررنا لا على لفظ آيات، فالعبارة مستقيمة لا تحتاج إلى تصحيح. "د".
قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "لعله فيه -أي: في كتاب الله تعالى-" ا. هـ.(7/253)
وتابعه "م"، فأثبتها في المتن: "ذكرت فيه"، وقال في الهامش: في "د" ذكرت فيها".
2 أي: وتقدم أن ما كان مبثوثًا فيه، فهو خادم للمطلوب بالفعل. "د".(7/254)
ص -524-…وقوله عليه الصلاة: "إن الله جميل يجب الجمال"1.
"إن الله يحب أن يرى2 أثر نعمته على عبده"3.
وأما السكر؛ فإنه قال فيه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67]؛ فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه، وقال: {وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]؛ فحسنه.
فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف؛ كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف؛ فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع، ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم، بل قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} الآية [يونس: 59]؛ فتفهم هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 أي: فرؤية أثر النعمة مما يخدمها، وقد جعل هذا الحديث وما قبله شاهدًا للمباح بالجزء المطلوب بالكل على جهة الندب، وأنه لو تركه الناس كلهم لكان مكروها، راجع المسألة الثانية في المباح، ومثله هناك بالتمتع بالطيبات من مأكل وملبس... إلخ". "د".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة، منها:
حديث عمران بن حصين أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله عز وجل على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح.(7/255)
وانظر سائر الشواهد في: "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75".(7/256)
ص -525-…وأما الوجه الثالث؛ فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به فهي من القسم الأول؛ كملاعبة الزوجة، وتأديب الفرس، وغيرهما، وإلا؛ فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، إذ1 كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة، ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها، والاستراحة من الأعمال بالنوم وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائمًا كل هذه الأشياء مباحة؛ لأنها خادمة للمطلوب بالقصد الأول.
أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم؛ فهو أمر زائد على ذلك كله، فإن جاء به من غير مداومة؛ فقد أتى بأمر يتضمن ما هو2 خادم للمطلوب الفعل؛ فصارت خدمته له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فباين القسم الأول إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء، وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك، لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا3 لم يداوم عليه، وهذا ظاهر لمن تأمله.
فصل
فإن قيل: هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه؛ لأن كلا القسمين قد تضمن4 ضد ما اقتضاه في وضعه الأول؛ فالواجب العمل على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "إذا"، وكتب "د": "لعل الأصل: "إذ"؛ فهو تعليل لسابقه".
2 أي: النشاط والراحة التي هي خادم لما يطلب فعله من ضروري أو حاجي مثلا؛ أي: فليس خادما للمطلوب الفعل مباشرة، بل بواسطة، ولكنه يخدم مطلوب الترك مباشرة، أما القسم الأول؛ كالأكل، والشرب وتأديب الفرس مثلا؛ فهو خادم لأصل من الأصول مباشرة، فلذلك اختلف حكمهما. "د".
3 فإذا داوم عليه وضيع الوقت فيه؛ لم يكن خدم به شيئًا من المصالح، بل كان مضيعًا لها؛ فلهذا نهي عن الدوام. "د".
4 كما هي عبارته أول المسألة حيث قال فيهما: "وقد يصير مطلوب... إلخ"، وقوله: "على ما يقتضيه الحال... إلخ"؛ أي: فإن أدى استعماله إلى تفويت مصلحة نهي عنه، وإلا فلا. "د".(7/257)
ص -526-…يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح أو ترك الاستعمال، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر، إلا تعليق الفكر بأمر صناعي، وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء.
فالجواب: أنه ينبني عليه أمور1 فقهية، وأصول عملية.
- منها: الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد، وما لا يطلب الخروج عنه، وإن اعترضت العوارض، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر؛ كالبيع، والشراء، والمخالطة، والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته؛ فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا، ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته، كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهى إما مطلوب بالأصل2، وإما خادم للمطلوب بالأصل؛ لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج3، أو تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن هذه الأمة؛ فلا بد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف عما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فروع في مسائل متنوعة، وقوله: "وأصول عملية"؛ أي: قواعد كلية تفيد عملا كما سيقول: "فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد". "د".
2 يرجع إلى قوله: "مطلوبة بالجزء"، وما بعده يرجع إلى ما بعده. "د".
3 يرجع إلى قوله: "خادم"، وقوله: "أو تكليف" راجع إلى قوله: "إما مطلوب بالأصل" فإن الحاجي خادم للضروري الذي هو حفظ الحياة في البيع والشراء والمساكنة مثلا، فإن كانت الحاجة إليه لا تصل إلى حفظ الحياة الذي هو ضروري، وكان يتحرج فقط بتركه؛ كان خادمًا للمطلوب الأول. "د".(7/258)
ص -527-…يستطاع الكف عنه، وما سواه؛ فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية1 لا بحكم الأصل.
وقد بسطه2 الغزالي في كتاب الحلال والحرام من "الأحياء" على وجه أخص3 من هذا، فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد.
[وقد]4 قال ابن العربي5 في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه: "فإن قيل: فالحمام دار يغلب فيها المنكر؛ فدخلوها إلى أن يكون [حرامًا]4 أقرب منه إلى أن يكون مكروهًا؛ فكيف أن يكون جائزًا؟ قلنا: الحمام موضع تداوٍ وتطهر؛ فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لضروريه أو حاجيه فقط، ولو كان بحكم الأصل مباحًا لما ألزم بالوقوف عند حد، وقد سماه عفوًا كما سبق له في ذكر مرتبة العفو، وأنها مرتبة غير الأحكام الخمسة، وليست داخلة في المباح.
2 في "ف": "بسط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.
3 لأنه بناه على أن المناكر تأتي من طبيعة المباحات إذا استرسل فيها دون حد، أما هنا؛ فالمناكر التي مثل بها المؤلف عارضة، خارجة عن نفس المباحات، لا دخل للمؤلف في جلبها؛ فهو يقول: "إذا أخذ الموضوع عاما أدخل على المباحات مطلقا ما يقتضي حظرها، سواء أكان من جهتها هي أم كان من عوارض خارجة عنها؛ فإنها تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة، مع التحرز بقدر الاستطاعة من الوقوع في المحظورات دفعا للحرج ولتكليف ما لا يطاق، ويكون ما لابسها من المحظورات من باب العفو". "د".(7/259)
قلت: قال الغزالي في "إحياء علوم الدين" "2/ 97": "إن أكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب؛ فإنه يحرك الشهوة، ثم الشهوة تدعو إلى الفكر، والفكر يدعو إلى النظر، والنظر يدعو إلى غيره..." إلى أن قال: "وهكذا المباحات كلها، إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولا، ثم بالحذر ثانيا؛ فقلما تخلو عاقبتها عن خطر، وكذا كل ما أخذ بالشهوة؛ فقلما يخلو عن خطر" ا. هـ.
4 سقط من "ط".
5 انظر كلامًا له عن الحمام في "عارضة الأحوذي" "10/ 244-246".(7/260)
ص -528-…وتظاهر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان؛ فالحمام كالبلد عموما، وكالنهر خصوصا. هذا ما قاله، وهو ظاهر في هذا المعنى1.
وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج، وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي [سعة]2 كسد الذرائع؛ ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان3؛ فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحًا4.
ويدخل أيضًا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب5؛ فإن لاعتبار الأصل6 رسوخًا حقيقيًّا، واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد عقد لهذا المعنى المسألة الثانية عشرة من المباح [1/ 287]، وفصله هناك تفصيلًا وافيًا. "د".
2 سقط من "ط".
3 إلا أنه في "5/ 199" تمسك بأصل الإباحة، ولم يلتفت إلى التفريق بين المراتب؛ فقال: "... الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفها من خارج أمور لا ترضى شرعا؛ فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج"، وذكر أمثلة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من المرتبة الثالثة كشهود الجنائز.
4 فإن ظهر أنه يقع في الممنوع غالبًا أو قطعا، مع فرض المسألة وهو أنه في سعة ليس فيها حرج ولا تكليف ما لا يطاق؛ فإنه لا خلاف في اعتبار المحظور وتقرير حرمة الدخول في هذا المباح. "د".
5 كما في جادة الطريق ونحوها يغلب عليها أن تصيبها النجاسة، لكن الأصل في الأشياء الطهارة؛ فهل تصح الصلاة فيها مع الشك؟ ينبني الحكم بالصحة أو البطلان على الخلاف في ترجيح الأصل على الغالب كما هو رأي مالك، أو العكس كما هو رأي ابن حبيب. "د".
6 في الأصل: "الاعتبار بالأصل".(7/261)
ص -529-…ظاهر.
أما إذا1 كان المباح مطلوب الترك بالكل؛ فعلى خلاف ذلك، [إذ] لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح إذا حضره منكر أو كان في طريقه؛ لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه، ولا هو خادم لمطلوب الفعل؛ فلا يمكن2 والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه؛ فلا بد من تركه جملة، وكذلك اللعب وغيره.
وفي كتاب "الأحكام" بيان لهذا المعنى في فصل الرخص، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها أو اكتسابها.
فإن قيل: فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد وإن كان أصله مطلوبا بالكل أو كان خادما للمطلوب؛ فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز وأشباهها مما هو مطلوب شرعا، وحض كثير من الناس على ترك التزوج وكسب العيال؛ لما داخل هذه الأشياء واتبعها3 من المنكرات والمحرمات.
وقد ذكر عن مالك أنه ترك4 الجمعات، والجماعات، وتعليم العلم، واتباع الجنائز، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مقابل قوله: "وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل"، وبها ينجلي الفرق. "د".
2 تفريع على النفي، وبيانه أنه لو كان مطلوب الفعل أو خادما له وحضره المنكر وعولنا على المنع منه بسبب ذلك لحصل الحرج بعدم استيفاء المكلف حظه من ذلك المباح؛ فلذا أبيح له الدخول فيه غير مبالٍ بما يلحقه، أما هنا؛ فليس كذلك، فحظه منه كالعدم؛ فلا بد من تركه جملة لما اتصل به من المنكر، فقوله: "فلا بد من تركه" تفريع على قوله: "لأنه غير مطلوب... إلخ"، ومعنى "لا يمكن" لا يجوز. "د".
3 في "ط": "واستبعها".
4 التحقيق في سبب الترك أنه اعتراه سلس لازمه، وكان لا يحب أن يذكر ذلك للناس؛ لما فيه من رائحة الشكوى من قضاء الله تعالى؛ فليس مما نحن فيه. "د".(7/262)
ص -530-…وهكذا غيره، وكانوا [علماء، وفقهاء، وأولياء، ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات، وهذا كله له دليل في الشريعة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام]1: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن"2، وسائر ما جاء في طلب العزلة3، وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل أو بالجزء ندبا أو وجوبا، خادما لمطلوب أو مقصودا لنفسه؛ فكيف بالمباح؟
فالجواب: أن هذا المعنى لا يرد من وجهين:
أحدهما: أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها4، فمن عمل على أحد الجائزين؛ فلا حرج عليه، ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء؛ لأنا لم نتعرض5 في هذه المسألة للنظر فيه.
والثاني: أن ما وقع التحذير فيه وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، 1/ 69/ رقم 19" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: "... أن يكون خير مال المسلم غنم...".
قال "ف": "شعف الجبال؛ أي: رءوسها، والمراد بمواقع القطر: الأودية والصحاري".
3 كما تراه في كتاب "العزلة" للخطابي، و"الرسالة المغنية في السكون ولزوم البيوت" لابن البناء البغدادي "ت471هـ"، و"الأمر بالعزلة في آخر الزمان" لابن الوزير "ت 840هـ"، وكلها مطبوعة.
4 أي: من الحاجية، وهي التي يؤدي الكف عنها إلى ضيق وحرج. "د".
قال "ف": "ولعله: لا عن غيرها، فتأمل".
5 انظره في قوله: "لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل"، قوله: "وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها"، وجعله ما فيه السعة محل نظر، يجري فيه الخلاف في سد الذرائع ومسألة تعارض الأصل والغالب، وهل يقال: إن الحاجات الضرورية ليست مما يطلب بالجزء، وكذلك الحاجية المؤدية إلى الضيق والحرج الفادح. "د".(7/263)
ص -531-…معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه، كالفرار من الفتن، فإنها في الغالب قادحة في أصول1 الضروريات، كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل، [أو ما أشبه ذلك]، أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس، مع المفسدة المنجرة بسببه، أو ترك2 ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها، والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام؛ فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال.
فصل
- ومنها: الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة وما لا ينقلب، وذلك أن ما كان منها خادمًا لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه؛ فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري، لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب، وبين ما ليس كذلك؛ وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ، أو من جهة الخطاب الشرعي؛ فإذا أخذ من جهة الحظ؛ فهو المباح بعينه، وإذا اخذ من جهة الإذن الشرعي؛ فهو المطلوب بالكل3 لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما الجمعة والجماعات؛ فمن مكملات إقامة الدين، لما فيها من إظهار أبهة الإسلام وقوة أهله إلى آخر ما سبق. "د".
2 عطف في المعنى على قوله: "للإشكال"؛ أي: أو كان الترك لورع المتورع يحمل نفسه مشقة يطيقها هو وإن لم يطقها كثير من الناس، لا أن ذلك بسبب أنهم لا يقولون بجواز الدخول في المباحات المذكورة؛ فيصح أن يكون "ترك" فعلا مبنيًّا للمجهول؛ أي: ترك ما ذكر لأجل ورع المتورع من هؤلاء. "د". وفي "ط": "ترك ورع لمتورع".(7/264)
3 بمراجعة المسألتين الثانية والثالثة من المباح يتضح المقام، ويعلم أن كون المباح مطلوبًا بالكل لا يتوقف على أخذه من جهة الإذن كما هو ظاهر العبارة، وأن المباح المطلوب بالكل لا بد أن يكون خادمًا لمطلوب، وأنه يوصف الفعل بكونه مباحًا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط؛ حتى يكون أخذًا له من جهة اختياره وإرادته لا غير، وأن الحظ على ضربين: فما كان داخلا تحت الطلب؛ فللعبد أخذه من جهة الطلب ولا يفوته حظه، والثاني غير داخل تحت الطلب كالسماع وأنواع اللهو؛ فلا يتأتى أخذه إلا من جهة اختياره وحظه، ويعلم أيضا أن قوله: "فهو مطلوب بالكل" ليس حمل موطأة يقصد منه التعريف، بل المراد أنه لا يتأتى أن يؤخذ من جهة الإذن إلا إذا كان مما يدخل تحت الطلب بالكل، يعني: ومتى أخذ كذلك بريء من الحظ وخرج عن كونه مباحًا إلى كونه طاعة. "د".(7/265)
ص -532-…وطلبه بالقصد الأول، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام.
فإذا ثبت هذا؛ صح في المباح الذي هو خادم المطلوب1 الفعل انقلابه طاعة؛ إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو من جهة الإذن، وأما ما كان خادمًا لمطلوب الترك، فلما كان مطلوب الترك بالكل؛ لم يصح2 انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول، وإذا أخذ من جهة الحظ؛ فليس بطاعة، فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة؛ فاللعب مثلًا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات وشربها؛ فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات وما دار بها، بخلاف اللعب، فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها، وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة، لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة، وقد مر3 بيان ذلك.
وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح؛ فإن من الناس من يقول: إنه ينقلب بالقصد طاعة، وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق4 فيه إن شاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "للمطلوب".
2 لأنه إنما كان يصح انصرافه إليه لو كان يخدمه، مع أنه إنما يخدم ضده، وأيضا إنما ينصرف إليه لو كان داخلًا تحت الطلب "أي الكلي"، ومعلوم أنه مطلوب الترك بالكل، وحينئذ؛ فلا يتأتى أخذه من جهة الإذن حتى يبرأ من الحظ؛ فينقلب طاعة. "د".
3 أي: في المسألة الرابعة من المباح. "د".
4 أي: وأنه غير معقول انقلابه طاعة؛ لأنه من قسم المنهي عنه بالكل؛ فلا يتأتى أن ينظر إليها بأخذ المكلف له من حيث طلب الشارع له لأنه لم يطلبه جزئيًّا، وهو ظاهر، ولا كليًّا؛ لأنه منهي عنه. "د".(7/266)
ص -533-…الله تعالى.
فإن قيل: إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول؛ فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني، فاللعب والغناء ونحوهما إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة؛ فقد صارت على هذا الوجه طاعة؛ فكيف يقال: إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة؟
فالجواب: أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب أو غناء، بل من جهة ما تضمن من ذلك، لا1 بالقصد الأول؛ فإنه استوى مع النوم مثلا، والاستلقاء على القفا، واللعب مع الزوجة، في مطلق الاستراحة، وبقي اختيار كونه لعبًا على الجملة أو غناء تحت حكم اختيار المستريح فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه؛ فلا طلب، وإن أخذه من جهة الطلب؛ فلا طلب2 في هذا القسم كما تبين.
ولو اعتبر3 فيه ما تضمنه بالقصد الثاني؛ لم يضر الإكثار منه والدوام عليه، ولا كان منهيًّا عنه بالكل؛ لأنه قد تضمن خدمة المطلوب الفعل، فكأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يكن اعتبار للغناء بالقصد الأول، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على فعل الخير، أما هو نفسه؛ فليس معينًا بل صادًّا عن المطلوب. "د".
2 أي: بالقصد الأول المعتد به، يعني: ولا طاعة بدون طلب شرعي؛ لأنها امتثال أمر الشارع. "د".
3 أي: لو اعتبر ما تضمنه بالقصد الثاني، واعتد به في نظر الشارع حتى يكون مطلوبًا؛ فيؤخذ من جهة الطلب فينقلب طاعة، لو كان كذلك ما نهى الشارع عن استدامته؛ لأنه يكون حينئذ خادمًا لمطلوب الشارع، والواقع والفرض أنه خادم لضده مباشرة، ومطلوب الترك بالكل؛ فهذا يدل على أن ما تضمنه بالقصد الثاني لا ينقله إلى الطاعة. "د". وفيه سقط من "ط".(7/267)
ص -534-…يكون مطلوب الفعل بالكل وقد فرضناه على خلاف ذلك، هذا خلف، وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبًا لتنشيط النفس على الطاعة؛ فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك [ما كان]1 في معناه أو شبيهًا به.
فصل
- ومنها: بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال، مع علمه بسوء عاقبتهم فيه؛ كقوله لثعلبة بن حاطب: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"2، ثم دعا له بعد ذلك؛ فيقول القائل: لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلمَ دعا له؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب أو أصل3 الطلب؛ فلا إشكال في دعائه عليه الصلاة والسلام له.
ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له4 كقوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل5 وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا". فقيل: هل يأتي الخير بالشر؟ فقال: "لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال حلوة خضرة"6 الحديث.
وقال حكيم بن حزام: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 الحديث ضعيف جدًّا؛ كما بينته بإسهاب في التعليق على "2/ 448".
3 في "ط": "وأصل".
4 في "ط": "مشروعية اكتسابه".
5 في "ط": "قال".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال "ف": "أي أنه في نضارته كثمرة حلوة المذاق خضرة اللون".(7/268)
ص -535-…[ثم سألته فأعطاني]، ثم قال: "إن هذا المال خضرة حلوة"1 الحديث، وقال: "المكثرون هم الأقلون يوم القيامة"2 الحديث.
وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة، ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك، ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية، بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب؛ فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه، كان صاحبه مليا أو غير ملي، فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل؛ لأن الطلب أصلي، والنهي تبعي؛ فلم يتعارضا، ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به، وهو ظاهر من هذه القاعدة.
والفوائد المبنية عليها كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا.
وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وفي "د" تكرر مرة رابعة.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستقراض، باب أداء الديون، 5/ 54-55/ رقم 2388" عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: "إن الأكثرين هم الأقلون؛ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا...".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 391" باللفظ الذي أورده المصنف عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي "ط": "هم المقلون".(7/269)
ص -536-…المسألة السادسة عشرة:
قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي أو التركي، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك.
وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام، وهي: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم.
وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء، وليس للاقتضاء إلا وجهان:
أحدهما: اقتضاء الفعل.
والآخر: اقتضاء الترك.
فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين مكروه ومحرم، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة؛ إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى المكروه أنه محرم، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر1 في أحكام الرخص، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الإطلاق الرابع للرخصة، وهو أن كل ما كان توسعة على العباد مطلقًا؛ فهو رخصة، والعزيمة هي الأولى التي نبه عليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فالأصل أنهم ملك، وليس لهم عليه من حق ولا حظ، بل عليهم التوجه الكلي لعبادته، وترك كل ما يشغل عنها حتى من المباحات؛ فالإذن لهم في نيل حظوظهم رخصة وتوسعة. "د".(7/270)
ص -537-…أحدهما: من جهة الآمر، وهو رأي من1 لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء، وهو2 شامل للأقسام كلها، والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي، وذلك قبيح شرعا، دع القبيح عادة، وليس3 النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار؛ حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات، وعد كل مخالفة كبيرة، وهذا رأي أبي المعالي في "الإرشاد"؛ فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها، مع قطع النظر عن الآمر والناهي، وما رآه يصح في الاعتبار4.
والثاني: من جهة معنى الأمر والنهي، وله اعتبارات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو منصور الماتريدي، قال: إن صيغة الأمر للطلب أي ترجيح الفعل على الترك، وعزاه في "الميزان" [1/ 207] إلى شيوخ سمرقند، وقالوا في النهي ما قالوه في الأمر؛ فيكون معناه طلب الكف أي ترجيح الترك على الفعل، وقوله: "الآمر" بصيغة اسم الفاعل كما يدل عليه تقريره بعد ومقابلته في الطريق الثاني بقوله: "من جهة معنى الأمر"؛ إلا أن قوله: "وهو رأي... إلخ" يتوقف على أن أبا منصور إنما ذهب إلى أنه موضوع للطلب بناء على اعتباره جهة الأمر، وهو يحتاج إلى نص منه؛ إلا أن يقال: معناه أنه يوافق هذا الرأي. "د".
2 أي: الاقتضاء؛ لأنه الطلب بلا شرط شيء. "د".
3 أي: وإلا لجاء الفرق بين المكروه والحرام، وعدنا إلى التقسيم باعتبار تفاوت المفسدة الناشئة عن المخالفة، وقوله: "بهذا الاعتبار"؛ أي: مواجهة الآمر بالعصيان والمخالفة، والمعقول أنه باعتبار الآمر لا فرق. "د".(7/271)
قلت: وفي "ف": "... عادة وشرعًا، وليس..."، وقال: "كذا بالأصل ولعل كلمة "وشرعًا" زائدة، والمعنى: اترك القبح العادي ولا تنظمه في سلك البيان؛ فإنه مفروغ منه ومسلم" ا. هـ.
4 انظر تعليق ابن القيم وبيانه مراد أبي المعالي في "مدارج السالكين" "1/ 315 - ط الفقي". وكلام أبي المعالي في "الإرشاد" "ص328 - ط أسعد تميم".(7/272)
ص -538-…أحدها: النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها؛ فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه، كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك؛ فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب؛ لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت1 عليه الشريعة، كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده؛ لأن الجميع يقتضي نقيض القرب، وهو إما البعد، وإما الوقوف عن زيادة القرب، والتمادي في القرب هو المطلوب؛ فحصل من تلك2 أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد.
والثاني: النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ودرء المفاسد [عند الامتثال، وضد ذلك عند المخالفة، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد]3؛ فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب، كالأول4 في القصد إلى التقرب.
وأيضا5؛ فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى تكميل6 خادم، ومكمل مخدوم، وما هو كالصفة والموصوف؛ فمتى حصلت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي في الحديث بعد التقرب بهما معًا، وقد أخر المكروه والحرام عن قوله: "حسبما دلت عليه الشريعة"، مع أنه سيأتي له في الأحاديث التي يذكرها بعد ما يدل عليه، فلو قدمه عليه ليكون راجعا للجميع؛ لكان أظهر. "د".
2 في "ط": "ذلك".
3 سقط من "ط".
4 أي: كالتقرير الذي قرر به الاعتبار الأول؛ فالكل إما طلب مصلحة أو درء مفسدة. "د".
5 وجه ثانٍ مبني على الاعتبار الثاني، ومحصله أن المندوب مآله إلى أنه خادم مكمل للواجب، وهذا مخدوم مكمل به، وأنه معه كالصفة للموصوف، ولا تكمل الواجبات إلا بالمندوبات؛ فالحكم على الموصوف يسري على الوصف بلا تمييز بينهما. "د".
6 في "م": "مكمل".(7/273)
ص -539-…المندوبات كملت الواجبات، وبالضد، فالأمر1 راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها؛ فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات، فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار؛ فحكم عليها بحكم واحد.
وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها2 وأنسا بها؛ فإن الأنس بمخالفة ما يوجب3 بمقتضى العادة الأنس بما فوقها؛ حتى قيل4: "المعاصي بريد الكفر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المسمى في عرف غير هؤلاء طلبًا غير جازم أو مندوبًا هو منصب في الحقيقة على الواجب معتبرًا فيه الكمال، ويصح أن يكون مراده أن الأمر مطلقًا سواء تعلق في ظاهر اللفظ بالواجب أو بالمندوب مآله قصد تأدية الواجبات على وجهها الأكمل، وهو لا يتحقق إلا بالواجب والمندوب معًا. "د".
2 تمهد لها وتسهل على النفس حصولها، كما يمهد الرائد لمن وراءه، ومتى تمرنت النفس على المخالفة الخفيفة جرؤت على أكبر منها؛ كما في حديث البخاري: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"؛ أي: فلا يزال يترقى من سرقة أمثال هذه الأمور التافهة حتى يسرق الأمور التي يتقطع فيها يده. "د".
قلت: والحديث الذي أورده الشارح أخرجه البخاري في "صحيحه" "12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "3/ 1314/ رقم 1687" عن أبي هريرة، ومضى تخريحه "2/ 39".
وفي "ط": "رائدًا إليها"، وفي الأصل و"ف": "رائدًا عليها"، وقال "ف": "الأنسب رائدًا لهم من راد لهم الكلأ يروده رودًا، وهو رائد؛ أي: طالب به لأجلهم؛ فكذا المكروهات هنا كأنها تطلب المحرمات وتسعى إليها".
3 في الأصل: "فإن الإنسان بمخالفة توجب"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.(7/274)
4 أسنده البيهقي في "الشعب" "5/ 44/ رقم 7223" إلى أبي جعفر بن حمدان عن أبي حفص به، ونسبها ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 425 - ط الفقي" إلى بعض السلف، وتكلم عليها بما يشفي ويغني.(7/275)
ص -540-…ودل على ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
وتفسيره في الحديث1.
وحديث: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات...."2... إلخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، رقم 3334، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 418"، و"التفسير" "2/ 505/ رقم 678"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم 4244"، وأحمد في "المسند" "2/ 297"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 87 و30/ 62"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 517"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 210/ رقم 930 - الإحسان"، والبيهقي في "الشعب" "5/ رقم 7203"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه في "تفاسيرهم" -كما في "الدر المنثور" "6/ 325"- بإسناد حسن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت نكته سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب؛ صقلت قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه؛ فهو الران الذي ذكره الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}".
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الذهبي في "المهذب" -فيما نقل المناوي في "فيض القدير"-: "إسناده صالح".(7/276)
قال "د": "ومعنى ران على قلبه: غطاه، أي: فالمعاصي الرائنة على قلوبهم كانت سببا في شقائهم بالكفر، وهذا وإن كان غير ما نحن فيه إلا أنه تقريب للموضوع، وهو أن الأنس بالمخالفة يعد النفس لما فوقها، وإن كانت الآية في الحرام المؤدي إلى الكفر، لا في المكروه المؤدي إلى الحرام، أما الحديثان بعد؛ فدليلان على كلا النظرين السابقين برمتهما، فالقرب والمصلحة وتكميل الواجب في حديث: "ما تقرب إليَّ عبدي"، والبعد والمفسدة وخدمة الحرام في حديث: "الحلال بين"؛ فعليك بالتأمل حتى لا تحتاج إلى الإطالة.
2 مضى تخريجه "ص306"، وهو في "الصحيحين".(7/277)
ص -541-…فقوله1: "كالراعي حول الحمى يوشك2 أن يقع فيه"3
وفي قسم الامتثال قوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه"4 الحديث.
والثالث: النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران، من حيث كان امتثال الأوامر واجتناب النواهي شكرانا على الإطلاق، وكان خلاف ذلك كفرانا على الإطلاق، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي وما دل عليه قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ...} إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34].
وأشباه ذلك.
فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك، أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إما أن يكون خبره محذوفًا يدل عليه سابق الكلام كما أشرنا إليه، وإما أن يكون الأصل هكذا: "إلى آخر قوله"، والأول غير مألوف في تأليفه". "د".
2 أي: فكثيرًا ما يكون عدم الورع بارتكاب المشتبه فيه سببا للوقوع في محرم، حيث يكون المشتبه فيه؛ إما مكروهًا، أو خلاف الأولى فقط. "د".
3 قطعة من حديث النعمان بن بشير، المتقدم "ص306"، وهو في "الصحيحين".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502"، وغيره عن أبي هريرة ضمن حديث إلهي.
قال "د": "فأنت ترى النوافل كملت الفرائض حتى أوصلت العبد إلى هذه الدرجة محبة الله وما تفرع عليها".(7/278)