2 كذا في "ط", وفي غيره: "الانفكاك".(3/212)
ص -517-…فصل:
- ومن الفوائد في هذه الطريقة: الاحتياط في اجتناب الرخص في القسم المتكلم فيه، والحذر من الدخول فيه؛ فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خدع الشيطان، ومحاولات النفس، والذهاب في اتباع الهوى على غير مَهْيَع1، ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم، وهو أصل صحيح مليح, مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به، أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات، أو كان ابتدائيا كالمساقاة2 والقرض؛ لأنه حاجي، وما سوى ذلك؛ فاللَّجَأ إلى العزيمة.
- ومنها: أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها؛ فقوله, عليه الصلاة والسلام3: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه"4؛ فالرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها، فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"5، كان موافقا لقوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق مهيع: واضحة بينة. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
2 لا داعي لهذا؛ فإنه من الإطلاق الذي قال فيه: إنه "لا تفريع يترتب عليه وإنما ذكر لمعرفة أنه إطلاق شرعي لا غير". "د".
3 في "م": "عليه السلام".
4 مضى تخريجه في "ص480".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "6/ 308/ رقم 1864"- والبيهقي في "السنن" "4/ 242" من طريق آدم، وأبو داود في "الصوم، 2/ 796/ رقم 2407"، والدارمي في "الصوم، ص405"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق أبي الوليد، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" "رقم 1721" =(3/213)
ص -518-…تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].
بعدما قال في الأولى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].
وفي الثانية: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق؛ ليكون على بينة في المجاري الشرعيات، ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا المقام؛ تبين له ما ذكر أتم بيان، وبالله التوفيق، هذا تقرير وجه النظر في هذا الطرف.
فصل:
وقد يقال: إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه:
أحدها1:
أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا؛ فأصل الترخص قطعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -ومن طريقه البيهقي في "السنن" "4/ 242"- والنسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262"، وأحمد في "مسنده" "3/ 319" من طريق يحيى بن سعيد، وأيضا النسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262" من طريق خالد بن الحارث بدون القصة، والدارمي في "الصوم، ص405" عن هشام بن القاسم، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق روح بن عبادة، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 14"، وعنه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115"، والفريابي في "الصيام" "رقم 78، 79"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 254/ رقم 3017" عن غندر، كلهم عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد عن محمد بن عمرو عن جابر بن عبد الله مرفوعا.
وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة كما تراه مبسوطا عند الفريابي في "الصيام" "ص69-76".
1 هذا معارض للوجه الأول من الوجوه الستة التي أقامها على ترجيح العزيمة، وهذا الوجه لا يفيد ترجح الرخصة، إنما يفيد -كما قال- أن العزيمة ليست بأولى؛ لأن غلبة الظن في وجود سبب الرخصة لا تجامع القطع في العزيمة الذي كان مناط الترجيح في ذلك الوجه. "د".(3/214)
ص -519-…أيضا، فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية، فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع، فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار؛ فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية.
ولا يقال: إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن؛ لأنا نقول: إنما ذلك في باب تعارض الأدلة، بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص، أو المطلق مع المقيد؛ فلا، ومسألتنا من هذا الثاني لا من الأول؛ لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج، فإن كان الحرج؛ صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة.
وأيضا؛ فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق، كما إذا كان الأصل التحريم في الشيء، ثم طرأ سبب محلل ظني، فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد، وإن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره؛ فالعمل على مقتضى الظن صحيح، وإنما كان هذا لأن الأصل وإن كان قطعيا؛ فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن؛ إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا، بل مع الشك؛ فكذلك ما نحن فيه، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقي للقطع المتقدم حكما، وغلبات الظنون معتبرة؛ فلتكن معتبرة في الترخص.
والثاني1:
أن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للوجه الثاني في ترجيح العزيمة، وهو أيضا إنما يفيد أنه لا ترجح للعزيمة. "د".(3/215)
ص -520-…فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن يقدح فيما أمر به1 بالترخص، بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي؛ فهو معتبر في نفسه لأنه من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق، وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني؛ فهذا أولى2، وأيضا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني، دون أصل العموم وهو قطعي؛ فكذلك هنا، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته -كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب- فكذلك هنا، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها، وذلك فاسد؛ فكذلك ما أدى إليه.
والثالث3:
أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منه".
2 لأنه تخصيص قطعي بقطعي، فإن ورود الرخصة مقطوع به أيضا، وقوله: "وأيضا" يعني بعد تسليم أن النظر في الرخصة إلى سببها، وهو موضع اجتهاد وظن لا قطع؛ فإن التخصيص كله يرجع إليه، ولو كان بظني في مقابلة عموم قطعي، وقد راعى في هذا معارضة كل ما سبق في الوجه الثاني تفصيلا. "د".
3 وهذا معارض للثالث، وهو أن الأدلة جاءت بالوقوف عند حد الأمر والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره وإن انتهض موجب العزيمة، أي: إن هذا يعارضه الأدلة الدالة على التيسير ورفع الحرج عن الأمة والامتنان به عليها، وهذا أيضا إنما يفيد أن العزيمة ليست بأولى كأصل دعواه، ثم أضرب عنه في آخر الدليل بما يقتضي ترجح الرخصة، ويكون فيه المدعى وزيادة. "د".(3/216)
وانظر في تفصيل ما ذكره المصنف هنا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 622".(3/217)
ص -521-…{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وقد سمي هذا الدين "الحنيفية السمحة"1 لما فيها من التسهيل والتيسير، وأيضا قد تقدم في المسائل2 قبل هذا أدلة إباحة الرخص، وكلها وأمثالها جارية هنا، والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل.
ولا يقال: إن المشقة إذا كانت قطعية؛ فهي المعتبرة دون الظنية.
فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم، وإنما يقع الفرق في التعارض، ولا تعارض في اعتبارهما معا ههنا، وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى، بل قد يقال: الأولى الأخذ بالرخصة؛ لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا؛ فإن العبادة المأمور بها واقعة لكن على مقتضى الرخصة، لا أنها ساقطة رأسا بخلاف العزيمة؛ فإنها تضمنت حق الله مجردا، والله تعالى غني عن العالمين، وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة؛ فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها.
والرابع3:
أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق؛ فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده، بخلاف الطرف الآخر؛ فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في "مسند أحمد" "6/ 116، 233" من حديث عائشة مرفوعا بسند حسن، قاله ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43"، وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدي الساري" "120"، وقد خرجتها في تعليقي على "الجواب الذي انضبط..." للسخاوي "44/ 46"، وانظر تعليقي عليه "2/ 122".
2 في الأصل: "المسألة".
3 معارض للوجه الرابع، وقوله: "بخلاف الطرف الآخر" يقتضي ترجيح الرخصة؛ ففيه المدعى وزيادة. "د".(3/218)
ص -522-…مظنة التشديد، والتكلف، والتعمق المنهي عنه في الآيات [والأحاديث]1؛ كقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وفي التزام المشاق تكليف2 وعسر، وفيها3 روي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وفي الحديث: "هلك المتنطعون"5.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل وقال: "من رغب عن سنتي؛ فليس مني"6 بسبب من عزم على صيام النهار، وقيام الليل، واعتزال النساء، إلى أنواع [من] الشدة التي كانت في الأمم؛ فخففها الله عليهم بقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 و3 سياق الأصل و"ط": "تكلف وعسر، وفيما روي".
4 مضى تخريجه "ص45"، وإسناده صحيح.
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 9/ 104/ رقم 5036"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1020/ 1401" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، 9/ 94/ رقم 5052" دون لفظة: "من رغب..."، وهي ثابتة من طريق سند البخاري؛ كما عند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 97".(3/219)
ص -523-…وقد ترخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الترخص خاليا1 وبمرأى من الناس؛ كالقصر والفطر في السفر2، والصلاة جالسا حين جُحِشَ شِقُّه3، وكان -حين بَدَّنَ4- يصلي بالليل في بيته قاعدا، حتى إذا أراد أن يركع؛ قام فقرأ شيئا ثم ركع5، وجرى أصحابه -رضي الله عنهم- ذلك المجرى من غير عَتْب ولا لوم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما ذكره؛ لأنه لو كان ترخصه بمرأى من الناس فقط لقيل: إن ذلك للتشريع؛ فلا يقوم حجة على أن العزيمة لا تفضل الرخصة. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 480/ رقم 690" عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، 8/ 3/ رقم 4275"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، 2/ 784/ رقم 1113" عن ابن عباس؛ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان؛ فصام حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 689، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 3/ 584/ رقم 1114"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 308/ رقم 411" من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسا فصرع عنه، فجحش شقه، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد؛ فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به... وإذا صلى جالسا, فصلوا جلوسا أجمعون".(3/220)
4 يقال: بَدَّنَ الرجل؛ بفتح الدال مشددة؛ إذا أسن، وتوضحها رواية في البخاري: "حتى أسن"، وفي رواية أخرى: "حتى إذا كبر" "خ".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا صلى قاعدا ثم صح، 2/ 589/ رقم 1118, 1119، وكتاب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره، 3/ 33/ رقم 1148"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا، 1/ 505/ رقم 731، 732" من حديث عائشة، رضي الله عنها.(3/221)
ص -524-…كما قال: "ولا يعيب بعضنا على بعض"، والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
والخامس1:
أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير، والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة، وكراهية العمل، وترك الدوام، وذلك مدلول عليه في الشريعة بأدلة كثيرة؛ فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب [به] أو قيل له فيه؛ كره ذلك وملَّه، وربما عجز عنه في بعض الأوقات؛ فإنه قد يصبر أحيانا وفي بعض الأحوال، ولا يصبر في بعض، والتكليف دائم، فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق2، وسد عنه ما سوى ذلك؛ عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج، أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87].
قيل: إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس3؛ فسمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للخامس. "د".
2 أي: تحقيقا أو بظن قوي يلحق به، كما سبق في ضابط المسألة السابعة. "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب في تفسير سورة المائدة، 5/ 255-256/ رقم 3054"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 520/ رقم 12350"، والطبراني في "المعجم الكبير" "11/ 350/ رقم 11981"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1817"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "3/ ق 24/ أ"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص198"، جميعهم من طريق الضحاك بن مخلد عن عثمان بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس؛ =(3/222)
ص -525-…اعتداء لذلك.
وفي الحديث: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لن يمل حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم؛ فأنزل الله، وذكر الآية. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب"، ثم قال: "ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عثمان بن سعد، متكلم فيه من قبل حفظه، ومع ضعفه يكتب حديثه، وقد خولف كما قال الترمذي، وهذا البيان:
أخرج ابن جرير في "التفسير" "10/ 514، 515، 520-521/ رقم 12337، 12338، 12340، 12351" من طريق يزيد بن زريع وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، ثلاثتهم عن خالد الحذاء عن عكرمة؛ قال: كان أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء؛ فنزلت هذه الآية.
وإسناده صحيح؛ إلا أنه مرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 192", ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "رقم 12341" عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة وذكر نحوه، وإسناده صحيح وهو مرسل.
وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 771-ط المحققة"، وأبو داود في "مراسيله" "رقم 201" من طريقين عن خالد بن عبد الله عن حصين عن أبي مالك به.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 514/ رقم 12336" من طريق آخر عن حصين به، وإسناده صحيح، وهو مرسل، أبو مالك هو غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته، من الثالثة؛ كما في "التقريب" "5354".
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "3/ 139" لعبد بن حميد أيضا من مرسل أبي مالك.(3/223)
فلم يثبت في سبب النزول إلا المراسيل، نعم، ثبت في "صحيح البخاري" "رقم 4615، 5071، 5075"، و"صحيح مسلم" "رقم 1404" عن ابن مسعود؛ قال: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله الآية.(3/224)
ص -526-…تملوا"1، "وما خُيِّر عليه [الصلاة و] السلام بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"2، الحديث.
ونهى عن الوصال، فلما لم ينتهوا؛ واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخر الشهر لزدتكم"3 كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، والنسائي في "المجتبى" "4/ 151" من طريق معاذ بن هشام، وأحمد في "المسند" "6/ 128" من طريق عبد الوهاب، و"6/ 249" من طريق عبد الصمد، و"6/ 249-250"، وابن خزيمة في "صحيحه" "3/ 283/ رقم 2079" من طريق أبي عامر، والفريابي في "الصيام" "رقم 6" من طريق خالد بن الحارث، والطيالسي في "مسنده" "رقم 1475" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 210"- جميعهم عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به، وزادوا على المذكور:
"وأحب الصلاة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دُووم عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها"، هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم بعد المذكور: "وكان يقول: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة -النبي صلى الله عليه وسلم- 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126، وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزير والأدب، 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام، 4/ 1813/ رقم 2327" من حديث عائشة, رضي الله عنها. وما بين المعقوفتين سقط من "م".(3/225)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 205-206/ رقم 1965، وكتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب، 12/ 175-176/ رقم 6848، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 225/ رقم 7242، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275/ رقم 7299"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصل في الصوم، 2/ 774/ رقم 1103" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(3/226)
ص -527-…وقال: "لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"1، وقد قال [عبد الله بن] عمرو بن العاص حين كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله, صلى الله عليه وسلم2. وفي الحديث: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تنام الليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون"3 الحديث؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224-225/ رقم 7241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 775-776/ رقم 1104"، وأحمد في "المسند" "3/ 124، 253"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 82"، والفريابي في "الصيام" "28"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 282" من حديث أنس, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217-218/ رقم 1975"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813-814/ رقم 11159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من أهلي ومالي"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله, صلى الله عليه وسلم".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218".
قال ناسخ الأصل ما صورته: "الحولاء بالمد: اسمها، وتويت أبوها بتاءين فوقيتين مصغر، ابن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي من رهط خديجة, رضي الله عنها.(3/227)
وقوله عليه السلام: "لا تنام الليل" إنكار للفعل، وقد رواه مالك بلفظ: فكره ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانظره. ا. هـ.(3/228)
ص -528-…فأنكر فعلها كما ترى.
وحديث إمامة معاذ حين قال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "أفتَّان أنت يا معاذ؟"1، وقال رجل: والله يا رسول الله؛ إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: "إن منكم منفرين"2 الحديث.
وحديث الحبل المربوط بين ساريتين، [إذ] سأل عنه عليه [الصلاة و]3 السلام، قالوا: حبل لزينب، تصلي, فإذا كسلت أو فترت؛ أمسكت به. فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر؛ قعد"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول، 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 10/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري, رضي الله عنه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".(3/229)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 784"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 200/ رقم 1180 و1181" من حديث أنس, رضي الله عنه.(3/230)
ص -529-…وأشباه هذا كثير؛ فترك الرخصة من هذا القبيل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "ليس من البر الصيام1 في السفر"2، فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى، وإن سلم أنه ليس بأولى؛ فالعزيمة ليست بأولى3.
والسادس4:
أن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى، كما تبين في موضعه من هذا الكتاب؛ فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقا؛ فليس بمذموم، ومسألتنا من هذا؛ فإنه إذا نصب لنا الشرع سببا لرخصة، وغلب على الظن ذلك, فأعملنا مقتضاه وعلمنا بالرخصة؛ فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن5 اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء، فإن كانت غلبة الظن في العزائم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخذه هنا على عمومه ليصح دليلا هنا، وفيما سبق حمله على أن المراد منه ما كان فيه المشقة الفادحة؛ فكان بذلك مناسبا للطرفين "د".
2 مضى تخريجه "ص517".
3 سيقول في الوجه السادس: "ليس أحدهما بأولى من الآخر" بناء على هذا الوجه من المعارضة. "د".
4 هذا معارض لما سبق في السادس. "د".(3/231)
5 يعارض به ما تقدم له في الوجه الخامس من أدلة ترجيح العزيمة؛ إلا أنه صرح فيه بالوجهين المتعارضين، كأنه يقول: كما يلزمنا هذا يلزمكم مثله عند التشدد بالأخذ بالعزائم، بكل منهما يحدث بسببه ما ذكرتم؛ فما هو جوابكم فهو جوابنا، وأما قوله: "وليس أحدهما بأولى من الآخر"؛ فهو عين الدعوى فرعها على ما ذكره من الاشتراك في الإلزام، وكذا قوله: "والمتبع... إلخ"؛ فلم يبق إلا دعوى مخالفة الإجماع في التفريق بينهما؛ فأين هذا الإجماع؟ وعلى فرض وجوده ما فائدة هذه المباحث، وهل تعد حينئذ من مُلَح العلم أم تنزل عن ذلك؟ "د".(3/232)
ص -530-…معتبرة؛ فكذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن فرق بينهما؛ فقد خالف الإجماع، هذا تقرير هذا الطرف.
فصل:1
وينبني عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه2 بغلبة ظن أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع، وقد يستويان، وأما إذا لم يكن ثَمَّ غلبة ظن؛ فلا إشكال في منع الترخص.
[وأيضا]3؛ فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة على عمومها وإطلاقها، من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض، ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة، من غير اعتبار بالسبب الذي هو المظنة، وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التي هي السبب؛ كالسفر والمرض؛ فعلى هذا إذا كانت4 العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة؛ فالمحل محل اشتباه، وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط؛ فإنه ثابت معتبر حسبما هو مبين في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقابل الفصل الأول، يذكر فيه ما ينبني على أن أحدهما ليس بأولى من الآخر كما بين في ذلك ما ينبني على ترجح العزيمة. "د".
2 أي: الترخص، يعني: ولم توجد الحكمة. "د".
3 مقابل لقوله هناك: "ومنها أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها". "د".
وما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: فإذا كانت المظنة منضبطة كالسفر؛ فالأمر ظاهر، وإذا كانت غير منضبطة، والعلة التي هي المشقة غير منضبطة أيضا كالمرض؛ فالواجب الاحتياط على كلا الطريقين، فلا يدخل تحت النظرين السابقين، وهو ظاهر؛ لأنه لم يجعل هذا موضع النزاع في الأولوية، بل لم يدخله في أصل موضوع الرخصة في تقريراته السابقة. "د".(3/233)
ص -531-…فصل:
فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة، وذلك وضع إشكال في المسألة؛ فهل له مخلص أم لا؟
قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما:
أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد؛ فإنما أورد هنا استدلال كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفا على المجتهد، حتى يترجح له أحدهما مطلقا، أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب الأحوال.
والثاني:
أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب "المقاصد" في تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تُؤُمِّلَ الموضعان؛ ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله، وبالله التوفيق.
المسألة الثامنة:
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا؛ فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له؛ كان ممتثلا لأمر الشارع، آخذا بالحزم في أمره، وإن لم يفعل ذلك؛ وقع1 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال ذلك أن الشارع جعل للزوج أن ينفس كربته الشديدة من الزوجة بتطليقها واحدة؛ فيؤدبها بهذا الإزعاج الشديد، حتى إذا عرف توبتها وراجع نفسه في أن يتحملها أكثر مما كان حفظا لمصلحته أيضا؛ راجعها، فإذا اشتد كربه ثانيا؛ كان له أن يطلق أيضا لذلك، لكنه إذا خالف الطريق الشرعي فطلق ثلاثا ابتداء؛ فقد خالف ما رسمه له الشرع، وفقد المخرج من ورطته؛ فلا مخلص له منها، وسيأتي له أمثلة كثيرة. "د".(3/234)
ص -532-…محظورين:
أحدهما:
مخالفته لقصد الشارع، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح.
والثاني:
سد أبواب التيسير عليه، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها:
أن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد، وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد؛ شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج، بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات، حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا، ولولا أنها كذلك؛ لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الابتدائية، ومن نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل، فإذا كان كذلك؛ فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع؛ لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على القطع في الجملة، فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق؛ لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا، لا حالا ولا مآلا، لا على الجملة ولا على التفصيل؛ إذ لو كان كذلك؛ لكان مشروعا أيضا، والفرض أنه ليس بمشروع؛ فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له.
والثاني:
أن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع؛ فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه، والقصد إلى ذلك يمن وبركة، كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع؛ يكفيه في عدم حصول مقصوده شؤم قصده، ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا.(3/235)
ص -533-…خرَّج إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد؛ قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الجهد؛ فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "اذهب فاصبر"، وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين، فأفلت من أيديهم، فأتاه بغنيمة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره؛ فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "طيبة". فنزلت الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} الآية1 [الطلاق: 2].
وعن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال له: إن عمي طلق امرأته ثلاثا.
فقال: "إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا".
فقال: أرأيت إن أحلها له رجل؟ فقال: "من يخادع يخدعه الله"2.
وعن الربيع بن خثيم في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ قال: "من كل شيء ضاق على الناس"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 492"، والواحدي في "أسباب النزول" "464" من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله به، وإسناده واهٍ جدا، فيه عبيد بن كثير تركه الأزدي، وعباد بن يعقوب رافضي، أفاده الذهبي في "التخليص".
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 106-107"، وابن مردويه
في "تفسيره" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 52"- من طريق أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود به، وإسناده منقطع، وفيه بعض المجاهيل.
وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" "12/ 141/ أ" بسند ضعيف جدا أيضا فيه الكلبي متروك، وأبو صالح ضعيف؛ فالحديث ضعيف.
وانظر: "الكافي الشاف" "4/ 445- مع الكشاف"، و"زاد المسير" "8/ 290"، و"الدر المنثور" "6/ 232"، و"معالم التنزيل" "4/ 357"، و"الفتح السماوي" "3/ 1046".(3/236)
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 11"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 397/ رقم 11352"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1065"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 181"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص48"، ولفظ: "فأبده" بدل من "فأندمه".
3 نقله عن الربيع, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291-292".(3/237)
ص -534-…وعن ابن عباس: من يتق الله؛ ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة1.
وقيل: من يتق الحرام2 والمعصية؛ يجعل له مخرجا إلى الحلال.
وخرج الطحاوي عن أبي موسى؛ قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل أعطى ماله سفيها؛ وقد قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5]، ورجل داين بدين ولم يُشهِد، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها"3، ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره أيضا عن ابن عباس, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291".
وقال ابن الجوزي عقبه: "والصحيح أن هذا عامّ؛ فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه، ومن لا يتقي يقع في كل شدة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "الله والمعصية".
3 أخرجه ابن شاذان في "المشيخة الصغرى" "ق 57/ أ" -كما في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805"- وابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 344"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 302", والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 146" من طريق المثنى بن معاذ العنبري عن أبيه، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب" "رقم 29" من طريق داود بن إبراهيم الواسطي، والطحاوي في "المشكل" "3/ 216"، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى المُكْتِب" "ص93" من طريق عمرو بن حكام، وأبو نعيم من طريق عثمان بن عمر، أربعتهم عن شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا.
قال أبو نعيم عقبه: "ورواه غندر وروح موقوفا"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى".(3/238)
ورجح شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805" رواية الرفع، وقال: "وقد وجدت له طريقا أخرى عن الشعبي، رواه ابن عساكر، 8/ 182/ 1-2, عن إسحاق بن وهب -وهو بخاري- عن الصلت بن بهرام عن الشعبي به"، قال: "لكن إسحاق هذا ذكره الخليلي في "الإرشاد" وقال: "يروى عنه ما يعرف وينكر، ونسخ رواها ضعفاء"" ا. هـ.
قلت: عمرو بن الحكام ضعيف، وهو ممن رفعه، والآخرون موثقون، ومن وقفه أثبت في شعبة ممن رفعه، ولا سيما أن منهم غندرا ويحيى بن سعيد -كما عند ابن أبي شيبة- وروح، والله أعلم.
قال "خ" هنا: "وهو على تقدير ثبوته محمول على الدعاء على الثلاثة الملوح إليهم في الحديث؛ لأنه هو الذي ابتلى نفسه بمعاشرة تلك الزوجة، وقصر في عدم الإشهاد على المدين، وألقى بماله في ذمة خربة".(3/239)
ص -535-…لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها، وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه؛ كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره، ولم يجب دعاؤه؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه.
والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى، وقد روي عن ابن عباس، أنه سُئِل عن رجل طلق امرأته ثلاثا؛ فتلا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...} حتى بلغ: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1-2]، وأنت لم تتق الله، فلا1 أجد لك مخرجا2.
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود؛ فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. فقال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها قد بانت مني. فقال ابن مسعود: صدقوا، من طلق كما أمره الله؛ فقد بين الله له، ومن لبس3 على نفسه لبسا؛ جعلنا لبسه به، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "لم".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 396/ رقم 11346"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1064"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 337".
3 أي: خلط.
4 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 605/ رقم 1570- رواية أبي مصعب، و2/ 550/ رقم 2- رواية يحيى" بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود "وذكره".
ووصله عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 394-395/ رقم 11342"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 14"، وإسحاق بن راهوية -كما في "المطالب العالية"- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 335"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 172".(3/240)
ص -536-…وتأمل حكاية أبي يزيد البسطامي1 حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه شهوة النساء، ثم تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، فأمسك عنه2؛ فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر.
والثالث:
أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه، وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدي طريق المخرج؛ فكان قاصدا لضد ما طلب، من حيث صد عن سبيله، ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود؛ فهو إذًا طالب لعدم المخرج، وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الاستهزاء والمكر والخداع؛ كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمه طيفور بن عيسى، شيخ الصوفية، له نبأ عجيب وحال غريب، وهو من كبار مشايخ "الرسالة"، وما أحلى قوله: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنهي، وحفظ حدود الشريعة".
وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياء الشأن في صحتها عنه؛ منها: "سبحاني"، "وما في الجبة إلا الله"، "أما النار لأستندن إليها غدا، وأقول: اجعلني لأهلها فداء، أو لأبلغنها"، "ما الجنة إلا لعبة صبيان"، ومن الناس من يصحح هذا عنه، ويقول: قاله في حال سكره، ونتبرأ إلى الله من كل من تعمد مخالفة الكتاب والسنة، ومات أبو يزيد سنة إحدى وستين ومائتين، قاله الذهبي في "الميزان" "2/ 346-347".
وانظر لزاما: "البدر الطالع" للشوكاني "2/ 37 وما بعدها".(3/241)
2 كذلك يلزم الصوفي أن يزن خواطره وأعماله بميزان الشريعة؛ كما قال أبو سليمان الداراني: "تعرض علي النكتة من نكت القوم؛ فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة"، وقال الإمام الجنيد: "مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث؛ لا يقتدى به في طريقنا هذا"؛ فإلى أي كتاب أم آية سنة يستند بعض الخارجين في مظاهر الصوفية حيث يوالون من حاد الله ورسوله، ويحثون أتباعهم الذين انخدعوا لهم بالله أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الباطل بعد أن اشتراها الله لتبذل في سبيل طاعته ورضوانه؟! "خ".(3/242)
ص -537-…وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ1 إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهِ} [الطلاق: 1].
وقوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ2 أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى، وجميعه محقق، كما تقدم من أن المتعدي على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك المصلحة، وهو المطلوب.
والرابع: أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف والياء مضمومة، وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء بغير ألف. انظر: "السبعة" "141"، و"التذكرة" "2/ 248".(3/243)
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "فسنؤتيه" بالنون وروى أبان عن عاصم بالنون، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {فَسَيُؤْتِيهِ} بالياء، وروى عبيد عن هارون عن أبي عمرو: بالنون، وعن عبيد أيضا بالياء، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "603". وانظر: "التذكرة في القراءات الثمان" "2/ 560"، و"إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر" "2/ 482".(3/244)
ص -538-…فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه، وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته، ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه، أو طلبه في غير موضعه؛ فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص، وقد تقدم منه في أثناء الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة، ومنها ما فيه ترخيص، وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى.
وأيضا؛ فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ولا يكون في الشرع كذلك؛ فربما ترخص بغير سبب شرعي، ولهذا الأصل فوائد كثير في الفقهيات؛ كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود، وغيرها من مسائل الحيل، وما كان نحوها.
المسألة التاسعة:
سباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولا مقصودة الرفع1 لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية؛ فهي إما موانع للتحريم أو التأثيم2، وإما أسباب3 لرفع الجناح أو إباحة4 ما ليس بمباح؛ فعلى كل تقدير إنما هي موانع5 لترتب أحكام العزائم مطلقا، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب؛ ففعله غير صحيح، ويجري فيه التفصيل المذكور في الشروط6 فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص، من غير فرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الزوال. "ماء".
2 في "ط": "فهي موانع إما للتحريم، وإما موانع للتأثيم".
3 تنويع في العبارة، لا أن هذين قسمان يقابلان سابقهما. "د".
4 أشمل مما قبله؛ إذ يدخل فيه الترخص في المندوبات. "د".
5 في الأصل: "موانع إما".
6في المسألة الثامنة منها. "د".(3/245)
ص -539-…المسألة العاشرة:
إذا فرعنا1 على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة؛ صارت العزيمة معها من الواجب المخير؛ إذ صار هذا المترخص يقال له: إن شئت فافعل العزيمة، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة، وما عمل منهما؛ فهو الذي واقع واجبا في حقه، على وزان خصال الكفارة؛ فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة.
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج؛ فليست الرخصة معها من ذلك الباب؛ لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير؛ ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب، وإذا كان كذلك؛ تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع، فإذا فعل العزيمة؛ لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق, لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة؛ فذلك بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة.
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان، إحداهما في نفس الأمر عادلة2، والأخرى غير عادلة2، فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو بسط ما أجمله في آخر المسألة الرابعة ووعد به هناك. "د".
2 في "ط ": "عدلة".(3/246)
ص -540-…وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإن حكم بأهل العدالة؛ أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين، وإن حكم بالأخرى؛ فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر، وله أجر في اجتهاده، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين، كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين1، فكما لا يقال في الحاكم: إنه مخير بين الحكم بالعدل والحكم بمن ليس بعدل؛ كذلك لا يقال هنا: إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة.
فإن قيل: كيف يقال: إن شرع الرخص بالقصد الثاني؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا2 بالقصد الأول؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وجاء بعد تقرير الرخصة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
قيل: كما يقال: إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني، مع قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
وأيضا3؛ فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه، مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المترخص".
2 أي: بقطع النظر عن خصوص محل الرخصة، ومعنى الجواب أنه لا يلزم من ورود الآية دالة على الحكم استقلالا أن يكون مقصودا بالقصد الأول؛ فقد جاءت الآية بفائدة النكاح استقلالا وهو السكن، ومع ذلك؛ فالقصد الأول النسل، فكذا هنا. "د".
3 عود إلى السؤال وترقّ عليه؛ أي: إنه لا يلزم من وجود رفع الحرج في الرخصة أن تكون مقصودة للشارع بالقصد الثاني لا بالأول، بدليل أنه ثبت رفع الحرج أيضا في بعض المسائل التي =(3/247)
ص -541-…كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة؛ فهو تيسير أيضا ورفع حرج.
وأيضا؛ فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات؛ فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة، وهو مقتضى قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات؛ فكذلك نقول في محال الرخص: إنها ليست بكليات، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة.
فإذًا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية، إن قصده الشارع بالرخصة؛ فمن جهة القصد الثاني، والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة:
إذا اعتبرنا العزائم من الرخص؛ وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد.
أما الأول:
فظاهر، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيها الرخصة والسهولة -في نفس أصل عزيمتها؛ كصيام أيام معدودات، ولم تكن شهورا مثلا- ففي أصل العزيمة هنا أيضا تيسير ورفع حرج، وهي مقصودة بالقصد الأول؛ فلا يلزم من حصول رفع الحرج في الرخصة أن تكون بالقصد الثاني، ثم ترقى عليه ثانيا قال: "وأيضا... إلخ"؛ أي: إن رفع الحرج موجود في سائر الكليات التي هي عزائم، ومحل الجواب عن الجميع قوله: "فإذا العزيمة... إلخ"؛ فهو يحسم الاعتراض الأول أيضا، وقوله: "ونحن نجد في بعض... إلخ" تمهيد للجواب, ولا يخفى أن كلا من هذين الترقيين تفصيل لما دخل تحت الإطلاق في أصل الإشكال؛ فالترقي من جهة تعيين مكان الاعتراض بعد إجماله. "د".(3/248)
ص -542-…وبالصيام في وقته المحدود له أولا، وبالطهارة المائية، على [حسب] ما جرت به العادة1: من الصحة، ووجود العقل2، والإقامة في الحضر، ووجود الماء، وما أشبه ذلك، وكذلك سائر العادات والعبادات؛ كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة، والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها، إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر، ولا إشكال فيه.
وأما الثاني:
فمعلوم أيضا من حيث علم الأول؛ فالمرض، والسفر، وعدم الماء أو الثوب أو المأكول، مرخص لترك ما أمر بفعله، أو فعل ما أمر بتركه، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر3 من المسائل، ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب "المقاصد" بحمد الله.
إلا أن انخراق العوائد على ضربين: عام، وخاص، فالعام ما تقدم، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها؛ فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة؛ كانقلاب الماء لبنا، والرمل سَويقا، والحجر ذهبا، وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض4؛ فيتناول المفعول له ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العادات".
2 غير ظاهر هنا لأن الكلام في أمور إذا وجدت كانت العزيمة، وإذا فقدت كانت الرخصة، وليس منها العقل؛ لأنه شرط مطلق التكليف، ولذلك لم يذكر مقابلة فيما بعد مع أنه ذكر مقابل غيره. "د".
3 في "ط": "فيما تقدم".(3/249)
4 أراد الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أن يضع بين الكرامة والمعجزة فاصلا، فقال: إن مبلغ الكرامة إجابة دعوة أو موافاة ماء من غير توقع المياه ونحو ذلك، وجرى على أثره الإمام القشيري؛ فقال: "لا تنتهي الكرامة إلى خلق ولد بغير والد أو قلب جماد حيوانا"، وارتضاه تاج الدين ابن السبكي، وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: إنه أعدل المذاهب، يعني: إنه ما بين مذهب المعتزلة المنكرين لها جملة ومذهب جمهور أهل السنة المجوزين لها بإطلاق؛ إلا ما دل النص على اختصاصه بالرسول لمعجزة القرآن. "خ".(3/250)
ص -543-…ويستعمله، فإن استعماله له رخصة لا عزيمة، والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها؛ كان الأمر فيها كذلك؛ إذ كان مخالفة هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع، إذ ليس من شأنه1 أن يترخص ابتداء، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر؛ فههنا أولى؛ لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية، وإنما وضعت لأمر آخر؛ فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها، وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى.
وأيضا؛ فقد ذكر في كتاب "المقاصد" أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة، بمعنى أنها عامة في كل مكلف، لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض، والحمد لله.
ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- لإظهار الخارق كرامة ومعجزة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس، وكذلك نقول: إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بل2 يكون بحسب القصد، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال، حسبما دل عليه الاستقراء، فأما إذا لم يكن هذا؛ فالشرط معتبر بلا إشكال، وليس بمختص بالعموم، بل هو في الخصوص أولى.
فإن قيل: الولي إذا انخرقت له العادة؛ فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة، فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساوٍ لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي: إنه في التناول مترخص، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "قصده".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بأن".(3/251)
ص -544-…إذ لا فرق بينهما، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا إيجابا، ولكن على غير ذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير بين الملك والعبودية؛ فاختار العبودية1، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة؛ فلم يختر ذلك2، وكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج هناد في "الزهد" "رقم 796" ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن الشعبي؛ قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "خيرني ربي -عز وجل- أن أكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فلم أدر ما أقول، وكان صفيي من الملائكة جبريل، فنظرت إليه؛ فقال بيده: أن تواضع؛ قال: فقلت: نبيا عبدا".
وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل؛ إلا أن أحمد أخرجه في "مسنده" "2/ 231"، وأبو يعلى في "مسنده" 10/ 491/ رقم 6105"، وابن حبان في "صحيحه" "14/ 280/ رقم 6365- الإحسان"، والبزار في "مسنده" "رقم 2462- زوائده" من طريق محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين, وصححه الهيثمي في "مجمع الزوائد" "9/ 18"، وله شواهد من حديث عائشة وابن عباس ومن مرسل الحسن والزهري وغيرهما.
انظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 1002"، و"فتح الباري" "9/ 541"، و"الإصابة" "4/ 516".
2 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه/ رقم 2348"، ونعيم بن حماد في "زياداته على الزهد" "رقم 196"، وأحمد في "المسند" "5/ 254", وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 381", وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 133"، والبغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار" "1/ 324/ رقم 427" من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رفعه:(3/252)
"عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا؛ فقلت: لا, ولكن أشبع يوما وأجوع يوما "أو قال ثلاثا: ونحو هذا"، فإذا جعت؛ تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت؛ حمدتك وشكرتك".
وإسناده ضعيف جدا، ابن زحر وعلي بن يزيد -وهو الألهاني- كلاهما ضعيف، قال ابن حبان في "المجروحين" في ترجمة الأول: "منكر الحديث جدا، يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم؛ فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على جميع الأحوال أولى".(3/253)
ص -545-…عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، فلو شاء [له]1 لدعا بما يحب فيكون، فلم يفعل، بل اختار الحمل على مجاري العادات: يجوع يوما فيتضرع إلى ربه، ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه؛ حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر، وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يرى أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين، وكفاية من أزمات الأوقات2، وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه3، ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله، فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية، والطلبات محضرة له؛ حتى قالت عائشة, رضي الله عنها: "ما أرى الله إلا يسارع في هواك"4، وكان -لما أعطاه الله من شرف المنزلة- متمكنا منها؛ فلم يعول إلا على مجاري العادات في الخلق، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق، ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء؛ لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م" و"خ" و"ط".
2 فالجاري على عادته حمل نفسه على مجاري العادات مع تيسر الخوارق له، كثيرا ما كانت تنخرق له العادات وتوافيه الكرامات، لكن ذلك في مواطن لمقصد مبرأ من حظ النفس، وهو تقوية اليقين عند أصحابه، وكفايتهم ضرر الأزمات الشديدة التي تحل بهم، كنبع الماء مثلا لما اشتد بهم الحال في الحديبية حتى لا يجمع عليهم الشدائد في هذه الأوقات المضنية. "د".
3 ورد ذلك في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وغيره وسيأتي لفظه وتخريجه عند المصنف "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب "تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ"، 8/ 524-525/ رقم 4788"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، 2/ 1085/ رقم 1464".(3/254)
ص -546-…حتما على الأولياء لأنهم الورثة في هذا النوع.
والثاني:
[إن]1 فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم التكاليف2 كلها، وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد؛ فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه لأنها آيات من آيات الله تعالى برزت على عموم العادات، حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة؛ كما قال إبراهيم, عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]، وكما قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر: "يرحم الله أخي موسى، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما"3، فإذا كانت هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.
2 في "د": "لازم التكليف"، وفي "م"، و"ط": "لازم التكاليف"، وفي الأصل: "لازم البلاء والتكاليف"، وما أثبتناه من "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم/ رقم 122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده/ رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء/ رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}/ رقم 4725، وباب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}/ رقم 4727، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل/ رقم 2380"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4707"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الكهف/ رقم 3249"، وأحمد في "المسند" "5/ 117"، والحميدي في "المسند" "رقم 371"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 199"، وابن حبان في "الصحيح" "6187"، من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.(3/255)
وأخرجه أحمد "5/ 119"، والبخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب إذا استأجر أجيرا على أن يقيم حائطا يريد أن ينقض/ رقم 2267، وكتاب الشروط، باب الشروط مع الناس في القول/ رقم 2728، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ =(3/256)
ص -547-…فائدتها؛ كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج؛ فهو في التناول والاستعمال بحكم الخيرة، فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد؛ صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة، وإن قبل الصدقة؛ فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها.
وأيضا؛ فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات، وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء، وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا، فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها؛ كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب، وتخفيف عنه؛ فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف [بالكسب وتخفيفا عنه]1 فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر، وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله، كما كانت النعم العادية الاكتسابية ابتلاء أيضا، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}/ رقم 4726" من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4705، 4706"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 38، 6188"، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "2/ 828"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 198 و199" من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به مختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى -عليه السلام- في البحر إلى الخضر/ رقم 74، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى, عليهما السلام/ رقم 3400" من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب به.(3/257)
1 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".(3/258)
ص -548-…الرخص، كما تبين1 وجهه، فهذا من ذلك القبيل؛ فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين! فلأجل هذا لم يستندوا إليها، ولم يعولوا عليها من هذه الجهة، بل قبلوها2 واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله، وتركوا منها ما سوى ذلك؛ إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة؛ تضمنت تكليفا3 وابتلاء.
وقد حكى القشيري من هذا المعنى:
فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان4 رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات5؛ قال: فحملت معي شيئا وطلبته، فلما وقعت عينه علي تبسم وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع. ثم قال: هات ما معك. فناولته وهالني أمره وهربت6.
وحكى عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة؛ فوجدها وقد التزق الشطان، فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق7.
وعن سعيد بن يحيى البصري؛ قال: أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل، فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل. فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصى من الأرض، ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت، فإذا هي والله في يده ذهب، فألقاها إلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المسألة الأولى. "د".
2 في "ط" زيادة "علما".
3 كما يؤخذ من كلام عبد الرحمن بن زيد الآتي: "لا خير في الدنيا إلا للآخرة..." فما حصل من التحفة يتضمن تكليفا جديدا في التصرف فيه واستعماله. "د".
4 في النسخ المطبوعة: "بفناء داره"، والتصويب من الأصل و"الرسالة القشيرية".
5 في "م" و"ط": "الخَرِبات"، وهو الجمع الصحيح لغة، وفي غيرهما: "الخرابات"، وكذا عند القشيري.
6 "الرسالة القشيرية" "ص163".
7 "الرسالة القشيرية" "ص164".(3/259)
ص -549-…وقال: أنفقها أنت؛ فلا خير في الدنيا إلا للآخرة1.
بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما يحكى2 عن أبي يزيد البسطامي، ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة, وواردة من جهة مجرد الإنعام؛ فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات؛ فكيف يتشوف إلى خارقة، ومن3 بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته مثلها، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد، وعدوا من ركن إليها مستدرجا، من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة.
حكى القشيري4 عن أبي العباس الشرفي؛ قال: "كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية؛ فقال له بعض أصحابنا5: أنا عطشان. فضرب برجله الأرض، فإذا عين ماء زلال؛ فقال الفتى: أحب أن أشربه بقدح6. فضرب بيده إلى الأرض؛ فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة؛ فقال لي أبو تراب يوما: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها. فقال: من لا يؤمن بها فقد كفر7، إنما سألتك من طريق الأحوال. فقلت: ما أعرف لهم قولا فيه. فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الرسالة القشيرية" "ص170".
2 "الرسالة القشيرية" "ص164".
3 في "ط": "وما".
4 في "الرسالة" "ص169".
5 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "أصحابه".
6 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "في قدح".
7 لا يصح حمل الكفر على حقيقته؛ لأن المنكرين لخرق العادة على وجه الكرامة؛ كالمعتزلة، والإمام أبي إسحاق، والقشيري، والحليمي؛ هم من فرق الإسلام بإجماع. "خ".(3/260)
ص -550-…بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق، وليس الأمر كذلك، إنما الخدع في حال السكون إليها، فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها؛ فتلك مرتبة الربانيين".
وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في حكم العزيمة؛ فليتفطن لهذا المعنى فيها؛ فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل: منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد، ولا تعد من المقامات، ولا هي معدودة في النهايات، ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية، والانتصاب للإفادة، كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية، ولا هي دليل على بلوغ النهاية، والله أعلم.
تم الجزء الأول(3/261)
ص -551-…الاستدراكات:
* "استدراك1":
ذكره عنه ابن كثير في "تفسيره" "1/ 212، البقرة: 173" وقال: "وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، قال أبو الحسن الطبري المعروف بـ"إلكيا الهراسي" رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك".
* "استدراك2":
كذا في "ط" و"الناسخ والمنسوخ" "1/ 171" لابن العربي، وفي سائر النسخ: "رجاء الأبدية".
* "استدراك3":
قلت: أخرج سبب النزول المذكور البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} 8/ 186/ رقم 4519"، وأبو داود في "السنن" "2/ 75"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 277"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 273"، وغيرهم عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
* "استدراك4":
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع(3/262)
ص -552-…رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم -الضمن: الزمن المبتلى- ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم. فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}، رواه البزار في "مسنده" -كما في "كشف الأستار" "رقم 2241"- ورجاله رجال الصحيح -كما في "المجمع" "7/ 83"- وقال السيوطي في "لباب النقول": "سنده صحيح"، وقال ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" "2/ 97/ رقم 1490": "صحيح".(3/263)
ص -553-…فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
مقدمة المحقق
خطبة الحاجة 5
التعريف بكتاب الموافقات 8
المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه 12
السبب في عدم تداول الكتاب 16
مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب 19
مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب 24
الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة 31
المحور الأول: مختصراته 33
الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه 36
الرد على "المجددين"! المعاصرين والعقلانيين وبيان افتراءاتهم على الشاطبي "ت" 42
المحور الثالث: طبعات الكتاب 57
تقويم الطبعات التي وقفت عليها 58
تحقيق اسم الكتاب 64
الأصول المعتمدة في التحقيق 65
عملي في التحقيق 74
ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية 76
ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز 78(3/264)
ص -554-…الخلاصة 80
ومن عملي في التحقيق أيضا 81
مقارنة بين مدرسة ابن تيمية والشاطبي "ت" 81
مسألة... هل اجتمع الشاطبي بابن القيم أو شيخه ابن تيمية؟ 82
ومن عملي في التحقيق أيضا 84
الخاتمة 85
نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق 86
الموافقات
المقدمة 3
حال الناس قبل بعثة النبي, صلى الله عليه وسلم 3
أهل الفترات 4
الإجماع وعقيدة ختم النبوة 4
الإجماع والقطع وموانع حصول القطع 4
بعثة الأنبياء بلغة أقوامهم 4
من فضائل النبي, صلى الله عليه وسلم 5
الأمانة التي حملها الإنسان 5-6
الأنبياء بعثوا لهداية الناس 6
القرآن مدعو به، مدعو إليه 6
تفاضل العلوم/ أفضل العلوم 7
الصحابة الأعلم بالأصول والمقاصد 7
تخريج حديث: "أنا النذير العريان" 7
مدح المؤلف كتابه 8
استقراء المؤلف للأصول الكلية للشرع 9
أقسام كتاب الموافقات الخمسة 9
المقدمات العلمية, الأحكام, مقاصد الشرع, الأدلة الشرعية, أحكام الاجتهاد
والتقليد 10
تسمية الكتاب بقصة طريفة(3/265)
ص -555-…الحث على ترك التقليد والعادة وأمر المؤلف بالتفكر 11-13
تخريج حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 13
- القسم الأول: مقدمات المؤلف 15
المقدمة الأولى 17
أصول الفقه قطعية وهي:
الكليات المنصوصة في الأصلين والقوانين المستنبطة وهي الأدلة
إثبات ذلك بالاستقراء للأدلة الشرعية وإرجاع ذلك إلى الأصول العقلية 18
هل يوجد مخالفة حقيقية أو خلاف في أن أصول الفقه قطعية؟ 18
الفرق بين أصول الفقه، وعلم أصول الفقه 18
الاستقراء طريق إثبات شرعي 18-19
الأمر للوجوب 19
الظن في العقل وكليات الشريعة، وبالنسبة إلى الأشخاص 19
العادي مع العقلي والشرعي 19
حكم الفرع حكم الأصل 19
إثبات أن المبنى على القطعي 18
أولا: أنها ترجع إلى أصول عقلية أو شرعية أو عادية وهذا معروف بالاستقراء
ثانيا: الظن لا يقبل في العقليات ولا الكليات الشرعية 19
ثالثا: لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه جاز في أصول الدين 20
معاني الضروريات والحاجيات والتحسينيات 20
الأحكام التي تعد ظنية إذا كانت مبنية على أصل قطعي 21
الأصول عند الجويني 22
معنى حفظ الذكر 22-23
الأصول والفرع والظن 23
الرد على المصنف في مسألة قطعية الأصول 24
تعريف أصول الفقه والقاعدة والأصل والفقه والأصولي والدليل الإجمالي 24
المقدمة الثانية
المقدمات العلمية في الأصول قطعية، والتعقيب على المصنف فيها 25(3/266)
ص -556-…الوجوب والجواز والاستحالة من مباحث الأصول وقولهم الأمر للوجوب ليست من الأصول 25
المقدمة الثالثة 26
استعمال الأدلة العقلية في الأصول مرتبط مع الأدلة النقلية 27
أخبار الآحاد والتواتر المعنوي واللفظي 27
معنى القطع في دلالة الألفاظ 28
الظن في المقدمات والأدلة 28
استقراء الأدلة نوع من التواتر 28
دلالات الأخبار مبنية على مقدمات ظنية كنقل اللغات وآراء النحويين 28
الاستدلال على فرضية الصلاة باستقراء الأدلة أو بالإجماع مع اجتماع الأدلة 29-30
الضرورات الخمس 30-31
أسباب اختلاف الظن 31
التمثيل بالصلاة وقتل النفس على أنهما من الأصول لا من الفروع باستقراء الأدلة31
حكمة الزكاة والحكومات والجهاد والأطعمة المحرمة المضطر إليها 31-32
فصل
إلماحة المصالح المرسلة والاستحسان 32
تعريف المصالح المرسلة
جمع المصحف وترتيب الدواوين 32
بيع العرايا 33
تقديم الاستحسان على أصول وعمومات أخرى عند مالك والشافعي 33
فصل 33
حجية الإجماع ظنية أم قطعية؟ 35
المقدمة الرابعة
مسائل أصول الفقه لبناء فروع الفقه أو الآداب أو عونا عليها 37
علوم ليست من أصول الفقه بل هي مما يحتاج إليه فيه 37
ذكر أمثلة على ذلك 37(3/267)
ص -557-…القرآن عربي الأسلوب والخلاف في وجود كلمات أعجمية فيه 39
فصل: خطأ فهم النصوص بالعقل لا بطريقة الوضع 39-40
خصال الكفارة والواجب المخير 40
نقل عن حاشية المخطوط والتعقب عليه 40
الجمع بين الأختين 41
مدخل الوجوب والتحريم هل هو الشرع أم العقل؟ 40-41
مسائل الاعتقاد هل يبنى عليها عمل, ضمن أصول الفقه؟ 41
مسائل خصال الكفارة وإتلاف المحرمات والوطء نهار رمضان للكتابية من زوجها القادم من السفر ضمن أحكام تكليف الكفار بالفروع 41
المقدمة الخامسة 43
عمل الجوارح والقلب/ المسائل التي لا ينبني عليها عمل 43
المباح 43
النظر في آيات الله 43
السؤال عن الأهلة 43
إتيان البيوت من أبوابها 43-44
تخريج أحاديثها 44
سبب النزول الصحيح 44
السؤال عن الساعة 44
ذم الأسئلة 45
تخريج أحاديث أخرى في ذم الأسئلة 45
قصة بقرة بني إسرائيل 45
تخريج حديثها 45-46
تخريج حديث السؤال عن الحج أهو لكل عام 46
النهي عن قيل وقال 47
حديث جبريل في الإيمان والإسلام 47
الساعة وأماراتها 47
أعظم الناس جرما وتخريج حديثه 48(3/268)
ص -558-…سؤال عمر عن الأبّ 49
السؤال عن الروح 49
حديث: أن الصحابة ملوا ملة 50
حديث عمر مع صبيغ 51
تضعيف رفع القصة 51
حديث علي مع ابن الكواء 52
فصل عن الإمام مالك في ذم السؤال 53
ذم السؤال بالاستدلال منها أنها شغل عما يعني 53
الفائدة ما شهد لها الشرع بذلك 53
ومنها أن الشارع قد بين المصالح 53
فتنة العالم والمتعلم 53
منها أن هذا شأن الفلاسفة - وهو مذموم 54
فضل العلم 54
عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنى وخلاف بين اثنين من
مشايخ العصر 54
تعلم كل علم فرض كفاية 54
السحر والطلسمات 54
حكاية يهودي فسر آية 54
كتاب "كتب حذر منها العلماء" فيه تحذير من كتب السحر والشعوذة المنتشرة 55
الرد على من قال تعلم كل علم فرض كفاية 55
السلف لم يخوضوا في العلوم التي ليس تحتها عمل 55
قصة صبيغ 55
الدين الإسلامي أمته أمة أمية وهي العرب وهذه علوم ليست من علومها 56
تخريج حديث نحن أمة أمية 56
توضيح مناط فرض الكفاية في العلوم 56
تعلم العرب للعلوم 56
السحر وذمه 57
الرد على الفريق الأول بأنه من التكلف فهم ما لا يتوقف فهم المعنى عليه 57(3/269)
ص -559-…قصة عمر مع قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 57
معنى الأبّ 57
معنى التخوف في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} 58
تخريج الأثر وكذا عزو بيت الشعر إلى مصادره وتفسيره 58
أهمية الشعر في تفسير القرآن 58-59
قصة صبيغ 59
علم الهيئة 59
علم العدد 60
الهندسة والتعديل النجومي والمنطق والضروب 60
الخط بالرمل وتخريج حديثه مطولا 60
الطعن في حديث في "الصحيح" بأنه زيد فيما بعد 60-63
الرد على من ضعف الحديث وجمعهم في سياق واحد, مختصرا
التنبيه على خطأ عند الرافعي في متن الحديث 64
عد الذهبي الحديث من الأحاديث المتواترة 64
ذكر من هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخط 64
استدلالهم بآيات من القرآن على علومهم أفسد استدلال 65
بل لا بد من الفهم على لسان العرب 65
الاعتبار من علوم الفلاسفة 65
ما يتوقف عليه مطلوب أصول الفقه 66
المقدمة السادسة 67
1- في المعاني الإجمالية 68
نقض منطق الفلاسفة وإبطاله 67
2- في المعاني التفصيلية التي لا تليق بالجمهور 68
صعوبة تفسير كلام الفلاسفة عليهم وعلى العوام 68
يكفي في الإيمان التصديق 69
اهتمام العرب بالمعاني 70
وكذلك القرآن 71(3/270)
ص -560-…الأقيسة المركبة لا يفسر بها القرآن 71
تكليف ما لا يطاق 72
المقدمة السابعة 73
العلم الشرعي وسيلة التعبد لله تعالى 73
الدليل الأول: العلم هو ما فاد عملا
علوم مساعدة للعلوم الشرعية 73
الدليل الثاني: الشرع إنما جاء بالتعبد 74
التوحيد 74
التعقيب على تفسير قتادة وتخريجه 75
تخريج حديث مخالفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 76
تأثير الغزالي على الشاطبي 76
تخريج أحاديث السؤال عن العلم 77
مطابقة العلم العمل 77-82
ذكر أحاديث في العلم والعمل وتخريجها 77
العلم وسيلة للعمل في طاعة الله 83
هل يحصل علم وتكذيب؟ 84
المستشرقون كفار مع علمهم 84
فصل: 85
فضل العلم جملة 85
فوائد العلم 86
لذة العلم والقصد إلى العلم صحيح 86
تعلم العلم لغير الله غير صحيح 87
تخريج أحاديث في ذلك 87
المقدمة الثامنة 89
مراتب أهل العلم 89
الأولى: الطالبون في رتبة التقليد 89
الثانية: الواقفون على براهينه 89
الموازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة 90(3/271)
ص -561-…الثالثة: المجتهدون 90
الإيمان والحفظ عن المعاصي من فوائد العلم 90-91
تخريج حديث نزول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} 93
القلق والخوف من آثار العلم 93
الرسوخ في العلم 94
ذم علماء السوء 95
الرسوخ في العلم 95-96
عز الدين بن عبد السلام وجهاده 95
أسباب تخلف الحفظ من المعاصي 95-96
1- العناد 2- الفلتات في الغفلات 96
معنى الجهالة 96
3- أن لا يكون من الراسخين 97
حديث افتراق الأمة، تخريجه والتعقيب عليه 98
كثرة الفرق 98
ذم القياس 99
أحاديث رفع العلم وآثار في العمل به 100-103
الاقتصار على الصحيح 101
علماء السوء 103
كيف يصير العلم لله 103
فصل: 104
العلم والخشية 104-105
المقدمة التاسعة 107
صلب وملح العلم وتفسيرها 107
صلب العلم: الأصل المعتمد 107
إفادة العلم القطعي 107
خواص هذا العلم 108
1- العموم والاطراد 108(3/272)
ص -562-…2- الثبوت 109
3- كون العلم حاكما لا محكوما عليه 110
ملح العلم 110
هو ما تخلف عنه شرط من الخواص السابقة 110
أمثلة على تخلف الخواص 110
الأول: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه 111
الطهارة والصلاة والصيام 111
الثاني: التزام كيفيات في تحمل الأخبار والآثار مثل الأحاديث المسلسلة 112
تخريج حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن" 112
الثالث: استخراج الحديث من طرق كثيرة دون فائدة 113
قصة حمزة الكناني في ذلك 114
الرابع: الرؤيا فيما لا يرجع إلى بشارة أو نذارة 114
الخامس: المسائل التي ليس تحتها خلاف ينبني عليه عمل 115
ذكر مسائل في النحو من اللغة 115
السادس: الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية 116
السابع: تثبيت المعاني بأعمال الصالحين 116
معنى الصوفية وأصلها 116
الثامن: كلام أهل الولاية 117
التاسع: حمل بعض العلوم على بعض دون وجود ترابط بينهما مع ذكر قصة طريفة 116
قصة أخرى للكسائي مع أبي يوسف 118-119
وأخرى لابن البناء في تفسير: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 120
الثالث: ما ليس من صلب العلم ولا من ملحه ويرجع إلى أصله بالإبطال 120
عدة أهل الأهواء 121
الباطنية 121
كتب وعلوم حذر منها العلماء 121
فصل 123
اختلاط في صور القسمين 123(3/273)
ص -563-…تحديث الناس بما يفهمون 123
كلمة عظيمة في ذم التقليد 124
المقدمة العاشرة 125
مقاصد العقل والنقل والعقل تابع بأدلة: 125
الأول: أنه لا يكون متجاوزا حده 125
الثاني: أن العقل لا يحسن ولا يقبح - التحسين والتقبيح 125
التحسين والتقبيح: المذاهب فيه والقول الراجح 125-130
الثالث: أن لو كان كذلك جاز إبطال الشريعة بالعقل 131
العقل في الشرع 131
مناقشة هذا القول 131-132
رد على المناقشة 132
كيفية إثبات اللغات العربية ومعانيها 132
القياس والعقل 133
قضاء القاضي الغضبان وقياس غيره عليه 134-135
المقدمة الحادية عشرة 137
العلم المعتبر ما انبنى عليه عمل ودلت عليه الأدلة الشرعية 137
المقدمة الثانية عشرة 139
أخذ العلم عن أهله المتحققين فيه 139
طرق العلم 139
الأول: الفطرة 139
الثاني: التعلم 139
فصل 141
علامات العالم الذي يؤخذ عنه العلم 141
أولا: العمل بما علم 141
ثانيا: أن يكون أخذ العلم عن الشيوخ 142
ذكر أمثلة عن الصحابة وقصة الحديبية 142
قصة أبي جندل يوم الحديبية 143(3/274)
ص -564-…سير التابعين على سير الصحابة، وأن ذلك منهج أهل الحق ومخالفته منهج أهل الابتداع 144
ذم ابن حزم الظاهري لأنه بدون شيوخ 144
مدح الأئمة الأربعة 144
ثالثا: الاقتداء بأهل العلم قبله 144
مدح مالك 145
فصل 145
طرق أخذ العلم عن العلماء 145
أولا: المشافهة وفيها فوائد 145
خاصية جعلها الله بين المعلم والمتعلم 145
حديث موافقات عمر وفضله 146
قلة تأليف السابقين للكتب وسببه 147
ثانيا: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين بشرطين: 147
الأول: حصول الفهم 147
الثاني: تحري كتب المتقدمين 148
دليل ذلك: التجربة 148
سبب فساد الفقه المالكي عند المصنف: 148
الأول: بناء فروع فقهية على قواعد أصولية أُدخلت في المذهب 148
الثاني: إدخال جملة من مسائل الغزالي في مذهب مالك 148
الخبر 149
تفسير الملك العضوض 149
تخريج أحاديث وآثار في فضل المتقدمين 150
دلالة الأحاديث على نقص الدين والدنيا 153
المقدمة الثالثة عشرة 155
اطراد الأصول على مجاري العادات 155
أمثلة على فهم الأقوال 156
تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 156(3/275)
ص -565-…مناقشة الشيخ دراز للشيخ خضر حسين 156
تفسير آيات على هذا المنوال وتعقب الشيخ دراز عليه في آية:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} 157
أمثلة على مجاري الأسلوب 157
تحريم الخمر 158
أمثلة على مجاري الأفعال 159
مناقشات المصنف مع معاصريه 159
مسألة الخشوع في الصلاة وترك التفكير 160
ترك الحرام والخروج عن المال 160
الخروج عن الخلاف 161
الورع 161
نقل عزيز من حاشية المخطوط عن مناقشة المصنف لابن عرفة 162
التفريق بين اختلاف الأدلة واختلاف الأقوال 164
الخلاف غير المعتد به 164
الخلاف المعتد به 165
المتعة 165
الورع في تساوي الأدلة 165
تعسر الخروج من الخلاف بين المذاهب 165
القسم الثاني: كتاب الأحكام 167
كتاب الأحكام 169
أقسام الأحكام الشرعية 169
ما يرجع إلى خطاب التكليف 169
ما يرجع إلى خطاب الوضع 169
المسألة الأولى 171
المباح 171
استفادة المصنف من السابقين 171
المباح هل هو مطلوب الفعل أم الاجتناب وبداية المناقشة 171
المباح ليس مطلوب الاجتناب لأمور: 171(3/276)
ص -566-…أولا: المباح مخير فيه 172
ثانيا: المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أنه غير مطلوب الترك 172
ثالثا: استواء الفعل والترك شرعا 172
رابعا: إجماع المسلمين أن ناذر المباح لا يلزمه الوفاء 173
تخريج أحاديث في النذر 173
مناقشة المصنف كلام الإمام مالك 173
خامسا: أن تارك المباح لو كان مطيعا لكان أرفع درجة ممن فعله 174
الدرجات في الآخرة ومناقشة المصنف 174
سادسا: لزوم رفع المباح من الشريعة 175
سابعا: الترك فعل داخل تحت الاختيار 175
معارضة ما سبق بأمور: 176
أضرار المباح اشتغال عن الأهم 176
اشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات 176
الشرع جاء بذم الدنيا 176
تخريج أحاديث في ذم الدنيا 176
تعقب العراقي في تخريج حديث لم يظفر به 177
الأشبه أنه من قول الحسن 177
عودة أصولية إلى المباح ومناقشة المعارضة 178
الكلام في المباح "حيث هو متساوي الطرفين" 178
الوسائل والمقاصد 179
أقسام المباح من حيث هو وسيلة وباب الوسائل 179
المباح قد يكون فيه ترك حرام 180
شبهة أن المباح سبب في طول الحساب 180
مناقشة ذلك من أوجه 180
المباح له أركان ومقدمات وأنواع وشروط 181
الحقوق تتعلق بالتروك والأفعال 182
المباح من جملة المنن 182
الاحتجاج للمباح بترك السلف له 184(3/277)
ص -567-…هي حكايات أحوال 184
معارضة بمثلها 185
خريج الأحاديث في ذلك 185
مبادرة السابقين إلى الخيرات 187
ترك المباح لأمور خارجة عن كونه مباحا فقط 188
فعل عائشة في ترك الأموال 188
ترك المباح لتحصيل أخلاق معينة 188
ترك المباح مع الشبهة 190
ترك المباح لعدم النية 190
الانشغال بالتعبد لترك المباح 191
تركه خوف الإسراف 191
الزهد 192
فصل: المباح غير مطلوب الفعل أيضا 194
الاستدلال عليه 195
مذهب الكعبي وتصوير مأخذه 195
أولا: لزوم أن لا توجد الإباحة 195
ثانيا: وإلا ارتفعت الإباحة رأسا 196
ثالثا: الواجب ذلك في جميع الأحكام 196
قصد الشارع فعل بعض المباحات وترك بعضها 197
التمتع بالطيبات 197
التمتع بالنعم 198
قبول هدايا الله وصدقاته وتخريج أحاديثها 198
الرخصة والإباحة 200
المباح قد يكون فعله الراجح 200
الطلاق السني 200
اللهو المباح والباطل وتخريج الحديث 202
الإجابة على المناقشة 203(3/278)
ص -568-…الإجمالي: المباح هو المتساوي الطرفين 203
التفصيلي: المباح ضربان 203
أحدهما: خادم لأصل والثاني أن لا يكون 203
الثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا أو لا يكون خادما 204
الطلاق وذم الدنيا 204
اللهو المباح 205
الجهاد 205
المسألة الثانية 206
المباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ندبا أو وجوبا ومباحا بالجزء منهيا
عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع 206
القسم الأول كالتمتع بالطيبات 206
تخريج أحاديث في التوسعة 207
القسم الثاني: كالأكل والشرب ووطء الزوجات 208
القسم الثالث: التنزه في البساتين وغيرها 209
القسم الرابع: المباحات التي تقدح في العدالة "بشروط" 209
أمثلة على اللهو المنهي عنه والاحتراف بها 210
تخريج حديث: $"لا كبيرة مع الإصرار" 210
فصل: الفعل المندوب بالجزء واجبا بالكل 211
ذكر بعض الأمثلة على ذلك ومناقشة المؤلف فيها 211
فصل: الفعل المكروه بالجزء ممنوع بالكل 212
ذكر الأمثلة على الشطرنج والغناء 212
فصل: الواجب والفرض 213
قاتل العمد 213
ترك الصلوات والجمعات 213-214
الشهادة وترك الجمعات 214
المداومة على المعاصي 215
السرقة 216(3/279)
ص -569-…فصل: اختلاف أحكام الأفعال 216
أمثلة في المباح 216
أمثلة في المندوب 217
أمثلة في المكروه 218
تخريج حديث في قتل النمل 218
الواجب والمحرم وتساويهما 219
أمثلة في الحدود وأمور أخرى 219
حكم اتفاق الناس على ترك المندوب 220
فصل: الدليل على صحة تصوير الكلية والجزئية: 221
منها: تجريح من داوم على شيء... 221
منها: الشريعة وضعت على اعتبار المصالح 221
منها: التحذير من زلة العالم 222
المسألة الثالثة 223
اختلافات المباح 223
الأول: المخير بين الفعل والترك 223
الثاني: ما لا حرج فيه فهو أقسام 223
خادم لأمر مطلوب الفعل أو لمطلوب الترك أو المخير أو لخالٍ منها 224
أمثلة على ذلك 224
توضيحات لتلك الأمور في الحاشية 225
ما كان غير خادم لشيء 226
المسألة الرابعة 225
المباح إذا أطلق بمعنى لا حرج 227
المباح المطلوب الترك والتخيير 228
الرماية 229
قصة سلطنة بخارى في رفض الأسلحة الحديثة 229
الوجه الأول: أحد الإطلاقين صريح في رفع الحرج والإثم 230
إطلاقات ترفع الجناح مع الواجب ومع المندوب 230-231(3/280)
ص -570-…الوجه الثاني: لفظ التخيير مفهوم من قصد الشارع إلى تقرير الإذن 231
الوجه الثالث: ما لا حرج فيه غير مخير فيه على الإطلاق 231
المسألة الخامسة 233
وصف المباح هو بالنسبة للمكلف 233-234
المسألة السادسة 234
الأحكام الخمسة تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد 234
الدليل الأول: ما ثبت أن الأعمال بالنيات 234
الدليل الثاني: عدم اعتبار أفعال المجنون والنائم... 235
خطاب الوضع وخطاب التكليف 235
تخريج حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 236
الدليل الثالث: الإجماع على عدم تكليف ما لا يطاق 237
خطاب الوضع وخطاب التكليف 237
أحكام السكر 238
المسألة السابعة 239
المندوب باعتبار أعم خادم للواجب 239
فصل: المكروه باعتبار أعم خادم للحرام 240
المسألة الثامنة 240
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات والمندوبات 240
ذم إخراج العبادة عن وقتها 240
أولا: الوقت لمعنى قصده الشارع 240
ثانيا: يلزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من
الوقت المعين 241
إثبات أن حديث: "أول الوقت" واهٍ 241
أول الوقت عند مالك 242
قضاء الصوم 243
الحج على الفور 243
المسابقة إلى الخيرات 244
أوقات الصلاة أولها وآخرها 244(3/281)
ص -571-…فروض مطلوبة مرة في العمر 245
الكفارات والواجب المخير 245
الحج ماشيا والخطا إلى المساجد 246
تضعيف حديث الأوقات السابق 246
الرد على مذهب مالك في المسابقة 246
المسألة التاسعة 246
الحقوق الواجبة على المكلف ضربان 246
حقوق محدودة شرعا 246
حقوق غير محدودة 247
اللزوم والترتيب في الذمة 247
غير المحدودة لا تترتب في الذمة لأمور 247
أولا: لأنها مجهولة 247
فروض الكفايات 247
إطعام وكساء الفقراء بما يسد الحاجة 248
ثانيا: يؤدي ترتيبها في الذمة إلى ما لا يعقل 248
ثالثا: يترتب أن يكون في ذمة واحد غير معين وهو باطل 249
رابعا: يؤدي إلى العبث 249
الزكاة تؤدى ولو لم تظهر عين الحاجة 250
هل الجهل مانع من الترتب في الذمة 250
الجهل المانع من أصل التكليف 250
فصل: فروض العين والكفاية 252
المسألة العاشرة 253
مرتبة العفو عليها أدلة 253
أولا: أن الأحكام الخمسة تتعلق بأفعال المكلفين 253
ثانيا: النص على هذه المرتبة 253
أسئلة الصحابة للنبي, صلى الله عليه وسلم 254
ثالثا: ما يدل على المعنى بالجملة 255(3/282)
ص -572-…كراهية السؤال عن الأحكام لغير حاجة 256
كراهة كثرة السؤال 256
فصل: مواطن العفو في الشريعة 259
1- الخطأ والنسيان 259
2- الخطأ في الاجتهاد أصولا وفروعا والخلاف في هذه المسألة 259
3- الإكراه 260
4- الرخص؛ فيها رفع الجناح وسقوط الإثم 260
5- الترجيح بين الأدلة 260
6- مخالفة الدليل الذي لم يبلغ العالم 260
7- الترجيح بين الخطابين عند التزاحم 261
8- المسكوت عنه 261
فصل: استدلالات من منع مرتبة العفو 261
أولا: أن أفعال العباد داخلة تحت أحكام الشرع ولا زائد عليها 261
ثانيا: الحكم الشرعي له الاعتبار وغير الشرعي لا اعتبار به 261
ثالثا: أنه واقع ضمن مسألة هل تخلو بعض الوقائع عن حكم الله؟ 262
فصل: ضوابط ما يدخل تحت العفو 263
حصر أنواع النصوص: 363
أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض 263
الثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد 263
الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 263
النوع الأول: يدخل تحته العزيمة 263
الخطأ في الاجتهاد لمن ليس أهله 264
طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتخريج بعض الأحاديث في ذلك 264
المصنف يقلد غيره في تخريج الأحاديث والتنبيه على خطأ له في ذلك 265
قصة بني قريظة 266
قضاء القاضي وخطؤه في الاجتهاد 266
النوع الثاني: الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد 267(3/283)
ص -573-…جهالة تحريم الخمر 267
الرجوع إلى الحق 268
الخطأ والنسيان 268
التجاوز عن عثرات ذوي الهيئات ومناقشة المؤلف في إدخاله في العفو 269
تخريج حديث المسألة ومناقشة المصنف 269
درء الحدود بالشبهات 271
العفو الأخروي 271
مخالفة التأويل مع معرفة الدليل 272
قصة قدامة بن مظعون في شرب الخمر 272
المستحاضة والنفساء والصلاة 273
المسافر يقدم قبل الفجر 273
النوع الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 273
ترك الاستفصال مع وجود مظنته 274
طعام أهل الكتاب 274
مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع 275
تحريم الخمر 275
الربا 276
البيوع المحرمة وغيرها 276-277
الثالث: السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم, عليه السلام 277
أمثلة من أفعال العرب قبل الإسلام 277
النكاح والسفاح والحج والعمرة وأحكام أخرى كانت معروفة عند العرب 277
هل العفو حكم, أي: ينبني عليه حكم عملي؟ 277
المسألة الحادية عشرة 278
فرض الكفاية 278
أدلته: 278
أولا: القرآن 278
ثانيا: القواعد الشرعية 279(3/284)
ص -574-…الإمامة/ الولاية/ الخلافة 279
ثالثا: ما وقع من فتاوى العلماء 280
فرض الكفاية -كما مر- بخصوص الأهلية 280
النهي عن الإمارة 281
القصاص 281
طلب العلم 282
الإمامة 282-283
حكم الناس إقامة القادر 283
فصل: 284
تقديم في التعليم والتربية بكلام لا تجده عن فصحاء التربية ولسانها الآن 284
"ويمكن تسميته سبيل إنهاض الأمة"
المسألة الثانية عشرة 287
الإباحة للضرورة أو الحاجة وأقسامه 287
أولا: الاضطرار إلى فعل المباح، يلزم فيه الرجوع للأصل وترك العارض لأوجه: 287
منها: أن المباح صار واجب الفعل 287
ومنها: أن محال الاضطرار مغتفرة 288
ومنها: أنه يؤدي إلى رفع الإباحة 288
ثانيا: أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه الحرج بالترك 288
المسألة الثالثة عشرة 290
سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل 290
الاعتراض على المصنف في ترتيب المسألة 290
مفسدة فقد الأصل أعظم من غيره لأمور: 291
1- لأن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف 291
2- لأن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي 291
3- المكمل مقوٍّ لأصل المصلحة 291
عودة إلى المسألة السابقة 291
القسم الثالث: أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج 291(3/285)
ص -575-…البيوع الفاسدة والصحيحة والربا 292
الحيل والوسائل 292
العفو والإباحة 292
المتشابهات 293
الاحتياط للدين ثابت 294
القسم الثاني من قسمي الأحكام، وهو ما يرجع إلى خطاب الوضع، وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع والصحة والبطلان والعزائم والرخص 297
هذه خمسة أنواع عند المصنف 297
الآمدي خالف المصنف في أمور لا ثمرة تحتها 297
النوع الأول في الأسباب 298
المسألة الأولى 298
الأفعال الشرعية ضربان: 298
أحدهما: خارج عن مقدور المكلف 298
الثاني: ما يصح دخوله تحت مقدور المكلف 298
الأول قد يكون سببا وشرطا ومانعا 298
أمثلة على السبب 298
والشرط 298
والمانع 299
والثاني: له نظران: 299
أحدهما: ما يدخل تحت خطاب التكليف 299
ثانيهما: ما يدخل تحت خطاب الوضع: 300
إما سببا مثل النكاح سبب في حصول الإرث بين الزوجين 300
وإما شرطا: ككون النكاح شرطا في الطلاق 300
والمانع: كنكاح الأخت مانع من الأخرى 300
قد تجتمع هذه الثلاثة في أمر واحد لكن لا على حكم واحد 301
المسألة الثانية: 301
مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات؛ لأنها قد تكون غير داخلة تحت =(3/286)
ص -576-…= مقدور العبد كنفس الإزهاق 301
الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع 302
للمكلف تعاطي الأسباب والمسببات من فعل الله 302
أدلة ذلك وتمثيل ذلك بالرزق 302
تمثيل ذلك في الرزق بالزرع وطلب التوكل على الله 303
تخريج حديثين في التوكل 303-304
ذكر أدلة من القرآن على ذلك وتفسيرها بما يقتضي مقام السبب والمسبب 305
إثبات أن ذلك مقطوع به بالاستقراء 306
التكليف لا يتعلق إلا بمكتسب 306
شبهة ومناقشتها في مسألة الاستلزام في السبب والمسبب 306
الأسباب الممنوعة غير معتبرة شرعا 307
المسألة الثالثة: 308
لا يلزم في تعاطي الأسباب الالتفات إلى المسببات: 308
1- لأن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب "الله" 308
2- المطلوبات الشرعية قد يكون للنفس فيها حظ 308
الولاية الشرعية وعدم إعطائها لمن سألها 308
أخذ المال بإشراف نفس 309
3- عباد الأمة أخذوا بتخليص الأعمال من شوائب الحظوظ 310
قاعدة تقديم ما لا حظ من الأعمال على ما حظ فيه 310
الخلاصة: أن الالتفات إلى المسببات في الدخول إلى الأسباب ليس شرطا 311
أسباب مشروعة وغير مشروعة 311
المسألة الرابعة: 311
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات 311
الدليل: أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها 311
وآخر: أن الأحكام الشرعية شرعت لأجل المصالح ودرء المفاسد 311
الثالث: المسببات لو لم تقصد بالأسباب، لم يكن وضعها على أنها أسباب 312
المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب ومناقشة ذلك مع
ما مر 312(3/287)
ص -577-…المسألة الخامسة: 313
للمكلف ترك القصد إلى المسبب وله القصد أيضا 313
الشارع ينهى ويأمر لأجل المصالح 313
السبب غير فاعل بنفسه 314
مثل العدوى، وتخريج حديثها 314
حديث التوكل 314
ليس في الشرع دليل ناصّ على طلب القصد إلى المسبب 315
المراد بالتكليف: مطابقة قصد المكلف قصد الشارع 316
هذه شبهة ومناقشتها 316
فصل 317
للمكلف قصد المسبب 317
التمثيل بالرزق 317
قصد المسببات في العاديات لازم لظهور المصالح بخلاف العباديات 319
المجتهد وقصد المسببات 320
المقلد في ذلك 320
القضاء في الغضب وغيره 320
المسألة السادسة: 321
مراتب الالتفات إلى المسببات: 321
الأولى: أنه فاعل للمسبب وهو شرك 321
الثانية: الدخول على أن المسبب يكون عادة وهو موضع الكلام 322
الثالثة: الدخول على أن المسبب من الله 322
العدوى 323
فصل: مراتب ترك الالتفات إلى المسبب: 323
إحداها: الدخول من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم 323
وهذا ضربان: 323
ما وضع لابتلاء العقول وهو العالم كله 324
ما وضع لابتلاء النفوس وهو العالم كله أيضا 324(3/288)
ص -578-…أدلته من القرآن 24
الثانية: أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب 325
التوحيد والشرك 325
الثالثة: الدخول في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر
في غير ذلك 326
المسألة السابعة: 327
الدخول في السبب المنهي عنه وغير المنهي عنه ورفع التسبب 327
أمثلة على ذلك وتفصيلها 327
الأولى 327
الثانية 328
الثالثة 328
التوكل عند أهل التصوف والأخذ بالأسباب 328
الإيمان بالقدر 329
قصة في التوكل عند غلاء الأسعار 329
العمليات الانتحارية أم الاستشهادية؟ 330
أمثلة قريبة منه 331
الفتوى على حسب السائل والسؤال 332
صاحب اليقين والتوكل والأخذ بالأسباب وتفصيل ذلك 332
مرتبة الابتلاء 334
مرتبة أخرى 335
وأخرى 335
المسألة الثامنة: 335
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب 335
أدلة ذلك 336
الداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه 338
الثواب والعقاب على الفعل وعدمه 338
المسألة التاسعة: 339
ما بني على ما سبق وهو ثمرة البحث 339(3/289)
ص -579-…أحدها: متعاطي الأسباب على وجه صحيح ثم قصد أن لا يقع المسبب
فقد قصد محالا 339
الأسباب المشروعة وغير المشروعة 339
الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها 340
كل قصد ناقض ذلك فهو باطل 340
الإشكال على ذلك من وجهين والجواب عليه 341
رفض العبادة 343
الأسباب الشرعية ومسبباتها 344
النهي لا يدل على الفساد 345
البيوع الفاسدة عند مالك 346
فصل: فعله السبب عالما بأن المسبب ليس إليه زاد أعمال القلب كالإخلاص والتفويض والتوكل والصبر 346
الإخلاص 346
التفويض 347
الصبر والشكر 348
فصل: ومن الثمرات النصيحة للنفس والغير 348
في العاديات والعباديات 349
فصل: الطمأنينة 349-350
كفاية الهموم 351
الزهد 352
فصل: ومن الثمرات التوسط في الأمور 353
النصب والخوف والإشفاق من النبي -صلى الله عليه وسلم- على الناس 354
نفوذ القدر المحتوم 356
فصل: تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى 357
الصوفية لفظ مبتدع والتزكية لفظ شرعي 358
المسألة العاشرة: 359
اعتبار المسببات بالأسباب 359(3/290)
ص -580-…أنه إذا لم يلتزم الشرع فيها قد يقع فيها ما ليس في حسابه
من الشر مثل السنن السيئة 359
تزييف الدراهم والدنانير، ترويج العملة 361
كثرة الخطا إلى المساجد 361
قيام الساعة على الأمة 361
النعم شكرها وكفرها 362
عود إلى التسبب واستغفار الأرض للعالم 363
فصل: فائدة ارتفاع الإشكالات التي ترد 364
مثل: توسط الأرض المغصوبة ومناقشتها مناقشة مختلفة الأوجه 364
ومن تاب عن القتل بعد إطلاق وسيلة القتل 366
فصل: المسببات علامة على فساد أو صحتها الأعمال 366
تضمين الصناع 367
الأعمال الظاهرة دليل على الأعمال الباطنة 367
فصل: المسببات قد تكون عامة وقد تكون خاصة 368
ذكر أمثلة على الخاصة 368
وأمثلة عن العامة وهي سبب الفساد في الأرض 368
تخريج حديث الغلول 368
ازدياد الحرص على الخير 371
فصل: مواضع الالتفات إلى الأسباب والضابط فيها أن لا يمر على الأصل
بالفساد 371
الاستعداد للقتال والجهاد دفاعا عن الأمة 371
الضابط قسمان: 372
قسم بإطلاق وقسم على بعض المكلفين 372
وله تقسيم من جهة أخرى ما كان مظنونا به أو مقطوعا به 372
فصل: تعارض الأصلين على المجتهد 373
المسألة الحادية عشرة: 374
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح 374
مثال ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 374(3/291)
ص -581-…المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ناشئة عن أسباب أخرى
مناسبة لها 375
الاستدلال على ذلك وتوضيحه 375
القضاء والحكمة 376
اختلاف الاجتهاد والمجتهدين 377
الغصب وأمثلة أخرى 378
فصل: أحكام ترتبت على ذلك في مذهب مالك 379
الطلاق والسفر 379
بيع العينة 381
فصل: قد يكون للمسائل نظر من باب آخر 381
فصل: النظر إلى المسببات العادية 381
المسألة الثانية عشرة: 382
الأسباب شرعت لتحصيل المسببات "المصالح والمفاسد" 382
والمسببات ضربان 382
- ما شرعت الأسباب لها بقصد الشارع أو بقصد المكلف 382
- ما كان لغير ذلك 383
وهذه أقسام: 383
ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله, أمثلة على ذلك بالنكاح وغيره 383
الثاني: ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء فهو باطل 383
من أوجه بطلانه الثلاثة 384
نكاح المحلل وغيره 386
تعليق الطلاق على النكاح 386
أمثلة من مذهب مالك كنكاح من في نفسه أن يفارق 387
مناقشة ما سبق من وجهين: إجمالي وتفصيلي 389
المسألة الثالثة عشرة: 390
السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا 390
وهذا على ضربين: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو
لآخر خارجي 390
فالأول ينفي المشروعية 390(3/292)
ص -582-…وأدلة ذلك 391
والثاني: فيه خلاف على تأثيره على أصل المشروعية وأدلة المجيز 391
1- القضايا الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان 391
2- الحكمة تعتبر بمحلها أو بوجودها 392
التمثيل على ذلك بمشقة السفر والملك المترفه 392
مناقشة ذلك والرد والرد على الرد 392
3- اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط 393
مناقشة المسألة 394
أدلة المانع 394
1- قبول المحل ذهنا أو في الخارج 394
2- فيه نقض لقصد الشارع 395
3- غلبة الظن في ذلك 395
الملك المترفه والربا في الصدق 395
العلة في موضع الحكمة 396
فصل: 396
مسألة التعليق والجواب عنها 396
النكاح للبر في اليمين 396
اعتماد ذلك على أصلين 399
فصل: القسم الثالث: أن يقصد مسببا لا يظن أو يعلم أنه
مقصود الشارع وهو محل إشكال 400
المسألة الرابعة عشرة: 400
الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا وكذلك غير المشروعة 401
أمثلة على ذلك منها قتل الحر بالعبد 401
قد يكون ذلك يسبب مصلحة ليس ذلك سببا فيها 402
وقد يكون يفعل ذلك لقصد وهو على وجهين 402
- أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك 402
أمثلة على ذلك 403(3/293)
ص -583-…منها ميراث القاتل 403
وضمان المغصوب 403
والثاني: أن يقصد توابع السبب 405
قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود" 405
النوع الثاني في الشروط 405
المسألة الأولى: 405
معنى الشرط عند المصنف وعند ابن الحاجب 406
أمثلة ذلك 407
المسألة الثانية:
اصطلاح الكتاب في السبب والعلة والمانع وتعريفها 410
المسألة الثالثة:
الشروط ثلاثة أقسام: عقلية وعادية وشرعية 413
المسألة الرابعة:
الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف 413
أمثلة على ذلك 413
إشكال على ما سبق وذكر أمرين لرفعه 414
أولا: أن ما سبق هو من العقليات 414
ثانيا: أن العقل شرط مكمل لمحل التكليف 415
المسألة الخامسة:
السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه 415
في مذهب مالك وغيره: أن الحكم إذ حضر سببه وتوقف حصول مسببه
على شرط هل يصح وقوعه بدون شرط؟ 416
أمثلة على ذلك 416
المسألة السادسة:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين: 421
أحدهما: ما كان راجعا إلى خطاب التكليف 421
والثاني: ما كان راجعا إلى خطاب الوضع 421(3/294)
ص -584-…المسألة السابعة:
إذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو تركه من حيث هو فعل فلا يخلو أن يفعله أو يتركه وهو داخل تحت خطاب التكليف 422
أمثلة على ذلك مع تخريج أحاديثها 423
الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع في الصدقات 423
الخيار في البيع والمحلل في السباق 425
حديث بريرة في الولاء 427
بيوع منهي عنها 427
أمثلة أخرى مع تخريج أحاديثها 428
المصالح معتبرة في الأحكام 432
الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا 432
مناقشة للأدلة السابقة ومناقشة لبعض إشكالات لزومها 433
فصل: بطلان العمل السابق أو عدمه 435
أوجه تجاذب المسألة من ثلاثة أوجه 435
أحدها: مجرد انعقاد السبب كافٍ 436
الثاني: مجرد انعقاد السبب غير كافٍ 436
الثالث: أن يفرق بين حقوق الله وحقوق الآدميين 437
المسألة الثامنة: 438
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام: 438
أحدها: أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها 438
الثاني: أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته 439
الثالث: أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة 440
النوع الثالث: في الموانع 441
المسألة الأولى: 441
أنواع الموانع وتقسيماتها 441
أمثلة على هذا التقسيم 442(3/295)
ص -585-…المسألة الثانية 444
الموانع ليست بمقصودة للشارع ومعناه 444
وهي على ضربين 444
ضرب داخل تحت خطاب التكليف 444
الضرب الثاني -وهو المقصود- وهو الداخل تحت خطاب الوضع 445
المسألة الثالثة: 446
الموانع الداخلة تحت خطاب التكليف 446
تمثيله والأدلة عليه 446
الإرهاب 449
الحجر الصحي 450
النوع الرابع في الصحة والبطلان 451
المسألة الأولى: 451
في معنى الصحة وإطلاقاتها 451
المسألة الثانية: 452
في معنى البطلان وإطلاقاته 452
تخريج حديث عائشة وزيد بن أرقم في الربا 456
المسألة الثالثة: 459
البطلان في العادات وتقسيمه إلى أربعة تقسيمات: 459
1- أن يفعل من غير قصد 459
2- أن يفعل لقصد نيل غرض مجردا 459
3- أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا 460
4- أن يفعل مع استشعار الموافقة اختيارا 461
وفيه تفصيل 461
فصل: إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني 462
النوع الخامس: في العزائم والرخص 464
المسألة الأولى: 464
معنى العزيمة والتمثيل لها 464(3/296)
ص -586-…الرخصة ومعناها 466
فصل: إطلاق الرخصة وأمثلة ذلك 469
فصل: التخفيف عن الأمة 469
فصل: وما فيه توسعة على العباد مطلقا 472
عود إلى العزيمة 472
العزيمة وأصحاب الأحوال 473
فصل: ما سبق من إطلاقاتها قد يكون لبعض الناس وقد يكون للعامة 474
المسألة الثانية: 474
حكم الرخصة من حيث هي رخصة الإباحة مطلقا 474
أدلة ذلك: 474
1- النصوص الدالة على رفع الحرج وإسقاط الإثم 474
2- أن الرخصة أصلها التخفيف وتوضيح ذلك 477
3- أنها لو كانت مأمورا بها ندبا أو إيجابا كانت عزائم 477
مناقشة ذلك والاستدلال له 478
الرد على المناقشة 480
المسألة الثالثة: 484
الرخصة إضافية لا أصلية 484
1- سبب الرخصة هو المشقة 484
المشقة في العادة 484
2- قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل 485
3- ما يدل على هذا من الشرع 486
مناقشة الحرج في الشرع 487
المسألة الرابعة 490
الإباحة المنسوبة إلى الرخص بمعنى رفع الحرج لا التخيير 490
توضيح ذلك بالأمثلة 490
كلمة الكفر والإكراه 491
الإباحة بمعنى التخيير 493(3/297)
ص -587-…فوائد المسألة 493
المسألة الخامسة: 493
الترخص المشروع ضربان 493
أحدهما: أن يكون في مقابلة مشقة لا صابر عليها طبعا 493
الثاني: أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها 494
حق الله وحظوظ العباد 494
حظوظ العباد على ضربين 494
ما يختص بالطلب وما لا يختص 495
تنبيهان 495
المسألة السادسة: 496
التخيير بين العزيمة والرخصة 496
الترجيح بينهما 496-497
الأخذ بالعزيمة من طرف أولى لأمور: 497
أولا: لأن العزيمة هي الأصل الثابت 497
ثانيا: لأن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي 498
ثالثا: ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي 498
ذكر حال الصحابة في الأزمات وحين وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتداد العرب 499
الإكراه على كلمة الكفر 501
قصة أبي حمزة الخراساني ووقوعه في بئر 502
قصة الثلاثة الذين خلفوا 502
قصة عثمان بن مظعون ودخوله مكة بجوار 503
الصبر والابتلاء 503
سبب نزول {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...} 503
جيش أسامة 504
الوجه الرابع: العوارض الطارئة ونحوها من المشقات مما يقصده الشارع 504
الاضطرار وتحمل المشاق 506(3/298)
ص -588-…الخامس: أخذ الترخص بإطلاق ذريعة إلى الانحلال 506
الأخذ بالهوى 508
التيمم لخوف لصوص أو سباع 508
الصبر في ذات الله على المشاق الشديدة 509
السادس: مراسم الشريعة مضادة للهوى 510
الشاق على الإطلاق 510
الوقوف مع أصل العزيمة من الواجب أم المندوب؟ 510
إجابته تحتاج إلى تفصيل "أحوال المشقات" 510
المسألة السابعة 511
المشقات ضربان 511
أحدهما: حقيقية: وهو معظم ما يقع فيه الترخص 511
الثاني: توهمية مجردة 511
تفصيل الضرب الأول 512
تفصيل الضرب الثاني 513
الظنون والتقديرات غير المحققة داخلة في هذا الباب 514
أهواء النفس فهي ضد الضرب الأول 515
الاحتياط 516
فصل: الفوائد من هذه الطريقة 517
الاحتياط في اجتناب الرخص 517
فهم معنى الأدلة في رفع الحرج 517
فصل: ترجيح الرخص 518
أصل الترخص قطعي أيضا 518
أصل الرخصة وإن كان جزئيا مع العزيمة ولكن ذلك غير مؤثر 519
أدلة رفع الحرج عن الأمة قطعية 520
الرخصة المقصود منها الرفق بالمكلف 521
التزام المشاق تكليف وعسر 522
ترخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الرخص 523(3/299)
ص -589-…ترك الترخص قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير 524
تخريج أحاديث في ذلك 525
مراسم الشريعة جاءت لمصالح العباد 529
فصل: الأولوية في ترك الترخص 530
الحكم بين من قدم الترخص ومن قدم العزيمة ووجه كل فريق 530
فصل: الخلاص من الإشكال من وجهين 531
المسألة الثامنة: 531
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا، قصد أن يتحراه المكلف 531
مخالفة ذلك توقع في محظورين: 532
مخالفة قصد الشارع وسد أبواب التيسير عليه 532
بيان ذلك من أوجه 532
الأول والثاني 532
الاستدلال عليه 532-533
الثالث: طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه 536
الرابع: أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها 537
المسألة التاسعة: 538
أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل ولا الرفع 538
المسألة العاشرة: 539
إذا كانت الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة صارت العزيمة
معها من الواجب المخير 539
إذا كانت بمعنى رفع الحرج فالعزيمة على أصلها من الوجوب 539
مثل حكم الحاكم والعمل بالبينات 539
قاعدة رفع الحرج مطلقا 541
المسألة الحادية عشرة: 541
العزائم مطردة مع العادات الجارية 541
الرخص جارية عند انخراق العوائد 542
توضيح ذلك بالأمثلة 542(3/300)
ص -590-…الكرامات 543
اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- السير مع مجاري العادات 544
فائدة الخوارق 546
حال الأولياء مع الكرامات 547
تعذرهم منها 549
نهاية الجزء الأول 550(3/301)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الثاني
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(4/1)
ص -7-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم1
كتاب المقاصد2
والمقاصد التي ينظر فيها قسمان3:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست في الأصل، وأثبتناها من النسخ المطبوعة.
2 المقاصد: جمع مقصد، وهو الشيء الذي يقصد، موضعا كان أو غيره، والقصد: إتيان الشيء. قال صاحب "لسان العرب": "قال ابن جني: أصل "ق ص د" ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجيه، والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أم جور، هذا أصله في الحقيقة، وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى؛ فالاعتزام والتوجل شامل لهما" "ماء/ ص113".
قلت: احتل كتابنا هذا بجملته وهذا القسم منه على وجه الخصوص المكانة الأولى بين كتب المقاصد ومباحثها النادرة، وقد بذلت جهود متأخرة في هذا الموضوع؛ منها: "مقاصد الشريعة الإسلامية" ليوسف العالم، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي، وتعرض لها أيضا المؤلفون في المصالح، من مثل: مصطفى زيد في "المصلحة في التشريع الإسلامي"، ومصطفى شلبي في "تعليل الأحكام"، والبوطي في "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، وحسين حامد حسان في "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي".
3 وغيرهما لا ينظر فيه في الأزمان؛ أي: الدهور كلها. "ماء".(4/2)
ص -8-…والآخر يرجع إلى قصد المكلف.
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء1، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها؛ فهذه أربعة أنواع.
ولنقدم قبل الشروع في المطلوب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كأنه تفصيل له، وهذا القصد الأول هو أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين؛ فإن هذا في المرتبة الأولى بالنسبة إلى قصده في أفهامها، وأنها يراعى فيها معهود الأميين في عرفهم وأساليبهم مثلا، وكذا بالنسبة إلى قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وأن ذلك إنما يكون فيما يطيقه الإنسان من الأفعال المكسوبة، لا ما كان في مثل الغرائز كشهوة الطعام والشراب؛ فلا يطلب برفعها مثلا، وتفاصيل ما ينضبط به ما يصح أن يكون مقصودا للتكليف به وما لا يصح، وكذا بالنسبة إلى قصده دخول المكلف تحت أحكام التكليف من جهة عموم أحكامها واستدامة المكلف على العمل بها، وأنها كلية لا تخص بعضا دون بعض، وأن المعتبر في مصلحة العباد ما يكون على الحد الذي حده الشرع لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، وأنه لا يلزم من كون مصالح التكليف عائدة على العباد لا غير في العاجل والآجل أن يكون نيله لها خارجا عما رسمه الشرع له.
وهكذا من تفاصيل هذه الأنواع الثلاثة في مقاصد الشرع من وضع الشريعة؛ فإنها تعتبر في المرتبة الثانية بالنسبة للقصد في أصل وضعها، كما سيأتي له بسط ذلك كله على وجه لم يسبق إليه رحمه الله.(4/3)
وليلاحظ أنه ليس المراد من كتاب المقاصد مقاصد الفن كما يتبادر؛ لأنك إذا قسمت هذه المقاصد بما ذكروه في الأصول؛ تجد أنها تعد في مبادئ الفن، فمثلا تراهم يعدون الكلام في المحكوم به والمحكوم عليه من المبادئ، ولا يخفى عليك أن النوع الثالث –بجميع المسائل التي ذكرها فيه- من قبيل الكلام في المكلف به، وأنه لا بد أن يكون مقدورا للعبد داخلا تحت كسبه، وهكذا الباقي من الأنواع الأربعة إذا تأملتها تجدها من المبادئ لا مقاصد الفن التي هي الأدلة، اللهم إلا على نوع من التوسع في الأصول بأن كل ما انبنى عليه فقه؛ فهو من أجزاء الأصول، ولا حاجة إليه مع ظهور الغرض. "د".(4/4)
ص -9-…مقدمة كلامية مسلمة1 في هذا الموضع:
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم [الفخر] الرازي2 أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصفه هذه المقدمة بأنها "مسلمة" يعني أنه لا خلاف عليها، ومع ذلك، فقد احتاج إلى القول: "وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا". وليس هذا شأن المُسَلمات، ثم لست أدري ما عنى بقوله: "وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا أنسب موضع لذلك، ثم هو قد أقام البرهان فعلا على صحة القضية، وإن كان بإيجاز شديد، ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مبثوثة في مواضع أخرى من الكتاب.
ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"؛ فذكر أن هذه المسألة وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة..."؛ فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها "مسلمة" عنده، أو أنها "مسلمة" وإن خالف فيها من خالف، وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه.
فأما كونها "مسلمة" عنده؛ فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، وفي مواضع متفرقة ومناسبات مختلفة يعود ويؤكد هذه القضية، وعلى هذا الأساس يمضي في جميع أجزاء "الموافقات". انظر: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص 169-170".
2 المصنف لم يسم من المنكرين للتعليل أحدا غير الرازي، وفي هذا نظر من وجهين:
الأول:(4/5)
أن ابن حزم بخاصة والظاهرية بعامة يهدمون فكرة "التعليل" من أساسها، وخصص ابن حزم في كتابه "الإحكام" بابا لذلك، قال: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين"، ونسب ذلك لجميع الظاهرية؛ قال: "وقال أبو سليمان –أي: داود الظاهري- وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه". قال "8/ 77": "وهذا هو ديننا الذي ندين الله به، وندعو عباد الله إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى"، بل بالغ في هذا الإنكار، فاسمع إليه وهو يقول "8/ 113": "إن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وإنه مخالف لدين الله تعالى، نعم، ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة"، ولعل هذا الذي استفز ابن القيم؛ فقال=(4/6)
ص -10-…..................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس في "إعلام الموقعين" "2/ 74": "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم.....".
ولا أدري لم أهمل المصنف قول ابن حزم هذا، مع تعرضه بلطف وإنصاف للظاهرية في مواطن كثيرة من كتابه، وتصريحه السابق يفيد أنه لم يقف على أن المذكور قول لهم، وهذا ما أستبعده لشهرته عنهم، إلا أن ردد في مثل هذه المسألة خاصة مع الجويني في "البرهان "2/ 819" أنهم "ملتحقون بالعوام، وكيف يُدعَون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم؟ وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ؟!
والآخر:
في نسبة نفي التعليل للرازي وقفة، وقد تابع المصنف في زعمه المذكور الشيخ علال الفاسي في كتابه "مقاصد الشريعة" "ص 7- ط دار الغرب"، وأحمد الخلميشي في كتابه "وجهة نظر" "ص 286"، وبنى عليه حَشْرَ الرازي مع الظاهرية في صفٍّ واحد.
ويمكن توضيح موقف الرازي من هذه القضية كالآتي:
أولا:
إنه ينكر التعليل الفلسفي في كتاباته الكلامية، وصرح بهذا في "تفسيره" "2/ 154" عند قوله تعالى في [البقرة: 29]: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
ثانيا:
هذا الإنكار منه ومن الأشاعرة كان فرارا من المقولات والإلزامات الاعتزالية، التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله.
ثالثا:
يرى تعليل الأحكام الشرعية تعليلا أصوليا فقهيا، ليس فيه إلزام لله سبحانه، وليس فيه تحتيم على مشيئته، وصرح بهذا ودافع عنه بقوة في كتابه "المحصول" "2/ 2/ 237- 242، 291"، بل قال في "مناظراته" "25": "وأما بيان أن التعليل بالأوصاف المصلحية جائز، فهذا متفق عليه بين العقلاء".
رابعا:(4/7)
نفي المصنف في نقله هذا عن الرازي ما أثبته هو، إذ كلامه في مقام التعليل الأصولي لا الفلسفي، وقد فرق بينهما ابن الهمام بقوله في "التحرير" "3/ 304- 305- مع التيسير": والأقرب إلى التحقيق أن الخلاف لفظي، مبني على معنى الغرض، فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل، قال: لا تعلل، ولا ينبغي أن ينازع في هذا، ومن فسره بالعائدة إلى العباد، قال: تعلل، وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه".=(4/8)
ص -11-…أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين1، ولما اضطر2 في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وانظر في الفرق بينهما: "التحرير والتنوير" "1/ 379- 381" لابن عاشور، و"ضوابط المصلحة" "96- 97" للبوطي
خامسا:
ما لم يستقم التوفيق المذكور، فنردد مع شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في "مجموع الفتاوى" "6/ 55": "أما ابن الخطيب- وهو الرازي، فكثير الاضطراب جدا، لا يستقر على حال، وإنما هو بحث وجدل بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه، بخلاف أبي حامد، فإنه كثيرا ما يستقر".
سادسا:
المشهور عن الرازي القول بأن الأحكام الشرعية معللة، نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 75" عنه، قال: "غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا، وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن".
1 ذهبت عبارات الأصوليين في تعليل الأحكام مذاهب شتى، والتحقيق الذي لم يبق فيه محل للشبهة أن الأحكام قائمة على رعاية مصالح العباد،، وهذه المصالح هي التي يسمونها بالعلل، ولكن تعيين العلة وكيفية مراعاتها إنما يتلقى من الشارع نصا أو تلويحا، ولا مانع من أن تكون أحكام الله معللة بالغايات المحمودة، إذ الغاية التي تشعر بالحاجة إنما هي الغاية العائدة إلى تكميل الحاكم، أما ما يقصد بها تكميل غيره، فرعايتها ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الحكمة البالغة "خ".(4/9)
قلت: انظر في المسألة "شرح الكوكب المنير" "1/ 312، "والتوضيح في حل غوامض التنقيح" "2/ 63"، و"شفاء الغليل" "ص 103"، و"نبراس العقول" "323- 328"، و"جمع الجوامع" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 41"، و"إيثار الحق على الخلق" "ص 181 وما بعدها"، و"نفائس الأصول" "9/ 3995"، و"تعليل الأحكام" لمحمد مصطفى شلبي، ففيه بحث واف عن هذا الموضوع.
2 أي: ليتأتى له القول بالقياس وأنه دليل شرعي. "د".(4/10)
ص -12-…ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن1 الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المُلك: 2].
وأما التعاليل2 لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى3، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ4 تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولا يتأتى للرازي أن يقول في هذه العلل العامة: إنها علامات للأحكام، ثم لا يخفى عليك أنه يستعمل كلمة "العلة" في كتابه بمعنى الحكمة كما سبق له. "د"
2 في "ط": "التعليل".
3 في "ط": "فأكثر من أن يؤتى على آخره".
4 أخذ المعنى على أنه علة للأمر بإقامة الصلاة، وتأمله، "د".(4/11)
ص -13-…وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]
وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]
وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، والمقصود التنبيه.
وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم1، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة2 ثبت القياس والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه- ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه- فنقول والله المستعان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة ماء/ ص 114": "مفيد العلم".
2 سيأتي له في كتاب الاجتهاد في المسألة العاشرة توسع في هذه الجملة وفي تفاريع القواعد الفقهية على اعتبار المصالح. "د".(4/12)
ص -17-…القسم الأول: مقاصد الشارع
النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة1
وفيه مسائل
المسألة الأولى2:
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن تكون ضرورية.
والثاني:
أن تكون حاجية.
والثالث:
أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا النوع الأول من هذه الأنواع جاء في بيان، أي: ظهور قصد الشارع في وضع الشريعة، والشارع هو الله تعالى، والشريعة والشرعة، ما سن الله من الدين وأمر به، كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أعمال البر مشتق من شاطئ البحر الذي تشرع فيه الدواب والناس، فيشربون منها ويستقون. "ماء / ص 115".
2 سيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان واف للمقاصد الشرعية وتفاريعها ومكملاتها وإن كان على نحو آخر "د".
قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 114".(4/13)
ص -18-…بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج1 وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما:
ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود2.
والثاني:
ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها3 من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فتن وقتال. "ماء/ ص 115".
2 مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، ومراعاتها من جانب العدم تكون بترك ما به تنعدم، كالجنايات، فلا يقال: إن مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلا هو مراعاة لها من جانب العدم، إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيا أو لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى. "د".
قلت: انظر "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 238"،و"المستصفى" "1/ 251"، و"شرح المحلى على جمع الجوامع" "2/ 280".
3 مما ينبغي الانتباه له أن المحافظة لدى المصنف لا تعني الصيانة فقط، وإنما تتناول الإقامة أو الإنشاء، لما تلح الحاجة أو الضرورة إلى إقامته من المصالح العامة، والمرافق في الدولة، كما تتناول التنمية، فليس المقصود إذن بالمحافظة خصوص الصيانة، بل ما يتناول الإنشاء والتنمية لسائر مرافق الحياة والمصالح العامة والفردية على السواء، وفي هذا من السعة ما فيه مما يمنع التخلف والجمود الحضاري.
أفاده الأستاذ الدريني في كتابه "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 99".
4 قال في "التحرير" و"شرحه": "حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى=(4/14)
ص -19-…والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.
والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول1 المأكولات والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك.
والمعاملات2 راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة3 العادات.
والجنايات- ويجمعها4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البدع، ويقول الحنفية: إن وجوب الجهاد ليس لمجرد الكفر، بل لكونهم حربا علينا، ولذلك لا يحارب الذمي والمستأمن، ولا تقتل المرأة والراهب، وقبلت الجزية، وهذا لا ينافي أنه لحفظ الدين، إذ حفظ الدين لا يتم مع حربهم المفضي إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". أ هـ.
فأنت ترى المؤلف توسع في حفظ الدين، فجعله مقصدا لجميع التكاليف أصولها وفروعها، ولعله لا يوافق قوله بعد "فإنها مراعاة في كل ملة"، لأن ذلك قد لا يسلم بالنسبة لنحو الزكاة.... إلخ. "د".
1 أي: أصل تناول الغذاء الذي يتوقف عليه بقاء الحياة والعقل، وسيأتي في الحاجيات التمتع بالطيبات من مأكل وملبس.... إلخ، أي: مما يكون تركه غير مخل بالنفس والعقل، ولكنه يؤدي إلى الضيق والحرج، فالفرق بين المقامين واضح. "د".
2 أي: بالمقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال، فهي بهذا المقدار من الضروري، وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضروري، أما مطلق البيع مثلا، فليس من الضروري، بل من الحاجي خلافا لإمام الحرمين، وبهذا يتضح لك ما يأتي للمؤلف في هذه المسألة والمسألة التي تليها. "د".
3 في "د": "بوسطه"، وفي الأصل و"ط": بوساطة".(4/15)
4 جملة معترضة، والظاهر أنها مقدمة من تأخير، وأن موضعها قبل قوله: "والعبادات والعادات قد مثلت"، وهي راجعة إلى جميع ما تقدم مما يحفظ من جانبي الوجود والعدم، ومعنى كونها تجمع ذلك أنها تتعلق به جميعه وتنصب عليه من باب تكميل أبواب الشريعة، إذ ما من أمر ولا نهي إلا يتعلق به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أخبر عن الجنايات بأنها ترجع إلى حفظ ما سبق من جانب العدم- ثم اكمل المقام بالتمثيل للمعاملات والجنايات لأنه مثل لغيرهما آنفا، وسيأتي في المسألة السابعة من مبحث الكتاب في قوله: "وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ما يساعد على ما قررنه في فهم قوله هنا: "ويجمعها...." إلخ. "د".(4/16)
ص -20-…حفظ الجميع من جانب العدم.
والعبادات والعادات قد مثلت، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى1 تلك المصالح، كالقصاص، والديات -للنفس، والحد- للعقل2، وتضمين 3 قيم الأموال- للنسل والقطع والتضمين- للمال، وما أشبه ذلك.
ومجموع الضروريات خمسة، وهي4: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو يتلافى"
2 في الأصل: "الحد - الحد".
3 الذي قاله غيره أن حفظ النسل شرع له حد الزنا جلدا ورجما، لأنه مؤد إلى اختلاط الأنساب، المؤدي إلى انقطاع التعهد من الآباء، المؤدي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود، وأما ما قاله المؤلف، فغير واضح. "د".
4 ترتيبها من العالي للنازل هكذا: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، على خلاف في ذلك، فإن بعضهم يقدم النفس على الدين "د".
5 قال في "شرح التحرير": "حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء" ا هـ. فبعد هذا لا يقال: إن الشوكاني تأمل التوراة والإنجيل فلم يجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا، على أن المعروف من لسان النصارى وقسيسهم تحريمها عندهم، وعلى فرض صحة ما عزي للشوكاني، لو قيل: إن الممنوع في جميع الشرائع ضياع العقل رأسا والخمر تذهبه وقتا ثم يعود، لكان له وجه =(4/17)
ص -21-…وأما الحاجيات1، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق2 المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل علتى المكلفين- على الجملة3- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات4:
ففي العبادات: كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما تعريض الغنائم في الأمم السابقة لحرق النار السماوية بجمعها في مكان خاص وعدم نيل شيء منها، فظاهر أنه ليس من إتلاف الإنسان للمال، وكان تحريمها عليهم لحكمة تخليص نفوسهم من قصد الغنائم بالجهاد، وقد رخص فيها في شرعنا خاصة كما في الحديث: "ولم تحل لأحد قبلي، وقصة: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" ليس فيها إتلاف لها، بل إما أن يكون من باب استعراضها وتفقد أحوالها بيده لا بالسيف كما حققه الفخر، وإما أن يكون ذلك تقربا إلى الله بأحب المال عنده لأكل الفقراء كما هو المشهور، أو ليكون كالوسم بالنار لحبسها في سبيل الله. "د".
قلت: قال هذا ردا على "خ" حيث قال: "أوردوا على هذه الدعوى أن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة كما كانت مباحة في صدر الإسلام، وما أجيب به من أن المباح في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ حد السكر غير مستقيم، قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" قد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا من غير تقييد بعدم السكر، فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم".
1 انظر عنها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 270، 274، 275، 8/ 194، 195" ط.
2 في نسخة "ماء/ ص 117ط: "التضييق".
3 أي: ليس كل المكلفين يدخل عليه الحرج بفقد هذه الحاجيات. "د".(4/18)
4 يستفاد من تمثيل المصنف وكلامه الآتي أنه يفرق بين العادات والمعاملات، إذ يجعل العادات مما يفتقر إليه الناس من الحاجات والمصالح التي لا يتوقف تحصيلها على إبرام عقد، أو إنشاء علاقة في تصرف شرعي، وأما المعاملات، فهي ما ما كان ناشئا عن عقد أو تصرف شرعي أو غير شرعي تربطه بغيره، والجنايات وإن اعتبرها المصنف قسما قائما برأسه غير أنها تدخل في المعاملات بما تنشئ من علاقة بين الجاني والمجني عليه، أو بين الجاني والمجتمع أو الدولة، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 414".(4/19)
ص -22-…والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك.
وفي المعاملات، كالقراض1، والمساقاة، والسلم، وإلقاء2 التوابع في العقد على المتبوعات، كمثرة الشجر، ومال العبد.
وفي الجنايات، كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات3، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.
وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان:
ففي العبادات، كإزالة4 النجاسة -وبالجملة الطهارات كلها- وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات5، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل سائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ النفس وغيرها من الضروريات الخمس كما أشرنا إليه فيما سبق، لا ما يعطيه ظاهر أنواع الأمثلة من خصوص ما كان له أصل حظر لدخوله تحت قاعدة منع كلي، واستثنى ذلك منه حتى عد رخصة بالإطلاقات الأربعة السابقة. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "وإلغاء"، والصواب بالقاف، وكذا في الأصل ونسخة "ماء/ ص 117" و"ط".
3 سواء كان ذلك لخائف أو آمن، فإنه يجب عليه ذلك الأخذ وذلك التجنب. "ماء/ ص 117ط".
4 في "م": "إزالة".
5 في "ط": "والقربانات".(4/20)
ص -23-…وفي العادات، كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات.
وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب1، الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير، وما أشبهها.
وفي الجنايات، كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد.
وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء" "منصبي".(4/21)
ص -24-…المسألة الثانية:
كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية1.
فأما الأولى2، فنحو التماثل في القصاص، فإنه لا تدعو إليه ضرورة، ولا تظهر فيه شدة حاجة، ولكنه تكميلي3، وكذلك نفقة المثل، وأجرة المثل4، وقراض المثل5، والمنع من النظر إلى الأجنبية، وشرب قليل المسكر، ومنع الربا، والورع اللاحق في المتشابهات، وإظهار شعائر6 الدين، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن، وصلاة الجمعة، والقيام بالرهن والحميل7، والإشهاد في البيع إذا قلنا: إنه من الضروريات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء": ".... لو فرضنا انفقاده، لم يخل بحكمتها الأصلية فقده".
2 أي: مرتبة الضروريات. "د".
3 أي: إنما هو مكمل لحكمة القصاص، فإن قتل الأعلى بالأدنى مؤد إلى ثوران نفوس العصبة، فلا يكمل بدونه ثمرة القصاص من الزجر والحياة التي قصدها الشرع منه، ومثله تحريم قليل المسكر، لأنه بما فيه من لذة الطرب يدعو إلى الكثير المضيع للعقل، فتحريم القليل تكميل لحكمة تحريم الكثير، فيحمل كلام المؤلف على هذا الغرض. "د".
4 في "ط" زيادة ومساقاة المثل".
5 أي: إن هذه الأمثلة الثلاثة مكملة للضروري من حفظ المال للطرفين، كما أن منع النظر للأجنبية مكمل للضروري من حفظ النسل بالمنع من الزنا، لأن النظر مقدمة للزنا وداعية إليه، وتحريم داعية المحرم ثبت بها الدليل الشرعي، وكذا منع الربا تكميل لحفظ المال الذي هو ضروري، فإن الزيادة جزء من مال الدافع يذهب هدرا بدون مقابل معتبر شرعا، والورع تكميل لما هو من نوعه، فإن كان في عبادة، فمكمل لها، وإن كان في عادة أو معاملة، فمكمل لذلك. "د". قلت: انظر في هذا: "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 240- 241"، و"شرح ألفية البرماوي" "ق313"، مخطوط في جامعة الرياض.
6 في "م": شعار".
7 كأمير: الدعي والكفيل: "قاموس".(4/22)
ص -25-…وأما الثانية1، فكاعتبار2 الكفء ومهر المثل في الصغيرة، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة، وإن قلنا: إن البيع من باب الحاجيات، فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة، ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله، فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة، إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف.
وأما الثالثة3، فكآداب4 الأحداث، ومندوبات الطهارات، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة، والإنفاق من طيبات المكاسب، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق، وما أشبه ذلك.
ومن أمثلة هذه المسالة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات، فإن الضروريات هي أصل المصالح5 حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مرتبة الحاجيات، فما هو لها كالتكملة، فكاعتبار الكفء.... إلخ ما ذكره المصنف.
2 فإن أصل المقصود من النكاح وإن كان حاصلا بدونهما لكنهما أشد إفضاء لدوام النكاح وتمام الألفة بين الزوجين، وما به دوامه من مكملاته. "د".
3 أي: مرتبة التحسينيات، فما هو لها كالتكملة، فكآداب.... إلخ ما ذكره المصنف.
4 في الأصل: "كأدب".
5 والجميع تتمة لها.(4/23)
ص -26-…المسألة الثالثة1:
كل تكملة فلها- من حيث هي تكملة- شرط، وهو: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك2، لوجهين.
أحدهما: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة، لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف، لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا، فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها، وهذا محال لا يتصور، وإذا لم يتصور، لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.
والثاني: أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى3 لما بينهما من التفاوت.
وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي، وحفظ المروءات مستحسن، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات، وإجراء لأهلها على محاسن العادات، فإن4 دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس، كان تناوله أولى.
وكذلك أصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة مكمل، فلو اشترط نفي الغرر جملة لَانْحَسَمَ باب البيع، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل أدخل كلام من المسألة الثانية في هذا الموضع!
2 في نسخة "ماء": "عند أصل ذلك".
3 أي: تحصيلها أولى بالاعتبار، فيجب أن تترجح على التكميلية، لأن حفظ المصلحة يكون بالأصل، وغاية التكميلية أنها كالمساعد لما كملته، فإذا عارضته، فلا تعتبر. "د".
4 في "م": "فإذا".
5 قد تكون الإجارة ضرورية كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته، وقد تكون حاجية وهو الأكثر، ومثله يقال في البيع وسائر المعاملات باعتبار توقف حفظ أحد الضروريات الخمسة أو عدم التوقف. "د".(4/24)
ص -27-…واشترط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر، منع من بيع المعدوم1 إلا في السلم، وذلك في الإجارات ممتنع، فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها، والإجارة محتاج إليها، فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد، ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما.
وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه، قال مالك: "لو ترك ذلك كان ضررا على المسلمين، فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال، لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور2 عن النبي صلى الله عليه وسلم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقابل للحضور الغيبة، والمقابل للعدم الوجود، فإما أن يقول: "واشتراط وجود العوضين"، ثم يقول: "منع بيع المعدوم إلا في السلم" وهو ظاهر، وإما أن يقول كما قال أولا ثم يقول: "منع من بيع الغائب إلا في السلم"، فيعترض عليه بأن بيع الغائب الموصوف جائز، ومقتضى قوله بعد: "فاشتراط وجود المنافع وحضورها"، ثم قوله: "وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد" أن غرضه بقوله: "واشتراط حضور العوضين" اشتراط وجودهما وحضورهما، ولما كان الحضور يحرز الوجود استغنى به عنه أولا، فيبقى الكلام في اشتراط الحضور في البيع وقد علمت ما فيه. "د".(4/25)
2 الحاكم الجائر متى انطوت نفسه على أصل الاعتقاد بالإسلام يتسنى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا إليه بالنصيحة، ويقوموه بالموعظة، فإن لم يأتوا به إلى سبيل العدل جملة، خففوا من وطأة مظالمه شيئا كثيرا، وعلى فرض أن يتمادى في طغيانه الذي لا يخلو من رحمة تأخذه في كثير من الأحيان، فمن المتوقع انصرام أجله ورجوع الدولة إلى يد من هو أقوم سيرة وأشد رعاية للمصلحة، وترك الجهاد مع الحاكم الجائر يفضي بالأمة إلى أن يضرب عليها المخالفون سلطة قاتلة، ويضعوا بينها وبين الحياة الشريفة عقبات لا تتزلزل إلا بعد جهاد عنيف. "خ".
3 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور،=(4/26)
ص -28-…وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء1 فإن في ترك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 3/ 18/ رقم 2532" من طريق سعيد بن منصور- وهو في "سننه" "رقم 2367- ط القديمة"-، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 156"- من طريق أبي داود-، وأبو عبيد في "الإيمان "رقم 27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1227/ رقم 2301" عن أنس مرفوعا: "ثلاث من أصول الإيمان"، وذكر من بينها: "والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل".
وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي نشبة السلمي، وهو مجهول، قال الزيلعي في "نصب الراية" "3/ 377": "قال المنذري في "مختصره": يزيد بن أبي نشبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان".
قلت: ويشهد له ما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2533"، والبيهقي في "الكبرى" "3 / 121و 8/ 125"، والدراقطني في "السنن" "2/ 56/ 57"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1226" / رقم 2299"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 422" عن أبي هريرة مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر....".
وإسناد ضعيف، وفيه انقطاع، مكحول لم يلق أبا هريرة، وفيه العلاء بن الحارث، كان اختلط، وتابعه يزيد بن يزيد بن جابر عند الدراقطني، ولكن رواه عنه أشعث وهو مجروح، وبقية لا يقوم على روايته.(4/27)
وأورد الدراقطني واللالكائي وابن الجوزي والزيلعي في "نصب الراية" "2/ 26- 29" أحاديث كثيرة تدل على ما ذكرها المصنف، أرجاها وأصحها الحديثان المذكوران ولذا اقتصر عليهما أبو داود في "سننه" على منهجه المعروف، ولذا، فلا داعي للإطالة في تخريجها، ولكن يعجبني ما صنعه البيهقي في "الكبرى" 9/ 56"، فإنه ذكر قبل الحديثين المذكورين حديث عروة البارقي -أخرجه الشيخان- مرفوعا: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة"، وبوب عليها "باب الغزو مع أئمة الجور"،وحديث عروة يدل على التبويب بدلالة اللازم، فتأمل.
1 ورد في ذلك حديث أبي هريرة المرفوع المتقدم آنفا، ومعنى ما ذكره المصنف صحيح، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.
وأخرج مسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان،=(4/28)
ص -29-…ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة1، والعدالة مكملة لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة.
ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها2، فإذا أدى طلبه إلى أن لا تُصلَّى -كالمريض غير القادر-، سقط المكمل، أو كان في إتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة، وستر العورة من باب محاسن الصلاة، فلو طلب على الإطلاق، لتعذر أداؤها على من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1/ 69/ رقم 49"، وأهل السنن، أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراجه منبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، 1/ 188/ رقم 695" عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلى لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال:
الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم".
ويدل عليه عموم ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 694"، وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم".
قال الشوكاني: "ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا- ولا يبعد أن يكون قوليا- على الصلاة خلف الجائرين، لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى".
وانظر: "نيل الأوطار" "3/ 200"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 108- 109"، و"العلل المتناهية" "1/ 418- 419".
1 أي: المكملة للضروري كما سبق له، والعدالة في الإمام مكملة لهذا المكمل. "د" وفي "ط": "شعائر الإسلام المطلوبة".(4/29)
2 المناسب لضروريها، أي أن الصلاة من الضروريات الخمس، وهذا القيام مكمل لها. "د".(4/30)
ص -30-…لم يجد ساترا، إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر، كلها جار على هذا الأسلوب
وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب "المستظهري"1 في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة، واحمل عليه نظائره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال فيه "ص 119- 120" بعد أن ذكر شروط الإمامة:
"..... فإن خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط، وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة، وهذا حكم زماننا، وإن قدر- ضربا للمثل- حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، إنا نعلم بأن العلم مزية روعيت في الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد.
وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة، وإذا أحسن إيراد هذه المقالة، علم أن التفاوت بين اتباع الشرع نظرا واتباعه تقليدا قريب هين، وأنه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة..." إلخ ما قال.(4/31)
ص -31-…المسألة الرابعة:
المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية.
فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق، لاختلا باختلاله بإطلاق، ولا يلزم من اختلالهما [أو اختلال أحدهما] اختلال الضروري بإطلاق، نعم، قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري، فينبغي المحافظة على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا1 ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري، فإن الضروري هو المطلوب2.
فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها:
أحدها: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
والثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين [بإطلاق]3.
والثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين [بإطلاق] اختلال الضروري [بإطلاق].
والرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
والخامس: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "إذ" لا "إذا" كما يفيده السياق. "د".
2 أي: الأصلي والأشد في الطلب، وإلا، فالكل مطلوب، وسيأتي له ما يفسره في آخر المسألة. "د".
3 أي: اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي بوجه ما، وفي الأصل و"خ": "واختلال الضروري"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".(4/32)
ص -32-…بيان الأول:
أن مصالح الدين مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود- أعني: ما هو خاص بالمكلفين والتكليف-، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك.
فلو عُدِمَ الدينُ عُدِمَ ترتُّبُ الجزاء المرتجى، ولو عُدِمَ المكَلَّف1 لعُدِمَ من يَتَديَّن، ولو عَدِم العقل لارتفع التديُّن، ولو عُدِمَ النسلُ لم يكن في العادة بقاء، ولو عُدِمَ المالُ لم يبقَ عيشٌ- وأعني بالمال ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه2، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا، وأنها زاد للآخرة.
وإذا ثبت هذا، فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى، إذ هي تتردد على الضروريات، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشتقات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط.
وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع، وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: النفس.
2 هذا التعريف يعرف المال انطلاقا من كون المال محل الملك، والملك- الذي هو في حقيقته اختصاص- لا يتعلق إلا بما له قيمة بين الناس، وإلا، فلا معنى للاختصاص به، فأساس المالية هو العلاقة التي تقوم بين الناس والشيء، وذلك لحاجة الانتفاع به بوجوه الانتفاع المشروعة وانظر: "الفروق" "2/ 208".(4/33)
ص -33-…ومضطجعا، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته، وكذلك ترك المسافر الصوم وشطر الصلاة، وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك، فإذا فُهِمَ هذا؛ لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية، وهكذا الحكم في التحسينية، لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري، فإذا كملت ما هو ضروري، فظاهر، وإذا كملت ما هو حاجي، فالحاجي مكمل للضروري، والمكمل للمكمل مكمل، فالتحسينية إذا كالفرع للأصل
الضروري ومبني عليه.
بيان الثاني:
يظهر مما تقدم، لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه، لزم من اختلاله اختلال الباقيين، لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى1.
فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة، لم يمكن اعتبار الجهالة والغرر، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص؛ لم يمكن اعتبار المماثلة فيه، فإن ذلك من أوصاف القصاص، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف، وكما إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة، لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها، أو التكبير،أو الجماعة، أو الطهارة الحديثة أو الخبيثة، ولو فرض أن ثَمَّ2 حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر، ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر، كان هذا فرض محال، ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع3 لها ومكمل، من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك، لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض، فلا يصح أن يقال: إن أصل الصلاة هو المرتفع، وأوصافها بخلاف ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ط: "الأولى".
2 في "م": "تم".
3 في الأصل: "ثابت".(4/34)
ص -34-…وكذلك نقول: إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا، أو الصيام كذلك، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار، والنهي عن الصيام في العيد، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي، من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع، لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها، فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل.
ولا يقال: إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الاعتبار، فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا، وإذا لم تكن منهيا عنها على الإطلاق، لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له، فلا يلزم من اختلال الأصل اختلال الفرع كما أصلت.
وأيضا، فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة، كالطهارة مع الصلاة، وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد، كجر الموسى في الحج على رأس من لا شعر له، فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها، فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل.
لأنا نقول: إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران:
* اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة.
* واعتبار من حيث أنفسها.
فأما اعتبارها من الوجه الثاني، فليس الكلام فيه، وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة، وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف، ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف، إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا، فكذلك ما كان في الاعتبار مثله، فإذا كان كذلك، لم يصح القول ببقاء المكمِّل مع انتفاء المكمَّل، وهو المطلوب،(4/35)
ص -35-…وكذلك الصوم وأشباهه.
وأما مسألة الوسائل، فأمر آخر، ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله1، فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء القصد2، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها3، فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها، وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر، فلا امتناع في هذا، وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على رأس4 من لا شعر له5.
وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموسى على من ولد مختونا بناء على أن ثَمَّ ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه، وإلا، لم يصح فالقاعدة صحيحة، وما اعترض به لا نقض فيه عليها، [والله أعلم بغيبه وأحكم]6.
بيان الثالث:
أن الضروري مع غيره كالموضوف مع أوصافه، ومن المعلوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كطلب أنواع الطهارة لأجل الصلاة، لا يبقى هذا الطلب إذا ارتفع طلب الصلاة. "د".
2 أي: ببقاء طلبها، أي: فإذا دل دليل على طلبها بقطع النظر عن اعتبارها وسيلة إلى مقصد آخر، فذلك لا مانع منه أن يكون الشيء مقصودا لنفسه ومقصودا ليكون وسيلة لغيره باعتبارين، فالوضوء مثلا عبادة مقصودة في نفسها، ووسيلة إلى مقصود آخر هو الصلاة والطواف ومس المصحف وهكذا، فقد لا يكون طواف ولا غيره ويبقى الوضوء مطلوبا، ولكن الكلام في وسيلة اعتبرت وصفا للغير، فباعتبار هذا الوصف متى سقط المتوسل إليه بها بطل طلبها من هذه الجهة التي تعتبر فيها مكملة لغيرها. "د".
3 هكذا في الأصل، وفي "د" و"خ" و"ط": "المقصد".
4 في "د": "شعر"، وهو خطأ.
5 قال القرافي في الفرق "الثامن والخمسين" "القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس ما لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا، فهو مشكل على القاعدة". "خ".
6 ليست في الأصل، ولا في "ط".(4/36)
ص -36-…أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه، فكذلك في مسألتنا لأنه يضاهيه.
مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها1 لأمر، لا يبطل أصل الصلاة.
وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر، لا يبطل أصل البيع، كما في الخشب، والثوب المحشو، والجوز، والقسطل، والأصول المغيبة في الأرض، كالجزر واللفت، وأسس الحيطان، وما أشبه ذلك2.
وكذا3 لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص، لم يبطل أصل القصاص، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف [بها]4، كذلك ما نحن فيه، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءًا من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما [نقول]5 في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها، هذا لا نظر فيه، والوصف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مما ليس ركنا فيها كما يأتي بيانه. "د".
2 أكثر البيوع لا تخلو عن الغرر اليسير، ولهذا كان من المعفو عنه، وقيد الإمام المازري العفو بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك اليسير غير مقصود، وثانيهما أن تدعو إليه الضرورة، وقدح ابن عبد السلام في هذا الشرط بأنه يقتضي أن تكون أكثر البيوع رخصة وهو باطل، وأجاب الشيخ ابن عرفة بأن الرخصة ما شرع عند الحاجة خاصة كأكل الميتة، وأما ما جاء عند الحاجة لكل الناس وفي كل الأزمنة، فليس برخصة "خ".
3 في الأصل: "وكذلك".
4 ليست في الأصل.
5 سقطت من "د".(4/37)
ص -37-…الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من الحاجيات، بل هو1 من الضروريات.
لا يقال: إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية أن لا تكون في دار مغصوبة، وكذلك الذكاة من تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبه، ومع ذلك، فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف، لأنا نقول: من قال بالصحة في الصلاة والذكاة، فعلى هذا الأصل المقرر بنى، ومن قال بالبطلان فبنى2 على اعتبار هذا الوصف كالذاتي، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها، من حيث كانت أركانها كلها- التي هي أكوان- غصبا، لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة، وتحريم الغصب3 إنما يرجع إلى تحريم الأكوان، فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها، كالصلاة في طرفي النهار4، والصوم في يوم العيد5.
وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها لأن العمل بها غصب، كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه، فصار أصل الذكاة منهيا عنه، فعاد البطلان إلى الأصل بسبب بطلان وصف 6 ذاتي بهذا الاعتبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة بدلا من "بل هو": "ولا".
2 في "ط": "فبناء".
3 هكذا في الأصل، و"ط" ونسختي "م" و"خ"، وفي "د": "الأصل".
4 سيأتي ذلك "ص 516".
5 ورد النهي في أحاديث كثيرة أشهرها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799، 800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر.
وستأتي في الباب أحاديث أخر عند المصنف، انظر: "3/ 404، 469".
6 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "أصل ذاتي".(4/38)
ص -38-… ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور، إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي، وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به1.
بيان الرابع من أوجه:
أحدها:
أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار، فالضروريات آكدها، ثم تليها الحاجيات والتحسينات، وكان2 مرتبطا بعضها ببعض، كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالمخل بما هو مكمِّل كالمخل بالمكمَّل من هذا الوجه.
ومثال ذلك الصلاة، فإن لها مكملات وهي ما3 سوى الأركان والفرائض، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان، لأن الأخف طريق إلى الأثقل.
ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام: "كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 باعتبار الاختلاف في وصفية هذه الفروع لأصلها: هل هي أوصاف مكملة أم أوصاف ذاتية "د"
2 كذا في "د" و"خ" و"ط"، وفي الأصل و"م": "كانت".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "هنا"
4 قطعة من حديث أوله: "إن الحلال بين وإن الحرام بين...." وفيه: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219- 1220/ رقم 1599"عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه.(4/39)
ص -39-…وفي الحديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"1.
وقول من قال: "إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أخرقها"2.
وهو أصل مقطوع به متفق عليه، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب.
فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات؛ فإذًا قد يكون في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم، 12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314/ رقم 1687"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب قطع السارق، باب تعظيم السرقة، 8/ 65"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الحدود، باب حد السارق، 2/ 862/ رقم 2583"، وأحمد في "المسند" "2/ 253" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقد جرى المصنف في تأويل هذا الحديث على معنى أن من يمد يده إلى سرقة الشيء الحقير لم يلبث أن يتعدى به إلى ما كان أعظم، فصح أن يعد سارق البيضة والحبل بمنزلة من وقع في سرقة المقدار الذي تقطع فيه اليد، وهذا غير تأويله على أن المراد المبالغة في التنفير من السرقة على شاكلة "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة".
2 في النسخ المطبوعة: "ولا أحرمها" والتصويب من الأصل و"ط"،وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "الزهد" "رقم 320" من طريق مالك، بلغه أن عبد الله بن عمر قوله، وإسناده منقطع، ونسبه لابن عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 209".
وأخرج البلاذري في "أنساب الأشراف" "ص 201- أخبار الشيخين" بسند ضعيف عن عمر، قال: "ولقد تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام".(4/40)
ص -40-…إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما.
ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق، بحيث لا يأتي بشيء منها، وإن أتى بشيء منها كان نزرا، أو يأتي بجملة منها إن تعددت؛ إلا أن الأكثر هو المتروك والمخَلُّ به، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة، لم يكن في صلاته ما يستحسن، وكانت إلى اللعب أقرب، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله، وكذلك نقول في البيع: إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة؛ أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود، فكان وجود العقد كعدمه، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده، وكذلك سائر النظائر.
والثاني:
أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه، وكذلك قراءة السورة، والتكبير، والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة، وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس، ولا مملوك للغيرن ولا مفقود الزكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البنية، وإحياء النفس كالنفل، وكذلك كون المبيع معلوما، ومنتفعا به شرعا، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة.
وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبًا بالكل؛ فالإخلال بالمندوب مطلقًا يشبه الإخلال بركن1 من أركان الواجب؛ لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب، ولو أخل الإنسان بركن من أركان الواجب من غير2 عذر بطل أصل الواجب، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به فمن هذا الوجه أيضا يصح أن يقال: إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالركن".
2 في "د": "بغير".(4/41)
ص -41-…والثالث:
أن مجموع الحاجيات والتحسينات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات1، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة، من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني2 العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول، مكملة الأطراف، حتى يستحسن ذلك أهل العقول، فإذا أخل بذلك، لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت3، واتصف بضد ما يستحسن في العادات، فصار الواجب الضروري متكلف العمل، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة، وذلك ضد ما وضعت عليه، وفي الحديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"4، فكأنه لو فرض فقدان المكملات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر فيما سبق "1/ 206" أن الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية، فقد يكون الفعل مباحًا بالجزء لكنه واجب أو مندوب بالكل.... وبهذا الميزان قرر هذا الكلام، وشبيه به نجده عند الجويني في "البرهان" "2/ 923" حيث يرى مثلا أن البيع يعتبر من الضروريات بالنظر إلى العموم، بحيث "إن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم، لجر ذلك ضرورة ظاهرة، فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة"، أي أنه من حيث الجزء "بالنسبة للفرد للواحد"، إنما هو من الحاجيات، ولكنه بالنسبة إلى مجموع الناس أمر ضروري، فهذه الفكرة عند الجويني بذرة، وعند المصنف شجرة، إذ صقلها ووضحها وطورها ووسعها.
2 في "ط": "محاسن".
3 في "خ": "الحرج والمشقة".
4 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "7/ 188" و"الأدب المفرد" "رقم 273".(4/42)
وأحمد في المسند" "2/ 381ط، والبرجلاني في "الكرم والجود" "رقم 1" وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" والبزار في "مسنده" "رقم 2470- زوائده"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "13"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 613"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 191-192" و"الشعب" "6/ 230، 231"، والسمعاني في "أدب الإملاء" "ص 25".
وتمام في "الفوائد" "رقم 1070- ترتيبه"، جميعهم من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
وإسناده حسن، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 15" والسخاوي في "المقاصد الحسنة"، "ص 105": "رجاله رجال الصحيح".
قلت: ابن عجلان فيه كلام يسير لا يضر إن شاء الله تعالى.
وذكره مالك في "الموطأ" "2/ 904" بلاغا، وقال ابن عبد البر: "وهو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره
مرفوعا".
وأخرجه بلفظ المصنف الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 119" من حديث جابر بسند ضعيف.(4/43)
ص -42-…لم يكن الواجب واقعًا على مقتضى ذلك، وذلك خلل في الواجب ظاهر، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعًا في بعض ذلك1 وفي يسير منه، بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه، فذلك لا يخل به، وهو ظاهر.
والرابع:
أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس [به]2 ومحسن لصورته الخاصة، إما مقدمة له، أو مقارنًا، أو تابعا، وعلى كل تقدير، فهو يدور بالخدمة حواليه، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته.
وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون، ثم يدخل فيه على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن؛ لأن الجميع3 كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبر وسبح وتشهد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدم قبلها نافلة، كان ذلك تدريجا للمصلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بحيث لا يقال فيه: إنه اختل بإطلاق، كما هو أصل الدعوى. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "د" و"ط".
3 في "م": "الجمع".(4/44)
ص -43-…واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا، لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة.
ومن1 الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان.
فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره، لكان خللا فيها، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها.
بيان الخامس: ظاهر مما تقدم؛ لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة؛ ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنة إلا بها، كان من الأحق أن لا يخل بها.
وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع، فهي أصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وفي".(4/45)
ص -44-…المسألة الخامسة:
المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين:
- من جهة مواقع الوجود.
- ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
فأما النظر الأول، فإن المصالح الدنيوية -من حيث هي موجودة هنا- لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح1 ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها،كالأكل، والشرب، واللبس، والسكنى، والركوب، والنكاح، وغير ذلك2، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب.
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير، ويدلك على ذلك ما هو الأصل، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك3، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تعريفها وأقسامها: "روضة الناظر" "1/ 412"، و"المستصفى" "1/ 286"، و"قواعد الأحكام" "1/ 11-12"، و"إرشاد الفحول" "215".
2 أي: مثل اكتساب المعارف الذي يقتضيه وصفه العقلي. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 124" زيادة: "لا من كدرها عن صفائها، ولا من صفائها عن كدرها".(4/46)
ص -45-…قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحديث: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"1، فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى.
فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروب عنه، ويقال: إنه2 مفسدة، [وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة] على ما جرت به العادات في مثله، فإن خرج عن مقتضى العادات، فله نسبة أخرى3 وقسمة غير هذه [القسمة]4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب منه، 4/ 2174/ رقم 2823"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال "خ" تعقيبًا على الحديث: "طبعت النفوس على داعية حب الراحة والانغماس في اللذائذ ولكن المعالي والشرف لا تنال إلا باقتحام مصاعب هذه الحياة والخوض في معامع الأخطار، فسعادة الأرواح تكون على قدر ما تحتمل من المتاعب وتقاسيه من آلام مخالفة الهوى، وقد رسم الشارع لها في هذا السبيل حدودًا حجر عليها أن تتعداها، وفوض ما يعدو ذلك إلى همم المكلفين ليتسابقوا في مغالبة الدواعي الزائغة ومصارعه ما يلاقونه من الشدائد".
2 في "خ" ونسخة "ماء/ ص 125": "إنما".
3 وهي غير ما يأتي الكلام عليها في الفصل بعده؛ لأنه باعتبار تعلق الخطاب لا من حيث مواقع الوجود. "د".(4/47)
4 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"د".(4/48)
ص -46-…هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية1.
وأما النظر الثاني2 فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعًا فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه., وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي
فيمثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة3 غير مشوبة بشيء من المفاسد4، لا قليلا ولا كثيرا، وإن توهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 48-61" و"شرح تنقيح الفصول" "78"، و"قواعد الأحكام" "1/ 7"، وقال فيه: "إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود". وفي ط: "أو المفسدة الدنيوية...".
2 سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثانية. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 126" زيادة: "ولا من المصالح".
4 لأنه إنما نظر فيها إلى الجهة الغالبة لا غير، وألغى مقابلها، فلا التفات إليه، وكأنه عدم؛ لأنه غير جار في الاعتياد الكسبي الذي جعله الشرع ميزانا للمصلحة والمفسدة. د.=(4/49)
ص -47-…أنها مشوبة، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة1 أو المفسدة المغلوبة2 إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة، وهذا المقدار3 هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام.
والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
أن الجهة المغلوبة4 لو كانت مقصودة للشارع -أعني: معتبرة عند الشارع-، لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، ولا منهيا عنه بإطلاق، بل كأن يكون مأمورا به من حيث المصلحة، ومنهيا عنه من حيث المفسدة، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك.
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: إلغاء المصلحة المرجوحة بحيث تجعل كأنها غير موجودة ولا قيمة لها هو رأي ابن الحاجب، وذهب الرازي وجماعة منهم البيضاوي أن النفع وإن كان قليلًا يسمى نفعا، لوجود الحقيقة فيه، فالمفسدة وإن كانت راجحة لا تجعل النفع ضررا؛ لأن قلب الحقائق لا يكون بالاعتبار، وإنما يكون بذهاب الحقيقة بذهاب أجزائها كلها، وما دام النفع باقيا، فالحقيقة لا تزال موجودة، ولكن الحكم لا يشرع عند وجود المفسدة الراجحة أو المساوية، فالخلاف إذن لفظي، ولا ثمرة فيه. وفي "ط": شرعا والمفاسد....".
وانظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص 126-127"، و"إعلام الموقعين""3/ 1 وما بعدها"، والسياسة الشرعية" "ص 6 وما بعدها" لعبد الوهاب خلاف، و"تعليل الأحكام" "ص 307 وما بعدها" لمصطفى شلبي، وانظر في معنى ما عند المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 106-107"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 14 وما بعدها".
"1و 2 لعل الأصل: "الغالبة" فيهما. د.
3 وهو الخارج الزائد عن حالة الاعتياد الكسبي. "د".
4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الجهالة المعلومة"، ولا معنى لها، وصوب ما أثبتناه محققا "د" و"م".(4/50)
ص -48-…الكفر، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها، وما أشبه ذلك، فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه، من جهة ما فيه من كسر النفس عن1 إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها، وكأن الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكاليف2، وتمتعها بالشهوات من غير خوف، مأمورًا به أو مأذونا فيه؛ لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة، وكل هذا باطل محض، بل الإيمان مطلوب بإطلاق، والكفر منهي عنه بإطلاق، فدل [هذا]3 على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا.
والثاني:
أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا، لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق، وهو باطل شرعا، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا، فمعلوم في الأصول، وأما بيان الملازمة، فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا، والجهتان غير منفكتين، لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد4 الأمر والنهي معا فقد قيل له: "افعل" "ولا تفعل" لفعل واحد، أي من وجه واحد في الوقوع، وهو عين تكليف ما لا يطاق.
لا يقال: إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها، ولكن مأذونا فيها، فلا يجتمع الأمر والنهي معا، فلا يلزم المحظور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "من".
2 في "د" و"خ": "التكليف"، وفي الأصل: "غير التكليف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د".
4 في "ط": "تولد".(4/51)
ص -49-…لأنا نقول: إن هذا لا يطرد في جميع المصالح، فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها، يصح أن تكون مأمورا بها، وإن سلم ذلك، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا، فإن التخيير مناف لعدم التخيير، وهما واردان على الفعل الواحد، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به1، وهو ما أردنا بيانه، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة، لإمكان الإنفكاك بأن يصلي في غير الدار، وهذا ليس كذلك.
فإن قيل: إن هذا التقرير2 مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل، وإنما المقصود الخير، فإذا3 خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره، فالخير هو الذي خُلِقَ الخلق لأجله، ولم يخلق لأجل الشر، وإن كان واقعا به، كالطبيب عندهم إذا سقى المريضَ
الدواء المر البشع المكروه، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو والراحة، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو
المتآكل، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار، فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت: إن الشارع -مع قصده التشريع لأجل المصلحة- لا يقصد وجه المفسدة، مع أنها لازمة للمصلحة4.
وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة، تعالى الله عن ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قيد بهذا حتى لا يعترض بأن إيقاعه لا ينافي التخيير كما لا ينافي الطلب، أما عدم إيقاعه، فهو الذي ينافي مقتضى الطلب فقط، فالتنافي فيه إنما يحصل مع اعتبار هذا القيد. "د".
2 هكذا في الأصل و"ط"، و في "د": "التقدير"، وقال محققها: لعلها "التقرير".
3 في "م": "فإن".(4/52)
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207- 211و 14/ 299- 302".(4/53)
ص -50-…علوا كبيرا1
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في القصد التشريعي، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق2 حسبما تبين في موضعه، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك، وإن كان واقعا [في] الوجود3، فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء، وحكم التشريع أمر آخر، له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع، أو عدم الوقوع، وإنما هذا قول المعتزلة، وبطلانه مذكور في علم الكلام، فالقصد التشريعي شيء، والقصد الخلقي شيء آخر، لا ملازمة بينهما.
فصل:
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة4 عن حكم الاعتياد، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع، ففي ذلك نظر، ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى صاحب "إيثار الحق على الخلق" [ص 277] أن الشهرستاني ذكر في كتاب "نهاية الإقدام" أن إرادة الله لا يصح أن تتعلق إلا بأفعاله دون كسب العباد من طاعة أو معصية، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن الإرادة تتعلق بالمعاصي، ولما ورد عليهم أن الله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}، والمكروه لا يكون مرادا، أجابوا بأن الكراهة تتعلق بذوات المعاصي الصادرة عن العصاة، والإرادة تتوجه إليها من جهة الحكمة المترتبة عليها. "خ".
2 في "ط": "على الإطلاق".
3 في "د": "بالوجود".
4 أي: بأن تكون مترددة بين الطرفين، وتعارضت فيها الأدلة، "د".(4/54)
ص -51-…مثاله أكل الميتة للمضطر، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا، وقتل القاتل، وقطع القاطع؛ وبالجملة العقوبات والحدود- للزجر، وقطع اليد المتأكلة1، وقلع الضرس الوجعة، والإيلام بقطع العروق والفصد وغير ذلك للتداوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي [لو]2 انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة، فلا يخلو أن تتساوى الجهتان، أو تترجح إحداهما على الأخرى.
فإن تساوتا، فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعل هذا غير واقع في الشريعة، وإن فرض وقوعه، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا: طرف الإقدام، وطرف الإحجام، فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما، إذ قد فرضنا أن3 توارد الأمر والنهي معا، وهما4 علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى، ولم يتعين ذلك للمكلف، فلا بد من التوقف5.
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى، فيمكن أن يقال: إن قصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالتشديد.
2 زيادة من "خ".
3 لعل كلمة "أن" زائدة، وقد فرض ذلك بقوله: "وبالجملة كان ما تعارضت فيه الأدلة". "د".
4 في الأصل: "وما معه"، وفي "خ" و"ط": "وهما معا".
5 أي: أو التخيير كما ذكروه عند تعارض الأدلة وتساويها. "د".(4/55)
ص -52-…الشارع متعلق1 بالجهة [الراجحة -أعني في نظر المجتهد- وغير متعلق بالجهة]2 الأخرى، إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح، [ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان، فيجب التوقف3، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح]4، ويمكن أن يقال: إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح5 عندنا أنه مقصود للشارع، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر، فالراجحة -وإن ترجحت- لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين، وغير مطرح في النظر، ومن هنا نشأت6 قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل صوابها غير متعلق، يعني: وحينئذ، فليس للشارع إلا جهة واحدة تقصد بالطلب، فمن أصابها أصاب وله أجران، ومن أخطأها فقد أخطأ وله أجر، وهذا القول للمخطئة. "د".
2 زيادة من الأصل و"ط" ونسخة "ماء/ ص 127"، وسقطت من النسخ المطبوعة، وبهذا يظهر عدم الحاجة إلى تعليق "د" السابق.
3 في النسخ المطبوعة: "الوقف".
4 سقطت من الأصل.
5 فالحكم الشرعي بالنسبة للمجتهد ومن يقلده هو ما انقدح في نفس المجتهد، وحينئذ يمكن تعدد الحكم الشرعي في الواقعة الواحدة، وهذا هو رأي المصوبة حيث قالوا: إن كل صورة لا نص فيها ليس لها حكم معين عند الله، بل ذلك تابع لظن المجتهد، وعلى هذا يكون الإمكان الثاني مبنيا على قاعدة المصوبة والإمكان قبله على قاعدة المخطئة، فلعل في النسخة تحريفا فيما يأتي له بعد."د".
6 لأنه لولا أنه يجوز أن تكون الجهة الأخرى معتبرة، ما كان لمن بيده دليل قائم على إحدى الجهتين أن يراعي الجهة الأخرى، ويبني عليها حكما. "د".
7 مراعاة الخلاف هي إعمال المجتهد لدليل خصمه في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه دليلا آخر، وقد اعترضه القاضي عياض بوجهين:
أحدهما:(4/56)
أنه مخالف للقياس الشرعي، إذ يجب على المجتهد أن يجري على مقتضى دليله ومراعاة الخلاف جرى على خلاف ما يقتضيه الدليل.
ثانيهما:
أنه غير متطرد في كل مسألة خلاف، وتخصيصه ببعض مسائل الخلاف تحكم أي ترجيح بلا مرجح، وقد اعتنى المصنف بهذه المسألة، فكتب فيها إلى الشيوخ سؤالا ومراجعة، وسيوافيك بحثها مبسوطا في هذا الكتاب. "خ".
قلت: انظره في آخر المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الاجتهاد.(4/57)
ص -53-…والإمكان الأول جار1 على طريقة المصوبين، والثاني جار2 على طريقة المخطئين.
وعلى كل تقدير، فالذي تلخص3 من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا4 عند اجتماعها مع الجهة الراجحة، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد فكان تكليفا بما لا يطاق، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها، سواء علينا أقلنا: إن كل مجتهد مصيب أم لا، فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جارية على الاعتياد أو خارجا عنه، فالقياس مستمر، والبرهان مطلق في القسمين، وذلك ما أردنا بيانه.
فإن قيل: أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني، فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين.
فالجواب أنّ القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول، فإذا ناقضه، لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2" علمت ما فيهما. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "يلخص".
4 أي: في التكليف، لأن هذا هو محل الاتفاق، وهو مناط الاستدلال بعده. "د".(4/58)
ص -54-…المسألة السادسة:
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين: دنيوية، وأخروية، وتقدم الكلام على الدنيوية، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية، فنقول: إنها على ضربين:
أحدهما:
أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر، كنعيم أهل الجنان، وعذاب أهل الخلود في النيران، أعاذنا الله من النار وأدخلنا الجنة برحمته.
الثاني:
أن تكون ممتزجة، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين، في حال كونه في النار خاصة، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول، وهذا كله حسبما جاء في الشريعة، إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال، وإنما تتلقي أحكامها من السمع.
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر، لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود1، ولا محل الإيمان2، وتلك مصلحة ظاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل السجود، 2/ 292- 293/ رقم 806، وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/ 444- 445/ رقم 6573، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، 13/ 419- 420/ 7437"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 163- 166/ رقم 182" عن أبي هريرة ضمن حديث مرفوع طويل جدا، فيه: ".... فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود".
وفي لفظ البخاري: "فكل ابن آدم تأكله النار، إلا أثر السجود".
2 في هذا يحتاج لدليل! "استدراك1".(4/59)
ص -55-…وأيضا، فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم1، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة، فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن2 الإيمان والأعمال الصالحة، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما، حاصلة له مع التعذيب، فهي تنفس عنه من كرب النار، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة، من استقرأها ألفاها.
وأما كون الأول محضا، فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة، كقوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75].
وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الآية [الحج: 19]
وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74].
وهو أشد ما هنالك، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة.
وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، 4/ 2185" عن سمرة مرفوعا: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه".
وفي لفظ: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته".
وفي لفظ: "حقويه" مكان "حجزته".
وفي "صحيح مسلم "رقم 185" عن أبي سعيد ضمن حديث: "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم".
وانظر: "الباب الثامن والعشرين في ذلك حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين" من كتاب ابن رجب: "التخويف من النار" بتحقيقنا يسر الله إتمامه ونشره، ففيه كثير من الأحاديث تدل على ما ذكره المصنف، والله الموفق.
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "من".(4/60)
ص -56-…مفسدة، كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ...} إلى قوله: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 45- 48]
وقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
إلى غير ذلك مما هو معلوم.
وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة: "أنت رحمتي"، وفي النار: "أنت عذابي1" 2، فسمَّى هذه بالرحمة مبالغة، وهذه بالعذاب مبالغة.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح3 مع أنه من المخلدين، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها، كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها4، وإذا كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 128" زيادة: "أي: أهل حزن وسكت على الغم".
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير،، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، 8/ 595/ رقم 4850"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2186/ رقم 2846" عن أبي هريرة: وفيه: "قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي" لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء"، وأوله: "تحاجت الجنة والنار......".(4/61)
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193/ رقم 3883، وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417/ رقم 6564"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، 1/ 195/ رقم 210" عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغة" وفي "ط": "أنه منها في ضحضاح".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلام} "10/ 30 /5575" ومسلم في صحيحه، "كتاب الأشربة" "كتاب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يكن منها" "3/ 1588 رقم 2003" عن ابن عمر مرفوعا: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة".(4/62)
ص -57-…دركات الجحيم -أعاذنا الله منها- بعضها أشد، فالذي دون الأشد أخف من الأشد، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما.
وأيضا، فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه، وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما، فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر، فإن الجزاء على قدر1 العمل، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة، كان الجزاء على تلك بالنسبة، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله [تعالى]2 ودأب على الطاعات عمره، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة، وهذا معنى ممازجة المفسدة، فإذا كان كذلك، فالقسمان معا قسم واحد3.
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه، هذا مقتضى نقل الشريعة، نعم، العقل لا يحيل ذلك، فإن أحوال الآخرة ليست4 جارية على مقتضيات العقول، كما أنه لا يصح أن يقال في النار: إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما، ولذلك قال تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "حسب".
2 زيادة من خ".
3 لا بد فيه من الامتزاج كحالة الدنيا. "د".
4 في "ط": "غير".(4/63)
ص -58-…فلا حالة1، هنالك يستريحون2 إليها وإن قلت، كيف وهي دار العذاب؟! عياذا بالله منها.
وما جاء في حرمان الخمر، فذلك راجع إلى معنى المراتب، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد، أما المخرج إلى الضحضاح، فأمر خاص، كشهادة خزيمة3، وعناق أبي بردة4، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية، غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى.
وذلك أن المراتب- وإن تفاوتت- لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد، ومعنى هذا أنك إذا قلت: "فلان عالم"، فقد وصفته بالعلم، وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله، فإذا قلت: "وفلان فوقه في العلم"، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما، فكذلك إذا قلت: "مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء"، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ولا غضا من المرتبة بحيث يداخله ضده، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "حجة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ليستريحوا".
3 أي: حين شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة التي أنكرها الأعرابي، فجعل شهادته بشهادة اثنين كما في حديث أبي داود والنسائي. "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص 469".
4 أي: التي كانت دون السن المجزئة في الضحية، وصرح بأنها لا تجزئ لغيره كما في حديث البخاري. "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص 410".(4/64)
ص -59-…لا نقص فيه، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم. كل في العذاب لا يداخله راحة، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض.
ولأجل ذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير دور الأنصار، أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة"، ثم قال: "وفي كل دور الأنصار خير"1 رفعا لتوهم الضد، من حيث كانت أفعل التفضيل قد تستعمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789, 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار"، 10/ 471/ رقم 6053" وفي "التاريخ الكبير" "7/ 299"، ومسلم في "صحيحه "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، والطيالسي في "المسند" "2/ 136- مع المنحة"، والترمذي في "جامعه" "أبواب المناقب، باب في أي دور الأنصار خير، 5/ 716- 717/ رقم 3911"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "الكبرى"، كما في "التحفة" "8/ 341"، ومن طريقه ابن حيويه في "من وافقت كنيته" "41- بتحقيقي"، وأحمد في "المسند" "3/ 497"، و"فضائل الصحابة" "2/ 805/ رقم 1450و 1453"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 371" عن أبي أسيد الساعدي.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "9/ 439"، والترمذي في الجامع" "5/ 716"، وأحمد في "فضائل الصحابة" "2/ 801و 803- 804"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "6/ 354" من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "4/ 1951/ رقم 2512"، ومعمر في "الجامع" "11/ 61/ رقم 19910"، وأحمد في "المسند" "2/ 267"، و"فضائل الصحابة" "2/ 800/ رقم 1436" من حديث أبي هريرة.(4/65)
وله شاهد آخر عن أبي حميد الساعدي، كما عند البخاري في "الصحيح" "3/ 344/ رقم 1481و 7/ 115/ رقم 3791"، ومسلم في "الصحيح" "4/ 1785/ رقم 1392".
ووقع اختلاف في تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل في بعض الروايات، ورجح الحافظ في "الفتح" "7/ 116" تقديم بني النجار بناء على أن أنسا من بني النجار، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم.(4/66)
ص -60-…على ذلك الوجه، كقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16] ونحو ذلك، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول، ولو قصد ذلك، لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر، فإن في آخره: فلحقنا سعد بن عبادة، فقال: ألم تر أن نبي الله خير الأنصار، فجعلنا خيرا؟ فقال: "أوليس بحسبكم أنْ تكونوا من الأخيار؟"1، لكن التقديم في الترتيب يقتضي [رفع المزية، ولا يقتضي]2 اتصاف المؤخر بالضد، لا قليلا ولا كثيرا.
وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص، وبين الأنواع، وبين الصفات، وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} [البقرة: 253].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار"، 10/ 471/ رقم 6053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، عن أبي أسيد الساعدي.
قلت: هكذا الرواية في الأصول، وفي "صحيح البخاري" "3791": "فجعلنا آخرا". وسعد هنا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "..... الخيار".
والخيار هكذا في الأصل و"ط".
وقلت: وعلق عليه في "خ": "وقعت المفاضلة بين الأنصار بحسب السبق في الإسلام وعلى قدر تفاوتهم في نصرة الدين وإعلاء كلمته، وكذلك نظر الشارع لا يعتد بوجه من الوجوه التي يذكرها الناس في قبيل الشرف سوى العمل الصالح، ولا سيما ما يكون له أثر في تخليص الجماعات من ظلمات الباطل ورفع شأنهم إلى مستوى الحرية والسيادة".
2 ساقط من الأصل.(4/67)
ص -61-…{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]
وفي الحديث: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"1.
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع، وهذا معنى حسن جدًّا، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة، كالتفضيل بين الأنبياء2 عليهم الصلاة والسلام، وزيادة الإيمان ونقصانه، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، 4/ 2052/ رقم 2664" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومضى تخريجه "1/ 356".
2 فالأنبياء مثلا متساوون في حقيقة النبوة، فليس يفضل بعضهم بعضا فيها، إنما التفاضل بالمزايا من كثرة الأتباع والمهتدين، ومن التفوق في الصبر على ما لاقوا في هذا السبيل، حتى عد بعضهم من أولى العزم، وكذا يقال في الإيمان: زيادته ونقصه ليست في نفس الحقيقة، وإنما هي بالمزايا والثمرات وهكذا. "د".
قلت: سيأتي تفصيل هذه المسألة في الطرف الثاني من "الفتوى" في المسألة الثالثة.(4/68)
ص -62-…المسألة السابعة:
إذا1، ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك1 على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل2 أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن3 الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع4 الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها، والحمد لله.
وأيضا، فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة، لا تختص على الجملة، وإن تنزلت إلى الجزئيات، فعلى [وجه]5 كلي، وإن خصت بعضا، فعلى نظر الكلي6، كما أنها إن كانت كلية، فليدخل تحتها الجزئيات، فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات، [وتنزله للجزئيات]7 لا يخرم كونه كليا، وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع، وكمال النظام فيه يأبي أن ينخرم ما وضع له، وهو المصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمجموع ما تقدم من أول كتاب المقاصد ثبت أن الشارع..... إلخ، فإذن منونة، وزاد هنا التصريح بكون ذلك أبديا وكليا وعاما لا يختل نظامها. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "تخل"، وما أثبتناه من الأصل ونسخة "ماء/ ص 129".
3 في نسخة "ماء/ ص 129": "ولكن".
4 في النسخ المطبوعة و"ط": "......... والمكلفين وجميع الأحوال"،وما أثبتناه من نسخة "ماء"والأصل.
"5, 7" سقط من الأصل.
6 في "ط": "الكل".(4/69)
ص -63-…المسألة الثامنة:
المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى1، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله2، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يلزم أن تقيد المسألة الخامسة بهذا حتى لا يتنافى مع ظاهر الكلام هناك في النظر الأول والثاني الذي انبنى عليه، فإنه قال في الأول: "وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان في نفسه.... إلخ" وقال بعد: "إن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يلحقها رفق ونيل لذات"، ثم قال: "فالمصالح والمفاسد إنما تفهم على مقتضى ما غلب" ثم قال في النظر الثاني: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب"، فقد بنى المصلحة والمفسدة على ما غلب منهما باعتبار قيام الحياة ونيل الشهوات التي تقتضيها أوصاف الإنسان الشهوانية، فجعلها مما ينبني عليه كونها مصلحة تطلب أو مفسدة تدفع، وهنا يقول: إن مجرد كونها مصلحة في نظر الشخص لا تعتبر، والمعتبر أن تكون بحيث تقوم بها الحياة الدنيا للأخرى، وذلك طبعا لا يكون إلا تبعا لرسم الشرع الذي يعلم المصلحة من هذه الحيثية موفقا بينها وبين ما أجراه في سنة الوجود. "د".
قلت: ما أحسن ما قاله العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 8": "ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا".
2 أي: اختيارا، كما أنهم عبيد له اضطرارا. "د".(4/70)
3 راجع "روح المعاني" في معاني الآية، تجدها كلها مناسبة للاستدلال الذي يريده المؤلف. "د".(4/71)
ص -64-…{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الآية1 [المؤمنون: 71]
والثاني:
ما تقدم معناه2 من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع3، كما نقول: إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عرض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، وكذلك4 إذا قلنا: الأكل والشرب فيه إحياء النفوس، وفيه منفعة ظاهرة، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفي استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا.
ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس- حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بقيتها أيضا فيه الدليل، فإنه تشنيع عليهم بأنهم أعرضوا عما فيه ذكرهم وشرفهم اتباعا لأهوائهم الباطلة. "د".(4/72)
2 مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة، فهو المصلحة، وما ترجحت فيه المضرة، فهو المفسدة، وأما قوله بعد: "ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة....إلخ"، فهو دعوى أخرى خاصة لا يدل عليها ذلك العام المتقدم، ولذا قلنا: إنه يلزم لصحة الكلام تقييد ما سبق بهذا، فإذا كان محط الاستدلال هو أن العقلاء اتفقوا على أن المعتبر هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس، فذلك يصح أن يكون دليلا، لكن لا حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 130" بعدها: "وهو معني وعكس يتبع".
4 بدلها في نسخة "ماء/ ص 130": "كما".(4/73)
ص -65-…فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة1، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء، فالشرع لما جاء بين هذا كله، وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم.
والثالث:
أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا، وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل، ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل، وهذه الأمور2 قلما تجتمع، فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع، أو تكون ضررا في وقت أو حال، ولا تكون ضررا في آخر، وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة، لا لنيل الشهوات3، ولو كانت موضوعة لذلك، لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء، ولكن ذلك لا يكون، فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء.
والرابع:
أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في خ": "الآخرة".
2 في الأصل و"ط": "أمور".
3 يؤيد ما قلناه من وجود شبه التنافي بين ما هنا وما سبق في المسألة الخامسة حيث يقول هناك: وأعني بالمصلحة..." إلى أن قال: "ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية"، ثم بنى عليه أن ما غلب فيه المنفعة، فهو المصلحة، ولأجلها وقع الطلب. "د".(4/74)
ص -66-…يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب1 أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغرض أو خالفتها.
فصل:
وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد:
- منها: أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي2، إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية.
والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع -وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات3 حتى يكون الانتفاع المعين مأذونا فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص، وغير مأذون فيه إذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء / ص 131": "يثبت".
2 لا مانع أن يحمل الإطلاق في كلام الرازي على أنه بعد التحقق من كونه الشيء منفعة أو مضرة من استقراء مقاصد الشرع يكون الحكم ما قاله من أن المنفعة الأصل فيها الإذن، والمضرة المنع، لا أن مراده أن الأصل في كل ما يطلق عليه أحدهما ولو بوجه من الوجوه يعتبر له حكمه، وهذا الذي أشرنا إليه هو الذي يصح أن يفهم به كلام مثل الإمام الرازي، على أن هذا هو بعينه الذي جرى عليه المؤلف في النظر الثاني في المسألة الخامسة، ولذا قلنا: إنه يلزم أن تكون المسألة الثامنة مقيدة لإطلاق المسألة الخامسة. "د".
قلت: وكلام الرازي في "المحصول" "1/ 158وما بعدها، و 6/ 97 وما بعدها"، وانظر في المسألة: "البرهان" "1/ 99"، والمستصفى" "1/ 41"، و"الإحكام" "1/ 130".
للآمدي، و"الإحكام" "1/ 58/ 68" لابن حزم، و"شرح التنقيح" "ص 92"، و"شرح الكوكب" "1/ 325"، و"سلاسل الذهب" "423- 424"، و"المسودة" "ص 474"، "وتيسير التحرير" "2/ 167" و"نشر البنود" "1/ 27"، و"مذكرة الشنقيطي" "19".
3 لكن على وجه عام كلي كما سبقت الإشارة إليه. "د".(4/75)
ص -67-…على غير ذلك-، فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع؟
وأيضًا، فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد، وكيف يقال: "إن الأصل في الخمر مثلا الإذان من حيث منفعة الإنتشاء والتشجيع1 وطرد الهموم، والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما لا ينفكان2، أو يقال: الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته، والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به وهما غير منفكين؟ فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا، وذلك محال.
فإن قيل: المعتبر عند التعارض الراجح، فهو الذي ينسب إليه الحكم، وما سواه في حكم المغفَل المطرَح.
فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم3، إذ هو دليل على أن المنافع ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء/ ص 131 زيادة: "والتجويد"، ولها وجه قوي لما سيأتي "ص 123" في فوائد الخمر: "وتبعث البخيل على البذل"، وهي في "ط" كذلك.
2 ادعى أبو بكر الجصاص أن في قوله تعالى: {قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} دليلًا كافيًا في تحريم الخمر، وأن عمر بن الخطاب فهم منها وجه التحريم، وإنما قال بعد نزولها: "اللهم بين لنا في الخمر"؛ لأن بعض المسلمين وجدوا للتأويل فيها مساغًا، فتمادوا على تناولها، ويقدح في هذه الدعوى أن الآية لو نزلت لتقرير حكم الحرمة لرجع عمر بن الخطاب بهؤلاء المُؤَوِّلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما نزل إليهم "خ".(4/76)
3 نقول: وهذا أيضًا يشد ما تقدم في الجواب عن الرازي، إذ لا يعقل أن يعني أن كل ما فيه اسم مصلحة ما مأذون فيه كالخمر مثلا، وما فيه مفسدة ما ممنوع كمرارة الدواء، بل ما يعتبر مثله مصلحة أو مفسدة في نظر الشارع، فالاعتراض إن كان بمعنى التنبيه على غرض الرازي، فظاهر، وإلا فلا. "د".(4/77)
ص -68-…أصلها الإباحة بإطلاق، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع، أو نفع ما مندفع.
- ومنها: أن القرافي أورد أشكالًا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه، وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد، فقال:
"المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماها كيف كانا، فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلام ومفاسد في تحصيلها، وكسبها، وتناولها، وطبخها، وإحكامها، وإجادتها بالمضغ، وتلويث الأيدي.... إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه، فمن يؤثر وقيد1 النيران وملابسة الدخان وغير ذلك2؟ فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة.
وإن أرادوا3 ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة، فليس بعضها أولى من بعض؛ ولأن العدول4 عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال، فإنه سفه.
ولا يمكنهم أن يقولوا5: إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2" انظر: "الاستدراك 2".
3 أي: حتى تبقى المباحثات قائمة. "د".
4 أي: فإن أراد المعتزلة الخلوص من هذه الورطة بالعدول عن جعل المصلحة والمفسدة مبنى الحكم بالإذن والمنع، نقضوا مذهبهم المعلل بأنه لو لم يكن هذا البناء، لكان تحكما وسفها وخلوا عن الحكمة، تعالى الله عن ذلك. "د".
5" أي: جوابا عن الإشكال بأن إرادة المطلق الذي هو مسمى المصلحة والمفسدة لا تبقي شيئا من المباح، يعني: فإن قالوا: "نختار هذا المطلق، ولكن باعتبار مجرد توعد الله على الفعل والترك بدون تخصيص، حتى لا يقال: إن مراتب التخصيص ليس بعضها أولى من بعض، وبهذا الاعتبار يبقى المباح قائما ويندفع الإشكال"، نقول لهمك يلزمكم الدور. "د".(4/78)
ص -69-…تركها، وكل مفسدة1 توعد الله على فعلها هي المقصودة، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصدونا، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال؛ لأنا نقول: الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على2 ترك المصالح وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد، لزم الدور3، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد [من الوعيد]، للزمكم4 أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد، وتنعكس الحقائق حينئذ، فإن المعتبر هو5 التكليف، فأي شيء كلف الله به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم".
قال: "وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أنه6 يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل7؛ لأن المباحت فيها ذلك ولم يراع، بل يقولون: إن الله ألغى بعضها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1، 2، 5، 6" انظر: "الاستدراك 3".
3 وتقريره أنهم يقولون: إن العقل يتأتى له الاستقلال بفهم أكثر المصالح والمفاسد، ويأتي الشرع كاشفا ومقررا لما أدركه العقل، ويقولون أيضا: إنه يجب عقلا أن يتوعد الله على ترك المصلحة، فكأنهم يقولون: إن التوعد على ترك المصلحة يفهمه العقل تبعا لإدراكه المصلحة، فلو قالوا: إن إدراك المصلحة يعلم من التوعد الوارد من الشرع، لزم توقف علم المصلحة على التوعد، وقدكان علم التوعد موقوفا على علم المصلحة، وهذا هو الدور بعينه. "د".
4 وذلك؛ لأنهم يقولون: المصالح والمفاسد منضبطة متمايزة، وهي حقيقية لا اعتبارية، فإذا كانت تابعة لاعتبار الشرع أيا كان، فقد ينعكس الأمر فيعتبر الشرع ما ليس كذلك؛ لأنا لم نتقيد حينئذٍ إلا بأنه أمر به أو نهي عنه فقط. "د".(4/79)
7 أي: فقد يفضل مطلق المصلحة في الفعل على ما فيه من مطلق المفسدة فيوجبه، وبالعكس، لا يمكنهم الإجابة بهذا؛ لأن المباحثات فيها المطلقان موجودان، وبقي مباحا لم يوجب ولم يمنع، ولكن يمكنهم الجواب بأنه تعالى ألغى هذه المطلقات في المباحات، فبقي الطرفان كما هما لا إيجاب ولا تحريم، واعتبرها في غير المباحات مفضلا مطلق المصلحة في بعضها، فجعله مطلوبا، ومطلق المفسدة في بعض آخر فجعله محظورا، ولا حجر عليه تعالى في ذلك، هذا إلا أنه يقال عليه: إنه تسليم بأن كون الفعل معتبرًا مصلحة أو مفسدة متوقف على النص بإيجابه أو تحريمه، فالقياس إنما يكون دليلا عند النص على علة القياس واعتباره لها، أما مسالك العلة الأخرى أو بعضها على الأقل، فإنه حينئذ لا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، فتأمله، وهو داخل فيما أشار إليه بقوله: "وإن كان يخل بنمط من الاطلاع..." إلخ. "د". "استدراك 4".(4/80)
ص -70-…في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غير أنهم يقولون: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، و {يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ} [المائدة: 1]، ويعتبر الله ما يشاء، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك1، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا، فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة؛ لأنهم إذا فتحوا هذا الباب2 تزلزلت قواعد الاعتزال". هذا ما قاله القرافي3.
وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها، لم يبق لهذا الإشكال موقع، أما على مذهب الأشاعرة، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك4، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير [إخلال بالخروج5 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لا غيره"، وفي الأصل و"خ": "لا غير وفي ذلك"، وكتب "م": "الذي يظهر لي أن أصل العبارة "لا غير ذلك" يعني إنهم يتمسكون بهذا الكلام، ولا يذكرون غيره"، والمثبت من "ط" و"النفائس".
2 أي: باب أنه يعتبر ما يشاء ويترك ما يشاء، بقطع النظر عن مصلحة ومفسدة. "د".
3 ذكر ذلك في النفائس" "1/ 352-353"، وانظر مناقشته في "شرح الأسنوي" "1/ 130- ط السلفية".
4 جواب عما لزمهم من أنهم إذا سئلوا عن الضابط عسر الجواب. "د".(4/81)
5 أي: مصور بالخروج عن الجادة، وقوله: "في جريانها" راجع لاستقراء الأحوال، أي: فإننا عند استقراء أحوالهم نجدها جارية على الصراط المستقيم، معطين كل ذي حق حقه، فلا يخلون بنظام، أي لا تفوتهم مصلحة، ولا تنهدم في عملهم قاعدة من قواعد الدين، كما أننا نجد الأمر بخلاف ذلك عند استقراء أحوال الذين لا يلتزمون الجادة، فبمقدار ما خالفوا نجد الخلل في أحوالهم بفوات المصالح، فقوله: "وفي وقوع الخلل" عطف على المعنى. "د".وفي "ط": "إخلال بالحدود".(4/82)
ص -71-…جريانها على الصراط المستقيم، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير]1 إخلال بنظام، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع، وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع، وكل أصل من أصول التكليف، فإذا حصل ذلك2، للعلماء الراسخين، حصل لهم به ضوابط في كل باب على ما يليق به، وهو مذكور في كتبهم، ومبسوط3 في علم أصول الفقه.
وأما على مذهب المعتزلة، فكذلك أيضًا؛ لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح، أو ينخرم به في المفاسد، وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة، وإنما اختلفوا في المدرك4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: إذا حصل استقراؤهم لأحوال الجارين على الجادة، واستقراؤهم لوقوع الخلل بمقدار ما يقع من المخالفة، حصل لهم ضوابط في كل باب لما يعتبره الشرع مصلحة وما يعتبره مفسدة، فلا يعسر عليهم الجواب، ولا يحصل خلل بنمط معرفة أسرار الأحكام الشرعية. "د".
3 يفيد أن ضوابط المصلحة والمفسدة المعتبرتين شرعا في كل باب من أبواب الشرع مبسوطة في علم الأصول، وهو كذلك؛ لأن هذه الضوابط هي عبارة عن القواعد الأصولية الكلية التي بملاحظتها يمكن تفريع الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام بمراعاة الأدلة الجزئية من الكتاب والسنة وغيرهما،كما سيأتي في المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".(4/83)
4 فالأشاعرة يقولون: لم نتعرفها إلا من تتبع موارد الشرع، وقبله لا قبل للعقل بإدراكها والمعتزلة يقولون: بل العقل يدركها في أكثر الأبواب قبل الشرع، والشرع ورد كاشفا ومثبتًا ما فهمه العقل في هذه الأبواب، فالنتيجة في الموضوع واحدة، وهي أن المصالح والمفاسد معتبرة في الأحكام الشرعية، ولا يرد اعتراض القرافي. "د".(4/84)
ص -72-…واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعًا ومنضبطة1 في أنفسها.
وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا2 في كلامه على العزيمة والرخصة، حين فسرها الإمام الرازي بأنها "جواز الإقدام مع قيام المانع"، قال:
"هو3 مشكل؛ لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة، إذ يجوز الإقدام على ذلك كله، وفيه مانعان: ظواهر النصوص المانعة من إلزامه، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار"4، وذلك مانع من وجوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا يفتحون باب أنه يعتبر ما يشاء، ويترك ما يشاء بقطع النظر عن المصلحة حتى يترتب عليه ما رتبه القرافي من تزلزل قواعدهم."د".
2 أي: الترديد في معنى المصلحة والمفسدة، وأنه ما من فعل إلا وفيه شيء من المصلحة وشيء من المفسدة، فجعل المشاق والمضار في كل الأفعال موانع، وما من فعل إلا وفيه ذلك، فكل ما في الشريعة من الأحكام المباحة أو المطلوبة يكون رخصة متى جرينا على تفسير الإمام الرازي لها بناء على ما فهمه القرافي فيه، هذا ولم يتعرض المؤلف لتصحيح كلام الرازي هنا، ولو فسر المانع في كلام الرازي بما قاله الجمهور عند تعريف الرخصة وأن المراد بها الدليل على الأصل الذي استثنيت منه هذه الرخصة كما سبق بيانه جوابا عن استدراك المؤلف على تعريف الجمهور للرخصة، لكان تفسير الرازي لها جيدا، نعم، لو فسر المانع في كلامه بما يكون مفسدة ومضرة تلحق الشخص مثل مشقات الصلاة وسجوده على الجبهة التي هي أشرف أعضاء الإنسان المكرم وأمثال ذلك، لاتجه إشكال القرافي على هذا التفسير ثم عجزه أخيرًا عن ضبط الرخصة كما ذكره في كتابيه المذكورين. "د". قلت: انظر كلام الرازي في "المحصول" "1/ 120".
3 في "ط": "وهو".(4/85)
4 ورد من حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وعمرو بن عوف، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة.
فحديث عبادة رواه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، 2/ 784/ رقم 2340"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 326-327"،=(4/86)
ص -73-…........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والبيهقي في "السنن" "10/ 133"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 344"، كلهم من رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقال أبو نعيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، قال ابن عساكر في "الأطراف": "وأظن إسحاق لم يدرك جد أبيه عبادة"، نقله الزركشي في "المعتبر" "رقم 295"، و ابن حجر في "التهذيب" "1/ 256"، والهيثمي في "المجمع" "4/ 205"، ومع ذلك، فقد ضعفه ابن عدي وقال: "عامة أحاديثه غير محفوظة".
وحديث ابن عباس رواه عبد الرزاق في "المصنف" وأحمد في "المسند" "1/ 313" عنه وابن ماجه في "السنن" "2/ 784/ 2341"، والبيهقي في "السنن" "6/ 69"، من طريقه أيضًا، عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره، والطريق الميتاء سبعة أذرع"، وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 302/ رقم 11806"، وجابر الجعفي فيه مقال كثير معروف، لكن الحديث ورد من وجه آخر خرجه "الدارقطني في "السنن" "4/ 228"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 397/ رقم 2520" من طريق عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للجار أن يضع خشبة على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا ضرار".
وإبراهيم بن إسماعيل مختلف فيه، وثقة أحمد، وضعفه أبو حاتم، وروايات داود عن عكرمة مناكير، فإسناده ضعيف.(4/87)
وتابع إبراهيم بن إسماعيل سعيد بن أيوب كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 228-229/ رقم 11576"، ثنا أحمد بن رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد، عن داود به موقوفًا على ابن عباس.
وإسناده واه بمرة، روح ضعيف، وابن رشدين متهم.
وأخرجه الخطيب في "الموضح" "2/ 96-97" من طريق يعقوب بن سفيان عن روح به مرفوعًا.
وأخرجه ابن أبي شيبة -كما في "نصب الراية" "4/ 384"- ثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، عن سماك، عن عكرمة به.
وإسناده رجاله كلهم ثقات، وفي رواية سماك عن عكرمة اضطراب.=(4/88)
ص -74-….............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وحديث أبي سعيد رواه الدينوري في "المجالسة"، والدارقطني في "السنن" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 57"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 69-70"، وابن عبد البر في "التمهيد" "20/ 159"، كلهم من طريق الدراوردي عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري به بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه"، وقال الدينوري: "لا ضرورة ولا ضرار، من ضار ضر الله به...." الحديث، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم"، وهو كما قال: وقال البيهقي: "تفرد به عثمان بن محمد عن الداروردي".
ورواه مالك -يعني في "الموطأ" "2/ 745"- عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرار ولا ضرار" مرسلا.
وأفاد ابن التركماني في "الجوهر النقي" أن عثمان لم ينفرد به، كما قال البيهقي، بل تابعه على روايته عن الدراوردي موصولا عبد الملك بن معاذ النصيبي، أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال: "إن هذا الحديث لا يسند من وجه صحيح"، وقال: "وأما معنى هذا الحديث، فصحيح في الأصول".
وليس كما قال أيضا، فالداروردي حافظ ثقة، وقد أسنده عنه اثنان، ومالك علم من حاله أنه يرسل كثيرا ما هو عنده موصول، ورجح ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 208" رواية الإرسال.
وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 228" بإسناد فيه يعقوب بن عطاء وهو ضعيف، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه، كما في "نصب الراية" "4/ 385"، وحديث جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2002" و"نصب الراية" "4/ 386"، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان به.(4/89)
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 209": "وهذا إسناد مقارب، وهو غريب، لكن خرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 407" من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا، وهو أصح"، ولأبي لبابة ذكر فيه.
وحديث عائشة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 227" وفيه الواقدي وهو متروك، ومن طريق آخر ضعيف أيضًا، الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2003"، وحديث ثعلبة أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 1377"، وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف، وهو لين الحديث.
وحديث عوف بن عمرو أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" "20"، وقال: "إسناده غير صحيح"، فالحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ولذا قال النووي عن شواهده في "أربعينه": "يقوي بعضها بعضا" وقال ابن الصلاح: "مجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به"، وعد أبو داود السجستاني هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وهذا مشعر بأنه يراه حجة، والله أعلم.
وانظر: "الإرواء" "3/ 408-414"، و"السلسلة الصحيحية" "رقم 250".(4/90)
ص -75-…هذه الأمور، والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد، ولا يلزمه المشاق والمضار.
وأيضًا الإجارة رخصة من بيع المعدوم، والسلم كذلك، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة، والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه، ولم تعد منها، واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس، وإن قلت على العبد كالكفر والإيمان، فما ظنك بغيرهما؟
وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعين؛ لأنه لا يمكن1 أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح، فإن أكل الميتة وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يمكن الجواب بأن المراد المانع القوي الذي لم يعارضه ما هو راجح، يعني: وهذه الأمور المستشكل بها من صلاة وحدود وغيرها ليس فيها مانع قوي، بل هو ضعيف في مقابلة المثبت لها بخلاف الرخص، فإن المانع فيها قوي، فذلك كانت رخصا -قال: إن هذا الجواب لا يحسم الإشكال؛ لأن بعض الرخص- كرخصة أكل الميتة طلب الرخصة فيها أقوى من معارضه الذي يطلب الأصل وهو التحريم، وإذا، فالمراد بالمانع ما هو أعم من أن يكون راجحا أو مرجوحا، فتدخل أحكام الشريعة كلها؛ لأنها لا تخلو من مانع ولو ضعيفا، مثل الموانع التي أشرنا إليها في صدر الإشكال، هذا ويمكنك أن
تنقض للقرافي رده على الجواب، وذلك أنه جاء في رده بما هو من مواضع الرخصة الواجبة، وقد علمت سابقا أن تسميتها رخصة تسمح، وأن الرخصة الحقيقة لا تعدو حكم الإباحة بأحد المعنيين، فالمانع فيها سلم عن المعارض الراجح، وقد عالج المؤلف سابقا توجيه تسمية الواجبة رخصة بعد ما قرر ما ذكرنا واستدل عليه، فللرازي أن يلتزم أن كل الميتة للمضطر ليس رخصة، بل هو واجب شرعا. "د". وفي "ط": "لأنه يمكن" بحذف "لا".(4/91)
ص -76-…وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة، فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح، وحينئذ تندرج جميع الشريعة؛ لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه".
ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي "التنقيح" و"المحصول"1 العجز عن ضبط الرخصة.
وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع2، مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام.
- ومنها: أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}3 الآية [الأعراف: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المحصول" "1/ 120"، وشرحه "نفائس الأصول" "1/ 331 وما بعد".
2 لأن ما اعترض به القرافي كلام الرازي مبني على أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة وقد جعلها مانعا، وقد علمت أن الأمر ليس كذلك، بل المصالح متمايزة عن المفاسد شرعا، سواء عند المعتزلة والأشاعرة، وبهذا ينحسم إشكاله على الرخص، كما انحسم إشكاله الذي أورده على جميع العلماء في أصل الموضوع هنا، وأيضًا كلام المؤلف في باب الرخصة كاف في دفع استشكاله وتحيره في ضبط الرخصة "د".
3 صدرها وإن كان فيه إنكار التحريم فقط، إلا أن بقيتها فيه التصريح بالحل المطلق. "د".(4/92)
ص -77-…وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق، بل بقيود تقيدت بها، حسبما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد، والله أعلم.
- ومنها: أن بعض الناس1 قال: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية، فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات".
قال: "ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد، راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله2 بتقدير أن الشارع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها". هذا قوله.
وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع، فكما قال: وأما ما قال في الدنيوية، فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام.
ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة3، فليس بخارج عن كونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو العز بن عبد السلام، والمذكور قوله في "قواعد الأحكام" "1/ 10".
2 أشبه بمذهب المعتزلة. "د".
3 في الأصل: "الآخرة".(4/93)
ص -78-…قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا1، حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه، فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد2 هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها، بعد وضع الشرع أصولها، فذلك لا نزاع فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورود الشريعة لإقامة مصالح الدنيا اقتضى أن يكون في تعاليمها قواعد كلية تندرج فيها أحكام الوقائع التي تعرض للأفراد والجماعات، وليس على الراسخين في العلم بها سوى النظر في الوقائع وفحص ما يترتب عليها من آثار المصالح والمفاسد حتى يصوغوا لها من تلك القواعد القيمة حكما عادلا، وإذا كان الإسلام يقوم على هذه الحقيقة، فمن المتعين على علمائه أن يبحثوا في حال الاجتماع، ويدرسوا شؤون الأمم حتى تكون فتاويهم مفرغة في حكمه وسداد، والرئيس الذي يحاول صرفهم عن الخوض في مذاهب السياسة وحصرهم في دائرة ضيقة من التعليم إنما يفعل ما يفعل جهلا بحقائق الإسلام أو قصدًا للعبث بذلك النظام الذي بهر جهابذة الفلسفة، فأطرقوا لحكمته خاضعين. "خ". وفي "ط": "صلاح الدنيا".
2 وهو بعيد من قوله: "بتقدير أن الشرع لم يرد". "د".(4/94)
ص -79-…المسألة التاسعة:
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند غليه، والمستند إليه في ذلك، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنيا باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية، ولو جاز إثباتها بالظن، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية بلا بد.
فإذا ثبت هذا، فكون هذا الأصل مستندًا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا.
فالعقلي لا موقع له هنا؛ لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية، وهو غير صحيح، فلا بد أن يكون نقليا.
والأدلة النقلية، إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند، لا يحتمل متنها التأويل على حال أو لا، فإن لم تكن نصوصًا، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها؛ لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع، وإفادة القطع هو المطلوب، وإن كانت نصوصًا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند، فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء.
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي.
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول: إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية، والموقوف على(4/95)
ص -80-…الظني لا بد أن يكون ظنيًّا، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، و [عدم]1 التخصيص للعموم، و [عدم]1 التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع ذلك أمور ظنية.
ومن المعترفين بوجود من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة، فقد تفيد اليقين، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع2 كلها قطعية، وليس كذلك باتفاق، وإذا كانت لا تلزم، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع3 واليقين نادر على قول المقرين بذلك، وغير موجود على قول الآخرين.
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين.
ولا يقال: إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعين؛ لأنا نقول: هذا
أولًا:
مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعًا، نقلا متواترًا عن جميع أهل الإجماع، وهذا يعسر إثباته، ولعلك لا تجده، ثم نقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "أو التخصيص".
2 أي: التي هي من النصوص المتواترة التي لا تحتمل تأويلًا كما هو موضوع الكلام، لا أنه يلزم أن يكون كل دليل ولو كان ظني الدلالة أو المتن كذلك، فإنه لا يلزم مع أخذ الموضوع كما قلنا. "د".
3 في "خ": "للدليل القطعي"، وفي الأصل: "للدليل القطع".(4/96)
ص -81-…ثانيا:
إن فرض وجوده، فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم، ويجتمعون على أنه قطعي، فقد يجتمعون على دليل ظني، فتكون المسألة ظنية لا قطعية، فلا تفيد اليقين؛ لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي، فإن اجتمعوا على مستند ظني، فمن الناس من خالف1 في كون هذا الإجماع حجة2 فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي.
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة، وذلك3 أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع.
ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جُودُ حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه4، وما أشبه ذلك، فلم يعتمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على أن بعض من قال: إنه حجة لا يقول إنها قطعية كما هو الغرض هنا. "د".
2 جرى الخلاف في استناد الإجماع إلى اجتهاد وقياس، فمنعه الظاهرية لإنكارهم أصل القياس وابن جرير الطبري نظرًا إلى أن الإجماع الصادر عن القياس لم ينعقد على مستند قاطع، فلا يكون حجة، والراجح لدى الجمهور أنه واقع وحجة، ومن أمثلته إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر الصديق مستندين إلى الاجتهاد الملوح إليه بقول جماعة منهم رضيه "رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا". "خ".
3 في "خ": "كذلك".
4 انظر في تخريج ذلك: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر "1/ 193"، وما مضى "1/ 29".(4/97)
ص -82-…الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة.
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدًا للظن، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق، فخبر واحد مفيد للظن مثلًا، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن، وهكذا خبر آخر وآخر، حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض1، فكذلك هذا، إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار.
وهذا بُيِّنَ في كتاب المقدمات2 من هذا الكتاب.
فإذا تقرر هذا، فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها، والمتأملين لمعانيها، سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في [إثبات]3 هذه القواعد الثلاث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 258-259".
2 تقدم له في المقدمة الثالثة بيان أوسع من هذا في صحة الاعتماد على هذا الاستقراء، وجعله من باب التواتر المعنوي، ولكنه هنا بسط الكلام في بيان أنه لا يمكن الاعتماد في إثبات هذا الأصل المهم على العقل ولا على النقل الأحادي ولا على الإجماع، وتوصل ذلك إلى أن لا بد من الرجوع لشبه التواتر، فما أوجزه هناك بسطه هنا، وبالعكس، فلا يقال: إن هذه المسألة تكرار محض مع ما تقدم هناك. "د".
3 سقط من "ط".(4/98)
ص -83-…المسألة العاشرة:
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها، فلا يرفعها تخلف1 آحاد الجزئيات.
ولذلك أمثلة2: أما في الضروريات، فإن العقوبات مشروعة للازدجار، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه، ومن ذلك كثير، وأما في الحاجيات، فكالقصر في السفر، مشروع للتخفيف وللحوق المشقة، والملك المترفه لا مشقة له، والقصر في حقه مشروع، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضًا مع عدم الحاجة، وأما في التحسينيات، فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم.
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية؛ لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا، فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا، وأيضًا3،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن تكون مع كونها داخلة في الكلي آخذة حكما آخر، أو تكون آخذة حكمه، ولكن المصلحة المعتبرة في الكلي ليست متحققة فيها، هذا هو الذي يقتضيه النظر في ذاته، ويقتضيه أيضا قوله الآتي: "وأيضا، فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي، فلا تكون داخلة... إلخ"، فإن ذلك ليس إلا في الغرض الأول الذي فرضناه هنا، وهو ما يكون داخلا في الكلي ولكنه أخذ حكما آخر، فيكون الجواب أنه ليس داخلا؛ لأنه أخرجه عنه حكمة غير حكمه هذا الكلي جعلته خارجا عنه. "د".
2 هذه الأمثلة للنوع الثاني، وهو ما يكون تخلف الجزئي بمعنى أخذه حكم الكلي، ولكنه ليس في المصلحة المعتبرة في الكلي، وقد يمثل للأول بأن حكمة وجوب الزكاة الغنى، وهي موجودة في مالك الجواهر النفيسة كالماس مثلا، ومع ذلك أخذ حكما آخر وهو عدم وجوب الزكاة "د".
3 لو جعل هذا دليلًا على ما قبله، لكان أوضح من جعله دليلا مستقلا؛ لأن ما قبله كدعوى لا تتم إلا بهذا. "د".(4/99)
ص -84-…فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي؛ لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت.
هذا شأن الكليات الاستقرائية1 واعتبر ذلك بالكليات العربية فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية، كما نقول: "ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلًا"، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبته، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة: "ما ثبت للشيء ثبت لمثله".
فإذا كان كذلك، فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
وأيضا2، فالجزئيات المتخلفة3 قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي، فلا يكون داخلة تحته أصلا4، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا، لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاستقرائيات".
2 هذا الجواب بمنع التخلف، أي فنقول: إنه لا تخلف أصلا، وأن ما يظهر فيه أنه تخلف هو في الواقع كذا أو كذا. "د".
3 في "خ": المختلفة".
4 أي: فلا تكون من جزئيات الكلي، فلا يصح الاعتراض بتخلفها؛ لأنها خارجة عنه حتى في نظرنا. "د".
قلت: كلام المصنف هذا أشبه ما يكون بما يسمى اليوم بـ "مناهج العلوم"، فكأني به يريد أن يثبت أن للشريعة منهجا لا يمكن خلطه بالطرق العقلية المجردة، وانظر عن الاستقراء وحجيته وأقسامه: "شرح القطب على الشمسية" "ص 315 وما بعدها"، و" البحر المحيط" "2/ 103و 6 / 110" للزركشي، و" المنطق الحديث" "ص 32" لمحمود القاسم، والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم" "ص 183 وما بعدها" لعوض الله حجازي.
5 أي: وإن لم نقف عليه، فيأخذ الجزئي حكما آخر لحكمة خفيت علينا، وإن كان مقتضى الظاهر أنه يأخذ حكم الكلي؛ لأنه في نظرنا مندرج فيه. "د".(4/100)
ص -85-…فالملك المترفه قد يقال: إن المشقة تلحقه، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول1 في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست الإزدجار فقط، بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن كانت زجرًا أيضًا عن2 إيقاع المفاسد، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي.
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا انظر آخر في الجواب، أي: قد نفهم أحيانا أن الحكمة كذا، ويكون الواقع أن هذا بعض ما يراعيه الشارع في الحكمة، ويكون هناك أمر آخر أعم منه يراعي ويكون مطردا، كالكفارات في الحدود مثلا. "د".
2 كذا في ط"،وفي غيره: "على".(4/101)
ص -86-…المسألة الحادية عشرة:
مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة، لا تختص بباب دون باب، ولا بمحل دون محل، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف1، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها.
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق، لكن2 البرهان قام على ذلك، فدل على أن المصالح فيها غير مختصة.
وقد زعم بعض المتأخرين- وهو القرافي3- أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض4، بل متى كان أحدهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يشير إلى ما سيأتي عن القرافي وابن عبد السلام، وقد عقد هذه المسألة للرد عليهما، وبيان ما هو الواقع فيما ادعياه، وقد أصاب كل الإصابة، وملك عليهما جميع النوافذ، رحمه الله. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص 134": "ولكن".
3 في كتابه "نفائس الأصول" "9/ 3901".
4 أي: لأن المصلحة الغالبة في المحل- أي: الراجحة التي يعتبرها الشرع- واحدة لا تتعدد، أي: فلا يسلم العقل بأن المصلحة الراجحة التي يراعيها أحدهما يكون نقيضها مصلحة راجحة أخرى يراعيها القائل الآخرن فلا يتأتى مع القول بإصابة كل مجتهد أن تكون الأحكام تابعة للمصالح، كما لا يتأتى معه أيضا القول بالقياس، لأنه مبني على وجود العلة التي هي المصلحة المراعاة في المقيس عليه. "د".
قلت: وفي هذا الموضع من الأصل: "أن يكون هو النقيضين"،وكذا في "النفائس".(4/102)
ص -87-…راجحا كان الآخر مرجوحا، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدًا وهو المفتي بالراجح، وغيره يتعين أن يكون مخطئا، لأنه مفتٍ بالمرجوح، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس، وأن الشرائع تابعة للمصالح.
هذا ما قال.
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام1 في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: عن هذه القاعدة لا تكون2 إلا في الأحكام الإجماعية، أما في مواطن الخلاف، فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع3 للراجح في نفس الأمر، بل ما4 في الظنون فقط، كان راجحًا في نفس الأمر أو مرجوحًا، وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح، وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم5 إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عن شيخه العز في...".
2 ويكون معناها أنهم حيث اتفقوا على الحكم وصادفوا هدفا واحدا، فكلهم مصيب وهذا في غاية البعد بعد الاطلاع على أدلة الطرفين وتقرير ردودهما، وانظر كتاب "التحرير" في مسألة "لا حكم في المسائل الاجتهادية التي لا قاطع فيها من نص أو إجماع" فقد جعلوا هذا محل القاعدة، لا المسائل الإجماعية. "د".
3 أي: إن الحكم الذي يجب على المجتهد العمل به ليس تابعا لما في نفس الأمر حتى يكون صوابا دائما، فيتأتى أن كل مجتهد مصيب، بل هذا الحكم تابع لما ترجح في ظنه فقط، ولو كان مخالفا لما في نفس الأمر، فالظنون الموافقة صواب، والمخالفة خطأ، وإن وجب عليه العمل بها ما دام ظنه بأرجحيتها قائما، أي فلا يتأتى أن يكون كل مجتهد مصيبا. "د".
4 كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "فيما".(4/103)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 13/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب بيان آجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 3/ 1342/ رقم 1716" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر".
قال "د": "أي أن الخطا الوارد في الحديث ليس موجها إلى الحكم، بل إلى وسائل الاجتهاد التي اتبعت في استنباطه والخطأ في ذلك لا نزاع فيه، فحمل كلام الشارع عليه أولى من حمله على نفس الحكم، لأن في تخطئة المجتهد في نفس الحكم خلافا".(4/104)
ص -88-…الأسباب، للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى. هذا ما نقل عنه.
ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين، لأن الأحكام على [تصويب]1 مذهب التصويب إضافية2، إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة3 للحكم أو متبوعة4 له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه5، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه، لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز، وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"ط".
2 هذا الوجه صرح به الإمام الغزالي وهو ناصر مذهب المصوبة في "كتاب المستصفى". "خ".
"3، 4" أي: على ما تقدم من مذهب الأشاعرة، ومذهب المعتزلة، إذ تفهم من الحكم على الأول، ويفهم الحكم منها على الثاني. "د".
5 أي: فهي إضافية أيضا، فيتأتى تعدد المصلحة الراجحة بالإضافة، فلا فرق بين مصوب ومخطئ حينئذ "د".(4/105)
ص -89-…على ما ظنه، فالضرر1 لاحق به في الدنيا وفي الآخرة، فحكم المصوب ههنا حكم المخطئ
وإنما يكون2 التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد، بل هو من ناظرين، ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه3، لا ما هو عليه في نفسه، إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع4، فههنا اتفق الفريقان، وإنما اختلفا بعد، فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، والمصوبة حكمت بناء على أن لاحكم في نفس الأمر، بل هو ما ظهر الآن، وكلاهما بانٍ حكمَه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر.
ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا، وكذلك من قال: إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان5، أو ليست من صفات الأعيان6، وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا، وهو من مباحث أصول الفقه، وإذا ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا ضرر"، وكتب "د": "كان المناسب أن يقول: ففيه ضرر لاحق به في الدنيا أو الآخرة".
2 هو روح الجواب عن قوله: "لأن القاعدة العقلية أن الراجح... إلخ"، وقوله "من نظر واحد" أي: أو من ناظرين يعتبران الواقع ونفس الأمر في ذاته بقطع النظر عن الظن. "د".
3 توكيد لقوله: "ظن كل واحد.... إلخ"، وتمهيد لقوله: "لا ما هو عليه في نفسه"، أي: الذي لو كان لكان التناقض حاصلا. "د" وفي "ط": "وظنه لا على ما....".
4 أي: الإجماع القطعي السند لأن الجميع قاطع فيه بأن العلة كذا 1في نفس الأمر، أما الإجماع الظني السند؛ فالاتفاق فيه على أن العلة كذا في نفس الأمر من باب المصادفة فقط، وإلا، فالمعتبر فيه ظن كل واحد عنه نفسه أنها العلة، كمواضع الخلاف، ولكن اتفق اتحاد ظنهم ذلك. "د".
"5، 6" هو الخلاف بين القدماء من المعتزلة وغير القدماء منهم في أن الحسن والقبح من ذات الفعل أو من صفة عارضة. "د".(4/106)
ص -90-…هذا، لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام، وارتفع إشكال المسألة والحمد لله.
وتأمل، فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا وحكما1، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي، وأن ذلك راجع إلى الذوات2، فكلام القرافي مشكل على كل تقدير، والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا يلتزمون صرف الخطأ المشار إليه بحديث الحاكم إلى الأسباب، بل يقولون إن كل مجتهد بشرطه مصيب في اجتهاده ووسائله، وفي حكمه الذي استنبطه مع أنهم يقولون بالمصالح عقلا، فيجمعون بين القول بها والتصويب، لا في الاجتهاد فقط، بل وفي نفس الحكم "د".
قلت: انظر: "البرهان" "2/ 1316- 1329".
2 أي: الحسن أو القبح جاء من ذات الفعل، كما يقوله قدماء المعتزلة، فإنهم يقولون: حسن الفعل وقبحه لذات الفعل لا لصفة توجبه، وقال بعضهم: بل لصفة توجبه لا لذات الفعل.... إلخ ما قرره في هذا الخلاف، فقوله: "وأن ذلك راجع إلى الذوات" ليس من محل الاتفاق بينهم, ولكنه اختاره لأن إشكال القرافي يكون عليه أوجَه مما إذا قالوا: لصفة توجبه لا لذات الفعل، لأنه حينئذ يمكن الانفكاك. "د".
وقال "خ" "إذا كانت الوقائع منشأ للمصالح والمفاسد، وكانت الأحكام قائمة على رعايتها، فالواقعة الواحدة إنما يكون لها حكم واحد، وهو الذي يطابق ما تقتضيه مصلحتها أو مفسدتها، ومن أداه اجتهاده إلى هذا الحكم، فهو مصيب وغير مخطئ، فلا يظهر وجه استقامة القول بتصويب كل مجتهد مع القول بأن الأحكام تفصل على مقتضى المصالح والمفاسد في نفس الأمر".(4/107)
ص -91-…المسألة الثانية عشرة:
إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة1..
ويتبين ذلك بوجهين:
أحدهما:
الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقوله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]، فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر، فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه وإليه ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا، ويشد بعضه بعضا، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
حكى أبو عمرو الداني في "طبقات القراء"2 له عن أبي الحسن بن المنتاب، قال:
كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447".
2 قال ابن الجرزي في "غاية النهاية" "1/ 505": "كتاب "طبقات القراء" في أربعة أسفار، عظيم في بابه، لعلي أظفر بجميعه"، وهذا الكتاب عزيز منذ القدم، كما أفاد المقري في "نفح الطيب" "4/ 474" ولم أظفر بأي نسخة خطية منه في المكتبات اليوم.(4/108)
ص -92-…جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فلم يجز التبديل عليهم، قال علي: فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي، فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا1.
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مئة كذبة أو أكثر2، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء، فكذلك في الأرض، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب بعض أهل العلم كالرازي إلى أن تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل إنما هو بسوء تأويلهما وحمل نصوصهما على ما يطابق أهواءهم، وقد تتبع فريق من العلماء المحققين، كابن حزم، وابن تيمية، والشيخ رحمة الله الهندي جملة من نسخهما، وأفاضوا في بيان ما دخل عليها من تحريف اللفظ وتبديل العبارة، وتحريف الكلم بالتأويل الباطل قد دخل في تفسير القرآن كما مني به غيره من الكتب المتقدمة، ولكن الله وقاه من تحريف اللفظ، ولم تستطع أيدي الزنادقة أن تمسه بسوء. "خ".
قلت: انظر نحو الحكاية المذكورة في: تفسير القرطبي" "10/ 5-6"، و"حاشية الجمل على الجلالين" "2/ 606".(4/109)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 6/ 304/ رقم 2210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام" باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1750/ رقم 2228" عن عائشة مرفوعا: "إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم" لفظ البخاري. وفي "ط": "أو أكثر من مائة كذبة".(4/110)
ص -93-…من مثله، وهو كله من جملة1 الحفظ، والحفظ2 دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلُّك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل
والثاني:
الاعتبار الوجودي الواقع من زمن3 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفَّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أما القرآن الكريم، فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلًا عن القراء الأكابر4.
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم.
فكان منهم قوم يذهبون الآيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث -وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب.
ثم قيض رجالا يبحثون يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها5 رفعا ونصبا، وجرا وجزما، وتقديما وتأخيرا، وإبدالا وقلبا، وإتباعا وقطعا، وإفرادا وجمعا، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "جهة".
2 في خ: "أو الحفظ".
3 في الأصل و"ط": زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 في نسخة "ماء / ص135" زيادة: "وكذلك لو نقص لرده آلاف".
5 في نسخة "ماء/ ص 135": "بها".(4/111)
ص -94-…الفهم عنه في كتابه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه.
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن1 أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان، حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون، وداوم2 عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى.
وبعث الله تعالى من عباده قراء3 أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس.
ثم فيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه، ويدفعون الشبه ببراهينه، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض، واستعملوا الأفكار، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا، واتخذوا الخلوة أنيسا، وفازوا بربهم جليسا، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه، وهم العارفون من خلقه، والواقفون مع أداء حقه، فإن عارض دين الإسلام معارض، أو جادل فيه خصم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "وعلى".
2 في الأصل و"ط": "ودام".
3 ليس تكرارا مع قوله: "قيض الله له حفظة.... إلخ"؛ لأن ذلك في الحفظ، وهذا في طريق وضعه في المصاحف، وضبط ترتيبه وكلماته، ووقوفه وفواصل آياته. "د".(4/112)
ص -95-…مناقض، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة1، فهُم جند الإسلام وحماة الدين.
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزَّلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج [في]2 إيضاحها إليه.
وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة، [وبالله التوفيق]3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يتعين على علماء الشريعة أن يكون لهم اطلاع واسع على ما يقوله المخالفون أو يكتبونه في حق الإسلام، حتى يقضوا على الشبه والأراجيف التي يلقونها كالعثرات في سبيل الدين، ويتصدوا لإماطتها بدلائل تلائم أذواق الناشئين بأسلوب بيانها وطرق منطقها، وكم من عقيدة ارتخت وفطرة كانت صافية فأغبرت وإنما أتاها البلاء من فساد طريقة التعليم وقلة مراعاة حال العصر وإخراج الحقائق في عبارات سائغة ونظام مألوف. "خ".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".(4/113)
ص -96-…المسألة الثالثة عشرة:
كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها1، فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن2 لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع،
والدليل على ذلك أمور:
- منها: ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر، كترك الصلاة، أو الجماعة، أو الجمعة، أو الزكاة، أو الجهاد، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه، كان العتب وعيدا أو غيره، كالوعيد بالعذاب، وإقامة الحدود في الواجبات، والتجريح في غير الواجبات، وما أشبه ذلك.
- ومنها: أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث، والأمر والنهي فيما قد جاء حتما، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به، من غير اختصاص ولا محاشاة، إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم، وحين كان ذلك كذلك، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها.
- ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أحدها".
2 بدل من إقامة "د".(4/114)
ص -97-…وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات، فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات1.
وأيضا، فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات2 يرجع إلى إهمال القصد في الكلي، فإنه مع الإهمال لا يرجي كليا بالقصد، وقد فرضناه مقصودًا، هذا خلف، فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصد إلى الجميع، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا وحده غير كاف في الدليل، لأنه محتاج إلى إثبات أن ذلك في جميع الجزئيات وسيأتي تكميله بقوله: "وليس البعض في ذلك أولى من البعض.... إلخ"، إلا أنه يبقى الكلام في تأخير هذه المقدمة عن الدليل المشار إليه بقوله: وأيضا، فإن القصد.... إلخ"، فهل ذلك لأنه محتاج إليها في إكماله؟ كما أن هذا محتاج إليها، فإن كان كذلك، كان تأخرها لتعود إليهما معا تكملة لهما، وربما يساعد على أن هذا غرضه قوله في نهاية الدليل الثاني: "فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات"، فيكون مساويا لما فرعه على الدليل الذي نحن بصدده حيث قال: "فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات، يعني: ويكون كل من الدليلين محتاجا إلى هذه التكملة الأخيرة.
ولكن الذي يظهر أن الدليل الأخير لا يحتاج إليها؛ لأن القصد بالكلي أن لا يكون تفاوت بين الخلق في الترتيب والنظام، فإذا أهمل القصد في بعض الجزئيات، اقتضى أن لا يجري كليا بالقصد، أي: فتخلف أي جزئي ينافي هذا القصد الكلي، وعليه يتم الدليل، ولا حاجة لقوله: "وليس البعض أولى.... إلخ".
وإذا تم هذا، كان المناسب تقديم هذه المقدمة قبل قوله: "وأيضا"، ولو قال قائل: إنها مؤخرة عن موضعها بعمل النساخ لم يبعد. "د".(4/115)
2 أي: في أي جزئي، هذا الذي يقتضيه روح الدليل بعد تقرير الدليل قبله، لأنه لا يناسب أن يقال: إنه يكفي النظر إلى الجزئيات مطلقا كلا أو بعضا، لأن هذا هو ما قبله من لزوم النظر إلى الجزئيات الخارجية التي يكون بها التكليف، وأيضا، فقد قال: "لا يجري كليا بالقصد إذا أهملت الجزئيات"، فتعين قصد جميع الجزئيات لا بعضها، فتنبه لتقف على وجه ما قلناه من أن الدليل الأخير تام بدون التكملة. "د".(4/116)
ص -98-…فإن قيل: هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات.
فالجواب: إن القاعدة صحيحة، ولا معارضة فيها لما نحن فيه، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي1، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي، حتى إن تخلف الجزئي هنالك، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى، كما نقول: إن حفظ النفوس مشروع- وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس، فإهمال هذا الجزئي في كليه [من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا، وهو النفس المجني عليها، فصار عين اعتبار الجزئي في كلي]2 هو عين إهمال الجزئي3، لكن في المحافظة على كليه من وجهين، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي بقي سالما من المعارض، أما ما تقدم، فهو في موضوع أنه يتخلف الجزئي عن الكلي لمعارض أخرجه من هذا الكلي وأدخله في كلي آخر، أو يكون عارضه اعتبار جزئي آخر لهذا الكلي ورجح عليه، وليس معناه أنه مع بقائه داخلا في هذا الكلي بدون معارضة يتخلف عنه ولا يأخذ حكمه من أمر أو نهي، فشتان ما بين الموضعين، ومثاله فيه إهمال لجزئي من قاعدة حفظ النفس لاعتبار جزئي آخر منها يعارضه اعتبار هذا المهمل، وإن كان في كل منهما أصل المحافظة على الكلي، لكنه أهمل أحدهما وهو المحافظة على الجاني بسبب جنايته. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وفي "ط": "كليه هو عين....".
3 أي: إن اعتبار الجزئي وهو حفظ النفس المجني عليها إهمال للجزئي الآخر من هذا الكلي، وهو حفظ النفس الجانية، فأهمل هذا وأتلفت. "د".(4/117)
ص -99-…فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض، فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أو على كلي آخر1، فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كلي آخر أشد رعاية من هذا الكلي، كقتل تارك الصلاة عمدا، لم يحافظ على هذا الجزئي من كلي حفظ النفس، رعاية لكلي آخر أقوى منه في الرعاية وهو حفظ الدين "د".(4/118)
ص -101-…النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
ويتضمن مسائل1
المسألة الأولى:
إن هذه الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسن العجمية، وهذا- وإن كان مبينا في أصول الفقه، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين2، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب، وجاء القرآن على وفق ذلك، فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها-، فإن هذا البحث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسائل الخمس الأولى تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، وهي ليست من المقاصد، وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع، وقد بحث المصنف المسألة الأولى في كتابه "الاعتصام" "2/ 293- 297"، وأفاد أنها من "الأدوات التي بها تفهم المقاصد".
2 وعلى رأسهم الإمام الشافعي في "الرسالة" "50"، وأبو عبيدة معمر بن المثنى في "مجاز القرآن"
1/ 17، 28"، والطبري في "تفسيره" "1/ 8"، وابن فارس في "الصاحبي" "60 - 62"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 1652- 1653"، وانظر: "البرهان في علوم القرآن". "1/ 249"، و"روضة الناظر" "1/ 184- 185"، و"المسودة" "174"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "32/ 255"، و"الإتقان" "1/ 136 وما بعدها"، و"الكتاب والسنة من مصادر الفقه الإسلامي" "ص 41- 43" لمحمد البنا، ط مطابع سجل العرب، ط الثالثة، سنة 1969م، و"من الدراسات القرآنية" لعبد العال سالم مكرم "ص 49- 64".(4/119)
ص -102-…على هذا الوجه غير مقصود هنا.
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2].
وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
إلى غير ذلك مما يدل1 على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة، هذا هو المقصود من المسألة.
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك، فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به، وجرى في خطابها، وفهمت معناه، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب، وهذا يقل وجوده2، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب، فأما إذا3 لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك دون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "دل".
2 قالوا: إن لفظ "تنور" اتفقت فيه اللغة العربية مع اللغات الأعجمية لفظا ومعنى، وقالوا: إن لفظ "صابون" اشترك فيه مع العربية جملة من اللغات الأعجمية. "د".
3 في الأصل: "إن".(4/120)
ص -103-…بعض، فلا بد لها من أن تردها حروفها، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها، وإذا فعلت ذلك، صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال.
ومع ذلك، فالخلاف الذي يذكره المتأخرون1 في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي، ولا يستفاد منه مسألة فقهية، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد، وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية.
فإن2 قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر3 يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، [وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله]4، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: "اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمة، ونفاه آخرون"، فالخلاف قديم، ومحله أسماء الأجناس لا الأعلام. "د".
2 في "ط": "فإذا".
3 في الأصل و"ط": "وظاهر".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(4/121)
ص -104-…فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما أن لسان بعض1 الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم، لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام، في "رسالته"2 الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب في هامش الأصل ما نصه: "لعل الصواب إسقاط لفظ بعض لأن "جميع" ألسنة العجم لا تفهم من جهة لسان العرب، والله أعلم".
2 "ص 50 وما بعدها" بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى.(4/122)
ص -105-…المسألة الثانية:
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
والثاني:
من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة1.
فالجهة الأولى:
هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتَّى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم، ويتأتَّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الجهة الثانية:
فهي التي يختص2 بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب [الخبر والمخبر و] المخبر عنه والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: "قام زيد" إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت: "زيد قام"، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة: "إن زيدا قام"، وفي جواب المنكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتنتقل حيث انتقل المتبوع
2 في نسخة "ماء/ ص 137": "اختص".(4/123)
ص -106-…لقيامه: "والله إن زيدًا قام"، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه: "قد قام زيد"، أو: "زيد قد قام"، وفي التنكيت على من ينكر: "إنما قام زيد".
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره -أعني: المخبر عنه- وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار، وما يعطيه مقتضى الحال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن، لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر1 فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
فصل:
وإذا ثبت هذ، فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال، فضلا عن أن يترجم القرآن3 وينقل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تكرر".
2 انظر في هذا: رسالة محمد بن إسماعيل الصنعاني "الإيضاح والبيان في تحقيق عبارات قصص القرآن"، نشر مكتبة الإرشاد- صنعاء.
3 لا تتيسر ترجمة القرآن بالنظر إلى مستتبعات التراكيب "أعنى: المباني التي يرتفع بها شأن الكلام، كما أن من الآيات ما يحتمل معاني متعددة، والمترجم إنما يمكنه نقله إلى لغة أخرى بإحدى تلك المعاني، كما في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، فقد رأيت مترجم القرآن إلى اللسان الألماني سلك في ترجمة لفظ الإبل معنى السحاب الذي هو أحد الوجهين في تفسيرها. "خ".(4/124)
ص -107-…لسان غير عربي، إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه، فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب، أمكن أن يترجم أحدهما إلى آخر، وإثبات مثل هذا بوجه بَيِّنٌ عسيرٌ جدًّا، وربما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين، ولكنه غير كافٍ ولا مغنٍ في هذا المقام.
وقد نفى ابن قتيبة1 إمكان الترجمة في القرآن -يعني: على هذا الوجه الثاني- فأما على الوجه الأول، فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي2.
فصل:
وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها، لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام، وهل تعد معها كوصف من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" "ص 21" طبعة الشيخ أحمد صقر رحمه الله، وتبعه على هذا ابن فارس في كتابه "الصاحبي" "ص 16- 25"، وبحث فيه موضوع الترجمة بحث خبير، ورد فيه على الرواية المرجوحة لأبي حنيفة رد بصير، وإلى ابن فارس هذا كانت تضرب آباط الإبل، وعند جهينة الخبر اليقين، وانظر: "الكتاب والسنة" لمحمد البنا "ص 45 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 542".(4/125)
ص -108-…الأوصاف الذاتية؟ أو هي كوصف1 غير ذاتي؟ في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفرعية جملة، إلا أن الاقتصار على ما ذكر فيها كافٍ، فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة، فالسكوت عن ذلك أولى، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 139": "وصف". وفي "ط": "أم هي".(4/126)
ص -109-…المسألة الثالثة:
هذه الشريعة المباركة أمية1؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجري2 على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك:
أولا:
أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفطرة كما سيشرحه المؤلف.
ثانيا:
فإنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخرة أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا. "د".(4/127)
قلت: "انظر تفصيلا قويا حول هذا في "السير" "14/ 191- 192" للذهبي، والمراجع المذكورة في تعليقنا على آخر هذه المسألة.
2 أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. "د".(4/128)
ص -110-…وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية"1 لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها2.
وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3، وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب.
ونحوه قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48].
وما أشبه هذا4 من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نحوه "ص 138".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 435 و25/ 167".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب"، 4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761 / رقم 1080 بعد 15" من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ: "إنا أمة....." بتقديم "نكتب" على "نحسب"، ومضى "1/ 56".(4/129)
4 أخذ بظاهر حديث البخاري المروي في عمرة القضاء والكتابة إلى قريش وطائفة من العلماء، ففهموا أن الكتابة مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الحقيقة، وممن ذهب إلى هذا أبو الفتح النيسابوري وأبو ذر وأبو الوليد الباجي، وقد قام في وجه أبي الوليد فريق من علماء عصره كأبي بكر بن الصائغ وأبي محمد بن مفوز،ولكن علماء صقلية وافقوا أبا الوليد على هذه المقالة، والحق أن أبا الوليد لم يأت أمرا يقدح في المعجزة كما يدعي خصومه، إذ آية {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}، إنما نفت عن النبي عليه السلام الكتابة قبل نزول القرآن، وبقي الحال فيما بعد مسكوتًا عنه، ولكن أبا الوليد تشبث بسندٍ واهٍ وهو مجرد إسناد الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ الحديث، وليس إسناد الأمر إلى الرئيس وقد فعله أحد أتباعه عن أمره بعزيز "خ".
قلت: وفتوى الباجي مع أجوبة العلماء عليها منشورة بتحقيق أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مع دراسة ضافية له في المقدمة في بيان معاني النصوص الواردة في أمية الرسول صلى الله عليه وسلم بعنون "تحقيق المذهب"، وفيه "ص 243- 281" جواب ابن مفوز.(4/130)
ص -111-…الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.
والثاني:
أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتتنزل1 من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب2 لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية.
والثالث3:
إنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "لتنزل".
2 وأما غيرهم، فهو تابع، والتابع لا حكم له.(4/131)
3 جعل هذا الثالث دليلا على أنه يجب أن تكون على ما عهدوا حتى تكون حجة عليهم، وقد كان كونها على ما عهدوا دليلا بنفسه على أنها أمية، وعليه، فليس الدليل الثاني إلا دعوى محتاجة إلى الدليل الثالث، ولا يصلح أن يكون دليلا بنفسه إلا أن يبقى الكلام في هذا الدليل الثالث فيقال: هل لو جاءت الشريعة على طريق يحتاج لعلوم كونية ووسائل فلسفية، ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية كما صنع في الزوال والغروب والشفق إلخ، أو بنى الصوم لا على رؤية الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات لمعرفة أول رمضان، لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق بناها على أمور علمية كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق بإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة، فليس بظاهر لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور أهمها عندهم أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيء إلا أنه بأسلوب أعجزهم عن الإتيان بمثله. "د".(4/132)
ص -112-…ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، فجعل الحجة1 على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، رد الله عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، لكنهم أذغنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا المعنى كثيرة2.
فصل:
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس3، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه.
فمن هذه العلوم:
علم النجوم:
وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فجعل لهم الحجة".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 157".
3 تجد تفصيل هذه العلوم على وجه مستوعب في "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الآلوسي، وهو مطبوع، وفي آخر المجلد الأول من "صبح الأعشى".(4/133)
ص -113-…المعنى، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة،كقوله تعالى، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]
وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 39- 40].
وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].
وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الآية [الإسراء: 12].
وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وما أشبه ذلك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/134)
1 لو لم يكن لهم علم بسير النجوم بالمقدار الذي ينسبه لهم، فهذه الآيات يمكن فهمها لهم بعد لفت نظرهم إليها، إنها لا تحتاج إلا إلى التدبر في تطبيقها بطريق المشاهدة، على أن علم النجوم لم يكن لجمهورهم بل للبعض القليل الذي كان يستعمل غالبا دليلا للقوافي* في سير الليل ومع ذلك، فلم يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن ذلك ليس لجمهورهم، بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس، فإذا كان مثل عمر ليس عارفا، فما ذلك إلا لأن هذا يختص به جماعة منهم، كما هو الحال عندنا اليوم، الملاحون يعرفون كثيرا من هذه الأنواء وشأن الرياح، وهي أسباب عادية غير مطردة، ولا يعرفها الجمهور الذين عنايتهم بما يتسببون فيه لمعاشهم يعرفون=
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابها: "للقوافل".(4/135)
ص -114-…ومنها: علوم الأنواء1
وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، فبين الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الآية [الرعد: 12-13].
وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68-69].
وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14].
وقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]
خرج الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة: 82]، قال: "شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/136)
= منه ما لا يعرفه فيه غيرهم، وقد قال في الآية الثانية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون}، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون}، فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان ما تفهم فيه مثل هذا ومثل: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب}، ومثل أدوار الجنين: {نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} إلخ، ومثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه}، فإن معرفة أن تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين الإنسان وكمال صنعته، حيث امتازت تقاسيم الجلد الكاسي لها، فلا يوجد تشابه بين شخص وآخر في هذه التقاسيم، حتى نبه الله سبحانه إليها وقال: {بَلَى}، أي: نجمعها قادرين على جمعها وتسويتها على أدق ما يكون كما في تسوية البنان، إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب به، وقد فهم سره في هذا العصر، وانبنى عليه علم تشبيه الأشخاص "ببصمة الأصابع"، وجعلت له إدارة تسمى "تحقيق الشخصية"، الواقع أن هذه وغيرها مما لا يحصى أمور كونية عامة يفهمها كل من توجه إليه الخطاب بفهمها والاستدلال بها على الصانع الحكيم القادر. "د".
1 انظر في ذلك كتاب "الأنواء" لابن قتيبة، و"أحكام القرآن" "3/ 1149-1150" لابن العربي.(4/137)
ص -115-…وكذا"1.
وفي الحديث: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر [بي]"2 الحديث في الأنواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 84/ رقم 73"، وأبو عوانة في "مسنده" "1/ 27"،والبيهقي في "الكبرى" "3/ 358" من حديث ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليم وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر"، قالوا هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا": قال: نزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم}، حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
وأخرج اللفظ الذي أورده المصنف الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 401-402/ رقم 3295"، وأحمد في "المسند" "1/ 108"، وابنه عبد الله في "زياداته عليه" "1/ 131" والبزار في "البحر الزخار" "2/ 208/ رقم 593"، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" "2/ 1068- 1069/ 775" من حديث علي مرفوعا، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل، ورواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي نحوه، ولم يرفعه".
قلت: رواية الوقف أشبه وأصح، وما كان ينبغي للمصنف عفا الله عنا وعنه إهمال تعليق الترمذي على الحديث، وانظر: "العلل" للدارقطني "رقم 487".
وقد صح كما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 522"، أن ابن عباس أيضا قرأ الآية: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون}.
علق عنه ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستسقاء، باب 28" ووصله بإسناد صحيح ابن جرير في "التفسير" "27/ 208"، وسعيد بن منصور، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" 2/ 397"، وابن مردويه في "التفسير المسند" كما في "الفتح" "2/ 522"، "وعمدة القاري" "6/ 45".(4/138)
2 سيأتي تخريجه "ص 445" ومضى "1/ 321"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما، وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(4/139)
ص -116-…وفي "الموطأ" مما انفرد به: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 192" بلاغا، والحديث ضعيف.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "7/ 161": "وهذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير "الموطأ" ومن ذكره إنما ذكره عن مالك في "الموطأ"، إلا ما ذكره الشافعي [في "الأم" "1/ 255"] في كتاب الاستسقاء، [ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" "5/ 200/ رقم 7281- ط قلعجي"] عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنشأت
بحرية ثم استحالت شامية، فهو أمطر لها" وابن أبي يحيى مطعون عليه متروك، وإسحاق ابن عبد الله
هو ابن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث".
ثم قال: "وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم بالحديث؛ لأنه ليس له إسناد".
وقال: "وقال الشافعي في حديثه هذا: "بحرية" بالنصب، كأنه يقول: "إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر، ومعنى نشأت: ظهرت وارتفعت" وقال: "وناحية البحر بالمدينة الغرب"، ثم تشاءمت، أي: أخذت نحو الشام، والشام من المدينة في ناحية الشمال، يقول: إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى الشمال -وهو عندنا البحرية- ولا تميل كذلك إلا بالريح النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة، فإنها يكون ماؤها غدقا، يعني: غزيرًا معينًا؛ لأن الجنوب تسوقها وتستدرها، وهذا معروف عند العرب وغيرهم".
ونحوه في "التمهيد" "24/ 377" أيضا، واستدرك ابن الصلاح في "رسالته في وصل بلاغات مالك الأربعة في الموطأ" "ص 11-13" على ابن عبد البر، فوصله من طريق ابن أبي الدنيا في كتابه "المطر" عن الواقدي، قال: "وفيه استدراك على الحافظين حمزة بن محمد وابن عبد البر، وليس إسناده بذاك".(4/140)
قلت: وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1247-1248/ رقم 722"، والطبراني في "الأوسط" "8/ 370-371/ رقم 7753" من طريق الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة عن عوف بن الحارث عن عائشة به مرفوعا نحوه، قال الطبراني: "تفرد به الواقدي".
قلت: وهو متروك، وعوف مقبول، وابن أبي فروة فيه كلام، فالحديث ضعيف جدا وانظر: "المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" "ص 282-283" لابن قتيبة، و"الأنواء" له ص 170"، و"كنز العمال" "7/ 838"، و"الهيئة السنية" "ق10/ أ" للسيوطي، والفائق" "3/ 56"، و"النهاية" "2/ 437 و3/ 346" و"غريب الحديث" "2/ 147" لابن الجوزي، و"توجيه النظر" "1/ 408 و2 / 913- 928".(4/141)
ص -117-…وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته: "كم بقي من نوء الثريا؟ فقال به العباس: بقي من نوئها كذا وكذا"1.
فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار.
وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه} الآية [الحجر: 22].
وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9].
إلى كثير من هذا.
ومنها: علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية
وفي القرآن من ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة، ولكن القرآن احتفل2 في ذلك، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم3، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الأصل: "نشأت في".
1 أخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 208" بإسناد فيه مجهول، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، فالإسناد ضعيف.
وذكره ابن قتيبة في كتابه "الأنواء" "ص14" وابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1149" من غير سند.
2 أي: قام بالأمر فيه.(4/142)
3 هذا يعضد ما قلناه، من أنه ليس بلازم أن يكون القرآن مجاريا لما عند العرب، فيصحح صحيحه، أو يزيد عليه، أو يبطل باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام؛ لأن الرسول بعث بالكتاب؛ ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور بتعليم ما لم يعلموا، وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل ولا رابطة مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على ما عند العرب، وإعجاز العرب شيء آخر لا يتوقف على ما قال، فتأمل، فالمقام جدير بالتدبر؛ لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقى حتى نحترز عنه، ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة. "د".(4/143)
ص -118-…قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} الآية [آل عمران: 44].
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49].
وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت1 وغير ذلك مما جرى.
ومنها: ما كان أكثره باطلا أو جميعه
كعلم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطيرة2، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه/ رقم 2368، وكتاب الأنبياء، باب "يزفون"، النسلان في المشي/ رقم 3362 و3363 و3364 و3365"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد الملك في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة" رقم 271، 272، 273، 274"، والأزرقي في "أخبار مكة" "1/ 59-60" وغيرهم.
وقد جمعت قسما من الأحاديث الصحيحة في الأخبار التى قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قبلنا في كتاب بعنوان "من قصص الماضين"، وذكرت فيه القصة التي أشار إليها المصنف "ص 89-104"، فانظرها فيه.
2 فائدة في معاني الألفاظ المذكورة:
- العيافة: زجر الطير، وهو أن يرى طائرا أو غرابا فيتطير، وإن لم ير شيئا، وإن قال بالحدس=(4/144)
ص -119-…ونهت عنه كالكهانة والزجر، وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرُّصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهةٍ من تعرُّف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحي والإلهام، وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة1، وأنموذج2 من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام3 والفراسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أي: بالظن والتخمين- كان عيافة أيضا.
- الزجر: أن تزجر طائرا أو ظبيا سانحا أو بارحا، فتطير منه، وهو ضرب من التكهن، تقول: زجرت أنه يكون كذا وكذا.
- الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار.
-خط الرمل: يقال له علم الخط وعلم الرمل، ويقال له: "الطَرْق" -بفتح فسكون آخره قاف-، وهو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال، وأكثر مسائله تخمينية مبنية على التجاريب، وذلك لأنهم يقولون: إن البروج الاثني عشر يقتضي كل منها حرفا معينا، وشكلا معينا من الأشكال المذكورة، فحين السؤال عن المطلوب يقتفي أوضاع البروج، وقوى الشكل المعين من الرمال، فتلك الأشكال بسبب مدلولاتها من البروج تدل على أحكام مخصوصة تناسب أوضاع البروج، راجع: "مفتاح السعادة" "1/ 336"، و"كشف الظنون"" 1/ 912-913".
- الضرب بالحصى: هو ضرب من التكهن والخط في التراب، يأخذ الكاهن حصيات، فيضرب بها الأرض، وينظر فيها، فيخبر بالمغيبات.
- الطِيَرَة- بكسر ففتح وبسكون الياء- هي ما يتشاءم به من الفأل الرديء
1 وسيأتي الحديث وتخريجه "ص419".
2 الأنموذج قال في "المصباح: "بضم الهمزة، ما يدل على صفة الشيء، وهو معرب، وفي لغة نموذج -بفتح النون والذال معجمة مفتوحة مطلقا-، قال الصغاني: "النموذج: مثال الشيء الذي يعمل عليه". "ماء / ص142".
3 كما حصل لعمر وغيره.(4/145)
قلت: ولا بد من التنبه إلى أن الإلهام لا يصح أن يكون دليلا كليًّا عامًّا تبنى عليه الأحكام، كما هو عند بعض أهل البدع، وانظر في ذلك: "القائد لتصحيح العقائد" "ص 37 وما بعدها"، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491"، و"الجواب الصحيح" "2/ 92"، و"تفسير القرطبي" "4/ 21 و7/ 39 و11/ 40-41".(4/146)
ص -120-…ومنها: علم الطب
فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ من تجاريب الأميين، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، لكن على وجه جامع شافٍ1 قليلٍ يطلع منه على كثير، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء2، وأبطل من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم في "زاد المعاد" [4/ 6-7]: "وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع في كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم، وقال في حفظ الصحة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس منها شيئا وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم وحفظ صحتهم واستفراغ مواد أذاهم، رحمة لعباده ولطفا بهم ورأفة، وهو الرؤوف الرحيم". "د".(4/147)
قلت: والمنقول بتصرف كبير عن ابن القيم.
2 يشير المصنف في عبارته إلى عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 10/ 139/ رقم 5684، وباب دواء المطعون، 10/ 168=(4/148)
ص -121-…ذلك ما هو باطل، كالتداوي بالخمر1، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا2.
ومنها: التفنن في علم فنون البلاغة
والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 5716"،ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، 4/ 1736 - 1737/ رقم 2217" عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه. فقال: "اسقه عسلا". ثم آتاه الثانية، فقال "اسقه عسلا" ثم أتاه الثالثة، فقال: "اسقه عسلا"، ثم أتاه، فقال، فعلت. فقال: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا"، فسقاه، فبرأ.
ويصلح للاستشهاد على ما ذكره المصنف كثيرا من أحاديث الطب في "صحيح البخاري"، ولا سيما "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وباب الشفاء في ثلاث، وباب الدواء بألبان الإبل، وباب الدواء بأبوال الإبل، وباب الحبة السوداء، وباب التلبينة للمريض، وباب السعوط، وباب السعوط بالقسط الهندي والبحري"، وكذلك ما جاء في الحجامة، وغير حديث مما ورد تحت هذه الأبواب في "صحيح مسلم" "كتاب السلام"، ولا نتوسع في ذكر ذلك، والمذكور يكفي، والله الموفق.
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، 3/ 1573/ رقم 1984" عن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء".(4/149)
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، 4/ 1727/ رقم 2200" عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك".(4/150)
ص -122-…ومنها: ضرب الأمثال1
[وقد قال تعالى]2: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا [لِلنَّاس]2 فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه، قال تعالى في حكايته عن الكفار: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36]، أي: لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية [يس: 69].
وبين معنى ذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224-226].
فظهر أن الشعر ليس مبنيا3 على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى.
فهذا أنموذج ينبهك على4 ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية.
وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية، من حيث كان آنس لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثل عند البيانيين هو المركب الذي يفشو استعماله على سبيل الاستعارة، فإن فشا استعماله وكان من باب الحقيقة نحو: السعيد من اتعظ بغيره، أو التشبيه نحو: فلان كالخمر يُشتهى شربها ويُخشى صداعها، فهذا هو الذي يعبرون عنه بما يجري مجرى المثل، والذين صنفوا في الأمثال، كأبي عبيدة، والزمخشري، وابن قتيبة، والميداني، وابن الأنباري، وابن هلال أرادوا من المثل القول السائر مطلقا سواء كان استعارة أو تشبيها أو حقيقة. "خ".
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
3 في "ط": "بمبني".
4 في الأصل: "فيما".(4/151)
ص -123-…وأجري على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخرها1.
وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال.
[وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه}]2 [الأعراف: 32]
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33].
إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.
لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التى توهموها، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر، من إيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا، لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتنشط الكسالى، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء / ص 147": "فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك، إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.(4/152)
ص -124-…{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا1 إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
والشريعة [كلها]2 إنما هي تَخَلُّقٌ بمكارمِ الأخلاق، ولهذا قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"3.
إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:
أحدهما:
ما كان مألوفًا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي، وهو:
الضرب الثاني:
وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأُخِّرَ، حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا4 عندهم على الجملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 ليست في الأصل.
3 مضى تخريجه "ص 41".
4 لو لم يكن للعرب عهد بالتعرف عن مكارم الأخلاق رأسا، ثم جاء الرسول ببيان الفضائل والرذائل من الأخلاق، لما وسعهم بعد التصديق بالرسالة إلا الأخذ بالمكارم، كما هو الحال فيما أخطئوا فيه من أصولها، كوأد البنات والربا، والخمر، والسلب والنهب، وغيرها من الرذائل التي تأصلت فيهم، ومع ذلك، فالإيمان بكتاب الله وسنة رسوله طهرتهم من هذه الأرجاس تطهيرا، فلا علاقة لأمية الشريعة بهذه المباحث، ولا توجد أمة من الأمم إلا وفيها شيء من المكارم وشيء من الرذائل، لا خصوصية لجاهلية العرب، بل هذا في كل جاهلية. "د".
قلت: خلتان فضلت بهما العرب على سائر الناس: الأولى الصدق، والثانية الجود، فالصدق بناء العبادات، والجود بناء المعاملات، ويعبر عن الأصلين بالصلاة والزكاة ألا ترى كيف كانوا يمدحون بهاتين الصفتين؟ قال صخر أخو الخنساء يرثي أخا لها:
وطيب نفسي أنني لم أقل له…كذبت ولم أبخل عليه بماليا
أفاده الفراهي في "القائد" "ص 183".(4/153)
ص -125-…ألا ترى أنه كان للعرب أحكام1 عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام، كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة2، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء.
ثم نقول: لم يكتف بذلك حتى خوطبوا3 بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء، وأرض، وجبال، وسحاب، ونبات وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنْبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليهوسلم هي تلك بعينها: كقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78].
وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} الآية [آل عمران: 67].
غير أنهم غيروا جملة منهم، وزادوا، واختلفوا، فجاء تقويمها من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعم4 الدنيوي، كقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 27-30] إلى آخر الآيات.
وبَيَّنَ من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم، كالماء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعلها بعض ميراثهم من أبيهم إبراهيم، كما يقول بعد. "د".
2 أي: تبع أثره. "قاموس".
3 خوطب الناس كلهم بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض.... إلخ، فليس هذا خاصا بهم، وهو واضح "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "التنعيم".(4/154)
ص -126-…واللبن، والخمر، والعسل، والنخيل، والأعناب، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز، واللوز، والتفاح، والكمثرى، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة.
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]
فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير، كقُسِّ بن ساعدة1 وغيره، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة2، وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة.
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير، تجد الأمر كما تقرر، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء خبر تذكيره في حديث طويل مشهور على الألسنة، وفي كتب التاريخ، وروي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منه كلاما لم يحفظه حتى رواه له بعض الصحابة عنه، وقال في آخره: "رحم الله قُسًّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة" وله طرق ولم يثبت، كما قاله ابن القيم في "الفوائد الحديثية" "ص101/ 106"، وفصلنا علله في التعليق عليه، وانظر -غير مأمور: "حديث قُسِّ بن ساعدة الإيادي" لابن درستويه، وهو مطبوع.(4/155)
2 الحكمة والوعظ والجدل يتوقف عليها إصابة الدعوة وإرشاد الخلق، ولو لم يكن عندهم قوة فيها ولا ولع بها؛ لأنها دعوة إلى هدم عقائد، وتصحيح معارف، وتمهيد طريق جديد للسير عليه في طريق عبادة الله وحده، وطريق معاملتهم بعضهم لبعض، فلا بد لها من اجتماع هذه القوى الثلاثة لوصول إلى الغاية من الرسالة، وعلى كل حال، فليس بلازم في كون الشريعة أمية أن تكون جاءت مسايرة لهم في شئونهم، بل معنى كونها أمية ما قدمناه في أول المسألة، وأما كون ما جاءت به كان عندهم منه شيء أو لم يكن، فهذا لا شأن له بهذا المبحث، ولا يتوقف عليه. "د".
3 انظر في معنى كون الأمة المحمدية أمة أمية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 190، 17/ 434- 436 و25 / 169- 172"، و"أحكام القرآن" "3/ 443" للجصاص، و"تفسير القرطبي" "7/ 298"، و"البحر المحيط" "4/ 403" لأبي حيان، و"روح البيان" "3/ 255"، والتحرير والتنوير" "9/ 133".(4/156)
ص -127-…المسألة الرابعة:
ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب، ينبني عليه قواعد:
- منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم1، والمنطق، وعلم الحروف2، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا، فإن3 السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم4، وما ثبت5 فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الرياضيات من الهندسة وغيرها. "د".
2 يعلم من هذا البحث [أن] تفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح، كقول بعضهم في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}، هذا خطاب للجوارج حال الدعاء، والمراد من الأخ القلب ومن الأب الجسم، ومثل هذا النوع لم ينقل عن السلف، وإنما هو وليد مذهب الباطنية الذين يوجسون في أنفسهم المكيدة للشريعة بسوء التأويل حتى تتعطل أحكامها وتنطمس أعلام حقائقها. "خ".
3 في نسخة "ماء / ص 142": "..... لم يصح، وأيضًا، فإن السلف".
4 في المسألة قبلها. "د".
5 في نسخة ماء / ص 149": "بث".(4/157)
ص -128-…ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم1، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد2 فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني3 على معهودها مما يتعجب4 منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك، فلا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "لهم".
2 كونه لم يقصد فيه تقرير شيء من هذه العلوم الكونية ظاهر؛ لأنه ليس بصدد ذلك، أما كونه لا يجيء في طريق دلائله على التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها وإتقان معرفتها إذا لم يكن معروفا عند العرب، فهو محل نظر. "د".
3 كالجدل المأخوذ فيه مقدمات معهودة للعرب، بل ولغيرهم كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَات}..... إلخ، فإنه لولا توجيه الأفكار إليه للاستدلال به والمحاجة، ما بلغته العقول الراجحة. "د".
4 في الأصل: "تعجب".
5 وهل كل ما تضمنه القرآن من أوصاف نعيم الجنة وعذاب النار من معهود العرب في الدنيا؟ وهل مثل الإسراء والمعراج من معهوداتهم؟ أما أصل الموضوع، فمسلم أنه لا يصح أن يتكلف في فهم كتاب الله بتحميله لما لا حاجة بالتشريع والهداية إليه من أنواع العلوم الكونية، ولكن قصره بطريق القطع على ما عند العرب في علمها ومألوفها، فهذا ما لا سبيل إليه، ولا حاجة له: "د".(4/158)
قلت: تلقى الباحثون والمطلعون كلام المصنف هذا بعناية فائقة، واستفادوا منه في موضوع "التفسير العلمي للقرآن"، وقد وقفوا عنده طويلا وناقشوه، وقلبوا النظر فيه بين مؤيد ومخالف، تجد تفصيل ذلك في "التحرير والتنوير" "1/ 44، 45"، لابن عاشور، و"القرآن العظيم، هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين" "ص260 وما بعدها" لمحمد صادق عرجون، و"التفسير، معالم حياته، منهجه اليوم" "ص19-27"، و"مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب" "ص287-296" كلاهما لأمين الخولي، وفيه تأييد وتدعيم لكلام الشاطبي هذا بأدلة كثيرة، ثم ظفرت بكلامه في كتابيه السابقين في مادة "تفسير" في "دائرة المعارف الإسلامية" "5/ 348-374" له أيضا، و"اتجاهات التفسير في العصر الراهن" "ص297-302" لعبد المجيد المحتسب.
وانظر في التفسير العلمي أيضا: "مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه" "ص231-250" لعدنان زرزور، و"التفسير العلمي للقرآن في الميزان" لأحمد عمر أبو حجر.(4/159)
ص -129-…وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
ونحو ذلك، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء1.
فأما الآيات، فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو2 المراد بالكتاب في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به3، فلا يكون، ولم يدَّعِهِ أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الدر المنثور" "1/ 56-59"، وسيأتي قريبا تضعيف المصنف لما ورد عن علي في ذلك.
2 في الأصل: "و".
3 أي: من فهمها على أنها أسرار ورموز لحقائق أو أحداث حاصلة أو تحصل، من مثل ما يشير إليه الألوسي في مقدمة "التفسير". "د".(4/160)
قلت: وأورد الرازي في "تفسيره" "1/ 150-151"، والنيسابوري في "غرائبه" "1/ 119-120" نصين فيهما نحو ما ذكر المصنف، انظر مناقشتهما في "براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص117 وما بعدها"، وتجد تفسيرا لهذه الحروف بما لا عهد للسلف به في كتب الصوفية، مثل: "شمس المعارف الكبرى"، و"خزينة الأسرار الكبرى" "ص108 وما بعدها" وكذا في "رسائل إخوان الصفا" "4/ 191"، وكذا في الرسالة النيروزية" "ص92" لابن سينا، وابن أبي الأصبع في كتابه: "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح" وهو مطبوع، وكذا في كتب المستشرقين، انظر ما نقله زكي مبارك عن أستاذه بلانشو في "النثر الفني في القرن الرابع" "1/ 40"، وانظر ما سيأتي "3/ 326" مع تعليقنا عليه.(4/161)
ص -130-…ادَّعوا، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت1؛ فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يعرف عن أحد في هذه الأمة كُذِبَ عليه ما كذب على علي رضوان الله عليه، وأوضح الكذب وأبينه عليه ما زعموه في "الجفر" على نحو ما بيناه في المجموعة الأولى من كتابنا "كتب حذر منها العلماء"، والله الموفق.
2 لو قال: جمهور الناس لا خاصتهم لكان أحسن؛ لأن الخطاب به لكل من بلغه، فقد يفقه بعضه بغير ما يضاف إلى العرب كما ورد: "بلغوا عني ولو آية، قرب مبلغ أوعى من سامع".(4/162)
على أنه لم ينقل فيما سبق نسبة علم الحيوان المسمى بالتاريخ الطبيعي إلى العرب، ولم ينقل أحد أنهم اشتغلوا به، "وليكن على ذكر منك أنه إذا قال في هذا المقام: "العرب، فإنما يعني الذين كانوا في عهد الرسول عليه السلام"، فعلى رأي المؤلف لا يجوز لنا أن نتوصل إلى فهم مثل آيتي سورة النحل في تكوين اللبن والعسل وما فيهما من أعاجيب ربنا في صنعه، لا يجوز لنا أن نتوصل إلى ذلك من علم حياة النحل وحياة الحيوان ذي الدر، مع أنه لا يمكن أن تتم العظة والاعتبار الذي يشير إليه الكتاب في آخر كل آية منهما: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}، {يَعْقِلُون} لا يتم ذلك على وجهه إلا بمعرفة تكوين العسل واللبن، في علم حياة النحل وغيره، وكذا لا يتم فهم: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} على وجهها إلا بعد معرفة ما يصلح من الأمراض أن يكون العسل دواء له، وما لا يصلح بل يكون ضارًّا، ويترتب عليه أن تكون اللام في الناس للجنس أو العموم، وهكذا، والواقع أن كتاب الله للناس كلهم يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى إلى قول علي: "إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله" الحديث. "د".(4/163)
ص -131-…فبه1 يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغيره ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق.
فصل:
- ومنها: أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه2.
وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب، مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبنى على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته.
والدليل على ذلك أشياء:
أحدها:
خروجها3 في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها4، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيه".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 168"، و الاعتصام" "2/ 297"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 7- المقدمة"، و"الرسالة" "ص51، 52، 54، 55، 56، 57"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 15"، و"الإبانة" "ص54- جامعة الإمام".
3 أي: فيصح أن يجري ذلك في القرآن، ولكن بشرط أن لا يكون شاذًّا ونادرًا يخل بالفصاحة، فإن هذا -وإن كان جاريا في كلام العرب- لا يصح أن يقال به في الكتاب "د".
4 أي: في تجويز مخالفات للقياس المطرد، كصرف ما لا ينصرف، ومد المقصور وعكسيه، مع أنه أجيز في الشعر لضرورة الوزن ولا توجد ضرورة في النثر لمثله، فقوله: "وجريانها" عطف خاص على عام للبيان. "د".(4/164)
ص -132-…لم يكن بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها، ولا يعد ذلك قليلا في كلامها ولا ضعيفا، بل هو كثير قوي، وإن كان غيره أكثر منه.
والثاني:
أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف1، كلها شافٍ كافٍ2، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن3 كثير، وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال، وإن كان بين القرائتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى؛ لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب، كـ: {مَالِكِ} و "مَلِكِ" [الفاتحة: 4]. "د".
{وَمَا يَخْدَعُونَ4 إِلَّا أَنْفُسَهُم}، [البقرة: 9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن ذلك تبديل لفظ بآخر، كتبينوا وتثبتوا مثلا. "د".
2 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر، ووردت لفظة: "كلها شافٍ كافٍ" في حديث أبي بن كعب عند أحمد في "المسند" "5/ 124"، وابنه عبد الله في "زياداته" "5/ 124، 125"، و أبي داود "1477"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 670"، وابن جرير في مقدمة "التفسير" "1/ 15"، والضياء في "المختارة" "3/ رقم 1173، 1174، 1175، 1176"، وإسناده صحيح، وجمع طرقه الشيخ عبد الفتاح القاري في جزء مفرد وهو مطبوع.
وللحديث لفظ آخر يأتي قريبا "ص138".
3 في "خ" زيادة: "على"، والصواب حذفها.
4 انظر ما تقدم: "1/ 537".(4/165)
ص -133-…{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}، "لَنُبَوِّينَّهُمْ1 [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا]2" [العنكبوت: 58].
إلى كثير من هذا3 لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.
ألا ترى ما حكى ابن جني4 عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره5 أيضا، قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن…عليها الصبا واجعل يديك لها سترا6
فقلت: أنشدني: "من بائس"، فقال: "يابس" و"بائس" واحد.
فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لما كان معنى البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا الطريقتين، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: "البؤس واليبس واحد"، يعني: بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالثاء المثلثة على ما قرأها حمزة والكسائي كما في "السبعة" "502"، وكذا في الأصل و"ط".
2 في "خ": "لنبوينهم"، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 كما في قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، بكسر اللام للتعليل أو بفتحها على أنها فارقة. "د".
4 في "الخصائص" "2/ 469- ط العراقية"
5 في "ط": "وحكاه غيره"
6 الشخت: الحطب الدقيق، ولم أر تعليقا على البيت في كتب الأدب، ويلوح أن الضمائر المؤنثة في البيت كناية عن النار يذكيها البدوي بالوقود ويستعين على إشعالها بالريح، ثم يجلس إليها للاصطلاء وتدفئة يديه وأطرافه من البرد. "د".
قلت: والبيت في "ديوانه" "176"،وله رواية أخرى في "اللسان" "مادة فوت"
7 فمادة البؤس تدور على الشدة من الشجاعة وغيرها، ومادة اليبس تدور على الجفاف بعد الرطوبة ويلزمها الشدة ضد اللين، فهما متغايران متلازمان. "د".(4/166)
ص -134-…وعن أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابي:
وموضع زبن1 لا أريد مبيته…كأني به من شدة الروع آنس2
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا، [وإنما أنشدتنا]3: "وموضع ضيق" فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن4 والضيق واحد؟!
وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة، وبألفاظ متباينة، يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون5 لفظا واحدا على الخصوص، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا، إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها، وإنما معهودها الغالب ما تقدم.
والثالث:
أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة، كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا، ولم يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ، فقبح "قمت وزيد" كما قبح "قام وزيد"، وجمعوا في الردف بين "عمود" و"يعود" من غير استكراه، وواو عمود أقوى في المد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وهو الصواب، وأورده هكذا ابن جني في "الخصائص" "2/ 469"، وابن منظور في "اللسان" "مادة ز ب ن، 13/ 195"، وقال: "ومقام زبن: إذا كان ضيقا لا يستطيع الإنسان أن يقوم عليه في ضيقه وزلقه"، وفي "المفضليات" "225": "ومنزل ضنك"، وتصحف في النسخ المطبوعة من "الموافقات" إلى "زير" بياء آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د" في الهامش: "المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن"!! انتهى.
قلت: ومعنى البيت: قد أنست بهذا المنزل لما نزلت به من شدة ما بي من الروع، وإن كان ضيقا ليس بموضع نزول.
2 من قصيدة المرقش الأكبر في "المفضليات" "ص225".
3 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها، وأثبتناها من "الخصائص" "2/ 469" لابن جني.
4 سبق في هامش1
5 في "ط": "أنهم ما كانوا يلتزمون".(4/167)
ص -135-…وجمعوا بين "سعيد" و"عمود" مع اختلافهما، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض، وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها.
والرابع:
أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه، فقد كان الأصمعي يعيب الحطيئة، واعتذر عن ذلك بأن قال1:
"وجدت شعره كله جيدا" فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه2، جيده على رديئه"،وما قاله هو الباب المنتهج، والطريق المهيع عند أهل اللسان، وعلى الجملة، فالأدلة على هذا المعنى كثيرة، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم.
وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما3 فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدته4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله في "الأغاني" "2/ 43- 44" بنحوه.
2 أي: عواجله وحواضره.
3 هذه النتيجة ليست هي المنتظرة في هذين الوجهين الأخيرين، بل كان ينتظر أن يأتي من الكتاب أو الحديث بما فيه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمي به الكلام على عواهنه جيده على غير جيده، ولعل ذلك لا يكون في الكتاب والسنة أصلا، وإذا كان هكذا كان المناسب حذف هذين الوجهين من المقام. "د".
4 في الأصل: "حدث"، وانظر في معنى ما ذكره المصنف: "مجاز القرآن" "1/ 8" لأبي عبيدة، و"الرسالة" "ص42" للشافعي، و"الصاحبي" "ص47-48" لابن فارس.(4/168)
ص -136-…فصل:
- ومنها1: أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم، إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة، فذاك كالكنايات الغامضة، والرموز البعيدة، التي تخفى عن الجمهور، ولا تخفى عمن قصد بها، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها.
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف2، واشتركت فيه اللغات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القواعد.
2 أحسن ما رأيته في بيانه ما ذكره النويري في "شرحه للطيبة" في مقدمات الكتاب، وليس فيما عده الإمالة والترقيق لا شيء من صفات الحروف، بل هي أنواع سبعة ترجع لحذف لفظ أو زيادة لفظ كـ "تجري تحتها الأنهار" و"من تحتها"، وإبدال لفظ بمرادفه، كـ"تبينوا وتثبتوا"، وتقديم لفظ وتأخيره، وإبدال حركة بأخرى بتغير المعنى بسببها، ولكنه يكون كل منها صحيحا ومرادان إلى آخر ما ذكره "د".(4/169)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "حكى القرطبي عن ابن حبان أن الاختلاف في معنى الأحرف السبعة بلغ خمسة وثلاثين قولا، وأظهر هذه الأقوال أن يكون المراد منها وجوه تغاير الألفاظ مع الاتفاق أو التقارب في المعنى، ومن أصحاب هذا القول من يرى لفظ السبعة مستعملا في الكثرة، ومنهم من يجعل هذا العدد الخاص مقصودا، ويذكر في بيانه الإبدال واختلاف تصريف الأفعال، واختلاف وجوه الإعراب والتقديم والتأخير والنقص والزيادة، والاختلاف بمثل الإمالة والترقيق والإدغام، واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع،ومن وجوه هذا التغاير ما ينشأ عن اختلاف اللغات، ومنها ما يكون في لغة وحده. "خ".
وانظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 389" وما بعدها".(4/170)
ص -137-…حتى كانت قبائل العرب تفهمه.
وأيضا، فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط، لأن الضعيف ليس كالقوي، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى كالذكر، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة1 الجارية، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه، وألزموا ذلك من طريقهم: بالحجة القائمة، والموعظة الحسنة، ونحو ذلك، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون، ولكلفهم بغير قيام حجة، ولا إتيان ببرهان، ولا وعظ ولا تذكير، ولطوقهم فهم ما لا يفهم وعلم ما لم يعلم، فلا حجر عليه في ذلك، فإن حجة الملك قائمة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا، وكلفهم من حيث لهم القدرة2 على ما به كلفوا، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم3، ويقوى به ضعيفهم، وتنتهض به عزائمهم: من الوعد تارة، والوعيد أخرى، والموعظة الحسنة أخرى، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية، إلى غير ذلك مما في معناه، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضيين، بل هم مشتركون في مقتضاه، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة4 على تحمله، وزادهم تخفيفا دون الأولين، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي "ماء/ ص 153": "العبارات"، وفي باقي النسخ المطبوعة: "العادة".
2 في "ط": "قدرة" بالتنكير.
3 في الأصل: "متادهم"، وقال في الحاشية: "هو جهة من الأود"، وفي "خ": "مناديهم"، وفسرها "د" في الهامش بقوله: "أي: معوجهم".
4 المنة: القوة ".(4/171)
ص -138-…وقد خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: "يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط". قال: "يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"1.
فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم.
فصل:
- ومنها: أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضًا كل المعاني، فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف، 5/ 194/ رقم 2944"، و الطيالسي في "المسند" "رقم 543"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 518"، وأحمد في "المسند" "5/ 132"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" 3/ رقم 1168، 1169، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 14/ رقم 739- الإحسان، والشاشي في "مسنده" "3/ 362/ رقم 1480، 1481" من طرق عن عاصم عن زر عن أبي به.
وإسناده حسن، عاصم صدوق له أوهامن حجة في القراءة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه أبي بن كعب"، وقال قبل ذلك: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بين اليمان وأم أيوب وسمرة وابن عباس وأبي هريرة وأبي جهم بن الحارث بن الصمة وعمرو بن العاص وأبي بكرة".
قلت: وأقرب ألفاظها للفظ المصنف حديث حذيفة عند أحمد في "المسند" "5/ 405-406".(4/172)
ص -139-…المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه، كما لم يعبأ ذو الرمة "ببائس" ولا "يابس" اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم.
وأبين من هذا ما في "جامع الإسماعيلي المخرَّج على صحيح البخاري" عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، قال: ما الأبّ؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أمرنا بهذا1.
وفيه أيضا عن أنس، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]: ما الأبّ؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف2.
ومن المشهور تأديبه لصبيغ3 حين كان يكثر السؤال عن {الْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1]، و {الْعَاصِفَاتِ} [المرسلات: 2] ونحوهما.
وظاهر هذا كله أنه إنما نهي عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلُّفٌ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية: فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي، لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النحل: 47]، فإنه سئل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص، ثم أنشده:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 49"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265".
3 مضى تخريجه "1/ 51"، وهو صحيح، وفي "خ": "ضبيع".
قلت: وفي حاشية الأصل قال: "صبيغ، كأمير، آخره معجمة".(4/173)
ص -140-…تخوف الرحل منها تامكا قردا …كما تخوف عود النبعة السفن1
فقال عمر: "أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم"2، فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا [قد]3 توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول.
فإذا كان الأمر هكذا، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب، لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني4 الخطاب ابتداء، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب5 والسنة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي6، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل، ومشيه على غير طريق، والله الواقي برحمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التامك: السنام، والقرد: الذي تجعد شعره فكان كأنه وقاية للسنام، والنبع: شجر للقسي والسهام، والسفن: كل ما ينحت به غيره. "د".
في حاشية المخطوط ما نصه: "الرحل، بالحاء المهملة: ما يوضع على الدابة، والضمير في "منها" لناقة، وتامكا، على وزن فاعل: سنام الناقة، وقرد، بفتح القاف، وكسر الراء: لبد من السمن، وعود النبعة معروف، والسفن، بفتح السين والفاء: آلة القطع كالقدوم، يقول: إن الرحل قطع من ناقته سناما سمينا كما قطع القدوم شجرة النبع".
2 مضى تخريجه "1/ 58"، وهو ضعيف، وتقدم بيان ما في الشعر من الغريب بتفصيل، ولله الحمد.
3 ليست في الأصل ولا في "ماء".
4 في الأصل: "بني".
5 في الأصل: و"ط": "إلى الكتاب",.
6 ومن أطرف ما يحكى ما عزاه النعيمي في "الدارس في تاريخ المدارس" "1/ 25" إلى النووي بقوله: "وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لما قرأت في "التنبيه": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج"، أعتقد أن ذلك قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني".(4/174)
ونقلها أيضا الذهبي في "تاريخ الإسلام" "ق 574- نسخة رامبور" والسخاوي في ترجمة الإمام النووي" "ص5، 6"، والسيوطي في "المنهاج السوي" "ص32" وعقب عليها بعضهم بقوله: "والظاهر أن الحياء كان يمنعه السؤال عن ذلك".(4/175)
ص -141-…فصل:
- ومنها: أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها.
أما الاعتقادية -بأن تكون من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدًا-، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص، لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ1.
وأيضا، فلو لم تكن كذلك لزمه بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع، كما هو مذكور في الأصول2، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه، وأرجت غير ذلك، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على النظر في المخلوقات، إلى أشباه ذلك، وأحالت3 فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول، نعم، لا ينكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 37".
2 انظر في ذلك: "البرهان" "1/ 105"، و"المستصفى" "1/ 56، 86-88، و"البحر المحيط" "1/ 220 و 388"، و"الإبهاج" "1/ 170"، و"سلاسل الذهب" "136"، و"روضة الناظر" "1/ 234- 235- ط الرشد"، و"المحصول" "1/ 2/ 363"، و"المسودة" "80"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"إرشاد الفحول" 9، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "187- 205" ليعقوب الباحسين.
3 في "خ": "وإحالة".(4/176)
ص -142-…تفاضل الإدراكات على الجملة، وإنما النظر في القدر المكلف به.
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما1 يكون أصلا للباحثين والمتكلفين، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها، حتى قال: "لن يبرح الناس يتساءلون،حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟"2.
وثبت النهي عن كثرة السؤال، وعن تكلف ما لا يعني3 عاما في الاعتقاديات والعمليات، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل4، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وما".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 6/ 336 / رقم 3276"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 119- 120م رقم 134" عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته".
وأورده مسلم بألفاظ مقاربة أخرى، واللفظ الذي عند المصنف هو من حديث أنس مرفوعا، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7296".(4/177)
3 أما النهي عن كثرة السؤال، فقد ورد في غير حديث عند المصنف، منها حديث المغيرة المتقدم "1/ 48"، وأما النهي عن التكلف، فقد أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265" بسنده إلى أنس، قال: "كنا عند عمر، فقال: نُهِينا عن التكلف"، ومن المقرر في علم المصطلح أن قول الصحابي: "نُهِينا"، و"أُمِرنا" له حكم المرفوع.
4 أسند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 938/ رقم 1786" بسند عن مالك، قال: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه.... ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل".(4/178)
ص -143-…سكت عنه، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه.
وعلى هذا، فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية، فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها، ولله در القائل:
وللعقول قوى تستن1 دون مدى…إن تعدها2 ظهرت فيها اضطرابات
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها.
وأما العمليات، فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات3 في الأمور، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس، وغروبها وغروب الشفق، وكذلك في الصيام في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها، نزل4: {مِنَ الْفَجْرِ}.
وفي الحديث: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من استن الفرس قمص وهو أن ترفع يديها وتطرحهما معا وتعجن برجليهان وهو غاية الاعوجاج في سيرها، فلا تقطع به الطريق، وتؤذي راكبها. "د".
2 في الأصل: "تعده".
3 لعل الأصل "بالتقريبات"، أي فلم يكلفوا بما يقتضي الضبط التام للأوقات، بل بأمارات وعلامات تقريبية، مع أنها جعلت أمارات لجلائل الأعمال كالصلاة والصوم والحج. "د".
4 سيأتي تخريج ذلك "3/ 298".(4/179)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم باب متى يحل فطر الصائم، 4/ 196 رقم 1954"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، 2/ 772/ رقم 1100"، والترمذي في "الجامع "أبواب الصوم، باب وقت انقضاء الصوم وخروج النهار/ رقم 698"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "8/ 34"-، وأحمد في "المسند" "1/ 28، 35، 48، 54"،والبيهقي في الكبرى "4/ 216، 237، 238" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(4/180)
ص -144-…وقال: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا"1.
وقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"2.
ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل، لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها3، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه4، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في الصحيحين" بلفظ: "إنا" بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، 4/ 113/ رقم 1900، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا"4 / 119/ رقم 1906"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3 كيف يتفق هذا مع ما تقدم له في المسألة الثالثة؟ "د".
4 ذهب قوم منهم ابن شريح* إلى اعتبار منازل القمر والرجوع إلى المنجمين، وتأولوا على هذا الرأي قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا غم عليكم، فاقدروا له"، والمحقق أن المراد من قوله: "فاقدروا له" ما بينته رواية: "فإن غم عليكم، فاقدروا ثلاثين"، ورواية: "فأكملوا العدة ثلاثين"،ويؤيده من جهة النظر ما أومأ إليه المصنف من أن الصوم عبادة يتوجه الخطاب بها إلى المكلفين عامة، فلم يكن من اللائق تعليق الحكم فيها بما لا يعرفه إلا طائفة خاصة من الناس. "خ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل الصواب: "سريج".(4/181)
ص -145-…عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية، فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام.
فإن قيل1: هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق2 النظر في مواقع الأحكام، ومظان الشبهات، ومجاري الرياء والتصنع للناس، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات، التي هي عند الجمهور من الدقائق التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص، وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل إليها الجمهور.
وأيضا، لو كانت كذلك، لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية، وهكذا سائر القرون إلى اليوم، فكيف3 هذَا؟
وأيضا، فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة، وما يعرفه العلماء خاصة، وما لا يعلمه إلا الله تعالى، وذلك المتشابهات، فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق، وما لا يوصل إليه على الإطلاق، وما يصل إليه البعض دون البعض، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة؟
فالجواب أن يقال: أما المتشابهات، فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السؤال وارد على كلامه في الاعتقاديات والعمليات بدليل قوله: "فإن الشريعة قد اشتملت.... إلخ". "د".
2 في الأصل: "وتدقيق".
3 في الأصل: "وكيف".(4/182)
ص -146-…آية التنزيه، وإما راجعة إلى قواعد شرعية، فتتعارض أحكامها1، وهذا خاص مبني على عام2 هو ما نحن فيه، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه:
أحدها:
أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها، حتى زايل الأمية من وجه، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته، فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي إلى ما فهمه، والنسبة إذا كانت محفوظة، فلا يبقى تعارض3 بين ما تقدم وما ذكر في السؤال.
والثاني:
أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد، ورفع بعضهم فوق بعض، كما أنهم في الدنيا كذلك، فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له، لكن الجميع جار على أمر مشترك.
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك، بل يدخلون مع غيرهم فيها، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن المسألة تكون محتملة الدخول تحت قواعد شرعية مختلفة، فتتعارض أحكامها بحسب الظاهر، ويحصل الاشتباه. "د". وفي "ط": "تتعارض أحكامها".
2 في "خ": "هام".(4/183)
3 كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"، وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين التسليم بالإشكال على ما سبق؟ "د".(4/184)
ص -147-…بعينه، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك.
كما نقول: إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة، ومع ذلك، فمنه ما هو من الجلائل،كالورع عن الحرام البين، والمكروه البين، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم، وهو منها عند قوم آخرين، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون، فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك1 مفهوم للجمهور على الجملة.
والثالث:
أن ما فيه التفاوت إنما تجده2 في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده، بل وكلت إلى نظر المكلف، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه، فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو3 المطلوب منه، ومن مدرك فيها أمرا هو4 فوق الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل في هذه الفصول بإثباتها، وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تفهم إلا بالوجه الذي يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين والجمهور، وبنى على هذه النتائج. "د".
2 على كل حال هو موجود، سواء أكان في هذا النوع فقط أم على الإطلاق، فلا ينحسم الإشكال. "د".
3 في الأصل: "هو".
4 في الأصل: "فهو".(4/185)
ص -148-…الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما1 دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم، والله أعلم.
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل2 بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور3 الشرعية ولا العقلية- وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده4- بخلاف من كان له بذلك عهد، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا5 ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة.
وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق". قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "فيها".
2 في الأصل: "يقل".
3 في "ط": "العلوم".
4 في "ط": "معتاداته".
5 في الأصل: "شيئا".(4/186)
6 نحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم، وكتب "خ": من أقوى الدعائم في نجاح السياسة أن يفحص الرئيس مزاج الأمة ويسير في علاجها وترقية شأنها شيئا فشيئا للوجه الذي بسطه المصنف في هذا المقام، وقد يتخذ الأجنبي المتغلب هذه الطريقة محورًا يدير عليها سياسته في الشعوب الغافلة، فيوجس في نفسه أن يضع عليها من القوانين والتصرفات ما ينحدر بها إلى هاوية الشقاء والجهالة، ولكنه يحذر أن تطرحها جملة وتفضل الموت في مواقع الدفاع على الحياة تحت نير الأسر والاستعباد، فيأخذها بتلك القوانين والتصرفات رويدا رويدا حتى تألف مرارتها ويتهون عليها المقام تحت أعبائها".(4/187)
ص -149-…وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجري بالمصلحة وأجري على جهة التأنيس1، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية؛ لأنها إذا نزلت كذلك، لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأسا، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له، ثم كذلك في الثالث والرابع.
ولذلك أُونسوا في الابتداء2 بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه، يقول تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النحل: 123].
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آل عمران: 68].
إلى غير ذلك من الآيات: فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "التأنيث".
2 ظاهر فيما كان من ذلك مكيا وسابقا، وأما ما كان مدنيا أو متأخرا كآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ}، فلا يظهر فيه قوله أونسوا في الابتداء، إلا أن يقال: إن مثله زيادة في التوكيد والتقرير كما هو شأن ما تكرر من المكيات في المدينة. "د".
قلت: والجملة في الأصل: "أنسوا في الابتداء"، وفي "ط": "ولذلك أيضا أُونسوا".(4/188)
ص -150-…وفي الحديث: "الخير عادة"1 وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه، وانشرح به صدره، فلا يأتي فعل ثانٍ إلا وفي النفس له القبول؛ هذا في عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف2، وينهي عن التعمق والتكلف3 والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80/ رقم 221"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 8/ رقم 310 - الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "19/ 385-386/ رقم 904"، و"مسند الشاميين" "رقم 2215"، وابن عدي في الكامل" "3/ 1005"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 20"، وابن أبي عاصم في "الصمت" "100"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 252"، و"تاريخ أصبهان" "1/ 345"،والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 22 عن معاوية مرفوعا، وإسناده حسن، والحديث في "السلسلة الصحيحة" لشيخنا الألباني "رقم 651".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة مرفوعا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
وأخرج برقم "2594" عنها رضي الله عنها مرفوعا: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
3 وقد مضى ذلك في التعليق على "ص142".(4/189)
ص -151-…المسألة الخامسة:
إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: [من جهة دلالته على المعنى الأصلي، و]1 من جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي2، كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي؟ أو يعم الجهتين معا؟
أما جهة المعنى الأصلي، فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق، ولا يسع فيه خلاف على حال، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي، والعمومات والخصوصات، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول.
وأما جهة المعنى التبعي، فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا؟ هذا محل تردد، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر.
فللمصحح أن يستدل بأوجه:
أحدها:
أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه، أو لا، ولا يمكن عدم اعتباره؛ لأنه إنما أتي به لذلك المعنى، [فلا بد من اعتباره فيه، وهو زائد على المعنى]3 الأصلي وإلا لم يصح، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا، لم يمكن إهماله وإطراحه، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول، فهو إذا معتبر، وهو المطلوب.
والثاني:
أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1و 3" ساقط من الأصل، والمعنى الأصلي: هو لفظ القائل الذي يقصد به الأشياء أو يعمه، والمعنى التبعي: الذي هو الحال الذي يفهم منه زائدا على المعنى الأصلي. "ماء / 156".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للأصل".(4/190)
ص -152-…بلسان العرب، لا من جهة كونها كلاما فقط، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى، وما دل بالجهة الثانية، هذا وإن قلنا: إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاصة، فذلك كله غير ضائر، وإذا كان كذلك، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص، وترجيح من غير مرجح، وذلك كله باطل، فليست1 الأولى إذا ذاك بأولى للدلالة2 من الثانية، فكان اعتبارهما معا هو المتعين.
والثالث:
أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام: "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي"3، والمقصود الإخبار بنقصان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "ليست"
2 في "ط": "بالدلالة".
3 قال البيهقي في "المعرفة" "1/ 367": "وأما الذي يذكره بعض فقهائنا في هذه الرواية عن قعودها شطر دهرها لا تصلي، فقد طلبته كثيرا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسنادًا بحال، والله أعلم".
وقال ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في "الإمام" عنه: "ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من ا لوجوه"، كذا في "التلخيص الحبير" "1/ 162".
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "وهذا لفظ لا أعرفه"، وأقره محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 615"، ونقل كلامهما ولم يتعقبهما الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 193". وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب""1/ 46- ط المصرية القديمة" بعد ذكره: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه".(4/191)
وقال النووي في "شرحه" المسمى "المجموع" "2/ 377": و"أما حديث "تمكث شطر دهرها"، فحديث باطل لا يعرف"،وقال في "الخلاصة": باطل لا أصل له"، وقال المنذري: "لم يوجد له إسناد بحال، وأغرب الفخر ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له، كذا قال، وابن أبي حاتم ليس هو بستيا إنما هو رازي، وليس له كتاب يقال له "السنن".
تنبيه:
في قريب من المعنى ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد، قال: "أليس إذا حاضت=(4/192)
ص -153-…الدين، لا الإخبار بأقصى المدة، ولكن المبالغة1 اقتضت ذكر ذلك، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها.
واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغلسها"2 الحديث، فقال: لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها؟"،ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها"، ومن حديث أبي هريرة كذلك، وفي "المستدرك" من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: "فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة". قلت: وهذا وإن كان قريبا من معنى الأول، لكنه لا يعطي المراد من الأول، وهو ظاهر من التفريع، والله أعلم، وإنما أورد الفقهاء هذا محتجين به على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، ولا دلالة في شيء من الأحاديث التي ذكرناها على ذلك، والله أعلم. قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 162- 163".
ولقد تلقى المتأخرون ما أطلقه ابن منده والبيهقي وغيرهما من أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، كما تراه في "المقاصد" "ص164"، و"مختصر المقاصد" "ص88"، و"التمييز" "ص62"، و"الكشف" "1/ 39"، و"المصنوع" "ص85"، و"الدرر المنتثرة" "ص113"، و"الأسرار المرفوعة" "ص177- 178"، و"الغماز على اللماز" "ص85"و "النخبة البهية" "ص48"، واللؤلؤ المرصوع" رقم 153".
1 أي: فالمقام يقتضي ذكر أقصى ما يقع لها من الحيض الذي يمنع الصلاة وينقص به الدين. "د".(4/193)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، 1/ 263/ رقم 162"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا، 1/ 233/ رقم 278" والمذكور لفظه عن أبي هريرة وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على كتاب "الطهور" "رقم 279".
قال الشيخ "د": "وتمامه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال الأئمة: "إنه مستحب، أي لهذا التوهم، أن تكون يده مست نجاسة من ذكره أو غيره، فأخذ منه الشافعي الحكم المذكور".(4/194)
ص -154-…الاستحباب، فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة، لكنه لازم مما قصد ذكره.
وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فالمقصد في1 الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدًا، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدًا، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر.
وقالوا في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية [البقرة: 187] إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام، لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي2 ذلك، وإن لم يكن مقصود البيان، لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب3.
واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وأشباه ذلك من الآيات، فإن المقصود4 بإثبات العبودية لغير الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "فالقصد".
2 في الأصل: "يقتضي".
3 الدلالة في هذه الآية وما تقدمها من قبيل دلالة الإشارة التي هي دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى المقصود من السياق، وهي أحد أقسام المنطوق غير الصريح كدلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء. "خ".(4/195)
4 أي: الأصلي الذي سيق له التركيب، أما كونه لا يملك، فهو معنى تبعي ولازم من إثبات كونه عبدا ونفي كونه ولدا، لأنه لما نفى الولدية بسبب العبودية وهو المقصود الأصلي، دل على أن هناك تنافيا بين الولدية والعبودية، فالولد لا يملك ولا يكون عبدا، فقوله: "لكنه" الضمير فيه لقوله لا أن الولد لا يملك، وقوله: "وأن لا يكون" سقط منه في الأصل حرف العطف ولا غنى عنه، والمعنى أن كون الولد لا يملك لزم من أمرين في الآية وهما نفي الولد وإثبات ألا يكون إلا عبدا، وكلاهما صريح الآية ومنطوقها، وكونه لا يملك لازم لهذين المعنيين، لأنه إذا كان هناك تنافٍ بين الولدية والعبودية أي الملكية فالولد لا يملك، حتى صح الاستدلال بتنافيهما. "د".(4/196)
ص -155-…وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد، إلا أن الولد لا يملك، لكنه لزم من نفي الولادة1 أن2 لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا، إذ لا موجود3 إلا رب أو عبد.
واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء العشر"4 الحديث، مع أن المقصود5 تقدير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقوله: {سُبْحَانَهُ}، وبالحصر في قوله: {بَلْ هُمْ عِبَادٌ}. "د".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وأن" بزيادة واو، وفي "ط": "المنسوب لها".
3 هذا كلام آخر دليل على الحصر الذي قبله. "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، 3/ 347/ رقم 1438"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع 2/ 252 / رقم 1596"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة" باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها 2/ 75/ رقم 635"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر، 5/ 41" وابن ماجه في "السنن": "كتاب الزكاة، باب صدقة الزروع والثمار 1/ 581/ رقم 1817" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه زيادة وتتمة ستأتي عند المصنف "ص3/ 162".
وأخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة" باب ما فيه العشر أو نصف العشر 2/ 675/ رقم 981"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 41، 42"، من حديث جابر.
وفي الباب عن معاذ وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم جميعًا.
5 من أين للمؤلف هذا؟ ولم لا يكون المقصود إفادة المعنيين المخرج والمخرج منه قصدًا أصليًّا؟. "د".(4/197)
ص -156-…الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه، ومثله كل عام نزل على سبب1، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود، [وإن]2 كان السبب على الخصوص.
واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع3.
وأثبتوا القياس الجلي 4 قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، مع5 أن المقصود في قوله عليه السلام: "من أعتق شركا له في عبد"6 مطلق الملك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله يريد أنه حينئذ يكون القصد الأصلي الإجابة على قدر السبب، ويكون الزائد من قبيل ما نحن فيه ليس مقصودا أصليا بل تبعي، وهو محل تأمل؛ لأن الدلالة عليه في مثل الحديث بنفس صيغة العموم، وهي ما بأصل الوضع، فليس من باب اللازم كما يدل عليه قوله: "اعتبارا بمجرد اللفظ"، وقوله: "ومثله" ليس المراد المماثلة الخاصة وأن الحديث السابق مما ورد على سبب، فإنهم لم يذكروا أن حديث الزكاة المذكور نزل على سبب بل المراد المماثلة العامة في أصل الموضوع، وهو الاعتداد بالمعاني الثانوية في استنباط "الأحكام" الشرعية كبقية الأمثلة السابقة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 يريد أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عنه، وهو متمشٍ مع ما سبق في الموضوع. "د".
4 وهو ما قُطع فيه بنفي الفارق كمثاله، فإن قصد الشارع للحرية لا فرق فيه بين الذكر والأنثى قطعا. "د".
5 الظاهر الواو بدل مع، والمعنى أن اللفظ بحسب وضعه دال على خصوص الذكر، لكنهم حملوا الأنثى عليه في سريان العتق؛ لأنه لا فارق، ولزم من كونه لا فارق أن يكون مقصود الشارع بالعبد هنا مطلق الملك مجازا، وهو معنى تبعي لا أصلي. "د".(4/198)
6 تمام الحديث: "وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، 5/ 132 / رقم 2491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العتق، باب منه، 2/ 1139/ رقم 1501"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب العبد يكون بين الرجلين... 3/ 629/ رقم 1346"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العتق، باب من روي أنه لا يستسعى، 4/ 256/ رقم 3940"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق، 7/ 319"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب العتق، باب من أعتق شركا له في عبد 2/ 844/ رقم 2527"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(4/199)
ص -157-…لا خصوص الذَّكَر...
إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول، وإذا كان كذلك، ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به.
وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه:
أحدها: أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها، فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى، ومقوية لها، وموضحة لمعناها، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول، ومن العقول موقع الفهم، كما تقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40].
وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].
فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر1، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس المقصود المعنى الأصلي، والتهديد مثلا هو المعنى التبعي، وأن كلا منهما* يأخذ منه حكم، بل المعنى المقصود هنا في الحقيقة هو التهديد مثلا، أما طلب الفعل، فليس مقصودا، وكأن المعنى الأصلي هو المقوي للمعنى التبعي، وهذا وإن كان عكس ما قرره، إلا أنه يفيد أنهما لا ينفكان في الدلالة على المعنى المقصود وتقويته ووقوعه الموقع من الفهم، ولو قال ذلك، لكان أتم، ولعله يقول: إن الصيغة موضوعة** للتهديد، وأنه معنى أصلي لها أيضا، والأمر هو المعنى الثانوي مبالغة في التهديد. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "منها".
** في المطبوع: "موضوع".(4/200)
ص -158-…فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر، ولا يصح أن يؤخذ، وكما نقول في نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]: إن المقصود: سل أهل القرية، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة1 في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك، فلم ينبنِ على إسناد السؤال للقرية حكم، وكذلك قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان2، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار3... إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها، وإذا كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهو تقوية للمعنى المقصود، حتى كأنه لا يدع أحدا من أهلها بدون سؤال. "د".
2 قال بعضهم: المراد بالسموات والأرض هذه الأرض المشاهدة، والكواكب والأفلاك الموجودة، وهذه تبدل وتغير قطعا كما في النصوص، وإن المراد بهذا التعليق التأبيد كما هو معهود العرب في مثله نحو: ما طلع نجم، وما غنت حمامة، مما يقصد به التأبيد لا التعليق، فكون السماوات والأرض تفنيان لا يؤثر في هذا المعنى المقصود وهو التأبيد، ولكن التعليق يقوي هذا المعنى ويوقعه في الفهم الموقع، أما على القول بأن المراد بالسموات والأرض جنسهما، وأنه لا بد من أرض وسماء للجنة والنار غير هذين، وأن التعليق على دائم يقتضي الدوام، فلا يكون مما نحن فيه، فلذا قال: "بناء على القول بأنهما تفنيان"، وبهذا تعلم أن كلام بعضهم هنا انتقال نظر، فإنه ليس الكلام في بقاء الجنة والنار وفنائهما كما هو واضح، فإن القول بأن الجنة تفن لم يقل به مسلم فضلا عن أن نبني عليه استدلالا كهذا. "د".
3 القول بأن الجنة والنار تفنيان هو مذهب جهم بن صفوان إمام الجهمية، وقد تحطمت عقيدتهم الإسلامية على صخرة هذه المقالة، ودخلوا في زمرة المخالفين لصريح كتاب الله وسنة=(4/201)
ص -159-…كذلك، فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى، فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زئدا على ذلك بحال.
والثاني: أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى1، إذ كان يكون تقرير2 ذلك المعنى مقصود بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية، وقد فرضناه من الثانية، هذا خلف لا يمكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله، وما القول بأن الجنة أبدية والنار فانية، فقد حكاه الشيخ ابن تيمية عن بعض الصحابة والتابعين، وتصدى ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" إلى ترجيحه وبسط أدلته. "خ".
قلت: كذا قال الشيخ "خ" رحمه الله تعالى، ولم يصب في ذلك، فقد حكاه ابن تيمية وتبعه ابن القيم، فأسهب في هذا المبحث في كتابيه "شفاء العليل" "ص528-552"، و"حادي الأرواح" "ص276-311"، وذكر أدلة القائلين بالفناء، وسكت عليها، فأوهم أنه يرى فناء النار، مع أنه صرح في كتابه "الوابل الصيب" "ص29" أن نار الكافرين والمنافقين لا تفنى، وأن نار عصاة الموحدين هي التي تفنى، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وهذا ما صرح به ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "1/ 157"، و"درء تعارض العقل والنقل" "1/ 305"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 304"، وله "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار" ذكرها يوسف بن عبد الهادي في "فهرسته" "ق 26/ أ"، وانظر في المسألة: "رفع الأستار" للصنعاني مع مقدمة شيخنا الألباني، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة" "ص246-267" لصلاح مقبول، و"دفع إيهام الاضطراب" "ص122" للشنقيطي، و"دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية" لأخينا مراد شكري "ص111-119"، و"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" لعلي بن علي جابر الحربي، نشر دار طيبة- مكة المكرمة.(4/202)
1 أي: لكانت جهة تقصد قصدا أوليا، فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. "د".
2 في الأصل: "تقدير".(4/203)
ص -160-…لا يقال: إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية: إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، والجميع مقصود للشارع، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية، وينبني على ذلك1 في أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء الله، فكذلك نقول هنا: إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع2 قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها؛ لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا، وإذا اتحدت النسبةكان التفريق بينهما غير صحيح، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى.
لأنا نقول: هذا -إن سلم- من أدل الدليل على ما تقدم، لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوَطَر مثلا صحيحًا، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل، فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع، فكذلك نقول في مسألتنا: إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى، في نفس ما دلت عليه الأولى، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي، فالمعني التبعي راجع إلى المعنى الأصلي، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي، وهو المطلوب.
وأيضا، فإن بين المسألتين فرقا، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات؛ لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم، وقضاء أوطارهم، ورفع الحرج عنهم، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات، صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل استظهر ناسخ الأصل أن هناك كلمة أمور أو أحكام هنا.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "ممتنع".(4/204)
ص -161-…إفراده بالقصد من هذه الجهة، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية، بخلاف مسألتنا، فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى؛ لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد؛ فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره.
والثالث: أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة، فلو جاز أخذه من غيرها، لكان خروجا بها عن وضعها، وذلك غير صحيح، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونها تبعا للأولى، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي، وذلك غير صحيح، فما أدى إليه مثله، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين: إما إلى الجهة الأولى، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك1.
فأما مدة الحيض، فلا نسلم أن الحديث دال عليها، وفيه النزاع، ولذلك يقول الحنفية2: إن أكثرها عشرة أيام، وإن سلم، فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع3، وفيه الكلام.
ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس 4 أو غيره، وأقل مدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإما لا استفادة أصلا كما في مدة الحيض على الشق الأول قبل التسليم، فإنه يمنع دلالة الحديث عليها، ويحتمل أنه يشير بالجهة الثالثة إلى ما سيأتي له في الفصل التالي من التأسي بالآداب القرآنية. "د".
2 في الأصل و"ط": "الحنفي".
3 أي: بل بدلالة غير وضعية، وكلامنا إنما هو في مستتبعات التراكيب، أي: دلالة الألفاظ. "د". قلت: انظر المسألة وأدلتها في "الخلافيات" "3/ رقم 48- وتعليقي عليها".
4 غير واضح؛ لأنه إما أن يكون ما تقدم في الاستدلال من نفس كلام الشافعي أو لا، فإن كان الأول، فهذا الجواب غير ظاهر؛ لأن صريح الكلام يمنع هذا الجواب، وإن كان الثاني، فكيف ساغ نسبة هذا الدليل للشافعي من طرف المصحح؟ "د"(4/205)
ص -162-…الحمل مأخوذة من الجهة الأولى1 لا من الجهة الثانية، وكذلك مسألة الإصباح جُنُبًا، إذ لا يمكن غير ذلك2، وأما كون الولد لا يملك، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع، وما ذكر في مسألة الزكاة، فالقائل بالتعميم إنما بنى على أن العموم مقصود، ولم يبن على أنه غير مقصود، وإلا كان تناقضا، لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع، فكيف يصح الاستدلال بالعموم، مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}3 [الجمعة: 9]، فهو عنده مقصود لا ملغى، وإلا، لزم التناقض في الأمر4 كما ذكر، وكذلك شأن القياس الجلي، لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب.
فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت، فلا يصح إعماله ألبتة، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث، كذلك يمكن في الأول والثاني، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه: "فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا، فلا يمكن إهماله"، وهذا عين مسألة النزاع، والثاني مسلم، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه، فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس هنا لفظ وضع للدلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، بل إنما أخذ ذلك من عملية جمع وطرح، فكان الباقي هو العدد المذكور، وهو من باب اللزوم قطعا، "د".
2 أي: فيتوقف صحة الكلام على ثبوت هذا المعنى، وهو ما يسمى اقتضاء على بعض الاصطلاحات. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
4 في "ط": "في الاستدلال".(4/206)
ص -163-…فصل:
قد تبين تعارض الأدلة في المسألة، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة.
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معانٍ زائدة على المعنى الأصلي، هي آداب شرعية، وتخلقات حسنة، يقر بها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا.
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة:
أحدها:
أن القرآن أتى بالنداء1 من الله تعالى للعباد، ومن العباد لله سبحانه، إما حكاية، وإما تعليما، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد، ثابتا غير محذوف، كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف: 158]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104].
فإذا أتي بالنداء من العباد إلى الله تعالى، جاء من غير حرف [فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف] نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن التنبيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع. "د".(4/207)
ص -164-…وأيضا، فإن أكثر حروف النداء للبعيد، ومنها "يا" التي هي أم الباب، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186].
ومن الخلق عموما، لقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
فحصل من هذا التنبيهُ على أدبين:
أحدهما: ترك حرف النداء.
والآخر: استشعار القرب.
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة، وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن مداناة العباد، إذ هو في دنوه عالٍ، وفي علوه دانٍ، سبحانه!
والثاني:
أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه، فأتى في النداء القرآني1 بلفظ: "الرب" في عامة الأمر، تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعو بها، وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب، فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] إلى آخرها، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وأما الدعاء في الحديث، فالشائع فيه لفظ الجلالة، ولكل سرٌّ وحكمة، وسيأتي له التعبير بكثرة بدل "عامة". "د".(4/208)
ص -165-…وإنما أتى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] من غير إتيان بلفظ الرب"؛ لأنه لا مناسبة1 بينه وبين ما دعوا به، بل هو مما ينافيه، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} الآية: [المائدة: 114]، فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا.
والثالث:
أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيى من التصريح بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط، وكما قال في نحوه: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام}2 [المائدة: 75] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل.
والرابع:
أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضي الحال يستدعيه، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4].
ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5].
وبالعكس إذا اقتصاه الحال أيضا، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} [يونس: 22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومع هذا، فلا حاجة إلى الاعتذار عنه؛ لأنه محكي على لسان الجحدة الذين لم يصلوا للآداب إنما يحتاج للاعتذار عن مثل قوله تعالى حكاية عن نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} والجواب أن هلاك هؤلاء رحمة بسائر أولاد آدم، كما قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك}. "د".
قلت: سيأتي إيضاح ذلك في التعليق على "4/ 203، 432" بوجه أوضح وأوعب.
2 أي: ويلزمه قضاء الحاجة التي لا تليق بالإله. "د".(4/209)
ص -166-…وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] حيث عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقدار من [هذا]1 العتاب، لكن على حال2، تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتَب، ثم رجع الكلام إلى الخطاب، إلا أنه بعتاب أخفَّ من الأول3، ولذلك ختمت الآية بقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة} [عبس: 11].
والخامس:
الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى4، وإن كان هو الخالق لكل شيء، كما قال بعد قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}..... [آل عمران: 26] إلى قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، ولم يقل: "بيدك الخير والشر" وإن كان قد ذكر القسمين معا، لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر، نعم قال في اثره: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 26] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه، حتى جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والخير في يديك والشر ليس إليك"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 في "ط": "حالة".
3 انظر: "روح المعاني" "30/ 39"، و"تفسير القرطبي" "19/ 211"، و"فتح القدير" "5/ 382"، و"آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد" "ص279-287".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207-211 و14/ 18-28 و299-302"، و"الحسنة والسيئة" "ص190"، و"شفاء العليل" "ص178"، و"مدارج السالكين" "1/ 194"، و"شرح الطحاوية" "282".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب الرقاق، باب قوله عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 11/ 388/ رقم 6530" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك".(4/210)
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 534-535/ رقم 771" عن علي مرفوعًا، "إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال.... والخير كله في يديك والشر ليس إليك".(4/211)
ص -167-…وقال إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78] إلخ، فنسب إلى رب العالمين الخلق، والهداية، والإطعام، والسقي، والشفاء، والإماتة، والإحياء، وغفران الخطيئة، دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض، فإنه سكت عن نسبته إليه.
والسادس:
الأدب في المناظرة1 أن لا يفاجئ بالرد كفاحًا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود: 35].
وقوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43].
{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية.
والسابع:
الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية، كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المنهاج" للباجي "ص9-10".(4/212)
ص -168-…ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21]. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الأنعام: 152].
وما أشبه ذلك، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف [كان]1 يكون، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا، فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر- بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور- أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم، دخولا في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بأخبار كثير من المنافقين2 ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون3؛ لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر4، فما نحن فيه نوع من هذا الجنس، والأمثلة كثيرة، فإن كان كذلك، ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية، وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى، وهو توهين لما تقدم اختياره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من "خ" و"ط".
2 في "ط": "يعلم بكثير من أخبار المنافقين".
3 وكان يعلل ذلك بقوله: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه" كما سيأتي "ص467".(4/213)
4 قبوله عليه الصلاة والسلام لدخول المنافقين في جملة أتباعه مع معرفته بما تنطوي عليه صدورهم كان من حسن النظر والبعد في مذاهب السياسة بالمكان الذي ليس وراءه مرمى، حيث يكثر بهم سواد حزبه رأي العين، ويفصلهم عن أن يكونوا أعوانا لأعدائه وكان يرجو مع ذلك هدايتهم وخلوص عقيدتهم لكثرة ما يشاهدونه من آيات نبوته ودلائل صدقه، وقد انقلب كثير منهم بعدما تخبطتهم وساوس النفاق إلى إيمان كفلق الصبح، وهذه كلها مصالح لا يظهر بجانبها المفاسد الناجمة عن بقائهم في جماعة المسلمين ولا سيما مع تتبع خطواتهم والحذر من مكايدهم. "خ".(4/214)
ص -169-…والجواب: إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهة أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال1، [والله أعلم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن تيمية في "المسودة" "ص298": "الأصل قول الله تعالى وفعله وتركه القول، وتركه9 الفعل، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وإن كانت جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه".
قلت: والاحتجاج بأفعاله سبحانه فيها خلاف، والصواب التفصيل، واختيار المصنف حسن.
وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 231"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123"، و"إرشاد الفحول" "173"، و أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 150-154" للأشقر.
2 زيادة من "ط".(4/215)
ص -171-…النوع الثالث: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها
ويحتوي على مسائل
المسألة الأولى:
ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه1 القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا2، ولا معنى لبيان ذلك ههنا، فإن الأصوليين3 قد تكفلوا بهذه الوظيفة، ولكن نبني عليها ونقول: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما4 لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أقف على قول بالسببية بالمعنى الذي ذكره في تعريف السبب. "د".
2 خلافا للحنفية والمعتزلة القائلين بالمنع عقلا أيضا. "د".
3 انظر على سبيل المثال: "البرهان" "1/ 105" للجويني، و"المستصفى" "1/ 86-88" للغزالي، و"البحر المحيط" "1/ 388"، و"سلاسل الذهب" "136"، كلاهما للزركشي، و"المسودة" "80" لآل تيمية، و"روضة الناظر" "1/ 234 - ط الرشد" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 288، 10/ 344-348، 22/ 41-43، 100-102"، و"إعلام الموقعين" "4/ 220"، و"تهذيب السنن" "1/ 47"، و"بدائع الفوائد" "4/ 29-31"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 770"، كلها لابن القيم.
4 أي: بالذي(4/216)
ص -172-…فقول الله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1 [البقرة: 132]، قوله في الحديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"2، قوله: "لا تمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية مثال للتكليف بالإسلام السابق على الموت، ولا يفيد عند المقارنة والمثال الثاني من التكليف بالسوابق أيضا، فإنه لما تعارض عليه الأمر وكان بين أن يقتل غيره أو يقتله غيره فيما لا تحل فيه النفس، أمر بإسلام الأمر لله، وعدم الإقدام على قتل الغير، والمثال الثالث يصح أن يكون من النهي عن الظالم السابق على الموت والظلم الذي يقارن الموت، كأن لا يتحلل عند الموت من الظلم، أو تبقى بعض الوسائل التي بها الظلم مقارنة للموت، كمن غصب بيتا سكنه ومات فيه، أو ثوبا بقي في حوزته مغصوبا حتى مات، وما أحسن تعبير أبي طلحة بقوله: "لا يصيبوك"، ولم يقل "فيصيبوك" تفريعا على المنهى عنه، وكان هو المتبادر، لكنه لا يريد النطق بهذه الكلمة على طريق الإثبات، وليس من الأمثلة المذكورة ما فيه اللواحق، وفيما تقدم في الأسباب في المسألة العاشرة فيمن سن سنة حسنة أو سيئة ما يؤخذ منه استنباط أمثلة اللواحق. "د".
قلت: وانظر في هذا: "الأحكام" "1/ 192" للآمدي، و"الابتهاج" "1/ 172"، و"البحر المحيط" "1/ 220"، و"سبل السلام" 4/ 298"، و"أصول الفقه" "304" لأبي زهرة، و"رفع الحرج" "214- 215" لباحسين.
2 عزاه الرافعي في "شرح الوجيز" لحذيفة، وتعقبه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84" بقوله: "هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في "النهاية" أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن".
قلت: وجاء معناه في غير حديث: منها:(4/217)
- لا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 4/ 1476/ 1847 بعد 52" بسنده إلى حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. الحديث، وفيه: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع".
- وما أخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 177/ رقم 1724" عن جندب بن سفيان مرفوعا: "سيكون بعدي فتن كقطع الليل...." وفي آخره: "وليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل". =(4/218)
ص -173-…وأنت ظالم"1، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو: الإسلام وترك الظلم، والكف عن القتل، والتسليم لأمر الله، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل.
ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: "لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفيه شهر بن حوشب وعبد الحميد بن بهرام، وقد وثقا وفيهما ضعف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303".
- وما أخرجه أحمد في المسند" "5/ 110"، و الطبراني في "الكبير" "4/ 59-60/ رقم 3628-3631"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 176-178/ رقم 7215" عن خباب في حديث طويل، فيه: "فكن عبد الله المقتول"، وفي بعض رواياته زيادة: "ولا تكن عبد الله القاتل" على الشك وبدونه، ورجاله ثقات، إلا أن فيه مجهولا، فهو ضعيف.
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303": "لم أعرف الرجل الذي من عبد القيس، وبقية رجاله رجال الصحيح".
- وما أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 292"، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 138"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 156/ رقم 399"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 466/ رقم 646"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 281"، والطبراني في "الكبير" "4/ 225"، والبزار في "المسند" "4/ 125/ رقم 3356 - زوائده" من طرق عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن خالد بن عرفطة مرفوعا: "يا خالد! إنها ستكون أحداث واختلاف وفتن، فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل، فافعل".
قال البزار عقبه: "لا نعلمه يروى عن خالد بن عرفطة إلا بهذا الإسناد".(4/219)
وعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف لكن اعتضد كما ترى، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84"، وعزاه فيه إلى ابن قانع، واضطرب فيه ابن جدعان، فكان يجعله من مسند سعد رفعه بلفظ: "إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا تقتل أحدا من أهل القبلة، فافعل".
أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "ص484-485/ ترجمة عثمان"، وإسناده ضعيف.
1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ.(4/220)
ص -174-…تشرف يا رسول الله، لا يصيبوك" الحديث1 فقوله: "لا يصيبوك" من هذا القبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، 6/ 93/ رقم 2902"، وأحمد في "المسند" "3/ 265"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 162"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 401/ رقم 2661" من طريق عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، قال: "كان أبو طلحة يتترس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة رضي الله عنه حسن الرمي، وكان إذا رمي يشرف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى موضع نبله.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، 6/ 78 مختصرا / رقم 2880، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي طلحة، 7/ 128/ رقم 3811، وكتاب المغازي، باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، 7/ 361/ رقم 4064"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء مع الرجال، 3/ 1443/ رقم 1811"، وأبو يعلى في "المسند" "7/ 24/ رقم 3921"، ومن طريقه ابن عساكر "تاريخ دمشق" "6/ 8" - تهذيب عبد القادر بدران" من طريق عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بنحو اللفظ الذي أورده المصنف.(4/221)
ص -175-…المسألة الثانية:
إذا ثبت هذا، فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنه من تكليف ما لا يطاق، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلا ما لا يحل، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة1 تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أكان مما يسبق تلك الأوصاف أم مما يلحقها وينشأ عنها كما سيبينه، فلذا عمم، وقال: "من جهة تلك الأوصاف"، ليشمل ما تكون الأوصاف هي الناشئة عنه. "د".
قلت: انظر في هذا "قواعد الأحكام" "1/ 117"، و"مباحث الحكم عند الأصوليين" "1/ 193-194" لمحمد سلام مدكور.(4/222)
ص -176-…المسألة الثالثة:
إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان، فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان:
- منها: ما يكون ذلك فيه مشاهدا ومحسوسا كالذي تقدم.
- ومنها: ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك، ومثاله العجلة، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه، لقوله تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37].
وفي "الصحيح": "إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خُلِقَ خلقا لا يتمالك"1.
وقد جاء أن "الشجاعة والجبن غرائز"2.
و"جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك، 4/ 2016/ رقم 2611" عن أنس مرفوعا: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر به ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك".
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 152، 229، 240، 254".
2 سيأتي تخريجه "ص185".
3 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 701"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "6/ 481/ رقم 8984"، وابن الأعرابي في "المعجم" "2/ ق 21/ 22"، وأبو موسى المديني في "جزء من أدركه الخلال من أصحاب ابن منده" "ق 150- 151"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 121"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "7/ 346"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 599، 600"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 160"، والقزويني في "تاريخ قزوين" "4/ 172"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 29" من طريق إسماعيل بن أبان عن الأعمش عن خيثمة عن ابن=(4/223)
ص -177-…إلى أشياء من هذا القبيل، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات.
وجاء: "يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مسعود مرفوعًا.
قال أبو نعيم: "غريب، لم نكتبه إلا من هذا الوجه"، ونحوه عند ابن عدي، وزاد -وعنه القضاعي- "وهو معروف عن الأعمش موقوفا"، وإسماعيل بن أبان متهم بالكذب، قال أبو داود: "كان كذابا"، وقال ابن حبان في "المجروحين" "1/ 116": "كان يضع الحديث على الثقات"، ورواه ابن أخت عبد الرزاق عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال أبو حاتم في "العلل" "2/ 333-334": "هذا حديث منكر، وكان ابن اخت عبد الرزاق يكذب".
وأخرجه موقوفا ابن حبان في "روضة العقلاء" "ص255" من الطريق المرفوعة الأولى، وهي موضوعة، والبيهقي في "الشعب" "6/ 481/ 8983" من طريق ابن أخت عبد الرزاق..... وقال: "هذا هو المحفوظ موقوفا".
قلت: لم يصح موقوفا أيضا، وإنما هو من قول الأعمش، ونقل المناوي عن الأزدي قوله في الحديث: "هذا الحديث باطل"، وقال: "ورأيت بخط ابن عبد الهادي في "تذكرته" قال مهنَّأ: سألت أحمد ويحيى عنه، فقالا: ليس له أصل، وهو موضوع" وقال السخاوي في "المقاصد": "هو باطل مرفوعا وموقوفا".
1 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 252"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 161"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 472"، و"مكارم الأخلاق" "رقم 144"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 344"، وابن أبي شيبة في "الإيمان" رقم 82"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 114"، والدارقطني في "العلل" "4/ 329"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 328-329"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 197"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 217"، والبزار وأبو يعلى كما في "المجتمع" "1/ 92" مرفوعا.(4/224)
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 828"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 592 و11/ 18"، و"الإيمان" "رقم 81"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 197"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 491" موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
ورجح أبو زرعة والدارقطني وقفه، وهو الصحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود موقوفا عليهم عند الطبراني في "المعجم الكبير". انظر: "مجمع الزوائد" "1/ 93".(4/225)
ص -178-…وإذا ثبت هذا، فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يكن داخلا1 تحت كسبه قطعا، وهذا قليل، كقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [البقرة: 132]، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به.
والثاني: ما كان داخلا تحت كسبه قطعا، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها.
والثالث: ما قد يشتبه أمره، كالحب والبغض وما في معناهما، فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا، إما لأنها من أصل الخلقة2، فلا يطلب إلا بتوابعها، فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب، وإما لأن لها3 باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه، فالطلب يرد عليه كقوله: "تهادوا تحابوا"4، فيكون كقوله: "أحبوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "ما كان غير داخل......".
2 سيأتي تمثيلها بالشجاعة والجبن والحلم. "د".
3 أي: كالحب والبغض "د".
4 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 594"، والنسائي في "الكنى" -كما في=(4/226)
ص -179-…الله لما أسدى إليكم من نعمه"1 مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "نصب الراية" "4/ 120"، و أبو يعلى في "المسند" "11/ 9/ رقم 6148"، والدولابي في "الكنى" "1/ 150، 2/ 7"، وتمام في "فوائده" "رقم 712- ترتيبه"، وابن عدي في الكامل" "4/ 1424"، وأبو الشيخ في الأمثال" "رقم 245"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 169"، والمزي في "تهذيب الكمال" "2/ ق 620" عن أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن، وحسنه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 70"، و" بلوغ المرام" "ص116" وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "2/ 40"، وتبعه السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص166"، فقالا: "سنده جيد".
وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها بألفاظ مغايرة، وحسنه شيخنا في "الإرواء" "رقم 1602"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 462".(4/227)
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، 5/ 664/ رقم 3789"، وعبد الله بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" "2/ 986/ رقم 1952"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "3/ 46/ رقم 2639 و10 / 341-342/ رقم 10664"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 183" والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 497"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 149-150"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 45", "الشعب" "1/ 288"، و"الاعتقاد" "ص327، 328"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 211"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "4/ 160"، والشجري في "أماليه" "1/ 152"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2569-2570"، والختلي في "المحبة لله" "ق1/ أ" وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 267/ رقم 430"، وابن المستوفي في "تاريخ إربل" "1/ 224"، والمزي في "تهذيب الكمال" "ق 691" والذهبي في "الميزان" "2/ 432"، كلهم من طريق هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، وسيأتي عند المصنف "ص189".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص".
قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم يرويه غير هشام بن يوسف بهذا الإسناد"، وقال: وهشام بن يوسف هذا له أحاديث حسان وغرائب، وقد روى عنه الأئمة من الناس، وهو ثقة".
قلت: إسناده ضعيف، وأعله الخطيب وتبعه ابن الجوزي بأحمد بن رزقويه والذراع، وقد توبعا، وآفة الحديث عبد الله بن سليمان النوفلي، قال الذهبي في "الميزان" "2/ 432": "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف بالحديث الذي... "وساقه".
فالحديث ضعيف، لتفرد هذا المجهول به، وضعفه شيخنا في "تخريجه لأحاديث فقه السيرة "ص23".(4/228)
ص -180-…على العبد وكثرة إحسانه إليه، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلا ما لا يحل1، وعين الشهوة لم ينهَ عنه، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، خرجناها في رسالة أبي بكر بن حبيب العامري "ت 530هـ" "أحكام النظر إلى المحرمات"، منها ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب نظر الفجأة/ رقم 2159" عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال لي: "اصرف بصرك".
ومنها حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلوى النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: "رأيت شابا وشابة؛ فلم آمن الشيطان عليهما".
والحديث صحيح، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 76، 157"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف/ رقم 885"، وأبو داود مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع / رقم 1935"، وابن ماجه مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الوقف بعرفات/ رقم 3010" والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 72"، وابن خزيمة في "الصحيح" "4/ 262/ رقم 2837"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 471"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 122و 7/ 89"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 264-265، 413-414 / رقم 312، 544" من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي به.(4/229)
وإسناده صحيح، وتابع الثوري جماعة، منهم: المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم بن خالد الزنجي، كما عند عبد الله في "زوائد المسند" "1/ 76، 81"، وإبراهيم بن إسماعيل -هو ضعيف- كما عند البزار في "البحر الزخَّار" "رقم 479"، وقد وهم فيه، فقال: "عن عبد الرحمن".=(4/230)
ص -181-…فالطلب يرد على اللواحق1 كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن الحارث عن زيد بن على عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع عن علي".
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث قد رواه الثوري والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهما إبراهيم بن إسماعيل في هذا الإسناد، فقال: عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والصواب حديث الثوري والمغيرة".
قلت: وذكره الدارقطني في "العلل" "رقم 411"، وقال: "هو حديث يرويه الثوري والداروردي ومحمد بن فليح والمغيرة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن الحارث، وخالفهم إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، فرواه عنه.... زاد فيه أبا رافع، ووهم، والقول قول الثوري ومن تابعه، والله أعلم.
ورواه يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي بن علي عن أبيه عن علي، ولم يذكر ابن أبي رافع، والصواب ما ذكر من قول الثوري ومن تابعه".
قلت: وللحديث شواهد كثيرة، منها حديث الفضل بن العباس وابن عباس وجابر، وغيرهم رضوان الله عليهم، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 150".
قال ابن بطال: "وفي الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة"، وقال: "ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشى الفتنة عليه" وقال: "وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن" راجع: فتح الباري" "11/ 10".
1 فمثل قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له أوصني: "لا تغضب" مكررا ذلك، يرد النهي فيه على لاحق الغضب. "د".(4/231)
قلت: فالمطلوب من المكلف حينئذ أن يكظم غيظه فلا يندفع في وقت الغضب في قول أو فعل، وأن لا يسترسل في الغضب، كما أنه مطلوب منه أن يجتنب مثيرات الغضب وأسبابه، فلا يقحم نفسه فيما يورثه ذلك. انظر: "أصول الفقه" "304" لأبي زهرة.(4/232)
ص -182-…فصل:
ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة1 كلها أو أكثرها من الكبْر والحسد وحب الدنيا والجاه، وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات2 وغيره.
وعليه يدل كثير من الأحاديث، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة، كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء، وأشباهها مما هو نتيجة عمل3، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا، فليس تحصيله بمقدور أصلا؟ فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات، فهو حاصل، ولا يمكنه الانصراف عنه، وإن كان غير ضروري، لم يكن تحصيله إلا بتقديم النظر، وهو المكتسب دون نفس العلم4؛ لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة؛ لأن النتيجة لازمة للمقدمتين، فتوجيه النظر فيه هو المكتسب، فيكون المطلوب وحده، وأما العلم على أثر النظر، فسواء علينا قلنا: إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها -كما هو رأي المحققين-5 أم لم نقل ذلك، فالجميع متفقون على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما قرره عصري المصنف العلامة ابن خلدون أيضا، فقال في كتابه "شفاء السائل لتهذيب المسائل" "ص26": "الأعمال الظاهرة كلها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن"، وهذا ما أكد عليه الغزالي في "الإحياء" "4/ 373 وما بعدها".
2 وهو في المجلد الثالث بتمامه من "الإحياء".
3 فالتكليف بها أمرا أو نهيا تكليف بالسوابق والأعمال المنتجة لها. "د".
4 بهذا التحرير يندفع ما يخطر في الذهن من استشكال القول بأن العلم من قبيل مقولة الكيف، أو الانفعال مع أنه مكلف به ولا تكليف إلا بفعل "خ".(4/233)
5 القائلون بأن العلم ع3.قب النظر يستند إلى الله ابتداء على مذهبين: أحدهما أن التلازم بينهما عادي بحيث يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، ثانيهما أنه من قبيل اللزوم الذي لا بد منه عقلا بحيث يمتنع الانفكاك بينهما، يخرق العادة كما يمتنع خلو الجواهر عن الأعراض، ومعنى كونه جائز الترك والفعل عند أصحاب هذا الرأي أن الفاعل المختار، إما أن يخلق الملزوم واللازم، وإما أن يتركهما، فجواز ترك المقدور هنا مشروط بارتفاع مانع هو أيضا مقدور."خ".(4/234)
ص -183-…أنه غير داخل تحت الكسب نفسه، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال.
وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل، وإذا1 كانت على هذا الترتيب، لم يصح التكليف بها أنفسها، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك، فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها، أو يتأخر عنها، أو يقارنها، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وإن".(4/235)
ص -184-…المسألة الرابعة:
الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين:
أحدهما:
ما كان نتيجة عمل، كالعلم والحب في نحو قوله: "أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه"1.
والثاني:
ما كان فطريا2 ولم يكن نتيجة عمل، كالشجاعة، والجبن، والحلم، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس3، وما كان نحوها.
فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض، على ذلك الترتيب.
والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين:
إحداهما: من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له.
والثانية: من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع.
فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه قريبا، وهو ضعيف.
2 انظره مع ما ورد في الحديث: "إنكم مجبنون ومبخلون" يخاطب الحسن وأسامة بن زيد "د".
3 سيأتيك نص الحديث قريبا.(4/236)
ص -185-…الله: الحلم، والأناة"1.
وفي بعض الروايات [أخبره أنه مطبوع2 عليهما، وفي بعض الحديث]3: "الشجاعة والجبن غرائز"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الإسلام، 1/ 48 -49/ رقم 18"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 585"، وأحمد في "المسند" "3/ 23"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 238- موارد" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "رقم 17"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2012"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 586"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص92"، و"المساوئ" "رقم 339" من حديث ابن عباس رضي الله، وفي الباب عن غيرهما لا نطيل بذكر ذلك، والله الموفق.
في حاشية الأصل ما نصه: "الإناة: بالقصر: كذا في شروح مسلم من حديث وفد عبد القيس من كتاب الإيمان".
2 يريد الاستدلال على أنها فطرية وعلى تعلق الحب والبغض بها كما ترى ذلك في صنيعه كله. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ومن "ماء".
4 أخرجه ابن حبان في "المجروحين" "3/ 41" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "الجبن والشجاعة غرائز....".
وإسناده واهٍ جدا، فيه معدي بن سليمان، قال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال ابن حبان: "كان ممن يروي المقلوبات عن الثقات، والملزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". راجع: "الميزان" "4/ 142".(4/237)
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 333"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2534- ط القديمة و 4/ 1283/ رقم 649- ط الجديدة"، والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير في "التفسير" "5/ 417/ رقم 5834، 5835 و8/ 462/ رقم 9766، 9767"، وابن المنذر وابن أبي حاتم ورستة في "الإيمان"، كما في "الدر المنثور" "2/ 564"، وأبو القاسم البغوي وساق سنده ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 569"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص307- ترجمة عمر"، وابن عبد البر في "الاستذكار" 14/ 254-255/ رقم 20259، 20260" موقوفا على عمر بلفظ المصنف، وهو أشبه. وانظر: "تغليق التعليق" "4/ 196".(4/238)
ص -186-…وجاء: "إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "4/ 1502" عن الزبير بن العوام، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجبذ عمامتي بيده، فالتفتُّ إليه، فقال: "يا زبير! إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قرار بطن الأرض، فيرزق الله كل عبد على قدر همته، يا زبير! إن الله يحب السخاء ولو بفلقة تمرة، ويحب الشجاعة لو بقتل الحية والعقرب".
وأخرجه من طريق ابن عدي ابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 179" ومن طريق آخر أبو نعيم في "الحلية" "10/ 73" مختصرا دون المذكور عند المصنفد.
والحديث موضوع، مداره على عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، يروي الموضوعات على الأثبات، لا يحل كتب حديثه، والحديث في "الدر الملتقط في بيان الغلط" "ص36" للصغاني، و"شرح الإحياء" للزبيدي "8/ 182-183".
وأخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" "رقم 44" بإسناد واهٍ من حديث على، وفيه: "وكن شجاعا، فإن الله تعالى يحب الشجاع".
وأخرجه البيهقي في "الزهد" "رقم 952"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 6"، وأبو نعيم في "أربعي الصوفية" "رقم 25"، وقال: "هذا حديث شريف يجمع من أصولهم معاني لطيفة"، والحلية" "6/ 199"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1080، 1081"، و"الديلمي في "الفردوس" "رقم 565"، وكما قال السخاوي في "تخريج الأربعين السلمية" "ص49"، وأبو بكر المقرئ في "فوائده" -كما في "فتح الوهاب" "2/ 141"- عن عمران بن حصين ضمن حديث في آخره: "ويحب الشجاعة ولو على قتل حية".
وإسناده واهٍ بمرة، فيه عمر بن حفص العبدي، تركه أحمد والنسائي، وضعفه الدراقطني، كما في "الميزان" "3/ 189"، وتفرد به كما قال البيهقي، وفيه أيضا العلاء والد هلال، قال السخاوي: "قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث" وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به".(4/239)
وهو من رواية الحسن عن عمران، أفاد الحاكم في مواطن من "مستدركه" منها "2/ 234" أن الأكثر على إثبات السماع، فقال: "اختلف مشايخنا في سماعه منه، والأكثر على إثباته"، والخلاصة: الحديث لم يثبت، ولا يوجد له إسناد قائم، والله الموفق.(4/240)
ص -187-…وفي الحديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"1 وهذا معنى التحاب والتباغض، وهو غير مكتسب.
وجاء في الحديث: "وجبت محبتي للمتحابين في"2.
وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه "المؤمن القوي خير وأحب إلى اللهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "6/ 369/ رقم 3336" معلقا عن عائشة رضي الله عنها، ووصله أبو يعلى في "المسند" "7/ 344/ رقم 4381" بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "8/ 88"، والبخاري في "الأدب المفرد" "900"، وابن عدي في "الكامل" "6/ 2299 و7/ 2671"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "100" والخطيب في "التلخيص" "1/ 141"، والبيهقي في "الآداب" "310"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "274"، والإسماعيلي في "مستخرجه"، وابن زنبور في "فوائده" كما في "الفتح" "6/ 370"، و"التغليق" "4/ 7"، و"عمدة القاري" "15/ 225".
والحديث صحيح، له شواهد من حديث أبي هريرة عند مسلم في "الصحيح" "4/ 2031/ رقم 2638" وغيره، وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وورد عن على مرفوعا بلفظ: "إن الأرواح تلاقى في الهوى، فتشام، فما تعارف منها....." أخرجه ابن منده في النفس والروح" كما قال ابن القيم في "الروح" "44", أبو الشيخ في الأمثال" "107"، والطبراني في "الأوسط" كما في المجتمع" "1/ 162"، وصوب الدارقطني في "العلل" "4/ 188"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 135"، وقفه على علي رضي الله عنه، وهو الأشبه.(4/241)
2 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 953-954"، وأحمد في "المسند" "5/ 229، 233، 247"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 168، 169، 170"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 335"/ رقم 575- الإحسان، والطبراني في "الكبير" "20/ رقم 150-154" والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1449، 1450"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 206" عن معاذ مرفوعا، وهو قسم من حديث إلهي صحيح، بعض أسانيده على شرط الشيخين، وتتمته: "والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ".(4/242)
ص -188-…من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"1على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن2 وصلابة الأمر؛ والضعف خلاف ذلك.
وجاء: "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "1/ 356 وص 61 من هذا الجزء"، والحديث صحيح.
2 بل لو حمل على ما هو الظاهر من قوة الإرادة وصلابة العزيمة وهي خلق فطري، لكان الأمر على ما يريد من تعلق الحب بهذا الخلق الفطري، إلا أنه يريد أن يدخل فيه شدة البدن لظهور أنه فطري، فيتم له به الاستدلال على الأمرين معا، وليس من الضروري أن يكون الدليل عليهما حديثا واحدا. "د".
3 أخرجه أبو الشيخ في "حديثه" "رقم 68"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 2964" و"الكبير" "6/ 223/ رقم 5928" والحاكم في "المستدرك" "1/ 48"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 240-241"، و"الأسماء والصفات، "ص53" والسلفي في "معجم السفر" "1/ 174"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "رقم 2- المنتقى"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ 226/ 1"، جميعهم من طرق عن أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا فضيل بن عياش ثنا محمد بن ثور الصنعاني عن معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد رفعه، وأوله: "إن الله عز وجل كريم يحب الكرم ومعالي....".
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "6/ 241" من طريق محمد بن عبيد عن الصنعاني به. وإسناده صحيح، مع مخالفة عبد الرزاق للصنعاني "محمد بن ثور"، فقد أخرجه في "المصنف" "11/ 143/ رقم 20150"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 241"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 82/ 83"، عن معمر عن أبي حازم عن طلحة بن كريز الخزاعي مرسلا.
وقال البيهقي: "وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي حازم عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".(4/243)
قلت: أخرجه من طريق سفيان به البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 347"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 48" وقال: "وهذا لا يوهن حديث سهل بن سعد على ما قدمت ذكره من قبول الزيادات من الثقات، والله أعلم". قلت: أصاب الحاكم في مقولته، ولا سيما أن للحديث شواهد، منها:
- حديث الحسين بن علي، أخرجه الطبراني في "الكبير" "3/ 142/ رقم 2894"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 879"، والدولابي في "الذرية الطاهرة" "رقم 162"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1076، 1077"، والخطيب في "تلخيص المتشابه" "1/ 16- 17".
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 120"، وانظر "السلسلة الصحيحة" "رقم 1378".(4/244)
ص -189-…وجاء: "يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب"1.
وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} [الأنبياء: 37].
وجاء في معرض الذم والكراهية، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة.
ولا يقال: إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال؛ لأن ذلك:
أولا: خروج عن الظاهر بغير دليل.
وثانيا: أنهما يصح تعلقهما بالذوات، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].
"أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه"2.
و"من الإيمان الحب في الله3 والبغض في الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "ص177"، وهو صحيح موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
2 مضي تخريجه "ص179"، وهو ضعيف.
3 لأن معناه أن تحب الشخص لا تحبه إلا لأجل الله لا لغرض دنيوي، فالحب فيه تعلق بالذوات. "د".
4 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، 4/ 22/ رقم 4681، والطبراني في "الكبير" "رقم 7613، 7737، 7738"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص178-179"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 54" بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".(4/245)
ص -190-…ولا يسوغ في هذا المواضع أن يقال: إن المراد حب الأفعال فقط، فكذلك لا يقال في الصفات -إذا توجه الحب إليها في الظاهر- أن المراد الأفعال.
فصل:
وإذا ثبت هذا، فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال1، كقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46].
"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"2.
"ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لشيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة كاملة في المحبة، نشرها محمد رشاد سالم في الجزء الثاني من "جامع الرسائل" وقد شملت جميع هذه المعاني التي تكلم عليها الشاطبي.
2 مضي تضعيف المصنف له "1/ 200"، وهو كما قال كما بينته في التعليق عليه، والله الموفق.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، 8/ 301- 302/ رقم 4637، وكتاب النكاح، باب الغيرة، 9/ 319/ رقم 5220، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، 13، 283/ رقم 7403"، ومسلم في "صحيحه" -والمذكور لفظه- "كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2113/ رقم 2760" عن ابن مسعود مرفوعا.
وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغيرُ من الله"، 13/ 399/ رقم 7416"، مسلم في "الصحيح" "كتاب اللعان، 3/ 1136/ رقم 1499" ضمن حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا.(4/246)
ص -191-…وهذا كثير.
وإذا قلت: أحب الشجاع وأكره الجبان، فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف، نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وفي القرآن أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57].
وفي الحديث: "إن الله يبغض الحبر السمين"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال أبو الليث السمرقندي في "بستانه" "ص28 في الباب الرابع والأربعين": "وروي أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "وذكره".
وكتب أبي الليث السمرقندي مليئة بالأحاديث والأخبار الموضوعة، وربما يذكر صاحبها فيها سنده، فهي مفيدة لطالب العلم الذي ينظر في الأسانيد، ويمحص عن الرواة، وهي من مظان الحكم على كثير مما هو سائد بين العوام بالوضع أو الضعف، وإن راجت على صاحبها، قال الذهبي في ترجمته في "السير" 16/ 323": "وتروج عليه الأحاديث الموضوعة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري" "15"، وذكر جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء، ومنهم أبو الليث، قال: "فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم، ولا لهم خبرة بالنقلة، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل".
ولذا قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص124/ رقم 245" مستدركا على أبي الليث: "ولكن ما علمته في المرفوع"، ثم قال: "نعم، عند أحمد [في "المسند" "3/ 471 و 4/=(4/247)
ص -192-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 339"]، والحاكم في "مستدركه" ["4/ 121-122]، والبيهقي في "الشعب" ["5/ 33/ رقم 5666، 5667"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 238"] من حديث جعدة الجشمي أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين، فأومأ إلى بطنه بأصبعه، وقال: "لو كان هذا في غير هذا، لكان خير لك"، وسنده جيد.
قلت: ولكنه مرسل، ولم تثبت لجعدة صحبة، وانظر تفصيل ضعفه في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1131" لشيخنا الألباني، و"الأقوال القويمة في صحة النقل من الكتب القديمة" للبقاعي، بتحقيقنا، يسر الله إتمامه ونشره.
والمذكور عند المصنف وارد في المرفوع على أنه من التوراة في كتب التفسير في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأية: 91].
أخرج ابن جرير في "التفسير" "7/ 267"، بسند ضعيف، فيه ابن حميد- وابن المنذر وابن أبي حاتم - كما في "شرح الإحياء" "7/ 388"- من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له "مالك بن الصيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين......"؟ وذكر قصة، وهو مرسل.
وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 147" عن سعيد بن جبير بدون إسناد، وإليهما عزاه الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 442-443"، وتبعه ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص62"، وكذا المناوي في "تخريج البيضاوي" "2/ 611/ رقم 499".(4/248)
وأخرج البيهقي في "الشعب" "5/ 33/ رقم 5668" بسند فيه مجهول ومستور عن كعب، قال: إن الله يبغض أهل البيت اللحميين والحبر السمين"، ثم أخرج عن سفيان الصوري قوله في تفسير "أهل البيت اللحميين": "هم الذين يكثرون أكل اللحم"، ثم قال: "وهذا تأويل حسن غير أن ظاهره الإكثار من أكل اللحم، وفي جمعه بينه وبين "الحبر السمين" كالدلالة على ذلك".
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "2/ 362" في "ترجمة مالك بن دينار" بسنده إليه، قال: "قرأت في الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين".
وعند أبي نعيم في "الطب النبوي" له من طريق بشر الأعور عن عمر بن الخطاب أثر طويل، في آخره: "وإن الله ليبغض الحبر السمين" ونقل الغزالي عن ابن مسعود، أنه قال: "إن الله يبغض القارئ السمين"، أفاده السخاوي في "المقاصد" "ص125".
والخلاصة هذا الحديث لا يصح ألبتة مرفوعا، فذكر المصنف له على أنه حديث غير جيد، والله الموفق.(4/249)
ص -193-…فإذن، الحب والبغض مطلق في الذوات1 والصفات والأفعال، فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل.
وأما النظر الثاني2 وهو أن يقال: هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف -وهي غير المقدورة [للإنسان إذا اتصف بها]3- الثواب والعقاب أم لا يصح؟
هذا يتصور في ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب.
[والثاني: أن يتعلقا معا بها.
والثالث: أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر.
أما هذا الأخير، فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين؛ لأنه مركب منهما فأما الأول فيستدل عليه بوجهين:
أحدهما: أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلَّف بإزالتها ولا بجلبها شرعا؛ لأنه تكليف بما لا يطاق، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب؛ لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا، فالأوصاف المشار إليها لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر ابن القيم في "الداء والدواء" "ص282، 292"، و"الفوائد" "ص182" أنه ليس من شيء يحب لذاته إلا الله وحده.
2 قوله: وأما النظر الثاني مقابل لقوله قبلُ في المسألة الرابعة، فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل....." إلخ وقد وجدت في النسخة الخطية هنا زيادات يتوقف الكلام عليها كما لا يخفى على من اطلع على النسخة المطبوعةن فأثبتها. ا.هـ مصححه "خ".
3 سقط من "ط".(4/250)
ص -194-…ثواب عليها ولا عقاب]1
والثاني: أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف، إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات2، أو من جهة متعلقاتها، فإن كان الأول، لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعًا، ومعاقبًا عليها أيضا كذلك؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة، وذلك محال، وإن كان من حيث متعلقاتها، فالثواب والعقاب على المتعلقات -وهي الأفعال والتروك- لا عليها، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب، وهو المطلوب.
وأما الثاني، فيستدل عليه أيضا بأمرين:
أحدهما: أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها، والحب والبغض من الله تعالى، إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى3، وهذا رأي طائفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 هناك ثالث، وهو أنه لا يتعلق بها من جهة كونها صفة فقط، ولا من جهة ما ينشأ عنها من الأفعال والتروك فقط؛ بل من جهة كونها صفة محبوبة أو مكروهة، فلا اجتماع للضدين كما سبق له في مثل "والله يحب المحسنين"، وحينئذ، فلا يتم هذا الدليل، وسيأتي له فيه كلام من جهة أخرى. "د".
3 الآيات والأحاديث طافحة بإضافة المحبة إلى الله، ولا مانع من اعتقاد أنها صفة غير الإرادة والإحسان والثناء، فنقول: إن لله حبا ليس من نوع الحب المضاف إلى المخلوق، كما أن علمه وإرادته ليسا من نوع علم المخلوق وإرادته. "خ".
قلت: اعتقاد هذا هو الواجب، وانظر تعليقنا بعد الآتي.(4/251)
ص -195-…أخرى، وعلى كلا الوجهين؛ فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام، وهما عين الثواب والعقاب1، فالأوصاف المذكورة -إذن- يتعلق بها الثواب والعقاب.
والثاني: أن لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب، فتعلقهما بالصفات، إما أن يستلزم الثواب والعقاب، أو لا: فإن استلزم، فهو المطلوب، وإن لم يستلزم، فتعلق الحب والبغض إما للذات، وهو محال2، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى، وهو محال؛ لأن الله غني عن العالمين، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء، بل هو الغني على الإطلاق، وذو الكمال بكل اعتبار، وإما للعبد، وهو الجزاء، لا زائد3 يرجع للعبد إلا ذلك4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد يقال: إن الثواب والعقاب أخص من الإنعام والانتقام؛ لأن الأولين منظور فيهما إلى الدار الآخرة، إما الإنعام وما معه، فكما يكون في الآخرة يكون في الدنيا، فقد يحمل في هذه الموارد على الإحسان في الدنيا والنوازل فيها، فلا يتم الدل يل إلا إذا كانا عين الثواب والانتقام، وقد عرفت ما فيه. "د".
2 سبق دليله، وهو أن ما وجب للشيء وجب لمثله، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "للذات هل ذات الصفة، فيكون عين شق الترديد السالف، أو ذات الشخص ذي الصفة فيأتي فيه نظير الدليل المقتضي للاستحالة، إلا أنه إذا كان الغرض هذا الأخير يقال: وهل الذات غير العبد الذي سيقول فيه: "إما للعبد"؟ فيجاب بأن العبد الذات المتصفة بصفة محبوبة أو مبغضة، فلا تأتي الاستحالة المشار إليها سابقا، إلا أنه حينئذ يكون هذا هو الاحتمال الثالث الذي تركه سابقا ونبهنا عليه. "د".
3 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "إذ لا يرجع.....".(4/252)
4 كلام المصنف رحمه الله تعالى في صفتي الحب والبغض من التأويل المردود، وليس عن منهج السلف الصالح في إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته نبيه صلى الله عليه وسلم لربه؛ فإنه سبحانه نزه نفسه ثم أعقب ذلك بمدحه رسله؛ لأنه لا يصدر عنهم إلا ما يليق به جل جلاله، وذلك في قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}.
ومن بين هذه الصفات التي وردت في الكتاب وصحيح السنة على وجه الإثبات الحب والبغض، وهي صفات الفعل لله عز وجل، نمرها كما جاءت من غير تأويل، وهي له سبحانه صفات =(4/253)
ص -196-…..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حقيقية على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق، وهذا أوقع المصنف وغيره في حمأة التأويل الذي هو في حقيقته ضرب من ضروب التعطيل؛ لأنه نفى هذه الصفات بحجة أنها إرادة، فالحب عنده الإنعام أو إرادته، وقال غيره: إرادة الثواب والبغض والسخط والكراهة والغضب الانتقام أو إرادته، وقال غيره: إرادة العقاب، فإرجاع هذه الصفات إلى الإرادة أو إيقاع الفعل خطأ ظاهر، وخلاف مذهب السلف الصالح.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية" "524" معلقا على مقولة الطحاوي في "عقيدته" المشهورة المجمع عليها: "والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى" ما نصه: "ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات".
ثم قال رحمه الله تعالى: "ص525-526": "ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان: لما تأولت هذا؟ فلا بد أن يقول: إن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه الغضب.
ويقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه؛ فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينتقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.(4/254)
فإن قال: الإرادة التي يوصف بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهماحقيقة؟ قيل له: فقل: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دل عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر". =(4/255)
ص -197-….......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا الذي ذكره ابن أبي العز الحنفي هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كثير من المناسبات فقد توجها رحمهما الله تعالى إلى من أول هذه الصفات بالنقد، وإليك بعضا من كلامهما.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "3/ 17-18": ".... فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمعن بصير ببصر، متكلم بكلام، ويجعل ذلك حقيقة وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل له: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضى وغضب يليق به، وللمخلوق رضى وغضب يليق به.
وإن قلتك الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة.
فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق".
وبنحوه في "المجموع" أيضا "6/ 119-120".(4/256)
وعرض ابن القيم شبه المأولة لهذه الصفات، وردها بحجج دامغة، فقال في "مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 23": فإن قلت: إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه. قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟!" انتهى.
فهذا كلام متين قوي للغاية، وهو في مناقشة ما أورده من تأول هذه الصفات، فالحق وأهل=(4/257)
ص -198-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحق يثبتون هذه الصفات لله عز وجل على أنها صفات فعلية ذاتية حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها، كما أنهم يثبتون لازم تلك الصفات، وهي إرادته سبحانه الثواب والعقاب، ولكن لا يوجبان ذلك عليه، كما تقول المعتزلة، ولا يقولون بما قد يفهم من كلام المصنف وصرح به بعض أهل التعطيل من أن تفسير سخطه وكرهه بزعمهم ما يقعون فيه من البلايا والهلكة والضيق والشدة، وآية ذلك عندهم ما يتقلب فيه من هذه الحالات، وما أشبهها، وأن حبه ورضاه عكس ذلك، فهذه دعوى ما رأينا أبطل ولا أبعد من صحيح لغات العرب والعجم منها، ففيها: إذا كان أولياء الله المؤمنون من رسله وأنبيائه وسائر أوليائه في ضيق وشدة وعوز من المآكل والمشارب، وفي خوف وبلاء، كانوا على حسب هذه الدعوى في سخط من الله وغضب وعقاب، وإذا كان الكافر في خصب ودعة وأمن وعافية، واتسعت عليه دنياه من مآكل الحرام وشرب الخمور، كانوا في رضي من الله وفي محبة، ما رأينا تأويلا أبعد عن الحق من هذا التأويل، اللهم إنا نبرأ إليك منه، ونبرأ من كل ما يخالف منهج السلف في العقيدة والدعوة والعلم والعمل، ومن كل من يطعن فيه وفي أهله قديما وحديثا،والحاصل أن تأويل الحب والبغض الوارد عند المصنف بنفس الإنعام أو الانتقام، أو أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام مخالف لما عليه السلف الصالح، وفيه تعطيل لهاتين الصفتين، لأن معناه: إن الله تعالى لا يحب، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته، وإرادته الإحسان إليهم، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى يحب ويُحَبُّ لذاته، وأما حب ثوابه، فدرجة نازلة كما قاله الطوفي، نقله، في "أقاويل الثقات" "77"، وفيه قوله أيضا: "وأول من أنكر المحبة في(4/258)
الإسلام الجعد بن درهم" وحكاه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "2/ 354" عن الجعد أيضا، والصواب إثبات صفة المحبة والبغض اللتين تليقان بجلاله. وعظمته.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "2/ 354": "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين له، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 195]، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 135]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب=(4/259)
ص -199-….....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إليه مما سواهما.....".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، 1/ 60/ رقم 16"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66/ رقم 43" عن أنس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام".
قلت: ليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6040"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2637" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثل ذلك".
إذن، فليس للتأويلات والمقولات المذكورة وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها فيها لازم صفتي الحب والبغض، وأنها تفسير لهما يلازمهما، فإن بعضها الآخر فيه باطل، كما قدمناه، ويعجبني بهذا الصدد ما قاله العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في "محاسن التأويل" "6/ 253- 254": "مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها كما تقدم في الفاتحة في {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
فتأويل مثل الزمخشري لها بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم، تفسير باللازم منزع كلامي لا سلفي" انتهى.(4/260)
فالتأويل المذكور منزعه اعتزالي، ولذا تعقب ابن المنير الزمخشري بكلام طويل، ومما قال في "الانتصاف" "1/ 345- 346": "فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت".
فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. وانظر منه "4/ 9"، وهو بذيل"الكشاف" ط- دار المعرفة.(4/261)
ص -200-…وأمر ثالث1: وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو2 الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات، أولا، فإن كان الجزاء متفاوتا، فقد صار للصفات قسط من الجزاء، وهو المطلوب، وإن كان متساويا، لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن3 استويا في الفعل، وذلك غير صحيح، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك.
وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب4، وبالعكس، وهو محال، فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب، وإذا ثبت [أن له]5 حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء، فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها، وذلك ما أردنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما جعله دليلا ثالثا مستقلا، ولم يبنه على مبنى الدليلين قبله، لأنه فيهما جارٍ على تعلق الحب والبغض بنفس الصفات، أما في هذا، فجعلهما متعلقين بتوابع هذه الصفات ولواحقها من الأفعال، ولذا غير الأسلوب ولم يقل من أول الأمر بثلاثة أمور. "د".
2 في "ط": "وهي".
3 الواو للحال، وإن زائدة. "د".
4 من أين هذا اللزوم؟ لا يلزم من مساواة المحبوب لغيره في حكم من الأحكام أن يكون ليس بمحبوب ولا العكس. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، ولذا جاءت التي بعدها "حظ" بالرفع.(4/262)
ص -201-…وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل.
أما الأول، فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب، فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا1، علم بها أو لم يعلم، والثاني كشارب الخمر، ومن أتى عرافا، فإنه جاء "أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما"2، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنك إذا قرأت آيات الكتاب العزيز، وجدت أن الثناء والوعد بالثواب في مواضع الابتلاء إنما هو على الصبر والتسليم لله والرضى، فعليك بتتبع الآيات الكثيرة في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والأحزاب وغيرها، وكذا الأحاديث مثل: "إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وعليه، فليست المصائب والنوازل هي المثاب عليها، بل هو ما يقارنها أو يعقبها من الصبر والرضا، ولا شك أن ذلك مقدور للمكلف ومطلوب منه، فلا يتم له ما أراده هنا، وبه يعلم أيضا ما في قوله: "علم بها أو لم يعلم"، فإنه إذا لم يعلم لا يتأتى منه الصبر والرضا الذي يكون به الثواب، وسيأتي تتميم لهذا الكلام قريبا. "د".
قلت: وصرح العز بن عبد السلام في "القواعد الصغرى" "ص96" بما قاله المعلق: ونص عبارته: "لا أجر ولا وزر إلا على فعل مكتسب، فالمصائب لا أجر عليها لأنها غير مكتسبة، بل الأمر على الصبر عليها أو الرضى بها" ونحوه في "قواعد الأحكام" "1/ 115" له أيضا.(4/263)
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1751/ رقم 2230"، عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما" وأخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الرواية المبينة عن صلوات شارب الخمر، 8/ 314، وباب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، 8/ 316، وباب توبة شارب الخمر، 8/ 317"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة"، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة، 2/ 1120-1121/ رقم 3377"، وأحمد في "المسند" "2/ 176، 189، 197"، و الدارمي في "السنن" "2/ 111"، والبزار في "مسنده" "رقم 2936- زوائده" والحاكم في المستدرك" 1/ 30-31 و 4/ 146" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "لا يشرب الخمر رجل من أمتي فيقبل الله منه صلاة أربعين يوما" وإسناده صحيح.(4/264)
ص -202-…أركانها وشروطها،ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم، عدلا كان أو فاسقا، وإذا لم يتلازما، لا1 يصح هذا الدليل.
وأما الثاني، فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء، فقوله: إن الجزاء وقع على الفعل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف، فقد ثبت بطلانه، وإن أراد به مع اقتران الوصف، فقد صار للوصف2 أثر في الثواب والعقاب3، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه.
ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته:
[أما الأول]4، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب، امتنع5 أن يتعلقا بما هو غير مقدور، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها.
وأما الثاني، فإن القسمة غير منحصرة، إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات.
وأما الثالث: فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات، فوقوعها على حسبها6 في الكمال أو النقصان، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل، و"ط": "لم".
2 في الأصل: "الوصف".
3 في "ط": "أو العقاب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط" و"خ".
5 تقدم رده بأنه لا تلازم بين الثواب والعقاب، وبين أن يكون المثاب عليه مقدورا عليه بل ولا معلوما. "د".
6 أي: فيلزم من زيادة قوة الصفة زيادة في الفعل حسنا وقبحا، فلا يتأتى الاختلاف في الصفات مع تساوي الأفعال، حتى يصح الدليل الثالث. "د".(4/265)
ص -203-…الصانع وبالضد، فكذلك ههنا، وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات، وهو المطلوب.
فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا، ولا حاجة إليه في هذا الموضع، وبالله التوفيق.(4/266)
ص -204-…المسألة الخامسة:
تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره، لكنه شاق عليه، فهذا موضعه، فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق، إن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق، ولذلك ثبت1 في الشرائع الأُوَل التكليف بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق.
[وأيضا، فإن التكليف بما لا يطاق]2 قد منعه جماعة عقلاء، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو قال بدليل أنه ثبت.... إلخ، لكان أظهر، أي: وحيث إنه لا تلازم بين التكليف بالمشاق والتكليف بما لا يطاق إثباتا ولا نفيا، فلا يتأتى التلازم بين العلم في النفيين، إلا أن يقال: إنه لما كان راجعا إلى الشرائع السابقة لم يأخذه على صورة دليل، بل بصورة استئناس فقط، حتى كأنه مفرع على الدعوى، وجعل الثاني دليلا لأنه من نظر علماء هذه الشريعة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انعقد الإجماع على أنه لم يقع التكليف بما لا قدرة للمكلف عليه، وهو الممتنع لنفس مفهومه كالجمع بين الضدين، أو لاستحالة تعلق قدرة العبد به مع صحة وجوده في نفسه كخلق الجواهر، أو لمجرى العادة كالطيران في الهواء، وأما ما يكون في ذاته ممكنا عقلا وعادة وإنما يمتنع حيث سبق في علم الله أنه لا يقع، فلا نزاع في جواز التكليف به ووقوعه كإيمان كثير ممن بلغتهم الدعوة وماتوا وهو كافرون. "خ".
قلت: اختار هذا الآمدي في "أحكامه" "1/ 192" ونقله عن الغزالي، واختاره صاحب "المنهاج" "1/ 172- مع الإبهاج"، وبه قال ابن دقيق العيد، انظر: "البحر المحيط" "1/ 220".(4/267)
وفصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "4/ 175-177، و 8/ 469 وما بعدها" وتلميذه ابن القيم في "بدائع الفوائد" "4/ 175-177" بما لا مزيد عليه، وكلام ابن القيم عليها مختصر قوي، وهو عبارة عن قواعد وضوابط, ولذا آثرت نقله بحرفه، قال رحمه الله تعالى: "الفعل بالنسبة إلى التكليف نوعان: أحدهما اتفق الناس على جوازه ووقوعه واختلفوا في =(4/268)
ص -205-….....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نسبة إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق، والثاني: اتفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق وقالوا: إنه يكلف به العبد، ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنه لا يطاق.
وللمسألة ثلاثة مآخذ:
أحدها: أن الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها نوعان: نوع قبله وهو المصححة للتكليف التي هي شرط فيه، ونوع مقارن له، فليست شرطا في التكليف.
المأخذ الثاني: أن تعلق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورا للعبد، فمن أخرجه عن كونه مقدورا قال الأمر به أمر بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورا لم يطلق عليه ذلك، والصواب أنه لا يخرجه عن كونه مقدورا القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له.(4/269)
المأخذ الثالث: أن ما تعلق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنا مقدورا ولا مكلفا به، الثاني: ما تعلق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه، ولهذا مأخذ رابع وهو من أدقها وأغمضها، وهو أن ما علم الله أنه لا يكون لعدم مشيئته له ولو شاء للعبد لفعله، هل يخرجه عدم مشيئة الرب تعالى له عن كونه مقدورا ويجعل الأمر به أمرا بما لا يطاق؟ والصواب أن عدم مشيئة الرب له لا يخرجه عن كونه ممكنا في نفسه، كما أن عدم مشيئته لما هو قادر عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل، لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورا ويجعله محالا.
فإن قيل: هو موقوف على مشيئة الله وهي غير مقدورة للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور، قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفة على غيرها من صفاته، كعلمه، =(4/270)
ص -206-…وأما المعتزلة، فذلك أصلهم1، بخلاف التكليف بما يشق، فإذا كان كذلك، فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة.
ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى "المشقة"، وهي في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وحكمته، فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدا أو ادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه، فقد أخطأ خطأ بيِّنًا، فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه، أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما، فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسنا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي، وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما لا يطاق، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبور على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادر على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه، بل هو مجبور في باب النواهي مكلف ما بلا يطيقه في باب الأوامر، وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، وبتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها، وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه، وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه، وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم".(4/271)
1 لأنهم يشترطون في الأمر الإرادة، فلما اشترطوا كون الأمر مريدا لوقوع ما أمر به، استحال عندهم تكليف المستحيل وما لا يطاق؛ لأن الله إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل، فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم: أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متنافٍ، وكذلك قولهم: إن القدرة قبل الفعل، وتقدم بيان ذلك في كلام ابن القيم، وهذا مراد المصنف بقوله: "فذلك أصلهم".
انظر "سلاسل الذهب" "137"، و"البحر المحيط" "1/ 219" للزركشي، و"المعتمد" "1/ 150، 177".(4/272)
ص -207-…أصل اللغة من قولك: شق على الشيء [يشق] شقا ومشقة إذا أتعبك، ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7].
والشق هو الاسم من المشقة1، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي، اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية:
أحدها:
أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي، كالمعقد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء، وما أشبه ذلك، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفسه المشقة، سمى العمل شاقا والتعب في تكلف2 حمله مشقة.
والثاني:
أن يكون خاصا بالمقدور عليه، إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية، بحيث يشوش على النفوس3 في تصرفها، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة.
إلا أن هذا الوجه على ضربين:
أحدهما: أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء، كالصوم في المرض والسفر، والإتمام في السفر، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن لا تكون مختصة، ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها، صارت شاقة، ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما، إلا أنه في الدوام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مادة "ش ق" من "اللسان" و"النهاية" "2/ 491" لابن الأثير.
2 في "ط": "تطلب".
3 في "ط": "النفس".(4/273)
ص -208-…يتعبه، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصِّل مللا، حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال1، وعن التنطع2 والتكلف3، وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"4.
وقوله: "القصد القصد تَبْلُغوا"5.
والأخبار هنا كثيرة، وللتنبيه عليها موضع آخر6، فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي، وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي "ص239".
2 كما سيأتي "ص228".
3 كما مضى "ص/ 45، 257".
4 سيأتي تخريجه في "ص405، وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
5 جزء من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6463 -واللفظ له- رقم 5673"، ومسلم في "الصحيح" "17/ 159-160 / شرح النووي"، وابن ماجه في السنن" "4201"، وأحمد في "المسند" "2/ 235، 256، 264، 319، 326، 343، 344، 385-386، 390، 451-452، 466، 469، 473، 488، 495، 503، 509، 514، 519، 524، 537"، وفي "الزهد" "475"، والطيالسي في المسند" "2322"، وابن حبان في "الصحيح" "348، 350، 660"، وعبد الرزاق في "المصنف" "20562"، والبزار كما في "كشف الأستار" "3448"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 377"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 129 و8 / 379"، والبغوي في "شرح السنة" "4192، 4193، 4194".
وقد شرحه ابن رجب في جزء مفرد مطبوع، عنوانه "المحجة في سير الدلجة".
6 انظرها فيما يأتي.(4/274)
ص -209-…والوجه الثالث:
أن يكون خاصا بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس، ولذلك أطلق عليه لفظ "التكليف"، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة؛ لأن العرب تقول: "كلفته تكليفا" إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به، و"تكلفت الشيء" إذا تحملته على مشقة، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار؛ لأنه إلقاء بالمقاليد1، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا.
والرابع:
أن يكون خاصا بما يلزم2 عما قبله، فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق.
فهذه خمسة أوجه من حيث النطر إلى المشقة في نفسها، انتظمت في أربعة3:
فأما الأول، فقد تخلص في الأصول، وتقدم ما يتعلق به.
وأما الثاني: وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقاليد: الخزائن والمفاتيح، انظر "اللسان" "مادة ق ل د 3/ 366".
2 المراد قد ينشأ عنه، لا أنه لا ينفك عنه، وإلا؛ لكان الأول يتعين فيه أن يلحق الإنسان فيه تعب ومشقة، كما قال هنا؛ وفي المسألة الثامنة في شرح الرابع، وهو يخالف قوله في الثالث: "ليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد". "د".
3 أي: لأنه أدرج اثنين منها تحت الثاني، حيث جعله ضربين. "د".
قلت: نحو المذكور عند المصنف -مع اختلاف في العرض والعد وتشابه في المضمون- تراه في "قواعد الأحكام" "2/ 7، 8"، و"شرح الفروق" "1/ 119" لابن الشاط.(4/275)
ص -210-…المسألة السادسة:
فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات1 فيه، والدليل على ذلك أمور2:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}.... الآية [البقرة: 286].
وفي3 الحديث: "قال الله تعالى: قد فعلت"4.
وجاء: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "خ"، وفي الأصل و"ط": "بالمشاق والإعنات"، وفي "د" مثله، إلا أنه قال "بالشاق". وفي "ماء / ص166": "بالمشاق الإعنات فيه ولا في أموره".
2 انظر المسألة وبسطها مع أدلتها في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 102-104، 108-109، 137-139"، و"إعلام الموقعين" "1/ 268"، و"روضة المحبين" "181".
3 هو تمام الدليل؛ لأن الآية دعاء بذلك، والحديث فيه الإجابة. "د".
4 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 116/ رقم 126" والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5/ 221- 222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210/ 211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(4/276)
ص -211-…{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}... الآية [المائدة: 6]1.
وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"2.
"وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدليل في صدر الآية، وكذا فيما بعد الاستدراك، فلذا قال: "الآية". "د".
2 أخرجه أبو بكر بن سلمان الفقيه في "مجلس من الأمالي" "16/ 1"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 209"، وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد "18/ 5" عن جابر مرفوعا بإسناد ضعيف، فيه مسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي، وضعف إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 149"، ولكن قال العلائي؛ كما في "فيض القدير": "مسلم؛ ضعفه الأزدي، ولم أجد أحدا وثقه، ولكن له طرق ثلاث، ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن".
قلت: أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" عن حبيب بن أبي ثابت مرفوعا، وهو مرسل.
وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204" عن أبي أمامة مرفوعا: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحاء"، وإسناده ضعيف.
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 116، 233"، عن عائشة، وفي آخره: "إني أرسلت بحنيفية سمحة" وسنده حسن، وحسنه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43" وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدى الساري" "ص120".
وقد خرجت بعضها في تحقيقي لرسالة السخاوي: "الجواب الذي انضبط عن لا تكن حلوا فتسترط" "ص44-46".(4/277)
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126 =(4/278)
ص -212-…وإنما قال: "ما لم يكن إثما"؛ لأن ترك الإثم لا مشقة فيه، من حيث كان مجرد ترك1، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدا للحرج والعسر، وذلك باطل.
والثاني:
ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف، لما كان ثم ترخيص2 ولا تخفيف.
والثالث:
الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، و3 لو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزيز والأدب 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام 4/ 1813/ رقم 2327"، ومالك في "الموطأ" "2/ 902-903"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 270"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب التجاوز في الأمر 4/ 250/ رقم 4785"، وابن أبي داود في "مسند عائشة" "رقم 15، 92"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه" "35، 36" من حديث عاشئة رضي الله عنها.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقولها: "ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه" ينادي بأن المراد التخيير بين أمرين من أمور الدنيا، وأن المخير له غير الله من المخلوقين؛ إذ لا يصح أن يقع من الله تخيير بين إثم وغيره".
1 هذا لا يخص ترك الإثم، بل يجري في كل ترك لما فيه من الحيثية المذكورة، وبالجملة، فقوله: "وإنما قال..... إلخ" غير ظاهر. "د".(4/279)
2 أي: في الضرب الأول، وقوله: "ولا تخفيف"، أي: في الضرب الثاني. "د".
3 في الحقيقة هو دليل رابع، فلو قال: "والرابع" أو "وأيضا" مثلا، لكان أظهر "د".(4/280)
ص -213-…والاختلاف، وذلك منفي عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة -وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير- كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا، وهي منزهة على ذلك.
وأما الثالث، وهي:(4/281)
ص -214-…المسألة السابعة:
فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف1 وسائر الصنائع؛ لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف.
وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، [والتي تعد مشقة]2، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوامُ عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه، أو إلى3 وقوع خلل في صاحبه، في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب، فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار، في أكله وشربه وسائر تصرفاته، ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات، فكذلك التكاليف؛ فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باتخاذ الحرفة والصنعة.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن نسخة "ماء/ ص 167".
3 في النسخ المطبوعة: "وإلى".(4/282)
4 صفوة ما حرره القرافي في هذا الصدد من الفرق "الرابع عشر" أن المشاق قسمان: قسم لا تنفك عنه العبادة، كالوضوء في البرد، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها، ثانيهما: المشاق التي تنفك العبادة عنها، وهي ثلاثة أنواع متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتفق على عدم اعتباره لكونه ضعيفا، ومختلف فيه لتجاذب الطرفين له، والضابط في المشاق المؤثرة يرجع إلى اجتهاد الفقيه، وهو لا يكاد يصيب الحقيقة إلا أن ينظر إلى مقام العبادة وأهميتها في نفسها، ثم إلى مقدار التعب والضرر الذي يلحق المكلف من الدخول فيها. "خ".(4/283)
ص -215-…وإذا تقرر هذا، فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف، والدليل على ذلك ما تقدم1 في المسألة قبل هذا.
فإن قيل: ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف، لأوجه:
أحدها:
أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك، إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة، وهي المشقة، فقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] معناه: لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة، فقد ثبت التكليف بما هو مشقة، فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة، لتسمية الشرع له تكليفا2، فهي إذن مقصودة له، وعلى هذا النحو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تقدم في المسألة كانت الأدلة فيه على عدم قصد المشقة الخارجة عن المعتاد، وهي ما فيها الرخص وما طلب فيها التخفيف، أما هنا، فالمشقة هي المعتادة، وإذا كان الموضوع مختلفا، فالأدلة لأحدهما لا يلزم أن تكون أدلة للآخر، وإن اتحدا في عنوان المشقة، فعليك بتتبعها تجد أن بعض الآيات يصلح دليلا، وكان الدليل الأخير الذي يؤخذ من قوله: "ولو كان.... إلخ"، فإنه يؤخذ منه أنه لا يقصد المشقة لكونها مشقة مطلقا، كانت من القسم الثاني أو الثالث، لئلا يلزم التناقض مع قصده الرفق والتيسير، ولكن سيأتي في المسألة الحادية عشرة أنه كما لا يقصد حصول المشقة المعتادة، كذلك لا يقصد رفعها، وهو لا يوافق هذا الدليل الأخير بالطريق الذي قررناه، فلا يبقى إلا بعض الآيات. "د".
قلت: انظر في المسألة وأدلتها: "قواعد الأحكام" "1/ 25، 29" للعز بن عبد السلام، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص173 وما بعدها" ليعقوب الباحسين.(4/284)
2 استقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى هذه الكلمة في الكتاب والسنة، وأفادا أنه لم يأت فيهما تسمية أوامر الله وشرائعه "تكليفا"، بل سماها روحا ونورا..... وإنما جاء ذلك في جانب النفي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وهذا الإطلاق إثبات لا يعرف أيضا في لسان السلف، وإنما جاء من لدن كثير من المتكلمة والمتفقهة، والله أعلم.
انظر: "مجموع الفتاوى" "1/ 25-26"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 32"، و"معجم" المناهي اللفظية" "ص129 للشيخ بكر أبو زيد.(4/285)
ص -216-…يتنزل1 قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وأشباهه.
والثاني:
أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه: ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة، فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك، فإذن يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام، فاقضتى أن الشارع قاصد للمشقة هنا.
والثالث:
أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف، مع قطع النظر عن ثواب التكليف، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إلى آخر الآية.
وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وما جاء في "كثرة الخطا إلى المساجد"2 "وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهذا أحد الأدلة المتقدمة. التي قلت: إنها تجري هنا- لا يدل، لأنه محمول على مشقة وحرج غير موضوع الدعوى هنا، إلا أنه لم يذكر بقية الآيات لما عرفت من أم مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} تدل على دعواه هنا في قوله: وإذا تقرر هذا..... إلخ وبضميمة أن يكون متناقضا لو قصد المشقة مطلقا ولو معتادة على ما تقدم. "د".
2 قطعة من حديث في "الصحيحين" سيأتي لفظه قريبا.
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، 2/ 137/ رقم 651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة=(4/286)
ص -217-…وما جاء في "إسباغ الوضوء على المكاره"1.
وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات، حتى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التوبة: 111]، وأشباه ذلك.
فإذا كانت المشقات -من حيث هي مشقات- مثابا عليها زيادة على معتادة التكليف، دل على أنها مقصودة له، وإلا، فلو لم يقصدها، لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها، فأوقعها المكلف باختياره حسبما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام، فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف؛ وهو المطلوب.
فالجواب عن الأول: أن التكليف إذا وُجِّه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين:
أحدهما: أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة.
والثاني: أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/ 219/ رقم 251" عن أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط".(4/287)
ص -218-…فأما الثاني: فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل، والشريعة كلها ناطقة1 بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب.
وأما الأول، فلا نسلم أنه قصد ذلك، والقصدان لا يلزم اجتماعهما، فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتآكلة، نفع المريض لا إيلامه، وإن كان على علم من حصول2 الإيلام، فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف، في العاجلة والآجلة، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة3، فالنزاع في قصده للمشقة، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسبما هو معلوم في علم الاشتقاق، من غير أن يكون ذلك مجازا بل على حقيقة الوضع اللغوي4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مكانها بياض في الأصل.
2 في الأصل: "محصول".
3 ذكر هذا الإجماع أيضا الآمدي في "الإحكام" "3/ 380، 411"، وابن الحاجب في "منتهى الوصول" "ص184"، ونقل الدهلوي في "حجة الله البالغة" "1/ 6" إجماع السلف عليه، وهذا ما تبناه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 196-200"، ودافع عنه بقوة، ومما قال في "مفتاح السعادة" "2/ 22": "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مئة موضع أو مئتين، لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"، وانتقد ابن السبكي في "الإبهاج" "3/ 62" الإجماع المذكور.
4 فاللفظ موضوع له وضعا أوليا، بدون ملاحظة علاقة، ولا توقف على قرينة، فيكون حقيقة لا مجازا. "د".
قلت: انظر ما قدمناه قريبا عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الخصوص.(4/288)
ص -219-…والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب -وإن ثبت أنه يقوم1 القصد إليه في حق المكلف- فإنما هو جارٍ مجري القصد من بعض الوجوه؛ أعني: في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعدٍّ على الجملة، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه، وإذا2 كان غير قاصد، فهو المطلوب هنا في حق الشارع، إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله.
وأيضا، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا، لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة3 وإيقاعها معا، وهو محال باطل عقلا وسمعا.
وأيضا؛ فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر، وقطع الأعضاء المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة، وبط الجراحات [الواجعة]4، وأن يحمي المريض ما يشتهيه، وإن كان يلزم منه إذاية المريض؛ لأن المقصود إنما هو5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد يكون عالما بالمسبب ولا يقصده، وإنما يقصد نفع نفسه فقط بقطع النظر عن كونه يلزمه التعدي على الغير بمفسدة تلحقه، ولكن الشارع في هذه الحالة يجعله كأنه قاصد له، ويلزمه نتيجة التعدي على الغير، ويقيم علمه بوقوع المسبب مقام القصد إليه، فالشارع هنا أيضا، وإن كان عالما بالمفسدة التي تكون في طريق المصلحة، لكنه لا يقصدها". "د".
2 في الأصل: "وإن".
3 أي: بأدلة قصده التخفيف واليسر ونحو ذلك، وقوله: "وإيقاعها"، أي: بمقتضى هذا الاعتراض الثاني. "د".
4 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
5 في الأصل: "هي".(4/289)
ص -220-…المصلحة التي هي أعظم وأشد1 في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم، وهذا شأن الشريعة أبدًا، فإذا كان التكليف على وجه، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة؛ لأن المقصود المصلحة، فالتكليف أبدا جارٍ على هذا المهيع، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها، فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها، إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة.
وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم، فما يلزم عن التكليف2 لا يسمى مشقة، فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها.
والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف، وبها حصل العمل المكلف به، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصودة، لا أنها مقصودة مطلقا، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به، ولا يدل هذا على أن النَّصَب مطلوب أصلا3، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب، كما يؤجر4 الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا هم ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله به من سيئاته"5 وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أعظم وآكد".
2 في ط: "التكاليف".
3 انظر كلاما قويا حول هذا في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 621-623".
4 التكفير صريح الحديث، لكن من أين الأجر على مجرد ما يلحقه بدون عمل له كالصبر؟ "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 10 =(4/290)
ص -221-…وأيضا، فالمباح إذا عُلِم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 103/ رقم 5640، 5641، 5642"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك 4/ 1992/ رقم 2572" عن عائشة بلفظ مقارب.
وأخرجه مسلم في"صحيحه" "رقم 2573" عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
قال في "فتح الباري" "10/ 105/ رقم 5640" في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/29"، حيث قال: "ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو بالكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما، سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير، وإلا قلَّ. كذا قال؛ والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك" "انتهى كلام ابن حجر*.
قال "د" عقبه: "أقول: ولعل هذا التحقيق في كلام القرافي جمع بين القولين فالتكفير غير الثواب والجزاء، فلا مانع أن يكون "لا" في مقابلة عمل من المكلَّف، أما الأجر والثواب، فالمعقول ومغزى الآيات القرآنية أنه متعلق بالصبر والرضا والتسليم، وهذا التحقيق لا ينافي كلام العز؛ لأنه لا ينفي التكفير، وإنما نفى الأجر، وهو وجيه".(4/291)
وقال "خ": هذا مذهب بعض أهل العلم أخذا بالظاهر من هذا الحديث وما شاكله، وذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد" إلى أن المصائب والآلام لا ثواب عليها، وإنما الثواب على الصبر عليها، إذ هو الذي يدخل تحت كسب الإنسان".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وله في "الفتح" "10/ 110" كلام متين في هذا الباب ينبغي أن يُراجَع.(4/292)
ص -222-…فصل:
ويترتب على هذا أصل آخر:
وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها1، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل.
أما هذا الثاني؛ فلأنه شأن التكليف في العمل كله؛ لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به، [وما جاء]2 على موافقة قصد الشارع هو المطلوب.
وأما الأول؛ فإن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر3 في موضعه إن شاء الله فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع4 لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل5، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 620": "قول بعض الناس: "الثواب على قدر المشقة" ليس بمستقيم على الإطلاق"؛ ثم فصل في ذلك، وانظر أيضا في رد عموم هذه القاعدة: "رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص171 وما بعدها".
2 ساقط من الأصل و"خ" و"ط"، واستظهر ناسخ الأصل كلمة الإتيان وهو قريب كما ترى.
3 في "ط": "سيذكر".
4 في الأصل: "إذ الشارع".
5 انظر في هذا: "الاعتصام" للمصنف "1/ 341".(4/293)
ص -223-…فإن قيل: هذا مخالف لما في "الصحيح" من حديث جابر1، قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد". قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: "بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم!".
وفي رواية: فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا2.
وفي رواية عن جابر، قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن لكم بكل خطوة درجة"3.
وفي "رقائق ابن المبارك" عن أبي موسى الأشعري، أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها، فإذا رجل يقول: "يا أهل السفينة! قفوا" سبع مرار، فقلنا: ألا ترى على أي حال نحن؟ ثم قال في السابعة: "لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم [حار] من أيام الدنيا شديد الحر، كان [حقا] على الله أن يرويه يوم القيامة". فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد 1/ 462/ رقم 665 بعد 280" عن جابر، وأخرجه البخاري عن أنس مختصرا، وسيأتي.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، "1/ 462/ رقم 665 بعد 281" عن جابر.
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 461/ رقم 464" عن جابر رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها: "فنتقرب" وما أثبتناه من "صحيح مسلم".(4/294)
ص -224-…الحر فيصومه1.
وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل: أحدهما سهل، والآخر صعب، فأُمِرَ بالصعب ووُعِدَ على ذلك بالأجر، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر.
وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء، فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم، وترك الرخص جملة، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم.
وفي "الصحيح" أيضا عن أبي بن كعب، قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتوجعنا له، فقلنا له: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض؟ فقال: أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فحملت به2 حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن المبارك في الزهد" "رقم 1309 وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 260"، وابن أبي الدنيا في "الهواتف" "رقم 13"، وابن شاهين في "فضائل الأعمال" "رقم 133" بسند حسن، وحسنه شيخنا الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 975".
وأخرج البزار في "مسنده" "1/ 488/ رقم 1039- زوائده" من وجه آخر عن ابن عباس، وحسنه شيخنا أيضا في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 974".
وفي إسناد ابن شاهين عبد الله بن المؤمل المخزومي، وهو ضعيف.
قلت: وما بين المعقوفتين في الموطن الأول ساقط من "د"، وفي الموطن الأخير ساقط من الأصل.
2 في "ط": "به حملا".(4/295)
ص -225-…ذلك، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ما احتسبت"1.
فالجواب أن نقول:
أولا:
إن هذه أخبار آحاد في قصية واحدة2 لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات.
وثانيا:
إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة، فالحديث الأول قد جاء في "البخاري" ما يفسره، فإنه زاد فيه: "وكره أن تعرى المدينة قِبَلَ ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها".
وقد روي عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق، ثم نزل إلى المدينة وقيل له عند نزوله العقيق3: لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد؟ فقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويأتيه4، وأن بعض الأنصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 460/ رقم 663" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
2 هي البعد عن المسجد والمشقة في التردد إليه من المساكن البعيدة، وهذه القضية الواحدة هي التي وردت فيها أحاديث الآحاد، أما ما بقي من نقل ابن المبارك وعمل أصحاب الأحوال، فسيأتي الجواب عنه. "د".
3 إن كان العقيق هو مساكن بني سلمة، فلا مانع أن يكون للمحل فضيلة يفسرها الحديث بقوله: "وكره أن تعرى المدينة" فكان موضع رباط يثاب المرء على قصد وجوده فيه من هذه الوجهة، فلا تنافي بين فهم مالك وما يؤخذ من بقية الحديث لتفسيره، وإن كانت مساكنهم في غير العقيق، وأن مالكا إنما يتكلم عن أنصار غيرهم، وحادثة غير حادثتهم، فالأمر ظاهر، وسنزيدك بيانا. "د".
4 أخرج ابن شبَّة في"تاريخ المدينة" "1/ 147/ 148"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 195" والطبراني في "الكبير" "7/ 6/ رقم 6222"، والبيهقي في "المعرفة" "2/ 367- 368" عن سلمة بن الأكوع في حديث في آخره: "إني أحب العقيق".(4/296)
وإسناده ضعيف، فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، واختلف عليه فيه وقال البيهقي: "وأما حديث موسى بن محمد بن إبراهيم، فهو حديث ضعيف، تفرد به موسى بن محمد، وكان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: لا يكتب حديثه، وكذلك غيره من الأئمة قد أنكرواعليه ما روى من المناكير التي لم يتابع عليها". وانظر له "الميزان" "4/ 218".
ويغني عنه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1534، 2337" عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حج".
و "الآتِ" هو جبريل، كما في رواية عند البيهقي، وانظر: "فتح الباري" "3/ 392".(4/297)
ص -226-…أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما تحتسبون خطاكم"1، فقد فهم مالك أن قوله: "ألا تحتسبون خطاكم" ليس من جهة إدخال المشقة، ولكن من جهة فضيلة المحل2 المنتقل عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب احتساب الآثار 2/ 139/ رقم 655" عن أنس مرفوعا: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟" وقال عقبه: "قال مجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}. قال: خطاهم.
وأخرجه أيضا رقم "655" عن أنس بلفظ: "إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَرُّوا المدينة، فقال: "ألا تحتسبون آثاركم؟" قال مجاهد: خطاهم: آثارهم، أن يُمشى في الأرض بأرجلهم".
وأخرجه أيضا في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تُعرى المدينة 4/ 99/ رقم 1887" بنحو اللفظ الثاني.
2 كما ورد في البخاري في "صحيحه" "رقم 1534، 2337، 7343"، وأبي داود في "السنن" "رقم 1800" عن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي، وقل: عمرة وحجة".
وأخرج أبو داود عن مالك، قال: "لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل إلى المدينة حتى يصلي ركعتين أو ما بدا له، وهو على مسافة ستة أميال من المدينة، ويؤخذ من حديث الترمذي: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة"، ومن كون العقيق على ستة أميال من المدينة أن العقيق غير مساكن بني سلمة، فإذا تم هذا، كانت الفضيلة هنا غير الفضيلة في مساكن بني سلمة، فهذه كأنها رباط وحراسة للمدينة، بخلاف العقيق، فالأشبه أن يكون تعبُّدًا، إلا أن الأمر يحتاج إلى إثبات أنها حادثة أخرى. "د".(4/298)
ص -227-…وأما حديث ابن المبارك فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه1، ومع ذلك فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه2، كالوضوء عند الكريهات، والظمأ والنصب في الجهاد، فإذن اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على3 نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك، لا أن فيه قصد التشديد على النفس؛ ليحصل الأجر به، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها؛ لعظم مشقتها، فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره، وهكذا سائر ما في هذا المعنى.
وأما شأن أرباب الأحوال، فمقاصدهم القيام بحق معبودهم، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم، ولا يصح أن يقال: إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات، لما تقدم من الدليل عليه، ولما سيأتي بعدُ إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسنده إليه حسن، وله شاهد به يصح، كما قدمنا.
وقال "خ": "اتفقوا على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من الصحابة، واختلفوا في كونه حجة على التابعي فما دونه، والتحقيق أنه إذا لم يصرح بسنده في القضية لم يجب على المجتهد اتباعه؛ إذ لم يقم دليل على تكليف المجتهد باتباع من لم تثبت عصمته".
2 انظر: "فتاوى ابن تيمية" "26/ 85، 86".
3 هذا اختار نوعا من العبادة كانت المشقة من لوازمه، فلا يظهر فيه قصد المشقة، أما تحرى أبي موسى لليوم الشديد الحرارة ليصومه دون اليوم القليل الحرارة لا يصومه، فإنه ظاهر في تحريه هذا قصد المشقة ليعظم أجره، اتباعا لنصيحة الرجل الذي ناداهم، ولعل محل الجواب قوله: "إنما فيه قصد الدخول..... إلخ". "د".(4/299)
ص -228-…وثالثا:
إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا التشديد بالتبتل، حين قال أحدهم: أما أنا، فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا، فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا، فلا آتي النساء، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: "من رغب من سنتي، فليس مني"1.
وفي الحديث: "وردَّ النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا"2.
"وردَّ صلى الله عليه وسلم على من نذر أن يصوم قائما في الشمس، فأمره بإتمام صيامه، ونهاه عن القيام في الشمس"3.
وقال: "هلك المتنطعون"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء 9/ 117/ رقم 5073، 5074" ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1402"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في النهي عن التبتل 3/ 394/ رقم 1083"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل، 6/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل 1/ 593/ 1848"، وأحمد في "المسند" "1/ 173، 175، 176"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 168"، والدارمي في "السنن" "2/ 133"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 120، 128/ رقم 778، 802"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 79"، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(4/300)
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216".(4/301)
ص -229-…ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة، بحيث صار أصلا فيها قطعيا، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع، بطل ولم يصح، وهذا واضح، وبالله التوفيق.
فصل:
وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر:
وهو أن الأفعال المأذون فيها، إما وجوبا، أو ندبا، أو إباحة، إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل، أو لا تكون معتادة؛ فإن كانت معتادة، فذلك الذي تقدم الكلام عليه، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة، وإن لم تكن معتادة، فهي أولى أن لا تكون مقصودة للشارع، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله، أو لا.
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه1 وغير صحيح في التعبد به؛ لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه، ومثال هذا حديث2 الناذر للصيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأنواع الثلاثة، وقوله: غير صحيح في التعبد به" خاص بنوعي الواجب والمندوب، ولا يأتي في المباح. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية 11/ 586/ رقم 6704"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية 3/ 235/ رقم 3300"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب من خلط في نذره طاعة بمعصية 1/ 690/ رقم 2136" عن ابن عباس، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. قال: "مُرْهُ؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه".(4/302)
ص -230-…قائما في الشمس، ولذلك قال مالك1 في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال: "أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ونهاه عما كان لله معصية"؛ لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده، وهو ظاهر، إلا أن هذا النهي مشروط2 بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة، لا بسبب الدخول في العمل، كما في المثال، فالحكم فيه بيِّن.
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير القادر على الصوم أو الصلاة قائما، والحاجِّ لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا، إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وجاء فيه مشروعية الرخص.
ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة، فذاك، ويمكن أن يكون3 عاملا لمجرد حظ نفسه، وأن يكون4 قبل الرخصة من ربه؛ تلبية لإذنه، وإن لم يعمل بالرخصة، فعلى وجهين:
أحدهما: أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فسادٌ يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل، فهذا أمر ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش.
وفي مثل هذا جاء: "ليس من البر الصيام في السفر"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الموطأ" "2/ 476- رواية يحيى".
2 هذا أصل الفرض في كلامه، حيث قال: "مع أن ذلك العمل لا يقتضيها"، فهذا الشرط كالتأكيد لموضوع الكلام. "د".
"3، 4" وتقدم الفرق بينهما، هو أنه في الأولى لا ثواب له، إلا أنه دفع عن نفسه الحرج، وفي الثاني له ثوابه مع رفع الحرج "د".(4/303)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه.(4/304)
ص -231-…وفي نحوه نُهِي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان1،
وقال: "لا يقضِ القاضي وهو غضبان"2.
وفي القرآن: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
إلى أشباه ذلك مما نهي عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفُّهٍ وسعةٍ حالَ دخولِهِ في ربقة التكليف.
والثاني: أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقة غير معتادة، فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة، وينفصل الأمر فيه3 في كتاب الأحكام، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج، وإن قدر على الصبر عليها، فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضي تخريجه "1/ 489".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ 7158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237- 238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
3 أي: في أي الأمرين أفضل، أهو الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟ وقد شفى العليل في ذلك رحمه الله. "د".(4/305)
ص -232-…إلا أن هنا وجها ثالثا1، وهو أن تكون المشقة غير معتادة، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة، ورب شيء هكذا، فإن أرباب الأحوال من العُبّاد والمنقطعين إلى الله تعالى، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خُصوا بهذه الخاصية، وصاروا مُعانين على ما انقطعوا إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، فجعلها كبيرة على المكلف، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة2، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا3، وقام حتى تفطرت قدماه4، فإذا كان كذلك، فمن خُصّ بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية5.
وهذا القسم6 يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس، فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه، مع تأكده في أصول الشريعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بعض ما دخل في الثاني، فالمشقة غير معتادة، ويعلم أو يظن أنها لا تدخل فسادا، إلا أنها صارت بالنسبة له كأنها معتادة. "د".
2 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وسيأتي تخريجه "ص240"، وهو صحيح"
3 كما سيأتي "ص240".
4 كما سيأتي "ص241".
5 من أقبل على العبادة بيقين ساطع وجد فيها من الارتياح ما يود معه لو أن الحياة لا تطالبه بما يلفته عنها ولو لحظة، فليس العابد ببصيرة وضاءة كما يحسب أسارى الأهواء في ضائقة من حرج النفس واقتحام المكاره، بل هو في لذة لا تنقص عند من يذوق طعمها عن لذة إدراك المعارف السامية والحكمة الغامضة. "خ".(4/306)
6 أي: الثاني بنوعيه، وهو أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه في العمل به فساد في نفسه أو عقله..... إلخ، فقوله: "وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله... إلخ" لا ينافي أصل موضوع هذا القسم؛ لأن الخوف من ذلك أو من التقصير غير العلم أو الظن بحصول هذا الفساد...... إلخ، الذي جعله أول الوجهين في الفصل السابق، هذا وقد تكلم في هذا الفصل على الوجه الأول من وجهي رفع الحرج وهو الخوف من الانقطاع.....إلخ، وسيأتي في الفصل بعده تفصيل الوجه الثاني، وهو الخوف من التقصير عند المزاحمة.... إلخ، هذا باعتبار النظر في الموضع هنا، وسيأتي لنا في آخر المسألة مناقشة المؤلف في صنيعه فيها بوجه عام. "د".(4/307)
ص -233-…فصل:
فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:
أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
والثاني: [خوف التقصير]1 عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها، وقاطعا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما.
فأما الأول، فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ2 فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم3، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] إلى آخرها، فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: من النفرة من تكاليفها. "د".
3 انظر أثر وقوع ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 114/ 115".(4/308)
ص -234-…وفي الحديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا"1
وفي حديث قيام رمضان:
"أما بعد، فإنه لم يخف على شأنكم، ولكن خشيتُ أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها"2.
وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت، زعموا أنها لا تنام الليل. فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تنام الليل؟! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا"3.
وحديث أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في "ص405،وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761 بعد 178" عن عائشة مرفوعا، والمذكور لفظ مسلم.
قال "خ" هنا ما نصه" "قد يكون في العمل نفسه وجه من الوجوه الداعية إلى التكليف به على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وقد يكون إيجابه منوطا بحالة تعرض له كأدب الوفاء والصدق مع الخالق في تقرير حكمة إيجاب النذر، ومن الجائز أن يقع في الشريعة قسم ثالث وهو ما يكون سببه قيام الجماعة بالعمل ومداومتهم عليه حتى ينتظم في إعلام هدايتهم ويصبح من مظاهر طاعتهم، ويقرب من هذا إيجاب بعض المندوبات على الفرد متى دخل في عملها، وهذا ما وقع في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ومن أجله ترك الاستمرار على صلاة التراويح في جماعة".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785" وغيرهما.(4/309)
قال في حاشية الأصل: "تويت: بتاءين مصغر كما تقدم في حاشية على هذا الكتاب".(4/310)
ص -235-…فقال: "ما هذا؟" قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر، قعد"1.
وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "أفتانٌ أنت يا معاذ"2 حين أطال الصلاة بالناس، وقال: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة"3.
ونهى عن الوصال رحمة لهم4.
ونهى عن النذر، وقال: "إن الله يستخرج به من البخيل، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا"5، أو كما قال، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد" باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 785".
2 سيأتي لفظ الحديث في "ص248"، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى هناك.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه،
4 قطعة من حديث سيأتي لفظه عند المصنف قريبا.(4/311)
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، 11/ 499/ رقم 6608، وكتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، 11/ 575/ رقم 6692 و 3393"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يردُّ شيئا 3/ 1260-1261 / رقم 1639"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر 3/ 231- 232/ رقم 3287"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأيمان والنذور، النهي عن النذر 7/ 15- 16، 16"، والدارمي في "السنن" "كتاب النذور والأيمان، باب النهي عن النذر 2/ 185، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب النهي عن النذر، 1/ 686/ رقم 2122"، وأحمد في المسند" "2/ 61"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 77" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وفي ا لباب عن أبي هريرة عند البخاري "رقم 6694"، ومسلم "رقم 1640"، والترمذي "رقم 1538"، وابن الجارود" "رقم 932"، وأحمد "2/ 235، 242، 314، 373، 412، 463"، وغيرهم.(4/312)
ص -236-…ما تقدم من السآمة والمل والعجز، وبغض الطاعة وكراهيتها1.
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تُبَغِّضُوا إلى أنفسكم عبادةَ الله، فإن المُنبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 272 وما بعدها".
2 تكلم عليه السخاوي في "الأجوبة المرضية" "ق 2، 3"، بكلام بديع، نسوق نصه، ونزيد عليه في حنايا كلامه، ونضع ذلك بين معقوفتين، ثم نتبع ذلك بما فاته.
قال رحمه الله تعالى: حديث: "المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" البزار في "مسنده" [كشف الأستار 74"، "مجمع الزوائد" "1/ 67"، وقال عقبه: "وهذا روي عن ابن المنكدر مرسلا، ورواه عبيد الله بن عمرو عن سوقة عن ابن المنكدر عن عائشة، وابن المنكدر لم يسمع من عائشة]، وأبو نعيم في بعض تصانيفه، والحاكم في "علوم الحديث" له [ص 95و 96]، والبيهقي في "سننه" "عنه ["3/ 18]، وابن طاهر في "صفوة التصوف" من طريق الحاكم، [والقضاعي في مسنده "الشهاب" "1147و 1148"، والقزويني في "التدوين" "1/ 237- 238"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 229"، والخطابي في "العزلة" "111"، والعسكري في "الأمثال" "1/ 544- 545"]، كلهم من حديث خلاد بن يحيي عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"، قال الحاكم عقب تخريجه" "هذا حديث غريب المتن والإسناد، وكل ما روي فيه فهو من الخلاف =(4/313)
ص -237-…..........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على محمد بن سوقة، فأما ابن المنكدر عن جابر، فليس يرويه غير محمد بن سوقة وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحيى" انتهى.
وقال البخاري في ترجمة محمد بن سوقة من "تاريخه" [1/ 1/ 102]: "قال لي إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا محمد بن سوقة حدثني ابن محمد بن المنكدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين"، قال عيسى: أنا نصصت ابن سوقه عنه، فقال ابن محمد المنكدر، ورواه أبو عقيل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح" انتهى.
وأبو عقيل ضعفه ابن المبارك، وعلي بن المديني [في "سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" له رقم 64]، والنسائي [في الضعفاء والمتروكين] له "635"] وغيرهم وقال، وقال حرب: "قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه" وقال أبو زرعة: "لين"
وقال ابن حبان [في المجروحين" "3/ 116]: "ينفرد بأشياء ليس لها أصول، ولا يرتاب الممعن في الصناعة أنها معمولة"، وقال ابن عدي [في الكامل" "7/ 2665"]: "عامة أحاديثه غير محفوظة" وقال الساجي: منكر الحديث: وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي عندهم"، وقال ابن عبد البر: "هو عند جميعهم ضعيف"، [وانظر "تهذيب الكمال" "31/ 511"].(4/314)
ولحديثه شاهد، لكنه ضعيف أيضا، أخرجه البيهقي في "سننه" ["3/ 19"، و"الشعب" "3886]، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -هو الحاكم- أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى حدثنا الفضل بن محمد الشعراني حدثنا أبو صالح -يعني: عبد الله بن صالح كاتب الليث- حدثنا الليث -هو ابن سعد- عن ابن عجلان -يعني محمدا- عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا"، والفضل بن محمد، قال أبو حاتم: "تكلموا فيه" وقال الحاكم [كما في "السير" "13/ 317"، و"سؤالات السجزي" "224]: "كان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال، وكان يرسل شعره فلقب بالشعراني، وهو ثقة، لم يطعن فيه بحجة، وقد سئل عنه الحسين بن محمد القباني فرماه بالكذب، وقال: سمعت أبا عبد الله ابن الأخرم يسأل عنه، فقال: صدوق، إلا أنه كان غاليا في التشيع، والمولى- يعنى: المبهم المتقدم في إسناد الحديث- لم أقف على اسمه وما عرفته، والله أعلم".(4/315)
ص -238-….......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [وضعفه شيخنا في "الضعيفة" 1/ 64-65].
وله طريق ثالثة، لكنها مختصرة، أخرجها عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند أبيه" [3/ 199]، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو بن حمزة حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وخلف هذا غير خلف بن مهران العدوي الذي روى له النسائي في "المجتبى" ["رقم 4446"] حديث: "من قتل عصفورا عبثا...."، وإن كان صنيع المزي في "تهذيبه" ["8/ 296"] يقتضي أنهما واحد، فإن البخاري قد فرق بينهما في ["تاريخه" "3/ رقم 653، 655"]، فجعل خلف بن مهران إمام مسجد بني عدي غير خلف أبي الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وكذا قال أبو حاتم [في "الجرح والتعديل" "3/ رقم 1678، 1679"]، وذكر أن إمام مسجد سعيد يروي عن أنس، قال البخاري: "وعنه عمرو بن حمزة القيسي، لا يتابع في حديثه"، وقال ابن خزيمة: "لا أعرف خلفا بعدالة ولا جرح"، وكذا قال في الراوي عنه، وتوقف في صحة حديثهما، وقال ابن عدي في الراوي عنه [في "الكامل" "5/ 1793"]: "مقدار ما يرويه غير محفوظ" وقال الدارقطني: "ضعيف".
قلت: وزعم الهيثمي [في "مجمع الزوائد" "1/ 67"] أن رجاله موثقون، وأن خلفا لم يدرك أنسا ويتعقب عليه بما تقدم، [وزاد الزبيدي في "اتحاف السادة المتقين" "9/ 41" نسبته للضياء، وعزاه ابن رجب في "المحجة" "70" لحميد بن زنجويه].(4/316)
وعلى كل حال، فالحديث ضعيف، إلا أن هذه الطريق على اختصارها أجود من اللتين قبلها، وبالله التوفيق، انتهى كلام السخاوي، ثم تحدث عن شرح الحديث، فراجعه إن شئت، وهو في "فتاويه" "1/ 14/ 19" المطبوعة حديثا.
وله طريق رابعة أخرجه البيهقي في "الشعب" "رقم 3885"، أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد المصري حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا علي بن معبد حدثنا عبيد الله بن عمرو عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وقال: "ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر، ورواه أبو معاوية عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن النبي مرسلا وهو الصحيح، وقيل غير ذلك".
وذكره ابن حجر في "فتح الباري" "11/ 297" من حديث جابر، ثم قال: "وله شاهد في "الزهد" ابن المبارك "رقم 1334" من حديث عبد الله بن عمرو موقوف" والحديث مرفوعا ضعيف، والله أعلم.(4/317)
ص -239-…وقالت عائشة رضي الله عنها: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم: قالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"1.
وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع، وإذا كان كذلك، فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما، فإذا وجد ما علل به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان النهي متوجها ومتجها، وإذا لم توجد، فالنهي مفقود، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين:
ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد، فتؤثر فيه أو في غيره فسادا، أو تحدث له ضجرا ومللا، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل، كما هو الغالب في المكلفين، فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص، إن كان مما لا يجوز تركه، أو يتركه إن كان مما له تركه، وهو مقتضى التعليل، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضِ القاضي وهو غضبان"2، وقوله: "إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا"3، وهو الذي أشار به عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"،وإسحاق بن راهويه في "المسند" "4/ ق 77/ ب" ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 282"- وأحمد في "المسند" "6/ 242، 258"، والفريابي في "الصيام" "29" وغيرهم.
2 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
3 جزء من حديث، وفيه قصة ستأتي عند المصنف قريبا "ص247- 248" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ رقم 1968، وكتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم 182".(4/318)
ص -240-…الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم، وقد قال بعد الكبر: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشد2 من المشقة أو حاد يسهل به الصعب أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره، كما جاء في الحديث: "أرحنا بها يا بلال"3.
وفي الحديث: "حبب إلى من دنياكم ثلاث...."، قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217- 218/ رقم 1975" ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813- 814/ رقم 1159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية "لأن أكون قبلت الثلاث الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من أهلي ومالي". وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم".
2 في "ط": "أشق".
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الآداب، باب في صلاة العتمة، "4/ 296-297/ رقم 4985, 4986"، وأحمد في "المسند" "5/ 394، 371" من حديث رجل من الصحابة، وإسناده صحيح، وسماه الطبراني في "المعجم الكبير" "6/ 276-277/ رقم 6214"، فأخرجه من مسند سلمان بن خالد الخزاعي.
وانظر: "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 101"، و"صحيح الجامع الصغير" "رقم 7892"، و"مشكاة المصابيح" "رقم 1253".
4 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 128، 199، 285"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 39"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61،=(4/319)
ص -241-…وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه: "أفلا أكون عبدا شكورا؟!"1.
وقيل له عليه الصلاة والسلام: أنأخذ عنك في الغضب والرضى؟ قال: "نعم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والحاكم في "المستدرك" "2/ 160"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "1/ 331، 332 / رقم 322 و323"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 199-200، 237/ رقم 3482, 3530"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 78"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "ص98، 229-230"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 262"، وسنده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 150-151" وقال: "ومن رواه "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث"، فقد وهم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "ثلاث" والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها".
وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص38" في الرواية التي فيها "من دنياكم": "وليس بمحفوظ بهذا، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا وإنما هي من أهم شئون الآخرة".
وكذا قال العراقي وابن حجر والسخاوي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 116"، و"المقاصد الحسنة" "ص180".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير"، باب "{يَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819"، وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(4/320)
2 أخرج نحوه أبو داود في السنن" "كتاب العلم، باب في كتابة العلم، 3/ 318/ رقم 3646"، وأحمد في المسند "2/ 162، 192، 207، 215"، وابن أبي شيبة "المصنف" "9/ 49" والدارمي في "السنن" "1/ 125"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 105-106"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم" "77-80"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 388، 389" من طرق عن عبد الله بن عمرو، وبعضها صحيح. قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 207": ولهذا طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا".(4/321)
ص -242-…وهو القائل في حقنا: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"1 وهذا2 وإن كان خاصا به، فالدليل صحيح.
وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير.
ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد، كعمر، وعثمان وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير؛ ومن التابعين، كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خثيم، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم.
ومما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص231" وهو في "الصحيحين".
2 ولا يخفى عليك استيفاؤه لأمثلة الأنواع الثلاثة للضرب الثاني في الأحاديث المذكورة، مع مراعاة أنها كلها ليس فيها العلم أو الظن بأنه يدخل على نفسه بسببها فسادا... إلخ, إن كان قد يحصل ذلك كما هو أحد الأقسام الثلاثة التي أشارت إليها الأحاديث. "د".
3 رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 367، 368، 2/ 292-293، 502-503"، وسعيد بن منصور في "السنن" "2/ 469/ رقم 158"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1275، 1277"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ =(4/322)
ص -243-…وكم من رجل منهم صلَّى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سَنَة، وسرد الصيام كذا وكذا سنة1.
وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام، وأجاز مالك صيام الدهر2.
وكان أويس القرني يقوم ليله حتى يصبح، ويقول: بلغني أن لله عبادًا سجودًا أبدًا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 124/ 4635"،وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 75، 76"، وأبو عبيد في فضائل القرآن" "رقم 277، 278"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 294"، وأحمد في "الإيمان" "ق 49/ ب"، والطبراني في "الكبير" "1/ 87/ رقم 135" وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "1/ 56، 57"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "225، 226، 227، 228"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 24-25"، وفي "الشعب" "5/ 145-146/ رقم 1993" من طرق عن ابن سيرين عن نائلة زوج عثمان، قالت: إن تدعوه أو تقتلوه فهو كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن -يعني: يوترها"-
وبعضهم أسقط "نائلة"، وابن سيرين لم يسمع من عثمان.
ورواه أيوب عن نائلة كما عند ابن الأعرابي في "المعجم" "1/ ق 120/ ب" ومسعر عنها كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، ورواه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 56-57"، وقال أنس بن مالك؛ وهو وهم والأثر صحيح بمجموع طرقه، وتعدد استشهاد المصنف به في موطن آخر، وانظر: الاعتصام" "1/ 399"- دار ابن عفان".
1 ترى أمثلة كثيرة من ذلك في "إقامة الحجة" للكنوي مع التعليق عليها، وكذا في الحلية" "3/ 163"، وذكره المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" مع زيادة: "وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة".
2 كذا في "الاعتصام" "1/ 399 أيضًا.(4/323)
3 انظر: "الحلية" "2/ 87، 88"، ففيها نحو المذكور، وذكره عنه المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" ط ابن عفان" وعلق على الخبر بقوله: "يريد أنه كان يتنفل بالصلاة، فتارة يطول فيها القيام، وتارة الركوع، وتارة السجود" وفي "ط" زيادة عليه: ثم يركع أخرى حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني أن لله عبادا ركوعا أبدا" ثم يسجد حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني ان لله عبادا سجودا أبدا".(4/324)
ص -244-…ونحوه عن عبد الله بن الزبير1
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة، حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة يقول له: ويحك! لم تعذب هذا الجسد؟ فيقول: إن الأمر جد2، [إن الأمر جد].
وعن [أنس] ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت: كان يصلي حتى تورمت قدماه، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه3.
وعن الشعبي، قال: غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنته: أفطر! قال: ما أردت بي؟ قالت: الرفق. قال: يا بنية! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة4.
إلى سائر ما ذكر5 عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد؛ هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين في السابقين، جعلنا الله منهم؛ وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم، فلم ينتهض النهي في حقهم، كما أنه لما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في "العبر" "1/ 110".
2 ترى ذلك في ترجمته في "زهد الثمانية من التابعين" "ص53-54"، و"الحلية" "2/ 103"، والسير" "4/ 52"، و"الاعتصام" "1/ 399" للمصنف.
3 الخبر في "العبر" "1/ 68"، و"السير" "4/ 65"، و"الاعتصام" "1/ 399، 400" للمصنف، "مرآة الجنان" 6/ 39"، و"إقامة الحجة" "ص66"، وما بين المعقوفتين من الأصل.
4 ذكره الذهبي في ترجمته في "السير" "4/ 67-68"، والمصنف في "الاعتصام" "1/ 400".
5 في الأصل: "ذكره".(4/325)
ص -245-…قال: لا يقضِ القاضي وهو غضبان"1 وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطَّرد النهي مع كل ما يشوش الفكر، وانتفي عند انتفائه، حتى إنه منتفٍ مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش، وهذا صحيح مليح.
فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف، أو الرجاء، أو المحبة، فالخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد والمحبة تيار حامل، فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعيد، ويفني القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة، ويعمر
الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان، ويرخص له فيه إن كان لازما له، حتى لا يحصل في مشقة ذلك؛ لأن فيه تشويش النفس كما تقدم.
ولكن العمل2 الحاصل والحالة هذه؛ هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله؟
هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة "الصلاة في الدار المغصوبة" وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي، وأنه لا يجزئه إن فعل، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف، والانتقال إلى التيمم، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال3، والشاهد للمنع قوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
2 في الأصل زيادة كلمة: "الصالح. وفي "ط": ".... يكون مجزئة".
3 انظر بسط المسألة في "الخلافيات" "2/ 477، 483" مع تعليقي عليه.(4/326)
ص -246-…تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النساء: 29]، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات، فالأمران مفترقان؛ فإن إدخال المشقة الفادحة1 على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة، فصارت ذات قولين2.
وأيضا، فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى، وهي أن يقال: هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله، أم لأجل أنها حق للعبد؟ فإن قلنا: إنها حق لله، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع، وقد رفع الحرج في الدين، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع، وإن قلنا: إنه حق العبد، فإذ سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة، ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة.
والذي يرجح هذا الثاني أمور:
- منها: أن قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] قد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم؛ لأنه أرفق بهم، وأيضا فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وأشباهها3 من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد.
- ومنها: ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر، فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحجر والعسر، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي، ومما يخص مسألتنا قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، أو تورمت قدماه4، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد، ولكن المر في طاعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل و"ط" بالفاء، وفي "د" القادحة.
2 أي: كما في الصلاة في الدار المغصوبة كما قال؛ لأن الأمر والنهي المتوجهين إلى العمل يمكن انفكاكهما، والخلاف جارٍ فيما لم يكن هناك تلازم كمسألة الصلاة المذكورة. "د"
3 في "ط": "وما أشبهها".(4/327)
4 مضى تخريجه "ص241".(4/328)
ص -247-…إليه يحلو للمحبين، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم، وكذلك جاء السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم، وقد روي عن الحسن بن عرفة، قال:
رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت له: يا أبا خالد! ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار1.
وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى، فإذن من غَلَّب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق، ومن غلَّب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق، ولكن جعل ذلك إلى خيرته.
فصل:
وأما الثاني، فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق، فربما قطعه عن غيره، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به، فيقصر فيه، فيكون بذلك ملوما غير معذور؛ إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها2.
ذكر البخاري عن أبي جحيفة، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه بسنده إلى الحسن بن عرفة به الخطيب في "تاريخه" "14/ 341-342".
2 انظر "منهج التربية الإسلامية" "1/ 169-170"، ففيه تفصيل حسن لنحو المذكور هنا.(4/329)
ص -248-…تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلينا1، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه". فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان"2.
وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "أفتَّان أنت، أو أفاتن أنت؟ "ثلاث مرات"، فلولا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، و{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة": وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ، فقرأ سورة البقرة والنساء، فانطلق الرجل. انظره في البخاري3.
وكذلك حديث: "إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقتضى السياق "فصليا" بالغائب، فتراجع الرواية، والذي في البخاري "صليا" بألف الغائب، ولم يذكروا فيه رواية أخرى. "د".
2 مضى تخريجه "ص239"، والحديث في "الصحيحين وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة، فخرج، فصلى 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 1/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وانظر في تعيين الشاكي: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 244، 245" مع تعليقي عليه.(4/330)
4 أخرجه البخاري في الصحيح" "كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي 2/ 202/ رقم 709، 710"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 2/ 342/ 343/ رقم 470" وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(4/331)
ص -249-…ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين، فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل.
وأيضا، فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه، ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام: "كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرُّ إذا لاقى"1.
وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: وإنك لتقلُّ الصوم. فقال: "إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليَّ منه"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم داود عليه السلام 4/ 224 / رقم 1979، 1980"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 815/ رقم 1159 بعد 186" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
قال "خ": "لم تغضِ الشريعة عن حق الجسم وتترك شأنه لصاحبه الذي ربما تغالى به السعي في تكميل نفسه إلى أن يصرف عنه النظر جملة، بل رسمت له في سيره حدودا لا يسوغ له اختراقها ووقوفه عند هذه الحدود مما يجعله سائرا في سبيل لا يلاقي فيها عقبات ولا ينقطع به قبل الوصول إلى الغاية المطلوبة، وانظر إلى قوله في هذا الحديث: "ولا يفر إذا لاقى" بعد قوله: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا" فإن في ذلك إيماء إلى أن عدم سرد داود عليه السلام للصوم إنما هو ليتقوى بالفطر على واجب أعظم وهو جهاد العدو والصبر على مكافحته بقلب لا يجبن وعزم لا ينثني".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "7903"، والطبراني في "الكبير" "9/ 195-197 / رقم 8868-8870، 8872، 8874، 8878" بأسانيد عنه، وبعضها صحيح، وانظر: "مجمع الزوائد" "2/ 257".(4/332)
ص -250-…ونحو هذا ما حكى عياض1 عن ابن وهب أنه آلى أن لا يصوم يوم عرفة أبدًا؛ لأنه كان في الموقف يوما صائما، وكان شديد الحر فاشتد عليه. قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار.
وكره مالك إحياء الليل كله2 وقال: لعله يصبح مغلوبا، وفي رسول الله أسوة، ثم قال: "لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم، فلا، وإن كان وهو به فتور أو كسل، فلا بأس به".
فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبب تعطيل وظائف، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة، نهي عن ذلك، وإن لم يكن شيء من ذلك، فالإيغال فيه حسن3، وسبب القيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 430- ط بيروت"، وفيه "نذر ابن وهب....".
2 ودليله ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل 2/ 41/ رقم 1342" عن عائشة ضمن حديث طويل، فيه: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح"، ولفظ الدارمي في "سننه" "1/ 346": "وما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح"، ولفظ مسلم "6/ 27- مع شرح النووي": "ولا صلى ليلة إلى الصبح"، وفي رواية له "6/ 29": وما رأيته قام ليلة حتى الصباح".(4/333)
قلت: والتعليل الآتي يشهد له ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 131- رواية يحيى" عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، وسكنُ سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي، فغلبته عيناه. فقال عمر: "لإن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أقوم ليلة"، وكذلك من يقوم الليل ويسرد الصوم إن كان ذلك بحيث يفوت من حضور الجماعات وصلاة الجنائز، ونشر العلم بالتدريس والتصنيف ونحو ذلك، لا ينبغي له ذلك، قاله اللكنوي في "إقامة الحجة" "ص148-149".
3 هذا ما قرره اللكنوي في كتابه "إقامة الحجة" بتفصيل وإسهاب مع تمثيل من حياة السلف والصالحين والعلماء بما لا مزيد عليه.(4/334)
ص -251-…بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة.
فإن قيل: دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه- وإن كان له وازع الخوف، أو حادي الرجاء، أو حامل المحبة- لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات، ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل، صائما النهار، واطئنا أهله، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد، وإغاثة اللهفان، وقضاء حوائج الناس، وغير ذلك من الأعمال، بل كثير منها تضاد أعمالا أُخَر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها، وقد لا تضادها، ولكن تؤثر فيها نقصا، وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة1 هذه؟ ولهذا جاء: "من يشاد هذا الدين يغلبه"2.
وأيضا، فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال ومسقطي الحظوظ، فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها؟
فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان:
أحدهما:
أرباب الحظوظ، وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا، لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم، ولا يضر بحظوظهم.
فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا، وقطع العوائد المباحة قد يوقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الحال".
2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/335)
ص -252-…المحرمات، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية؛ لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملقٍ حكمة الشرع عن نفسه، وذلك فساد كبير، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع، كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخر للإنسان1.
فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت تظر العدل، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخلّ بواجب، ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن، فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلا، وينهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلا كالصلاة في الأوقات المكروهة، وينظر في المندوب الذي لا حظ له فيه، وفي المكروه الذي له فيه حظ -أعني: الحظ العاجل-، فإن كان ترك حظه في المندوب2 يؤدي لما يكره شرعا، أو لترك مندوب هو أعظم أجرًا، كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى، كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات، حسبما نبه عليه حديث3: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته....."4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومهيأ لحظوظه، فالمطلوب الاعتدال، فلا حرمان مما هيأه الله له، ولا استرسال فيه. "د".
قلت: وفي الأصل "مسخرة للإنسان".
2 أي: فإن كان ترك حظ من حظوظه بسبب فعله مندوبا لا حظ لنفسه فيه يؤدي إلى فعل مكروه شرعا، أو إلى ترك مندوب آخر أفضل منه، كان استعماله لحظه بترك هذه المندوب المؤدي فعله لأحد هذين الأمرين أولى به، وذلك كما إذا كان اشتغاله بنافلة الصلاة يحول بينه وبين التمتع بزوجته، فيؤدي ذلك إلى تطلعه للأجنبيات وتشوقه للنظر إليهن، فيكون ترك النافلة وتمتعه بزوجه أولى. "د".
3 أي، فإنه يفيد أن التمتع بالزوجة يكسر من الشهوة حتى لا ينبعث إلى النظر للأجنبية. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه =(4/336)
ص -253-…إلخ.
وكذلك [ترك]1 الصوم2 يوم عرفة3، أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، 2/ 1021/ رقم 1403"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه3/ 464/ رقم 1158" -والمذكور لفظه، وتتمته: "فليأت أهله، فإن معها الذي معها"- وأحمد في المسند" "3/ 330، 341، 395" بألفاظ منها المذكور عن جابر رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن مسعود عند الدارمي في "السنن" "2/ 146"، وعن أبي كبشة الأنماري عند البخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 139"، وأحمد في "المسند" "4/ 231"، وأبي نعيم في "الحلية" "2/ 20"، وإسناده حسن، وانظر له: "العلل" "5/ 196" للدارقطني.
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "وكترك".
2 مثال لما كان فيه فعل المندوب يؤدي إلى ما يكره شرعا، وهو كراهة العبادة والملل منها، وما بعده مثال لما يؤدي إلى ترك مندوب هو أعظم منه أجرًا -ومثله ما في الحديث بعده- ويؤخذ منه أن قراءة القرآن أفضل من الصوم، والمثالان إشارة لما تقدم عن ابن مسعود وابن وهب. "د".
3 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، 4/ 236-237/ رقم 1988"، وغيره عن أم الفضل بنت الحارث، أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه".
وفطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كان لحكمة، واختلفوا فيها، فقالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهو قول الخرقي وغيره، وقال غيرهم -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال: "والدليل عليه الحديث الذي في "السنن" عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام".(4/337)
قلت: أخرجه أبو داود "كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق 2/ 320/ رقم 2419"، والترمذي في الجامع" "أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3/ 143/ رقم 773"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب النهي عن صوم يوم عرفة، 5/ 252"، وأحمد "4/ 152"، وابن أبي شيبة في المصنف" "3/ 104 و4/ 21"، والدارمي "2/ 23"، والطحاوي "1/335"، وابن حبان "8/ 368/ رقم 3603- الإحسان"، وابن خزيمة في "صحيحه" "رقم 2100"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 803"، والحاكم "1/ 434"، والبيهقي "4/ 298"، والبغوي "1796" عن عقبة بن عامر، وإسناده صحيح.
قال ابن تيمية: "وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم". انظر: "زاد المعاد" "1/ 61-62".(4/338)
ص -254-…وفي الحديث: "إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر أقوى لكم"1.
وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه، غلب الجانب الأخف، كما قال الغزالي: إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات2، على التورع عنها مع عدم طاعتهما، فإن تناول المتشابهات2 للنفس فيها حظ، فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله، فإن كان في تناولها رضى الوالدين، رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية، وهو مخالفة الوالدين، ومثله ما روي عن مالك أنَّ طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس3.
فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال، فيقع الترجيح بينها فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه، وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، 2/ 789/ رقم 1120"، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، و"إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطر أقوى لكم".
2 في "ط": "المشتبهات".
3 الوجه في ذلك أن الحاجة إلى الناس مما يترامى بالنفوس على أبواب المهانة، وقد عنيت الشريعة بما يرفعها إلى مراقي العز والشرف حتى أسقطت للمحافظة على كرامة النفس وصيانة ماء المحيا بعض الواجبات، كما أجازت للرجل أن يتيمم ولا يقبل الماء ممن يقدمه له على وجه الهبة لما في مثل ذلك من المنة المكروهة لدى النفوس المتطلعة إلى عز شامخ ومجد أثيل. "خ".(4/339)
ص -255-…والثاني:
أهل إسقاط الحظوظ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال، غير أن سقوط حظوظهم لعزوف1 أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم، فصاروا أكثر أعمالا، وأوسع مجالا في الخدمة، فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات، وأما أنه2 يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة، فمتعذر، إلا في المنهيات، فإنه ترك بإطلاق، ونفي أعمال لا إعمال، والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام، ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر، كقوله: "إن لنفسك عليك حقا"3، وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده أو ساقط، فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه إذن4 آخر الاشياء المستحقة، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها5؛ لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا، فدخل فيه من الأعمال كثير، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر، فهو عبادة كما سيأتي، فصار عبادة بعد ما كان عادة، فهو ساقط من جهته، ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس، بل يصير أكثر عمله في الواجبات، وهنا مجال رحب له موضع غير هذا.
فصل6:
ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "عزوب".
2 في الأصل و"خ": "أن".
3 مضى تخريجه "ص239"، وهو صحيح.
4 كذا في "ط" وفي غيره: "أيضًا".
5 في "ط": "منها".
6 تكميل للمقام ببيان أن الأعمال المنهي عنها إذا تسبب عنها مشقة، فإن الشارع لا يقصد فيها المشقة أيضا، وإن جاءت في الطريق بسبب المكلف. "د".(4/340)
ص -256-…المأذون فيه، فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة، فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب؛ لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه.
إلا أنه قد يكون في الشرع1 سببا لأمر شاق على المكلف، ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه، وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة، كالقصاص والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة، فإنها زجر للفاعل، وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل، وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا، وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاهٍ لكون قطع اليد المتآكلة وشرب الدواء البشع مؤلما وشاقا، فكما لا يقال للطبيب: إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال، فكذلك هنا، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم.
والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه، ويشبه هذا ما في الحديث من قوله: "ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له من الموت"2؛ لأن الموت لما كان حتما على المؤمن وطريقا إلى وصوله إلى ربه، وتمتعه بقربه في دار القرار، صار في القصد إليه معتبرا، وصار من جهة المساءة فيه مكروها3، وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل فيه سقط: "ما يكون" "د".
2 قطعة من آخر حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقائق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا، وقد استشكل بعضهم "التردد" الوارد في الحديث، وانظر له لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 129-131 و 10/ 58-59"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 1640". وفي "ط": "ولا بد منه".
3 أي: غير مقصود ما فيه من جهة المكروهية، ولكنه مقصود من جهة أنه موصل إلى السعادة، وإنما كان شبيها ولم يكن مما تقدم؛ لأنه ليس في موضوع التكاليف الدنيوية. "د".(4/341)
قلت: وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 129-131 و 10/ 58-59".(4/342)
ص -257-…الوفاء بها؛ لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها، فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هي عبادات وإن شقت، كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها، حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت، كما إذا حلف بصدقة ماله، فإنه يجزئه الثلث، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر، فإنه يركب ويهدي، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام [الفلاني]، فإنه يسقط حكمه، إلى أشباه ذلك، فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات.
فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف1 عام في المأمورات والمنهيات.
ولا يقال: إنه قد جاء في القرآن: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فسمى الجزاء اعتداء، وذلك يقتضي القصد إلى الاعتداء، ومدلوله المشقة الداخلة على المعتدي.
لأنا نقول: تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز معروف مثله في كلام العرب، وفي الشريعة من هذا كثير2، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العبد".
2 قلت: كلام المصنف في صفة الاستهزاء والمكر وغيرهما من صفات الفعل لله عز وجل من الأمور المردودة غير المقبولة، ومنهج السلف في فهم الأسماء والصفات على خلافها، وما الداعي لهذا المعنى وذات الله غير ذواتنا، وبالتالي أسماؤه وصفاته غير أسمائنا وصفاتنا، فإن التأويل=(4/343)
ص -258-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لا يكون إلا بعد الوقوع في التشبيه، وحينئذ يكون هنالك داع لصرف اللفظ عن معناه، وهو في حقيقته تعطيل.
واعلم وفقني الله وإياك للصواب، أن الصفات إذا كانت كمالا في حال، ونقصا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، وهذه الصفات وغيرها من صفات الأفعال كالكيد والخداع، فهذه تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أنها من صفاته سبحانه بإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسوله بمثلها: كقوله تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15].(4/344)
وقد ألمح ابن القيم إلى نحو ما ذكره المصنف من تأويل هذه الصفات ورده بنحو ما قررناه، فقال في "إعلام الموقعين" "3/ 217-218": "وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة، ومجاز المقابلة، نحو {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان:
قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه.
وحسن: وهو إيصاله إلى من يستحقه، عقوبة له.
فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده.
وأما السيئة، فهي "فيعلة" مما يسوء ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها، فهي سيئة له، =(4/345)
ص -259-…............................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حسنة من الحكم العدل".
وزيادة في توضيح ما سبق أود أن أبين ما يلي:
أولا: إن الله لم يصف نفسه بالكيد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف ربه بالإحصاء إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وهذا الوصف على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ كما سيأتي.
ثانيا: إن دعوى إطلاق هذه الألفاظ على الله سبحانه بالشرط السابق على سبيل المجاز لأنها توهم التشبيه باطلة، والمراد بهذا المجاز نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله سبحانه، وهذا باطل، وقد مر معنا الرد على المصنف عندما أَوَّلَ بعض هذه الصفات مثل "الحب والبغض"، راجع "ص195 وما بعدها".
ثالثا: إن هذه الأفعال لا تذم على الإطلاق، ولا تمدح على الإطلاق، ومجازاة المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، ولهذا كاد الله سبحانه وتعالى ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه، جزاء على كيدهم له مع أبيه.
رابعا: هذه المجازة من المخلوق حسنة، فكيف من الخالق، هذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا، وأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا يكون قبيحا فلا يكون المكر وغيره من صفات الفعل منه قبيحا البتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداء، لا على سبيل المقابلة على هذا التقدير.
وعلى التقديرين، فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ على التقديرين.
خامسا: لا يشرع اشتقاق أسماء لله عز وجل من هذه الصفات، ومن فعل ذلك من الجهلة، فقد افترى على الله الكذب، وفاهَ بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه.(4/346)
قال السفاريني في "الدرة المضيئة"- كما في "العقائد السلفية" "59" في مبحث الأسماء الحسنى:
لكنها في الحق توقيفية…لنا بذا أدلة وفية
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" "3/ 415": "فنسبة الكيد =(4/347)
ص -260-…{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].
إلى أشباه ذلك، فلا اعتراض بمثل ذلك.
فصل1:
وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج، لا بسببه، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه، فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا2، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعا3 للمشقة اللاحقة، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها، بل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمكر ونحوها إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم بـ "المريد". و"الشائي" و"المحدث"، كما لم يسم نفسه بـ "الصانع" و"الفاعل" و"المتقن"، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه: الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد، ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد، ولا يسمى بذلك".
وانظر في إثبات هذا الصفات أيضا: "مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 32-34"، و"طريق الهجرتين" "427-429"، و"أقاويل الثقات" "72".
1 هذا مقابل لسائر ما تقدم في موضوع لحوق المشقات تكميلا للمقام. "د".
2 انظر ما تقدم "2/ 45".
3 في "ط": "ورفعا" بواو.(4/348)
ص -261-…أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع، تكملة لمقصود العبد، وتوسعة [عليه، وحفظا]1 على تكميل الخلوص في التوجه إليه، والقيام بشكر النعم.
فمن2 ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذٍ آدميا كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله وكون هذا مأذونًا فيه معلوم من الدين ضرورة.
إلا ان هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه، فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة، كما أوجب علينا دفع المحاربين، والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء؛ لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني، كما لا تعتبر3 جهة التكليف ابتداء، وإن كان في نفسه ابتلاء4؛ لأنه طاعة أو معصية من جهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في "د" وفي الأصل و"ط" فأول" وفي "خ": "فإن".
3 أي: فكما أن التكليف نفسه ابتلاء كما بينه بقوله: لأنه.... إلخ"، ولا يعتبر فيه هذا الابتلاء بل طولب المكلف بالامتثال، فكذلك هنا طولب المكلف بما يدفع هذا الابتلاء الذي ينزل به من الأمراض وغيرها، وبعبارة أخرى إذا كان ابتداء التكليف العام وأصله ابتلاء ولم يعتبر ذلك حتي يمنع توجهه للمكلفين ليعملوا على ما فيه النجاة من هذا الابتلاء، فكذا هذا التكليف الخاص المطلوب به دفع ابتلاء خاص من ألم الجوع مثلا يكون تكليفا مقبولا، ولا يعتبر الابتلاء مانعا من توجهه. "د".(4/349)
4 قال ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 656"، "والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل" في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة".
وانظر: "تفسير القرطبي" "6/ 300"، والروح "123".(4/350)
ص -262-…العبد، خلق للرب، فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستلام لأحكام القضاء والقدر، فكذلك هنا.
وأما إن لم يثبت انحتام الدفع1، فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي، فيستسلم العبد للقضاء، ولذلك لما لم يكن التداوي محتما2 تركه كثير من السلف الصالح، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض، كما في حديث السوداء المجنونة3 التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك4، وكما في الحديث: "ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"5.
ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيَّدُ بالندب، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام: "تداووا، فإن الذي أنزل الداء أنزل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في الدفع"
2 في "ط": "متحتما".
3 كان الأولى أن يقول: التي كانت تصرع" كما هي عبارة الحديث. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، 10 / 114/ رقم 5652"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، 4/ 1994/ رقم 2576" عن ابن عباس، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها. لفظ البخاري.(4/351)
5 جزء من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، 11/ 405-406/ رقم 6541، وكتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، 10/ 155/ رقم 5705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين بغير حساب ولا عقاب، 1/ 199/ رقم 220" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(4/352)
ص -263-…الدواء"1، وأما إن ثبتت2 الإباحة، فالأمر أظهر.
وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث3 من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ، وبقي الكلام على الوجه الرابع، وذلك مشقة مخالفة الهوى، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 217" من حديث أسامة بن شريك، وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 10/ 134/ رقم 5678" عن أبي هريرة مرفوعا: "وما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
2 في الأصل: "ثبت".(4/353)
3 عقد المسألة السابقة لمسمى لفظ المشقة في الوجه الثالث، فتكلم عنه في أولها، وفرق بين ما يعد مشقة معتادة وما لا يعد، وإن كان فيه كلفة، وانجر به الكلام إلى أن الشارع لا يقصد المشقة المعتادة الحاصلة في التكاليف، كما لا يقصد غير المعتادة، بل يقصد الفعل من جهة كونه مصلحة عائدة على المكلف فقط، ثم رتب على ذلك في الفصل الأول أنه ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظرا إلى عظم أجرها، ثم ذكر في الفصل الثاني أن الأعمال المأذون فيها إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة، أو غير معتادة، وتوسع في تفاصيل غير المعتادة التي هي محل مشروعية الرخص، وخارجة عما عقدت له المسألة، ثم مد النفس في تفاصيل غير المعتادة التي تتسبب عن العبادة، إما لخوف الانقطاع عن العمل أو كراهيته، وإما لمزاحمة الوظائف المطلوبة من العبد بعضها لبعض، وذلك في الفصلين الثاني والثالث، ثم أكمل المقام في الفصل الرابع بالأفعال غير المأذون فيها في مقابلة موضوع الفصل الثاني الذي قيده بالمأذون فيها، ثم ذكر فصلا خامسا لمجرد إكمال الكلام في مطلق المشقة، وبمراجعة هذه الفصول لا تجد منها فصلا خاصا بالوجه الثالث، بل عنايته كما رأيت بالوجهين الاول والثاني أكر من عنايته بالوجه الثالث وما يشبهه، الذي فيه المشقة غير معتادة، ولكنها صارت عند قوم كالمعتادة، ثم قال في آخر المسألة: "وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث"، فهذا الصنيع غير موجه، وكان يحسن به أن يضع كل مبحث مما اشتملت عليه تلك الفصول في محله الخاص به من تلك الوجوه الثلاثة حتى تمتاز المباحث بعضها عن بعض ويظهر ارتباطها بتلك الوجوه. "د".(4/354)
ص -264-…المسألة الثامنة:
وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه، ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين1، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، حتى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23].
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وما أشبه ذلك.
ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج2 المكلف عن اتباع هواه، حتى يكون عبدًا لله، فإذن مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجاري العادات؛ إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك3، لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر شيئا من ذلك في كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي في الباب التاسع والثلاثين وما بعده "ص259 وما بعدها" وفي طوق الحمامة" لابن حزم "ص7 وما بعدها "
2 في "خ" محرفة إلى "إخراس".
3 في "ط": "لأجلها".(4/355)
ص -265-…المسألة التاسعة:
كما أن المشقة تكون دنيوية، كذلك تكون أخروية، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم، فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مُخِلَّة بدين، واعتبار الدين مقدم1 على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع، وكذلك هنا2، فإذا كان كذلك، فليس للشارع قصد3 في إدخال المشقة من هذه الجهة، وقد تقدم من الأدلة التي يدخل4 تحتها هذا المطلب ما فيه كفاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن أصول الدين تقدم على اعتبار النفس والأعضاء، فإذا توقف حفظ الدين على المخاطرة بالنفس أو الأعضاء قدم الدين، ولذا وجب الجهاد لحفظ الدين وإن أدى إلى ضياع كثير من النفوس، أما غير أصول الدين، فأنت تعلم أن الأمر فيها غير ذلك، فكثيرا ما يسقط الشارع واجبات دينية محافظة على النفس حتى من نحو المرض، وحينئذ، فليس اعتبار الأمور الدينية مقدما على النفس ولا على المال في كل شيء، والمقام يحتاج إلى بسط أوفى من هذا، ولذا قال صاحب "التحرير" في موضوع الضروريات الخمس: "إن حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد، وعقوبة الداعي إلى البدع"، فلا شك أن هذا فيما يتعلق بأصول الدين، وسيأتي في المسألة العاشرة ما يحتاج فيه إلى الترجيح بين مصلحتين قد تكون إحداهما دينية والأخرى دنيوية، فلو كانت الدينية تقدم مطلقا ما كان هناك حاجة إلى الترجيح المذكور. "د".
2 أي: فالمشقة الدينية مقدمة في الاعتبار على الدنيوية. "د".
3 أي: فمع كونه يقدم ما فيه حفظ الدين -مع كونه مشقته أعظم- على ذي المشقة الدنيوية الصرفة، فإنه لا يقصد إدخال هذه المشقة على المكلف، ولكنها جاءت في طريق حفظ الدين غير مقصودة. "د".
4 لأنه داخل في عموم المشقة التي برهن على أن الشارع لم يقصدها في التكليف مطلقا، وإن جاءت في طريق امتثال التكليف. "د".(4/356)
ص -266-…المسألة العاشرة:
قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده، كالمسائل المتقدمة، وقد تكون عامة1، له ولغيره، وقد تكون داخلة على غيره بسببه.
ومثال العامة له ولغيره كالوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه، إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته، فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره.
ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما، إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز2، أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي، وهما إذا لم يقوما بذلك، عم الضرر غيرهما من الناس، فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا نوع آخر من المشقة ليس داخلا في المعاني الأربعة التي تقدمت؛ لأن تلك كان المشقة فيها حاصلة من نفس الفعل، وهنا حصول المشقة يحدث من التعارض للوظائف التي تناط بالمكلف، فإذا قدم بعضها على بعض حصل له ولغيره ضرر أو لغيره فقط، مع كون أصل الفعل المطلوب لم يلاحظ فيه مشقة خارجة عن المعتاد، فالمشقة هنا تحصل من عدم العمل، عكس المعاني الأربعة السابقة "د".
2 من الأمور التي تعرض في القضاء غير الجور في الحكم، فليس القاضي معصوما، وقد يجره الأمر إلى الجور أيضا، وهذا ما دعا مثل أبي حنيفة إلى التنحي عنه مع توجيه الأذى إليه بسبب التنحي، فلا يظهر وجه للانتقاد من بعض الناظرين هنا على ذلك. "د".(4/357)
وكتب "خ" ما نصه: "لا يقع القاضي أو المفتي في أمر غير جائز، إلا أن يحيد عن طريق الاستقامة من تلقاء نفسه؛ إذ الخطأ في الاجتهاد مغتفر والإكراه إنما يخضع أمامه من يؤثر المنصب على الشرف والفضيلة، وليس العزل من الوظيفة عذرا يبيح لمن يتقلدها أن يقول على الله غير الحق، أو يتصرف في حق من حقوق الأمة على وجه يلقي به في تلف أو يهبط بالأمة هاوية ذل وصغار".(4/358)
ص -267-…وعلى كل تقدير، فالمشقة من حيث هي غير مقصودة للشارع تكون غير مطلوبة، ولا العمل المؤدي إليها1 مطلوبا كما تقدم بيانه، فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين، فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره، فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه، وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك2 وإن لم يمكن، فلا بد من الترجيح، فإذا كانت المشقة العامة أعظم، اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة3، وإن كان بالعكس، فالعكس، وإن لم يظهر ترجيح، فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1أي: إلى المشقة الخارجة عن المعتاد، كما سبق وكما هو مساق كلام المؤلف هنا، أو يقال: إن العمل المؤدي إلى المشقة من حيث تأديته إليها لا يطلب، والطلب إنما هو من جهة كونه مصلحة كما سبق مثله. "د".
2 كأن تكون مشقته من حيث عيش عياله، فتقوم له الأمة بذلك ويقوم لها بوظيفة القضاء أو العلم أو الجندية التي تتضرر بعدمها، وبهذا تجتمع المصلحتان وتنتفي المشقتان. "د".
3 كما إذا كان التعارض بين وظيفة عامة تتعين عليه، وبين مهم ديني غير متأكد عليه.
"د".(4/359)
ص -268-…المسألة الحادية عشرة:
حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية1، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي يفهم من قول الشاطبي عن المشقة التي تقتضي التخفيف أنها ما كانت "خارجة عن المعتاد في الأعمال العادية" إنه يرجع في تعيين الخلل على العبد إلى عرف الناس وعاداتهم، ومما يؤكد ذلك قوله في شأن ما يبدو أنه غير معتاد، ولكنه معتاد في الحقيقة: "... فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات".
وخلاصة ذلك أن المشقات التي تقتضي التخفيف مما لم يَرِد بشأنها شيء من الشارع، هي المشقات التي تكشف العادات والأعراف عن أنها خارجة عن المعتاد وتلحق خللا في العبد أو ماله أو حال من أحواله.
وقد استشكل القرافي في "الفروق" "1/ 119-120- الفرق 14" أن يكون العرف ضابطا للمشقة التي تجلب التيسير فيما لا نص فيه، وذكر أن الفقهاء يحيلون على العرف عند سؤالهم، مع أنهم من أهل العرف، فلو كان هناك عرف قائم لوجدوه معلوما لهم أو معروفا، ولا تصح الإحالة على غير الفقهاء؛ لأنه ليس بعد الفقهاء من أهل العرف إلا العوام، وهم مما لا يصح تقليدهم في الدين.(4/360)
ولذلك، فقد مال القرافي إلى الأخذ بمنهج ابن عبد السلام في التقريب بقواعد الشرع، كما تراه في كتابه" قواعد الأحكام" "2/ 9-10"، ولكن الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "6/ 271" تعقب كلام القرافي، وذكر أن فيه نظرا ظاهرا، قال: "وأقول فيما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف نظر ظاهر، فإن العلماء الذين ناطوا بعض المسائل بالعرف إنما وقع ذلك منهم أفذاذا أثناء البحث أو التصنيف، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل، وما اجتمع علماء عصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده، ثم عجزوا عن معرفته وأحالوا في ذلك على العامة، أن من العلماء الفقير البائس والضعيف المنة -أي: القوة والجلد- والغني المترف، والقوي الجلد وغير ذلك، فيشق على بعضهم ما لا يشق على الجمهور، ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الجمهور، فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس وما لا يشق عليهم ضروري لا بد منه، وهو لا يعرف إلا بمباشرة الناس وتعرف شئونهم وأحوالهم".(4/361)
ص -269-…فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا.
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها، فليس بقاصد لرفعها أيضا.
والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها؛ لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره، قل أو جل، إما في نفس العمل المكلف به، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف، وإما فيهما معا، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب، كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله، وذلك غير صحيح، فكان ما يستلزمه غير صحيح.
إلا أن هنا نظرا1، وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال، فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح، ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد، إلى غير ذلك من أعمال التكليف، ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية، فلم تخرج عن المعتاد على الجملة.
ثم إن الأعمال المعتادة2 ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد، في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو محل الفائدة من هذه المسألة، يحقق فيه أن المشقة المعتادة نسبية يحتاج فهمها إلى دقة نظر بالنسبة لكل عمل في ذاته، حتى لا تختلط أنواع المشقات، فتختلط الأحكام المترتبة عليها. "د".
قلت: انظر في حدود المشقة: "الذخيرة" للقرافي "1/ 340- ط دار الغرب".
2 أي: من أعمال التكليف بدليل سابقه ولاحقه. "د".(4/362)
ص -270-…كل وقت، وفي كل مكان، وعلى كل حال، فليس إسباغ الوضوء في السبرات1 يساوي إسباغه في الزمان الحار، ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة، وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد، مع فعله على خلاف ذلك.
وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ2 جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] بعد قوله:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] إلى آخرها.
وقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
وقصة3 كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع سَبْرة، بفتح، فسكون: وهي الغداة الباردة. "د".
2 أي: فالإيمان قد يستتبع الوفاء بواجباته مشقات وفتنًا يجب الصبر عليها، ولا تعد خارجة عن المعتاد في موضوع الإيمان، وهو من أعمال التكليف، وآية الأحزاب فيها مشقة الجهاد دفاعا عن الدين، وطبيعة الجهاد تقتضي مثل هذه المشقة ولا تكون خارجة عن المعتاد في الجهاد، وإن كانت هي في نفسها شاقة، ومدحهم بالصدق فيما عاهدوا الله عليه يقتضي أن ذلك من لوازم عقد الإيمان، وأنه يلزمه الصبر على المشقات بالجهاد وغيره في سبيل المحافظة عليه. "د".(4/363)
3 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2120/ رقم 2769"، وأحمد في "المسند" "3/ 454 و456-459"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وسقتها مع تخريجها في كتابي "الهجر في الكتاب والسنة" "ص157-159".(4/364)
ص -271-…تبوك ومنع1 رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكالمتهم، وإرجاء أمرهم: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118].
وكذلك ما جاء في نكاح الإماء2 عند خشية العنت، ثم قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه في الحقيقة معتاد، ومشقته في مثله مما يعتاد؛ إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة، طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج3 عن المعتاد، وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل، وواسطة هي الغالب والأكثر، فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا4 يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات، وإذا لم تخرج عن المعتاد، لم يكن للشارع قصد في رفعها، كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة فلا يكون فيها رخصة، وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ربما يقال:إن هذا ليس تكليفا لهم، ولكنه نوع من العقوبة؛ لأن غيرهم هو الذي كلف بهجرهم، ولم يكلفوا إلا بهجر نسائهم في آخر المدة تقريبا، وليس هذا من المشقات التي يتوهم فيها الخروج عن المعتاد، فما هو الذي كان يمكنهم فعله ليخلصوا من عقوبة الهجر فلم يفعلوه؟ "د".
2 أي: المشقة في عدم إباحة التزوج بهن إلا عند بلوغ الأمر خوف الزنا، أما ما قبل ذلك من شدة الداعية إلى النكاح، فلا يعتد به وإن كان مشقة، ومع وجود المشقة التي اعتبرت هنا في الرخصة، فقد ندب إلى الصبر عند نكاحهن، فدل على أن المشقة في هذا الباب تقدر بحسبها فيه، لا بحسب نسبتها إلى المشقات في الأبواب الأخرى. "د".
3 في الأصل: "يخرج".
4 في "ط": "ولا".
5 في "ط": "محل خلاف".(4/365)
ص -272-…فحيث قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، ثم قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]، كان هذا موضع شدة؛ لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلا في التخلف، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران: شدة الحر، وبعد الشقة، زائدا على مفارقة الظلال، واستدرار الفواكه والخيرات، وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة، ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد، فلذلك لم يقع في ذلك رخصة، فكذلك أشباهها، وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]: إنما ذلك سعة الإسلام؛ ما جعل الله من التوبة والكفارات1.
وقال عكرمة: ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع2.
وعن عبيد بن عمير، أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس، فسأله عن الحرج، فقال: أولستم العرب؟! [فسألوه ثلاثا، كل ذلك يقول: أولستم العرب؟!] ثم قال: ادع رجلا من هذيل، فقال [له]: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج. قال ابن عباس: ذلك الحرج؛ ما لا مخرج له3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 205-206"، وقال ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1305" قبله: "وثبت صحيحا عن ابن عباس".
قلت: وجاء في الأصل و"خ": ".... ولا مخرج".
2 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1305".
3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 206" بنحوه، وذكره ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1304-1305" بحرفه ونصه.(4/366)
ص -273-…فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له، وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات، وأصل الحرج الضيق، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها، فليس بحرج لغة ولا شرعا، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية؛ وهي التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب1، فقد تبين إذن ما هو من الحرج مقصود الرفع، وما ليس بمقصود الرفع والحمد لله.
فصل:
قال ابن العربي: "إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس، فإنه يسقط، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره"2 انتهى ما قال.
وهو مما ينظر فيه، فإنه إن عني بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد، فالحكم كما قال، ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه، وإلا؛ لزم في أصل التكليف، فإن تصور وقوع اختلاف، فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد، أو من قبيل الخارج عن المعتاد، لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما.
وأيضا، فتسميته خاصا يشاحّ فيه، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص، إذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1هذا كالتفسير لكل آية وقع فيها تعليل التكليف بعلم الله نحو: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وصفوة المقال أن الله يعلم السرائر كما يلعم ما سيكون؛ إذ العلم يتعلق بالمعدوم وبالموجود، وإنما يضع التكاليف؛ لتنكشف سريرة العبد حيث إن الجزاء إنما يترتب على ما يقع، كما أن الأحكام إنما تجري على حسب ما يظهر للعيان، فيرجع التعليل بالعلم إلى التعليل بما يلزمه العلم، وهو التبين أو الانكشاف، ويكون المعنى؛ ليتعلق به علمنا موجودا ظاهرا. "خ".
2 أحكام القرآن" "3/ 1306".(4/367)
ص -274-…ليس مختصًّا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض.
وإن عني بالحرج ما هو خارج عن المعتاد، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة، فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم، وقد شرع فيه التخفيف، فهذا عام، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض؛ إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا، ومنه من يقدر على ذلك، ومنهم من يقدر على الصوم ومنهم من لا يقدر، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه.
ومع ذلك، فقد شرع فيه التخفيف على الجملة، فالظاهر أنه خاص، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي، إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص، وإلا؛ فما من حرج يعد1 أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين، فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم أو خص به أحد أصحابه، كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة2 وشهادة خزيمة3 فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك.
فإن قيل: لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم، وما كان خاصا4 ببعض الأقطار، أو بعض الأزمان، أو بعض الناس، وما أشبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "يقدر".
2 كما سيأتي "ص410"، وهناك تخريجه.
3 كما سيأتي "ص469"، وهناك تخريجه.(4/368)
4 مثل له بعضهم بالمسافر ينقطع عن رفقته ومعه تبر، فيأتي دار الضرب بتبره ويأخذ منها دنانير بقدر ما يتخلص من تبره ويعطيهم أجرة الضرب، قال: وقد أجازها مالك مع انها مصلحة جزئية في شخص معين وحالة معينة. ا.هـ. وهذا غير ظاهر؛ لأن كل مسافر هذه حاله فحكمه هكذا، كما يشير إليه قول المؤلف: "فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي..... إلخ". "د".(4/369)
ص -275-…ذلك1.
فالجواب: إن هذا أيضا مما ينظر فيه، فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص؛ لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين، أو بعض الأزمان المعينة، أو الأمكنة المعينة، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة، أو على وجه لا يقاس عليه غيره، كنهيه2 عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة3، وكتخصيص الكعبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استعمل الأصوليون الكلية والجزئية بهذا المعنى في بحث المصالح التي قد ترجع إلى نوع المشاق، وفسروا الجزئية بما يعرض لبعض الناس أو في حالة مخصوصة، وذكروا الخلاف في حكمها، غير أن المعروف في المذهب المالكي اعتبارها، ومن أمثلتها المسافر يعجله السفر، فيأتي دار الضرب بتبره، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير بمقدار ما يخلص من تبره، وقد أجاز الإمام مالك هذه الصورة لضرورة الانقطاع عن الرفقة، قال الزركشي في "البحر المحيط": ولكنها مصلحة جزئية بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة"."خ".
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء 3/ 1651/ رقم 1971" بسنده إلى عبد عبد الله بن واقد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي". فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟". قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا، وتصدقوا".(4/370)
3 في حاشية الأصل: "الدافة، بالدال المهملة، وتشديد الفاء: "الجماعة الذين يسيرون سيرا خفيفا، وقد ورد منهم على المدينة في زمنه عليه السلام، فنهى الناس عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم أباح ذلك بعد، وقال لما سئل عن النهي إنه من أجل الدافة، أي: لأنهم إذا نهوا عن الإدخار جاءوا به على أولئك القوم الوافدين وأطعموا منه" ا.هـ.
وكتب "د" ما نصه: "الدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، وقد نهي عن الادخار حينذاك ليأكل هؤلاء القادمون منها.(4/371)
ص -276-…بالاستقبال، والمساجد الثلاثة [بما اشتهر من فضلها]1 على سائر المساجد، فتصور مثل هذا2 في مسألة ابن العربي غير متأتٍّ.
فإن قيل: ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره3.
قيل وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم، بل جهة العموم أولى؛ لأن الحرج فيها كلي، بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم، فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده، فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض، وإن سقط سقط في البعض، وهذا متفق عليه بين الإمامين، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك.
فإن قيل: لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا، وهو عام، كالتراب والطحلب وشبه ذلك، أو خاص كما إذا كان عدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في الأصل ما بين المعقوفتين بعد عبارة: "سائر المساجد".
2 أي: فخصوص مثل الخصوص في هذه الأمثلة التي أشار إليها لا يعقل هنا في كلام ابن العربي، فلا يمكن حمل الخصوص في كلامه عليه وغرضه بكثرة الاحتمالات التي يطرقها ثم ينفيها أخذ الطريق على ابن العربي في جملته هذه. "د".
3 في "ط": "أو لغيره".(4/372)
ص -277-…الانفكاك خاصا ببعض المياه، فإن حكم الأول ساقط لعمومه، والثاني مختلف فيه لخصوصه، وكذلك اختلف في ماء البحر: هل هو طهور أم لا؟ لأنه متغير خاص، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف، والطلاق قبل النكاح1 إن كان عاما سقط، وإن كان خاصا ففيه خلاف، كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكر أتزوجها أو كل ثيب وما أشبه2 ذلك، فهي طالق، ومثله كل أمة اشتريتها فهي حرة، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص3، كما لو قال:كل حرة أتزوجها طالق، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط، فإن قال فيه: كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا، وجرى فيه الخلاف، وأشباه ذلك من المسائل.
فالجواب أن هذا ممكن، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه، إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه4، لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل: "انظر هذا، فإن حمل مسألة الطلاق قبل الملك على عموم الحرج وخصوصه يقتضي أن سبب خلاف الإمامين مراعاة الحرج وعدمه وليس كذلك، وإنما سبب الخلاف مراعاة الملك التقديري في الخاص عند مالك وعدم مراعاته مطلقا عن الشافعي، كذا قيل، وفيه نظر، والصواب ما عند المصنف، فإن مالكا اعتبر الملك التقديري في الخاص لعموم الحرج أو غلبته فيه وإلا فلا فرق، فلو كان....".
2 في الأصل: "أو".
3 لأنه له نكاح غير الإماء، أما الملك فلا يكون لغير الإمام، وقد عمم الحرج بهذه الصيغة، فوسع عليه بإسقاط ما تقتضيه تلك الضيغة، فله أن يملك الإماء، ولكن ليس له نكاحهن، عملا بالعموم في الأول، والخصوص في الثاني. "د".(4/373)
4 أي: فالخلاف بالاعتبار وعدمه في المذهبين يكون من الخلاف في الفروع لا في الأصول، ولكن ابن العربي نقله على أنه خلاف في الأصول كما هو صريح عبارته، يقول المؤلف: إذا ثبت هذا الخلاف الذي يعزوه ابن العربي إلى المذهبين، كان المراد به ما شرحه المؤلف في هذا الوجه، وكان مقتضى قواعد الأصولية مصححا له لكن على أنه نظر فقهي لا أصولي. "د"(4/374)
ص -278-…بالنسبة إلى نظر الأصول، إلا أنه1 إذا ثبت الخلاف، فهو المراد هنا2 والنظر الأصولي يقتضي ما قال، فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه، كالأمثلة المتقدمة، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه، فليس بحرج عام بإطلاق، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر وإن كان أخف؛ إذ لا يطَّرد الانفكاك عنه دون مشقة؛ لاختلاف أحوال الناس في ذلك.
وأيضا، فكما لا يطَّرد الانفكاك عند دون مشقة كذلك لا يطَّرد مع وجودها، فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة: الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية، ويقابله طرف خاص يطَّرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ": "لأنه".
2 في "ط": "ها هنا".(4/375)
ص -279-…المسألة الثانية عشرة:
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].
وأشباه ذلك.
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر؛ ليحصل الاعتدال فيه، فِعْلَ الطبيب الرفيق [أن]1 يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به2 في جميع أحواله.
أولا ترى أن الله تعالى خاطب الناس3 في ابتداء التكليف خطاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل فقط.
2 في "ط" "فيه".
3 الترتيب في ذاته صحيح، وأنه تعالى بدأ بإرشاد الخلق وإنارة عقولهم بالحقائق المتعلقة بخلقهم، وبث النعم في هذه الوجود لأجلهم، ولم يصل إلى تكليفهم بعد أصل الإيمان والكليات التي سيشير إليها المؤلف في الكتاب عند الكلام على التكاليف المكية والمدنية، إلا بعد بيانات وإرشادات وإعدادات للعقول إلى فهم هذه التكاليف، هذا مفهوم، ولكن غير المفهوم استشهاده بالآية الأولى وجعلها مما أنزل في ابتداء التكليف مع أنها مدنية، وكان يمكنه أن يجد ما اشتملت =(4/376)
ص -280-…التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم، كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22].
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 32-34].
وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].
إلى آخر ما عد لهم من النعم، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته فلما لم يلتفتوا إليها؛ لرغبتهم في العاجلة، أخبروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/377)
= عليه في آيات مكية، كقوله تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} إلخ، وفي سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلخ، وكالآية الثانية التي ذكرها من سورة إبراهيم؛ لأنها مكية، ثم قوله بعد: فلما عاندوا، أقيمت عليهم البراهين القاطعة، أي: وذلك في آيات مكية أيضا كما في سورة ق، انظر [كتاب الفوائد" "ص5-18" و"التبيان" "425-426" كلاهما" لابن القيم في الاستدلال بها على البعث وقدرة الله، وقوله: "فلما لم يلتفتوا إليها، أُخبِروا بحقيقتها، وضربت لهم الأمثال"، كما في الآيتين بعده وهما مكيتان ولو كان بدلهما مدني لما أضر بترتيبه، ولا ينافي هذا كله أن تكون هذه المعاني في المواطن الثلاثة وجدت أيضا في السور المدنية من باب التوكيد والتقرير، إلا أنه يبقى الكلام في أن هذه الآيات التي اختارها في المعاني الثلاثة مرتبة في النزول حسبما جاء في ترتيبه هو، فعليك بمراجعة تواريخها في النزول؛ لتعرف هل يتم له تقريره في هذا الترتب؟ "د".(4/378)
ص -281-…بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلَا شيء؛ لأنها زائلة فانية.
وضربت لهم الأمثال في ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [يونس: 24].
وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}1 [إلى آخر الآية] [الحديد:20].
وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا2 إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا"3.
ولما4 لم يظهر ذلك ولا مظنته، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط" بعدها: {وَزِينَةَ}.
2 يعني: وأنه مظنة لذلك كما أشار إليه سابقا. "د".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/ 244/ رقم 6427" من حديث أبي سعيد مرفوعا، "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا"، وذكر أشياء، منها ما تقدم عند المصنف "1/ 177".(4/379)
4 المراد من كلام المؤلف في مثل هذا أنه قال هذا في مقام كذا، وقال ذلك في مقام كذا، لا أن هناك في الخارج هذا الترتيب، وإلا؛ فالحديث قاله صلى الله عليه وسلم على المنبر في المدينة، والآية في الأعراف وهي مكية، وكذا الآية الثانية في المؤمنون المكية "د".(4/380)
ص -282-…ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم1، والوعيد فيه والتشديد، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}2 [فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فنزل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فخفف عنهم بسبب ذلك مع أن قليل الظلم وكثيره منهيٌّ عنه، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية؛ لقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
ولما قال عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمن خان"3، شق ذلك عليهم؛ إذ لا يسلم أحد من شيء منه، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر4.
وكذلك لما5 نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284] شق عليهم، فنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقارف6 بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له، فسئل في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المطلق الشامل لشرك وغيره من المعاصي. "د".
2 المعروف أن الظلم في الآية هو الشرك كما ورد تفسيره في الحديث بآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، ولو رجع قوله: "شق ذلك عليهم" للآية والحديث، وزاد كلمة: "بظلم" قبل قوله: "بكذب" لكان جيدا، وبغير هذا لا يكون لذكر آية الظلم موقع، وفي الواقع هي والحديث بعدها من وادٍ واحد في أنها لما نزلت شق عليهم، ففسرت بما يخفف وقعها عليهم، حيث قالوا: أينا لم يظلم؟ أو نحوه، والتفسير أن رُد إلى الطريق الأعدل. "د" "استدراك5".(4/381)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89/ رقم 23 ومسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/78/ رقم 59"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق/ رقم 2623"، النسائي في "المجتبى" "كتاب الإيمان باب علامة المنافق 8/ 117".
4 ستأتي هذه التتمة في "3/ 402".
5 مضى تخريجه "ص210، وهو صحيح.
6 في "خ": "قارن".(4/382)
ص -283-…رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل1 الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن إسحاق في "السيرة" -كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 475"، ومن طريقه أبو بكر النجاد في "مسند عمر" "ق 124/ أ-ب"، والبزار في "البحر الزخار" "1/ 258-260 / رقم 155"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 435"، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي- وابن جرير في "التفسير" "24/ 11"، قال: حدثني نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اعتدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي الميضأة ميضأة بنى غفار، فوق سرف وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس، فلينطلق صاحباه، فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا المدينة فنزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة فكلماه، فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك فَرَقَّ لها، فقلت له: يا عياش1 إنه والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد أذى أمك القمل لقد امتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة- أحسبه قال: لاستظلت- فقال: إن لي هناك مالا فأخذه. قال: قلت والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ ألا أن يخرج معهما. فقلت لما لما أبى عليَّ: أما إذ فعلت ما فعلت: فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل ابن هشام: والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه وأوثقاه ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن. قال: وكنا نقول:(4/383)
والله لا يقبل الله ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا تقبل توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}، قال عمر: فكتبتها في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طول أصعد بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفسي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت، فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة".
قال البزار عقبه: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا نعلم روي عن عمر متصلا إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وإسناده صحيح على شرط مسلم، فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث.(4/384)
ص -284-…ولما ذم الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني"1.
ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، والمال والولد هي الدنيا2، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه، فلا.
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة، وأنه جزاء لأعمالهم، فنسب إليهم3 أعمالا وأضافها إليهم بقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
ونفى المنة به عليهم في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}4 [التين: 6].
فلما منُّوا بأعمالهم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه؛ لأنه مقطع حق، وسلب5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 522".
2 أي: التي قد ذمها: "د".
3 في "ط": "لهم".
4 جارٍ على أن المعنى غير ممنون به، وأكثر المفسرين على تفسيره بأنه غير مقطوع. "د".
5 فلم يضف العمل لهم، بل أضافه لنفسه ومَنَّ به عليهم بخلاف غيرهم، فإنه أضافه لهم وسلب المنة فيه عنهم. "د".(4/385)
ص -285-…عنهم ما أضاف إلى الآخرين، بقوله: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، كذلك أيضا، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج1 الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار، فقال عليه السلام: "اسق يا زبير -فأمره بالمعروف- وأرسل الماء إلى جارك": فقال الرجل: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر"، واستوفى له حقه، فقال الزبير: إن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]2.
وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها.
وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر، يعطي الغذاء ابتداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشراج: جمع شرجة، بفتح، فسكون، وهي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة: أرض ذات حجارة سود، وهي هنا اسم لمكان خاص قرب المدينة. "د".(4/386)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار 5/ 34/ رقم 2359/ 2360، وكتاب التفسير، باب: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} 8/ 254/ رقم 4585، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء 3/ 644/ رقم 1363، وأبواب التفسير، باب ومن سورة النساء 5/ 238-239/ رقم 3027"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 391/ رقم 130"، و"المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب إشارة الحاكم بالرفق 8/ 245"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، أبواب من القضاء 3/ 315-316/ رقم 3637" وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه 1/ 7-8/ رقم 15، وكتاب الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء 2/ 829/ رقم 2480" عن عبد الله ابن الزبير.(4/387)
ص -286-…على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي؛ أهو غذاء، أم سم، أم غير ذلك؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر؛ ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي، والصحة المطلوبة، وهذا غاية الرفق، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه.
فصل:
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.
فطرف التشديد -وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف -وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى1،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/388)
1 الميل عن التوسط الصالح لأن يكون علاجا للأنفس إنما يصح في العمل ذي الوجوه الجائزة كالعزيمة والرخصة، أما في الفتوى، فقد سوغ بعض أهل العلم للمجتهد أن ينظر إلى حال المكلف المعين ويأخذ له في الفتوى بقول غيره من الصحابة والتابعين عندما يفهم من حاله أنه إن أفتاه بالقول الراجح في نظره، لم يقبل الفتوى، وأفضت به الاستهانة بأمر الدين إلى اقتحام ما هو أشد من المخالفات، وممن قرر المسألة على هذا الوجه وقصر النظر فيها على المجتهد دون المقلد أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم"، ولكنا لم نظفر بدليل يشهد بصحة أن يفتي المجتهد بغير ما يراه القول الحق، وسيمر بك تحقيق هذا في بحث العمل بالقول الراجح. "خ".(4/389)
ص -287-…وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما، وما قابلها.
والتوسط يعرف بالشرع1، وقد يعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من المفيد أن يعلم أن "الوسط" في نصوص الشرع ليس فقط ما يكون بين شيئين، وإنما جاء بمعنى: العدل الخيار، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، والوسطى بمعنى خيرها وأعدلها وأفضلها، وقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، أي: خيره وأعدله، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: خيارا عدولا، والمقصود من ذلك جميعه أن يفهم أن الوسطية في الدين هي الخيرية والعدالة الدينية.
انظر: "تنوير الأفهام لبعض مفاهيم الإسلام" "ص51" للشيخ محمد شقرة، و"الحقيقة الشرعية" "174".(4/390)
ص -289-…النوع الرابع: في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى:
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف1 عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا2.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله، والدخول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا قصد آخر للشارع من وضع الشريعة غير النوع الأول الذي قرره من أن مقصد الشرع إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي، ولا تنافي بين القصدين، إنما المطلوب منك معرفة الفرق بين القصدين، حتى تميز المباحث الخاصة بكل منهما، فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام، والانقياد له لا لهواه، وهكذا تجد مسائل النوع الأول كلها في تفاصيله، وكذلك سائر الأنواع بطريق الاستقراء التام. "د".
قلت: ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما، ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضا في التفريق بينهما.
2 نحوه في "الاعتصام" "1/ 434- ط دار المعرفة و1/ 134-135- ط محمد رشيد رضا" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 346-347، 479"، و"المرآة" "1/ 294- بحاشية الإزميري".(4/391)
ص -290-…تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57]
وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة، كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام، وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق، وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال، وهو معنى التعبد لله.
والثاني:
ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العادل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}...الآية [ص: 26].(4/392)
ص -291-…وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].
وقال في قسيمه1: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك، فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجَّه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
وقال: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وتأمل، فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس، أنه قال: "ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه"1 فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن الجوزي في "ذم الهوى" "ص18"، وعزاه لابن عباس، ولم ينسبه لأحد، ثم وجدته في "الاعتصام" "2/ 688- ط ابن عفان" معزوا لطاوس، قال: "حكى ابن وهب عن طاوس....." "وذكره".
وأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص123" بسنده إلى سليمان الأحول قوله.(4/393)
ص -292-…والثالث:
ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهارج1 والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي2، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، واطِّراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يُستدَل عليه3.
وإذا كان كذلك، لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم، فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار؛ إذ يقال له: "افعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، و"لا تفعل كذا". كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوىً باعث على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهَرْج: القتل والفتنة.
2 أي: من يعد متبعا لهواه بحسب ما يؤدي إليه النظر العقلي عندهم، وقد اطردت العوائد عندهم أن هذا الكف يترتب عليه ما أرادوا من إقامة المصالح. "د".
3 يتفق المصنف في كلامه هذا مع أحداث الآراء الفلسفية التي تُرجع انهيار الحضارات إلى الأهواء الجامحة، كما تراه مثلا في كتاب "منبعا الأخلاق والدين" "ص277" لبرقسون، وسبقه إلى هذا ابن القيم؛ قال في "إعلام الموقعين" "1/ 72": "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم الفساد".(4/394)
ص -293-…مقتضى الأمر أو النهى، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام -وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض، وقد لا يكون؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يودُّ لو كان المباح الفلاني ممنوعا، حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق.
وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس، فلا يستتبُّ في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتِّباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
فإذن، إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاء من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله.
فإن قيل: وضع الشرائع، إما أن يكون عبثا، أو لحكمة، فالأول باطل باتفاق، وقد قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}1 [المؤمنون: 115].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بل لحكمة تقتضي تكليفكم وبعثكم للجزاء، فهي توبيخ للكفار على تغافلهم، وإرشاد إلى أن الشريعة وضعت لحكمة، ولو زاد كلمة "إلخ"، لكان أحسن؛ لأن ظهور الإشارة تام في قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. "د".(4/395)
ص -294-…وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}1 [ص: 27].
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38-39].
وإن كان لحكمة ومصلحة، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال؛ لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبقَ إلا رجوعها إلى العباد، وذلك مقتضى أغراضهم؛ لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه، وما يوافق هواه في دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف، فكيف ينفي أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم؟
وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت2 لهم حظوظهم تفضلًا من الله تعالى على ما يقوله المحققون، أو وجوبًا على ما يزعمه المعتزلة، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا، كان ما ينافيه باطلا.
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا3 كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الباطل ما لا حكمة فيه، والآية مقررة لما قبلها من أمر المَعاد والحساب، ولا يكون إلا بعد شرع وبيان، والآية بعدها مثلها، فإن معنى اللعب واللهو ما لا حكمة فيه، وبما ذكرناه ظهر وجه الاستدلال بالآيات، فلا يقال: إن الآيات في أصل الخلق لا في وضع الشريعة. "د".
2 في "د": "ثبَّتت".
3 في الأصل و"ط": "ولذلك".(4/396)
ص -295-…العاجل والآجل، فصحيح1 ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظاهر، وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم؛ لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع، لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا ههنا.
فصل:
فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد:
- منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهى أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الموطأ": "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحْفَظُ فيه حدود القرآن، وتُضَيَّع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يُعطِي، يطيلون فيه الصلاة ويُقْصِرُون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما المعاملات، فأثرها في المصالح العاجلة بانتظام حياة الاجتماع والتمتع بنعمة الاستقلال وعزة الجانب، وأما العبادات، فلما في إقامتها من الفوز برضا الخالق الذي هو مبدأ فيضان النعم الروحية، من اطمئنان النفس، وراحة الضمير، واحتقار متاع هذه الحياة، وقلة المبالاة بنوائب البأساء والضراء، وهذه النعم التي هي ملاك الحياة الطيبة ملازمة للقيام بالأعمال الصالحة ملازَمة النتائج لمقدماتها الصحيحة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. "خ".(4/397)
2 فعملهم يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم فيه، فإذن عملهم يُحمَل عليه شيء آخر غير الهوى، وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله، أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل، فليسوا فيه متبعين للهوى، بخلاف الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه؛ فإن المتغلب عليه في العمل هواه، وشتان بين الفريقين. "د".(4/398)
ص -296-…وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم"1.
فأما العبادات، فكونها باطلة ظاهر، وأما العادات، فذلك2 من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب.
وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهى أو التخيير، فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى من طريقة الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 173" عن يحيى بن سعيد، أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان..... "وذكره".
وإسناده منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يسمع من ابن مسعود شيئا، لكن قال ابن عبد البر في "الاستذكار" 6/ 345": "إن هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة".
قلت: نعم، أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "109" بإسناد حسن، ولكنه مختصر، وأخرجه من طرق عن ابن مسعود البخاريُّ في "الأدب المفرد" "رقم 789"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 3787"، ومن طريقه وغيره الطبراني في "الكبير" "9/ 345/ رقم 9496، 8567".
وحسنه ابن حجر في "الفتح" "10/ 510"، وشيخنا الألباني في "صحيح الأدب المفرد" "رقم 605".
قلت: ووقع في "خ" محرفا: "فقاؤه" في الموضع الثاني منه.
2 في نسخة "ماء/ ص179": "فكذلك".(4/399)
ص -297-…فكان كله صوابا، وهو ظاهر.
وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولا بهما، فالحكم للغالب1 والسابق2، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع، فلا إشكال في إلحاقه3 بالقسم الثاني، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة؛ لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة؛ لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعا، فلا ضرر على العامل.
إلا أن هنا شرطا معتبرا، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّلَ أو يُحَصِّل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض، وإلا، فليس السابق فيه أمر الشارع، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه.
وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع، فهو لاحق بالقسم الأول.
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك، فكل عمل شارك العاملَ فيه هواه، فانظر؛ فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع4، فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع، وهواه تَبَع، وإن لم يكفَّ عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف، دل عل أن هواه تبع، وإلا؛ دل على أنه السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: الأقوى في الحمل على الفعل، والذي سبق إلى النفس منهما. "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "لحاقه".
4 في "ط" زيادة "له".(4/400)
ص -298-…فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود1؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا.
أما أولا: فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي؛ لأنه مضاد لها.
وأما ثانيا، فإنه إذا اتبع واعتيد، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا.
وأما ثالثا: فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلَّقوا عليه، وانتفعوا به، وأمُّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة، من الصلاة، والصوم، وطلب العلم، والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير، فإذا دخل عليه ذلك، كان للنفس به بهجة وأنس، وغنى ولذة، ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف"، أو كما قال، وإذا كان كذلك، فلعل النفس تنزع3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعدها في نسخة "ماء/ ص179": "وذا حقيق".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "4/ 127" و"سلوة الأحزان" "رقم 198"، وأبو نعيم "7/ 370".(4/401)
3 وتشتد رغبتها في القيام بالصلاة والصيام والخلوة للعبادة؛ ليزداد أنسها وبهجتها، ولذتها ونعيمها، وإكرامها بالكرامات وزيادة القبول في الأرض، وكل هذا هوى خالط المحمود من العمل، لكنه قد يسبق إلى النفس، فيخسر صاحبه مرتبته. "د".(4/402)
ص -299-…إلى مقدمات تلك النتائج، فتكون سابقة للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله، هذا وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة، فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره ههنا.
فصل:
- ومنها: أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير1 كالآلة المعدة لاقتناص2 أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس، وبيان هذا ظاهر، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرًا، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث3 أصل ابتداعها اتباع أهوائها، دون توخي مقاصد الشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "حتى تصير".
2 في نسخة "ماء/ ص179": "الانتقاص".
3 سيأتي نصه وتخريجه "ص335".(4/403)
ص -300-…المسألة الثانية:
المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة1.
فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلَّف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا: إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية؛ لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية، وإلى ضرورية كفائية.
فأما كونها عينية، فعلى كل مكلَّف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه2 اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضروريات حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة3 بالرحمة على المخلوق من مائة، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الاوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لجر عليه، ولحيل بينه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وفي نسخة "ماء/ ص 180": "تابعية".
2 يحتاج المقام لبيان القدر الذي لا حظ فيه للنفس من هذه الأمور الخمسة، فحفظ نفسه بألا يعرضها للهلاك كأن يقذف بنفسه في مهواة، ودينه بأن يتعلم ما يدفع عن نفسه به الشُّبَه التي تورد عليه مثلا، وعقله بأن يمتنع عما يكون سببا في ذهابه أو غيبوبته، بأي سبب من الأسباب، ونسله بألا يضع شهوته إلا حيث أحلَّ الله حتى تحفظ، وماله بألا يتلفه بحرق أو نحوه مما يوجب عدم الانتفاع به، وبهذا يظهر قوله: "أنه لو فرض اختياره لغير هذه الأمور لحجر عليه"، أما حفظ نفسه بالتحرف والتسبب لينال ما تقوم به حياته من لباس ومسكن وهكذا، فهذا من النوع الثاني، أي: المقاصد التابعة التي فيها حظه، وإن كان ضروريا أيضا كما سيأتي: "د".
3 صفة للأنساب، وقوله: "الرحمة" متعلق بالعاطفة، أي: الأنساب التي من شأنها أن تتعطف الوالد على والده بالرحمة والإحسان. "د".(4/404)
ص -301-…وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ، محكوما عليه في نفسه، وإن صار له فيها حظ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي.
وأما كونها كفائية، فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضروريا؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، وإلا صار عينيا1، بل بإقامة الوجود، وحقيقته2 أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك؛ فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله3، فضلا عن أن يقوم بقبيلة، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة، حتى قام الملك في الأرض.
ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر4 ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه5، ولا لحاكم على حكمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "عينا".
2 أي: القائم الكفائي
3 في "ط": "بجميع ما يحتاج إليه".
4 وإنما قال في ظاهر الأمر لأنه وإن لم يأخذ الأجر من خصوص من ترافعوا إليه، فإنه يأخذه من بيت المال الذي يأتي دخله ممن ترافعوا ومن غيرهم، إلا أن هذا ليس كالأجر الذي يأخذه من أرباب القضايا مباشرة، فهو لا يؤثر في ذمته ولا يبعثه على أن يغير حكما حقا رآه بين المتخاصمين، كما هو ظاهر. "د".(4/405)
5 قرر القرافي في "الفرق الخامس عشر والمئة" بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات أن القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعا، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعا لأن الأرزاق عامة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنها عوض عما يجب عليهم من تنفيذ الحكم عند قيام الحِجاج ونهوضها. "خ".(4/406)
ص -302-…ولا لمفت على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة1 هنا مؤدٍ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات.
وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وبالنظر فيه يتبين2 أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها، ولا قصد المعاوضة فيها، ولا نيل مطلوب دنيوي بها، وأن تركها سبب للعقاب والأدب، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة3؛ لأن في تركها أي مفسدة في العالم.
وأما المقاصد التابعة4، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأخذ الرشوة أو القضاء وما أشبه، يؤدي إلى مفسدة عامة هي الجور وعدم الاستقامة في تأدية واجبات الولاية والقضاء، من رعاية العدالة والنصفة بين الناس، والبعد عن تهمة التحيز. "د".
2 لأنه مسلوب الحظ فيها، وليس له الخيرة في التخلي عنها. "د".
3 هذا إذا تعين النظر على الشخص بوجه من وجوه التعين. "د".
4 وهي التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها، بل وكل إلى اختياره أن يتعلق بما يميل إليه وتقوى منته عليه، فلم يلزم بالتجارة دون الصناعة، ولا بالتعليم دون الزراعة، وهكذا من ضروب التسببات التي لا يسعها التفصيل، فهذه كلها مكملة للمقاصد الأصلية وخادمة لها؛ لأنها لا تقوم في الخارج إلا بها، ولو عدمت التابعة رأسا لم تتحقق الأصلية لتوقفها عليها، وفرق آخر، وهو أن الأصلية واجبة والتابعة مباحة: "أي: بالجزء كما تقدم في المسألة الثانية من المباح": وسيأتي له في المسألة التالية عدها من الضروريات أيضا كالمقاصد الأصلية. "د".(4/407)
ص -303-…يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش؛ ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن، ثم خلق الجنة والنار، وأرسل [الرسل]1 مبينة أن الاستقرار ليس ههنا، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع، أو الخروج عنه، فأخذ2 المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور، فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه.
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ، فإنه المالك وله الحجة البالغة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص183": "مأخذ".(4/408)
ص -304-…ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد.(4/409)
ص -305-…المسألة الثالثة1:
قد تحصَّلَ إذن أن الضروريات ضربان:
أحدهما:
ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام2 الإنسان بمصالح نفسه وعياله، في الاقتيات، واتخاذ السكن3، والمسكن واللباس، وما يلحق بها من المتممات، كالبيوع، والإجارات، والأنكحة، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية.
والثاني:
ما ليس فيه حظ عاجل مقصود4، كان من فروض الأعيان كالعبادات5 البدنية والمالية، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات، كالولايات العامة، من6 الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة7، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام.
فأما الأول:
فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل، وباعث من نفسه يستدعيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف تحتها تعميق لما في "البرهان" "2/ 919، 938"، للجويني.
2 في الأصل: "لقيام".
3 أي: الزوجة "د".
4 إنما قال: "مقصود" لأن في فروض الكفاية كالولاية حظا عاجلا، كعزة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر، وهكذا مما سيأتي له، إلا أنه غير مقصود شرعا، بل منهي عنه أشد النهي، وسيأتي له تفسير الحظ المقصود بعد. "د".
5 وكغير العبادات، من سائر الضروريات التي ليس فيها حظ عاجل، كما تقدم إيضاحه، "د".
6 في الأصل: "والخلافة".
7 النقابة والعرافة منصب دون الرئاسة، ويطلق على صاحبه "النقيب" و"العريف".(4/410)
ص -306-…إلى طلب ما يحتاج إليه، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك، لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه1، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة، كقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وما أشبه ذلك، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا2؛ لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب، فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب، حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية3، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما بالنسبة إلى غيره كالأقارب والزوجات مما لم يكن الداعي للنفس فيه قويا، فسيأتي أن الشارع يوجبه. "د".
2 قد يقال: إذن يكون واجبا كفائيا، وإلا لاختل حد الأحكام الخمسة، إلا أن يقال: إن هذا من المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل كما تقدم في الأحكام، فيصح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوبا بالجزء. "د".(4/411)
3 صرح الإمام الغزالي في كتاب "الوسيط" بأن الحِرف والصنائع لا تندرج في فرض الكفاية، والصواب ما جرى عليه المصنف من دخولها في هذا القبيل، ولا مخلص من إثم الجميع متى تظافروا على ترك حرفة يحتاج إليها في وسائل القوة أو مرافق الحياة، والشعب الذي لا يعني بالصنائع ويعول على أن يستمد حاجاته من أمة أخرى، لا يلبث أن يقع في غمرة بؤس وشقاء، واختلال الحالة الاقتصادية مطية إلى الإفلاس في السياسة، والابتلاء بسيطرة أجنبي يعبث بحقائق الدين وتجول يده في الأموال والثمرات، ويسوق النفوس الشريفة إلى عارٍ خالد أو موتة خاسرة. "خ".
قلت: ورجح ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "18/ 82" أن الحرف من باب فرض الكفاية، ومتى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، وكان الناس محتاجين إليها.(4/412)
ص -307-…لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب1، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان:
قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة، كقيامه بمصالح نفسه مباشرة.
وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير، كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد، والاكتساب بما للغير فيه مصلحة، كالإجارات، والكراء، والتجارة، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير، خدمة دائرة بين الخلق، كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع.
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر، وهذه حكمة بالغة، ولما كان النظر هكذا، وكانت جهة الداعي كالمتروكة2 إلى ما يقتضيه، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم3، بل هو على الضد من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالتكسب لنفقة هؤلاء واجب. "د".
2 فلم توجب، بل ندب إليها، أو ذكرت في معرض الإباحة. "د".
3 أي: لما كان الداعي هو المتسلط وحده على الإنسان يدعوه إلى طلب المصلحة ودرء المفسدة من أي طريق كان، وكان ما يناقض الداعي وهو ما يقتضي عدم الدخول في طلب مصلحته ودرء مفسدته ليس له من جهة الطبع ما يخدمه ويعين عليه، صار من الحكمة تخفيف وطأة هذا الداعي بالزواجر الشديدة عن السير وراء الداعي في كل شيء ليقف عند حد عدم المساس بحقوق الغير. "د".(4/413)
ص -308-…أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا، والإيعاد بالنار في الآخرة، كالنهي عن قتل النفس والزنى، والخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامي، وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة، وأشباه ذلك، فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء.
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه، فإن عز السلطان، وشرف الولايات، ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بهم جاريا مجرى الندب لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها، وأكد النظر في مخالفة الداعي، فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها، كقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إلى آخرها.
وفي الحديث: "لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها"1، أو كما قال.
وجاء النهي عن غلول الأمراء2، وعن عدم النصح في الإمارة3، لما كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
2 من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول"، وسيأتي تخريجه "3/ 118".(4/414)
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، 13/ 126-127/ رقم 7150/ 7151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1/ 125/ رقم 227، وكتاب الإمارة، باب فضيلة الإم العادل، 3/ 1460" عن معقل بن يسار مرفوعا: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".(4/415)
ص -309-…هذا كله على خلاف الداعي من النفس، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات.
وأما قسم الأعيان، فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب، ونفيه بالتحريم، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [الباعث عليه، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب]، فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات، بل هي خالصة لله رب العالمين، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان، ونخوة الولاية، وشرف الأمر والنهي، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره، لا ينكر، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم1 حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع، بل هو مطلوب متأكد، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك2، وقد قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن يكون ذلك من بيت المال لا بالرشوة، ولا بهدايا الخصوم، ولا بأجر منهم. "د".(4/416)
2 تقوم الأمة بنفقة ولاة الأمور، وهي التي تفرض لهم من بيت المال ما يكفي لسداد حاجاتهم بالمعروف، ولا حق للوالي في أن يعد ما في الخزينة العامة بمنزلة تراث أبيه وجده، فيرمي فيه في سبيل أهوائه الواسعة، وإلى الله المشتكى من ذلك التصرف الذي انطلقت به أيدي كثير من الأمراء والوزراء في بعض الممالك الإسلامية حتى سقطت في بؤس وغرقت دولها في ديون اتخذها الأجنبي في وسائل امتلاك البلاد والقبض على زمام سياستها. "خ". قلت: وقال ابن خلدون في "مقدمته" "ص322": "إن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش"، وانظر: "الإشارة في محاسن التجارة" "38"، و"الأحكام السلطانية" "ص120" للماوردي، و"الأموال" "ص469" لأبي عبيد، و"تحرير المقال" للبلاطنسي.
وكان المصنف رحمه الله ممن يرى رأي من يجيز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما تراه في ترجمته انظر على سبيل المثال: "نيل الابتهاج" "49" ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 131"، وانظر: "فتاوى الشاطبي" "ص187-188".(4/417)
ص -310-…{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} الآية [طه: 132].
وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وفي الحديث: "من طلب العلم، تكفل الله برزقه"1.
إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سببب لإنجاز ما عند الله من الرزق.
فصل:
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "تاريخه" "3/ 180"، و"الجامع" "رقم 69" والشجري في "أماليه" "1/ 60" من حديث زياد بن الحارث الصدائي مرفوعا.
قال الخطيب: "غريب من حديث الثوري عن أبيه عن جده، لا أعلم رواه إلا يونس بن عطاء"
قلت: ويونس بن عطاء قال عنه ابن حبان: "يروي العجائب، لا يجوز الاحتجاج به"، وانظر له: "الميزان" "4/ 482" فالحديث مرفوعا ضعيف جدا، ولعله من قول الثوري، والله أعلم.(4/418)
ص -311-…يحصل فيه1 العمل المبرأ من الحظ.
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أوَّلًا من حظ نفسه وماله، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم، ووضع القبول لهم في الأرض، حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم، وما يخصون به من انشراح الصدور، وتنوير القلوب، وإجابة الدعوات، والإتحاف بأنواع الكرامات، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة: "من آذى لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة"2.
وأيضا، فإذا كان مَن هذا وصفُه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه، وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكلفوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم، من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه، وما له في الآخرة من النعيم أعظم.
وأما الثاني:
فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر، فإن أكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يحصل بسببه العمل المطلوب منه الذي جعل مما لا حظ فيه كإقامة الحياة بسائر أسبابها من أكل وشرب ولباس ومسكن وغيرها، فالقسم الذي فيه للمكلف حظ يحصل بسبب القسم الذي لا حظ فيه. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع 11/ 340-341/ رقم 6502".(4/419)
ص -312-…الفارهات، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه.
وأيضا، فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير1، وإن كان في طريق الحظ، فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير2 عاقل، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب، والله أعلم.
فصل:
وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية، وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام:
قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة.
وقسم اعتبر فيه ذلك، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه، كالصناعات والحرف العادية كلها، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلاب3 حظه في خاصة نفسه، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض.
وقسم يتوسط بينهما، فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ4 الأمر الذي لا حظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فكما أن فيه الضروري العيني، فيه الضروري الكفائي. "د".
2 في "ط": "أو غير".
3 في "د": "واستجلابه".
4 أي: وملاحظة.(4/420)
ص -313-…فيه، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمحض في العموم وليست خاصة، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات، والأذان، وما أشبه ذلك، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ، ولا تناقض في هذا، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ؛ فيؤمر انتدابا أن يقوم به لا لِحَظٍّ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة، حين لا يكون ثمَّ قائم بالانتداب، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية، وتعليم العلوم على تنوعها1، ففي ذلك ما يوضح هذا القسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما يصرف لمن يقوم بمصلحة يتعدي نفعها، كالعلم، أو القسام للعقار بين الخصوم، أو ترجمان الحاكم أو كاتبه، هو من باب المعونة على القيام بهذه المصالح، وتقاضيه لهذه المعونة لا يقطع عنه ثواب الله في الآخرة، بل ينال جزاءه الأخروي لقيامه بذلك العمل النافع موفورا، ولباذل المعونة ثواب التبرع بالمال في سبيل المصالح العامة. "خ".
قلت: ذهب إلى مشروعية أخذ الأجرة على الطاعات المذكورة ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "30/ 202، 206-207"، وانظر في المسألة: "المغني" "6/ 143- مع الشرح الكبير" و"كشاف القناع" "4/ 12"، و"المحلى" "8/ 191"، و"حاشية ابن عابدين" "6/ 56"، و"بدائع الصنائع" "4/ 191"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 16"، و"فتح العلي المالك "2/ 229"، و"مغني المحتاج" "2/ 344"، و"نيل الأوطار" "5/ 322".(4/421)
ص -314-…المسألة الرابعة1:
ما فيه حظ العبد محضا -من المأذون فيه- يتأتى تخليصه من الحظ، فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا، فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد، صار مجردا من الحظ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه، تجرد عن الحظ، وإذا تجرد من الحظ ساوى2 ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف.
وإذا كان كذلك، فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد؟ هذا مما ينظر فيه، ويحتمل وجهين3 من النظر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن قلت: إنه كان الأنسب للمؤلف أن يؤخر هذه المسألة ويضمها إلى مسائل القسم الثاني من الكتاب المتعلقة بمقاصد المكلف نفسه، ولا يدرجها في مسائل هذا القسم المتعلقة بمقاصد الشرع بالتكليف؛ لأنها ترجع إلى أن المباح يكون عبادة بقصد المكلف، ثم يكون النظر في أنه حينذاك هل يأخذ الفعل حكم ما كان عبادة ويصير صاحبه كصاحب الولاية فيما ولي عليه، أم يبقى حكمه كصاحب الحظ يتصرف كيف يشاء فيما تحت يده؟ قلنا: بل المقصود من المسألة هذا الأخير، وهو الوجهان من النظر، فإنهما أنسب بمقام النوع الرابع الذي نحن فيه وأولى من عدهما من القسم الثاني الآتي، وأما أول المسألة، فمقدمة فقط. "د".
2 أي: في القصد. "د".(4/422)
3 ظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين جارٍ بعد تسليم الخلوص من الحظ، وأن هذا أمر لا نزاع فيه، إنما البحث في أنه هل يحكم لمن هذا شأنه بحكم العمل في قسم ما لا حظ فيه؟ أي: فلا يأخذ عوضا ويكون كقسم ما لا حظ فيه بنوعيه العيني والكفائي؟ هذا هو ظاهر كلامه، وجعله الاستفهام خاصا بمسألة الإلحاق في الحكم، فكأنه سلم جميع ما قبل الاستفهام، مع أنه سيقول في تقرير الوجه الثاني: "فالجميع مبني على إثبات الحظوظ"، وقال أيضا: إذا ثبت هذا، تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ جملة"، وقد كان هذا مسلما في صدر المسألة، ولم يدخل فيه شكا ولا ستفهاما، مع أنه بمقتضى تقريره الآتي يكون هذا بل وما قبله من قوله تجرد عن الحظ، كل هذا يليق به أن يدرج في موضوع النظر. "د".(4/423)
ص -315-…أحدهما:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم ما ساواه في القصد؛ لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم، أو1 صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به، كذلك ههنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده، كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف، وما سوى ذلك يبذله2 من غير عوض، إما بهدية، أو صدقة، أو إرفاق، أو إعراء أو ما أشبه ذلك، أو3 يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ من حيث يأخذ الغير؛ لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير؛ لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة.
ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات؛ لكن لا ليدخروا لأنفسهم، ولا ليحتجنوا4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل التنويع إشارة إلى النوعين السابقين فيما لا حظ فيه، وتقدم أنهما إما عبادة بدنية أو مالية، وإما قيام بولاية عامة على مصالح المسلمين، ويدل عليه قوله: "على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به". "د" "استدراك 6".
2 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص186": "بذله".
3 لعلها واو عطف على "يقتطعه"؛ إذ هما قسم واحد كما سيجيء له، نعم، قد يؤخذ من جعل نفسه كالغير أنه يصح له الزيادة عن حاجته، ولكن هذا ليس بمراد بدليل السباق واللحاق. "د".
4 في الأصل: "ليحتنوا"!! واحتجان المال: جمعه وضم ما انتشر منه، كما في "اللسان" "مادة ح ج ن 13/ 109".(4/424)
ص -316-…أموالهم؛ بل لينفقوها في سبيل الخيرات، ومكارم الأخلاق، وما ندب الشرع إليه، وما حسنته العوائد الشرعية، فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم، فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة.
ويدل على أن هذا مراعىً على الجملة1 وإن قلنا بثبوت الحظ، أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين، فإن طلب الحظ إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية، [وانتفاء الموانع الشرعية، ووجود الأسباب الشرعية]2 على الإطلاق والعموم، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به، فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أُمِرَ به من الإحسان إليه في المعاملة، والمسامحة في المكيال والميزان، والنصيحة على الإطلاق، وترك الغش كله، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع، وأن لا تكون العاملة عونا له على ما يكره شرعا، فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا، فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ3.
هذا والإنسان بعدُ في طلب حظه قصدا، فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري4 المشروع في الأعمال، لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن ما فيه حظ عُومل معاملة ما لا حظ فيه على الجملة لا التفصيل؛ لأنه قيد فيه الحظ بقيود كثيرة وشديدة، حتى إن الحظ الباقي له بعدها اضمحل بجانبها وصار مغمورا في ثناياها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 أي: على الجملة: "د".
4 أي: على فعل ما لا حظ فيه بقسميه. "د".(4/425)
ص -317-…بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات، وهو مجمَع عليه، فكذلك فيما صار بالقصد كذلك.
وأيضا؛ فإنَّ فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ، وإذا كان كذلك، فهي1 داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ2، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به، سواء علينا أقلنا: إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة، وهذا3 ظاهر، فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"4، وتوعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المسألة داخلة في نظير "ما لا يتم.... إلخ" يعني: ولا يتم كونه مسلوب الحظ إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه. "د".
2 أي: مطلوب بتخليص العمل لله، فلا يتم ذلك إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه ابتداء، وهو القسم العبادي وقسم الولاية العامة؛ لأنه إذا كان حرا في تصرفاته المالية وغيرها، فلا يكون مسلوب الحظ، ويبقى الكلام في قوله: "سواء أقلنا: إنه مطلوب شرعا أم لا"، فإنه إذا لم يكن الطلب شرعيا ولو من باب المكارم ومحاسن الشيم، فلا وجه للبحث برمته؛ لأن الغرض أنه إذا خلص الإنسان قصده في الأعمال ذات الحظ، وأخذها على أنها امتثال صرف أو نيل هدية الله، فهل يطلب منه أن يكون كمن يعمل في القسم الثاني وهو ما لا حظ فيه، فلا يأخذ إلا ما يكفيه من ماله، أو أنه مع هذا يبقى حرا في المال وغيره يدخر منه وينفق حسبما يراه، فإذا لم يكن الكلام في الطلب الشرعي، ضاع البحث، وصار مما لا محصل له، وسيأتي له في آخر المسألة أن ذلك بإلزامهم لأنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء، أي: فهو حال شرعي ومقبول شرعا وإن لم يكن بتكليف الشارع. "د".(4/426)
3 راجعٌ للمقيس عليه، وهو ما لا حظ فيه ابتداء، يريد به بيانه وضرب الأمثال له، وليس غرضه بيان المدعي المقيس بضرب الأمثال له، وإن كان هذا هو الذي كان منتظرا تتميمًا للوجه الأول من النظر، ومن ذلك تعلم أنه وجه ضعيف لم يوفق فيه لأكثر من ضرب الأمثال بأعمال بعض الصحابة وسيأتي أنها معارضة بأفعالهم أيضا في نفس باب الأموال وادخارها. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 =(4/427)
ص -318-…على تركه في مواضع، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل، لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما.
وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله، فكونه معمولا به على عوض لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 55"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام، 7/ 156-157"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النصيحة، 4/ 286/ رقم 4944"، وأحمد في "المسند" "4/ 102و 102-103"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 36-37"، والحميدي في "المسند" "2/ 369/ رقم 837"، والقضاعي في "المسند" "1/ 44 و45/ رقم 17و 18"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 61/ رقم 1" وأبو عبيد في "الأموال" "90-10"، ووكيع في "الزهد" "2/ 621-622/ رقم 346"، والبخاري في "التاريخ الصغير" "2/ 35"، و"التاريخ الكبير" "1/ 1/ 459 و3/ 2/ 460"، وابن منده في "الإيمان" "1/ 424/ رقم 271 و272"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "ص194"، و"الصحيح" "7/ 49- مع الإحسان"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 93"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "2/ 681-682، 683، 684، 685، 686، 687"، والطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 52-54/ رقم 1260-1268"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 163" و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 590"، و"شعب الإيمان" "3/ 1/ 14"، وابن الأعرابي في "المعجم" "10/ 194/ أ" مخطوط، والروياني في "المسند" 3/ 263/ أ" مخطوط، وابن خزيمة في "الصحيح" كما في "فتح الباري" "1/ 138"، و"تغليق التعليق" "2/ 56"، وعزاه له في كتاب "السياسة" العيني في "عمدة القاري" "1/ 368" وذكره بسنده.(4/428)
وذكر الحديث البخاري في "صحيحه" "1/ 137- مع الفتح" دون سند، ولم يخرجه مسندا لكونه على غير شرطه، ووقع فيه اختلاف طويل، ورواه محمد بن عجلان عن سهيل، فأخطأ فيه، فجعله من مسند أبي هريرة. قال البخاري في "التاريخ الأوسط": "لا يصح إلا عن تميم" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "1/ 138"، "ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه البخاري في "صحيحه"، بل لم يحتج فيه بسهيل أيضا، وللحديث طرق دون هذه في القوة". وانظر -غير مأمور: "تغليق التعليق" "2/ 54-61".(4/429)
ص -319-…يتصور أن يكون إيثارا؛ لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية، فهذا وجه نظري في المسألة يمكن القول بمقتضاه.
والوجه الثاني:
أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ؛ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله، وجعله المقدم على غيره، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا، وكان له أن يدخره لنفسه، أو يبذله1 لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة، فهي هدية الله إليه، فكيف2 لا يقبلها؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ، ومن حيث جعل له، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه.
وأيضا3 فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ، فهي وسيلة وطريق إلى حظه، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ماليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة4 إلى حظه كالمعاوضات، فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص 186" و"ط": ويبذله".
2 الأصل: كيف".
3 رد لقوله في الوجه السابق: "إن طلب ما فيه حظ مقيد بالقيود الشرعية التي لا حظَّ فيها"، فينتفي أن يكون فيه الحظ، فيرد عليه هنا بأن هذه الحدود إن هي إلا وسيلة إلى حصول حظه، وليس بلازم أن يأخذ المقصد حكم الوسيلة، ألا ترى أن ما فيه حظ الشخص بالقصد الأول كأنواع الحرف والتجارات والمعاوضات لا يصل الشخص فيها إلى غرضه إلا بطريق نفع الغير، ومع ذلك لم يأخذ المقصد فيها حكم ما كان في طريقها من مصلحة الغير، وعد مما كان فيه حظ الشخص أصالة وحظ الغير بالعرض. "د".
4 وإن كان مما فيه مصلحة الغير، إلا أنها جاءت بطريق العرض، فلم يأخذ المقصد حكم هذه الوسيلة. "د".(4/430)
ص -320-…وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه1، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم.
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم؛ لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم، فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ، ويعملون في أخراهم كذلك، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ، وهو المطلوب، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة ما حد الشارع، من غير تعد يقع في طريقها.
وأيضا، فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه2، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه3، ولذلك قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي شرحه فيما سبق، ودلل عليه بعمل الصحابة. "د".
2 لأن الإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس، بسبب العقوبات والزواجر وقيم المتلفات، وغيرها من المصائب والنوازل التي تنزل بسبب الارتكابات والمخالفات، وقد أباح الله لمن اعتُدِيَ عليه أن يجازي المعتدي بمثل ما اعتدى، فالإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص 187" زيادة: "وفي غيره".(4/431)
ص -321-…وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
وفي أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الظلم وتحريمه: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"1.
ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه، لقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}2 [الشورى: 30].
وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والأدلة على هذا تفوت الحصر، فالإنسان لا ينفك عن طلب3 حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة.
وقد يمكن الجمع بين الطريقين، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب.
- منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه4، فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر، ولا يدخر لنفسه من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسيأتي "ص480"، وهناك تمام تخريجه.
2 في الأصل: "بما قدمت أيديكم"!!
3 في "د": "طلبه".
4 أي أنه لا يأخذ شيئا جاء بتسببه، بل يجعل ذلك لغيره، فكل ما سيق إليه بالتسبب يجعله للخلق، فهو مع كونه هو المتسبب والمحترف يرى أن ما وصل ليده من ذلك من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وما بعدها يجعل نفسه كالوكيل يأخذ إن احتاج، وهو أقل من هذا. "د".(4/432)
ص -322-…ذلك شيئا، بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من1 الحظوظ؛ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير من قبيل ما ينسى، وإما قوة يقين بالله؛ لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض2 وهو حسبه فلا يخيبه، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال، وفي مثل هؤلاء جاء: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين -قال الراوي: أراه ثمانين ومائة ألف- فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: "يا جرية هلمي أفطري"، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعَنِّيني، لو كنت ذكرتني لفعلت3.
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. [قالت]: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في".
2 في "ط": "ملكوت كل شيء".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 67"، والدارقطني في المستجاد" "رقم 36، 37"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738"، والحاكم في "المستدرك "4/ 13"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47 و49"، والبغوي في "الجعديات" "1673" بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة.
ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعض إليها بالمال، اشترى به منها دارا، ولا تَعَارُضَ، فهو المرسِلُ، وابنُ الزبيرِ المرسَلُ، إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم.(4/433)
ص -323-…-ما [كان] يهدي لنا- 1 شاة وكفنها2 فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا؛ هذا خير من قرصك3 وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها4، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير5، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة، فلا يأخذ إلى من الملك؛ لأن قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه6، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل: "ما لا يهدي لنا" أي: أهدى لنا شيئا ما جرت العادة أن يهدي لنا مثله في عظمه، وقوله: "شاة" بدل من ما. "د".
قلت صوابه ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين، من "الموطأ" وسقط من الأصول كلها.
2 إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كله بعجين دقيق البر، وكفنوه فيه ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في "الاستذكار" "27/ 407".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 997- رواية يحيى- ورقم 2105- رواية أبي مصعب" بلاغا عن عائشة.
4 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 57".
5 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "23/ 47-48"، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف.(4/434)
6 إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة، فهو مما يحدث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك، فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين، فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه. خ".(4/435)
ص -324-…وهؤلاء هم أرباب الأحوال:
- ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم1، إن استغنى استعف، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه، فقد يكون في الحال غنيا عنه، فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب، فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم.
وفي "الصحيح" عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، فهم مني وأنا منهم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 694-695، 701"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1538/ رقم 788- ط الصميعي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 324/ رقم 12690"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 582/ رقم 8597"، وابن سعد في "الطبقات" "3/ 276"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص112"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "6/ 4، 5، 354"، وابن الجوزي في "مناقب عمر" "ص105" من طرق عن عمر، قال: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت" وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود رضي الله عنهم حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: "إني وإياكم في مال الله...." وذكر نحوه، وعبارة المصنف للشافعي في "الأم" "4/ 80"، وعنه السيوطي في "الأشباه" "135"، والبلاطنسي في "تحرير المقال" "144".(4/436)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشعريين" باب الشركة في الطعام والنهد والعروض 5/ 128/ رقم 2483"، ومسلم في الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم 4/ 1944-1945/ رقم 2500" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(4/437)
ص -325-…وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا1، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور2، فالإيثار بالحظوظ محمود3 غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار/ رقم 3782" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا، قال: تكفوننا المئونة، وتُشركوننا في التمر. قالوا: سمعنا وأطعنا".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 3781"، في الكتاب والباب السابق وفي باب "كيف أخى النبي بين أصحابه" من الكتاب نفسه/ رقم 3937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح باب منه/ رقم 1427"، وغيرهما من حديث أنس، قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن...."(4/438)
2 قلت: أكتفي هنا بذكر مثال واحد وقع في غزوة تبوك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1/ 55-56/ رقم 27" بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هم بنحر بعض حمائلهم قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قال: حتى ملأ القوم أزودتهم قال: فقال عند ذلك: "أشهدُ أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله، لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فيهِمَا إلا دَخَلَ الجَنَّةَ".
وأخرجه أحمد في "مسنده" "3/ 11"، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلام متعقب، انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" "1/ 221-223".
3 وهو حاصل في أهل المرتبتين المذكورتين كما سيوضحه، وقوله: "ما أخذوا لأنفسهم" هذا في أهل المرتبة الثانية. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه"كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، 4/ 294/ رقم 1427"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 2/ 717/ رقم 1034" عن حكيم بن حزام مرفوعا: "أفضل الصدقة عن ظهر =(4/439)
ص -326-…بل يحمل على الاستقامة في حالتين.
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ؛ إذ للقصد إليه أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوى نفسه مع غيره، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء بُرَءاء من الحظوظ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ، وتجدهم في الإجارات والتجارات1 لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم2، من ذلك كسبا لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم، فأين الحظ هنا؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم، فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء.
- ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء، بل أخذوا ما ما أُذِن لهم فيه من حيث الإذن، وامتنعوا مما مُنِعوا منه، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".
وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 193"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1586" بلفظ: "ليبدأْ أحدكم بمن يعول"
ويشهد لما ساقه المصنف أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة 2/ 692-693" عن جابر مرفوعا: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا" يقول: "فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك".
1 في الأصل: "في التجارات أو مع الإجارات".
2 في الأصل: "أخذهم".(4/440)
ص -327-…فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها، فإن قيل في مثل هذا: إنه تجرد عن الحظ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم؛ إذ1 لم يقف دون ما حد له، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها، ولا كلام في هذا، وإنما الكلام في الأول، وهو لم يتصرف إلا لنفسه، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة للمسلمين2، بل هو والٍ على مصلحة نفسه، وهو من هذا الوجه ليس بوالٍ عام، والولاية العامة هي المبرَّأة من الحظوظ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ، فيجوز لهم ذلك بخلاف3 القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به، لكن على نسبة القسمة ونحوها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "على المسلمين".
3 فلا يجوز لهما بمقتضى ما فرضوه على أنفسهم زهدًا وكمالًا في الأحوال لا بتكليف الشرع. "د".(4/441)
ص -328-…المسألة الخامسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية، فإما على المقاصد الأصلية، أو المقاصد التابعة، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع، فلنضع في كل قسم مسألة، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل، فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا، فيما كان بريئا من الحظ1 وفيما روعى فيه الحظ؛ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع؛ إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله، وهذا كافٍ هنا.
وينبني عليه قواعد وفقه كثير:
من ذلك أن المقاصد الأصلية -إذا روعيت- أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد من مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية.
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه، على قولنا، إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به؛ إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد، وهو أيضًا جارٍ على القول بالوجوب العقلي، فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن2 كافٍ في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رأسا كالعبادات الصرفة، أو كان مما فيه الحظ بالعرض، فلا ينافي أنه عرف المقاصد الأصلية بأجمعها بأنها مما لا حظ فيها للمكلف، ويشير إليه قوله بعد: "ثم يندرج حظه في الجملة"، إلا أن يقال: إن ما فيه الحظ إذا خلصه العامل من الحظ، كان كالمقاصد الأصلية، ويأتي للكلام تتمة. "د".(4/442)
2 ذكر الإذن بعد ذكر الأمر والنهي يقتضي أنه بمعنى الإباحة، وليس هذا من المقاصد الأصلية؛ لأنها كما تقدم الواجبات عينية أو كفائية، فلو حذفه كان أليق بالمقام، ويدل عليه أيضا قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها" إلا أن يقال: إنه تقدم له في المسألة الرابعة أن ما فيه الحظ -يعني: وهو من المقاصد التابعة- يتأتى تخليصه من الحظ، ويساوي ما كان مأمورًا به على ما سبق في تفصيل المسألة المذكورة والوجهين من النظر فيها، وكما يأتي له في الفصل الأول حيث يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّر تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات" وفي الفصل الثاني يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال إلى أحكام الوجوب". "د".(4/443)
ص -329-…حصول كل غرض، فالمتوجّه إلى مجرد خطاب الشارع، العامل1 على وفقه ملبيًا له بريء من الحظ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة، بل هو المقدم شرعا على الغير.
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر، أو اعتبارا بعلة الأمر، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها، كان هو2 المقدم شرعا: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"3، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها، أو بحياة من تحت نظره، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر؛ لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة، وتقع نفقته حيث لم يقصد، ويقصد غير ما كسب4 وإن كان لا يضره5 فإنه6 لم يكلِ التدبير إلى ربه، وأما الثاني، فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير7، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية، ولا يفوته من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "في التوجه إلى... فالعامل...".
2 إشارة إلى قوله: "ثم يندرج حظه في الجملة"، وقوله: "أو كان قيامه... إلخ" إشارة إلى قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها". "د".
3 مضى تخريجه "ص325".
4 في الأصل و"خ": "كتب".
5 في أنه قام بواجب شرعي، وأنه محمود أيضا. "د".
6 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "أنه".
7 في "ط": "وكيل".(4/444)
ص -330-…حظه شيء.
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة، فقد يفوته معها جُلُّ هذا أو جميعه؛ لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردًا عن غير ذلك، وهذا وإن كان جائزا، فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي، وهو منجرٌّ1 معه، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا، فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم، فإذا لم يراعَ2، لم يبقَ إلا مراعاة الحظ خاصة، هذا وجه.
ووجه ثانٍ أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي3 من غير نظر في شيء سوى ذلك، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه، وإما إلى ما4 فُهِم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده، فجعله وسيلة وسببًا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن كان عمله موافقا لقصد الشارع ولم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجا عن داعية هواه، أي أنه لم يعمل التفاتا لمقتضى خطاب الشارع أمرا أو نهيا أو إذنا، بل بمقتضى مجرد حاجته هو وداعية شهوته بقطع النظر عن الخطاب. "د".
2 في الأصل: "يرعَ".
3 لم يذكر هنا ما يتعلق بالمباح، فيقول: "أو توجهه للخطاب بالإذن، وقد ذكر الإذن في الوجه الأول، واحتجنا فيه إلى التكلف لتصحيح الكلام بجعله داخلا في المقاصد الأصلية، على أنه في الأول أيضا عند قوله: "فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر... إلخ"، لم يذكر الإذن، ومحصل الفرق بين هذا الوجه وما قبله أنه جعل هناك حكمة الأمر إحياء النفوس وإماطة الشرور عنها، وهنا جعل الحكمة أنه عبد سخره سيده في مصلحة عبيده وجعله وسيلة لإيصال حاجاتهم إليهم، ولم يقل هنا: "إنه يكون مقدما"، بل قال: "فكأن السيد هو القائم له بحظه"، فهل يعتبر هذا وذاك فيما به التغاير بين الوجهين؟ تأمل. "د".
4 في الأصل: "إذا ما فهم".(4/445)
ص -331-…وهذا أيضًا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر، فهو عامل بمحض العبودية، مسقط لحظه فيها، فكأن السيد هو القائم له بحظه، بخلاف العامل لحظه، فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر، ولا من حيث فهم مقصود الآمر، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ، فهو إن امتثل1 الأمرَ فمن جهة نفسه، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه، والتعبد بذلك العمل منتفٍ، وإن لم يمتثل الأمر، فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين، إذا غلب عليه طلب حظه، وذلك نقص.
ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأُوَل قائم بعبء ثقيل جدا، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب، بل يطلب حظه بما هو أخف، وسبب ذلك أن هذا الأمر2 حالة داخلة على المكلف شاء أم3 أبى، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف، وقد قال تعالى4: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد، بخلاف طالب الحظ، فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بهذا المعنى يكون فعله فعلا لمباح بدون نية لشيء سوى حظه، ومثل هذا لا يقال فيه: إنه امتثل الأمر، بل وافقه؛ لأن الامتثال يحتاج للقصد والنية، ويدل عليه قوله: "والتعبد بذلك منتفٍ". "د".
2 هو القيام على المقاصد الأول، وقوله: "الأول محمول"، أي: له حامل وباعث قوي من جهة سيده، يحفزه على القيام بمشاق الأعمال، فيستريح لها. "د".
3 في "د": "أو".
4 يصح أن يفهم ثقل القول في الآية على الرصانة والامتلاء من الحكمة التي تطمئن إليهما العقول الراجحة، وكذلك القرآن لإنزال حقائقه راسية وأنوار هدايته متدفقة على الرغم من كثرة من يحاول نقده، ويثير غبار الشبه في عين من يؤمن بأنه تنزيل من حكيم حميد. "خ".(4/446)
ص -332-…عامل بنفسه، وغير مستويين فاعل وفاعل بنفسه، فالأول محمول، والثاني عامل بنفسه، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق، فإن رأيت من يدعي تلك الحال، فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام، فإن أوفى به، فهو ذاك، وإلا، علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول، فلذلك أثر من آثار الإخلاص، وصاحب الحظ1 ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول، وثبت له الإخلاص، وصارت أعماله عبادات.
فإن قيل: فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، بل قد جاء عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الطيب، والنساء2 والحلواء والعسل3، وكان تعجبه الذراع4، ويستعذب له الماء5، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس؛ إذ كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال، بل كان يستعمله إذا وجده، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين، وهو أتقى الخلق وأزكاهم، و"كان خلقه القرآن"6، فهذا في هذا الطرف.
ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله، ومع ذلك، فليس له في الآخرة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الذي خلط في عمله بين الحظ وبين الالتفات إلى الامتثال، ليس له من هذا المقام إلا بمقدار قلة مراعاة للحظ، وسيقول في آخر الفصل: "وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدم الإخلاص ولا أنفيه". "د".
2 مضى "ص240": "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء"، وهو صحيح.
3 مضى "1/ 185".
4 مضى "1/ 185".
5 مضى "1/ 185".
6 كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل 1/ 512-513/ رقم 746".(4/447)
ص -333-…خلاق، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة، حتى صار في الناس آية، وكل ما يعمله مبني على باطل محض، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ما زعمت ظواهر، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة، فانظر ما قاله الإسكاف في "فوائد الأخبار" في قوله عليه الصلاة والسلام: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاثٌ"1 يَلُحْ لك من ذلك المطلع خلافُ ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان، وهكذا يمكن أن يقال في سواها.
وأيضا، فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال، فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ، دون أن يتناوله من حيث الإذن؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم تبين نحوه في كل مقتدىً به ممن اشتهرت ولايته.
وأما الكلام عن الرهبان2، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ، بل هي عين الحظ، واستهلاك في هوى النفس؛ لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه لأن حظ النفس في الجاه أعلى، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم، فإنها أعلى، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث صحيح دون لفظة: "ثلاث"، وقد خرجناه "ص240".
2 في "ط": "في الرهبان".(4/448)
ص -334-…التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها، وذلك أول1 منهي في مسألتنا، فلا كلام فيمن هذا شأنه، ولذلك قالوا: "حب الرياسة آخر ما يخرُج من رءوس الصديقين"، وصدقوا.
والثاني: أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءًا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا، فإن كان أمر الشارع، فهو الحظ المبرأ المنزه؛ لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره، فكما يكون في مصالح غيره مبرءًا عن الحظ، كذلك يكون في مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول، وهذا شأن من ذكر في السؤال، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد؛ لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه، فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول، فإنه سعى في الحظ، وليس ما نحن فيه هكذا.
وأما2 شأن الرهبان ومن أشبههم، فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع، فينقطعون في الصوامع والديارات، ويتركون الشهوات واللذات، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه، وما يظنون أنه سبب إليه، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف، ولا أقول: "إنهم غير مخلصين، بل هم مخلصون إلى من عبدوا، ومتوجهون صدقا إلى من عاملوا، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة؛ لأنهم بنوا على غير أصل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه أشد بواعث الهوى الذي وضعت الشريعة لإخراج العبد من ربقته. "د".
2 في الأصل: "وما".(4/449)
ص -335-…ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة: "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم"1 الحديث، فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره2، لكنه مبني على غير أصل، فلذلك قال فيهم: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"3، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم4، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 617-618/ رقم 3610، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب من ترك قتال الخوارج للتألف6 ولئلا ينفر الناس عنه، 12/ 290/ رقم 6933، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فجر به، 9/ 99/ رقم 5058"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 إن كان المراد من الدين في قوله: "يمرقون من الدين" أصل الإسلام، كان فساد أعمال هذه الفرقة من جهة أنها لم تكن قائمة على أساس الصحة الذي هو الإيمان، أما إذا أريد من الدين الطاعة وذهبنا إلى أنهم داخلون في حساب المسلمين على ما هم من الابتداع، فإنما يبطل من أعمالهم ما لم يأتِ على وضعه الشرعي أو لم يتوجهوا فيه إلى الله بنية خالصة. "خ".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 618/ رقم 3611، وكتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 283/ رقم 6930"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2/ 746-747/ رقم 1066" عن علي رضي الله عنه.
4 ورد في آخر الحديث السابق: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم".(4/450)
قال "د": "هذا دليل على أن معنى مروقهم من الدين خروجهم من أصل الإسلام، لا مطلق المعصية، فلا وجه لتردد بعضهم هنا".
قلت: وكلامه متعقب من وجوه كثيرة، انظرها في: "منهاج السنة النبوية" "3/ 27، 60 وما بعدها"، و"الرد على البكري" "ص256-260"، و"المسائل الماردينية" "ص65-70"،=(4/451)
ص -336-….........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و" مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199 وما بعدها"، وقد قرر المصنف في كتابه "الاعتصام" "2/ 185-187" عدم التكفير، فقال:
"وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر: عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم، ألا ترى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية؟!
فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة، لم يهاجمهم علي رضي الله عنه ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
وأيضا، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر، لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعادة والعداوة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين، وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.
ومن جهة المعنى إنا وإن قلنا: "إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفارا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا، وهو كفر.(4/452)
وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة والجماعة على مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة.
وأيضا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع"، انتهى كلام الشاطبي، ثم حكى كيف رجع الألفان من الحرورية لما جاءهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وناقشهم فآبوا إلى الحق ورجعوا.(4/453)
ص -337-…وعلى الجملة، فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه من اطراح الحظوظ1، لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله، وإن كان [مبنيا] على أصل فاسد، فبالضد، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة، فمن طالع أحوال المحبين رأى اطِّراحَ الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان.
فإذن، قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه، ولا أنفيه.
فصل:
ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يُصَيِّرُ تصرفاتِ المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات؛ لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل، ويترك إذا طلب منه الترك، فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب2.
أما باليد، فظاهر في وجوه الإعانات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنما يصح خلوص الإخلاص وكماله بسبب اطراح الحظوظ، وما بقي للحظ رائحة، فليس الإخلاص كاملا، في أي عمل فرضته. "د".
2 قرر رحمه الله في كتابه "الاعتصام" "1/ 32/ 34- ط محمد رشيد رضا" هذا المعنى بتفصيل، وله رسالة كتبها لبعض أصحابه فيها ضرورة الدعوة إلى الحق وأمانة نشره، تراها في "المعيار المعرب" "11/ 139"، و"فتاوى الشاطبي" "ص182-185"، وله أيضا في "المعيار" "11/ 141" وصية يحمل فيها أصحابه على الصبر على البلاء في بث العلم ونشره.(4/454)
ص -338-…وأما باللسان، فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم.
وبالقلب لا يضمر لهم شرا، بل يعتقد لهم الخير، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد.
بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ"1، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها"2، وحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل مسلم، فإذا قتلتم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2363، وكتاب المظالم، باب الآبار التي على الطريق إذا لم يُتأذَّ منها/ رقم 2466، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم/ رقم 6009" و"الأدب المفرد" "378"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم وإطعامها/ رقم 2244 بعد 153"، ومالك في "الموطأ" "2/ 929-930"، وأحمد في "المسند" "2/ 521"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم/ رقم 2550"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 537- الإحسان"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 46"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "113".(4/455)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم/ رقم 2318، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب 54/ رقم 3482"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242، وكتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، 4/ 2022".
وانظر تفصيل التخريج في كتابنا "من قصص الماضيين" "ص343-345".(4/456)
ص -339-…فأحسنوا القتلة" الحديث1 إلى أشباه ذلك.
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه، واقتداءً بنبيه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا تكون تصاريف مَن هذه سبيله عبادةً كلَّها؟ بخلاف من كان عاملا على حظه2، فإنه إنما يلتفت [إلى]3 حظه أو ما كان طريقا إلى حظه، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق، بل هو عامل في مباح إن لم يُخِلَّ بحق الله أو بحق غيره فيه، والمباح لا يُتعبَّد إلى الله به، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع، فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة، وإن فرضته كذلك، فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة.
فصل:
ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب؛ إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاةِ باتفاق، وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل، وهذا عامل بالكل4 فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله، فقد صار عاملا بالوجوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548/ رقم 1955"، وغيره عن شداد بن أوس ولكن بلفظ: "شيء" بدل "مسلم" وكذا سيأتي عند المصنف "3/ 396"، ومضى تخريجه "1/ 217".
وانظر سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب في كتاب السخاوي "تحرير الجواب في ضرب الدواب" بتحقيقنا.
2 في "ماء/ 189": "حظوظه".
3 سقط من "ط".
4 أي: عامل بقصد الأمر الكلي، وهو إقامة المصالح العامة للناس، لا لخصوص نفسه، سواء أكان الفعل الجزئي مندوبا أم كان مباحا يختل النظام إذا اختل. "د".(4/457)
ص -340-…فأما البناء [على المقاصد التابعة، فهو بناء على الحظ الجزئي، والجزئي لا يستلزم الوجوب، فالبناء]1 على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب، فقد يكون العمل مباحا، إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا، وإما مباحا بالجزء مكروها، أو ممنوعا بالكل، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام.
فصل:
ومن ذلك أن المقصد2 الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة، فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع، إما بعد فهم ما قصد3، وإما لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير، فهو قاصد ما قصده الشارع، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولاها، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ، كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع، فهو حَرٍ أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة.
وأما القصد التابع، فلا يترتب عليه ذلك كله؛ لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه، وخص عمومه، فلا ينهض نهوض الأول.
شاهده قاعدة: "الأعمال بالنيات"4، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخيل لِرَجل أجرٌ، ولرجل سترٌ، وعلى رجل وِزرٌ، فأما الذي هي له أَجْرٌ، فرَجُل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "المقصود".
3 في الأصل: "مقصودا".
4 سيأتي تخريجه "ص355"، وهو في الصحيحين".(4/458)
ص -341-…المرج أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك، فاستَنَّت شرفًا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهرٍ، فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حَسَنات"1، فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول؛ لأنه قصد بارتباطها سبيل الله، وهذا عام غير خاص، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجل ربطها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا ولم يَنْسَ حقَّ الله في رِقَابِهَا ولا ظهورها، فهي له ستر"2 فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه، كان حكمها مقصورا على ما قصد، وهو الستر، وهو صاحب القصد التابع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ورجُلٌ ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام3، فهي على ذلك وزرٌ"4، فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى، ولا كلام فيه هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار 5/ 45-46/ رقم 2371، وكتاب الجهاد، باب الخيل لثلاثة 6/ 63-64/ رقم 2860، وكتاب المناقب، باب منه 6/ 633/ رقم 3646، وكتاب التفسير، باب قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 8/ 726/ رقم 4962، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل 6/ 329/ رقم 7356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة 2/ 680-683/ رقم 987" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمرج: مرعى الدواب ومرج الدابة: أرسلها ترعى، وطيلها: حبلها الذي تربط فيه، والشَّرَف، بالتحريك: الشوط، أي الجري مرة إلى الغاية، وهو الطلق.
"2و 4" قطعة من الحديث السابق.(4/459)
3 اتخاذ أدوات الحرب مناوأة لأهل الإسلام قد يكون فسوقا كمن يتخذ الخيل للإغارة على الأموال المحترمة مثلما يفعل بعض قطاع الطريق، وقد يعد نبذًا للدين جملة، ودخولا في زمرة المخالفين عقيدة وحكما، كمن يركبها منضما إلى جيش العدو والزاحف على بلد إسلامي؛ لتكون كلمته هي العليا ويذيق المسلمين من مرارة سلطته القاهرة عذابا مهينا. "خ".(4/460)
ص -342-…ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالصحابة أو التابعين؛ لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به، كما في قول [بعض]1 الصحابة في إحرامه: "بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم"2، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال.
فصل:
ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصيِّرُ الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم.
أما الأول:
فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [العام] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق؛ لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل، وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر، وإذا فعل [ذلك] جوزي على كل نفس أحياها، وعلى كل مصلحة عامة قصدها، ولا شك في عظم هذا العمل، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا3، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء4 بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده؛ لأن الأعمال بالنيات، فمتى كان قصده أعم، كان أجره أعظم، ومتى لم يعم قصده، لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وفي "ط": "قول الصحابي".
2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روى جابر في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم في "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 888/ رقم 1218"، وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟". قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك..." إلخ.
3 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
4 مضى النص الوارد في ذلك "1/ 363".(4/461)
ص -343-…أجره إلا على وزان ذلك، وهو ظاهر.
وأما الثاني:
فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر، فالعامل على ضده يعظم به وزره، ولذلك كان ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة؛ لأنه أول من سن القتل1، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا، و"من سن سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"2.
فصل:
ومن هنا تظهر قاعدة أخرى، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها، ويتبين لك ذلك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا، فإنك تجده مطَّرِدًا إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223".
2 سيأتي تخريجه "ص385"، ومضى "1/ 223".(4/462)
ص -344-…المسألة السادسة:
العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة، فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية، أو لا.
فأما الأول؛ فعمل بالامتثال بلا إشكال1، وإن كان سعيا في حظ النفس.
وأما الثاني، فعمل بالحظ والهوى مجردا.
والمصاحبة إما بالفعل، ومثاله أن يقول مثلا: هذا المأكول، أو هذا الملبوس، أو هذا الملموس، أباح لي الشرع الاستمتاع به، فأنا أستمتع2 بالمباح وأعمل باستجلابه؛ لأنه مأذون فيه، وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه3 من الطريق الفلاني، فإذا توصل إليه منه، فهذا في الحكم الأول، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا، إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى، ويجري غير4 المباح مجراه في الصورتين.
فإذا تقرر هذا، فبيان كونه عاملا5 بالحظ والامتثال أمران:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي استشكاله، إلا أن يقال: إن هذا منه تنبيه على أن لم يبقَ بعد الجواب أثر للإشكال في نظره. "د".
2 أي: يقضي شهوة نفسه؛ لأنه مأذون فيه، فقد جمع بين الأمرين كما ترى. "د".
3 أي: فتخيره للطريق المباح من بين الطرق، وتحريه عنه ما جاء إلا من جهة التفاته لإذن الشارع، فيكون في قوة القول المذكور. "د".
4 وهو المندوب. "د".
5 أي: في الصورتين، والغرض بيان صحة مصاحبة الحظ والمقاصد التابعة للمقاصد الأصلية، وأن ذلك لا يكون اتباعا للهوى. "د".
قلت: وفي الأصل: "عاملا بالحق".(4/463)
ص -345-…أحدهما:
أنه لو لم يكن كذلك، لم يجز1 لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك2، بل كان يمتنع3 للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ، وهذا غير صحيح باتفاق، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال، مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى، فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال.
فإن قيل: كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟
قيل: معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية4، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك.
كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يكون انغماسا في اتباع الهوى المنهي عنه؛ لأن صاحبة الحظ إذا كانت مسقطة لما صاحبها من قصد الامتثال كان ما ذكره لازما. "د".
2 في الأصل و"ط": "لذلك".
3 أي: وأكل الميتة للمضطر من باب الواجب المتعلق بأمر عادي وهو إقامة الحياة. "د".
4 بعدها في "ط": "ودعاء الجاهلية".(4/464)
ص -346-…إسماعيل المخزومي أجرى عينا، فقال له المهندسون عند ظهور الماء: لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور، فتقتل من يعمل فيها. فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها، فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى1 أن يُذبَح للجن"2؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهٍ لما ذُبِحَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب بعض الناظرين هنا أن دعوى رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح كلها خرافات ومزاعم سخيفة ابتدعت بعد صدر الإسلام. ا.هـ. [قلت: هذا كلام "خ"، وسيأتي في آخر التعليق الآتي].
وأقول: إن الكلام في رؤية الجن مع كونه نابيًا عن المقام هنا، فهو مخالف لما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي"، وحديث البخاري عن أبي هريرة في حراسة الزكاة، وأنه علمه أن يقرأ آية الكرسي فلا يقربه شيطان حتى يصبح، إلى غير ذلك. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث تفلت الجني "ص441".
2 أخرجه أبو عبيد في "الغريب" "2/ 221"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 314" عن الزهري مرسلا بإسناد فيه عمر بن هارون، وهو متفق على ضعفه، واتهمه ابن معين وصالح جزرة بالكذب.
وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" "2/ 19"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 302" من طريق عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا.
قال ابن حبان عن ابن أذينة: "منكر الحديث جدا، يروي عن ثور ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الحاكم والنقاش: "روى أحاديث موضوعة". انظر: "اللسان" "3/ 257".(4/465)
وقال البيهقي عقب الحديث: "قال -أي الزهري: وأما ذبائح الجن أن تشتري الدار، وتستخرج العين، وما أشبه ذلك، فتذبح لها ذبيحة للطيرة، وقال أبو عبيد: وهذا التفسير في الحديث معناه أنهم يتطيرون إلى هذا الفحل مخافة أنهم إن لم يذبحوا فيطعموا أن يصيبهم فيها شيء من =(4/466)
ص -347-…على النصب وسائر ما أهل لغير الله به.
وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"1، وهي أن يتبارى الرجلان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجن يؤذيهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ونهى عنه".
قلت: الحديث موضوع، ومعناه المذكور يدخل فيه الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الطيرة. وفي "ط": "نهى عن ذبائح الجن، يريد، نهى أن يُذبَح للجن".
وكتب "خ": "مضى صدر الإسلام وليس من مدَّعٍ رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح والأطعمة، حتى قام من يزعم ذلك كله واتسع خرق هذه الضلالة، فكانت إحدى العلل التي فتكت بعقول كثيرة وألقت بها في تخيلات سخيفة ومزاعم يتبرأ منها الشرع الحكيم قبل أن يتهكم بها النظر الصحيح". وانظر -لزاما- الهامش السابق.
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب 3/ 101/ رقم 2820 -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 313"- عن أبي ريحانة، عن ابن عباس به.
قال أبو داود: "اسم أبي ريحانة عبد الله بن مطر، وغندر أوقفه على ابن عباس".
قلت: يشهد للمرفوع ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف" رقم 6690"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 197"، و النسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز" باب النياحة على الميت، 4/ 16"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، 3/ 216/ رقم 3222"، وابن حبان في "الصحيح" "7/ 415-416/ رقم 3146- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 62و 9/ 314"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 461و 11/ 227 - عن أنس مرفوعا: "لا عقر في الإسلام". وإسناده صحيح على شرط الشيخين.(4/467)
قال عبدالرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة"، وقال البيهقي عقبه: "قال أبو زكريا -أي: يحيى بن معين: "العقر" يعني الأعراب عند الماء يعقر هذا، ويعقر هذا، فيأكلون لغير الله ورسوله". وقال: "وقال أبو سليمان الخطابي فيما بلغني عنه: معاقرة الأعراب أن يتبارى الرجلان، كل واحد منهما يجادل صاحبه، فيعقر هذا عددا من إبله، ويعقر صاحبه، فأيهما كان أكثر عقرا غلب صاحبه، وكره لحومها لئلا يكون مما أهل به لغير الله".
وأفاد ابن الأثير في "النهاية" أنهم كان يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي: ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم.
ونقل كلام المصنف بحروفه السوسي في "الرحلة الحجازية" "1/ 162-163".(4/468)
ص -348-…فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقرا أجودهما، نهي عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به، قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان1 حوادث يتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرج أبو داود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل"2، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه، فهذا وما كان نحوه إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذكريات حوادث الموت الأربعينية والسنوية، وما شاكل ذلك. "د".
قلت: و في "خ" و"ط": "حدوث".
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في طعام المتبارين 3/ 344/ رقم 3754" من طريق زيد بن أبي الزرقاء، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، قال: سمعت عكرمة يقول: كان ابن عباس يقول... "وذكره".
وقال عقبه: "أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وهارون النحوي ذكر فيه ابن عباس، وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس".
قلت: أخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 128-129"، والطبراني في "الكبير" "11/ 340/ رقم 11942" من طريق هارون بن موسى عن الزبير به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509، 551"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6067" من طريق بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم به موصولا أيضا.
وقال البغوي: "والصحيح أنه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".
وقال ابن عدي عقبه في الموطن الأول: "وهذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقل من أوصله، وممن أوصله بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم".
قلت: وللموصول طريق أخرى، كما عند ابن عدي في "الكامل" "5/ 1874"، والخطيب في "تاريخه" "3/ 240" من طريق يزيد بن عمر -هو ابن جنزة- عن عاصم بن هلال، عن أيوب، عن =(4/469)
ص -349-…شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل، فإذا زِيدَ فيه هذا القصد، كان تشريكا في المشروع، ولحظا لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفيتا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها: إنها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عكرمة عن ابن عباس رفعه.
قال ابن عدي بعد أن ساقه وغيره من الأحاديث: "وهذه الأحاديث عن أيوب بهذا الإسناد ليست هي محفوظة".
وعاصم بن هلال ضعفه ابن معين ووهَّاه النسائي.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 7-8"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 123" عن طريق سليمان بن الحجاج، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المباهاة وطعام المتبارين".
وسليمان بن الحجاج الغالب على حديثه الوهم، كما قال العقيلي، وأورد الذهبي في "الميزان" "2/ 198" هذا الحديث في ترجمته، وقال: "لا يُعرَف، عداده في أهل الطائف".
وقال العقيلي عقبه: "يروي عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس، رفعه9 بعضهم وأوقفه بعضهم على عكرمة؛ الصحيح الموقوف".
قلت: وهو مما فات أبو حفص الموصلي في "الوقوف على الموقوف"، فدار الحديث من رواية الثقات على الزبير بن خريت، ولذا لما سأل علي ابن المديني أبا داود سليمان بن عمرو النخعي الكذاب عن الحديث، قال له: "عكرمة، إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين". قال: "حدثنا خصيف، عن عكرمة". قال ابن المديني: "فبان أمره، ولم يروِ هذا غير الزبير بن الخريت"، كذا في "تاريخ بغداد" "9/ 17-18"، وتصحف فيه "المتباريين" إلى المتنازين" فلتصحح.(4/470)
إلا أن الحديث شاهدا بإسناد صحيح، أخرجه ابن السماك في "جزء من حديثه"، "ق 64/ أ" كما في "الصحيحة" "رقم 626"، وابن لال والديلمي كما في "فيض القدير" "6/ 259"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6068" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما".
وقال الخطابي في "معالم السنن" "4/ 240" في شرح الحديث: "وإنما كره ذلك؛ لما فيه من الرياء والمباهاة، ولأنه داخل في جملة ما نهى عنه من أكل المال بالباطل".(4/471)
ص -350-…والثاني:
أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية، لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق، وذلك باطل قطعا، فيبطل ما يلزم عنه.
أما بيان الملازمة؛ فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ، إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة1 فيه، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا2 كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا.
وأما بطلان التالي3، فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي، واعملوا يدخلكم الجنة، واتركوا تدخلوا الجنة، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار، ومن يعمل كذا يُجْزَ بكذا، وهذا بلا شَكّ تحريض على العمل بحظوظ النفوس، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل، لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأَل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار، فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك، وقد أخبر الله تعالى عمن قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ط"، وفي غيره: "لا مناسبة".
2 الأولى أن يقول: ولما كان طلب الحظ الآجل بالطاعات سائغا، كان طلب الحظ العاجل بالعادات أولى بالجواز كما سيشير إليه بقوله: "فإذا لم يكن مثله قادحا في العبادات.... إلخ" وهذا في قوة قولنا، لكن التالي باطل، فيثبت نقيض المقدم وهو أن قصد الحظ لا ينافي صحة الأعمال العادية إذا انضم إليه قصد الامتثال ولو حكما. "د".
3 في الأصل و"خ": "الثاني".(4/472)
ص -351-…بقولهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10].
وفي الحديث: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما...." إلى آخر الحديث1، وهو نص في العمل على الحظ
وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك واشترط لنفسك، فلما اشترط، قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة" الحديث2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 495-496/ رقم 3459" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنما أَجَلُكُم في أَجَلِ من خَلَا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى"، فقالوا: "نحن أكثر عملا وأقل عطاء"، قال الله: "هل ظلمتكم من حقكم شيئا"؟ قالوا: لا، قال: "فإنه فضلي أعطيه من شئت".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، 4/ 445/ رقم 2268" عن ابن عمر مطولا مرفوعا، وفيه: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء...." نحوه.
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/ 446-447/ رقم 2269"، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام 96/ 66/ رقم 5021" عن ابن عمر نحوه.(4/473)
وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 4/ 447 / رقم 2271" عن أبي موسى مرفوعا نحوه، وفيه: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما".
2 أخرج ابن شيبة في "المصنف" "14/ 598" -ومن طريقه ابن أبي عاصم في =(4/474)
ص -352-…وبالجملة، فهذا أكثر من أن يحصى، وجميعه تحريض على العمل بالحظ1، وأن لم يقل: اعمل لكذا، فقد قال: اعمل يكن لك كذا، فإذا لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الآحاد والمثاني" "3/ 394/ رقم 1818"، والطبراني في "الكبير" "17/ 256/ رقم 710"- وأحمد في المسند" "4/ 120" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "2/ 451"- من طريقين عن مجاهد عن عامر عن عقبة بن عمرو وأبي مسعود البدري، قال: "وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: وإني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أوجزوا في الخطبة، فإني أخاف عليكم كفار قريش". فقلنا: يا رسول الله! سلنا لربك، وسلنا لنفسك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا بما لنا من الثواب على الله تعالى وعليك. فقال: "أسأل لربي أن تؤمنوا به ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدِكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم وأن تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك، فلكم على الله عز وجل الجنة وعلي". قال: فمددنا أيدينا فبايعناه.
وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد.(4/475)
وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 119-120"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450، 451" من طرق عن زكريا ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي به مرسلا، ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "6/ 47"، وقوى إسناده الزرقاني في "شرحه على المواهب"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 186/ رقم 1757"، و"الصغير" "2/ 110"، و"الأوسط" بنحوه، ورجاله ثقات، كما في المجمع" "6/ 49"، وأخرج ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 389/ رقم 1809"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 410/ رقم 3772"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 234" من طرق عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حميد، عن أنس أن ثابت بن قيس خطب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: رضينا.
وإسناده ضعيف، خالد بن عبد الله الواسطي ضعيف، إلا أنه توبع، فأخرجه ابن السكن كما في "الإصابة" "2/ 14" من طريق ابن أبي عدي، عن حميد به.
وهذه الطرق تدلل على أن للقصة أصلا، والأشهر فيها أنه وقعت في حديث بيعة الأنصار، كما قال المصنف، واحتمال تعداد الوقوع ضعيف، والله أعلم.
1 في الأصل و"خ" و"ط": "بالحظ على العمل".(4/476)
ص -353-…يكن مثله قادحا في العبادات، فأولى أن لا يكون قادحا في العادات.
فإن قيل: بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول.
أما المعقول، فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة؛ لأنه لو لم يكن مقصدًا لم يكن مطلوبا بالعمل، وقد فرضناه كذلك، هذا خلف، وكذلك العمل1 لو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه، وقد فرضناه أنه يعمله؛ ليصل به إلى غيره، وهو حظه، فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث، وإذا ثبت هذا، فالأعمال المشروعة2 إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد، فأشبهت3 العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك، والأعمال المأذون فيها4 كلها يصح التعبد بها إذا أُخذت من حيث أذن فيها، فإذا أخذت من جهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق آخر يتوصل به إلى أن العمل وسيلة للحظ، وهو أقرب إلى أن يكون طريقا آخر في التقرير والتصوير فقط، ولا يخفى أنه في هذا الإشكال من أوله إلى آخره لم يأخذ فيه سوى العمل والحظ، ولم يذكر المقصد الأصلي المشارك للحظ الذي قال فيه: "فأما الأول "فعمل بالامتثال بلا إشكال" فإن الحظ موضوعنا ليس هو المقصود وحده، بل معه القيام بالمصلحة ودرء المفسدة، الذي هو غاية لإذن الشارع فيه، وأخذ المكلف له من هذه الجهة. "د".
2 وهي ما في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، يعني ما ليست عبادة بالأصالة لأنها موضوع المسألة هنا. "د".(4/477)
3 ولم تكن رياء محضا؛ لأنه مع طلب حظه والسعي فيه يضم إلى ذلك غرضه من إقامة المصلحة ودرء المفسدة بدليل أخذه لها من جهة الإذن. "د".
4 هي نفس الأعمال المشروعة في كلامه. "د".(4/478)
ص -354-…الحظوظ سقط كونها متعبدا بها، فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما، ينبغي أن يسقط التعبد بها، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به1، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة، فصار مهمل الاعتبار في العبادة، فبطل التعبد فيه، وذلك معنى كون العمل غير صحيح.
وأيضا، فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ؟! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه، فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة، وعلى هذا نبه القائل بقوله:
هب البعث لم تأتنا رسله …وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحَقِّ …ثناء العباد على المنعم
ويعني بالوجوب بالشرع، فإذا جعل وسيلة، أخرج عن مقتضى المشروع، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل، والعمل المبني عليه مثله، فالعمل المبني على الحظ كذلك.
وإلى هذا، فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق، ولا حجة له عليه، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه، بل لو عذب أهل السماوات والأرض كان له ذلك بحق الملك {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد، فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يخلو من حظ للنفس يمكن أن يتعلق به. "د".(4/479)
ص -355-…وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر، فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله، وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله، كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة: 5].
وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وفي الحديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك"1.
وفيه: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"2، أي: ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه، ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله، فالعامل لحظِّه مسقط لجانب التعبد، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء، وفي الآثار من ذلك أشياء، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: 3].
وأيضا: فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال، فقال الغزالي3: "كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وقل4 به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله / رقم 2985".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 9/ رقم 1"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 3/ 1515/ رقم 1907" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتقدم "1/ 459".
3 في "الإحياء" "4/ 380".
4 كذا في جميع النسخ، وفي "الإحياء": "وزال".(4/480)
ص -356-…إخلاصه"1.
قال: "والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما، وأغراض عاجلة [من هذه الأجناس]، ولذلك [قيل]: من سلم له من عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعز الإخلاص، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى"2.
ثم قال:"وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه".
قال: "وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتَر، مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبقَ لـ [حب] الدنيا في قلبه قرار، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة3، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام؛ بل لأنه يقويه على العبادة، ويتمنى [أن] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل، فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية، فلا يكون له همٌّ إلا الله تعالى، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته، كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوَّى4 على العبادة بعده؛ كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين، ومَن ليس كذلك؛ فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور"، ثم تكلم على باقي المسألة، وله5 في "الإحياء" من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله، فإذا كان كذلك، فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما كونه إذا شارك طلب الحظ قصد الامتثال يضعف الإخلاص، فلا كلام فيه، ولكن يلزم منه المطلوب وهو بطلانه رأسا. "د".
2 الهوامش من "2-5" في الاستدراك: "رقم 7".(4/481)
ص -357-…خلاف1 ما وقع الكلام عليه.
فالجواب أن ما تُعُبِّد العباد به على ضربين:
أحدهما: العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات.
والثاني: العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وهو القسم الدنيوي المعقول المعني، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم.
فأما الأول، فلا يخلو أن يكون الحظ [المطلوب]2 دنيويا أو أخرويا.
فإن كان أخرويا، فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم، وإذا ثبت شرعا، فطلبه من حيث أثبته صحيح؛ إذ لم يتعدَّ ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته؛ إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي، وذلك غير قادح في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يقل: "سقط كونه متعبدا بها" مع أن هذا هو محل الإشكال على أصل المسألة، بل قال كلاما مجملا عاما يمكن حمله على أنه لم يكن الإخلاص تاما، وهو الذي يصح أن يكون نتيجة لقوله: "وأيضا إلى هنا"، ويصح أن يحمل على الاستدلال على ما قاله من الإشكال، وهو أن جهة التعبد ساقطة وملغاة لمشاركة الحظ لها، وهذا هو الذي دلل عليه قبل قوله: "وأيضا"، واستنتج فيه قوله: "فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد"، ولو اقتصر عليه كان أولى؛ لأن ما بعده زائد عن الغرض. "د". وفي "ط": "فالعامل ملتفتا إلى...".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ونسخة "ماء/ ص193".(4/482)
ص -358-…إخلاصه؛ لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره؛ لأنه عز وجل يقول: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إلى قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الآية [الصافات: 40-43].
فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلَ(4/483)
ص -ومعنى كونه مخلَصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره1، فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلب الحظ ليس بشرك؛ إذ لا يعبد الحظ نفسه2، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله [من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله]3 غيره في ذلك الطلب بذلك العمل، والله لا يقبل عملا فيه شرك، ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا.
فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك.
وأيضا، فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ4 لا في الدنيا ولا في الآخرة، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله؛ لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه، والتلذذ بمناجاته، وذلك حظ عظيم، بل هو أعظم ما في الدارين، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك، فإن الله تعالى غني عن العالمين، قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا أنه لا يقصد مع العبادة شيئا آخر مطلقا حتى ما أثبته الشرع. "د".
2 في نسخة "ماء/ ص194": "بنفسه".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في الأصل و"ط" و"خ": "الحظ.... للعبد".(4/484)
ص -359-…وإلى هذا، فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص، وذلك قليل، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق، وهذا شديد.
وعلى أن بعض الأئمة قال: إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية، ومن ادعاه، فهو كافر، قال أبو حامد: "وما قاله حق، ولكن القوم إنما أرادوا به1 "يعني: الصوفية" البراءة عما يسميه الناس حظوظا، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة، والنظر إلى وجه الله العظيم، فهذا حظ هؤلاء، وهذا لا يعده الناس حظا، بل يتعجبون منه".
قال: "وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة، وملازمة الشهوة للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة، لا ستحقروها ولم يلتفتوا إليها، فحركتهم لحظّ2، وطاعتهم لحظّ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره". هذا ما قال، وهو إثبات لأعظم الحظوظ3، ولكن هؤلاء على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بقولهم: "إن البراءة عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسيرة جدا، لا يصل إليها إلا خواص الخواص" أي: فهي ممكنة، فكيف يقال: من ادعاها كافر؟ فأبو حامد يجمع بينهما بأن براءة خواص الخواص إنما هي من قصد النعيم المذكور لأهل الجنة من أكل وشرب ولباس وتمتع بحور وما أشبه، لا كل حظ، وإلا، فحظ المعرفة والمناجاة والنظر ونحوها حظوظ خواص الخواص، فلم يتبرؤوا من الحظوظ رأسا، حتى يشاركوا الإله في وصفه. "د".
2 في الموضعين من الأصل: "لحظة".(4/485)
3 ادعى بعض الفلاسفة أن الإنسان قد يعمل لمجرد كونه خيرا، وأن يتقين أنه لا ينال من أثره نفعا، والراسخ في علم أحوال النفس لا يكاد يصدق بأن في طبيعة النفس الناطقة ما يساعدها على أن تقبل على العمل دون أن تشعر بأنها ستنال في عاقبته قسطا من اللذة أو السعادة، غير أن من الغايات ما يكون محمودا وتزداد النفس بالقصد إليه كالفوز برضوان الله، وما يترتب عليه من سعادة باقية، ومنها ما يكون رذيلة كمن يعمل حرصا على منفعة خاصة ولا يبالي أن تجر في أذيالها ضررا يتعدى إلى غيره. "خ".
قلت: سيأتي بسط ذلك في التعليق على "ص364".(4/486)
ص -360-…أحدهما: من يسبق له امتثال أمر الله الحظ، فإذا أُمر أو نُهِي لبَّى قبل حضور الحظ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ، وأصحاب هذا الضرب على درجات، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء.
والثاني: من يسبق له الحظ الامتثال، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء، وسبق له الخوف أو الرجاء، فلبى داعي الله، فهو دون الأول، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا؛ إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه، من حيث لا يقدح في الإخلاص كما تقدم.
فصل:
وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا، فهو قسمان:
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة، وحسن الظن عند الناس، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله.
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا، وهذا ضربان:
أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل.
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك، فهذه ثلاثة أقسام.(4/487)
ص -361-…أحدها:
يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة.
فإن كان هذا القصد متبوعا، فلا إشكال في أنه رياء؛ لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله، وهذا بيِّن.
وإن كان تابعًا، فهو محل نظر واجتهاد، واختلف العلماء في هذا الأصل، فوقع في "العتبية"1 في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب2 أن يعلم، ويحب أن يلقى3 في طريق المسجد، ويكره أن يلقى3 في طريق غيره، فكره ربيعة هذا، وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان، أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير، فيقول له: إنك لمراءٍ وليس كذلك، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك، وقد قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
وقال عن إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وفي حديث ابن عمر: "وقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا"4.
وطلب العلم5 عبادة، قال ابن العربي: "سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "1/ 498- مع "البيان والتحصيل"، وكذا في "المقدمات" "ص30" لابن رشد، وفيه زيادة بيان وإيضاح.
2 في "العتبية": "يجب"، بالجيم.
3 في الموطنين: "يلفى"، بالفاء.
4 سيأتي تخريجه "3/ 146"، وهو في الصحيحين".
5 الذي هو موضوع حديث ابن عمر؛ لأنهم كانوا في مجلسه صلى الله عليه وسلم يسألهم في العلم، ومع كونه في مقام عبادة، قال: لأن تكون قلتها.... إلخ الذي يؤول إلى أن عمر لم يخشَ في عبادة ابنه بطلب العلم حظا هو اعتقاد الفضيلة فيه. "د".(4/488)
ص -362-…ما بينوا؟ قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات. قلت: ويلزم ذلك؟ قال: نعم؛ لتثبت أمانته، وتصح إمامته، وتقبل شهاداته"1.
قال ابن العربي: "ويقتدي به غيره، فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه2 العبادة".
والثاني:
ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه، مع الغفلة [عن مراءاة الغير]3، وله أمثلة:
أحدها: الصلاة في المسجد للأنس بالجيران، أو الصلاة بالليل لمراقبة، أو مراصدة، أو مطالعة أحوال.
والثاني: الصوم؛ توفيرًا للمال، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه، أو احتماء لألم يجده، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له.
والثالث: الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس.
والرابع: الحج؛ لرؤية البلاد، والاستراحة من الأنكاد، أو للتجارة، أو لتبرمه بأهله وولده، أو إلحاح الفقر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان كذلك لا يكون هذا الحظ إلا المصلحة العامة ونفع الخلق بالقصد الأول، ويكون ما يرجع إليه هو تابعا صرفا. "د".
وقال "خ": "كان عليه الصلاة والسلام يبين بالقول تارة وبالفعل أخرى، وكذلك العالم لو أوفى البيان بالقول حقه لخلصت ذمته من واجب التبليغ، فتفسير أبي منصور الشيرازي قوله تعالى: {وَبَيَّنُوا} بإظهار الفعل إنما هو بعض ما يتناوله اللفظ، وليس هو الطريق الوحيد للتبيين، والوجه الذي ينحصر فيه المراد من الآية بحيث لا يكفي التبيين بالأقوال الصريحة".
قلت: وكلام ابن العربي في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511"، وعنه القرطبي في "التفسير" "5/ 423-424" مع تعقب له، فانظره لزامًا.
2 في "ط": "به".
3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.(4/489)
ص -363-…والخامس: الهجرة؛ مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال.
والسادس: تعلُّم العلم؛ ليحتمي به عن الظلم.
والسابع: الوضوء؛ تبردا.
والثامن: الاعتكاف؛ فرارا من الكراء.
والتاسع: عيادة المرضى والصلاة على الجنائز؛ ليُفعَل به ذلك.
والعاشر: تعليم العلم؛ ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث.
والحادي عشر: الحج ماشيا؛ ليتوفر له الكراء.
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة، وقد التزم الغزالي1 فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض، وأما ابن العربي، فذهب إلى خلاف ذلك، وكأن2 مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك، فيصحح العبادات، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، والخلاف فيها واقع، ورأي أصبغ فيها البطلان3، فإذا كان كذلك، اتجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الاتجاه الأخلاقي" "ص53 وما بعدها"، وتابع الغزالي في رأيه هذا الحارث المحاسبي في "الرعاية" "ص150"، ونقله عن الحارث وأيده القرطبي في "تفسيره" "5/ 180-181 و9/ 14".
2 في الأصل و"خ": "كان".
3 أي: مع وجود الانفكاك كما هو رأي الغزالي، وقوله: "على أن" تأييد لرأي ابن العربي. "د".(4/490)
ص -364-…النظران، وظهر مغزى المذهبين.
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه1، لما جاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سر المسألة أن القائلين بعدم الانفكاك ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها مزاحم للقصد المتجه إلى الله، فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلما وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أُمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد.
ولا يفوتنا ونحن نبحث في أصل المسألة أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أن الشارع قصد في وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد قرر المصنف هذه المسألة بما لا مزيد عليها في أول هذا "كتاب المقاصد" فإذا كان هذا مقررا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصالح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟!
لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العباد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تُجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها، لكان هذا القول مرضيا ومقبولا؛ لأن المكلف مطالب بألا يتوجه ولا يقصد إلا ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أن الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة.(4/491)
ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة، فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف؛ لأنها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره ويحفظ عليه دنياه وأخراه، ويحسن أن نقرر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها، لا يضاد الإخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال.
ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين؛ لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم؛ إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال.
كيف نريد من الذي يريد طهارة وضوء أو غسلا- ألا يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى التنظف والتطيب؟ وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان ألا يقصد التبرد وإنعاش=(4/492)
ص -365-…....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نفسه؟ فإن قَصَد هذا القصد حكمنا على عمله بالبطلان والفساد، وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي تنصرف عما تحسه وتطلبه، فكيف السبيل إلا أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل؟ ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذاتها ثم يطيق ألا يقصد هذا النعيم؟ وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سد خلة الفقير وصلة الأرحام وتقديم الخير لبني الإنسان نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟!
ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!
ألم يقرنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبه ونرضاه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} [الصف: 13].
وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها؟ فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التي شرعها، وأبتعد عما حرم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتي تحبها النفس وتتطلبها منها؟!
إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين، أطباء، ومهندسين، وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال.(4/493)
لا يجوز أن يحتج في هذا بأن الشارع لم يرتضِ أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية: بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا، وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله؛ لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع.
نعم؛ نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا، وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع، فنطلبه مع أنه واقع الأمر ليس بمطلوب ولا مقصود له.
وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلا المصالح التي نص الشارع عليها،=(4/494)
ص -366-…من الأدلة على ذلك، ففي القرآن الكريم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم} [البقرة: 198]، يعني: في مواسم الحج.
وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة: "إنه دأب المرسلين، فقد قال الخليل عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وقال الكليم: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينه في الصلاة1، فكان يستريح إليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/495)
= والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من الناس، وإنما هي شريعة عامة جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه، لننظر في هذه المرغبات التي يجليها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]. ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].(4/496)
هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها، فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه وايم الله العبودية الحقة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب}، نعم لو قالوا ما قرره المصنف سابقا بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله، لكان قولهم صوابا. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص398 وما بعدها".
1 مضى تخريجه "ص240".(4/497)
ص -367-…من تعب الدنيا1، وكان فيها نعيمه ولذته، أفيقال: إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها؟ كلا، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها".
في "الصحيح"2: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه لو وجاء"3.
ذكر ابن بشكوال عن أبي على الحداد، قال: حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه، على ما لم يكن يعهد من نفسه، وسأله عن الدواء، فقال: اسرد الصوم تصلح معدتك.
فقال: يا أبا عبد الله! على غير هذا دلني، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها. قال أبو علي: وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام -يعني: هذا الحديث- وجبنت عن إيراد ذلك عليه في [ذلك] المجلس، وأحسبني ذاكراته في ذلك في غير هذا المجلس، فسلم للحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أرحنا بها يا بلال"، ومضى تخريجه "ص240".
2 ومثله حديث: "إذن تكفى همك" لمن قال له عليه السلام: إني أحب الصلاة عليك أأجعل لك ربع صلاتي، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها. فإذا راعى ذلك في صلاته كان من هذا القبيل، ومنه ما ورد في الاستغفار {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} الآية فيها ترتب حظ دنيوي بل حظوظ على الاستغفار، وهو عبادة. "د".
قلت: وحديث "إذن تكفى همك" خرجته بإسهاب في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم، وفيه تعليق جيد عليه.
3 سيأتي تخريجه "3/ 143"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه.(4/498)
4 الفرق بين الواقعة المذكورة والحديث أن الواقعة تشير إلى قصد إصلاح المعدة، وهي معدودة من الحظوظ النفسية، أما الحديث، فيتضمن القصد بالعبادة إلى التعفف الذي هو واجب شرعي، ولكن المصنف سينبه إلى أن العلة في صحة العبادة التي قصد فيها إلى طاعة أخرى كون هذه الطاعة مأذونا فيها فيلحق بها ما كان غير عبادة من المأذون فيه، ومن يرى أن القصد إلى حظ دنيوي يكدر صفو العمل الخالص يذهب إلى أن العلة في صحة القصد إلى طاعة أخرى إنما هي كونها من جنس العبادة في طلب الشارع لها ووعده بالثواب عليها. "خ".
قلت: في الأصل: "أبا بكر بن زنب"، و"..... وذكرت ذلك في....."، وما بين المعقوفتين سقط منه.(4/499)
ص -368-…وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدًا في شعب، فقام يصلي ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا1 الحراسة والرصد2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يريد حقيقة الحصر كما هو ظاهر. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، 1/ 280" معلقا عن جابر، قال: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فرمي رجل بسهم فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته".
وأخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الوضوء من الدم، 1/ 50-51/ رقم 198"- ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "1/ 140"، وابن بشكوال في "الغوامض" "رقم 143"، والدارقطني في "السنن" "1/ 223-224"، وابن خزيمة في الصحيح "1/ 24-25/ رقم 36" ومن طريقه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 114، 115"، وأحمد في "المسند" "3/ 343-344، 359"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 156-157" ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ رقم 604- بتحقيقي"، و"السنن الكبرى" "1/ 140، 9/ 150"، و"الصغرى" "1/ 31/ رقم 40"-، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 375-376/ رقم 1096- الإحسان" من طرق عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار بن جابر وهو عقيل بن جابر، سماه سلمة الأبرش، عن جابر به مطولا جدا، قال الحاكم: "هذا الحديث صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بأحاديث محمد بن إسحاق، وأما عقيل بن جابر الأنصاري، فإنه أحسن حالا من أخويه محمد وعبد الرحمن".
قال ابن حجر في "الفتح": "وعقيل لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف- أي: البخاري- إما لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق"، وقال: "وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم".
قلت: أي بإخراجهم له في "الصحيح"، ونقل ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ =(4/500)
ص -369-…والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة، كانتظار الداخل1 ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث2، وما لم يعمل به مالك3 فقد عمل به غيره، وكالتخفيف لأجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 280" عن الدارقطني قوله: "إسناده صالح"، ولا يوجد ذلك في مطبوع "السنن"، وفي المطبوع نقص وتصحيف، أرجو الله أن ييسر له تحقيقا على وجه جيد.
قلت: والحق أن إسناده ضعيف، فعقيل لم يوثقه غير ابن حبان، بذكره له في "الثقات" "5/ 272"، ولم يرو عنه غير صدقة، انظر: "تهذيب الكمال" "20/ 134"، ولعله من أجله علقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض، ولم يشر لذلك ابن حجر فيما تقدم من النقل عنه، ولكنه قال في "تغليق التعليق" زيادة للاحتمالين المذكورين، أعني: الاختصار، والاختلاف في ابن إسحاق، قال: "وما انضاف إليه من عدم العلم بعدالة عقيل" وفي طريق أبي داود وغيره تصريح ابن إسحاق بالسماع له من صدقة، وصدقة وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود وابن سعد وغيرهم، وروى له مسلم في "الصحيح".
والرجل المذكور هو عباد بن بشر، كما في "الغوامض" "رقم 143"، والمستفاد" "ص80- ط الشيخ حماد الأنصاري"، وسمي في رواية عند البيهقي في "الدلائل" "3/ 378-379" من حديث صالح بن خوات عن أبيه، ولكن بإسناد واهٍ بمرة.
1 هل الانتظار لإدراك الداخل للركوع أمر دنيوي؟ أم هو لتكميل العبادة، ومثله يقال في التخفيف في المسائل بعده بدليل الحديث الآتي: "مخافة أن تفتن أمه" وفتنتها شغلها عن الصلاة. "د".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، 1/ 212-213/ رقم 802"، وأحمد في "المسند" "4/ 356"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 337" من طريق محمد بن جحادة عن رجل عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر في صلاته ما سمع وقع نعل.(5/1)
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 28-29": "والرجل لا يعرف، وسماه بعضهم طرفة الحضرمي، وهو مجهول، أخرجه البزار وسياقه أتم، وقال الأزدي: طرفة مجهول" انتهى، فالحديث ضعيف.
قال المزي في "تحفة الأشراف" "4/ 291" في زياداته: "رواه أبو إسحاق الحميسي عن =(5/2)
ص -370-…الشيخ والضعيف وذي الحاجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إني لأسمع بكاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن جحادة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى، وطوله".
وقد وصله البيهقي في "الكبرى" "2/ 66"، ولكن وقع عنده "عن طرفة الحضرمي" بدل "كثير" فليتأمل، ويترجح ما عند البيهقي بأن كثير الحضرمي لما ذكره المزي في "تهذيب الكمال" لم يذكر في شيوخه عبد الله بن أبي أوفى، ولا محمد بن جحادة فيمن روى عنه، وقد جزم الحافظ الضياء بأن الذي لم يسمَّ في هذه الرواية هو"طرفة"، وكذا ذكر ابن حبان في "ثقات التابعين" "4/ 398" طرفة، وأنه يروي عن عبد الله بن أبي أوفى، ويروي عنه محمد بن جحادة، أفاده ابن حجر في "النكت الظراف" "4/ 291" و"ترتيب مسند الإمام أحمد" "3/ 330".
واللفظ الذي أوردناه آنفا هو ما ساقه ابن حجر في "التلخيص"، ولفظ أبي داود وأحمد: "كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم"، وهو أيضا يدل على قول المصنف: "انتظار الداخل ليدرك الركوع معه"، فتأمل.
وينظر في فقه المسألة: "مختصر المزني" "1/ 113"، و"المجموع" "4/ 130"، و"تفسير القرطبي" "5/ 180"، و"نيل الأوطار" "3/ 147"- وفيها ما يدل على كراهية هذا الانتظار، وذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بسببه-، و"قواعد الأحكام" "1/ 151"، وفيه: ".... ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟!"
قلت: يتأكد قوله بما ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي"، فهل هذا النقصان يناقض النية الخالصة الصحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلل ذلك بقوله: "ما أعلم من شدة وجد أمه لبكائه".(5/3)
وهل مقصد مالك بن الحويرث رضي الله عنه كما ثبت عنه في "صحيح البخاري" "2/ 163- الفتح" عندما كان يصلي بالناس ما يريد بصلاته إلا أن يعلمهم الرياء والسمعة؟ وهل في ذلك ما يناقض النية الصحيحة؟
وأخيرا... عقد المجد ابن تيمية في كتابه "المنتقى" "باب إطالة الإمام الركعة الأولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة"، فانظره.
3 أي: وما يكره عند مالك من انتظار الداخل حال الركوع، فقد قال به غيره. "د".
قلت: وفي "ط": "وإن لم يعمل............"(5/4)
ص -371-…الصبي"1 الحديث.
وكرد السلام2 في الصلاة3، وحكاية المؤذن4، وما أشبه ذلك مما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص248".
2 وهل رد السلام وحكاية المؤذن أمر دنيوي؟ نعم، هو خارج عن حقيقة الصلاة إلا أنه ليس دنيويا، بل عبادة، وقوله: "بل لو كان شأن العبادة.... إلخ" يفيد أن ما ذكر قبله ليس عبادة، وأنه مما نحن فيه من مشاركة أمر دنيوي لقصد العبادة، وهو كما ترى. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، 1/ 243-244/ رقم 927"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 2/ 204/ رقم 368"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، 1/ 325/ رقم 1017"، و أحمد في "المسند" "2/ 30"، والدارمي في "السنن" "1/ 316" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه.
وبسط جعفر بن عون "أحد الرواة" كفه، و جعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق.
وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" "ص22": "قلت "يعني لأحمد": يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم. فذكر قصة بلال حين سألة ابن عمر، كيف كان يرد؟ قال: كان يشير. قال إسحاق: كما قال".(5/5)
واختار هذا بعض محققي المالكية، فقال القاضي أبو بكر بن العربي في "العارضة" "2/ 162": "قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام، ففيها الآثار الصحيحة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهيا لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب، على حسب ما بيناه في أصول الفقه"، أفاده شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 185".
4 وحكاية الأذان في الصلاة لا تشرع عند الشافعي، وقالوا: فإذا فرغ منها قال الأذان، وقال ابن قدامة في "المغني" "1/ 443- "الشرح الكبير": "دخل المسجد، فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله، وافتتح الصلاة، فلا بأس"، نص عليه أحمد.(5/6)
ص -372-…عمل خارج عن حقيقة الصلاة، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة، ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها.
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواها، لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه، وانتظار الصلاة، والكف عن إذاية الناس، واستغفار الملائكة له، فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره، وهذا غير صحيح باتفاق، بل كل قصد منها صحيح في نفسه وإن كان العمل واحدا؛ لأن الجميع محمود شرعا، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه، لاشتراكهما في الإذن الشرعي، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان1 لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيا لها، كالحديث2، والأكل، والشرب، والنوم، والرياء، وما أشبه ذلك، أما ما لا منافاة فيه، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى3، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه، كمن يقصد في صومه "الحمية"، وفي اغتساله "التبرد"، وفي حجه "التفسح".... وهذا مع وجود قصد التعبد أيضا، المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد، وهذا ما فصلناه آنفا، وهو الذي قرره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 151"، والقرافي في "الفروق" "3/ 22".
2 في الأصل و"ط" "كالحدث".
3 ودليله ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "13/ 51- شرح النووي" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تم لهم أجرهم".(5/7)
وهذا دليل آخر على صحة الانفكاك؛ إذ فيه قصد الغنيمة مع الجهاد، فينقص بذلك الأجر ولم يبطل بالكلية، كما قال ابن رجب. انظر: "الدين الخالص" "2/ 283" لصديق حسن خان، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "26/ 29-30".(5/8)
ص -373-…الحكم للغالب، فلم يعتد بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد.
والثالث:
ما يرجع إلى المراءات، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه، فهو الرياء المذموم شرعا، وادعى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا، وحكمه معلوم، فلا فائدة في الإطالة فيه.
فصل:
وأما الثاني، وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد، كالنكاح، والبيع، والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة، فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه1 في الأوامر والنواهي، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة [له]2، وإذا علم ذلك بإطلاق، فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع، فكان حقا وصحيحا، هذا وجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يأمر إلا بما فيه القيام بالمصلحة، ولا ينهى إلا عما يترتب عليه ضياع المصلحة، والقوانين التي وضعها لسائر المعاملات روعي فيها أنها تقوم بحفظ هذه المصالح والحظوظ العاجلة، وتدرأ المفاسد عنها، والنواهي عما نهى عنه إنما لحكمة أنه يجلب المفاسد ويضر باستقامة هذه الحظوظ. "د".
2 ليست في الأصل.(5/9)
ص -374-…ووجه ثانٍ: أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحًا في التماسه وطلبه، لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية، وهذا كافٍ في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه، أو ليعد من أهل العفاف، أو لغير ذلك، لصح تزوجه، من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا.
ووجه ثالث: أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67].
وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22].
وقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73].
وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].
إلى آخر الآيات، إلى غيبر ذلك مما لا يحصى.
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان؛ لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات1، وقطع للأهواء، كالصلاة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العادات".(5/10)
ص -375-…والصيام، والحج، والجهاد، إلا ما نحا نحو قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}1 [البقرة: 216] بعد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضي به الأوطار، وتفتح به أبواب التمتع واللذات النفسانية، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات، وأضراب ذلك، فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية، ولا نقصا من حق الربوبية، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر الذي امتن بها، وذلك صحيح.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا؛ إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق، لما تقدم.
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية؛ لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ؛ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل، ثم أتبعه آثارًا حسنة من التمتع باللذات، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع، فكان قصد هذا القاصد2 بريئا من الحظ، وقد انجر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/11)
1 أي: فهو امتنان عليهم بأن يجعل ما يكرهونه خيرا لهم، وأصل القتال من التكاليف المجردة عن الحظوظ، يعني: وهذا النوع قليل الوقوع أن يمتن في مقام مجرد التكليف، وقد يقال: إن هذا لا يحتاج إلى استثناء؛ لأن الامتنان بشيء آخر غير نفس المكلف به المجرد عن الحظ، فليس امتنانا بنفس القتال، بل بأنه سبحانه وتعالى تفضل علينا بأن يجعل من المكروه لنا أيا كان نوعه خيرا وفائدة عظمى حتى يصير ما نكرهه هو الخير الصرف. "د".
2 في الأصل: "القاصدين".(5/12)
ص -376-…في قصده الحظ، فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع، فلا مخالفة للشارع من جهة القصد، بل له موافقتان: موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول، وهو التمتع، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر، زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف.
وأيضا1 ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل، فهو بامتثال الأمر ملبٍ للشارع في هذا القصد، بخلاف طلب الحظ فقط، فليس له هذه المزية.
فإن قيل: فطالب الحظ على هذا الوجه ملوم؛ إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة.
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا، فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي.
وأيضا، فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد2، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد، كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها، لكن لا يستوي القصدان: قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن، فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موافقة ثالثة. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "لم يلد"، و كتب "د" بناء عليه: "اللائق بالمقام حذف "لم"، أي: فالذي يقصد التمتع فقط بالنكاح داخل ضمنا وبحسب العادة على أنه سيلد، ويتكلف تربية الأولاد، والإنفاق على الزوجات، فهو قاصد ضمنا لمقصد الشارع الأصلي من النكاح، وهو النسل".(5/13)
ص -377-…غير قادح في العمل.
فإن قيل: فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال، وإنما طلب حظه مجردا، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع، فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا؟
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا؛ لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع، فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [لو]1 يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه، فليس من الحق في شيء، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر.
فإن قيل: أما كونه عاملا على قصد المخالفة، فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق، فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق، وإذا وافق أمر الشرع جهلا، فسيأتي أنه يصح عمله على الجملة، فلا يكون عمله بالهوى أيضا، وإلى هذا، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول: إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر أنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا.
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة، فلا يستلزم أن يكون موافقا له، بل الحالات ثلاث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها، ومن "ط".(5/14)
ص -378-…حال يكون فيها قاصدا للموافقة، فلا يخلو أن يصيب بإطلاق، كالعالم يعمل على وفق ما علم، فلا إشكال، أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه، لم يقصد مخالفة، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل1، فيؤاخذ في الطريق، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا2، ويمضي عمله إن كان موافقا.
وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع، فسواء في العبادات وافق أو خالف [فإنه لا اعتبار بموافقته كما] لا اعتبار بما يخالف فيه3 لأنه مخالف القصد بإطلاق، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق4 دون ما خالف؛ لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته، كمن عقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "في ذلك"، وفي "ط": "على ذلك".
2 عقد القرافي الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه وبنى الفرق على قاعدة هي ما حكاه الإمام الشافعي في رسالته والإمام الغزالي في "إحيائه" أن الإجماع على أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، ثم عقد الفرق الرابع والتسعين بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وقاعدة ما يكون عذرا فيه، وخلاصة الفرق بينهما أن الجهل المعفو عنه ما يتعذر الاحتراز عنه.
عادة وغير المعفو عنه ما لا يتعذر الاحتراز عنه في العادة. "خ".
قلت: انظر أيضا في العذر بالجهل وحده: "طريق الهجرتين" "412-414"، و"تفسير الآلوسي" "1/ 154" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 21و 11/ 406-407 و20/ 59-61 و19/ 23، 219"، و"الإحكام" "5/ 111 -114" لابن حزم.
3 في الأصل: "بما وافق أو خالف فيه"، وفي "خ": "بما يخالف".(5/15)
4 أي: فما فعله على نية المخالفة، ولكنه صادف موافقة الطريق المشروع كان معتبرا، أي غير باطل، فتنسحب عليه أحكام الصحيح، وأما إذا صادف مخالفة المشروع، فهو باطل لا يأخذ حكم المشروع، وقوله: "لأن ما لا تشترط النية.... إلخ" توجيه لا عتبار ما وافق مع كونه ناويا المخالفة. "د".(5/16)
ص -379-…عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا، أو شرب جلابا يظنه خمرا، إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم.
وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة، فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة، كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل، أو يدري ولكنه إنما قصد1 مجرد العاجلة، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع، وحكمه في العبادات عدم الصحة، لعدم نية الامتثال، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع، وإلا، فعدم الصحة.
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال: إن المقصد2 هنا لما انتفى، فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة، وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور، كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا، وإن وافقت المصلحة، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها، على تفصيل أصله هذا النظر، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض، فهو بهذا القصد مخالف للشارع، وقد يقال: القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع، فصح.
فصل:
حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع، فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام، فكل ما خالف قصد الشارع، فهو باطل على الإطلاق، لكن بالتفسير المقدم3، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "قصده".
2 في "ط": "القصد".
3 وهو عدم ترتب الآثار الأخروية عليه من مرجو الثواب. "د".(5/17)
ص -380-…المسألة السابعة:
المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما:
ما كان من قبيل العادات الجارية بين الخلق، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية، التي هي طرق الحظوظ العاجلة، كالعقود على اختلافها، والتصاريف المالية على تنوعها.
والثاني:
ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود.
فأما الأول:
فالنيابة فيه صحيحة1، فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه2 فيما لا يختص به منها، فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه؛ لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه، كالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والإجارة والاستئجارة3، والخدمة، والقبض، والدفع، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا، كالأكل والشرب، واللبس، والسكنى، وغير ذلك مما جرت به العادات، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا، فإن مثل هذا مفروغ من النظر فيه؛ لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار؛ لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال، فإن النيابة فيه تصح، فإن كان دائرا بين الأمر المالي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص 196": "تصح".
2 في الأصل: "ويقوم مقامه".
3 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص197": "والاستجارة".(5/18)
ص -381-…وغيره، فهو مجال نظر واجتهاد، كالحج1 والكفارات، فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد، فلا تصح النيابة فيه، أو المال، فتصح، والكفارة، بناء على أنها زجر فتختص، أو جبر فلا تختص، وكالتضحية2 في الذبح بناء على ما بنى عليه في الحج، وما أشبه هذه الأشياء.
فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف، فلا نيابة، وإلا، صحت النيابة، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة لوضوح الأمر فيه.
وأما الثاني:
فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلف غيره، وعمل العامل لا يجتزي به غيره3، ولا ينتقل بالقصد إليه، ولا يثبت إن وهب، ولا يحمل إن تحمل، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا4.
فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التمثيل بالحج هنا غير واضح؛ لأن تقدير كلامه إن كان الأمر العادي دائرا بين المال والعقوبة كالكفارات، فهو مجال نظر، وليس الحج كذلك، بل هو أمر عبادي وفيه نوع ارتباط بالمال، فإذا تغلب أحدهما روعي، ومثله يقال في الضحية، ولو أنه جعل التقسيم إلى ثلاثة أضرب، فأضاف إلى هذين الضربين ضربا يدور بين العبادة والأمور المالية لكان أوجه. "د".
2 في الأصل و"خ" و"ط": "الضحية".
3 فصل هذه المعاني وإن كانت متقاربة أو متلازمة لتأتي الأدلة في الآيات بعدها على طبقها صراحة، فعليك بتطبيق الأدلة على تلك المعاني. "د".
4 انظر في تفصيل ذلك: "المغني" "5/ 92"، و"المجموع" "3/ 15"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 142-143 و24/ 306-313"، و"الفروق" "3/ 188"، و"بداية المجتهد" "1/ 273"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 1442-1446"، و"فتح القدير" "3/ 144-145"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 355".(5/19)
ص -382-… {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
وفي القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] في مواضع.
وفي بعضها: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].
ثم قال: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه} [فاطر: 18].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12].
[وقال]1: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم} [القصص: 55].
وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 52].
وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا، كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19]، فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها.
وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الآية: [البقرة: 48].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(5/20)
ص -383-…إلى كثير من هذا المعنى.
وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين: "يا بني فلان! إني لا أملك لكم من الله شيئا"1.
والثاني:
المعنى، وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده2؛ لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه، فذلك الغير هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره، والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب، حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات، فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه، فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به، وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب، ولا نيابة إذ ذاك على حال.
والثالث:
أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية3 لصحت في الأعمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، 6/ 551/ رقم 3527"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 1/ 192-193/ رقم 204، 206" عن أبي هريرة وفيه طول، والمذكور نحوه.
2 نحوه في "الفروق" "2/ 205"، و"قواعد الأحكام" "1/ 135".
3 إنما جعلها هي الملزوم ومناط الاستدلال في هذا الوجه-وإن كان الأصل فيما سبق =(5/21)
ص -384-…القلبية، كالإيمان وغيره من الصبر والشكر، والرضى والتوكل، والخوف والرجاء، وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات، كالأكل والشرب، والوقاع واللباس وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة، فكذلك سائر التعبدات.
وما تقدم1 من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص؛ لأنها محكمات نزلت بمكة2 احتجاجا على الكفار، وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عاما- لأنها بقطع النظر عن الأدلة هي التي يتوهم فيها ذلك، ويظهر أثره فيها بالقيام بالنيابة وعدم القيام بها بخلاف القلبية، فلا يظهر ذلك فيها، ولا يعقل فيها النيابة رأسا، فلا يعقل أن يقوم أحد عن أحد بالإيمان مثلا، وقوله: "ولم تكن التكاليف..... إلخ"، أي: مطلقا بدنية أو قلبية، وقوله: "وكل ذلك باطل"، أي: اللوازم الثلاثة باطلة، أي: فالملزوم مثلها، وعليه يكون قوله: "من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة" راجعا لخصوص الدليل الثالث، أي أن التعبدات مختصة بالمكلف بها كما سبق بيانه، فتكون كالعاديات المختصة كالأكل والوقاع مثلا، فلما كانت هذه لا نيابة فيها كانت جميع التعبدات لا نيابة فيها، ويصح أن يعود قوله: "وكل ذلك باطل" إلى ما دخل تحت قوله: "ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة وفي الحدود وأشباهها"، ويكون حذف بطلان اللازم من الدليلين الأولين. "د".
قلت: انظر في معنى ما قرر المصنف: "حاشية الدسوقي" "2/ 18".(5/22)
1 لو قدم هذا على الثاني، وهو المعنى ليكون تكميلا للدليل الأول وهو النصوص، لكان أنسب وإن كان وجه تأخره ارتباطه بالإشكال بعده، حيث يقول فيه: "وتبين أن ما تقدم في الكلية ليست على العموم". "د".
2 أي: ما عدا الآية الأخيرة، فإنها من سورة البقرة. "د".(5/23)
ص -385-…المعنى، لم يكن فيها رد عليهم، ولما قامت عليهم بها حجة، أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي، فظاهر، وأما على قول غيرهم، فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها1 عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة، فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية، ولا ينصرف عنها.
فإن قيل: كيف هذا؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير، وعلى ما لم يعمل أشياء:
أحدها:
الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم، وهي جملة منها أن "الميت يعذب ببكاء الحي عليه"2.
وأن "من سن سنة حسنة أو سيئة، كان له أجرها أو عليه وزرها"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لذلك في الأدلة مبحث واسع شاف، وقوله: "الأمور المعارضة"، أي: العشرة المشهورة التي منها الإضمار والحقيقة والمجاز..... إلخ، والكلام يحتاج إلى دقة في وزنه وتطبيقه، وسيأتي في محله. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، 3/ 152/ رقم 1290"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 638/ رقم 927"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز باب النياحة على الميت، 4/ 16-17"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت/ رقم 1002"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجنائز، باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه / رقم 1593" عن عمر موقوفا.
وانظر في معنى الحديث وتوجيهه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "24/ 369-378"، و"عمدة القاري" "4/ 79"، و"تهذيب السنن" "4/ 290-293" لابن القيم، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "2/ 209".(5/24)
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير رضي الله عنه، ومضى "1/ 222". قلت: وفي "خ" كان الحديث: "كان عليه وزرها وله أجرها".(5/25)
ص -386-…وأن "الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث"1
وأنه "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"2.
وفي القرآن: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].
وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم.
وفي الحديث: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم"3.
وفي رواية: "أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئه"؟ قالت: نعم: قال: "فدين الله أحق أن يقضى"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255/ رقم 1631"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، 6/ 251"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في الوقف،3/ 660/ رقم 1376"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117/ رقم 2880"، وأحمد في "المسند" "2/ 372"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 38" عن أبي هريرة مرفوعا، ولفظ مسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا في ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته- 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وتقدم "1/ 222".(5/26)
3 أخرج الرواية الأولى البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، 4/ 66/ رقم 1853، 1854"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، 2/ 973/ رقم 1334" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "ط": "فريضة الله الحج أدركت...".
وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" نحو الرواية الثانية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا.(5/27)
ص -387-…"ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه"1.
وقيل: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه. قال: "فاقضه عنها"2.
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء، وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى، فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها، وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم، فلا تكون صحيحة.
والثاني:
أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها، وهي قاعدة الصدقة عن الغير، وهي عبادة؛ لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره، فإذا تصدق الرجل عن الرجل، أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192 / رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147"، وأبو داود في "السنن":"كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، 2/ 791-792/ رقم 2400"، وأحمد في "المسند" "6/ 69" والبيهقي في الكبرى" "4/ 255" وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، 11/ 583/ رقم 6698"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر، 3/ 1260 / رقم 1638" أن ابن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاقضه عنها".(5/28)
ص -388-…به، ولا سيما إن كان ميتا، فهذه عبادة حصلت فيها النيابة، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضا كالزكاة، فإن إخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير، والزكاة أُخَيَّةُ الصلاة1.
والثالث:
أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها2، وهي تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ، فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو، وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه، ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه، وكذلك الدعاء للغير، فإن حقيقته خضوع لله وتوجه إليه، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة، وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما، وقد استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه3 حتى نزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جملة خطابية، يقوى بها الإشكال ليجري فيما ليس فيه شائبة مالية. "د".
2 المخالف فيها قليل، راجع "إعلام الموقعين" "2/ 16-17" ط محمد عبد الحميد.
3 الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فلم يأذن له ربه عز وجل، وأما سبب النزول، فقيل: نزلت في ذلك كما عند الطبري في "التفسير" "11/ 43" من مرسل قتادة، وعن ابن عباس عنده أيضا "11/ 42" بإسناد ضعيف، فيه عطية العوفي.
والنهي عن الاستغفار ثابت في غير حديث، منها:(5/29)
ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "2/ 672 بعد 977/ 106" -ولم يسبق لفظه- والترمذي في "الجامع" "3/ 370/ رقم 1054" مختصرا، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 117"، وأحمد في "المسند" "5/ 355 و356"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 376"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76" و"الدلائل" "1/ 189"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 652 و653 و664"، والجورقاني في الأباطيل" "1/ 229-230"، والطبري في "التفسير" "11/ 42" وابن مردويه عن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتي رسم قبر فجلس عليه، فجعل =(5/30)
ص -389-…................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت، قال: "إني استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي، وأستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي".
وما أخرجه مسلم "كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، 2/ 671/ رقم 976 و977"، وأبو داود "كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، 3/ 218/ رقم 3235"، والنسائي "كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك، 4/ 90"، وعنه الجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 230"، وابن ماجه "كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501/ رقم 1572"، وأحمد في "المسند" "2/ 441"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 89"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76 و7/ 190"، و"دلائل النبوة" "1/ 190"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 463/ رقم 1554"، و"معالم التنزيل" "3/ 115" من طريقين عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه، فلم يؤذن له".
والصحيح في سبب النزول أنها نزلت في عمه أبي طالب.(5/31)
أخرج البخاري "كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، 8/ 341/ رقم 4675، وباب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، 8/ 506/ رقم 4772"، ومسلم "كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع -وهو الغرغرة-ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، 1/ 54/ رقم 24"، والنسائي في "السنن الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 561/ رقم 250 و2/ 144/ رقم 403"، وكما في "تحفة الأشراف" "8/ 387"، و"المجتبى" "4/ 90-91"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 14-15"، وأحمد في "المسند" "5/ 433"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 187"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 37"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 978- الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "11/ 30 و20/ 59"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 342-343"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 55-56"، وابن البناء في "فضل التهليل" "رقم 47"، والواحدي في "أسباب النزول" "177" من طرق عدة عن الزهدي عن سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن، قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الملك =(5/32)
ص -390-…وقال في ابن أبي: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك"1 حتى نزل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُم} [التوبة: 80]، [ونزل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية]2 [التوبة: 84].
وإن كان قد نهي عنه، فلم يُنه عن الاستغفار لمن كان حيا منهم، وقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"3.
وعلى الجملة، فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة.
والرابع:
إن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات4 صحيحة، وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال: "أي عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجَّ لك بها عند الله؟" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله".
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين}، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء}. وهذا لفظ البخاري في الموطن الثاني.
1 بل قالها في عمه أبو طالب، كما تقدم في الحديث السابق.
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب منه، 6/ 514/ رقم 3477، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: منه 12/ 282/ رقم 6929"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417/ رقم 1792" عن ابن مسعود رضي الله عنه، والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "رب اغفر.....".(5/33)
4 ليس محل نزاع، ولكنه جاء به لتوسيع المجال في الإشكال، وأنها لكونها مشروعة جازت فيهم النيابة، فإذن كل ما كان مشروعا تجوز فيه النيابة، ومنه العبادات، ولا يخفى عنك أن أهم شيء في هذا الوجه ما يتعلق بالجهاد من جهة كونه عبادة، وأما مجرد مشروعيته التي جاء بها؛ ليجعلها كَعِلَّة للقياس، فهي ضعيفة. "د".(5/34)
ص -391-…بعض العبادات البدنية، وإن كانت واجبة على الإنسان عينا، وكذلك المالية، وأولها الجهاد، فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل، إذا أَذِنَ الإمام، والجهاد عبادة، فإذا جازت النيابة في مثل هذا، فلتجز في باقي الأعمال المشروعة؛ لأن الجميع مشروع.
والخامس:
أن مآل الأعمال التكليفية أن يجازى عليها، وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل، خيرا كان الجزاء أو شرًّا، وهو أصل متفق عليه في الجملة، وذلك ضربان:
أحدهما: المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه، فإنه إن كانت باكتساب1 كفر بها من سيئاته، وأُخِذ بها من أجر غيره، وحمل غيره وزره، و[لو] لم يعمل بذلك2، فضلا عن أن يجد ألمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المفلس يوم القيامة3، وإن كانت بغير اكتساب، فهي كفارات فقط، أو كفارات وأجور، وكما جاء فيمن "غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اكتساب الغير، وقوله: "بغير اكتساب"، أي: بأن كانت من الله محضا. "د".
2 لعل الأصل: "وإن لم يعلم بذلك" ليلتئم مع قوله: "فضلا عن أن يجد ألمه". "د".(5/35)
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1997/ رقم 2581"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/ 613/ رقم 2418"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند" "2/ 334"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 360/ رقم 4164"، وعبد الغني المقدسي في "ذكر النار" "رقم 6" عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما المفلس"؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".(5/36)
ص -392-…إنسان أو حيوان أنه له أجر"1 وفيمن "ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة، أو شرب في نهر، أو استنَّ شرفا أو شرفين، ولم يرد أن يكون ذلك، فهي له حسنات"2، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والضرب الثاني: النيات التي تتجاوز الأعمال3 كما جاء: "إن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عنه عذر"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
2 مضى تخريجه "ص340"، وهو قطعة من حديث في "الصحيحين"، قال "د": "لعلها رواية بالمعنى، وإلا، فما تقدم له في الفصل الثاني من المسألة الخامسة يقتضي أن قوله: "ولم يرد ذلك" راجع إلى خصوص الشرب، نعم، إن ذلك هو مناط الإشكال؛ لأنه لو قصد شيئا من ذلك لم يكن فيه ما يعترض به هنا".
3 انظر في تحقيق هذا النوع مع أمثلة عليه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 740-742 و6/ 575 و14/ 123 و35/ 52".
4 قلت: والعذر نصص عليه في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة 6/ 136/ رقم 2996" من حديث أبي موسى مرفوعا، "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا".(5/37)
والنوم عذر في حق من كان له نصيب من قيام الليل، ودليله ما أخرجه النسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1344"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص38"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 311"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 15" بسند صحيح عن أبي الدرداء مرفوعا: "من نام ونيته أن يقوم، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه".
وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 117" -ومن طريقه أبو داود في "السنن" "رقم 1314"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وأحمد في "المسند" "6/ 180"، وابن نصر في "قيام الليل"=(5/38)
ص -393-…وكذلك سائر الأعمال، حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمنِّي أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان: "فهما في الأجر سواء"، وفي الآخر: "فهما في الوزر سواء"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص78"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 15" من حديث عائشة مرفوعا: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل، يغلبه عليها نوم، إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة".
أما الجهاد، فدليله ما أخرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث جابر مرفوعا: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وفي رواية عند مسلم: "إلا شركوكم في الأجر".
وورد في المرض خاصة حديث عقبة بن عبار مرفوعا: "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا! عبدك فلان قد حبسته! فيقول الرب عز وجل: اختموا له على مثله عمله حتى يبرأ أو يموت" أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 146" بإسناد صحيح، وأخرج أحمد في "المسند" "4/ 123" من حديث شداد والحاكم في "المستدرك" "4/ 313" من حديث أبي أمامة، وأحمد "3/ 238" من حديث أنس ما يشهد له.(5/39)
1أخرج وكيع في "الزهد" "رقم 240" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية 2/ 1413/ 4228"، وأحمد في "المسند" "4/ 230"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 106"- بإسناد صحيح عن أبي كبشة الأنماري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله، ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤتِهِ الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الوزر سواء".
وأخرجه من طرق عن أبي كبشة هناد في "الزهد" "رقم 568"، والمروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 354"، وأحمد في "المسند" "4/ 230، 231"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الدنيا مثل أربعة نفر 4/ 562/ رقم 2325" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 105، 106"، وابن ماجه في "السنن" "2 1413-1414".
وصححه ابن كثير في "فضائل القرآن" "ص63".(5/40)
ص -394-…وحديث: "من هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة"1.
"والمسلمان يلتقيان بسيفهما"2 الحديث.
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر، فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره، فأولى3 أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة 11/ 323/ رقم 6491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ 117/ رقم 131" من ضمن حديث إلهي رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، 1/ 84-85/ رقم 31، وكتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} 12/ 192/ رقم 6875، وكتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفهما 13/ 31-32/ رقم 7083"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما 4 / 2213-2214/ رقم 2888"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل 7/ 125"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفتن، باب في النهي عن القتال في الفتنة 4/ 103/ رقم 4268، 4269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما 2/ 1311/ رقم 3965" عن أبي بكرة مرفوعا: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت "أو قيل": يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه" وفي رواية: "إذا التقى المسلمان.....".(5/41)
3 أي: لأن النية حينئذ حاصلة، وقد حصل المنوي بالفعل، وإن كان من غيره وهذا ظاهر إذا رجعنا قوله: "فإذا كان كالعامل.....إلخ" إلى الضرب الثاني فقط، إلا أنه لا يكون قد عمل للأول نتيجة، ولا بين وجه الاستدلال به، أما إذا رجعناه للضربين فيكون قد رتب على الأول أيضا نتيجته، لكن السياق في ذكره للأعمال في الثاني يشهد للتقرير الأول. "د".(5/42)
ص -395-…فالجواب: أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة1 النيابة، فإن للنظر فيها متسعا.
أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة، فليست من هذا الباب، فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية، ولا كلام فيها.
وأما قاعدة الدعاء، فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة؛ لأنه شفاعة للغير، فليس من هذا الباب.
وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية، فإنها مصالح معقولة المعنى، لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية، بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه، فله أجر ذلك، فإن العبادة منه صدرت لا من النائب، والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال، والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهي في الحقيقة معقولة المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح للدنيا، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله، فإن قصد الدنيا، فذلك حظه، مع أن المصلحة الجهادية قائمة، كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد شعبة منها، على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد [بالجعل]2، لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا، ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل، لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا، فهذا [الأصل]2 لا اعتراض به أيضا.
وأما قاعدة المصائب النازلة، فليست من باب النيابة في التعبد، وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ" و"ط": "في صحة".
2 ما بين المعقوفات في الموضعين ليست في الأصل.(5/43)
ص -396-…الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك، وكون حسنات الظالم تعطى المظلوم، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم، فمن باب الغرامات، فهي معاوضات؛ لأن1 الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار؛ إذ لا دينار هناك ولا درهم، وقد فات القضاء في الدنيا.
ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال، ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه.
ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلى الجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة؛ إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى، مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر، ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها، مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى، كما أنه لو تمنى2 أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر، كان له وزر من عمل، ولا يعد في الدنيا كمن عمل، حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة، فليست من النيابة في شيء، وإن فرضت النيابة، فالنائب هو المكتسب، فعمله عليه أو له، فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل3.
ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال، فإنه عمدة من خالف في المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لكن".
2 أي: عزم وصمم، ولكنه فاته غرضه بأمر خارج عن إرادته. "د".
3 وانظر تفصيل ما تقدم في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية: "التحفة العراقية"، و"مجموع الفتاوى" "6/ 575 و10/ 740-742 و14/ 123 و35/ 52"، و"فتح الباري" "11/ 327-328"، و"الأشباه والنظائر" "ص34" للسيوطي، و"تفسير القرطبي" "18/ 241 و12/ 35 و4 / 294"، و"مقاصد المكلفين" "ص142 وما بعدها" ورسالة الشوكاني "رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس". وهي مطبوعة.(5/44)
ص -397-…فحديث تعذيب الميت [ببكاء] الحي1 ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض -إذا ظن الموت- أهله على البكاء عليه، وأما "من سن سنة...."2، وحديث ابن آدم الأول3 وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث4، وما أشبه ذلك، فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور؛ لأنه الذي تسبب فيه أولا، فعلى جريان سببه تجري المسببات، والكفل الراجع إلى المتسبب "الأول" ناشئ عن عمله، لا عن عمل المتسبب الثاني، وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21]؛ لأن ولده كسب من كسبه، فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب، وبذلك فسر قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب} [المسد: 2] أن ولده من كسبه، فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به5، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة، وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء} [الطور: 21].
وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث، فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة -وذلك الصيام والحج- وأما النذر، فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام.
والذي يجاب به فيها أمور:
أحدها:
أن الأحاديث فيها مضطربة، نبه البخاري ومسلم على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385" وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385".
3 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص386".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان..... / رقم 3631" وغيره عن أبي هريرة.
5 لكن يبقى التوفيق بينه وبين آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن الذرية حازت منزلة عالية لم تستحقها بسعيها وإنما جاءت بسعي الآباء. "د".(5/45)
ص -398-…اضطرابها، فانظره في "الإكمال"، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا، فكيف إذا عارضته؟
وأيضا، فإن الطحاوي قال في حديث: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه"1: إنه لم يرو إلا من طريق عائشة، وقد تركته لم تعمل به وأفتت بخلافه، وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر: إنه لا يرويه إلا ابن عباس، وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد2.
والثاني:
أن الناس على أقوال3 في هذه الأحاديث: منهم من قبل ما صح منها بإطلاق، كأحمد بن حنبل، ومنهم من قال ببعضها، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من منع بإطلاق، كمالك بن أنس، فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر، ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي4، وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف؛ لأنها تبع، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره، كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت، وبيع العبد بماله، واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص387".
2 الحديث الذي يعمل راويه على خلافه وظهر أنه بما خالفه عن اجتهاد لا يسقط الاحتجاج به اتفاقا، وجرى الخلاف فيما إذا لم يعلم وجه عمله على خلافه، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى سقوط الاحتجاج به؛ مستندة إلى أن الراوي إنما خالفه لدليل يقضي بتعطيله، والراجح القول بأن العبرة بالرواية، وأن مذهب الراوي لا يؤثر عليها شيئا، لاحتمال أن يكون إنما خالفها عن اجتهاد منه. "خ".
قلت: ونقل المصنف عن الطحاوي من كتابه: "شرح مشكل الآثار" 6/ 176- ط المحققة" بتصرف.
3 في "ط": "على قولين".
4 في "أحكام القرآن" "1/ 228، 289".(5/46)
ص -399-…والثالث:
أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا، وذلك أنه قال: سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا، لا من جهة أنه جازٍ عن المنوب عنه1، وقال هذا القائل: لا يعمل أحد عن أحد شيئا: فإن عمله فهو لنفسه كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
والرابع:
أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال، كما إذا أمر بأن يحج عنه أو أوصى بذلك، أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وهو قول بعض العلماء.
والخامس:
أن قوله: "صام عنه وليه" محمول على ما تصح فيه النيابة، وهو الصدقة مجازا؛ لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره2، وذلك في الصيام الإطعام، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه، أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لكن هذا يبعده قوله عليه الصلاة والسلام،: "أرأيت لو كان على أبيك دين...." إلى أن قال: "فدين الله أحق أن يقضى". "د".
قلت: ونحو المذكور عند ابن العربي في "أحكامه" "1/ 289"،والقرطبي في "تفسيره "4/ 152".
ومما يبعده استحالة أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجوا وصوموا، ويجزئ ذلك عمن فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك، هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص276".(5/47)
2 مثله في "العناية شرح الهداية" "2/ 360"، والمذكور ضعيف؛ إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ومكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فهل يمكن بعد ذلك أن يعبر بالصيام عن الإطعام على سبيل المجاز، ولكل منهما مدلول شرعي ولغوي يغاير الآخر، فهل هذا يناسب الفصاحة، أم يناسب البيان؟ وهو تعبير يوقع المكلفين في حيرة وارتباك، ولذا قال النووي في "المجموع" "6/ 429" عقبه -ونقله عن بعض الشافعية المنتصرين للقول الجديد في مذهبهم: "تأويل باطل".(5/48)
ص -400-…ما أشبه ذلك.
والسادس:
أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة1، وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن2، وبالله التوفيق.
فصل:
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع، وهي مسألة هبة الثواب، وفيها نظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى المدنيون والمغاربة عن الإمام مالك أن الخبر مقدم على القاعدة، وروى عنه البغداديون تقديم القاعدة المقطوع بها إذا تعذر الجمع بينها وبين الحديث وسيأتي للمصنف في أوائل كتاب الأدلة ناقلا عن ابن العربي أن مشهور قول مالك والذي عليه المعول أن الحديث المعارض لقاعدة إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه. "خ".
2 الأحسن منه أن يقال: إن رد الأحاديث ليس بجيد، ويصار إلى ما ذكره المصنف وأبو العباس القرطبي قبله، فيما نقله عنه ابن حجر في "فتح الباري" "4/ 70" إذا لم يمكن التوفيق، وهنا يمكن التوفيق، كما تراه في "تهذيب السنن" "3/ 272" لابن القيم.(5/49)
ص -401-…فللمانع1 أن يمنع ذلك من وجهين2:
أحدهما:
أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص، وهو المال، وأما في ثواب الأعمال، فلا، وإذا لم يكن لها3 دليل، فلا يصح القول بها.
والثاني:
أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب، وقد نطق بذلك القرآن، كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13].
ثم قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]4} [النساء: 14].
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المانعون الشافعية والحنابلة، غير أنهم فرقوا بين ما تصح فيه النيابة فيجوز التبرع بثوابها، وما لا تصح فيه النيابة فلا يصح التبرع به، مع ميل متأخريهم إلى جواز التبرع بالكل، انظر في ذلك: "الروح" لابن القيم، و"حاشية قليوبي وعميرة" "3/ 175-176"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 10"، و"التذكرة" للقرطبي- مع تعليقنا عليه- و"الفروق" "3/ 194"، و"إفادة الطلاب بأحكام القراءة على الموتى ووصول الثواب"، وذكر فيه الجواز، وانظر المنع وأدلته القوية في "نيل الأوطار" "4/ 79"، و"فتاوى العز بن عبد السلام" "ص95-97"، و"تفسير المنار" "8/ 254-270"، و" أحكام الجنائز" "ص219 وما بعدها - ط المعارف".
2 وهنالك وجه ثالث، وهو قوي جدا، ولا سيما على قواعد المصنف، وهو قول ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" "ص54": "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرءوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل".
3 في "ط": "عليها".(5/50)
4 زيادة من الأصل، وفيه وفي "خ" و"ط": "ندخله" بالنون، أي: المواطنين، وهي قراءة نافع وابن عامر، كما في السبعة في القراءات" "ص228".(5/51)
ص -402-…{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [النحل: 32].
وهو كثير.
وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات، كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع، واستباحة البضع مع عقد النكاح، فلا خيرة للمكلف فيه، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل، وإذا كان كذلك، اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار، ولا في يده منه شيء، فإذن لا يصح فيه تصرف؛ لأن التصرف من توابع الملك الاختياري، وليس في الجزاء ذلك، فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك، كما لا يصح لغيره.
وللمجيز1 أن يستدل أيضا من وجهين:
أحدهما:
أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها، إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها، وإما بالقياس عليها؛ لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب2، لا يصح فيها غير ذلك، فإذا كان كذلك، صح وجود الدليل، فلم يبق للمنع وجه.
والثاني:
أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب، وكالتوابع مع المتبوعات، يقضي بصحة الملك لهذا العامل، كما يصح في الأمور الدنيوية، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة.
لا يقال: إن الثواب لا يملك كما يملك المال؛ لأنه إما أن يكون في الدار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا مذهب الحنفية، كما في "فتح القدير" "3/ 142"، والحنابلة، كما في "المغني" "2/ 567".
2 أين هذا؟ فالذي تقدم أنها من باب التصرف المالي، فكأنه أعطى المال للمتصدق عليه، وناب عنه في صرفه فقط، فقد ملكه المال نفسه، والثواب شيء آخر. "د".(5/52)
ص -403-…الآخرة فقط، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]، فذلك بمعنى1 الجزاء في الآخرة، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن.
لأنا نقول: هو وإن لم يملك نفس الجزاء، فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى، واستقر له ملكا بالتمليك، وإن لم يحزه الآن، ولا يلزم من الملك الحوز، وإذا صح مثل هذا المال، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها، صح فيما نحن فيه، فقد يقول القائل، ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان، ويقول: إن اشترى لي وكيلي عبدا، فهو حر أو هبة لأخي، وما أشبه ذلك، وإن لم يحصل شيء من ذلك في حوزه، وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله وإن لم يعلم به الموكل، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل، يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل2، فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي من بابه، وشبيه به. "د".
2 في كلامه هذا نظر؛ لأنه جعل ملك الحسنات كملك الأعيان، ولعل الأولى أن يقال: إن الثواب كما يكون ثمرة عمل الإنسان قد يكون ثمرة عمل غيره، إذا ناب عنه بعد إذن الشرع، على الرغم ما فيه!!(5/53)
ص -404-…المسألة الثامنة:
من مقصود الشارع في الأعمال1 دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح، كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُون} [المعارج: 22-23].
وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة: 3].
وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة، وجاء هذا كله في معرض المدح، وهو دليل على قصد الشارع إليه، وجاء الأمر به صريحا في مواضع [كثيرة]2، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [البقرة: 83].
وفي الحديث: "أحب العمل إلى الله ما داوم صاحبه وإن قل"3.
وقال: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أعمال العبادات التي تتكرر أسبابها، أما زكاة وجبت هذا العام لحصول النصاب ولم يحصل في العام بعده، فلا، وهكذا يقال في غيرها، فهو ظاهر في العبادات المذكورة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، 3/ 16/ رقم 1132، وكتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل 11/ 294/ رقم 6461، 6462" ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب في صلاة الليل، 1/ 511/ رقم 741" عن عائشة نحوه بألفاظ متقاربة، منها: "كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه".
وأخرج البخاري برقم "6464، 6467" عنها ضمن حديث: "وأن أحب الأعمال أدومها وإن قل".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.(5/54)
ص -405-…وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته، وكان عمله ديمة1.
وأيضا، فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات، من مفروضات ومسنونات، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب، ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار.
فصل:
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم، فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين:
أحدهما: من جهة شدة التكليف في نفسه، بكثرته أو ثقله في نفسه.
والثاني: من جهة المداومة عليه وإن كن في نفسه خفيفا.
وحسبك من ذلك الصلاة، فإنها من جهة حقيقتها خفيفة، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت، والشاهد لذلك قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها ضمن حديث طويل، وفيه: "وكان إذا صلى صلاة داوم عليها" ومضى لفظه في التعليق على "1/ 526".(5/55)
ص -406-…وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر، واستثنى الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة، لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق، والرجاء الذي هو حاد، وذلك ما تضمنه قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية: [البقرة: 46]، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار، والراجي لنيل مرغوبة يقصر عليه الطويل من المسافة، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج، ونهى عن التشديد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"1، وقال: "من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا يشمل التشديد بالدوام، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال، والأدلة على هذا المعنى كثيرة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه بإسهاب في "ص236".
2 مضى تخريجه 251".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 623".(5/56)
ص -407-…المسألة التاسعة:
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية1 بعض دون بعض، ولا يحاشي من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة؛ والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور:
أحدها:
النصوص المتضافرة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]2.
وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تغليب على الإباحة، وإلا، فهي حكم شرعي لا اختصاص فيه أيضا، ويبقى الكلام فيما يقابل الطلبية، وهو الوضعية، ولا يظهر أنه يقصد الاحتراز عنها؛ إذ كون الزوال سببا في وجوب الظهر عام لا يختص به مكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجودا، ومثله يقال في بقيتها، تراجع المسألة الأولى في خطاب الوضع. "د".
2 لأن المعنى على المشهور: وما أرسلناك بهذه الشريعة إلا للناس كافة، فالشريعة مأمور بتبليغها للناس كافة، وفي آية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} دلالة على وجوب تبليغ جميع الشريعة، فالجمع بين الآيتين يقتضي المطلوب في المسألة، أما الآيات هنا وحدها، فربما يتوقف في إفادتها للمطلوب؛ لأنه ما المانع من أن يكون مرسلا لجميع الناس، ولكن على توزيع المرسل به، فيكون البعض للبعض، وهذا إنما يمنع منه وجوب تبليغ جميع المرسل به للجميع، وإنما يؤخذ من الآيتين كما أشرنا إليه، فتأمل، وقد يقال: إن حذف المعمول يؤذن بالعموم، والمعمول هو قولنا: "بهذه الشريعة" فتكفي كل واحدة من هذه الآيات هنا في إفادة المطلوب. "د".(5/57)
3 قطعة من حديث أوله: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي...."، وفيه: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" أخرجه مسلم في "الصحيح "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(5/58)
ص -408-…وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره1، لم يكن مرسلا للناس جميعا؛ إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به، فلا يكون مرسلا2 بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن، فلا اعتراض به، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع، فظاهر الأمر فيه3.
والثاني:
أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة4، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه، فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِي} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بما لم يخاطب به غيره، أما تعبيره، ففيه نبو عن الغرض. "د".
قلت: انظر في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "إيضاح الدلالة على عموم الرسالة" لابن تيمية، ضمن "مجموع الفتاوى" "19/ 9-65"، و"الرسال المنيرية" "2/ 99-152"، و"الدلالة على عموم الرسالة" للسبكي، مضمن في "فتاويه" "2/ 594-625"، و"غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الملقن "ص259".
2 بالتأمل نراه يدخل في الدليل عموم المتعلق، وهو ما أشرنا إليه بقولنا: "بهذه الشريعة"، فدليله متوقف على هذا؛ إذ مجرد كون المرسل إليهم الناس جميعا لا يكفي إلا بمراعاة العموم أيضا فيما هو مرسل به. "د".
3 أي: فما فيه من الأحكام الطلبية متوجه إلى أوليائهم. "د".(5/59)
4 أي: تنطبع فيهم هذه المصالح على السواء؛ لأنهم مطبوعون بطابع النوع الإنساني المتحد في حاجياته وضرورياته وما يكملها. "د".(5/60)
ص -409-…وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية [الأحزاب: 51].
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة، فإنه راجع إليه1 عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه، كاختصاص2 أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لما شهد للرسول عليه الصلاة والسلام في حادثة الأعرابي في البيع وكان مستنده في الشهادة الإيمان بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، فلأن يكون صادقا في هذه الشئون الصغيرة من باب أولى، فاختصاص خزيمة في هذا رجوع إلى اختصاص الرسول عليه السلام بقبول شهادة واحد له في هذا العقد وصحته، يراجع "إعلام الموقعين" في هذا، وبيانه أن خزيمة تنبه لهذه الحكمة قبل أن يتفطن إليها غيره من الصحابة الحاضرين. "د".
قلت: وسيأتي تخريج شهادة خزيمة "ص469"، وهذا نص كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 83-84": "وأما قوله: وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه، فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره، لكان بمنزلة شاهدين اثنين، وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي، وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا، وهذا لا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك، استحق أن تجعل شهادته بشهادتين".(5/61)
2 بين ابن القيم الحكمة من هذا الاختصاص في كتابه" إعلام الموقعين" "2/ 246" بقوله: "وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده، فلموجب أيضا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاة لحم، أراد إعادة الأضحية، فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتي لحم، فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا، وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم، فلما استقر الحكم، لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وبالله التوفيق".(5/62)
ص -410-…الجذعة، وخصه بذلك بقوله: "ولن تجزئ عن أحد بعدك"1، فهذا لا نظر فيه؛ إذ هو راجع إلى جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه2 إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص.
والثالث:
إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،ولذلك صيروا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم، إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، 2/ 447-448/ رقم 955، وباب الخطبة بعد العيد، 2 / 453/ رقم 965، وباب التبكير إلى العيد، 2/ 456/ رقم 968، وباب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، 2/ 471/ رقم 983، وكتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، 10/ 3/ رقم 5545، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، 10/ 12/ 5556، 5557، وباب الذبح بعد الصلاة، 10/ 19/ رقم 5560، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد 10/ 20 / رقم 5563"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب وقتها، 3/ 1552/ رقم 1961"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة، 4/ 93/ رقم 1508"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يجوز من السن من الضحايا، 3/ 96/ رقم 2800"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأضاحي، باب ذبح الضحية قبل الإمام، 7/ 222" عن البراء بن عازب مرفوعا.(5/63)
2 وهي الآية والحديثان، والنص على التخصيص نفسه دليل على أن سائر الشريعة -مما لم ينص فيه على التخصيص- عام "د".(5/64)
ص -411-…لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37]، فقرر الحكم في مخصوص ليكون1 عاما في الناس، وتقرير2 صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة3.
والرابع:
أنه لو جاز خطاب البعض4 ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع، فما لزم عنه مثله، ولا أعني بذلك5 ما كان نحو الولايات وأشباهها، من القضاء، والإمامة، والشهادة، والفتيا في النوازل، والعرافة والنقابة، والكتابة، والتعليم للعلوم وغيرها، فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به، فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها، فالتكليف عام لا خاص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا أن في الآية النص على أن هذا الخاص أساس لحكم شرعي عام، فالآية وإن كانت صيغتها خاصة لا عامة، إلا أنها أُعْقِبَت بالنص على ما يفيد العموم، حتى تستفاد الحكمة فيما حصل، ولا يتوهم أنها خصوصية. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "وتقرر".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 82 و443 وما بعدها"، والمسألة الخامسة من كتاب "الأدلة الشرعية".
4 في "ط" زيادة بعدها: "دون البعض".(5/65)
5 أي: ولا أعني بذلك خروج ما كان موهما لتخصيص الخطابات، كالولايات.... إلخ، فإنها داخلة في القاعدة، وهو أنها مكلف بها كل من توفر فيه شرط التكليف بها، كغيرها من سائر التكاليف، فالزكاة مثلا مكلف بها على العموم،ولكن مع مراعاة النصاب مثلا وسائر الشروط كذلك الولايات وفروض الكفايات المتوقفة على شروط، فتعتبر عامة بهذا المعنى، ولو قال: "ولا يخرج عن ذلك ما كان.... إلخ"، لكان أوضح. "د".(5/66)
ص -412-…[وبسقوطه أيضا عام لا خاص] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى، بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص، كمراتب1 الإيغال في الأعمال، ومراتب الاحتياط على الدين، وغير ذلك.
فصل:
وهذا الأصل يتضم فوائد عظيمة:
- منها: أنه يعطي قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع، فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق- إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها، وهو معنى القياس، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم، فانشرح الصدر لقبوله، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله.
- ومنها: أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم، ويرشحون ذلك2 بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم له أن الناس في ذلك على ضربين: مسقط لحظوظه، وآخذ لها على وجهها الشرعي، أي، فليس الأول مخاطبا بما لم يخاطب به الثاني، حتى يعد من باب تخصيص الخطاب في الشريعة. "د".
2 أي: يصلحونه ويربونه".(5/67)
ص -413-…فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال: أمَّا على مذهبنا، فالكل لله، وأما على مذهبكم، فكذا وكذا، وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدِّق بهذا الظاهر، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى، والمخالفة للسنة، وكلا الفريقين في طرف، وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق، كما تبين آنفا، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة1، حتى يتبين ذلك، والله المستعان.
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم؛ لأنهم ترقَّوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات، إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها، فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور، فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه2، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها، واستجلاب النشاط في الطاعة، لا على قصد التلهي، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما تقدم له في مراتب الإيغال في الأعمال وأن الناس على ضربين، فيه فقه المسألة، وأنهم كغيرهم داخلون تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق. "د".
2 نقل المصنف عن مالك أنه سئل عن قوم يقال لهم: الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا أو صبيا. ثم قال المصنف: "إن ذلك من البدع المحرمات الموقعة في الضلالة المؤدية إلى النار والعياذ بالله".(5/68)
انظر: "المعيار المعرب" "11/ 39 وما بعدها"، و"منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية" "ص188"، و"فتاوى الشاطبي" "ص193"، و"ترتيب المدارك" "2/ 53-54".(5/69)
ص -414-…التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص1، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم، فليُعتَنَ به، وبالله التوفيق....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دس هذه المقالة بعض الزنادقة وسعى في ترويجها الفساق من المدعين للولاية، حتى يجدوا مسرح الشهوات واسع المجال بعيد ما بين الجوانب، وانطلت هذه الدسيسة على كثير من الأغبياء، فطرحوا من أيديهم أن يزنوا سيرة المدعي للولاية بميزان الشريعة، ومما ساعد على انتشار هذه الضلالة الهادمة لقانون الشرع أن بعض المنتسبين للعلم يهابون التعرض لكل من ادعى الولاية بحاله أو مقاله، وما هو إلا ضعف البصيرة، وقلة الرسوخ في العلم بحقائق الدين التي يضمحل أمامها كل باطل، وتسقط تجاهها كل دعوى مزيفة. "خ".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 432-446، 11/ 170-171، 225-227"، وتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إلى بسط ما أجمله المصنف في "درء تعارض العقل والنقل" و"منهاج السنة النبوية" و"الصفدية" وغيرها.(5/70)
ص -415-…المسألة العاشرة:
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما خص به، كذلك المزايا والمناقب1، فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا2، فهي عامة كعموم التكاليف، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المزايا: جمع مزية، وهي في كل شيء التمام والكمال، ويقال: له عندي مزية، أي: فضيلة ومنزلة ليست لغيره، والمناقب: جمع منقبة، وهي المفخرة ضد المثلبة. "ماء/ ص201".
2 ما من نبي إلا وهو سلالة قومه وخلاصة عنصرهم، كما تخرج زهرة من غصن شجرة، أو جوهرة من بطن حجر، فهو جامع لأشتات محاسنهم، طاهر من أدناسهم، فإن لكل قوم محاسن ومساوئ مختلفة كما ترى ذلك في أنواع خلق الله تعالى، وهذا هو أقرب من سنن الفطرة كما هو أولى بالحكمة، ولذلك ترى النبي سبق إليه من قومه أكرمهم وأطهرهم، ومن ههنا فضل السابقين من المؤمنين، كأن الله تعالى أطلع نورا من الأفق، فأشرق أولا على أعلى الشواهق ثم الأقرب فالأقرب، وأنزل ماء من السماء، فاخضرت من الأرض أولا أخصبها، فهكذا تتنبه الأمة في ذات نبيها، ثم في ذوات الصديقين والشهداء والصالحين منهم وأتباعهم، فإذا كمل وتم زمان النماء جمع الحب وأُلقِي العصف في النار.
ومن ههنا تبينت لك حكمة الصبر الشديد للنبي وأصحابه؛ لكيلا يبقى في الكافرين والمنافقين من فيه مثقال حبة من الإيمان، فإذا محَّص الله المؤمنين أهلك الكافرين، وفي هذا التمحيص أيضا يخرج من بين المؤمنين من دخل فيه بغير نور، وصرح بذلك القرآن في غير موضع، وتفصيل منه في باب المعجزات.(5/71)
فإذا كان النبي سلالة قومه كان هو وقومه كمرآتين على جانبيك، ترى بعضهم في بعض، فإن رأيت أن النبي على غاية علو الهمة وسعة التدبير تيقنت أن قومه أحرارٌ أذكياء، وهكذا إن علمت من قومه أحسن أخلاقه، تيقنت أن نبيهم جامع لها، وهذا يعطيك مفتاحًا لفهم سيرة أمة ونبيها، فتستدل من بعضهما إلى بعض، ثم تستدل بذلك في فهم شريعة أمة؛ لأنها تنزل حسب استعداد الأمة كما قال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر إنزال التوراة والإنجيل والقرآن: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] حسب عموم سنته كما جاء في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، فلا يبتلي الله الأمة إلا فيما آتاهم، فلذلك جعل شرائع كل أمة حسب حالها، ومن هذه الجهة اختلافهم، وجاءت أكمل الشرائع لأكمل الأمم، أفاده الفراهي في "القائد إلى العقائد" "ص133-134".(5/72)
ص -416-…جرت أنه إذا أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه، وأشركهم معه فيه، ثم ذكر من ذلك أمثلة؛
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء.
أما أولا؛ فالوراثة العامة1 في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون، ولكن الله منَّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} [النساء: 105].
وقال في الأمة: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وهذا واضح، فلا نطوِّل به.
وأما ثانيا: فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة، نقتصر منها على ثلاثين وجها:
أحدها:
الصلاة من الله تعالى، فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56].
وقال في الأمة: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} الآية [الأحزاب: 43].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ماء/ ص202" زيادة بعدها: "في الاستقراء".(5/73)
ص -417-…وقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157].
والثاني:
الإعطاء إلى الإرضاء، قال تعالى في النبي: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
وقال في الأمة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59].
وقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
والثالث:
غفران ما تقدم وما تأخر، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فنزل1: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5]، فعمَّ ما تقدم وما تأخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 7/ 450-451/ رقم 4172" ثني أحمد بن إسحاق ثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا}، قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار}.
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت، فذكرت له، فقال: أما {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} فعن أنس، وأما "هنيئا مريئا" فعن عكرمة.
وأخرجه هكذا من طريق عثمان بن عمر البيهقي في "الدلائل" "4/ 157".
وأخرجه مختصرا دون ذكر سبب النزول الذي أورده المصنف البخاري في "صحيحه"، كتاب التفسير، باب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 8/ 583/ رقم 4834"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية 3/ 1413/ رقم 1786" من طرق عن قتادة.(5/74)
وأخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، وجمع في الحديث بين أنس وعكرمة، وساقه مساقا واحدا، أفاده ابن حجر في "الفتح" "7/ 451". =(5/75)
ص -418-…والرابع:
وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2].
وقال في الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} الآية [المائدة: 6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: وساقه مساقا واحدا عن شعبة خالد الحذاء، كما عند النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 2/ 304/ رقم 522"، وحرمي بن عمارة، كما في "المستدرك" "2/ 459"، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "26/ 70" من طريق محمد بن جعفر غِندر، عن شعبة، وذكره كما عند المصنف عن عكرمة مرسلا، واختلف عليه فيه، فرواه بعضهم عنه بسياقة واحدة دون تفصيل، كما تراه عند ابن جرير "26/ 70"، واختلف على معمر فيه، فرواه ابن ثور عنه عن قتادة مرسلا، كما عند ابن جرير في "التفسير" "26/ 70"، وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "3/ 225"، ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الفتح، رقم 3263"، وأحمد في "المسند" "3/ 197"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 322/ رقم 6410- الإحسان" عن معمر عن قتادة عن أنس مساقا واحدا، فيه المذكور عند المصنف.
وكذا ساقه مطولا مع سبب النزول المذكور جماعة عن قتادة عن أنس، منهم: سعيد بن أبي عروبة كما عند أحمد في "المسند" "3/ 215"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 69"، والواحدي في "أسباب النزول" "256".
والحكم بن عبد الملك، كما عند "المستدرك" "2/ 460".
وهمام بن يحيى، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 134، 252"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 135-136"، و"أسباب النزول" "256"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 158".(5/76)
واختلف على هؤلاء فيه، وأخرجه مسلم في "صحيحه" عن بعضهم مختصرا دون ذكر سبب النزول، وما أرى الأمر إلا على النحو الذي فصله الإمام البخاري، وقد قدمناه، والتفصيل في الكتب التي أفردت عن المدرج مثل كتاب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني، كما ذكر هو في "الفتح" "7/ 451".(5/77)
ص -419-…والخامس:
الوحي وهو النبوة، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163]، وسائر ما في هذا المعنى، ولا يحتاج إلى شاهد، وفي الأمة: "الرؤيا الصالحة جزء1 من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا كان معنى الحديث أن الرؤيا كانت له عليه الصلاة والسلام قبل الوحي ستة أشهر، يري فيها رؤيا صادقة كفلق الصبح، ثم جاء الوحي بعدها، ومجموع ذلك مع الوحي ثلاث وعشرون سنة على قول، أو أن الوحي بعد الأشهر الستة ثلاث وعشرون سنة، فتكون نسبة الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من زمن النبوة والوحي، فعليه لا يكون في الحديث ما يدل على مُدَّعَاه؛ إذ ليس الغرض أن النبوة تتجزأ إلى هذه الأجزاء والرؤيا جزء منها، فهو غير معقول في ذاته أن تكون الرؤيا الصادقة جزء من نبوة الوحي مهما صغر هذا الجزء؛ لأن للنبوة ماهية شرعية لا يندرج فيها جزئي بمجرد الرؤيا الصادقة، وزعم ابن خلدون أن حمل الحديث على النسبة الزمانية بعيد عن التحقيق، ولكنه لم يأتِ في ذلك بمقنع، وما رده به من اختلاف العدد في بعض الروايات لا يفيد، فإن كلامنا في شرح هذه الرواية الصحيحة التي عدها بعضهم متواترة، وكونه لم يثبت أن رؤيا الأنبياء كذلك لا يضر؛ لأننا نحمل الحديث على رؤياه صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، وكانت كفلق الصبح، ودعواه أن الكلام في الرؤيا العامة التي يستوي فيها سائر الخلق لا يظهر. "د".(5/78)
قلت: اعتنى الزركشي في بيان مفردات الأجزاء المذكورة من النبوة، فقال في "البحر المحيط" "1/ 62": "وقد اجتهدت في تحصل الستة والأربعين ما هي، فبلغت منها إلى الآن اثنين وأربعين، وقد ذكرتها في كتاب "الوصف والصفة"، وأنا في طلب الباقي"، وهذا يدل على صحة ما ذكره المصنف، فتأمل، وردَّ ابن حجر في "فتح الباري" "12/ 364 وما بعدها"- وذكر فيه "12/ 366-367" الوجوه الستة والأربعين، فراجع كلامه فإنه كلامه فإنه مهم ومفيد- ما اعتمده "د"، فانظر كلامه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة 12/ 373/ رقم 6987"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب: منه 4/ 1774/ رقم 2264"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب في الرؤيا 4/ 304/ رقم 5018"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرؤيا، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة "4/ 532/ رقم 2271"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4/ 383"، وأحمد في "المسند" "5/ 316، 319" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(5/79)
ص -420-…والسادس:
نزول القرآن على وفق المراد، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144]، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة1، وقال تعالى أيضا: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف2 فيهن على عدد معلوم.
وفي الأمة قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث". قلت: يا رسول الله! لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/ 502/ رقم 399"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5 / 207-208/ رقم 2962"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القبلة 1/ 322-323/ رقم 1010"، وأحمد في "المسند" 4/ 274" عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
2 ليس موضوع الآية الإذن بعدم وقوفه عند الأربع التي أذن بها لسائر الأمة بل الكلام4 في موضوع القسم بين نسائه، وما إلى ذلك من تسريح من يشاء وإمساك من يشاء، كما يعلم من مراجعة كتب التفسير، وقد تابعه بعض الناظرين هنا أن الموضوع ما قاله، ولكنه خالفه فيما زعمه من السبب، وهو مصيب في هذه المخالفة لا في الموافقة على معنى الآية، وإن كانوا نسبوا إلى الحسن أنه قال: "تنكح من تشاء من نساء أمتك، وتترك نكاح من تشاء منهن"، وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب واحدة لا يخطبها غيره حتى يتركها، هكذا نسبوا إليه، ولكنه على ما ترى في عداد الإكثار من الاحتمالات والنقول. "د".(5/80)
وقال "خ": "ليس سبب الإذن له عليه الصلاة والسلام في التزوج بما فوق الأربعة هو محبته للنساء، وإنما أذن له بذلك لمقاصد أخرى كتأكيد الصلة بينه وبين أقاربهم وعشائرهن، وإن يتلقين عنه أحكام الشريعة ولا سيما الأحكام العائدة إلى النساء ما لا يطلع عليه إلا الأزواج، وتعدد زوجاته عليه السلام مما يقوم بها شاهد من شواهد صدقه، فإنهن مع كثرتهن لم يشهدن من حاله في السر إلا ما يطابق استقامته وإرشاداته العلنية، ونحن نرى من يدعي الصلاح كاذبا لا يلبث أن تنكشف سريرته ويفتضح أمره في الغالب على أيدي من يلابسه في بيته من الأزواج أو الخادمات".(5/81)
ص -421-…وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلت: "إنِ انتَهَيْتُنَّ أو لَيُبَدِّلَنَّ اللهُ رسولَهُ خيرًا منكُنَّ". فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية1 [التحريم: 5].
وحديث التي ظاهر منها زوجها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي ظاهر مني، وقد طالت صحبتي معه، وقد ولدت له أولادا، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد حرمت عليه". فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه، ثم عادت، فأجابها، ثم ذهبت لتعيد الثالثة، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}2 الآية: [المجادلة: 1].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} 8/ 168/ رقم 4483، وباب في سورة الأحزاب 8/ 527/ رقم 4790، وباب في سورة التحريم 8/ 660 / رقم 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1865/ رقم 2399" مختصرا عن عمر.
2 ذكر هذا البغوي في "معالم التنزيل" "5/ 323"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 259" من غير إسناد.
وأصله عند البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 13/ 372" معلقا عن عائشة مختصرا.
ووصله النسائي في "المجتبى" "6/ 168"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2063"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2063"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 481"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 5-6"، والواحدي في "أسباب النزول" "273" بسياق فيه تفصيل نحو المذكور وليس فيه: "قد حرمت عليه"، وإسناده صحيح.(5/82)
ولهذا التفصيل شواهد من حديث خويلة -أو خولة- بنت ثعلبة، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2214، 2215"، وأحمد في "المسند" "6/ 410-411"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 107-108"/ رقم 4279- الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 746"، وابن جرير في =(5/83)
ص -422-…ومن هذا كثير لمن تتبع.
ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت، إذ قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت1 أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "28/ 5"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 616"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 389، 391" بسند ضعيف، فيه معمر بن عبد الله، وهو مجهول.
وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار في "المسند" "رقم 1513- زوائده"، والطبراني في "الكبير" "11/ رقم 11689"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 3-4"، والبيهقي في الكبرى" "7/ 392"، وذكره مفصلا، وفيه أبو حمزة الثمالي، وزاد في متن الحديث ما خالف فيه الثقات، وهو لين.
وأخرجه من حديث ابن عباس مختصرا دون تعيين للرجل ولا للمرأة: أبو داود في "السنن" "رقم 2223"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 167"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1199"، وابن ماجه في "السنن" رقم "2065"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 747"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 204، والبيهقي في الكبرى" "7/ 386"، بسند حسن، وحسنه ابن حجر في "الفتح" "9/ 343"، وليس في هذه الروايات جميعا "قد حرمت عليه"، وفي بعضها نحو التفصيل الوارد.
وأخرجه باللفظة المذكورة عبد الرازق في "التفسير" "2/ 277" عن عكرمة مرسلا، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات "8/ 379"، عن عمران بن أبي أنس مرسلا، ولكن ورده فيه هذه اللفظة على لسان المظاهر، وكذا وردت في حديث ابن عباس من رواية أبي حمزة الثمالي عنه، وهو الأشبه والله أعلم.
1 في "ط": "ما كنت أظن.....".(5/84)
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 8/ 454/ رقم 4750" في آخر حديث الإفك الطويل، وقد أفرده يوسف بن عبد الهادي في جزء مفرد، وهو مطبوع.(5/85)
ص -423-…وقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرِّئ ظهري من الحد. فنزل1: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} الآية [النور: 6] وهذا خاص بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بانقطاعه.
والسابع:
الشفاعة، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقد ثبتت2 شفاعة هذه الأمة، كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس: "يشفع في مثل ربيعة ومضر"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 8/ 449/ رقم 4747"، وغيره ضمن حديث طويل عن ابن عباس.
2 في "د": "ثبت".
3 الشفاعة لمثل ربيعة ومضر ثابتة في غير حديث، أحسنها وأصحها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب: منه 4/ 626/ رقم 2438" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، 2/ 1443-1444/ رقم 4316"، وأحمد في "المسند" "3/ 469، 470, 5/ 366"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "5/ 26"، والطيالسي في "المسند" "2/ 229- التحفة"، والدارمي في "السنن" "2/ 328"، وابن خزيمة في "التوحيد" "313"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 70، 71"، وابن حبان في "الصحيح" "16/ 376/ رقم 7376- الإحسان"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "3/ 196"، والمزي في "تهذيب الكمال" "14/ 359-360" عن عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا: "ليدخُلَنَّ الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"، وإسناده صحيح على شرط مسلم.(5/86)
وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 256، 261، 267"، والآجُرِّي في "الشريعة" "351"، والطبراني في "الكبير" "8/ 169"، عن أبي أمامة مرفوعا: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة، ومضر"، ورجاله رجال الصحيح، وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، وهو مقبول كما في "التقريب"، وقد توبع، تابعه أبو غالب حزور، أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 330"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 287"، فإسناد حسن، وكذا قال العراقي فيما نقل عنه المناوي في "فيض القدير" "4/ 130".(5/87)
ص -424-…"أئمتكم شفعاؤكم"1، وغير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا الرجل المبهم الثابتة له الشفاعة، قيل: إنه عثمان، وقيل: إنه أويس، ويدل على الثاني ما أخرجه علقمة بن مرثد في "زهد الثمانية من التابعين" "ص74" عن عمر مرفوعا: "يدخل الجنة بشفاعة أويس مثل ربيعة ومضر"، وإسناده متقطع.
وما أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 2533" عن ابن عباس مرفوعا: "سيكون في أمتي رجل يقال له: أويس بن عبد الله القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر"، وإسناده واهٍ، فيه وهب بن حفص، كل أحاديثه مناكير غير محفوظة، وهو متهم بالوضع، انظر: "تاريخ بغداد" "13/ 488، واللسان" "6/ 234".
وما أخرجه أحمد في "الزهد" "343، 344" عن الحسن مرفوعا: "ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر": قال الحسن: "وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس القرني رضي الله عنه"، وفي رواية أخرى: "قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن، قال: هو أويس القرني".
وأخرج الترمذي في "الجامع" "رقم 2439" من مرسل الحسن أنه عثمان أيضا، وترى ذلك مبسوطا في ترجمته في "تاريخ دمشق"، والله الموفق.
والخلاصة: الحديث صحيح من غير ذكر تعيين أويس والله أعلم.
1 قال العراقي "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 175- مع شرحه "إتحاف السادة": "أخرجه الدارقطني والبيهقي، وضعف إسناده من حديث ابن عمر، والبغوي وابن قانع والطبراني في "معاجمهم"، والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد نحوه، وهو منقطع، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف".
قلت: أورد العراقي هذا عند قول الغزالي: "قال صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله....".
وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 87-88"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 90" عن ابن عمر مرفوعا: "اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل".(5/88)
قال البيهقي: "إسناده ضعيف"، قلت: فيه حسين بن نصر لا يُعرَف، قاله ابن القطان، كما في "نصب الراية" "2/ 26"، وعمر بن يزيد منكر الحديث، كما في "الكامل" "5/ 1687" لابن عدي، وسلام بن سليمان ضعيف، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، وانظر: "الأحكام =(5/89)
ص -425-…والثامن:
شرح الصدر، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} الآية [الشرح: 1].
وقال في الأمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} [الزمر: 22].
والتاسع:
الاختصاص بالمحبة؛ لأن محمدا حبيب الله، ثبت ذلك في الحديث، إذ خرج عليه الصلاة والسلام، ونفر من أصحابه يتذاكرون، فقال بعضهم: عجبا! إن الله اتخذ من خلقه خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه الله تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم، فسلم، وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفَّع ولا فخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوسطى" "1/ 322-323" لابن القطان.
وحديث مرثد أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 244/ رقم 317"-ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 197/ أ"-والطبراني في "الكبير" "20/ 328/ رقم 777"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 222"، وابن منده في "المعرفة" "2/ ق 174/ ب" عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "إن سركم أن تُقبَل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفودكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل".
وإسناده ضعيف، قال الدارقطني: "إسناد غير ثابت، وعبد الله بن موسى ضعيف".(5/90)
قلت: وكذا من روى عنه وهو يحيى بن يعلى الأسلمى، وبه أعَلَّه العراقي كما تقدم، والهيثمي في "المجمع" "2/ 64"، والقاسم الشامي لم يدرك مرثد، على ما بسطه ابن حجر في "الإصابة"، وإليه أشار العراقي بقوله: "وهو منقطع"، فالحديث ضعيف غير صحيح، وقد تابع المصنف الغزاليَّّ في إيراده باللفظ المذكور، وهذا قصور منه، عفى الله عنا وعنه.(5/91)
ص -426-…وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر"1.
وفي الأمة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].
العاشر:
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك.
الحادي عشر:
وأنه أكرم الأولين والآخرين، وقد جاء في الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5/ 587-588/ رقم 3616"-وقال: "هذا حديث غريب"، والدارمي في "السنن" "1/ 26"، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 573"-عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فإنه من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة به، ورواية زمعة عن سلمة ضعيفة، ضعف زمعةَ أحمدُ ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، وقال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال البخاري: "يخالف في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرا".
انظر: "التاريخ الكبير" "3/ 451"، و"الجرح والتعديل" "3/ 624"، و"الضعفاء الكبير" "2/ 94"، و"تاريخ ابن معين" "رقم 301- رواية الدوري"، و"أسئلة ابن طهمان" "رقم 62"، و"الضعفاء والمتروكين" "2/ 759" لأبي زرعة، و"تهذيب الكمال" "9/ 386".(5/92)
ومع هذا، فقد وثقه ابن معين مرة، فقال في "تاريخه" "رقم 553"-رواية الدوري": "صويلح الحديث"، وقال ابن عدي: "ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه لا بأس به"، وروى له مسلم مقرونا بمحمد بن أبي حفصة، فهو بيِّن الأمر في الضعفاء، وروايته عن سلمة بن وهرام ضعيفة، قال عبد الله بن أحمد في "العلل" "رقم 3479" عن أبيه: "روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه حديثا ضعيفا"، وقال ابن عدي في ترجمة "سلمة": "أرجو أنه لا بأس بروايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة". وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 399"، وقال: "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه".
فالحديث ضعيف، ولبعضه شواهد في "الصحيح" وغيره.(5/93)
ص -427-…والثاني عشر:
أنه جُعِل شاهدا على أمته، اختص1 بذلك دون الأنبياء عليهم السلام.
وفي القرآن الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والثالث عشر: خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الأمة كرامات، وقد وقع الخلاف، هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا؟ وهذا الأصل شاهد له، وسيأتي بحول الله [وقدرته]2.
والرابع عشر: الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره3 من الفضائل، ففي القرآن: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6]، وسميت أمته الحمادين.
والخامس عشر: العلم مع الأمية4، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية [الأعراف: 158].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير ظاهر مع آية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد} قال المفسرون: هو نبيهم، إلا أن يكون مراده أنه وحده الذي يشهد على أمته بخلاف الأمم السابقة، فيشهد عليهم مع أنبيائهم كما تشهد أمته عليهم، وهو بعيد من كلامه. "د".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "وبغيرها".
4 العلم مع الأمية فيه صلى الله عليه وسلم واضح، وهو إحدى معجزاته، والآيات صريحة فيه، وأمية الأمة تصرح بها الآيات، لكن أين في الآيات والحديث الوصف للأمة بالعلم الذي لا يكون عادة مع الأمية والمدلول عليه في مثل آية: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ.....} إلخ العلم الذي هو الإيمان ولواحقه، التي لا يلزم منها الاتصاف بالعلم على الإطلاق كوصفه عليه السلام. "د".(5/94)
ص -428-…وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"1.
والسادس عشر2:
مناجاة الملائكة، ففي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر، وقد روي في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك، كعمران بن الحصين3، ونقل عن الأولياء من هذا.
والسابع عشر: العفو قبل السؤال، قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التوبة: 43].
وفي الأمة: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
والثامن عشر: رفع الذكر، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشرح: 4].
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان، وفي كلمة الأذان، فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير.
وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام، أنه قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ: "إنا أمة.... " بتقديم "نكتب" على "نحسب".
2 هذا الوجه كما ترى لم يُقِم عليه دليلا محدودا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب جواز التمتع 2/ 899/ رقم 1226 بعد 167" عن عمران، قال: "وقد كان يسلم عليَّ حتى اكتويت، فتركت، ثم تركت الكي فعاد".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" "9/ 11"، وابن أبي أسامة والدارمي، كما في "الإصابة" "3/ 26-27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "9/ 146-147/ رقم 103"، وعزاه للبخاري، ولم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "ورقم 10846".
4 لا يظهر هنا سؤال ولا عفو قبله، وعلى فرض أن هنا موضع سؤال وعتب على انصرافهم عنهم ومخالفتهم لأمره عليه السلام، فمن أين أن العفو كان قبل السؤال؟ "د".(5/95)
ص -429-…"اللهم اجعلني من أمة أحمد"1 لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم2.
والتاسع عشر:
أن معاداتهم معاداة لله، وموالاتهم موالاة لله3، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه} [الأحزاب: 57] [هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله].
وفي الحديث: "من آذاني، فقد آذى الله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 54"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص30-31" عن الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مطولا، وفيه المذكور.
قال أبو نعيم عقبه: "وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذه الوجه، تفرد به الربيع بن النعمان وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين".
قلت: وله طرق كثيرة كما بينته بإسهاب في تعليقي على رسالة ابن قيم الجوزية "الفوائد الحديثة" وهي مطبوعة، وأصحها ما أخرجه أبو الحسين بن المنادي في "متشابه القرآن العظيم" "ص22" بسند حسن عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "الإتقان" "1/ 185"- بسندهما إلى قتادة، قال: حدثنا رجال من أهل العلم، وذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة.
2 كما تراه في "الجواب الصحيح" "3/ 313 وما بعدها"، و"هداية الحيارى" "61 وما بعدها"، و"أعلام النبوة" "ص128 وما بعدها" للماوردي، و"محمد نبي الإسلام" "ص7 وما بعدها" لمحمد عزت الطهطاوي، و"إظهار الحق"، و"نبوة محمد في الكتاب المقدس"، و"محمد في التوراة والإنجيل والقرآن"، و"الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها" "الفصل الأول، الباب الأول، ص50-89" لهدى مرعي.(5/96)
3 لم يذكر الموالاة في الأمة، وذكرها في الرسول عليه السلام، وسيأتي في السابع والعشرين ما يتضمنه، ولو قال: "ومفهوم من آذى لي وليا.... إلخ، أن من والى لي وليا...... إلخ"، لأكمل المطلوب. "د".
4 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب: منه 5/ 696 =(5/97)
ص -430-…وفي الحديث: "من آذى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة"1.
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80].
ومفهومه من لم يطعِ الرسول لم يطع الله.
وتمام العشرين:
الاجتباء، فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الأنعام: 87].
وفي الأمة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / رقم 3863" -وقال: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- وأحمد في "المسند" "4/ 87 و5 / 54، 57"، و"الفضائل" "رقم 1، 3"، وابنه عبد الله في "زياداته على الفضائل" "رقم 2، 4"، وابن أبي عاصم في "السنة "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "16م 244/ رقم 7256- الإحسان"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص321"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" والخطيب في "تاريخ بغداد" "9/ 123"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860"، والضياء المقدسي في "جزء النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب" "رقم 3، 4- بتحقيقي" عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الله بن عبد الرحمن -وفي بعض طرق عبد الرحمن بن زياد أو عبد الرحمن بن عبد الله- عن عبد الله بن المغفل مرفوعا، أوله: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي......".
وإسناده ضعيف، تابعيُّه مجهول، لم يروِ عنه عبيدة بن أبي رائطة، ولم يوثقه غير ابن حبان في "الثقات" "5/ 46".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" وغيره ضمن حديث إلهي.(5/98)
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782/ رقم 2276" وغيره عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وفي "مسند أحمد" "6/ 25" وغيره: "وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى".(5/99)
ص -431-…وقال في الأمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].
والحادي والعشرون:
التسليم من الله، ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام1.
وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
و: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54].
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة: "اقرأ عليها السلام من ربها ومنى"2.
والثاني والعشرون:
التثبيت عند توقع التفلت البشري، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في حديث عند أبي الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 610" عن سعيد المقبري، عن عائشة رفعته: "يا عائشة! لو شئت لسارت معي جبال الذهب؛ جاءني ملك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام...".
وإسناده ضعيف، فيه أبو معشر سيئ الحفظ، وسعيد لم يسمع من عائشة.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها 7/ 134/ رقم 3820"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 4/ 1887/ رقم 2432" عن أبي هريرة، قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
وأخرجه أيضا بنحوه في "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 465/ رقم 7497"، إلا أن فيه: "فأقرئها من ربها السلام".(5/100)
ص -432-…وفي الأمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
والثالث والعشرون:
العطاء من غير منة1، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون} [القلم: 3].
وقال في الأمة: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التين: 6].
والرابع والعشرون:
تيسير القرآن عليهم، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 17-19]، قال ابن عباس: علينا أن نجمعه في صدرك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [القيامة: 19]، علينا أن نبينه على لسانك.
وفي الأمة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} [القمر: 17].
والخامش والعشرون:
جعل السلام عليكم مشروعا في الصلاة؛ إذ يقال في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"2.
والسادس والعشرون:
أنه سمي نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرؤوف الرحيم، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم.
والسابع والعشرون:
أمر الله تعالى بالطاعة لهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر} [النساء: 59].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعلى التفسير الآخر وهو أن الممنون المقطوع يكون التشريك في هذا المعنى، فيحل وجه بدل وجه. "د".
2 وإن كان يشمل كل عبد لله صالح كما في الحديث، فالصالح من أمته مندرج من باب أولى. "د".(5/101)
ص -433-…وهم الأمراء والعلماء.
وفي الحديث: "من أطاع أميري، فقد أطاعني"1.
وقال: "من يطعِ الرسول، فقد أطاع الله"2.
والثامن والعشرون:
الخطاب الوارد ومورد الشفقة والحنان، كقوله تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2].
وقوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2].
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وفي الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
والتاسع والعشرون:
العصمة من الضلال بعد الهدى3، وغير ذلك من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 13/ 111/ رقم 7137"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/ 1466/ رقم 1835".
3 على هذا يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في "المصابيح" وصححه الترمذي: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل"، ثم قرأ هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون}، إلا أن أدلته غير واضحة الدلالة على المطلوب، فإن حديث: "لا تجتمع أمتي....." إنما هو في مجموعة الأمة لا في الأفراد ولو جماعة من الأمة، وآية: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} =(5/102)
ص -434-…وجوه الحفظ العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله.
وجاء في الأمة: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ليس المخلصون إلا الجزء القليل من المهتدين، وحديث: "احفظ الله" لا يخرج عن رسم طريق للحفظ من الغواية والضلال وغيرهما من الشرور الدنيوية والأخروية، وحديث: "ما أخاف عليكم أن تشركوا" متوجه لمجموع الأمة وجمهورها، وإلا، فقد ثبت على أشخاص الارتداد بعد الإيمان في عهده صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يستدعي خوفا من الجمهور المعني بذلك الحديث، فلعله يعني إثبات العصمة بعد الهدى لمجموع الأمة لا ما يشمل عصمة الإفراد، وعبارته مطلقة ومحتملة، والإفراد في قوله: "احفظ الله" لا يقتضي أن يكون شاملا للأفراد وإن كان الظاهر منه هذا المعنى، وبعيد أن يراد به خصوص المجموع من الأمة وإذا تمَّ ما قلناه، لا يحتاج الحديث إلى الصرف عن ظاهره. "د".
وقال "خ": "هذه حقيقة جلية، ومن نراه يتخبط في ريب الإلحاد وقد نبت في بيت إسلامي؛ فلأنه لم يأخذ عقائد الدين وآدابه على بينة وأسلوب حكيم، وإنما سمى نفسه أو سماه آباؤه مسلما، وليس المقلد في أصل الدين على بصيرة وهدى حتى يكون انحلال عقيدته شكا بعد يقين وضلالا بعد هدى".
1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 2/ 1303/ رقم 3950"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 41/ رقم 84"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 105/ رقم 153"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 113"، وأفاد ابن حجر أن الدارقطني أخرجه في "الإفراد عن أنس مرفوعا بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة".
وإسناده واهٍ؛ فيه معان بن رفاعة، لين الحديث، كثير الإرسال، وأبو خلف الأعمى البصري متروك، ورماه ابن معين بالكذب.(5/103)
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116-117" من طريق آخر عن أنس، وفيه مبارك بن سحيم، قال الحاكم: "ممن لا يمشي في هذا الكتاب، لكن ذكرته اضطرارا".
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 83"، من طريق آخر عن أنس بلفظ: "إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة"، وإسناده ضعيف، فيه مصعب بن إبراهيم، وهو منكر الحديث.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/ 466/ رقم 2167"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 80"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 115- =(5/104)
ص -435-…ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 116"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص322"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 37"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 154"، والطبراني في الكبير" "رقم 13623"، وابن حزم في "الإحكام" "4/ 192"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 109" عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي -أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على ضلالة"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان".
قلت: وكذا قال الدارقطني في "علله"، وزاد: "ليس بالقوي، يتفرد بما لا يتابع عليه".
والراوي عنه هنا المعتمر بن سليمان، وقد اختلف عليه فيه من سبعة أوجه سردها الحاكم، وقال: "لا يسعنا أن نحكم عليها كلها بالخطأ ولا الصواب"، وقال: "وقد كنت أسمع أبا علي الحافظ يحكم بالصواب لقول من قال: عن المعتمر، عن سليمان بن سفيان المدني...." وهذا الذي صوبه البخاري والترمذي والدارقطني، وتبعهم ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 110-111"، وسليمان ضعيف كما قدمنا.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4233"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3440" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 106"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 92"، والداني في "الفتن" "ق 45/ ب" عن أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال...." آخرها: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة".(5/105)
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع؛ شريح بن عبيد لم يسمع من أبي مالك الأشعري، وبهذا أعله الزركشي في "المعتبر" "ص58"، وابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 35" بقوله: "في إسناد هذا الحديث نظر"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 141": "وفي إسناده انقطاع"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 82" من طريق آخر عن أبي مالك واسمه كعب بن عاصم بإسناد فيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث، وفيه عنعنة الحسن البصري، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يجمع الله أمتي -أو قال: هذه الأمة- على الضلالة أبدا".
وفيه إبراهيم بن ميمون، قد عدله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن، وتعديله حجة، ووثق ابن ميمون أيضا ابن معين.
وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 208" عن سمرة مرفوعا: "إن أمتي لا تجتمع =(5/106)
ص -436-…................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على ضلالة".
وإسناده ضعيف، فيه أبو عون الأنصاري: مقبول، وعتبة بن أبي حكيم صدوق يخطيء كثيرًا، وبقية مدلس وقد عنعن.
وأخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" -كما قال الزركشي في "المعتبر" "ص61"، وأحمد في "المسند" "6/ 396"، والطبراني في "الكبير" "رقم 2171"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 105-106"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 756/ رقم 1390" عن أبي بصرة الغفاري مرفوعا: "سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا، ومنعنى واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها"، وإسناده ضعيف فيه راوٍ مبهم، وسائر رجاله ثقات.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 13373" في سورة الأنعام عن الدورقي عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري مرسلا.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 85"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 244-245"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 647، 648، 649"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 506-507"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 167، واللالكائي في "السنة" رقم 162، 163"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 114-115" عن أبي مسعود البدري بألفاظ منها: "فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالته".
وإسناده صحيح موقوف، رجاله رجال الشيخين، وحسنه ابن حجر، وقال الزركشي في "المعتبر" "ص62": "وحديث أبي مسعود رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكرها من طريق وضعفها، والظاهر وقفه على أبي مسعود".(5/107)
ثم قال: "واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا يخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك؛ ليتقوى بعضها ببعض"، ثم قال: "ومن شواهده ما في "الصحيحين" -"صحيح البخاري" "رقم 1367، 2642"، و"صحيح مسلم" "رقم 949"- عن أنس، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا شرا، فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله! لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: "شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض"، وفي لفظ لمسلم: "من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتهم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "ثلاثا".(5/108)
ص -437-…وجاء: "احفظ الله يحفظك"1.
وفي القرآن: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] تفسيره في قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
وفي قوله: "وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"2.
وتمام الثلاثين:
إمامة الأنبياء، ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ بالأنبياء، قال: "وقد رأيتني [في] جماعة من الأنبياء....... فحانت الصلاة فأممتهم"3.
وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان: "إن إمام هذه الأمة منها، وإنه يصلي مؤتما بإمامها"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 315".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها 11/ 243-244/ رقم 6426" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
3 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156-157/ رقم 172" عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه: "وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم".
قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل.
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام 6/ 491/ رقم 3449"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1/ 136-137/ رقم 155 بعد 244" عن أبي هريرة مرفوعا: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم فيكم؟" لفظ الشيخين. =(5/109)
ص -438-…ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا [مجموعه] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة، والحمد لله على ذلك.
فصل:
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:
- منها: أن جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن على مقدار الاتباع، فلا يظن ظانٌّ أنه حصل على خير بدون وساطة1 نبوية، كيف وهو السراج المنير الذي يستضيء به الجميع، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق.
ولعل قائلا يقول: قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم، كفرار الشيطان من ظل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي لفظ لمسلم "برقم 155 بعد 245": "وأمكم"، وفي لفظ "برقم 155 بعد 246": "فأمكم منكم"، وفيه: قال ابن أبي ذئب -بعض رواته: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: -الوليد بن مسلم: تخبرني؟. قال: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم".
فليس في هذا "وأنه يصلي مؤتما بإمامها".
نعم، ورد في "صحيح مسلم" "رقم 156" عن جابر مرفوعا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا. فيقول: لا، لا تكرمة الله هذه الأمة".
وهذا الأمير في هذه الرواية هو الإمام في الرواية الأولى، وهو المهدي بن عبد الله الحسيني، قال أبو ذر ابن سبط ابن العجمي في تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 137"، وانظر -لزاما- تعليقنا عليه.
1 في "ماء / ص203: "واسطة" وفي "ط": "وساطة النبوة".(5/110)
ص -439-…عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نازع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته الشيطان1وقال لعمر: "ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجًّا غير فجك"2.
وجاء في عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أن ملائكة السماء تستحي منه"3 ولم يرد مثل هذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر: "أنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فافترق النور معهما"4، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقال: كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء5 أو ينقل إلى يوم القيامة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه في التعليق على "ص441".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق 6/ 339/ رقم 3294، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 7/ 40/ رقم 3683، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك 10/ 503/ رقم 6085"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد بن أبي وقاص ضمن حديث طويل في آخره: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "غير ذلك".
3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن عائشة، وذكرت قصته، وفي آخرها، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟"، وأخرجه أحمد في "المسند" بألفاظ "1/ 71 و6/ 62، 155، 288".(5/111)
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد ابن بشر رضي الله عنهما 7/ 124-125/ رقم 3805" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "إن رجلين خرجا من عند.....".
5 في "ط": "والعلماء".(5/112)
ص -440-…الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص1 بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي2، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي3؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته، فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته.
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتِّباع والاقتداء به4، ولو كان ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن جزئيات الكلى تمتاز بمشخصات تليق بهذه الجزئيات، فالجزئيات التي وجدت لبعض الصحابة من الكرامات -وإن ظهر ببادي الرأي أنها أمور غير داخلة في كلي كرامات الرسول- فالواقع ليس كذلك، بل هي جزئيات من كليته، وكليته أكمل كما سيصوره المؤلف في عصمته عليه الصلاة والسلام العصمة المطلقة من الشيطان، وفي فراره من عمر الذي لا يقتضي تمام العصمة، فكم يفر العدو ممن يراه أقوى منه، ولكنه قد يكر عليه فلا ينجو منه في بعض الغفلات؟ "د".
2 في نسخة "ماء/ ص203": "قلت: وانظر إلى أصل الشجرة وما يتفرع منه، وما يظهر في الفرع من ورق وشوك وثمر".
3 لعل الصواب: "لا يكون جزئيا إلا بكلي". "د".
قلت: المذكور متجه، ولا داعي للتصويب المذكور؛ إذ الكلي يتكون من مجموع الجزئيات، فتأمل.(5/113)
4 ليس هذا على إطلاقه، قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 283": "ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك؛ لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وقرر أيضا في "11/ 323" أن عدم الخوارق لا تضر المسلم في دينه، ولا ينقص ذلك من مرتبته عند الله بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه. وانظر -غير مأمور: "مجموع الفتاوى" "10/ 29-32 و499-500 و11/ 202، 204-208، 212-215، 275 وبعدها، 322 وما بعدها".(5/114)
ص -441-…لم تكن المتابعة شرطا فيها، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر.
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا، فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر.
وأيضا، فإن فرار الشيطان أو بُعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة، وقد زادت مزية النبي صلى الله عليه وسلم فيه خواص:
- منها: أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}1 [ص: 35] ولم يقدر عمر على شيء من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَان} 6/ 457/ رقم 3423، وكتاب التفسير، باب {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 8/ 546/ رقم 4808"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/ 384/ رقم 541" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فردَّه خاسئًا" لفظ البخاري.(5/115)
ص -442-…- ومنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام اطَّلع على ذلك من نفسه1 ومن عمر2 ولم يطَّلِع عمر على شيء منه.
- ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه، وعمر لم يكن آمنا وإن بعُد عنه.
وأما منقبة عثمان، فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل نقول: هو أولى بها، وإن لم يذكرها عن نفسه؛ إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها.
وأيضا، فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهي شدة حيائه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، وأشد3 حياء من العذارء في خدرها4، فإذا كان الحياء أصلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال.
وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه؛ لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء5، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة، فكان يرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: في شأنه صلى الله عليه وسلم وفي شأن عمر. "د".
3 في "ط": "أو أشد".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3562، وكتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513/ رقم 6102، وباب الحياء 10/ 521/ رقم 6119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4/ 1809/ رقم 2320" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.(5/116)
5 أخرج تمام في "الفوائد" "رقم 1430- تربيته"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1534" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 74-75"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 118/ رقم 266"، والخطيب في تاريخ بغداد" "4/ 271-272"، ومكي المؤذن في "حديثه" "1/ 236"، والضياء المقدسي في "المنتقى من حديث أبي علي الأوقي" "1/ 2"-كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 341"- من طريق زهير بن عباد الرواسي عن عبد الله بن المغيرة عن المعلي بن هلال =(5/117)
ص -443-…من خلفه كما يرى من أمامه1، وهذا أبلغ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [من]2 بعده وفي زمانه.
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه3، والأخذ لهذه الأمور من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء".
وإسناده ضعيف جدا، قال البيهقي: "هذا إسناد فيه ضعف"، وقال ابن الجوزي: "لا يصح".
المعلى بن هلال اتفق النقاد على تكذيبه، كما قال ابن حجر، والراوي عنه عبد الله بن محمد بن المغيرة، قال أبو حاتم: "ليس بقوي" وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "يحدث بما لا أصل له"، كذا في "اللسان" "3/ 332"، وأورد الذهبي في "الميزان "2/ 487-488" في ترجمته جملة من الأحاديث منها المذكور، ثم قال: "قلت: وهذه موضوعات"، وضعف هذا الحديث ابن دحية في كتابه "الآيات البينات"، قاله المناوي في "فيض القدير" "5/ 215".
قلت: ونقل تضعيفه فيه عن ابن بشكوال، كما قال ابن الملقن في "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم "ص299".
وعزاه السيوطي في "الخصائص الكبرى" "1/ 61" لابن عساكر، وهو في "تاريخه" مرسلا، وفيه بعض المجاهيل، أفاده شيخنا الألباني.
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 75" بسند فيه جماعة مجهولون عن مغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء". وقال: "ليس بالقوي".
ووردته قصة تدل على وهاء هذا الحديث، ولكنها من القصص التي لا تثبت، كما تراه في هامش "غاية السول" "ص472".
1 سيأتي تخريجه "ص274"، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم في الصلاة فحسب.
2 سقط من "ط".(5/118)
3 الأحسن من هذا الذي قرره المصنف ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 398": "ليس كل عمل أورث كشوفا أو تصرفا في الكون يكون أفضل من العمل =(5/119)
ص -444-…جهته لا على الجملة، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال، ولا إشكال فيها بحول الله. وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية.
فصل:
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته، فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل، فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة1، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك2.
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم3 والتقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي لا يورث كشفا وتصرفا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا، وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار، ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تُتَلقى من مثل هذا، وإنما تُتَلقى من دلالة الكتاب والسنة....".
وقال: إن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقا، مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدا، فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك".
1 في الأصل: "كرامة".
2 انظر نحوه في "النبوَّات"، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" "ص62 وما بعدها"، والموطن المذكورة آنفا من المجلد الحادي عشر من "مجموع الفتاوى"، و"مدارج السالكين" "1/ 47-48"، و"قطر الولي" "ص253"، و"التنكيل" "2/ 238-239".
3 في الأصل: "الهمة".(5/120)
ص -445-…بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها في كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران1 في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرَّى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه، معرِضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها؛ إذ قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2 الحديث، وإن تحرى وقتا أو دعا [إلى تحرِّيه]3، فلسبب بريء من هذا كله، كحديث التنزل4، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار5، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "قرار".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" في مواطن، منها "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذ سلم 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء 1/ 83-84/ رقم 71" من حديث زيد بن خالد، ومضى الحديث "1/ 201".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29/ رقم 1145، وكتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل 11/ 128-129/ رقم 6321، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 464/ رقم 7494"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعا: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُثُ الليل الآخرُ، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له".(5/121)
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر 2/ 33/ رقم 55، وكتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/ 306/ رقم 3223، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} 13/ 415/ رقم 7429، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكةَ 13/ 461/ رقم 7486"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 439/ رقم 632" عن أبي هريرة مرفوعا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم؛ وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".(5/122)
ص -446-…والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص؛ أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم، وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره، ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، والتي روعى فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم، وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل، فذلك غير ثابت النقل، ولا تجد له أصلا، بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي؛ هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به، فليس بدليل على الصحة، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك، ولا يكون شاهدا على صحته؛ بل هو باطل صرف، وتعدٍ محض، وهذا الموضع مَزَلَّة قدم للعوام ولكثير من الخواص، فلْتُنَبَّهْ له.
فصل:
ومنها أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر وأنذر، وندب1، وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة، كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه صلى الله عليه وسلم رتب على فراسته ورؤياه وإلهاماته بشارة للبعض، ونذارة لآخر، وتصرفات في بعض الشئون، وهكذا؛ فمن فعل مثله صلى الله عليه وسلم كان على صواب في عمله، وقد علمت مما سبق أن صدق ذلك تابع لقوة المتابعة، ولذا قال: "فمن اختص بشيء.... إلخ" وقوله: "شرط ذلك"، أي: الآتي في المسألة التالية. "د".(5/123)
ص -447-…طريق من الصواب1، وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع، لكن مع مراعاة شرط ذلك، ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران:
أحدهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا، وتحذيرا وتبشيرا وإرشادًا، مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته، فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه، شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره، ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات، وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين2 وقولهما له: "نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسهب ابن القيم في الكلام على حجية "الفراسة"، وذكر أمثلة كثيرة على عمل الصحابة والتابعين بها، وذلك في أول كتابه "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا.
2 أي: فقد رتب على رؤيا عبد الله نفسه ما رتب، ويظهر أن مقالة الرسول لأبي ذر وثعلبة وأنس كلها من قبيل الفراسة، ولتراجع رواية البخاري في "كتاب الرؤيا، باب الأمن وذهاب الروع في المنام، ففيها أن ملكا ثالثا قال له: "لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فليست من كلام الملكين، كما أن لفظ الرسول في هذه الرواية "أن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة في الليل" وهو نص الرواية الأخرى التي رواها المؤلف، فليس بظاهر جعل قوله: "نعم.... إلخ" مقولا لقال ولا لقولهما إلا بتكليف. "د".
قلت: بل الأمر كما ذكر المصنف، كما في الموطنين الثاني والثالث في "صحيح البخاري" من الهامش الآتي.(5/124)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل 3/ 6/ رقم 1121، 1122، وباب فضل من تعارَّ من الليل، فصلى 3/ 40/ رقم 1157، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7 / 89-90/ رقم 3738، 3739"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927-1928/ رقم 2479" عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.(5/125)
ص -448-…وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل"1.
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: "إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم"2.
وقوله لثعلبة بن حاطب وسأله الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7/ 90/ رقم 3740، 3741، وكتاب التعبيرات، باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام 12/ 403/ رقم 7016، وباب الأمن وذهاب الروع في المنام 12/ 418/ رقم 7029، وباب الأخذ على اليمين في النوم 12/ 419/ 7031"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927/ رقم 2478" عن حفصة مرفوعا.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، ومضى تخريجه "1/ 177".(5/126)
3 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "8/ 260/ رقم 7873"، و"الأحاديث الطوال" "25/ 225- في "تفسيره" "2/ 312"، وأبو نعيم في "المعرفة" "3/ 272"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص252"، والبيهقي في "الدلائل" "5/ 289"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "1/ 204"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 284"، وابن حزم في "المحلى" "11/ 208" عن أبي أمامة الباهلي رفعه، فيه معان بن رفاعة لين الحديث، وعلى بن يزيد الألهاني متروك، فإسناده ضعيف جدا، كما قال ابن حجر في "الكافي الشاف" "ص77"، وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 372"، وقال ابن حجر في "الفتح" "3/ 266": "حديث ضعيف لا يحتج به"، وقال ابن حزم في "المحلى" "11/ 208": "وهذا باطل بلا شك"، وضعفها البيهقي بقوله: "في إسناده نظر" والقرطبي في "تفسيره" "8/ 210"، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" "1/ 66"، والهيثمي في "المجمع" "7/ 35"، وغيرهم.(5/127)
ص -449-…وقال لأنس: "اللهم كثر ماله وولده"1.
ودل عليه الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل وحد منهم، عملا بالفراسة الصادقة فيهم، وقال2: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه"3، فأعطاها عليا رضي الله عنه، ففتح الله على يديه.
وقال لعثمان بن عفان: إنه "لعل الله أن يقمصك قميصا: فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228/ رقم 1982، وكتاب الدعوات، باب قوله الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة 11/ 182/ رقم 6378"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب: منه 4/ 1928/ رقم 2480"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب لأنس بن مالك 5/ 682/ رقم 3829"، وأحمد في "المسند" "6/ 430" عن أم سليم "والدة أنس" وغيرهم.
2 هذا وما بعده للآخر يدخل تحت الاطلاع الغيبي، وهي عبارة مجملة تشمل ما كان من قبيل الوحي الملكي والإلهام، وأُتي بها كذلك؛ لتصح فيها المشاركة للأمة على ضرب من التسامح "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 70/ رقم 3701"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 4/ 1872/ رقم 2406" عن سهل بن سعد مرفوعا.
4 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 114" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "281، عثمان"- عن عائشة، وفي مسندها خلافا لما قاله ابن حجر في "أطراف مسند الإمام أحمد" =(5/128)
ص -450-…فرتب على الاطلاع الغيبي وصاياه النافعة، وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى، ثم قال آخر الحديث: "وأنتم اليوم خير منكم يومئذ"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "9/ 297/ رقم 12309": "وقع هذا في مسند عثمان"، ثنا محمد بن كناسة الأسدي ثنا إسحاق ابن سعيد عن أبيه، قال: بلغني أن عائشة قالت به، وهذا منقطع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 48-49"-ومن طريقه ابن أبي عاصم في "السنة "2/ 558-559/ رقم 1172"،وابن حبان في "الصحيح" "15/ 346/ رقم 6915- الإحسان" -ثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن عبد الله بن قيس عن النعمان بن بشير عن عائشة.
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 149" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "278- ترجمة عثمان"- عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية به، وفيه: "عبد الله بن أبي قيس".
وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم غير عبد الله بن قيس وهو اللخمي الشامي، وثقه ابن حبان في "الثقات" "5/ 45"، وروى عنه غير واحد، قال ابن حبان عقبه: "هذا عبد الله بن قيس اللخمي مات سنة أربع وعشرين ومئة، وليس هذا بعبد الله بن أبي قيس صاحب عائشة".(5/129)
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 628/ رقم 3705"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "277" من طرق عن معاوية بن صالح، وأحمد في "المسند" "6/ 86" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 276- ترجمة عثمان"- من طريق الوليد بن سليمان، كلاهما عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله -وتصحف في مطبوع "جامع الترمذي" إلى عبد الملك" فليصحح- ابن عامر عن النعمان بن بشير به، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وللحديث طرق أخرى، انظرها في "سنن ابن ماجه" "رقم 112"، و"المستدرك" "3/ 99-100"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 1174، 1179، 1180"، و"تاريخ دمشق" "ص276 وما بعدها-ترجمة عثمان".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 629/ رقم 3631، وكتاب النكاح، باب الأنماط ونحوها للنساء، 9/ 225/ رقم 5161"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب جواز اتخاذ الأنماط، 3/ رقم 3/ 1650/ رقم 2083" عن جابر مرفوعا: "هل لكم من أنماط؟" قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ قال: "أما وإنها ستكون لكم الأنماط"، =(5/130)
ص -451-….................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والتتمة المذكورة عند المصنف في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 647/ رقم 2476"-وقال: "هذا حديث حسن" من طريق هناد في "الزهد" "رقم 757" وإسناده ضعيف، كما في "الإصابة" "3/ 421"، وهو من طريق ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، وهو في القطعة المطبوعة من "سيرته" "174"، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "3/ 157" لأبي يعلى، وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 314": "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات".
قلت: إلا أن الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، منها: حديث واثلة بن الأسقع، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 23"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق 560"، وفي إسناده سليمان ابن حيان مترجم في الجرح والتعديل" "4/ 106"، و"التاريخ الكبير" "4/ 8"، و"تاريخ دمشق" "7/ ق 650-651"، ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ووقع في مطبوع "الحلية" تصحيف شنيع أوهم جامع "حديث خيثمة" "ص190" أنه من حديث خيثمة بن سليمان الأطرابلسين وكشفنا عن هذا الوهم في التعليق على "رجحان الكفة" "ص304" للسخاوي".
وحديث طلحة بن عمرو النصري، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 487"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 6684- الإحسان"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "رقم 1434، 1435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 277-278"، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص58"، والحاكم في "المستدرك" 3/ 15"، والبزار في "مسنده" "رقم 3673- زوائده"، والطيراني في "الكبير" "رقم 8160، 8161"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 524"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 374" من طرق كثيرة عن داود بن0 أبي هند به، وإسناده صحيح.(5/131)
وحديث سعد بن مسعود أخرجه هناد في "الزاهد" "رقم 759" وفيه الإفريقي عبد الرحمن بن أنعم وهو ضعيف،وسعد في صحبته اختلاف.
وحديث عروة بن الزبير أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 116"، ومن حديث أبيه الزبير أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 628-629"، وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذين وهو ضعيف.
وآخر من مرسل قتادة أخرجه أحمد في "الزهد" "37"، ومن مرسل سعد بن هشام أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 767".
ومن حديث إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه؛ أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 166"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 200"، وفي سنده الواقدي.
قلت: في الأصل: "يوضع".(5/132)
ص -452-…وأخبر بملك معاوية ووصاه1، وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية2، وبأمراء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المذكور عبارة القاضي عياض في "الشفا" "1/ 656"، ويعتمد المؤلف عليه كثيرا في نقل الأحاديث، وقال السيوطي في "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا" "رقم 733": "البيهقي من طرق عن معاوية".
قلت: أخرج أحمد في "المسند" "4/ 101" وابن أبي الدنيا وابن منده -كما في "البداية والنهاية" "8/ 123"- عن سعيد بن عمرو بن العاص يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة، فبينا هو يوضِّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين، فقال: "يا معاوية! إن وليت أمرًا، فاتق الله واعدل".
وهذا إسناد ضعيف؛ لأنه مرسل.
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" "13/ 370/ رقم 7380" ثنا سويد بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو بن العاص، عن معاوية به.
وهذا موصول، إلا أنه ضعيف؛ لضعف سويد بن سعيد، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 355-356": "رواه أحمد واللفظ له، وهو مرسل، ورواه أبو يعلى، فوصله، فقال فيه: عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباقي بنحوه، ورواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وقال في "الأوسط" ".... فأقبل، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
قلت: رواية أحمد مرسلة، وقد صرح الهيثمي بذلك "5/ 186"، ورواية أبي يعلى فيها سويد، فهي ضعييفة، وأفاد الهيثمي في "المجمع" "5/ 186" أن رواية الطبراني مختصرة عن عبد الملك بن عمير عن معاوية، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف، وقد وثق.
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 148- ط الهندوية و7/ 280- ط دار الفكر"، و" المسند" -كما في "المطالب العالية" "رقم 4085"، ومن طريقه قوام السنة في "الحجة" "2/ 376/ رقم 378"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 446" عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير به.(5/133)
قال البيهقي عقبه: "إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث" ثم =(5/134)
ص -453-…...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: "غير أن لهذا الحديث شواهد" وذكر مرسل سعيد بن عمرو بن العاص، وقال: "ومنها حديث راشد بن سعد عن معاوية مرفوعا: "إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم".
قلت: الحديث الأخير أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4888، 4889"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 248"، والطبراني في "الكبير" "19/ 890"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5760- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 333"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 118" بإسناد صحيح باللفظ المذكور، وهو بعيد في شهادته للفظ المصنف، ولا يستلزم من عدم تتبع عورات الناس الإمارة عليهم، إلا أن يستشهد بلفظ حديث المقدام بن معدي كرب وأبي أمامة مرفوعا: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم".
أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4889"، وأحمد في "المسند" "6/ 4"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 378" بإسناد حسن.
فبمجموع الحديثين يتأيد سياق البيهقي على أن المذكور أخيرا شاهد غير الحديث الذي أورده المصنف وهو صحيح، فتأمل، والله أعلم.
وأخرجه قوَّام السنة في "الحجة" "رقم 379" عن طريق الحسن عن معاوية رفعه: "أما إنك ستلى أمر أمتي من بعدي"، وفيه يحيى بن غلاب، عن أبيه، قال الذهبي في "المغني" "رقم 7030" وتبعه ابن حجر في "اللسان" "6/ 273": "ذكر خبرا موضوعا في فضائل معاوية".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد 1/ 541/ رقم 447، وكتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله 6/ 30/ رقم 2812"، وأحمد في "المسند" 3/ 5، 22، 28، 91" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية".(5/135)
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2235"، وأحمد في "المسند" 5/ 306، 306-307" من طريق أخرى عن أبي سعيد مرفوعا: "بؤس ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية". والحديث مشهور متواتر، كما نص عليه ابن عبد البر في "الاستيعاب" "2/ 481"، وابن حجر في "الإصابة" "2/ 512". وانظر: "تالي التلخيص" 254" للخطيب، وتعليقنا عليه.(5/136)
ص -454-…يؤخرون الصلاة عن وقتها1 ثم وصاهم كيف يصنعون، وأنهم سيلقون بعده أثرة، ثم أمرهم بالصبر2 إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق، والتحذير والتبشير، وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى.
والثاني:
عمل الصحابة رضي الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول أبي بكر: "إنما هما أخواك وأختاك"3.
وقول عمر: "يا ساريةُ! الجبلَ" 4، فأعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكَب في الركوع ونسخ التطبيق 1/ 378-379" عن ابن مسعود ضمن حديث طويل فيه: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها".
وأخرجه أحمد وابنه في "المسند" "1/ 399-400"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2865" عن ابن مسعود، وصرح برفعه، وإسناده قوي على شرط مسلم.
2 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" 7/ 117/ رقم 3792"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم 3/ 1474/ رقم 1845" عن أسيد بن حضير مرفوعا: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
3 قاله رضي الله عنه لابنته عائشة لما أبطل نحلته لها عشرين وسقا. أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484- رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 468- رواية يحيى الليثي وص236- رواية سويد بن سعيد- ط دار الغرب"، وإسناده صحيح، وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر.(5/137)
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286- ترجمة عمر و7/ ق 10-13 ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، وابن =(5/138)
ص -455-…ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس، وقال: "أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا"1
وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان، فقال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: "كنت مع الآية الممحوة، لا تلى [لي] عملا أبدا"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5" بأسانيد بعضها حسن، كما قال الحافظ ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضا".
وألف القطب الحلبي في صحته جزء قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461".
1 أخرج أحمد في "المسند" "1/ 18"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 10" نحوه بسند صحيح"، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "233"، والهيثمي في "المجمع" "1/ 189"، وأفاد السيوطي أن ابن عساكر أخرج نحوه أيضا "ص239"، والمذكور لفظ الإحياء" "3/ 326".(5/139)
2 حكاه أبو سعد الواعظ في كتابه "تفسير الأحلام الكبير" "ص262"، وأفاد صاحبه أن القصة وقعت لقاضي حمص مع عمر، وفي آخرها: "وصرفه عن عمل حمص، فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفين، فقتل"، ثم ظفرت به مسندا، فعزاه الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" إلى أبي يعلى، قال: حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عمر به، ثم ظفرت به من طريق حماد عند ابن أبي الدنيا في "الإشراف" "رقم 255". ورجال إسناده ثقات، إلا أن إسناده ضعيف، حماد سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعده ولم يتميز حديثه، فترك، وفي سماع محارب من عمر نظر، انظر ترجمة "محارب" في "تهذيب الكمال" "27/ 255"، وتابع حمادا ابنُ فضيل، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 241- ط دار الفكر"، ولكن فيه: "عن عطاء، قال: حدثني غير واحد أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب، فقال....." وذكر نحوه، ولم يعزه في "كنز العمال" "11/ 349/ رقم 21709" إلا له.
فائدة: طبع كتاب "تفسير الأحلام الكبير" منسوبا لابن سيرين وهو خطأ، وصوابه أنه لأبي سعد الواعظ، وكنت نفيت صحة نسبته لابن سيرين في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 275 وما بعدها"، وسردت أدلة على ذلك، ووقفت فيما بعد على اسم مؤلفه، وهو ممن يروي عن ابن جميع الصيداوي وطبقته.(5/140)
ص -456-…ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور، والكلام فيه يحتمل بسطا، فلنفرده بالكلام عليه، وهي:(5/141)
ص -457-…المسألة الحادية عشرة:
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتُعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية1، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطِّراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف، وإذا كان كذلك، فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة، فهو فاسد باطل.
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تحكم بهذه الشهادة، فإنها باطل"، فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي، ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة2، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تقعيد ذلك والأدلة عليه في: "الاعتصام" "2/ 153، وما بعدها" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 226، 227، 10/ 473-474 و13/ 73-176 و20/ 45 و11/ 77، 208-210، و20/ 42-47"، و"شرح العقيدة الطحاوية" "ص498، 500" و"مدارج السالكين" "3/ 228"، و"شرح مراقي السعود" "288"، وأضواء البيان" "4/ 159"، و"قطر الولي" "ص252"، و"الجامع لأخلاق الراوي" "1/ 80"، و"الفروق" "4/ 244"، و"فتح الباري" "12/ 388"، و"إرشاد الفحول" "249"، و"قواعد التحديث" "ص149"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 146" للأشقر، و"مشتهى الخارف الجاني" "ص268".(5/142)
2 انظر نص فتوى ابن رشد في "فتاويه" "1/ 611-612"، ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "10/ 217-218"، وانظر في المسألة أيضا: "البحر المحيط" "1/ 62-63" للزركشي، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 262-263"-ط رشيد رضا و1/ 334-335، ط ابن عفان"، وذكر فيه ما حكاه عن ابن رشد.(5/143)
ص -458-…وما روي "أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت"1، فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل.
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة2 بالمال لزيد على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك، لجاز نقض الأحكام3 بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال، فكذا ما نحن فيه.
وقد جاء في "الصحيح": "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقعت له هذه الرؤيا مع صهيب، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "7/ 240- ط دار الفكر"، وكذا أمضى عمر رؤيا في المنام، كما تراه في "مصنف عبد الرزاق" "9/ 242".
2 لعلها: ولا الحكم. "د".
3 أي: وإبطالها بعد صدورها من القاضي اعتبارا بأن الكشف أظهر الخطأ البين الذي ينقض به الحكم غير صحيح، فكذا ترك موجبات الحكم بحسب الظاهر على مقتضى قواعد الشريعة تعويلا على كشف أو غيره لا يكون صحيحا، وقد يقال: إن نقض الأحكام إنما يكون في جزئيات نادرة مقيدة بقيود كثيرة، فهو أبعد من ترك بعض موجبات الحكم إذا حصل تعارض بينها، فالملازمة ممنوعة؛ أي أنه لا يلزم من التنحي عن الأخذ بالشهادة المعتبرة شرعا إلى الأخذ بالكشف لزوم نقض الحكم الذي صدر بالفعل بناء على هذه الشهادة لحصول الكشف؛ وذلك لأن نقض الأحكام يترتب عليه فساد كبير وتعليل للأحكام، كما أشار إليه المؤلف في موضع آخر. "د".(5/144)
ص -459-…ألحنَ بحجته من بعض، فأحكم له على نحو ما أسمع منه"1 الحديث، فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يُطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم2، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه.
وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت3 عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور، والقائل4 بصحة حكم الحاكم بعلمه، فذلك بالنسبة إلى العلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 5/ 288/ رقم 2680، وكتاب الحيل، باب منه 12/ 339/ رقم 6967"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337/ رقم 1713" عن أم سلمة مرفوعا.
2 لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة، والحكم بطريق الباطن غير الحكم بما علمه من طريق الرؤية أو السماع، وهذا هو الذي يعد بعضهم الحكم به من خصائصه عليه السلام، ويرى آخرون أنه طريق مشروع لغيره من القضاة، إما بإطلاق، وإما في مواضع مخصوصة، ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: "فأقضي له على نحو ما أسمع"، فإن التنصيص على السماع* لا ينفي حكمه [على] بعض الوقائع على حسب ما علم فيها بالطرق المعهودة من رؤية أو سماع، والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ؛ لأنه حكم بما أمر الله. "خ".
3 في "ط": "شهد".(5/145)
4 قال ابن العربي في "كتاب الأحكام" "اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يَقتُل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، هل يحكم بعلمه أم لا؟" "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل: "إسماع".(5/146)
ص -460-…المستفاد من العادات، لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره1 رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، قال: "ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي2 جزء في الرد عليه"، هذا ما قاله، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما:
أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين، فهمَّ أن يأكل منها فنادته الشجرة: أن لا تأكل مني فإني ليهودي3.
وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة؛ فليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنوَّ منها زُجِرَ عنها، فامتنع وخرج، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد كان يطلع على ما في الأمر من حق وباطل، ومع ذلك كان يعول في حكمه على القانون الشرعي من اعتبار مقتضى الظواهر. "د".
2 هو محمد بن أحمد رئيس الشافعية في وقته، كان يلقب بالخبير لدينه وورعه وعلمه وزهده، توفي سنة "507هـ"، له ترجمة في "السير" "19/ 393"، وانظر مدح ابن العربي له واستفادته منه في كتابه "قانون التأويل" "ص111-113"، ونقله المزبور في "أحكام القرآن" "3/ 1131"، وعنه القرطبي في "التفسير" "10/ 44-45" "النحل: 75".
3 أي: مملوكة، وليست من أشجار البادية الخالية من الملكية، وأما كونها ليهودي بهذا الوصف، فلا تأثير له في أصل الحكم، ولكنه يفيد زيادة ورع حتى إنه تنحى عنها وهي لكافر. "د".
قلت: القصة في "رسالة القشيري" "ص173-174" -وليس فيها: "فإني ليهودي"- و" الاعتصام" "1/ 271- ط ابن عفان".(5/147)
4 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص167"، وعلق عليها بقوله: "هذه هي الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم.(5/148)
ص -461-…وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها، هل هذا المتناول حلام أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه1.
وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم. وقال: "ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة" ومات بشر بن البراء2 الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك القول، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار.
وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها، فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه الحكم3 بالقصاص، وفي قصة الخضر في خرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص12" والمصنف في "الاعتصام" "1/ 270- ط ابن عفان".
2 هذا لفظ أبي داود في "السنن" "كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ 4/ 174-175/ رقم 4512" عن أبي هريرة، ونقله المصنف من "الشفا" للقاضي عياض "1/ 607"؛ فإنه كثير المتابعة له في ذلك.
وأصل الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في سَم النبي صلى الله عليه وسلم 10/ 244/ رقم 5777، وكتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سُمَّت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر 7/ 497/ رقم 4249" عن أبي هريرة مطولا ومختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين 5/ 230 / رقم 2617"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب السم 4/ 1721/ رقم 2190" عن أنس رضي الله عنه.
3 في الأصل: "الحكم عليه".(5/149)
ص -462-…السفينة وقتل الغلام1، وهو ظاهر في هذا المعنى، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكرامات الأوليات رضي الله عنهم.
والثاني:
أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب، فكذلك ههنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره.
2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "11/ 65-66": "وأما خواص الناس، فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يَزِنُوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صديقه التابع له الآخذ عنه، الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه.(5/150)
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة، لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا، فهو كافر".
وأسهب رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "13/ 68-70" في ذكر الحجج والأدلة على الاستئناس بالمكاشفات التي لا تضاد الشريعة، وبين أنه لا يجوز الاعتماد عليهم بالكلية، وفي هذا يقول علي القاري رحمه الله تعالى في رسالته "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة" "ص16- بتحقيقي: "لا اعتبار لمكاشفات الأولياء ومحاضرات الأصفياء، بحيث يعتمد عليها بالكلية في الأمور الشرعية، أو في الأطوار الحقيقية، فإن الإنسان ما دام في هذه الدار المشوبة بالأكدار لا تصفى له الأسرار، ولا تتجلى له الأنوار، بخلاف الأنبياء الأبرار والرسل الكبار، ولذا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق: 22].
قلت: سيأتي في القسم الأخير من الكتاب إشارة من المصنف في الفرق بين إلهامات الأنبياء وغيرهم، فانظره هناك، تولى الله هداك.(5/151)
ص -463-…ومن فرق بينهما، فقد أبعد.
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا، وعملا بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:
أحدهما:
الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به في القياس ما كان في معناه، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم [من]1 حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به من حيث كان معجزا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ2 في شريعتنا، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه3 بعض العلماء، بناء على ما ثبت عنده من العادات، أما قتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه القصة في معناه، حتى يقاس عليه، فلا نعول إلا على ما كان قد صدر في معناه شيء في شرعنا، فنلحق به بطريق القياس. "د".
قلت: انظر تعليقنا على الهامش الآتي.
3 أي أنه إذا قامت القرائن المؤكدة أن المال لا ينجو من الغصب إلا بهذا العمل، فلا مانع منه، أي: وعليه فلا حاجة إلى دعوى النسخ. "د".
ومن الجدير بالذكر أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما كما قدمنا أن الخضر قال له: "يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه". وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في "الصحاح" من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء، قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج =(5/152)
ص -464-…...................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنى على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل، وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه.
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان قد يكون أفضل من الأول، مثل شخصين دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف، وذلك مباح في الشريعة، والآخرالذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف.
وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة إذا علموا ذلك أن يخرقوها؛ لئلا يأخذها الملك؛ لأن بقاءها مع الخرق فيها خير من انتزاعها منه.
وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه؛ لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال، ولهذا ثبت في "صحيح البخاري" أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان، قال: "إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام، فاقتلهم، وإلا، فلا تقتلهم".(5/153)
وكذلك في "الصحيحين"، أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد وكان مراهقا لما ظنه الدجال، فقال: "إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله"، فلم يقل: إن يكنه، فلا خير لك في قتله، بل قال: "فلن تسلط عليه" وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه؛ لقطع فساده لم يكن ذلك محذورا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم، كان الأخص عديم التأثير.
وأما بناء الجدار، فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بيَّن الخضر أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعا.=(5/154)
ص -465-….................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمقصود من هذا كله أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق، أفاده شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "11/ 420 وما بعدها".
ولله در أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله تعالى، فقد قال فيما نقله عنه تلميذه الإمام القرطبي المفسر في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن" "11/ 40-41" ما نصه: "ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم.
وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم كما كان عند موسى من تلك الفهوم.
وقد جاء فيما ينقلون: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون".
قال الإمام القرطبي: "قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول -أي: قول الزنادقة، هذه الأحكام....- زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسالة السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عن رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75].
وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124].(5/155)
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213].... إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريقة لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها، إلا من جهة الرسل. فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر يُقتَل ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب.
ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة" ا.هـ. ونحوه في "7/ 39".(5/156)
ص -466-…الغلام، فلا يمكن القول به، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند فلان.
والثاني:
على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى؛ إذ الجاري عليها العمل بالقياس ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي1 هو الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك"2، فإذن لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذ هو".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 193، 194، 194-195" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "22/ 219"/ رقم 585"، و"مسند الشاميين" "رقم 782" وأبو نعيم في "الحلية "2/ 30"- وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ ق 10" عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" وإسناده جيد، كما قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 95"، وورد نحو لفظ المصنف من حديث وابصة بن معبد الجهني، أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 228"، والدارمي في "السنن" "2/ 245-246"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1586-1587" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 292" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 703"- وإسناده ضعيف منقطع، فيه الزبير أبو عبد السلام وهو ضعيف، وبينه وبين أيوب بن عبد الله بن مكرز انقطاع، أفاده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94"، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ =(5/157)
ص -467-…من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: "خوفا أن يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه"1، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 227"، والطبراني في "الكبير" "22/ رقم 402"، والبزار في "مسنده" "رقم 183- زوائده"، والبيهقي في الدلائل" "6/ 292"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 702" بإسناد فيه أبو عبد الله الأسدي، وسماه بعضهم أبو عبد الرحمن السلمي، وهو مجهول، وقيل فيه أشد من ذلك.(5/158)
قال البزار: أبو عبد الله الأسدي لا نعلم أحدا سماه"، وقال فيه الهيثمي في "المجمع" "1/ 175": "ولم أجد من ترجمه"، وأفاد أن الرواة اختلفوا في كنيته، وهو هو، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94": "والسلمي هذا قال علي بن المديني: مجهول، وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال البزار: لا نعلم أحدا سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات "عند ابن عساكر" محمدا، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ: لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب لما دفعت ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة، وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 6/ 546/ رقم 3518" عن جابر ضمن قصة: "قال: عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لئن رجعنا =(5/159)
ص -468-…لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه [ظاهر]1 واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"2، ولم يستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر: ألا نقتُل يا نبي الله هذا الخبيث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه".
وأخرجه بنحوه البخاري أيضا "كتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم} 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} 8/ 653/ رقم 4905".
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني، عن الفريابي: ثنا سفيان، عن نافع، عن أبي مليكة، عن ابن عباس رفعه، بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي".(5/160)
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه/ رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود/ رقم 2668، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه / رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي".
وذكر "البينة....." من أخطاء سفيان أو الفريابي، فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث باللفظ المذكور: ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة"، ونحوه عند ابن القيم في "الطرق الحكمية" "87-88، 110-111".(5/161)
ص -469-…في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: "من يشهد لي؟"، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين1، فما ظنك بآحاد الآمة؟ فلو ادعى أكفر2 الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدُّوا أنه من الشيطان، وإذا ثبت هذا، فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة3.
وما ذكر من تكليم الشجرة، فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم، كما لو وجد في الفلاة صيدا، فقال له: إني مملوك، وما أشبه ذلك، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله، أو ظن طعام بموضع آخر، أو غير ذلك، وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحا له، فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به 3/ 308/ رقم 3607"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع 7/ 301-302"، وأحمد في "المسند" "5/ 215-216"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 115، 116/ رقم 2084، 2085"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 87"، والطبراني في "الكبير" "4/ 101/ رقم 3730"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17-18"، وإسناده صحيح.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "خص الله خزيمة بهذه المزية دون سائر الصحابة؛ مكافأة له؛ حيث بادر إلى الشهادة للنبي عليه الصلاة والسلام على مبايعة الأعرابي مستندا في تصديقه إلى البراهين القائمة على عصمته من أن يقول على الله أو يدعي على مخلوق ما ليس بحق".(5/162)
2 كذا في الأصل وفي "د"، وفي النسخ المطبوعة: "أكبر" بالباء. قال "د": "لعلها أكذب".
3 أي: لما يأتي بعدُ. "د".(5/163)
ص -470-…ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتفلا من جائز إلى مثله، فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر، واعتمادا على الشرع في معاملته به، فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض، كيف وهي نتائج عن اتِّباعه، فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع، أو يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون البتة.
وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "إن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان"1، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه، ومع ذلك، فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"2، فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين3 شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج، لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها.
والجواب على4 السؤال الثاني: أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور 8/ 449/ رقم 4747" من حديث ابن عباس، ولفظ آخره: "أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
وورد الحديث عن ابن مسعود وسهل بن سعد رضي الله عنهم بألفاظ متعددة.
2 انظر تخريج الحديث السابق.
3 في الأصل: "حينئذ"، وفي "ط": "مع".
4 في "ط": "عن".(5/164)
ص -471-…فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق، إذا1 لم يثبت ذلك شرعا معمولا به، وأيضا، فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق، كالرؤيا غير الموافقة، كمن يقال له: "لا تفعل كذا"، وهو مأمور شرعا بفعله، أو "افعل كذا"، وهو منهي عنه، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.
فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها.
قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها مع الموافقة، فليس بمنفي.
فصل:
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط، فأين يسوغ العمل على وفقها؟
فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم، وذلك على أوجه:
أحدها:
أن يكون في أمر مباح، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل، وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر، فهذا من الجائز له، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.
والثاني:
أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إذ".(5/165)
ص -472-…على نفسه ما لعله يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره، والكرامة كما أنها خصوصية، كذلك هي فتنة واختبار، لينظر كيف تعملون، وقد تقدم ذكره، فإذا عرضت حاجة، أو كان لذلك سبب يقتضيه، فلا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات1 للحاجة إلى ذلك، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه "يراهم من وراء ظهره" لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث2، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم شيئا من الغيب، إلا بما أظهره الله عليه، وهذا في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27].
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة 1/ 514/ رقم 418، وكتاب الأذان، باب الخشوع في الصلاة 2/ 225/ رقم 741"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها 1/ 319/ رقم 423"، وأحمد في "المسند" "2/ 303، 375"، وأبو عوانة في "صحيحه" "2/ 152"، جميعهم من طريق مالك في "الموطأ" "1/ 167" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: "إني لأراكم من وراء ظهري".(5/166)
وقد اختُلِف في معنى هذه الرؤية، فقيل: الوحي أو الإلهام، وقيل: تنطبع صور من خلفه في حائط قبلته، وقيل: يرى من عن يمينه ومن عن يساره، وقيل: يراهم من عينين كانا بين كتفيه، أو من وراء ظهره يبصر بهما، لا يحجبهما شيء، وهذا كله تكلف ظاهر، والصواب ما قاله الإمام أحمد فيما نقل عنه ابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 346"، قال: "أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن، قال: أخبرنا عبد الحميد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال: أخبرنا الخضر بن داود، قال: أخبرنا أبو بكر الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل رحمه الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أراكم من وراء ظهري"؟ فقال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله. فأنكر =(5/167)
ص -473-…كراماته ومعجزاته، فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى1 منه في الوجه الأول، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم، ولا يخلو إخباره من فوائد، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا.
والثالث:
أن يكون فيه تحذير أو تبشير؛ ليستعد لكل عدته، فهذا أيضا جائز، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا، فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا، كما روي عن أبي جعفر بن تركان، قال: كنت أجالس الفقراء، ففتح علي بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه، فهاج بي وجع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ذلك إنكارا شديدا".
قلت: ومن الجدير بالذكر أن هذه الرؤية محصورة وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولم يتم دليل على عمومها، وانظر حولها: "الشفا" "1/ 92"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "4/ 149"، و"فتح الباري" "1/ 514"، و"الخصائص الكبرى" "1/ 61" للسيوطي، و"غاية السول" "ص271-272"، و"الرسالة الناصرية" "ص34" للزاهدي.
قال الشيخ "خ": "هذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من حمل الرؤية في حديث: "إني لأراكم من وراء ظهري" على ظاهرها، أعني: الرؤية البصرية، وذهب فريق آخر إلى أنها رؤية القلب، وهي على كلا الوجهين آية صدق وعلم من أعلام النبوة، ولا يطعن في هذا الحديث سؤاله عليه الصلاة والسلام كما ورد في بعض الأحاديث عن أناس صدرت منهم أفعال أو أقوال في حال ائتمامهم به في الصلاة، فإنه كان عليه السلام يترقى في فضائله الخاصة ولا سيما ما كان من نوع المعجزة، فكانت تخلع فيه فضيلة بعد أخرى فيصح أن تكون هذه المزية ما أكرمه الله بها بعد وقائع السؤال".(5/168)
1 لأن الأول لم ينظر منه إلى الفائدة التي يرجو نجاحها، بل مجرد أمر جائز، أما هنا، فإنه وإن كان جائزا أو في حكمه خشية العوارض، إلا أنه مقيد بأن يكون لفائدة يرجو نجاحها. "د".(5/169)
ص -474-…الضرس فقلعت سنا، فوجعت الأخرى حتى قلعتها، فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة1.
وعن الروذباري2 قال: فيَّ استقصاء في أمر الطهارة، فضاق صدري ليلة؛ لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي، فقلت: يا رب! عفوك، فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك.
وعلى الجملة، فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في3 العمل بمقتضى الخَوارق، وهو المطلوب، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة؛ لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره القشيري في "رسالته" "ص168" وعلق عليه بقوله: "وهذا في باب الكرامة أتم من أن يضع عليه دنانير كثيرة ينقض العادة".
2 هو أحمد بن عطاء، والمنقول عنه عند القشيري في "رسالته" "ص163"، وفيها عنه: "كان لي استقضاء في أمر الطهارة.....".
3 في الأصل: "وفي"، وفي "ط": "كان بي......".(5/170)
ص -475-…المسألة الثانية عشرة:
إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل كل ما في الظاهر، والدليل على ذلك أشياء.
- منها: ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة.
- والثاني: أن الشريعة حكامة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر، أو ما أشبه ذلك، لكان غيرها حاكما عليها، وصارت هي محكوما عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
- والثالث: أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك، بل أعمالا من أعمال الشيطان، كما حكى عياض1 عن الفقيه أبي ميسرة المالكي2 أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر، وقال له: "تملأ من وجهي يا أبا ميسرة، فأنا ربك الأعلى"، فبصق فيه وقال له: اذهب يا لعين عليك لعنة الله.
وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة3: "يا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "3/ 359- ط بيروت".
2 اسمه أحمد بن بزار، يكنى بأبي جعفر، من الفقهاء العباد المتبتلين، وكان مجانبا لأهل الأهواء، توفي سنة 337هـ"، أفاد القاضي عياض.
3 في "ط": "السحابة".(5/171)
ص -476-…فلان! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات". فقال له: اذهب يا لعين. فاضمحلت السحابة. وقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: "قد أحللت لك المحرمات"1.
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية.
وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خوليد زوجه رضي الله عنها، فإنها قالت له: "أي ابن عم! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فلما جاء أخبرها، فقالت: قم يا ابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم. ثم حولته إلى فخذها اليمنى، ثم إلى حجرها، وفي كل ذلك تقول: هل تراه؟ فيقول: نعم. قال الراوي: فتحسرت، وألقت خمارها، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. وفي رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك فقالت: يا ابن عم! اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك، ما هذا بشيطان2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها ابن العماد في "شذرات الذهب" "4/ 200"، وانظر: "مشتهى الخارف الجاني" "ص65".
2 أخرجه ابن إسحاق- كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 192" - حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حُدِّثَ عن خديجة به، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 151- 152"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 172، 174".
وإسناده منقطع، وفي متنه نكرة، إلا أن يقال ما أورده البيهقي عقبه: "قلت: وهذا شيء كانت خديجة رضي الله عنها تصنعه، تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقها، فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى".(5/172)
قال ابن إسحاق عقبه: "فحدثت عبد الله بن الحسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: "أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.
قلت: وعبد الله بن الحسن هو ابن حسن بن على بن أبي طالب، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو حاتم: وفاطمة بنت الحسين هي أمه، كما قال الذهبي في "تراجم رجال روى محمد بن إسحاق عنهم" "ص36"، فهذه الرواية إسنادها صحيح.(5/173)
ص -477-…ولا يقال: إن ثم مدارك أخر يختص بها الوالي، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي لأنا نقول: إن كان كما قلت على فرض تسليمه، فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق؛ إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة، فلا بد إذا من حَكَمٍ يحكم بصحتها، وشاهد يشهد لها، وإذ ذاك يلزم التسلسل، وهو محال، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان، "[فإن الوجدان]1 من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحة ولا فساد2؛ لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر، ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله، ومذموما إذا كان لغير الله، ولا يفرق بينهما3 إلا النظر الشرعي؛ إذ لا يصح أن يقال: هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي؛ لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا؟ فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم؛ لأن البحث جارٍ فيه أيضا.
وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها؛ إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "صحته ولا فساده".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بينها".(5/174)
ص -478-…فإذا وردت على صاحبها، فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له، كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا، ولا يتعلق بها حكم شرعي، كذلك في مسألتنا، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير، كما إذا أتلف المجنون مالا، أو قتل نفسا، أو شرب خمرا في حال جنونه، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون1، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات، فلا يفون، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم2 إلى ما أشبه ذلك، فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة؟
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة، وما اعترض به لا اعتراض به، فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها، فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات3. وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما كان لأهل العلم أن يأخذوا مثل هذه الدعوى مسلمة، ويثقوا بأن تكون الغفلة عن بعض الواجبات الشرعية ناشئة عن حال هي أثر من آثار الارتقاء في مقام التقوى والولاية، ويكفي للتوقف في صحتها أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الذين هم أصفى الناس بصائر، وأشدهم صلة بالله، وأرفعهم لديه منزلة، أنه استغرق في حال من المكاشفات يقظة حتى مضى عليه وقت من أوقات الصلاة. "خ".
2 وهو محرم بحسب الشريعة، لكنهم مقهورون عليه ليس لهم فيه اختيار. "د".(5/175)
3 ليس هذا على إطلاقه، نعم، عدم تعرض المصنف للذي ليس له تعلق بقدرة المكلف حسن، فقد نقل المقري شيخ المصنف في كتابه "القواعد" "2/ 465-466" في "القاعدة الثالثة =(5/176)
ص -479-…......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعشرين بعد المئتين" عن المازري قوله: "تقدير خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء، أي: من عاداتهم لما فيه من تضييع الزمان بما لا يعني أو غيره"، ثم قال: أما الكلام على المحقق من ذلك، فقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي كسنة، أتجزئ فيه صلاة يوم؟ فقال: "لا، اقدروا له قدره" [والحديث في "صحيح مسلم" "4/ 2252].
قلت: على حسب الشتاء والصيف معتبرا أوله بالزمان الذي ابتدأ فيه. وقد نزل الشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعتذر عن الغزالي بأنه تكلم على ما يقتضيه الشرع غير ملتفت إلى الحساب، أو على ما يقتضيه الفقه لو تأتى، ورده المازري بالقاعدة" انتهى.
ونص كلام الشافعي في "الأم" "1/ 239- 240": وإن كسفت الشمس يوم الجمعة ووافق ذلك يوم الفطر بدأ بصلاة العيد، ثم صلى الكسوف إن لم تنجل الشمس قبل أن يدخل في الصلاة".
وكسوف الشمس لا يمكن أن يقع إلا في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، والعيد إنما يكون في اليوم الأول من الشهر في عيد الفطر، أو في عاشره في عيد الأضحى، فمن هنا استحال اجتماع عيد وكسوف.
انظر: "حاشية الدسوقي على شرح الكبير" "1/ 404"، و"التاج والإكليل" "2/ 204".
بقي بعد هذا أن يقال:
هل للمؤمن أن يعمل على حصول الكرامات الخارقة؟
الخارقة فعل اضطراري من الله تعالى، ولكن بيد النبي أو الولي أسباب بعض هذه المسببات، كرميه صلى الله عليه وسلم التراب في وجوه الكفار، فأوصله الله إلى أعينهم، وعندما عطش الجيش طلب النبي صلى الله عليه وسلم بقية ماء في قدح، فوضع يده فيه، فنبع الماء من بين أصابعه حتى ملأ الجيش كل ما عندهم من الآنية، فهذا الرمي منه صلى الله عليه وسلم، ووضع يده فيه، ودعاء الله هو سبب حصول المعجزة.(5/177)
فهل للمؤمن أن يقتدي بذلك؛ أن يحاول بالرياضة التوصل إلى التمكن من ذلك، وأن يفعل الأسباب الموصلة إلى الخوارق؟
ذهب الجويني في "الإرشاد" "ص316"، وعليش في "هداية المريد"، والسنوسي في "شرح هداية المريد" "ص177" إلى أن كرامة الولي لا تقع بقصد منه، بل تقع دون قصد.
وجوز المصنف وقوعها بالقصد، وتابع القشيري في "رسالته" "ص662- تحقيق عبد الحليم =(5/178)
ص -480-…المكلف بها أمرا أو نهيا، ومسبباتها خلق لله، فالخوارق من جملتها.
وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات، فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب، لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، والاعتدال والانحراف، فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة1، فكما أن يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها، كذلك ما نحن فيه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16].
وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52].
"إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محمود" على ذلك، وبنى عليه في الوجه الثالث عشر من "المسألة العاشرة" المتقدمة قريبا جواز تحدي الولي بالخارق لإثبات ولايته، وانظر: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 258" للأشقر، ونقل ابن تيمية في "قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات" "ص25" عن أبي علي الجوزجاني قوله: "كن طالبا للاستقامة، وربك يطلب منك الاستقامة" وعلق عليه بكلام جيد، ثم قسم طالبي الكرامات "ص37" إلى أقسام، وقرر أن بعضهم أعذر من بعض في ذلك، فراجع كلامه إن أردت الاستزادة.
1 ليس هذا على إطلاقه كما سبق بيانه في التعليق على "440-441".(5/179)
2 قطعة من حديث إلهي طويل أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495"- وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "تاريخه" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213، 214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(5/180)
ص -481-…وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات، فالموضع مقطوع به في الجملة.
وإذا ثبت هذا، فما ظهر في الخارقة من استقامة او اعوجاج، فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك، فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها، فلا تسلم لصاحبها، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف، فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله، لكان منسوبا إليه، ولتوجه التكليف إليه، كالشكر1 ونحوه، فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها، لا يخرج عن حكمه شيء منها والله أعلم.
فصل:
ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك2، فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا، فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله السكر بالسين يدخله على نفسه بشرب المسكر مثلا فيكون معاملا بنتائجه. "د".
2 في الأصل: "هنالك".(5/181)
ص -482-…وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة1 من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا، كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف، وهو يقول: أنا ربك، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: أنا ربك، أو يرى ويسمع من يقول له: قد أحللت لك المحرمات، وما أشبه ذلك من الأمور لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على هذا ما سواه، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وارداة".(5/182)
ص -483-…المسألة الثالثة عشرة
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين1، وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما بنبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف.
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك، ولتعتبر2 بشريعتنا، فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد3، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه، ولو اختلفت العوائد في الموجودات، لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب، فلا تكون الشريعة على ما هي عليه، وذلك باطل.
والثاني:
أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة4 إلى قيام الساعة، كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكانت تابعة لفطر وغرائز فيهم، أم كانت تابعة للموجودات الأخرى التي لهم بها علاقة وارتباطا ما في هذه الحياة، كما يؤخذ من تقريره بعد. "د".
2 في "د" ولنعتبر".
3 فمثلا كل مكلف مطلوب بالصلوات الخمس جزما، والصبح ركعتان للجميع، والظهر أربع كذلك، وشرائطها وأركانها واحدة، ومبطلاتها واحدة، وآدابها واحدة، لا اختلاف في ذلك بين عصر متقدم ولا زمان متأخر؛ لأن العوائد التي بنى عليها الشارع تكليفه مستقرة، فلا تكون في قرن من القرون حرجة وفي قرن ميسورة، وقس على ذلك بقية التكاليف. "د".
4 في نسخة "ماء/ ص 208": "مختلة".(5/183)
ص -484-…فيهما من المنافع1 والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره2 بحال، فإن الخلاف بينهما "محال"3.
والثالث:
أنه لولا أن اطراد العادات معلوم، لما عرف الذين من أصله، فضلا عن تعرف فروعه؛ لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة4 المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة، علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق، فلو كانت العادة غير معلومة، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا5 لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم حاصل، فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمنافع الشمس والقمر وسائر الكواكب، والماء والنار، والأرض وما عليها، والبحار وما فيها، والتصاريف أي الأسباب والمسببات في هذه الأمور وفي أفعال الإنسان والحيوان، وما ينشأ عن ذلك، والأحوال، أي من الحياة والموت والصحة والمرض والملاذ والشهوات، إلى غير ذلك من السنن الكونية التي ربط بها الخالق هذه الكائنات. "د".
2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص 209": "بخلاف غيره".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 في "ط": "بوساطة".
5 لأن لا سبب للعلم بالمصدق إلا العلم باستقرار العادة، وأن خرقها لا يكون بدون الدعوة والتحدي، فقوله: لأن وقوع..... إلخ" تكميل لتوجيه الملازمة. "د".
قلت: في الأصل: "حصل العمل العلم" ولا محل لهذه الزيادة.(5/184)
ص -485-…فإن قيل: هذا معارض بما يدل على أن اطِّراد العوائد غير معلوم، بل إن كان فمظنون، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
أن استمرار أمر في العالم مساوٍ لابتداء وجوده؛ لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر، والإمداد ممكن أن لا يوجد، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن1 الأول كان ممكنا فلما وجد حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم، فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن، وعدمه كذلك، فإذا كان كذلك، فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده، هل هذا إلا عين المحال؟
والثاني:
أن خوارق العادات في الوجود غير قليل، بل ذلك كثير، ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات، والوقوع زائد على مجرد الإمكان، فهو أقوى في الدلالة، فإذن لا يصح أن أن يكون مجاري العادات معلومة البتة.
فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا، وإنما اندفع بالسمع القطعي، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة، لم يفد حكم الجواز العقلي.
ولا يقال: إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال.
لأنا نقول: إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد، وليس كذلك هنا، بل الجواز العقلي هنا باقٍ على حكمه في أصل الإمكان، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع، وكم من جائز غير واقع؟!
وكذلك نقول: "العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الزمان".(5/185)
ص -486-…ويمكن أن يوجد، فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد، فواجب وجوده، ومحال استمرار عدمه، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم، ولذلك1 قالوا: من الجائز تنعيم من مات على الكفر، وتعذيب من مات على الإسلام، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون، وأن المسلمين هم المنعمون، فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب2 على مرمى واحد، كذلك ههنا، فالجواز من حيث نفس الجائز، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج، فلا يتعارضان.
وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم3 به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا4 في العمل على مقتضى العادات البتة، ولولا استقرار العلم بالعادات، لما ظهرت الخوارق كما تقدم، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط، دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إن اقترنت بالتحدي، أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال، غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك".
2 في "ط": "أو الوجوب".
3 في "ط": "محكوم".
4 وإلا لما عمرت الدنيا؛ لأن عمارتها بأخذ الناس في أسباب ذلك مبنية على أن العوائد في ترتب المسببات مستمرة، وإن كانوا يشاهدون أحيانا شيئا من انخرام العادة. "د".(5/186)
ص -487-…وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، والعمل بخبر الواحد قطعي، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [به] ظنيا، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا، وكذلك سائر المسائل، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية، وهذا كله ظاهر.(5/187)
ص -488-…المسألة الرابعة عشرة:
العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما:
العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني:
هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
فأما الأول، فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة التأهب1 للمناجاة، وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها2، فلا يصح أن ينقلب الحسن [فيها]3 قبيحا ولا القبيح حسنا، حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن، فلنجزه4، أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح، فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وطهارات المتأهب".
2 لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكما شرعيا، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع عليها، بخلاف الضرب الثاني، فإنه ليس فيه من الشرع دليل على حسنه أو قبحه، لكنه ينبني على عرف الناس فيه حكم شرعي يختلف باختلاف عرفهم. "د". قلت: انظر في هذا "الأشباه والنظائر" "ص93" للسيوطي، و"مفهوم تجديد الدين" "ص263" لبسطامي محمد سعيد.
3 سقط من "ط".
4 في الأصل و"خ" في هذا الموضع والذي يليه: "فليجزه"، وفي "ماء/ ص209": "فليجز".(5/188)
ص -489-…نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل1.
وأما الثاني، فقد تكون تلك العوائد ثابتة، وقد تتبدل، ومع ذلك، فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب، والوقاع والنظر، والكلام، والبطش والمشي، وأشباه ذلك، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما.
والمتبدلة.
- منها: ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة2، وعند أهل المغرب غير قادح.
- ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد، فتنصرف العبارة عن معنى إلى3عبارة أخرى، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم، أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 43 وما بعدها"، و"إعلام الموقعين" "1/ 324"، و"العرف والعادة في رأي الفقهاء" "ص83".
2 وذلك بشروط بيناها وتكلمنا عليها في كتابنا "المروءة وخوارمها" "ص143-148- ط الأولى"، وانظر استحباب غطاء الرأس: "تمام المنة" "164-165"، و"الأجوبة النافعة" "110"، والدين الخالص" "3/ 214"، و"الأدلة الشرعية" "34 وما بعدها"، وكتابي: "القول المبين" "58-60".
3 لعل الأصل: "إلى معنى عبارة". "د".(5/189)
ص -499-…بالنسبة إلى الأمة والواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر، أو كان مشتركا فاختص، وما أشبه ذلك، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق، كناية وتصريحا1.
- ومنها: ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها، كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحكم أيضا جارٍ على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الفروق" "1/ 44 و4 / 203"، و"الأشباه والنظائر" "ص83-84"، و"المدخل للفقه الإسلامي" "2/ 889" لمصطفى الزرقاء.
2 قال القرطبي في حديث: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف": "في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافا للشافعية، ورد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما* العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد إليه، والعرف عند من يقول به كالمالكية إنما يؤخذ به تخصيص العام أو تقييد المطلق، وأما أن يؤثر في إبطال واجب أو إباحة حرام يذهب إليه أحد من علماء المسلمين، قال ابن الغرسي عند قول تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعنى: اقض بكل ما عرفته مما لا يرده الشرع" "خ".
قلت: النوع الأخير الذي ذكره المصنف هو المعنى في قول الفقهاء "العادة محكمة"، وليس هو بحد ذاته حكما شرعيا، ولكنه متعلق ومناط الحكم الشرعي، فهو من جهة كونه حكما لا يتغير، ولكن الشرع أناطه بالعرف، وجعل الحكم يدور معه، وهذا ما سيذكره المصنف في الفصل الآتي.(5/190)
وانظر- غير مأمور: "الفروق" "1/ 45 و4/ 203"، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" "281-292"، و"تغير الفتوى" "ص50-53".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل سقطا وقع فيه، تقديره: "إنما نفوا العمل.......".(5/191)
ص -500-…خصوص مسألته قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطلاق: 3].
ووكالة الله أعظم من وكالة غيره، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} الآية [هود: 55]، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء، لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم} [النحل: 91].
وأيضا: فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا، فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه1، فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك2 أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا. قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة...... إلى آخر الحكاية.
وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم؛ إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه، فليس بجارٍ على غير الأصل الشرعي، ولذلك لما حكي ابن العربي3 الحكاية قال: "فهذا رجل عاهد الله، فوجد الوفاء على التمام والكمال، فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا".
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد، فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء، فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها، فمن كان هذا حاله، فالأسباب عنده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس 2/ 721/ رقم 1042"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 2/ 121/ رقم 1624"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلوات الخمس 1/ 229"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب البيعة رقم 2867"، وأحمد في "المسند" "6/ 27" عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
2 في "ط": "عاهدتك".
3 في "أحكام القرآن" "3/ 1111-1112".(5/192)
ص -501-…كعدمها؛ فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق، [ولا رجاء في مرجوِّ مخلوق]1؛ إذ لا مخوف ولا مرجوَّ إلا الله، فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك، وإن قارب السبع هلك، وأما إذا لم يحصل ذلك، فلا؛ على أنه قد شرط الغزالي2 في دخول البرية بلا زاد اعتياد3 الصبر والاقتيات بالنبات، وكل هذا راجع إلى حكم عادي.
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذين ثبتت ولايتهم، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية؛ بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك.
فصل:
وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي، كالمكاشفة، فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس، وإن كانت مخالفة في الظاهر؛ لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة.
والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسالة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما، وقد مر ما يستدل به على ذلك، ومن الدليل عليه أيضا أوجه:
أحدها:
أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "الإحياء" "4/ 266".
3 في الأصل: "اعتقاد".(5/193)
ص -502-…قاعدة، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت؛ لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة، فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد، فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب، ولا عقاب، ولا إكرام ولا إهانة، ولا حقن دم، [ولا إهداره]1، ولا إنفاذ حكم من حاكم، وما كان هكذا، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح2، وهو الذي انبنت الشريعة عليه.
والثاني:
أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه؛ لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم، فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم، ولا أيضا3 تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم؛ إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين، أعني في نصب أحكام العامة4؛ إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه، أو [كشف] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة، ولا أيضا للوليين إذا ترافعا إلى الحاكم في قضية.
الثالث:
وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم5 البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال، كيف وهو يقولون: إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه، فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان، فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشرع؛ لتطرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 إذ النظر العقلي الصحيح مساند للنظر الشرعي، وهذا ما وضحه بما لا مزيد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في موسوعة "درء تعارض العقل والنقل"، والشيخ مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين".
3 في "ماء/ ص212": "وأيضا لا....".
4 في "ط": "نصب الأحكام".
5 في "ط": "على خلاف ما تقدم".(5/194)
ص -503-…الاحتمالات.
والرابع:
أن أولى الخلق بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك، إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد1 إلى غيره وما سوى ذلك، فقد أنكر على من قال له: "يحل الله لنبيه ما شاء"، ومن قال: "إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر". فغضب وقال: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"2.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه3، ولم يثبت أنه مس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2/ 781/ رقم 1110" عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظه، وأخرج نحوه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104/ رقم 5063"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لم تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1401" عن أنس رضي الله عنه.(5/195)
2 أما الاستشفاء بدعائه، فقد ثبت في حديث المرأة السوداء التي كانت تصرع، وقد مضى "262"، وأما الاستشفاء به، فأحسن ما يستدل به عليه ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب: منه 5/ 569/ رقم 3678" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"- وابن ماجه في السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/ 441/ رقم 1385"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 659"، وأحمد في "المسند" "4/ 138"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 313 عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك". قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في" لفظ الترمذي. وإسناده حسن، وانظر له: "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 681"، و"التوسل" "68".
3 ضبطها ناسخ "ط": "يعد".(5/196)
ص -504-…بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين1، وكان النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط2، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها، وقد مر من هذا أشياء، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثنِ وليا من غيره، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق3، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو الأولياء حقا، والفضلاء صدقا.
وفي قصة الرُّبَيِّع بيان لهذا، حيث قال وليها أو من كان4: والله لا تكسر ثنيتها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كتاب الله القصاص"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحديث في التعليقة الآتية.
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 5/ 312/ رقم 2713، وكتاب الأحكام باب بيعة النساء 13/ 203/ رقم 7214"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء 4/ 1489" / رقم 1866" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتنحة: 12]، قالت: وما مَسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم: "ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط".
3 من وجب عليه حد أو يتعلق بذمته حق وفر إلى ضريح ولي، فإنه يخرج منه كما يخرج من المسجد، والعامل على إخراج هذا الجاني مثاب على عمله، آمن من أن يلحقه ضرر، وإذا نزل به قضاء عقب هذا العمل، فمن الجهل اعتقاد أن ذلك من أثر غيرة الولي على حرمته كما تتوهم العامة، وإنما هو من بيان الصدفة وموافقة القدر، ومتى كانت العقيدة على أن صاحب الضريح ولي، فمن شرط ولايته عدم الترضي بتعطيل الحكم الشرعي واتخاذ حرمه ملجأ للفاسقين. "خ".(5/197)
4 القائل هو أنس بن النضر، كما صرح به البخاري في "صحيحه"، أو أم الربيع كما صرح به مسلم في "صحيحه"، وفيه: "إن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا......."، وما عند المصنف رواية البخاري.
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 8/ 177/ رقم 4500، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان 3/ 1302/ رقم 675" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(5/198)
ص -505-…ولم يكتفِ عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله، فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"1، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي2 وهو العفو، والعفو منتهض في ظاهر الحكم سببا لإسقاط القصاص.
والخامس:
أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية، فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر3، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات، ونقض لمصالحها الموضوعات، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار، فقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"4، فمثله يلغي في جريان أحكام الخوارق على أصحابها، حتى5 لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى6 رضي الله عنه، فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث السابق، أوله: "كتاب الله القصاص.....".
2 هكذا الأصل، وهو غير ظاهر، والصواب أثره وهو..... إلخ، ويدل عليه سياق الكلام المتقدم. ا.هـ. مصححة. "خ".
3 لعلها "كضرورة الشعر". "د".
4 مضى تخريجه "ص467".
5 في الأصل ونسخة "ماء/ ص213": "إذ يعتقد".
6 صوابه "أبو يزيد" يعني: النخشبي المتقدمة قصته في حديثه مع خادمه. "د".(5/199)
ص -506-…أمورًا1 يطلب بالتحرز منها شرعا، فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم، وهذا [كله] تعريض لهم إلى سوء المقالة.
وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا بُرءاء من هذه الخوارق المنخرقة، غير أن الكلام جرى2 إلى الخوص في هذا المعنى، فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي، المحافظون على اتباعها، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل، حتى يتقرر بحول الله ما يُفهم به عنهم مقاصدهم، وما تُوزَن به أحوالهم، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى، نفعهم الله ونفع بهم.
ثم نرجع إلى تمام المسألة3، فنقول:
وليس الاطِّلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية، والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما جرى عليه السلف الصالح، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة: 67]، ولا غاية وراء هذا، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر4، ويتوقى ما العادة أن يُتوقَّى، ولم يكن ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منها الاعتقاد المذكور بعدُ. "د".
2 في "ط": "جر".
3 مرتبط بأول الفصل. "د".
4 كما ثبت في أحاديث كثيرة، تجدها في "صحيح البخاري" "كتاب الجهاد، باب ومن يترس بترسي صاحبه 6/ 93، وباب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب 6/ 99".(5/200)
ص -507-…نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها، بل هي أعلى.
وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله، فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها.
وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكُّل، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب، ومع ذلك، فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي نُدِبوا إليها، ولم يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها؛ لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "قَيِّدْهَا وتَوَكَّلْ"1.
وقد كان المُكمَّلون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدُّبًا بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ونظرًا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره، وأما قصة الخضر عليه السلام وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، فيظهر به أنه نبي2، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال، وإن سلم؛ فهي قضية عين ولأمر ما3، وليست جارية على شرعنا، والدليل على ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 304"، وهو حديث حسن.
2 قال: ابن حجر في كتابه "الزهر النضر في نبأ الخضر" "2/ 234- مع الرسائل المنيرية"، و"الذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" وقال أيضا: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة، اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي". وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص463 وما بعدها" عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(5/201)
3 سيشير إليه بقوله: "وعلى مقتضى عتاب موسى.... إلخ".(5/202)
ص -508-…أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم، وإن علم أنه طبع كافرًا، وأنه لا يؤمن أبدًا، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وإن أُذِنَ له من عالم الغيب في ذلك؛ لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أُخر لا يعلمها هو1.
فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه، بل هو على ضربين:
أحدهما:
ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها، فهذا لا يصح العمل عليه البتة.
والثاني:
ما لم يخالف [العمل]2 به شيئا من الظواهر، أو إن ظهر منه خلاف، فيرجع بالنظر الصحيح إليها، فهذا يسوغ العمل عليه، وقد تقدم بيانه، فإذا تقرر هذا الطريق، فهو الصواب، وعليه يربى المربي، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ، وأولى برسوخ القدم، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدي به فيه، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما في تقرير هذا وتأكيده: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 420 وما بعدها"، و"مدرج السالكين" "2/ 475 و3/ 416، 431-433"، و"فتح الباري" "1/ 221"، و"عجالة المنتظر في شرح حال الخضر" لابن الجوزي، وكتابنا "من قصص الماضين" "ص33 وما بعدها"، و"فوائد حديثية" لابن القيم "ص81" مع تعليقي عليه.
قلت: والعبارة في الأصل: "ثم علماء أخر".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط".(5/203)
ص -509-…المسألة السادسة عشرة:
العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود:
أحدهما:
العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى المُلائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المؤلمات والخبائث، وما أشبه ذلك.
والثاني:
العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال، كهيئات اللباس والمسكن، واللين في الشدة والشدة فيه، والبطء والسرعة في الأمور، والأناة والاستعجال، وما كان نحو ذلك.
فأما الأول: فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية، للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا، كانت العادة وجودية أو شرعية.
وأما الثاني، فلا يصح أن يقضى به على من تقدم البتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذا ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/204)
1 يحتاج إلى توفيق بينه وما سبق في أول المسالة الرابعة عشرة من أن العوائد الشرعية التي أمر بها الشارع أو نهى عنها أو أذن فيها لا تتبدل، بل هي دائمة ثابتة، وأن التي تتبدل إنما هي العوائد غير الشرعية، فإنها قابلة للتبدل في بعض أنواعها، إلا أن يقال: إنها ليست الشرعية بالمعنى المتقدم بل مثل اختلاف الهيئات والملابس، واختلاف التعبير والاصطلاحات بين الناس، فقد تكون في عهد الشرع على حال ثم تتبدل، فتعد شرعية بهذا المعنى بحصول الإذن بها على وجه عام، ثم تتغير العادة ويختلف حكم الشارع عليها لرجوعها إلى أصل شرعي آخر، فلا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية؛ فإنها غير مستقرة في ذاتها، على أنها لو كانت من قسم الشرعيات المطلوبة؛ فإنها حيث كانت متبدلة غير مستقرة لا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية الذي هو موضوع المسألة. "د".(5/205)
ص -510-…وإنما قلنا ذلك؛ لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضًا؛ فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة، وأما الضرب الثاني؛ فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية1، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم، فإذا كان كذلك؛ لم يصح أن يحكم بالثانية على من2 مضى لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى.
وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون؛ لتكون حجة في الآخرين، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها، ورد القضاء بالعلمية3 إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق، ولا فاسد بإطلاق؛ بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه: هل يلحق بالأول فيكون حجة، أم لا فلا يكون حجة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالعادة الكلية أنه لا بد للإنسان من الطعام والمسكن والملبس، وتحت كل أنواع وهيئات كثيرة، صالحة لوقوع ذلك الكلي في ضمنها. "د".
2 في الأصل: "ما".
3 كذا في الأصل و"خ" و"ط" و"م"، وفي "د": "بالعامة.(5/206)
ص -511-…المسألة السابعة عشرة1:
المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريانُ الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يَكِرُّ2 بالإخلال عليها.
والدليل علي ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها؛ كما في الكفر وقتلِ النفس وما يرجع إليه، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد3، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي؛ فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه؛ فإن كان كذلك؛ فهو راجع إلى أمر ضروري، والاستقراء يبين ذلك؛ فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه.
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان:
أحدهما:
ما به صلاح العالم أو فساده، كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.
والثاني:
ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب، وكذلك الأول على مراتب أيضًا، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما4، ثم النفس، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20-48-61".
2 أي: يرجع.
3 في نسخة "ماء/ ص215": "حدًّا ووعيدًا".
4 فالجهاد لحراسة الدين، ولتكون كلمة الله هي العليا تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأولاد. "د".(5/207)
ص -512-…والمال؛ فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به1 وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بُضعِها؛ جاز لها ذلك؛ وهكذا سائرها.
ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدنا المفسدة في العمل [به]2 على مراتب؛ فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة، وهو ممكن الرؤية من غير مشقة، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور، فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا؛ كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا؛ فالطاعة3 لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد؛ بل لكل منها مرتبة تليق بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا القول حكاه بعضهم على إطلاقه وأخذ به سحنون، ولكنه شرط أن يكون المكره به هو المرأة نفسها، وأن لا يكون لها زوج، ومن حجة هذا المذهب أن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} جعل الإكراه على القول عذرا ينبغي أن يلحق به الفعل، ويحكم له بحكمه؛ إما على الإطلاق، أو على شرط أن لا يتعلق به حق لمخلوق. "خ".
قلت: انظر تفصيل المسألة في: "تفسير القرطبي" "10/ 186"، و"أحكام القرآن" "3/ 1074"، لابن العربي، و"الطرق الحكمية" "47-49"و"بدائع الصنائع" "9/ 4484". و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" "ص124 وما بعدها".
2 سقطت من "ط".
3 في "د": "فطاعة".(5/208)
ص -513-…المسألة الثامنة عشرة:
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني1.
أما الأول، فيدل عليه أمور:
منها الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها2، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادات، ووجدنا الموجِبَات فيها تتحد مع اختلاف الموجَبَات3، وأن الذكر المخصوص4 في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تقرير هذه القاعدة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 385 وما بعدها".
وإعلام الموقعين" "1/ 299-301"، والاعتصام للمصنف "2/ 132-133"- ونقله عن مالك- والقواعد" لشيخ المصنف المقري "قاعدة" رقم 73، 74، 296"، ونقله عن الشافعي، ونقل عن أبي حنيفة "الأصل التعليل حتى يتعذر"، وقال: "والحق أن ما لا يعقل معناه تلزم صورته وصفته" و"البرهان" "2/ 926" للجويني، و"تخريج الفروع على الأصول" "ص38-40" للزنجاني، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص34".
وقرر المصنف فيما مضى "1/ 334" أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل.
2 هذا في الطهارة الحديثة بخلاف الثوب والبدن والمكان من الأخباث؛ فأنها لا تتعدى، بل تقف عند حد من أصيب بالنجاسة. "د".
3 فالحيض والنفاس يسقطان الصلاة، ولا يسقطان الصوم ولا سائر العبادات المفروضة من أركان الإسلام. "د".
4 هذا كثير؛ فالقنوت -وهو ذكر ودعاء- يطلب في بعض الصلوات دون بعض، والدعاء يطلب في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات وتمنع فيما بعد صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس مثلا، وهكذا من أوقات النهي، وكل هذا لا يعرف إلا بموقف من قبل الوحي، وليس للعقل فيه مجال الخروج عما حد. "د".(5/209)
ص -514-…طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النطافة بغيره، وأن التيمم -وليست فيه نظافة حسية- يقوم1 مقام الطهارة بالماء المطهر، وهكذا سائر العبادات؛ كالصوم والحج2، وغيرهما؛ وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة3 الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع، والتعظيم لجلاله والتوجه إليه، وهذا المقدار4 لا يعطي علة خاصة يُفهم منها حكم خاص؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد، ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذا كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا، وليس كذلك باتفاق، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود، وأن غيره غير مقصود شرعًا.
والثاني:
أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد؛ لنصب الشارع عليه دليلا واضحا، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة5 لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه، ولكان 6 ذلك يتسع في أبواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حيث لا يقوم الماء الطاهر غير المطهر الذي هو منقىً من كل أثر. "د".
2 أي: فهما من الأمور المحدودة التي لا يفهم تحديدها من غير الشرع، ولا يستقل العقل بإدراك حدودها وحكمها. "د".
3 في نسخة "ماء/ ص216" بدل "العامة كلمة "بالجميع".
4 في نسخة ماء / ص216": "والتوجه إليه، لا غير ذلك؛ لأن هذا المقدار.....".
5 كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" إلى أن قال: "أجتهد رأيي ولا آلو"، فأقره على الاجتهاد برأيه في القضاء فيما لا نص فيه إذا جامع ما نص عليه في المعنى المفهوم منه". "د".
قلت: والحديث ضعيف، وسيأتي عند المصنف "4/ 298" وتخريجه هناك.(5/210)
6 مرتب على قوله: "لنصب"؛ أي: ولو نصب الأدلة لاتسع الأمر في العبادات، وقوله: ولما لم نجد.... إلخ" أي: ولما لم تقم الأدلة على التوسعة فيها، ولا وجدت فيها التوسعة؛ دل على المطلوب. "د".(5/211)
ص -515-…العبادات، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه؛ دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود؛ إلا أن يتبين بنص1 أو إجماع معنى مراد في بعض الصور، فلا لوم على من اتبعه، لكن ذلك قليل، فليس بأصل؛ وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في2 الموضع.
وأيضا؛ فإن المناسب فيها3 معدود عندهم فيما لا نظير له4، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك5.
وإلى هذا؛ فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام فيمن وقصته الدابة: "لا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" فقد نص على حكمته عدم مسه بالطيب، فإذا حمل عليه كل من مات قبل تمام حجه، وأنه لا يمس بطيب لهذا لمعنى المتبين بالنص؛ فلا مانع منه، وهكذا ما كان من قبيله، وهو كمحترز لقوله: "يتسع"؛ أي: بل هو قليل كهذا. "د".
قلت: الحديث في "صحيح البخاري" "كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/ 52/ رقم 1839"، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 في ط": "وغلب على....."
3 المناسب: هو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة، تدركها العقول، ويقر بها، وفيها؛ أي: في العبادات. وفي "ط": ما هو فيها".
4 أي: إن المناسب وهو الوصف الذي اعتبر علة للحكم في العبادات عدوه من أقسام ما لا نظير له، وهو قسم مما عدل به عن سنن القياس، فالمشقة لم يعتد بها في غير الصوم وقصر الصلاة في السفر، ولو كانت المشقة أضعاف ما يحصل في السفر، وأصل القياس مبني على تعدية حكمة العلة لكل فرع وجدت فيه، فكان ذلك خروجا عن سنن القياس، وسمي هذا النوع لا نظير له، يعني: وهذا مما يضعف معنى التعليل في العبادات، ويرجع بها إلى التعبد؛ لأنه حتى عند فرض وجود النظر للمعنى فيها؛ فإنه يكون بحالة قاصرة. "د".
5 ليكن على بالك ما قدمه في "ص42"؛ ففيه تعليل لبعض الطاعات.(5/212)
ص -516-…الخصوص، كقوله: "سها1 فسجد"2 وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"3، ونهيه عن الصلاة طرفي النهار"4، وعلل ذلك بأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الأمثلة من مسالك العلة الصريحة، فالترتيب بالفاء كزنى ماعز فرجم، والشرط في إذا، واللام في قوله: "أنها تطلع...... إلخ"، ولكنها كما يقول: لا يفهم منها الخصوص. "د".
2 ورد سهوه صلى الله عليه وسلم والسجود بسببه في كثير من الأحاديث، منها في "صحيح البخاري" "كتاب السهو 3/ 92 وما بعدها"، و"صحيح مسلم" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 398 وما بعدها".
وظفرت بعبارة فيها: "فسها، فسجد" ضمن حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 2/ 240-241/ رقم 395"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم 1/ 273/ رقم 1039"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26" عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ووَهِم من قال: إن مراد المصنف حديث ذي اليدين؛ إذ ليس فيه هذه اللفظة، قاله الزركشي في "المعتبر" "رقم 117".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور 1/ 234/ رقم 135، وكتاب الحيل، باب في الصلاة 12/ 329/ رقم 6954"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204/ رقم 225" عن أبي هريرة.
وورد نحوه عن غير واحد من الصحابة، وخرجتها في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 54-58".(5/213)
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 61/ رقم 588"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 566/ رقم 825" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس.
وفي الباب عن غير واحد من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، منها عن ابن عمر وسيأتي قريبا.(5/214)
ص -517-…الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان1.
وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها، فتجب فيها النية قياسا على التيمم، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع، بل هو من المسمى شبها2، بحيث لا يتفق على القول به القائلون، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة3؛ فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 2/ 58/ رقم 582، وباب لا يُتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 60/ رقم 585، وكتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء 3/ 68/ رقم 1192، وكتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر 3/ 488 / رقم 1629، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6/ 335/ رقم 3273"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 2/ 567" عن ابن عمر مرفوعا: "ولا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان" لفظ مسلم، ولفظ البخاري في آخر موطن مذكور: "ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان".
2 الراجح أن هذا النوع من القياس ليس بحجة؛ فإنه لخلوه من إدراك المناسبة لا يفيد ظن العلية ظنا يعتد به في تقرير أحكام الله، ثم إن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا به في حال. "خ".(5/215)
3 هي المناسبة، والنص بأنواعه، والإجماع، والسبر والتقسيم ثم الدوران، أما الشبه، فليس من المسالك عند الشافعية، قال السبكي: "وقد كثر التشاجر في تعريف هذه المنزلة، ولم أجد لأحد تعريفا صحيحا فيها"، ثم قال: "إنه يطلق على معانٍ، والمراد به هنا وصف مناسبته للحكم ليست بذاته، بل بسبب مشابهته للوصف المناسب لذاته شبها خاصا؛ أي: يشبهه فيما يظن كونه علة الحكم أو مستلزما لها، سواء أكانت المشابهة في الصورة أم المعنى، وذلك كالطهارة =(5/216)
ص -518-…الوقوف عند ما حد، دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات، فكان أصلا فيها.
والثالث:
أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتدِ إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات؛ فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها1، والمشي على غير طريق، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك، ولما كان الأمر كذلك عذر2 أهل الفترات في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/217)
= لاشتراط النية؛ فإنها تناسبه بواسطة كونها عبادة بخلاف الإسكار لحرمة الخمر؛ فإنه مناسب لها بذاته، بحيث يدرك العقل مناسبته لها وإن لم يرد به الشرع، وحينئذ؛ فالشبه -أي هذا النوع من المسالك- يحتاج في إثبات عليته إلى دليل مثبت للعلية، ولذلك قيل في تعريفه: وصف لم تثبت مناسبته للحكم إلا بدليل منفصل، مثاله أن يقال في إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث في تعين الماء لها: طهارة تراد للصلاة، فلا يجزي فيها غير الماء كالوضوء، فكون كل منهما طهارة تراد للصلاة هو الوصف الجامع بينهما لتعين الماء لهما، وهو وصف شبهي لا تظهر مناسبته لتعين الماء في إزالة الخبث، وقالوا: إنه إذا ثبت بأحد مسالك العلة المعتبرة أن وصف كون الطهارة تراد للصلاة يصح علة تعين الماء لإزالة الخبث لزم، وإلا، فلا يوجبه مجرد اعتبار الماء في الحدث"، ومثله أيضا مثال المؤلف، قال ابن الحاجب: "وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك"، وفي شرحه: وقد يقال: الشبه للوصف المجامع لآخر إذا تردد به الفرع بين أصلين، فالأشبه فيهما هو الشبه، كالنفسية والمالية في العبد المقتول تردد بين الحر والفرس مثلا، وهو بالحر أشبه؛ لأن مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر؛ فتتعارض مناسبتان، فترجع إحداهما، ولكنه ليس من الشبه الذي فيه كلام المؤلف بدليل مثاله. "د".
قلت: انظر عن مسالك العلة "3/ 136-137".
1 أي: الفترات، وانظر: "حجة الله البالغة" "2/ 146".
2 هذا مذهب الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، كما في "الحاوي" "2/ 353" للسيوطي، و"تعظيم المنة" "ص167"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 652"، ومذهب المعتزلة والماتريدية أنهم في النار؛ إذ عليهم أن يستدلوا بعقولهم؛ انظر: "جمع الجوامع" "1/ 62"=(5/218)
ص -519-…عدم اهتدائهم؛ فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165].
والحجة ها هنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق، والله أعلم، فإذا ثبت هذا؛ لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع، وهو معنى التعبد؛ ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب، وأجرى على طريقة السلف الصالح، وهو رأي مالك1 رحمه الله؛ إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق، وإن حصلت النظافة بغير ذلك، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات؛ إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله، فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى2 عليه، وركنا يُلجأ إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السبكي، و"المسامرة" "ص274-275/ مع نتائج المذاكرة"، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يدخله الله فيها، وعلى هذا أدلة كثيرة، انظرها في: "الجواب الصحيح" "1/ 312"، والا عتقاد" "ص91-92" للبيهقي -واختار هذا القول- و"طريق الهجرتين" "ص 689 وما بعدها" و"تفسير ابن كثير" "3/ 35"، وفتح الباري" "3/ 45-46"، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" "4/ 74"، و"أضواء البيان" "3/ 483".
1 الفروع المذكورة ليست من انفرادات مالك رحمه الله تعالى، بل قال بأغلبها الشافعي وأحمد أيضا، انظر مثلا: الفرع الأول في "الطهور" لأبي عبيد "ص 201 وما بعدها مع تعليقنا عليه".(5/219)
2 في "ط": ينبني".(5/220)
ص -520-…فصل:
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، فلأمور:
أولها:
الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية1 تدور [معه]2 حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمتنع في المبايعة3، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة4، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وفي الحديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"5.
وقال: "لا ضرر ولا ضرار"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الأحكام المتعلقة بالعادات نظير الأحكام العبادية.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لما فيها من المشاحة والمغالبة، وقصد الاستفادة المالية بخلاف القرض الذي هو لوجه الله خاصة، ففيه تزكية نفس المقرض كالصدقة، وفيه تنفيس كُرَب الناس، ويقع* الحرج إذا منع القرض أيضا. "د".
قلت: ويمكن التمثيل على ما ذكره المصنف سابقا بالتسعير.
4 كما في ثمر العرايا توسعة على الخلق، ولرفع الحرج والضرر على المعري، إذا تردد المعرى داخل بستانه ونخله، فكان منع ذلك مؤديا إلى ألا يعري أحد أحدا نخله. "د".
5 مضى تخريجه "ص231".
6 مضى تخريجه "ص72".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "ويرفع".(5/221)
ص -521-…وقال: "القاتل لا يرث"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج النسائي في "الكبرى" "كتاب الفرائض"-كما في "تحفة الأشراف" "6/ 220"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 220" من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس للقاتل من الميراث شيء".
ثم أخرجه ابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ويحيى بن سعيد، وزاد الدارقطني: "والمثنى بن الصباح عن عمرو به، إسناده ضعيف، إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذا منها، إلا أنه توبع، فقد أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 189-190/ رقم 4564"، والبيهقي من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب به، وذكر حديثا طويلا فيه: "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا" وإسناده فيه ضعف أيضا، سليمان صدوق، فقيه في حديثه بعض اللين، والراوي عنه ابن راشد صدوق يهم.
ولكن للحديث شواهد عديدة، منها حديث أبي هريرة بلفظ المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "2109"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2645، 2735"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 220"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 322" بسند ضعيف فيه إسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة قد تركه بعض أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل"، وقال البيهقي: "إسحاق بن عبيد الله لا يحتج به، إلا أن شواهده تقويه".(5/222)
قلت: نعم هو صحيح بشواهده، منها حديث عمر، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 49"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2646"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 219"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، ومنها حديث ابن عباس أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 404"/ رقم 17787"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "6/ 220".
وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 85"، و"نصب الراية" "4/ 428"، و"الإرواء" "رقم 1670-1672".(5/223)
ص -522-…"ونهى عن بيع الغرر"1.
وقال: "كل مسكر حرام"2.
وفي القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4/ 1153/ رقم 1513" عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، وبيع الحصاة فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها:
أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة.
والثاني:
أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة.
والثالث:
أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا.
وبيع الغرر: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن..... ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع، وعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسيب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة.
2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر مرفوعا: "كل مسكر حرام".
وأخرج برقم "2003" عن ابن عمر مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".(5/224)
وأخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5585" ومسلم في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1585/ رقم 2001" عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ فقال: "كل شراب أسكر، فهو حرام".(5/225)
ص -523-…وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91].
إلى غير ذلك مما لا يحصى، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة1، فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
والثاني:
أن الشارع توسع2 في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول3، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف4 مع النصوص، بخلاف باب العبادات5، فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله، حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة6، وقال فيه بالاستحسان7، ونُقِلَ عنه أنه قال: "إنه تسعة أعشار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما ذكره من الأمثلة الثانية من باب مسلك التنبيه والإيماء الذي هو ترتيب الحكم على الوصف، فيفهم لغة أنه علة له؛ ولذا جعلوه من مسلك النص غير الصريح "د".
2 كمقابل لقوله في الوجه الثاني في العبادات: "ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات". "د".
3 هذا هو تعريف أبي زيد للمناسب، وعرفه غيره بأنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، وقالوا: إن تعريف أبي زيد لا يمكن إثباته في المناظرة؛ إذ يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول، وإن كان التعريفان متقاربين في المعنى "د".
4 في نسخة "ماء/ ص217": "بالوقوف".
5 ليكن على بالك ما قرره المصنف "1/ 111" أن تلمس "الحكم" في هذا الباب من ملح العلم لا من متنه عند المحققين، وهذا ما ذكره شيخ المصنف المقري في كتابه "القواعد" "2/ 406".
"6و 7" بيان المقام على وجه يشفي النفس يرجع فيه إلى كتاب "الاعتصام" "2/ 607وما بعدها -ط ابن عفان" للمؤلف في تحديدهما وتمثيلهما. "د". =(5/226)
ص -524-…العلم"، حسبما يأتي إن شاء الله1.
والثالث:
إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة، فاطردت لهم، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل، فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية، كالدية، والقسامة، والاجتماع2 يوم العروبة -وهي الجمعة- للوعظ والتذكير، والقراض، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول، وهي كثيرة، وإنما كان3 عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال "خ": "هي مصلحة يتلقاها العقل بالقبول، ولا يشهد أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإنما يتمسك بها الإمام مالك على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد لها الأصول، وقد اعترض القول بها إمام الحرمين من وجهين: أحدهما أنها تستلزم المفسدة من وجهين، أحدهما تحكيم العوام بحسب آرائهم في ملاءمتهم ومنافرتهم، والثاني اختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والبقاع والأوقات، وأجاب المالكية عن ذلك بأن الحكم في المصلحة منوط بالاجتهاد؛ لأنه دليل حكم لا حكم حتى يعمل بها العامي، وعن الثاني بالتزامه وهو معنى دوام الشريعة ومناسبتها لكل زمان" قلت: مقولة مالك في "العتبية" "4/ 155- مع الشرح"، وانظر: "الذخيرة" "1/ 152-153- ط دار الغرب" للقرافي، و"أساس القياس" "ص 98-99" للغزالي.
1 انظر: "5/ 198".
2 أي: باعتبار ما فيه من المصلحة العامة، حتى يكون مما نحن فيه، لا من جهة كون الصلاة وسماع الخطبة عبادة. "د".(5/227)
3 من تتمة الدليل الثالث. "د".(5/228)
ص -525-…فصل:
فإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص، كطلب الصداق1 في النكاح، والذبح في [المحل المخصوص2 في] الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى يقاس عليها غيرها، فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك، لتمييز النكاح عن السفاح، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه، ولكنها أمور جملية، كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال: إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك.
فإن قيل: وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع. على الخصوص أم لا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل، فإن فيه المعنى الذي أشارت إليه الآية: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، أي: فالصداق والنفقة مكملان لحق القيامة والرياسة للأزواج عليهن، وسيأتي للمؤلف تعليله بتمييز النكاح عن السفاح، وإن كان قد يقال: إن الزنا فيه دفع مال من الزاني للبغي. "د".
2 أي: مع أن تطهير الرحم من الدم الذي هو مسكن الجراثيم المرضية غالبا قد لا يتوقف على خروجه من الودجين والحلقوم، وليراجع أهل الذكر في هذا فقد يكون له علة ومعنى مقصود. "د".
قلت: وما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(5/229)
ص -526-…فالجواب أن يقال: أما أمور التعبدات، فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد، من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، قالت للسائلة: "أحرورية أنت؟" إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا؛ إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة، ثم قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع: "هي السنة با ابن أخي"2، وهو كثير، ومعنى هذا التعليل أن لا علة.
وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا، فلها معنى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو ترك الناسُ والنظرَ لانتشر3 ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة،وأسباب معلومة لا تتعدي، كالثمانين في القذف، والمئة وتغريب العام في الزنا على غير إخصان، وخص قطع اليد بالكوع4 وفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1/ 265/ رقم 335".
وقولها رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟" أي: أنت تنتسبين إلى الحروريين، وهم جماعة خالفوا عليا رضي الله عنه من الخوارج، يبالغون في العبادات، ينتسبون إلى حروراء، قرية بالكوفة على ميلين منها. "ماء / ص218".
2 نحوه في "معالم السنن" للخطابي "4/ 28"، و"فقه الإمام سعيد بن المسيب" "4/ 67"، وسيأتي بتمامه في "5/ 387".
3 أي: لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق.
4 اختلف أهل اللغة فيه على أقوال:
الأول:
هو طرف الزند الذي يلي الإبهام، نقله الجوهري في "الصحاح" "3/ 1278"، وبه قال ابن السكيت، كما في "تهذيب اللغة" "3/ 41"، وكذا في "المحكم" "2/ 200" لابن سيده، و"الكليات" "5/ 124" للكفوي. =(5/230)
ص -527-…النصاب المعين1، وجعل مغيب الحشفة حدًّا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر، كالطهارة للصلاة، والصوم، والحيض والطهر، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر، فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه.
وإلى هذا المعنى2 يشير أصل سد الذارئع، لكن له نظران:
نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه، كما في مذهب مالك مثلا، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف، فعلى هذا لا ينبغي أن يُلتفت منه3 إلا إلى المنصوص عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني:
هو طرف الزند في الذراع مما يلي الرسغ، نقله الليث، وقال: "هكذا زعمه أبو الدفيش الأعرابي، وهما كوعان، كذا في "تاج العروس" "22/ 141-142"، واللسان" "8/ 316، و"تهذيب اللغة" "3/ 41".
والثالث:
من الأقوال: أنه أخفاهما وأشدهما درمة، وهذا نقله الصاغاني في "العباب"، وفسر "الدرم" بالتحريك بأن لا يظهر للعظم حجم، وكذا في "التاج" "22/ 142".
فهذه ثلاثة أقوال في تفسير "الكوع" ذكرها الزبيدي في "القول المسموع في الفرق بين الكوع والكرسوع" "ص19-21"، والمراد والله أعلم من كلام المصنف القول الثاني.
1 يعني: نصاب القطع في السرقة.
2 أي: فقاعدة سد الذرائع -التي هي منع الشارع لأشياء لجرِّها إلى منهي عنه، والتوسل بها إليه- هذه القاعدة تلتئم وتتناسب تمام المناسبة مع المعنى، وهو ضبط وجوه المصالح خشية الانتشار وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط في هذا أقرب إلى الانقياد، لكن السد الذرائع نظران..... إلخ، أي: فلا يؤخذ هكذا بطريق كلي بل لا بد فيه من إدخاله تحت هذا الضابط الذي قرره. "د".(5/231)
3 أي: من المعنى المذكور إلا ما نص عليه من الشارع بذكر ضوابطه؛ لأن كثيرا من التكاليف وَكَّلَها الشارع إلى أمانة المكلف، فلا نتوسع في ضبطها وتقييدها بحجة سد الذرائع وخوف الانتشار، والنظر الآخر أنه وإن انتشرت فروعه؛ لكن له ضوابط سهلة المأخذ يمكن التعويل عليها، فمتى أمكن إجراء الضوابط في مظانها أخذ بها وعول عليها، فيكون هذا توسطا بين الأمرين وإعمالا لكلا النظرين. "د".(5/232)
ص -528-…ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليِّه، فليجر بحسب الإمكان في مظانه، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتسول بها إليه، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح، فلا بد من اعتباره، ومن الناس من توسط بنظر ثالث، فخص هذا المختلف فيه بالظاهر1، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان النظرين السابقين لم يفرق فيهما بين الظواهر والسرائر لكن هذا الثالث فرق بينهما بما قاله. "د".(5/233)
ص -529-…المسألة التاسعة عشرة:
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد؛ فلا تفريع فيه1، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد2؛ فلا بد فيه من اعتبار التعبد؛ لأوجه:
أحدها:
أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف3 من حيث هو مكلف، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم، فإنه عبد مكلف، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء، بخلاف المصلحة؛ فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين، وإذا كان كذلك؛ فالتعبد لازم لا خيرة فيه، واعتبار المصلحة فيه الخيرة، [وما فيه الخيرة]4 يصح تخلفه عقلا، وإذا وقع الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يقاس فيه ولما كانت هذه الدعوى الأولى واضحة لم يستدل عليها، وإن كان يؤخذ التنبيه عليها أثناء الاستدلال على الدعوى الثانية، ولم يقل: "ففيه التفريع"؛ لأنه مع كونه متشعب الخلاف بين القائلين بالقياس، فإن الذي يعنيه هو إثبات أن فيه أيضا نوع من التعبد بمعنى من المعاني التي سيقررها. "د".
2 أي: دون أن يثبت التعبد، وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام، وقوله: "فلا بد فيه من اعتبار التعبد" ليس المراد به التعبد بالمعنى الخاص المتقدم الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد به أن يكون لله فيه حق، إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها، وينضم إليه معنى آخر وهو أنه لا بد لنا في كل مصلحة عرفناها من وقفة عندها: هل تعينت هذه العلة للمصلحة بحيث لا يكون للحكم علة ومصلحة إلا هذه؟ فهذا التوقف نوع من التعبد، بمعنى عدم معقولية المعنى تعقلا كاملا، وغير ذلك من المعاني الآتية التي يتقرر بها معنى التعبد في الأوجه المذكورة بعد، فالتعبد هنا بمعنى عام لا ينافي القياس والتفريع إذا وجدت شروطه. "د".(5/234)
3 أي: فعليه الانقياد ولا يخلص من التكليف إلا بالامتثال بخلاف تحقيق المصلحة وتحصيلها، فغير لازم بل نفس معرفة المصلحة في التكليف غير لازمة فضلا عن قصدها. "د".
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(5/235)
ص -530-…والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا1 فإنه محال، فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق2، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق؛ خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح.
وأيضا؛ فإنه3 لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين؛ فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل، يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا، فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض، فالأمران على مذهبهم لازمان، ولا يقول أحد منهم: إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح، [بل هو قبيح]4 على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد.
والثاني:
أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم، فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم، فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن، لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا؛ إذ هو قطع على غيب بلا دليل، وذلك غير جائز، فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم، فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عما يقتضيان من اشتغال ذمة المأمور والمنهي حتى يؤدي. "د".
2 أي: سواء فيما ثبت فيه اعتبار التعبد وما ثبت فيه اعتبار المعاني، وكذا اعتبار المصالح غير لازم فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وهو ظاهر، ولا فيما ثبت فيه اعتبار المعاني كما قال. د"
3 أي: التعبد "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 وهو هنا بمعنى عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلا. "د".(5/236)
ص -531-…فإن قيل: لو جاز ذلك لم نقضِ بالتعدي1 على حال، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى، لم نجزم بأن الحكم لها2؛ فقط لجواز أن تكون جزء علة3، أو لجواز خلو الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها، فإذا أمكن ذلك، لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر، ولا سبيل إلى ذلك، فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة.
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز4 التعبد؛ لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم، ولم نكلف أن ننفي ما عداها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعدي الحكم لما ثبت فيه العلة كما هو الشأن في القياس في المسائل التي عرف فيها اعتبار المعاني والعلل. "د".
2 أي: للحكمة الموجودة الظاهرة في الأصل. "د".
3 أي: وجزء العلة لا يعدي الحكم للفرع، ولا يبني عليه قياس، وقوله: "أو لجواز... إلخ" عطف على سابقه تكميل لتعليل قوله: "لم نجزم بأن الحكم لها فقط" الذي يشمل صورتين: أن يكون لها مع غيرها بأن تكون جزء علة، أو يكون الحكم لها أو لغيرها بأن تكون هناك علة أخرى مستقلة، فقوله أولا: "لجواز" توجيه للاحتمال الأول، وقوله: "أو لجواز" توجيه للاحتمال الثاني، وقوله: "خلو النوع عن تلك الحكمة"، أي: المستقلة أيضا كما أن المعلومة مستقلة، وقوله: "فإذا امكن ذلك"، أي: احتمال أن تكون المعلومة جزء علة، واحتمال أن تكون ليست وحدها المعلل بها وإن كانت علة كاملة، وقوله: "سوى ما ظهر"، أي: لا يوجد جزء آخر متمم للعلة المعلومة، ولا علة أخرى كاملة يصح أن يبني عليها الحكم، وقوله في الجواب: "لكن غلبة الظن كافٍ" فيه جواب التجويز الأول، وقوله: "وأيضًا" فيه جواب التجويز الثاني. "د".(5/237)
4 جعله جوازا، فكأنه لا يلزم المجتهد أن يراعي إمكان حكمة أخرى، ويعتبر كأمر كمالي بخلاف الوجه الأول، وهو امتثال المأمورات على تفصيل في ذلك معروف في الفروع من جهة النية وعدمها. "د".(5/238)
ص -532-…فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلِّية، أو صالح لكونه علة، كافٍ في تعدي الحكم به.
وأيضا فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة1 وكل منها مستقل، وجميعها معلوم، فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر، فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر، فإذا ثبت هذا، لم يبقَ للسؤال مورد، فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه، ولا علينا.
والوجه الثالث2:
أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين:
أحدهما:
ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة، كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر3، والمناسبة، وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "المستصفى" "2/ 96"، و"الإحكام" "3/ 218" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 210-211"، و"البرهان" "2/ 832" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 167"، و"المسودة" "417"، و"صول الفقه وابن تيمية" "1/ 385-388"، و"كشف الأسرار" "4/ 45"، و"جمع الجوامع" "2/ 245-246 مع "شرح المحلي"، و"نشر البنود" "2/ 145-146"، و"إرشاد الفحول" "209".
2 هذا الوجه إنما يثبت اعتبار التعبد في نوع خاص مما اعتبر فيه المعاني دون التعبد، بخلاف الوجهين السابقين، فعامان في سائر فروعه، والوجه الرابع عام أيضا، وكذلك الخامس والسادس. "د".(5/239)
3 مثاله أن يقول: المستدل في علة ربا الفضل العلة، أما الطعم، أو الاقتيات، أو الادخار، أو التقدير بالكيل، أو الوزن، ثم يستدل على إبطال اثنين منتفين كون الثالث هو العة، والحق مع من أنكر عده في مسالك العلة كان الوصف المبقي أن اشتمل على مصلحة، فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط، فالأول المناسبة، والثاني الشبه، وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا، فهو الطرد. "خ".(5/240)
ص -533-…نعلل به، ونقول: إن شرعية الأحكام لأجله.
والثاني:
ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك1 المسالك المعهودة، ولا يُطَّلع عليه إلا بالوحي، كالأحكام2 التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو، وقذف الرعب، والقحط، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي.
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن3 ثم مصالح آخر غير ما يدركه المكَلف، لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر؛ إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل، فبقيت موقوفة على التعبد المحض؛ لأنها لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل4، وإذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لتلك".(5/241)
2 فمثلا ورد: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} الآية، هل يجعل الاستغفار علة أيضا في قوة الأبدان وسعة العلم، وغير ذلك فقياس على الأمداد بالأموال والبنين؟ وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم}، وهل يقاس على الفشل وذهاب القوة والعزة ذهاب القوة البدنية والأموال وغيرها؟ فهذه الأسباب ذكرها الشرع عللا لأحكام لكنها لا تعلم إلا من جهته، فهل يدخل فيها القياس والتفريع، يقول المؤلف: إنها مع كونها علل بها الشرع، ولا يصح أن يدخلها القياس والتفريع؛ لأنها وإن كانت أحكاما عادية إلا أن عللها ليست مما تدرك العقول ترتب هذه الأحكام عليها، فلا بد أن تكون تعبدية نقف فيها عند ما أثبت الشارع فقط؛ لأن التشابه الذي ندركه فيما نريد أن نجعله فرعا إنما هو في المطلقات والعمومات المعلل بها، وليس هذا القدر كافيا في صحة العلية حتى يتأتى الإلحاق والقياس. "د".
3 في الأصل و"خ": "وإن".
4 لعل فيه حذف كلمة "به". "د".(5/242)
ص -534-…ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان.
والرابع:
أن السائل إذا قال للحاكم: لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك، كان مصيبا، كما أنه إذا قال: لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم، كان مصيبا أيضا، والأول جواب التعبد المحض، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما، جاز القصد إلى التعبد، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا، وإلا لم يصح توجه القصد إلا ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد، فلما صح القصد مطلقا، صح المقصود له مطلقا، وذلك جهة التعبد، [وهو المطلوب]1.
والخامس:
أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال2 للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.
2 هذا ظاهر فيما إذا كان مسلك العلة الإجماع أو النص بقسميه أو المناسبة أيضا؛ لأنه لا بد في المعتبر منها أن يكون مؤثرا أو ملائما، وكل منهما لا بد أن يستند إلى نص أو إجماع؛ أما المؤثر؛ فهو ما اعتبر عينه في عين الحكم بنص كما في الحدث بالمس لقوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ"* أو إجماع كولاية المال بالصغر، وأما الملائم فهو ما رتب الحكم على وفقه في الأصل مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع؛ وسمى ملائما لكونه مناسبا لما اعتبره الشارع، ومثاله الصغر في حمل نكاح الثيب الصغيرة على نكاح البكر الصغيرة في أن الولايات للأب عند الحنفية، ويبقى الكلام في السبر والتقسيم والدوران من أنواع المسالك، فعليك بالنظر فيها لتعرف هل يشملها كلامه، وأن المصالح فيها أيضًا بوضع الشرع. "د".(5/243)