عنوان الكتاب:
الموافقات – المقدمات
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(1/1)
ص -1-…مقدمة المحقق:
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(1/2)
ص -2-…أما بعد؛ فقد مضت حركة الاجتهاد في الدين؛ قوية سديدة، مطردة نامية، خصبة الإنتاج، ميمونة الولائد؛ من منتصف القرن الثاني، حيث بدأ استقرار المذاهب بوضع الأصول، وتمييز العام منها الجامع بين المذاهب المختلفة، والخاص الذي ينفرد به مذهب عن مذهب آخر، وتتابع تولد المذاهب إلى منتصف القرن الرابع، فكلما قطع واحد منها دور التأصيل على يد مؤسسه ومتخذ أصوله؛ دخل في دور التفريع، وهو دور الاجتهاد المقيد؛ فتلاحقت المذاهب على دور التفريع إلى استهلال القرن الخامس، وهنالك تمحض الفقه لعمل جديد هو عمل التطبيق بتحقيق الصور وضبط المحامل؛ فكان اجتهاد جديد هو الاجتهاد في المسائل، ثم دخل الفقه في أوائل القرن السادس دون الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها والاختيار فيها بالترجيح والتشهير، حتى انتهى ذلك الاختيار إلى عمل تصفية، برز في دور التقنين، بتأليف مختصرات محررة على طريقة الاكتفاء بأقوال تثبت، هي الراجحة المشهورة، وأقوال تلغى هي التي ضعفها النظر في الدور الماضي باعتبار أسانيدها أو باعتبار مداركها أو باعتبار قلة وفائها بالمصلحة التي تستدعيها مقتضيات الأحوال.
وبذلك وقف سير الفقه عند تلك المختصرات، وأقبل الفقهاء يجمعون دراساتهم حول المختصرات، مقتصرين في تخريج المسائل عليها في حال أن صورا من الوقائع الحادثة التي لم تشتمل تلك المختصرات على نصوص أحكامها كانت تتعاقب ملحة في طلب الأجوبة التي تحل مشاكلها، والأحكام التي تقرر وجهة السير فيها.
فكان ذلك ملفتا أنظار الفقهاء إلى ضيق النطاق الالتزامي الذي ضربوه على أنفسهم باقتصار على المختصرات، وحاديا بهم إلى الرجوع إلى المجال الأوسع: مجال الأقوال العديدة، والآراء المتباينة داخل كل مذهب، ذلك(1/3)
ص -3-…المجال الذي لم يزل يستفحل به الهجران منذ القرن السادس.
وبتلك الرجعة التي خرج بها الفقه عن نطاق الالتزام؛ وجد الفقهاء أنفسهم في وضع حرج دقيق، من حيث إن المجتمع الإسلامي بما شاع فيه من الضعف والانحلال قد أخذ ينزلق خارج نطاق الحدود والأخلاق الشرعية؛ حتى أصبحت صور الحياة الفردية والاجتماعية مختلفة في نسب متفاوتة عن المُثُل العليا التي رسمتها أحكام الدين الإسلامي.
ومن حيث إن الفقيه الذي يضطلع بواجبه في تقويم الحياة الفردية والاجتماعية على مبادئ الدين وتعاليمه يكون بين أمرين:
إما أن يحاول حمل الناس على الطريقة الملتزمة والأحكام التي تعاقبت الأجيال منذ قرنين وأكثر على احترامها بحرمة الدين والانكسار من الخروج عنها مخالفة وعصيانا؛ فيكون في حملهم على ذلك من أعنات المكلفين، وتحجير الواسع، والتزام ما لا يلزم ما لا يرضاه لنفسه وللناس الفقيه الموفق.
وإما أن يجر الفقيه عامة الناس وراءه إلى المجال الأوسع الذي يصبو إليه؛ حيث الاختلاف، والأنظار، وأعمال المناسبات والضرورات؛ فيكون قد جرأهم على ما كانوا مشفقين منه، مستعظمين لأمره، غير مستهترين فيه؛ من مخالفة الأحكام التي عرفوها ودانوا بها، وبذلك ينفتح للأهواء باب يلج منه كل إنسان إلى اختيار ما يوافق ميله، وينسجم مع حالته؛ فيصبح الدين أمرا نسبيا إضافيا، يختلف عند كل شخص أو جماعة عما هو عليه عند شخص آخر أو جماعة آخرين؛ حتى تختل الشريعة وتنحل عراها.
لا سيما وقد ألف الناس أمورا شائعة بينهم لم يزالوا يألفونها والعلماء ينكرونها، وهي التي يشنع العلماء على الناس أخذهم بها, باعتبار كونها من البدع على النحو الذي أورده أبو بكر الطرطوشي، فإذا فتح باب الاختيار والخروج عن(1/4)
ص -4-…الأحكام الفقهية المألوفة، والحكم على بعض الأشياء بالحسن والمشروعية، مع أن السلف لم يحسنوها ولم يقروا مشروعيتها؛ فإنهم لا يلبثون أن يجروا البدع ذلك المجرى، ويتأولوا لها أوجها تئول بها إلى الحسن والمشروعية؛ فكيف يستطاع بعد ذلك تغيير المنكر ومقاومة البدعة؟!
تلك هي دقة الموقف الحرج الذي وقفه الفقهاء في القرن الثامن، وذلك هو سر البطولة الفكرية التي تمثلت في أول متحرك للخروج بالفقه وأهله من ذلك الموقف الحرج الدقيق، وهو: الإمام أبو إسحاق الشاطبي1.
التعريف بكتاب الموافقات2:
لما كان الكتاب العزيز هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وكانت السنة راجعة في معناها إليه؛ تُفَصِّل مجمله، وتُبيِّن مشكله، وتبسط موجزه؛ كان لا بد -لِمُريد اقتباس أحكام هذه الشريعة بنفسه- من الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما تفرع عنهما بطريق قطعي من الإجماع والقياس.
ولما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب، وكانت لهم عادات في الاستعمال، بها يتميز صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ونصه وفحواه، إلى غير ذلك؛ كان لا بد -لطالب الشريعة من هذين الأصلين- أن يكون على علم بلسان العرب في مناحي خطابها، وما تنساق إليه أفهامُها في كلامها؛ فكان حذق اللغة العربية بهذه الدرجة ركنا من أركان الاجتهاد؛ كما تقرر ذلك عند عامة الأصوليين، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "رسالة الأصول".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "70-72" للشيخ محمد الفاضل بن عاشور.
2 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".(1/5)
ص -5-…هذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها:
إما حفظ شيء من الضروريات الخمس1 "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"، التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة.
وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج.
وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم الخلاق ومحاسن العادات.
وإما تكميل نوع من النواع الثلاثة بما يُعين على تحققه.
ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها.
ومعلوم أن هذه المراتب الثلاث تتفاوت في درجات تأكد الطلب لإقامتها، والنهي عن تعدي حدودها.
وهذا بحرٌ زاخر، يحتاج إلى تفاصيل واسعة، وقواعد كلية، لضبط مقاصد الشارع فيها "من جهة قصده لوضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضعها للأفهام بها، وقصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقصده في دخول المكلف تحت حكمها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الخمسة".(1/6)
ص -6-…تحقيق هذه المقاصد، وتحرِّي بسطها، واستقصاء تفاريعها، واستثمارها من استقراء موارد الشريعة فيها؛ هو معرفة سر التشريع، وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
إذ إنه لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا؛ لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع، ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع؛ فالواجب إذًا اعتبار الجزئيات بالكليات، شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات.
وإلى هذا أشار الغزالي فيما نقله عن الشافعي، بعد بيان مفيد فيما يُراعيه المجتهد في الاستنباط؛ حيث قال: "ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدة الرَّدْع، على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي".
ومن هذا البيان عُلِم أن لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها.
أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع، كما يعرف ذلك من وقف على شيء من محاوراتهم عند أخذ رأيهم واستشارة الأئمة لهم في الأحكام الشرعية التي كانوا يتوقفون فيها.(1/7)
ص -7-…وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين؛ فلا بد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه للأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر، وسموها "أصول الفقه".
ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية؛ أدرجوا في هذا الفن ما تمس إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر مما قرره أئمة اللغة، حتى إنك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئا من مقدمات علم الكلام ومسائله.
وكان الأجدر -في جميع ما دونوه- بالاعتبار من صلب الأصول هو ما يتعلق بالكتاب والسنة من بعض نواحيهما، ثم ما يتعلق بالإجماع والقياس والاجتهاد.
ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا؛ فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها، وأنها بحسب الأول ثلاثة أقسام: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات... إلخ، مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جلبت إلى الأصول من علوم أخرى.
وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك، دائر بين تلخيص وشرح, ووضع له في قوالب مختلفة.
وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه؛ حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن(1/8)
ص -8-…الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل؛ فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه "الموافقات"، تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية؛ لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة، وأن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس اختلافا في الخطاب الشرعي نفسه، بل عند اختلاف العوائد ترجع كل عادة إلى أصل شرعي يُحكمُ به عليها، وأن هذه الشريعة -كما يقول- خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تحمل الجماء الغفير؛ ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة؛ فهيما وغبيا.
المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه1:
لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشرعية، وأعرق نسب بعلم الأصول؛ فوضع في فاتحة كتابه ثلاث عشرة قاعدة، يتبعها خمسة فصول جعلها لتمهيد هذا العلم أساسا، ولتمييز المسائل التي تعتبر من الأصول نبراسا، ثم انتقل منها إلى قسم الأحكام الخمسة الشرعية والوضعية، وبحث فيها من وجهة غير الوجهة المذكورة في كتب الأصول، وأمعن بوجه خاص في المباح، والسبب، والشرط، والعزائم، والرخص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز أيضا.(1/9)
ص -9-…وناهيك في هذا المقام أنه وضع في ذلك ربع الكتاب، تصل منه إلى علم جم، وفقه في الدين، وقد رتب عليه في قسم الأدلة قواعد ذات شأن في التشريع، وهناك يبين ابتناء تلك القواعد على ما قرره في قسم الأحكام؛ حتى لترى الكتاب آخذا بعضه بحجز بعض.
ثم إن عرائس الحكمة ولباب الأصول، التي رسم معالمها وشد معاقلها في مباحث الكتاب والسنة، ما كان منها مشتركا وما كان خاصا بكل منهما، وعوارضهما؛ من الأحكام، والتشابه، والنسخ، والأوامر، والنواهي، والخصوص، والعموم، والإجمال، والبيان، هذه المباحث التي فتح الله عليه بها لم تسلس له قيادها، وتكشف له قناعها؛ إلا باتخاذه القرآن الكريم أنيسه، وجعله سميره وجليسه على ممر الأيام والأعوام، نظرا وعملا، وباستعانته على ذلك بالاطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في كلام الأئمة السابقين، والتزود من آراء السلف المتقدمين، مع ما وهبه الله من قوة البصيرة بالدين، حتى تشعر وأنت تقرأ في الكتاب كأنك تراه وقد تسنم ذروة طود شامخ، يشرف منه على موارد الشريعة ومصادرها، يحيط بمسالكها، ويبصر بشعابها, فيصف عن حس، ويبني قواعد عن خبرة، ويمهد كليات يشدها بأدلة الاستقراء من الشريعة؛ فيضم آية إلى آيات، وحديثا إلى أحاديث، وأثرا إلى آثار؛ عاضدا لها بالأدلة العقلية والوجوه النظرية حتى يدق عنق الشك، ويسد مسالك الوهم، ويظهر الحق ناصعا بهذا الطريق الذي هو نوع من أنواع التواتر المعنوي، ملتزما ذلك في مباحثه وأدلته حتى قال بحق: إن هذا المسلك هو خاصية كتابه.
ولقد أبان في هذه المسائل منزلة الكتاب من أدلة الشريعة، وأنه أصل لجميع هذه الأدلة، وأن تعريفه للأحكام كلي، وأنه لا بد له من بيان السنة، كما بيَّن أقسام العلوم المضافة إلى القرآن، وما يحتاج إليه منها في الاستنباط وما لا يحتاج إليه، وتحديد الظاهر والباطن من القرآن، وقسم الباطن الذي يصح(1/10)
ص -10-…الاستنباط منه والذي لا يصح الاستنباط منه، وأثبت أن المكي اشتمل على جميع كليات الشريعة، والمدني تفصيل وتقرير له، وأنه لا بد من تنزيل المدني على المكي، وأن النسخ لم يرد على الكليات مطلقا، وإنما ورد على قليل من الجزئيات لأسباب مضبوطة، وحدد الضابط للحد الأعدل الأوسط في فهم الكتاب العزيز الذي يصح أن يبنى عليه اقتباس الأحكام منه، ثم بين رتبة السنة ومنزلتها من الكتاب، وأنها لا تخرج في أحكام التشريع عن كليات القرآن1، وأثبت ذلك كله بما لا يدع في هذه القواعد شبهة.
وقد جعل تمام الكتاب باب الاجتهاد ولواحقه؛ فبيَّن أنواع الاجتهاد، وما ينقطع منها، وما لا ينقطع إلى قيام الساعة، وأنواع ما ينقطع، وما يتوقف منها على الركنين -حذق اللغة العربية حتى يكون المجتهد في معرفة تصرفاتها كالعرب، وفهم مقاصد الشريعة على كمالها- وما يتوقف منها على الثاني دون الأول، وما لا يتوقف على واحد منهما.
ثم أثبت أن الشريعة ترجع في كل حكم إلى قول واحد، مهما كثر الخلاف بين المجتهدين في إدراك مقصد الشارع في حكم من الأحكام، وبنى على هذا الأصل طائفة من الكليات الأصولية، ثم بين محال الاجتهاد، وأسباب عروض الخطأ فيه... إلخ.
وفيما ذكرناه إشارة إلى قطرة من ساحل كتاب "الموافقات" الذي لو اتخذ
منارا للمسلمين بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لكان منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعتنى الشيخ العلامة عبد الغني عبد الخالق بمناقشة أدلة المصنف حول هذا الزعم عناية دقيقة فائقة، وذكرنا مناقشاته عند كلام المصنف في المجلد الأخير من كتابنا هذا(1/11)
ص -11-…الميدان؛ سوى مجرد الدعوى، وتمكن الهوى، وترك أمر الدين فوضى بلا رقيب.
فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ الرأي من غير إحاطة بمقاصد الشارع لتكون ميزانا في يده لهذه الأدلة الجزئية، وفريقا آخر يأخذ الأدلة الجزئية مأخذ الاستظهار على غرضه في النازلة العارضة؛ فيحكِّم الهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تبعا لغرضه، من غير إحاطة بمقاصد الشريعة ولا رجوع إليها رجوع الافتقار، ولا تسليم لما روي عن ثقات السلف في فهمها، ولا بصيرة في وسائل الاستنباط منها، وما ذلك إلا بسبب الأهواء المتمكنة من النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل، واطراح النصفة وعدم الاعتراف بالعجز، مضافا ذلك كله إلى الجهل بمقاصد الشريعة والغرور بتوهم بلوغ درجة الاجتهاد1، وإنها لمخاطرة في اقتحام المهالك, أعاذنا الله.
ونعود إلى الموضوع؛ فنقول: إن صاحب "الموافقات" لم يذكر في كتابه مبحثا واحدا من المباحث المدونة في كتب الأصول؛ إلا إشارة في بعض الأحيان لينتقل منها إلى تأصيل قاعدة، أو تفريع أصل, ثم هو مع ذلك لم يغض من فضل المباحث الأصولية، بل تراه يقول في كثير من مباحثه: إذا أضيف هذا إلى ما تقرر في الأصول أمكن الوصول إلى المقصود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نجد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "7/ 197-198" ينظر نظرة أخرى لهذا الموقف السلبي من "المقاصد"، ويعتذر لهم بأنهم كانوا خائفين على الشريعة من الهدم، ويذكر أنهم "فروا من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا -مع اعتبارهم كلهم له- خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم، وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم؛ فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية؛ فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسائل العلة في القياس".(1/12)
ص -12-…وجملة القول أن كلا مما ذكره في كتب الأصول، وما ذكره في "الموافقات"؛ يعتبر كوسيلة لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة؛ إلا أن القسم المذكور في الأصول على كثرة تشعبه، وطول الحجاج في مسائله، تنحصر فائدته في كونه وسيلة؛ حتى لطالما أوردوا على المشتغلين به الاعتراض بأنه لا فائدة فيه إلا لمن يبلغ درجة الاجتهاد؛ فكان الجواب الذي يقال دائما: إن فائدته لغير المجتهد أن يعرف كيف استنبطت الأحكام، ولكن التسليم بهذا الجواب يحتاج إلى تسامح وإغضاء كثير؛ لأنه إنما يعرف به بعض أجزاء وسيلة الاستنباط مفككة منثورة، والبعض الآخر -وهو المتعلق بركن معرفة مقاصد الشريعة- فاقد, وما مثله في هذه الحالة إلا كمثل من يريد أن يعلمك صنعة النساجة فيعرض عليك بعض أجزاء آلة النسيج محلولة مبعثرة الأجزاء، ولا تخفى ضئولة تلك الفائدة.
أما القسم الذي ذكره الشاطبي في الأجزاء الأربعة من كتابه؛ فهو وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا؛ إلا أنه في ذاته فقه في الدين، وعلم بنظام الشريعة، ووقوف على أسس التشريع، فإن لم نصل منه إلى الاتصاف بصفة الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط؛ فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشارع، وسر أحكام الشريعة، وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن؛ يدفع عنه الحيرة، ويطرد ما يلم به من الخواطر، ويجمع ما زاغ من المدارك؛ فلله ما أفاد الشريعة الإسلامية هذا الإمام رضي الله عنه!
السبب في عدم تداول الكتاب1:
بقي أن يقال: إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تحته مأخوذ من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".(1/13)
ص -13-…على ما وصفت؛ فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة، بَلْهَ العكوف على تقريره، ونشره بين علماء الشرق، فلو لم تكن الكتب المشتهرة أكثر منه فائدة ما احتجب واشتهرت؟
وجوابه: أن هذا منقوض؛ فإنه لا يلزم من الشهرة عدمها فضل ولا نقص، فالكتب عندنا كالرجال؛ فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر؟ ويكفيك تنبيها على فساد هذه النظرية ما هو مشاهد؛ فهذا كتاب "جمع الجوامع بشرح المحلى" بقي قرونا طويلة، هو كتاب الأصول الوحيد الذي يدرس في الأزهر ومعاهد العلم بالديار المصرية، مع وجود مثل "الإحكام" للآمدي، وكتابي "المنتهى" و"المختصر" لابن الحاجب, و"التحرير"، و"المنهاج" و"مسلم الثبوت"، وغيرها من الكتب المؤلفة في نفس القسم الذي اشتمل عليه "جمع الجوامع".
وقد نسجت عليها عناكب الإهمال؛ فلم يبرز بعضها للتداول والانتفاع بها إلا في عهدنا الأخير، ولا يختلف اثنان في أن "جمع الجوامع" أقلها غناء، وأكثرها عناء.
وإنما يرجع خمول ذكر الكتاب إلى أمرين1:
أحدهما: المباحث التي اشتمل عليها.
وثانيهما: طريقة صوغه وتأليفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يضاف إليهما ما انتشر من أساليب عقيمة في درس العلوم وتحصيلها بداية من القرن التاسع؛ فقد أخذ الناس يعكفون على "المختصرات" يحفظونها، ويرددون أقوال غيرهم، وتركوا الاجتهاد والبحث والابتكار.
انظر: "أليس الصبح بقريب" "79" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص107" لحمادي العبيدي.(1/14)
ص -14-…فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يُسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول؛ إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه, فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة, فلم تتطاول همة من سمع منهم بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه، واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها فيما ألفوا، ولفْتِ طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها.
والثاني أن قلم أبي إسحاق -رحمه الله- وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا؛ كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه؛ فهناك ترى ذهنا سيالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء من المفردات ولا أغراض المركبات؛ إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه؛ فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل؛ فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه، ومع هذا؛ فالكتاب يعين بعضه على بعض؛ فتراه يشرح آخره أوله وأوله آخره.(1/15)
ص -15-…مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب:
الشاطبي -رحمه الله- واسع الاطلاع، ينقل من كثير من الكتب، ولكنه قليل التصريح بأسمائها1، ويميل إلى الإلغاز والإبهام في ذلك، ولا سيما في كتابنا هذا وكتابه الآخر "الاعتصام"، خلافا لـ"الإفادات والإنشادات".
والإمام مالك وكتبه وكتب مذهبه وأصحابه2 هي أكثر ما يذكر في كتابه هذا؛ فهو ينقل كثيرا من "الموطأ"، وصرح3 به مرارا؛ كما في "2/ 116، 295، 4/ 112، 131، 320..."، ومن شروحه كـ"القبس" لابن العربي كما في "3/ 197, 198، 199، 201..."، و"المنتقى" للباجي كما في "4/ 109"، ولم يصرح بهما.
وينقل أيضا من "المدونة" وصرح بذلك في موطنين "1/ 387، 3/ 498"، ونقل منها ولم يصرح بها في مواطن، ومن "العتبية" وصرح بها في "2/ 361 و3/ 147، 158، 271 و4/ 110 و5/ 198"، ومن شرحها "البيان والتحصيل" ولم يصرح به، ونقل منه في مواطن كثيرة منها "3/ 498 و4/ 110".
ونقل أيضا من كثير من كتب المالكية؛ كـ"الموَّازية" في "5/ 85"، و"نوازل ابن رشد" في "5/ 100"، و"مختصر ما ليس في المختصر" في "1/ 273"، و"الكافي" في "1/ 387"، و"المبسوطة" في "1/ 386، 387"، و"مقدّمات ابن رشد" في "1/ 187"، و"الأموال" للداودي "1/ 184"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مع ملاحظة أنه يعزو الأقوال لقائليها إلا في القليل النادر.
2 على اختلاف فنونها؛ كأحكام للقرآن، أو شرح للحديث، أو الفقه، أو الأصول...
3 ونقل منه ولم يصرح به مرارا أيضا، والظاهر أنه ينقل من روايات كثيرة منه؛ فها هو يعزو حديثا إليه في "4/ 320"، ولم أظفر به في رواياته الخمس المطبوعة للآن.(1/16)
ص -16-…وصرح بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي -وأكثر جدا- من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض -وصرح به في موطنين فقط، هما في "3/ 84 و5/ 96"- ومن "الرسالة" للقشيري، ومن "جامع بيان العلم"1 لابن عبد البر.
وهو ينقل من هذه الكتب أخبار وتراجم وأقوال الصحابة والتابعين، وكذا أخبار مالك وأصحابه، وأخبار الزهاد والعابدين، وقصصهم وحكاياتهم، ونقل من "جامع بيان العلم" أيضا كثيرا من الأحاديث والأخبار والآثار، ومن كتاب ابن عبد البر الآخر "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"؛ كما تراه في "3/ 203"، علما بأنه لم يصرح قط بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي من كثير من كتب التفسير وأحكام القرآن وفضائله وناسخه ومنسوخه ومشكله؛ مثل: "أحكام القرآن" لإسماعيل بن إسحاق وصرح به في "5/ 33"، و"أحكام القرآن" لابن العربي وصرح به في "5/ 196"، ونقل منه ولم يصرح به في مواطن كثيرة منها "2/ 273 و4/ 195"، ونقل مواطن من "تفسير سهل بن عبد الله التستري"؛ كما تراه في "4/ 162، 242، 245"، وكذا من كتاب "فضائل القرآن" لأبي عبيد وصرح بذلك في "1/ 51"، ونقل منه ولم يصرح في "4/ 148، 172"، ومن "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي وصرح به في "1/ 388 و3/ 340"، ولأبي عُبيد ولابن النحاس؛ كما تراه لهما في "3/ 340"، ولمكي بن أبي طالب؛ كما تراه في "3/ 346، 363" ولم يصرح بأسمائها، و"مشكل القرآن" لابن قتيبة وصرح به في "5/ 150" ولم يصرح به في "2/ 207".
أما كتب الحديث والرواية والأخبار والرجال؛ فهو ينقل من دواوين السنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مثلا: "4/ 75 و5/ 107، 122-123".(1/17)
ص -17-…المشهورة؛ مثل: "الصحيحين"، و"الموطأ"، و"سنن أبي داود"، و"سنن الترمذي"، و"سنن النسائي".
وينقل أيضا من "مسند البزار"، و"جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري"، و"الجهاد" لابن حبيب، و"مشكل الحديث"1 لابن قتيبة، و"فوائد الأخبار" للإسكاف، و"مشكل الآثار"2 للطحاوي، و"المؤتلف والمختلف" لعبد الغني بن سعيد الأزدي، و"الدلائل"3 لثابت، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض4، وصرح بأسماء هذه الكتب جميعا، وترى مواطن ذلك في فهرس الكتب في المجلد السادس.
وقد ظفرتُ من خلال التحقيق بنقولات للشاطبي في كتابه هذا من كتب الحديث وشروحاته لم يصرِّح بأسمائها؛ مثل: "القبس"، و"المنتقى" -كلاهما شرح لـ"الموطأ"، ومضى بيان مواطن ذلك- و"المعلم بفوائد مسلم" للمازري في "3/ 456، 464-465 و5/ 290، 418، 420"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" في "3/ 70"، و"تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري في "5/ 288"، و"إعلام الحديث شرح البخاري" للخطابي في "5/ 93".
ووجدته ينقل أحاديث وآثارا من "الشفا" للقاضي عياض، و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، و"الإحياء" للغزالي.
والغزالي من أكثر الأعلام المذكورين في كتاب الشاطبي هذا، وكتبه التي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "4/ 226، 234".
2 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "3/ 275".
3 انظر عنه: كتابنا "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" "رقم 536".
4 ونقل منه في "5/ 290" ولم يصرح باسمه.(1/18)
ص -18-…صرح بالنقل منها كثيرة؛ منها: "الإحياء" -وأكثر من النقل منه- و"إلجام العوام"، و"جواهر القرآن"، و"المستظهرية" -أو "فضائح الباطنية"- و"مشكاة الأنوار"، و"المنقذ من الضلال"1، و"بعض كتبه" في "5/ 289"، وهو من أكثر من يذكرهم من الأصوليين، وينقل من كتابه "المستصفى" ولم يصرح به2، ومن "شفاء الغليل" وصرح به في "5/ 20".
ويليه في الذكر: الرازي، ونقل من كتابه "المحصول" كثيرا3، وصرح به في موطن واحد فقط هو في "2/ 76"، و"التنقيح" وصرح به أيضا في "2/ 76".
ثم الجويني، ونقل منه كثيرا، وصرح بـ"البرهان" مرة واحدة في "1/ 364"، و"الإرشاد" كذلك في "3/ 537".
ثم القرافي، ولم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "الفروق"4 في "1/ 390، 395 و4/ 65، 106"، ومن "نفائس الأصول شرح المحصول" في "2/ 68-80، 86".
ثم العز ابن عبد السلام، لم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "القواعد الكبرى" وقد أبهمه.
وينقل أيضا من "القواعد" لشيخه المقري ولم يصرح باسمه، تراه في "1/ 111".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر مواطن النقل من هذه الكتب في الفهارس آخر الكتاب "فهرس الكتب".
2 انظر مثلا: "5/ 54، 55".
3 مثل "5/ 105".
4 انظر مقارنة بديعة بين "الفروق" و"الموافقات" في: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 94-95" للأستاذ فتحي الدريني.(1/19)
ص -19-…ولا ينسى في هذا المقام الإمام الشافعي؛ فإن الشاطبي استفاد منه، ونقل من كتابه العظيم "الرسالة" وصرح به فقط في مرتين "2/ 104 و5/ 56".
ونقل أيضا من كتابه "الأم" ولم يصرح به، وهناك إشارات تنبئ على ذلك، انظر منها: "2/ 324"، واستفاد الشاطبي أيضا من شروحات "الرسالة"، وصرح بأنه وقف على "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب في "3/ 127".
ونقل الشاطبي أيضا من كتب الباجي وصرح بأسماء بعضها؛ مثل: "أحكام الفصول" في "5/ 421" -ونقل منه أيضا في "5/ 109، 111" ولم يصرح باسمه- و"التبيين لسنن المهتدين" في "5/ 89".
ونقل عن ابن حزم ولعل ذلك في "النبذ"1 و"مراتب الإجماع"2، وعن ابن بشكوال، ولعل ذلك في "المنقطعين إلى الله"، وهو مطبوع، ولكن لم أظفر به بعد.
ومن مصادر الشاطبي في كتابه هذا بعض كتب اللغة والأدب؛ كـ"الكتاب" لسيبويه وصرح بالنقل منه في "5/ 54"، و"الكامل" للمبرد وصرح بالنقل منه في "4/ 283"، و"الخصائص" لابن جني ولم يصرح باسمه، ونقل منه في مواطن منها "2/ 133"، و"درة الغواص" أو "مقامات الحريري" وصرح بالنقل منه في "3/ 288".
ونقل أيضا من بعض كتب الفلسفة؛ مثل كتاب ابن رشد "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "4/ 189".
2 انظر: "4/ 82".(1/20)
ص -20-…ونقل أيضا من بعض كتب الشافعية، ولم أظفر له بنقل من كتب الحنفية أو الحنابلة، وصرح في "3/ 131" أن هذه الكتب كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب.
ومن كتب الشافعية التي نقل منها: "الحاوي الكبير" للماوردي؛ كما في "4/ 111"، ولم يصرح باسمه، ونقل أيضا من "الورع" للصنهاجي فقرات طويلة، ولم يذكر اسمه ولا اسم كتابه؛ كما تراه في التعليق على "1/ 171".
هذه هي المصادر التي ظفرتُ بنقل للشاطبي منها1، ولم أفز بذلك إلا بالمرور على كثير من الكتب، وتقليب آلاف الصفحات، ومضي عشرات الساعات، ولعلي في قابل الأيام أظفر بزوائد فرائد؛ فإن النية متوجهة للعناية بهذا الكتاب حتى بعد طبعه ونشره؛ ليظهر إن شاء الله في طبعات لاحقات مجودا بالقدر الذي ينبغي أن يحتله بين سائر الكتب، وما ذلك على الله بعزيز.
مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب:
أجمع مترجمو الشاطبي والباحثون المتأخرون -ولا سيما في علم "مقاصد الشريعة"- على أن الشاطبي هو الإمام الذي فتح الباب واسعا لطلبة العلم وأهله للتطلع إلى أسرار الشريعة وحكمها، ومهد لهم طريق التعامل مع مقاصدها وكلياتها، جنبا إلى جنب مع نصوصها وجزئياتها، بل يكاد2 هؤلاء أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عدا مجالسه ومناظراته، وصرح ببعضها في كتابنا هذا منها "4/ 13"، وكذا مراسلاته ومكاتباته للعلماء، كما وقع له في مسألة "مراعاة الخلاف".(1/21)
2 ظهرت نظرية "المقاصد" قبل الشاطبي على هيئة لمحات وخطرات متناثرة، ثم أخذت تبرز لهذا الفن قواعد، وتتكامل، وتتميز شيئا فشيئا عن قواعد أصول الفقه، واعتمد الشاطبي في كتابه هذا على جهود سبقته لكثير من العلماء، انظر تفصيل ذلك في الكتب التي أفردت "المقاصد" بالدراسة؛ مثل: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة" "ص45 وما بعد" لعلال الفاسي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص149 وما بعد" ليوسف العالم، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص134 وما بعد" لحمادي العبيدي، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص259 وما بعد" لأحمد الريسوني.
1- "نيل الابتهاج" "ص48".(1/22)
ص -21-…يتفقوا على أن الشاطبي هو مبتدع هذا العلم "المقاصد" كما ابتدع سيبويه علم النحو، وابتدع الخليل بن أحمد علم العروض.
وهذه شذرات من كلام العلماء والباحثين في مدح هذا الكتاب:
يقول أحمد بابا عن هذا الكتاب:
"كتاب "الموافقات" في أصول الفقه كتاب جليل القدر جدا لا نظير له، يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم سيما علم الأصول، قال الإمام الحفيد ابن مرزوق: كتاب "الموافقات" المذكور من أقبل الكتب"1.
ويقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عن هذا الكتاب وأثره في التفكير الإسلامي بعد عصره:
"ولقد بنى الإمام الشاطبي حقا بهذا التأليف هرما شامخا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليها قبله؛ فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله؛ لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصور الحياة المختلفة(1/23)
ص -22-…المتعاقبة"1.
ويذهب أبوه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أن الشاطبي هو "الرجل الذي أفرد هذا الفن بالتدوين"2.
ويوازن الشيخ عبد المتعال الصعيدي بين الشاطبي في ابتداعه علم المقاصد، وبين الشافعي في ابتداعه علم الأصول؛ فيقول:
"بهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي؛ لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون، وهذا باهتمامه بمقاصد الشريعة"3.
ويذكر الشيخ محمد الخضري أن ما اهتدى إليه الشاطبي ألصق بالاجتهاد من أصول الفقه، وقد قال بهذا الصدد:
"ومن الغريب أنه على كثرة ما كُتِب في أصول الفقه لم يُعْنَ أحد بالكتابة في الأصول التي اعتبرها الشارع في التشريع، وهي التي تكون أساسا لدليل القياس، لأن هذا الدليل روحه العلل المعتبرة شرعا، وهذه العلل منها ما نص الشارع على اعتباره، ومنها ما ثبت عنده اعتباره في تشريعه، ومع أن هذه القواعد ينبغي أن يبذل الجهد في توضيحها وتقريرها حتى تكون نبراسا للمجتهدين، والاشتغال بها خير من قتل الوقت في الخلاف والجدل في كثير من المسائل التي لا يترتب عليها ولا على الخلاف فيها حكم شرعي، ولعلهم تركوا ذلك للفقهاء مع أن هذه القواعد بعلم أصول الفقه ألصق, وأحسن من رأيته كتب في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "ص76".
2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8".
3 "المجددون في الإسلام" "ص309".(1/24)
ص -23-…ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة "780هـ"1 في كتابه الذي سماه "الموافقات"، وهو كتاب عظيم الفائدة، سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره"2.
ويقول الشيخ علي حسب الله:
"وقد جاء أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة "790هـ" في كتابه "الموافقات" بما لم يُسْبَقْ إليه"3.
ويذهب صبحي المحمصاني إلى أن ما ابتدعه الشاطبي من علم المقاصد يفوق ما في كثير من الشرائع القريبة المعاصرة؛ "فقد حلل مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها بصورة لم تصل إليها كثير من الشرائع الغربية الحالية؛ فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقا للمقاصد التي وضعت لها"4.
ويذكر أحمد أمين أن الشاطبي سلك طريقة مخالفة لطرائق أهل المشرق جميعا؛ فكان أسلوبه أيسر وألطف، كما جاء بمباحث جديدة لم يعرفها الناس5.
ولماذا نذهب بعيدا؛ فالشاطبي نفسه كان يرى أنه هو الذي ابتكر هذا العلم؛ فيقول:
"فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصحيح أنه توفي سنة "790هـ" على ما سيأتي في ترجمته في أول المجلد السادس.
2 "أصول الفقه" "ص12".
3 "أصول التشريع الإسلامي" "ص7".
4 "مقدمة في إحياء علوم الشريعة" "ص22".
5 "ظهر الإسلام" "3/ 55".(1/25)
ص -24-…الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله، أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه -فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار- ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار"1.
ويقول شيخنا العلامة مصطفى الزرقاء:
"ومنذ أن نشر كتابه "الاعتصام" في البدع، وكتابه الآخر: "الموافقات في أصول الشريعة"2، وكانا من الكنوز الدفينة، أخذ اسم الشاطبي يدور على ألسنة العلماء والفقهاء، وأصبح الكتابان -ولا سيما "الموافقات"- من ركائز التراث الأساسية التي يلجأ إليها أساتذة الشريعة وطلابها المتقدمون، تفهما في دراستهم، وعزوا وتوثيقا لأفهامهم فيما يكتبون، ولمع نجم الشاطبي منذئذ بالمشرق في هذا الأفق العلمي، ثم أخذ يزداد سطوعا حتى أصبح يُستضاء به في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها، وتوضح به الحجة، وتقام بما فيه المحجة"3.
وقد مدحه أيضا من نظم الكتاب أو من اختصره على ما سيأتي في مبحث "الجهود التي بذلت حول الكتاب"، ويقول محمد محمود الشنقيطي:
"حق هذا الكتاب أن يستنسخ ويطبع في بلاد المسلمين لاحتياجهم إليه عموما، خصوصا المالكيين منهم، والحنفيين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموافقات" "1/ 12-13".
2 زيادة: "في أصول الشريعة" أمر شاع وانتشر، ولا أصل له، على ما بيناه تحت "تحقيق اسم الكتاب".
3 تقديم "فتاوى الشاطبي" "ص8".
4 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21".(1/26)
ص -25-…وذهب رشيد رضا إلى أن الشاطبي يُعد بكتاب "الموافقات" نظيرا لابن خلدون في "المقدمة".
فكلاهما ابتدع من التأليف ما لم يُسبق إليه، كما أنهما انتهيا إلى وضع واحد هو أن الأمة الإسلامية التي ابتدع لها هذان العبقريان كتابيهما، أو علميهما الجديدين، لم تقبل على إبداعهما العجيب، ولم تنتفع به1.
ويتمنى بعض الدارسين أن "لو اتخذ كتاب "الموافقات" منارا للمسلمين، بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لتكون منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة"2.
ويقول آخر من المعجبين بهذا الأثر النفيس:
"وأشهر ما تركه الشاطبي كتاب "الموافقات" في أصول الشريعة، والكتاب غزير العبارة، واسع الحجة، وهو من دون شك من أنفس ما كُتب في علم الأصول، وفي التشريع الإسلامي، وذلك بشهادة الأستاذ الشيخ محمد عبده نفسه، والشيخ محمد الخضري، وفي "الموافقات" تحقيق دقيق في مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها، وقد نجح الشاطبي في تحليل ذلك وإيضاحه كله ببيان وإسهاب"3.
ولقد أوردت هذه التقاريظ للمعاصرين بنصوصها لأكشف إلى أي مدى شُغف الناس بكتاب "الموافقات" هذه الأيام، ولعل مؤلف الكتاب نفسه قد سبقهم إلى الإعجاب بكتابه، والتنويه به، والإشادة بما بذل فيه من جهد؛ فهو يقول عن نفسه وعن كتابه ما يأتي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقدمة "الاعتصام" "1/ 4".
2 من كلام شيخ دراز المتقدم "ص14".
3 "النظرية العامة في الموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية" "1/ 51".(1/27)
ص -26-…"فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان، وفوائده الغريبة البرهان، وبدائعه الباهرة للأذهان؛ ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل، ويقصر عن بث معشاره اللسان، إيرادا يميز المشهور من الشاذ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل، ويُبصِّره في مقامه الخاص به بما دق وجلَّ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال؛ ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمحال"1.
فهو يريد أن يقول: إن كتابه هذا قد اتخذ سبيلا وسطا، لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو الاعتدال الذي اتسم به الإسلام، والذي ينأى بأهله عن الشدة والعسر والانحلال والتميّع إلى السماحة واليسر، ثم هو إلى ذلك مشبع نهم العقول إلى المعرفة، وواجدٌ كل طالب طلبته على قدر مستواه الذهني، وطاقته العقلية، وجهده في الطلب، وأنه قد وضعه على طريقة مُثلى؛ فهو مع سهولته ويسره عسير المنال، لا تستطيع العقول النافذة أن تكشف عن كل ما فيه، ولا الألسنة الفصيحة أن تترجم عن أقل ما حواه.
وفي مكان آخر من كتابه هذا لا يفتأ ينوه بالبناء المتماسك الذي يذكر أنه وضعه عليه، وأن محاولة تغيير جزء قليل من هذا البناء يفسده كله، وليس البناء الذي أقام عليه كتابه إلا هذه الكليات العامة للمقاصد الشرعية، والتي يذكر أنه تمكن منها بعد طول النظر والاستقصاء والدرس؛ فأحاط بها، وسبكها سبكا محكما لا يقبل الانخرام، بحيث إذا انخرم كلي منها؛ فقد انخرم النظام كله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموافقات" "1/ 9".(1/28)
ص -27-…وبهذا الصدد يقول:
"وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبيّن به من قرب بيانُ القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد؛ انخرم نظام الشريعة".
والحقيقة أن كتاب "الموافقات" -وإن كان قد خلص أصول الفقه من الجدل اللفظي، ووجه النظر إلى المعاني والمقاصد- إلا أنه حافل بالاستطرادات التي تشتت وحدة الموضوع، ثم إن مؤلفه سلك فيه المنهج القديم في طرح القضايا، فتراه يذكر القاعدة أو الأصل في بضعة أسطر ثم يأخذ في فرض الاعتراضات والردود عليها؛ مما أضفى على الكتاب روح الجدل الممل، كما أنه أكثر من التفريع والتجزئة للمسائل؛ مما جعل عمله يتخذ طابعا تعليميا لا يتيح للعقل أن يفكر وإنما يتيح للذاكرة أن تنقل فتتخم1.
ولهذا قامت جهود كثيرة حوله، من أهمها "المختصرات" و"الدراسات"، ونبين ذلك في الآتي:
الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة:
بذلت جهود قليلة حول كتاب "الموافقات"، ولا سيما من قبل الأقدمين؛ فلم نظفر -مثلا- بمن خرج أحاديثه أو علق عليه2، وإنما ظفرنا بعمل واحد قام به أحدُ تلاميذ المؤلف3 من وادي آش؛ فعمد إلى نظم كتاب "الموافقات"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص112" للدكتور حمادي العبيدي.
2 بل ظل الكتاب مغمورا إلى أن ظهر أول مرة سنة "1884هـ"، وسيأتي بيان ذلك.
3 نسبه بعض المعاصرين إلى "أبي بكر محمد بن عاصم ت 829هـ"، وفرق بعضهم بين عمل ابن عاصم وهذا النظم؛ فإن صحت التفرقة فتكون الجهود في النظم من قبل اثنين.(1/29)
ص -28-…وسمى نظمه "نيل المُنى من الموافقات"1، وتوجد منه نسخة خطية بدير الأسكوريال تحت "رقم 1164"، ونقتطف من أبياته ما يلي:
الحمد لله الذي من نعمته…أن بث في المشروع سر حكمته
وهيأ العقول للتصريف…بمقتضى الخطاب والتكليف
إلى أن يقول:
وبعدُ, فالعلم حياة ثانية…لها دوام والجسود فانية
وقد غدا ظل الشباب زائلا…ولم أنل من الزمان طائلا
جعلت في كتب العلوم أُنْسي…وعن سوى العلم صرفت نفسي
فالعلم أولى ما اقتضى به الزمن…وكتبه هي الجليس المؤتمن
والمورد المستعذب الفُرات …ومن أجلها "الموافقات"
لشيخنا العلامة المراقب …ذاك أبو إسحاق نجل الشاطبي
فهو كتاب حسن المقاصد …ما بعده من غاية لقاصد
وكان قد سماه بالعنوان …واختار من رؤيا ذا الاسم الثاني
وقد سمعت بعضه لديه…ومنه في ترددي عليه
لكن لم يكن له اختلافي…إلا يسير القدر غير شافي
لأن ثنى التقصير من عناني…وصدني عن قربه زماني
حتى غدت حياته منقضية…في عام تسعين وسبعمائة
والآن وقد نبذت عيني شغلي…وصار نيل العلم أقصى أملي
جدَّدْتُ عهدي باجتناء زهره…وردت فكري في اقتفاء أثره
…
إلى أن قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدل عنوانه أن هذا الاختصار من أعظم أماني المختصر.(1/30)
ص -29-…وجاعلا له من السمات…"نيل المُنى من الموافقات"
فعدُّه لم يعد في المَسطور…ستة آلاف من المشطور
وها أنا بما قصدت آتي…مقدما حكم المقدمات
وأسأل التوفيق والإعانه…في شأنه من ربنا سبحانه
وقد ختم النظم بما يلي:
"تم والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وذلك بمدينة وادي آش -كلأها الله- في أواخر ربيع الثاني عام 820هـ"1.
أما المعاصرون؛ فقد أقبلوا عليه، وتباروا في مدحه والثناء عليه2، ووجه أفاضل منهم العناية إليه، ويمكننا القول: إن خدمتهم لكتاب "الموافقات"
محصورة في ثلاثة محاور، هي:
المحور الأول: مختصراته.
قام باختصار الكتاب فيما وقفتُ عليه ثلاثة:
الأول: مصطفى بن محمد فاضل بن محمد مأمين الشنقيطي القلقمي3 "المتوفى سنة 1328هـ - 1910م".
نظم كتاب "الموافقات" ثم شرحه بعبارات المصنف مع اختصار شديد لها، ولكنه متين وقوي، وأفاد أنه وقف على "الموافقات" عام ستة بعد ثلاثمائة وألف، وقال: "ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21".
2 ومضت قريبا جملة من أقوالهم.
3 له ترجمة في المجلد السادس.(1/31)
ص -30-…وطبع هذا النظم مع شرحه سنة "1324هـ" بعنوان: "المرافق على الموافق" في مطبعة أحمد يمني بفاس، وأثبت على طرته: "طبع على نفقة قائد المشور السعيد السيد إدريس بنعيش".
جاء في أوله مدح لـ"الموافقات"، وبيان منهجه فيه، وهذا نص كلامه:
"الحمد لله الذي به شروح العلوم ونصوصها، وبه تعلم أصولها وفروعها كلما بدت خصوصها، وبه نيل معرفة ما هو عمومها وخصوصها، وبه تميز منها ما هو خواتمها وفصوصها، والصلاة والسلام على محمد الثابت به مرصوصها، الموافق بين ظاهرها وباطنها، المبين به خلوصها، وعلى آله وصحبه وتابعيهم الظاهر بهم قلوصها، وبعد؛ فيقول عبيد ربه ماء العينين ابن شيخه الشيخ محمد فاضل بن مامين، غفر الله لهم وللمسلمين آمين:
إنه لما تفضل الله علي بكتاب "الموافقات" للشيخ، العلامة، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، النظار، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الشاطبي، ثم الغرناطي -تفقده الله برحمته- عام ستة بعد ثلاثمائة وألف ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر؛ فأخذته واستشعرته بعد أن جعلته دثارا، وجعلت الحائل بيني معه الظلام لا ما دمت أرى له أنوارا، فإذا هو نور يذهب الظلام وينور البصائر والأبصار؛ إلا أنه بحر أبحر تغرق فيه البحار، ويرشف الأنهار؛ فقلت: من جاء البحر فليأت أهله بشيء من الدرر، إن أمكن، وإلا فليأتهم بشيء من العنبر، فلما نظرت إذا البحر لا ساحل له، ولا سفينة لي تمر بي فيه لأدخله؛ فبقيت متحيرا، وفي فضل ربي معتبرا؛ حتى تذكرت ما تفضل الله علي به فيما مضى من قولي غفر الله لي قولي وعملي:
شربت شرابا لا ذوو الخمر تشرب…وشاهدت ما الأبصار عنه تحجب(1/32)
ص -31-…وخضت بحارا لا تخاض بحيلة…ولكنها فضلا تُخاض وتُشرب
علمت أن فضل ربي ما انقضى، وقد قال لنبينا, عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ونحن له من عطائه، وهو لنا من آلائه؛ فاستقدرت على ما أردت منه بنبينا -صلى الله عليه وسلم- المستوى فيه ذكينا مع غبينا -صلى الله عليه وسلم- في صبحنا وعشينا، واقتحمت فيه بثيابي، وقلت هذا بحري وكتابي؛ فإذا هو البحر العذب الزلال، والكتاب الجامع لأصول مذاهب الرجال؛ فشرعت في استخراجي منه نظما، لعله يفيد من طلب منه علما؛ فتفضل الله علي بنظمه، لكن تعذر على الغير بعض فهمه؛ فطلب مني أن أشرحه شرحا يبين معناه؛ لتكثر الفائدة، ويسهل فهمه لمن تعناه؛ فشرحته شرحا ما جهدت فيه إلا في الاختصار، والتجافي عن منهج الإكثار، والمؤلفات تتفاضل بزهو الزهر والثمر لا بالهدر، وبالملح لا بالكبر، وبجموع اللطائف لا بتكثير الصحائف، وبفخامة الأسرار لا بضخامة الأسفار، ولذلك جعلت هذا الشرح مجلدا واحدا، ولو مددت فيه القلم لكان أربع مجلدات أو زائدا، لكني أتيت من الأصل بما فيه الكفاية، وما تحصل البغية لأهل الدراية، ولذلك سميته "المرافق على الموافق" مستعينا عليه بمبين الدقائق ومعلم الشرائع والحقائق، والمعطي من فضله جميع الخلائق، طالبا منه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ويكسونا القبول حتى يعم النفع بنا لذوي التخصيص والتعميم، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير"1.
الثاني: إبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم "المتوفى سنة 1377هـ - 1957م".
قال الزركلي في "الأعلام" "1/ 44": "له "اختصار الموافقات"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "المرافق على الموافق" "ص2-4".(1/33)
ص -32-…للشاطبي، مخطوط، جزآن، عند أسرته".
الثالث: محمد يحيى بن عمر المختار بن الطالب عبد الله الولاتي الشنقيطي1 "ت1330هـ - 1912م".
له "توضيح المشكلات في اختصار الموافقات", طبعه وراجعه حفيده بابا محمد عبد الله "المحاضر بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض"، ولم أقف منه إلا على مجلدين، وفي الآخر منهما ينتهي كتاب "المقاصد".
المحور الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه ومجاراته فيما كتب، وإحياء ضرورة معرفة المقاصد للمجتهد2.
نبه الشيخ محمد عبده في مطلع هذا القرن طلاب الأزهر وعلماءه إلى كتاب "الموافقات"، وذلك بعد طبعه في تونس، وكان يوصي به الأساتذة والعلماء؛ فيذكر محمد الخضري أنه لما كان بالسودان يدرس علم أصول الفقه للطلاب الذين يقع إعدادهم بالكلية ليكونوا قضاة, زار الشيخ محمد عبده السودان، فعرض عليه الشيخ الخضري ما كان يلقيه على الطلبة من دروس؛ فأثنى عليه، ولكنه دعاه إلى اعتماد كتاب "الموافقات" للشاطبي، وأن يمزج ما جاء في هذا الكتاب من علم المقاصد بما كان يدرسه للطلاب من علم الأصول حتى ينتبهوا إلى أسرار الشريعة الإسلامية، وتتسع آفاقهم للنظر، ويذكر الشيخ الخضري أنه استجاب لما طلب منه محمد عبده؛ فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 له ترجمة في: "الأعلام الشرقية" "1/ 403/ رقم 500-ط دار الغرب"، و"شجرة النور الزكية" "435"، و"المعسول" "8/ 281-287"، و"الأعلام" للزركلي "7/ 142-143".
2 تضمن هذا المحور الكلام على أثر الشاطبي بعامة وكتابه "الموافقات" بخاصة على الإصلاح والمصلحين في العصر الراهن.(1/34)
ص -33-…"فاستحضرت هذا الكتاب، وأخذت أطالعه مرات حتى ثبتت في نفسي طريقة الرجل، وجعلت آخذ منه الفكرة بعد الفكرة لأضعها بين ما آخذه من كتب الأصول؛ حتى جاء بحمد الله ما أمليته وفق مرامي"1.
وعن طريق محمد عبده تأثر الشيخ محمد رشيد رضا "ت 1935م" بكتاب "الموافقات"؛ فأخذ يعالج النواحي المصلحية في الشريعة، ويذكر أن مسائل المعاملات من سياسية وقضائية وغيرها ترجع كلها إلى قواعد حفظ المصالح ودرء المفاسد، وكل ما عُلم من مقاصد الشريعة2.
كما أن الشيخ محمدًا أبا زهرة وجه جهوده في مصنفاته الفقهية لإبراز المقاصد الشرعية تأثرا بالشاطبي عن طريق مدرسة المنار، ورأى أن الفقه لا يعطي ثماره إلا إذا أبرزت مقاصد أحكامه؛ فإن المقاصد هي عللها الحقيقية، ويقول هذا الكلام وهو يكتب عن ابن حزم الظاهري الذي يقوم مذهبه على رفض التعليل إطلاقا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "أصول الفقه" "ص13".
2 ولكن رشيد رضا لم يقف عند التأثر بالمقاصد وإنما كان تأثير الشاطبي فيه بالغا حده بكتاب "الاعتصام"؛ لأن اتجاهه كان منصبا على الدعوة السلفية؛ فوجد في هذا الكتاب بغيته، ورأى أنه لا تنحصر فائدته في كشف البدع واستئصالها فحسب، ولكنه يتضمن أصول الدعوة السلفية التي وجه إليها هو جهوده كلها، وكانت أعماله الإصلاحية تنطلق منها.
ومن الجدير بالذكر هنا أمران:
الأول: أن الشاطبي مجدد ومصلح، وأن كتابه "الموافقات" تضمن التجديد، وكتاب "الاعتصام" تضمن الإصلاح.
والآخر: أن شيخنا الألباني -حفظه الله- عرف "الدعوة السلفية" في أول أمره عن طريق محمد رشيد رضا.
3 انظر: "ابن حزم الظاهري" لمحمد أبي زهرة "ص409".(1/35)
ص -34-…فإذا جئنا إلى المغرب العربي وجدنا أن أهم من تأثر بالشاطبي رائدان عظيمان من رواد الإصلاح العلمي والاجتماعي والسياسي، هما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، والزعيم علال الفاسي في المغرب1.
أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور؛ فإنه تأثر بالشاطبي في المقاصد، وهو وإن وجه إليه نقدا حادا أحيانا؛ إلا أن ذلك النقد لم يتجاوز بعض المآخذ المنهجية التي رأى فيها أن الشاطبي اتسع عليه الموضوع فوقع في التطويل والاضطراب، وفي هذا المعنى يقول:
"تطوح في مسائله -أي: مسائل علم المقاصد- إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود"2، ولكنه مع ذلك لم يستطع إخفاء إعجابه به؛ فنوه بعمله، وأعلن أنه سيقتدي فيه، دون أن ينقل عنه نقلا حرفيا؛ فيقول:
"على أنه أفاد جد الإفادة؛ فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهماته، ولكن لا نقله ولا اختصاره"3.
ويذهب عبد المجيد تركي إلى أن كتاب "مقاصد الشريعة" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور يُعَدُّ مُسْتَلْهَما من كتاب "الموافقات" للشاطبي، الذي يُعد بحق مبتكر هذا الفن، وإن النقد الذي وجهه إليه ربما كان لإخفاء الاعتماد الكبير الذي اعتمده عليه في تأليف كتابه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص511، 515".
2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص7".
3 المرجع السابق، وانظر: "نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور" "ص420 وما بعد" لإسماعيل الحسني.
4 "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "89، 476، 477".(1/36)
ص -35-…والواقع أن المقارنة بين الجزء الثاني المخصص للمقاصد من كتاب "الموافقات" للشاطبي، وكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور تكشف عن أمرين: أولهما يتعلق بالناحية العلمية، وثانيهما بالناحية المنهجية، فما يتعلق بالناحية الأولى؛ فإن ابن عاشور خصص بحوثا خاصة للمقاصد في أبواب المعاملات، بينما الشاطبي تناول المقاصد كلها تناولا عاما.
وأما ما يتعلق بالناحية الثانية وهي الناحية المنهجية؛ فإن الشاطبي يبدأ بالكليات وينطلق منها إلى الجزئيات؛ فتراه يطرح القاعدة ثم يأتي عليها بأمثلة جزئية من فقه الفروع تطبيقا لها أو توضيحا، وبذلك ينهج منهج الأصوليين، بينما ابن عاشور يسلك عكس هذا المنهج؛ فيعالج قواعد المقاصد من منطلق الأمثلة الفرعية, فيسلك بذلك مسلك فقهاء الفروع1.
بقي لنا أن ننظر في تأثر علال الفاسي بالشاطبي، لقد ظهر ذلك في كتابه الذي سماه "دفاع عن الشريعة"، والذي يعد تعبيرا عن الأفكار الأساسية لهذا الزعيم، بل تعبيرا عن المواقف العملية التي وقفها في جهوده الإصلاحية داخل المغرب الأقصى، والتي تتجاوز المغرب إلى العالم الإسلامي كله في مواجهته للحضارة الغربية والأخذ عنها.
أما جهوده الإصلاحية المتجهة داخليا إلى تغيير أوضاع العالم الإسلامي؛ فإنه يرى أن هذا التغيير لا يتم إلا بأمرين:
أولهما: إحياء حركة الاجتهاد.
وثانيهما: إصلاح الفكر السياسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص65 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص5" لعلال الفاسي.(1/37)
ص -36-…فالاجتهاد ينبغي أن تكون مقاصد الشريعة أساسه، وما الأدلة الاجتهادية كلها إلا راجعة للمقاصد، ذلك أن اعتبار جلب المصالح واستبعاد المفاسد هو الذي يحدو الفقيه إلى البحث عن الحكم المناسب، والتماس العلة.
وإذن؛ فالمقاصد هي الركن في بناء الصرح التشريعي كله1.
وفي مجال الإصلاح السياسي تصبح المقاصد مجال النظر للقضايا العامة؛ كمراقبة السلطة التنفيذية، وسياسة الدولة التشريعية والاجتماعية؛ هل تسير طبقا لأحكام الشرع في تحقيق مصالح المسلمين وإبعاد المفاسد عنهم، أم لا؟
فإذا جئنا إلى مواقفه الخارجية؛ فإننا نجدها مواقف تتمسك بالأصالة، وتستلهم مقاصد الشريعة أيضا في هذه المواقف، وهو يفرق هنا بين اتجاهين، هما: اتجاه الاقتباس من قوانين الغرب ونظمه، واتجاه الأخذ من حضارته بوجه عام.
أما الاتجاه الأول؛ فيرفضه رفضا باتا، ويعلن أن هذا الرفض ليس مصدره التعصب، أو الكراهية للغرب، أو الجهل بقوانينه، وإنما مصدره العقيدة؛ فعقيدتنا الإسلامية تمنعنا من أن نعطل شريعة الإسلام ونحكم بقوانين الغرب، أو نتبع مناهجه في الاستنباط.
ويحلل نظريته هذه؛ فيذكر أن منهج الغرب في الاجتهاد يعتمد القانون الطبيعي، وما يسمونه قواعد العدالة والإنصاف، وما إلى ذلك من المبادئ التي اصطلحوا عليها.
أما منهج الاجتهاد في الشرع الإسلامي؛ فيقوم على أوامر الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مناظرات في أصول الشريعة" "517".(1/38)
ص -37-…ونواهيه، أي: على إرادة الله فيما أحب لعباده وما كره لهم، ومن هنا؛ فإن الشريعة الإسلامية مصدرها العقيدة أصلا، وليس القانون الطبيعي أو غيره مما يذكره الغربيون1.
وأما الاتجاه الثاني الذي هو الأخذ من الحضارة الغربية في غير النظم والقوانين؛ فإن الشريعة بمقاصدها ينبغي أن تكون محكمة فيه؛ فلا نأخذ عنهم إلا ما يكون مصدر قوة لنا، أما ما يكون باعثا على الانحلال والفساد؛ فلا2، ولا ينبغي أن يخدعنا ما يسميه الغربيون والمقلدون لهم تطورا؛ إذ قد يكون بالنسبة إلينا مسخا3.
إن مقاصد الشريعة هي التي تنير سبلنا؛ فنتبين على ضوئها التطور الحق، ونستمد منها مواقفنا من كل ما يَفِدُ علينا من تيارات أجنبية4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "دفاع عن الشريعة" "ص116-117".
2 "دفاع عن الشريعة" "ص147".
3 "دفاع عن الشريعة" "ص148".
4 "دفاع عن الشريعة" "ص148".
ويقول الدكتور حمادي العبيدي في كتابه "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص284" بعد أن أورد ما سبق من تأثر المعاصرين بالشاطبي وكتابه "الموافقات"؛ يقول:
"وإذا أردنا أن نوازن بين درجات التفاعل مع أفكار الشاطبي عند هؤلاء المصلحين الذين ذكرناهم؛ فإننا نرى أن علالا الفاسي هو الذي نقل تلك الأفكار إلى المجال الذي تجري فيه "الصحوة الإسلامية" المعاصرة، سواء في موقفها الداخلي ودعوتها إلى النهوض بالعالم الإسلامي، أو في موقفها الخارجي من الحضارة الغربية والاقتباس منها.
وهكذا يتضح أن الشاطبي ما يزال يعيش بيننا بفلسفته في المقاصد وآرائه الإصلاحية، وأن رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي يجدون فيها معينا لدعواتهم إلى الإصلاح والتجديد على أسس من القيم الإسلامية الثابتة".
قلت: وما تقدم يثبت صحة ما أوردناه عن الشيخ الفاضل بن عاشور "ص25" من قوله: =(1/39)
ص -38-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "وظهرت مزية كتابه -أي: "الموافقات"- ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية؛ فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح...".
والواقع أن هذا الاتجاه في النهوض بالعالم الإسلامي على أساس فكر أصيل يستمد من ينابيع المقاصد الشرعية قد ظهر نتيجة التصادم مع حضارة الغرب المادية، وحماية للمسلمين من فتنة الأفكار المستوردة التي لا تتلاءم مع مقتضيات حضارتهم وأصول دينهم الحنيف.
انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص507".
قلت: بهذا الصدد لا بد من التنبيه على أن كثيرا من البعيدين عن الجادة، والمحاربين للدعوة السلفية يتعلقون بكلام للشاطبي في كتابه هذا، ويأتون به في معرض "التجديد" والكلام على "ما أصاب المسلمين من ركود وتخلف وجمود"، ويخرجون بـ"نتائج" و"أحكام" عجيبة غربية، ويمكن تسمية صنيعهم هذا بـ"التلبيس المقلوب".
فها هو -مثلا- "محمد عابد الجابري" يذهب في مقالة له نشرت في مجلة "العربي" "عدد 334، سنة 1986م، ص25-29" بعنوان "رشدية عربية أم لاتينية" إلى أن الشاطبي في كتابه "الموافقات" يُعد عقلانيا، وها هو "راشد الغنوشي" "يحتج" بكلام للشاطبي في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" في مواطن كثيرة، وكأني به يقرر أن الشاطبي "اعتبر المصلحة هي أساس الشرع"، وهذا ما يلبس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذه القاعدة ذات البريق الجذاب.
انظر: "تزييف الإسلام وأكذوبة الفكر الإسلامي المستنير" "ص95" لمحمد إبراهيم مبروك، نشر دار ثابت - القاهرة.(1/40)
لقد ذهلت بعد مطالعتي لكتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"؛ فهو يقرر فيه أحكاما وقواعد وينسبها للشرع، ويتعلق بعد هذا كله بالأصوليين وعلى رأسهم إمامنا الشاطبي -رحمه الله تعالى- وهو في كتابه هذا يوافق نظرة الغرب حول الحرية وحول المرأة.
اقرأ قوله فيه "ص129":
"ولقد استند المجيزون إمامة المرأة الولاية العظمى إلى أن عمومات الإسلام تؤكد المساواة بين الذكر والأنثى، وأن الحديث المذكور -أي: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"- لا يمثل أساسا =(1/41)
ص -39-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= صالحا لتخصيص عموم المساواة، ذلك أن الحديث المذكور ورد بخصوص حادثة معينة صورتها أنه لما ورد على النبي أن كسرى فارس مات، وأن قومه ولوا ابنته مكانه؛ قال عليه السلام ذلك القول تعبيرا عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم؛ فالحديث لا يتعدى التعليق على الواقعة المذكورة حتى يكون مرجعا في مادة القانون الدستوري، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلا عن ظنيته من جهة السند لمنع المرأة من الإمامة العظمى".
ثم يضيف راشد الغنوشي ما يؤدي إلى نفي وجود نظام حكم في الإسلام، بل وإلى إلغاء الأحكام الشرعية جملة، يقول في هامش نفس الصفحة:
"إلا أن الأحكام الشرعية وخاصة ما تعلق منها بنظام الدولة الإسلامية ما ينبغي أن تبنى على سند ظني مهما كانت درجة الظنية ضئيلة".
ويصل إلى مبتغاه في "ص130"؛ فيقول:
"والنتيجة أنه ليس هناك ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة...".
ولن أرد هنا على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب إلى أن اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشرعية يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وأن قوله: "فيما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا" يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل المثال؛ فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية؛ كقطع السارق، وجلد الزاني أو رجمه، وقتل المرتد، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: "يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص".(1/42)
ولا تمنعنا موضوعية البحث ولا تحرجنا من دعوى الجهل أو التجاهل لبعض الثوابت في الإسلام، هذا أقل ما نقوله، والبينة عليه قائمة فيما أوردناه عنه. وهذا الذي ذكره الغنوشي في كتابه يناقض الأصول التي قررها الشاطبي في "الموافقات" عند كلامه على "العام" و"الخاص" و"الظني" و"القطعي".
أعود إلى ما ذكرت سابقا من أن أحدا من العلماء المعتبرين عند الأمة لا يقول بهذا المنهج أو مثله، ولا يقرر شيئا منه، ولم يأت أحد ممن يقول به حاليا أو من يتبعونه باستدلال شرعي صحيح =(1/43)
ص -40-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عليه، وجُل ما يأتون به هو ادعاء وجود هذا المنهج عند بعض العلماء الأفذاذ، والإتيان بنصوص من أقوالهم مع المحافظة على غموضها، ومن هؤلاء العلماء الكبار الإمام الشاطبي المالكي, رحمه الله.
ولقد صور الغنوشي في كتابه هذا منهجا خطيرا على المسلمين يتلخص بالتشريع بالمصلحة مجردة من أي قيد، والأخطر أن يُنسب ذلك النهج المبتدع والخطير إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- وأن يُدعى أن هذا هو منهج المفكرين الأصوليين المعاصرين.
يقول الغنوشي في "ص38":
"وإذا تقدمنا صوب المعاني التشريعية من أجل وضع إطار قانوني لحريات الإنسان أو لواجباته؛ وجدنا مفكري الإسلام المعاصرين يكادون يجمعون على تزكية الإطار الأصولي الذي وضعه العلامة الشاطبي في "الموافقات"، والمتلخص في اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، والتي صنفها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات...".
ويقول الغنوشي أيضا في "ص43" من كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية":
"وكان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة المغربي أبو إسحاق الشاطبي في رائعته "الموافقات" قد حظي كما تقدم بقبول عام لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين كأساس وإطار لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي، ومعلوم أن أبا إسحاق الشاطبي في تتبعه كليات الشريعة وجزئياتها قد كشف عن نظرية المصلحة العامة؛ فوجدها مرتبة في ثلاثة مستويات...".
ويقول أيضا في "ص358":(1/44)
"ولقد حظي هذا العلم "علم أصول الفقه" بعقول عظيمة تتابعت على تأصيل قواعده وتطويرها وإثرائها وصقلها؛ حتى بلغت مع العلامة الأندلسي الشاطبي أوجا عظيما متقدما امتدادا للنهج الذي سنه الإمام الشافعي؛ فلقد انصبت نخبة من العقول العظيمة التي امتلأت يقينا بعظمة الإسلام، وغاصت في نصوص الوحي كتابا وسنة، وفي تراث الفقه والتطبيق الأساسي وسائر علوم الإسلام خلال القرون، كما استوعبت جملة المعرفة البشرية المعروفة في العصر، وصاغت من خلال كل ذلك قواعد للتشريع على ضوء ما استخلصته من مقاصد الدين، وجملة مقاصد الدين تدور حول مصالح العباد؛ فإنما لأجل ذلك جاء الدين، يقول الشاطبي: "إنا استقرينا من الشريعة أنها =(1/45)
ص -41-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضعت لمصالح العباد استقراء ولا ينازع فيه الرازي ولا غيره"، ويقول: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا".
ويقول الغنوشي في "ص359".
"والاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر إلى قبول أصول الشاطبي إطارا عاما لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، انطلاقا من هذا الأصل العظيم؛ أن الدين إنما أنزل للتحصيل وللمحافظة على مصالح الناس في الدنيا والآخرة, وفي هذا المنظور العام والمقصد العام للشريعة أمكن لجزئيات الدين أن تجد مكانها اللائق بها كفرع من أصل، وفي هذا المنظور نفسه يمكن أن تجد المشكلات المستجدة في حياة المسلمين حلولها المناسبة...".
ثم يقول: "فما غلب ما فيه من صلاح عما فيه من فساد؛ فهو مشروع...".(1/46)
واضح من كلام الغنوشي أنه يقرر منهجا جديدا للتفكير أو للتشريع عند المسلمين، منهجا يقوم على المصلحة، وواضح أيضا أنه يريد الاستناد إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- من أجل إضفاء شرعية ما على مواقف أو طروحات غير شرعية؛ فيفهم من كلام الإمام، ويريد من قارئه أن يفهم أن الواقع يدرس دراسة عقلية، وتدرس جوانب المصلحة وجوانب المفسدة فيه، ثم يكون حكم الشرع في ذلك الواقع بحسب المصلحة كما يراها العقل، فإذا غلب العقل جانب المصلحة كان ذلك الشيء أو الأمر أو الواقع مشروعا، وإذا غلب جانب المفسدة كان العكس، وهكذا يتحقق مراده ومراد أصحاب هذا المنهج معه في استبعاد أحكام الشريعة التي لا توافق أهواءهم أو نظرتهم العقلية، ولكن الغنوشي لا ينسى التسويغ لهذا الموقف فيُفهم قارئه أن المجتمعات تتغير وتتبدل، ما يستدعي تطور الأحكام لتجاري تطور المجتمعات؛ فالمنهج الإسلامي الذي يصلح لجماعة ما أو زمان ما لا يصلح لكل جماعة وكل زمان، فإذا لم تتطور الشريعة تصبح جامدة وغير صالحة؛ فلا بد أن تكون قابلة للتطور، ولهذا لا بد أن تكون مرنة، ولا بد أن تتوافق مع الواقع لتعطيه من الأحكام ما يناسبه.
يقول في "ص358":
"ولأن من سمات المنهج الإسلامي الواقعية والمرونة بما يحقق خلوده وصلاحه لكل زمان ومكان، ولأن حياة الجماعات البشرية عامة، ومنهم جماعة المسلمين في حركية دائمة مثل حياة الأفراد تتوارد عليها حالات الصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والضعف والقوة؛ فلا مناص لدين جاء ليغطي حياة البشرية في كل أصقاعها على امتداد الزمان أن يتسع لتغطية كل =(1/47)
ص -42-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أوضاع التطور التي يمكن أن تمر بها جماعة أو جماعات المسلمين دائما...".
ويقول أيضا في "ص120":
"إن الشريعة ليست نصوصا جامدة، ولا هي مصوغة في صيغ نهائية، وليست أيضا مدونة قانونية بحيث وضعت لكل فعل وحالة حكما، وإنما المجال لا يزال فسيحا للتفسير والتحديد والإضافة والتجديد عن طريق استخدام العقل الفردي والجماعي "الاجتهاد"".
هذه النصوص المطولة التي أوردناها أعلاه عن الغنوشي كافية لبيان منهجه "العصري" في فهم الإسلام، والذي يتلخص في أن الأفراد والجماعات -ومنهم المسلمون- في تطور وتغير دائم، وتعتريهم حالات الصحة والمرض والقوة والضعف، والإسلام يجب أن يكون بناء على ذلك قابلا للتطور والتغير، ويجب أن يكون مرنا، وإلا لم يكن صالحا؛ فالأحكام يجب أن تتغير بحسب الواقع، فما كان حراما قد يصير حلالا، والقاعدة التي تتبع في ذلك هي المصلحة التي يراها العقل، فما يراه العقل محققا للمصلحة ودارئا للمفسدة؛ فهو مشروع إن خالف نصا؛ لأن النصوص برأيه ليست جامدة ولا مصوغة في صيغ نهائية، ولم تعط حكما لكل فعل وحالة، والمجال فسيح أمام العقل.
فالنصوص عنده إذن فقط حددت المقاصد، والمقاصد هي المصالح، وإذا لم تتبع قواعد المصلحة في التشريع؛ جمدت الشريعة وفقد الإسلام صلاحيته، وهو يرى في كل ذلك أنه يستند إلى أصول الشاطبي -رحمه الله- وفي ذلك مغالطة كبيرة وجريئة، وإن أهم ما نقصده هنا هو بيان أن الشاطبي -رحمه الله- بعيد كل البعد عن هذا المنهج، ولو قال به لرد قوله لتناقضه الصارخ مع شريعة الإسلام أصولا وفروعا.
فما هي حقيقة رأي أو موقف الإمام الشاطبي؟(1/48)
إن قول الشاطبي: إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معا، لا يستفاد منه ولا بأي وجه من الوجوه أن ما يراه العقل مصلحة؛ فهو مشروع، ولا أنه يجوز ترك حكم النص إلى حكم فيه مصلحة بحجة أو بشرط المحافظة على المقصد، ولا أن ما تغلب فيه المصلحة على المفسدة؛ فهو مشروع، والذي يفهم من كلام الشاطبي هو أن وجود الشريعة الإسلامية هو وجود لشريعة صالحة لرعاية البشر؛ فتحقق لهم إشباع حاجاتهم وطمأنينة نفوسهم لأنها تعالج البشر بأحكام من عند خالق البشر الذي يشرع لهم ما يصلح لهم على الحقيقة؛ فيؤدي إلى رفاهيتهم وطمأنينتهم =(1/49)
ص -43-….........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الدنيا؛ أي: في العاجل، ويؤدي إلى ثوابهم ونجاحهم من العقاب في الآخرة؛ أي: في الآجل، وهذا كله مصلحة للعباد، مصلحة في الدنيا ومصلحة في الآخرة، وكلتاهما تنتجان عن التزام ما أمر به الله سبحانه وتعالى، وليس معنى هذا أن الإنسان يجوز أن يسير في هذه الدنيا بحسب ما يراه محققا للمصلحة؛ لأن هذا يؤدي لأن يشرع الإنسان لنفسه بنفسه، وهذا لو سلمنا أنه يؤدي إلى مصلحة العباد في العاجل؛ فإنه لا يؤدي إلى المصلحة في الآجل؛ لأنه عدول عما أمر به الله سبحانه وتعالى، والمصالح في العاجل لا تتحقق إلا بما تتحقق به المصالح في الآجل، علاوة على أن قصد المصلحة في التشريع لا يؤدي إلى حصول المصلحة، وإنما يؤدي إلى الشقاء في العاجل.
وقد بين الإمام الشاطبي قصده هذا في مقدمة الجزء الأول من كتابه "الموافقات"، عندما بين أن الإنسان كان يشرع لنفسه قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على ما يراه مصلحة؛ فأدى ذلك إلى شقائه حتى جاءت الشريعة الحنيفية، وبينت للعباد ما يؤدي إلى المصلحة الحقيقية، التي يعلم الله وحده السبيل إليها، ويجهل سبيلها الإنسان الذي قد يسلك إلى شقائه وهلاكه ظانا لضعفه وقصور إدراكه أنه يسلك إلى المصلحة والطمأنينة.
قال الشاطبي في "1/ 3":(1/50)
"الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى علَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما منّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله؛ فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء موضع الدواء، طالبين للشفاء؛ كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم".
ومما يفسر ويؤكد المعنى الذي ذكرناه آنفا عند الشاطبي، قوله "2/ 63-64":
"المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور: =(1/51)
ص -44-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحدها: ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}".
ويستطرد الشاطبي في بيان هذا الأمر بما بنا غنية فيما أوردناه عنه من هذا الموضع عما لم نورده.
إذًا، المصلحة عند الشاطبي تنتج عن تطبيق الشريعة ذاتها، وليس عن تطبيق ما يراه العقل موصلا إليها؛ فليس المشروع هو ما يؤدي إلى المصلحة كيفما كان، وإنما المصلحة عند الشاطبي مقصد من التشريع لا يسلك إليها إلا ما قد شرعه الله.
قال الشاطبي في "2/ 63":
"... أن الشريعة إنما جاءت لتخرج العباد من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت".
فالعجب العُجاب ممن يستدل بـ"الموافقات" على عكس هذا المعنى! ولا نستطيع أن نستقصي كل ما قاله هذا الإمام الفذ حول هذه المسألة، ولكني أدعوك -أخي القارئ- إلى قراءة كلام الإمام الشاطبي بعمق، ولا سيما عند حديثه على التحسين والتقبيح العقليين، انظر لزاما: "1/ 125 وما بعد" وتعليقنا عليه؛ فهو مما ينسف هذا المنهج المبتدع من جذوره، ويبيِّن أن افتراءهم على الشاطبي واه ومتهافت.(1/52)
والخلاصة: أن النقول التي أوردناها عن الغنوشي فيما سبق تبين أنه والذين يعتبرهم الأصوليين المعاصرين أو مفكري الإسلام المعاصرين يتخذون من أصول الشاطبي إطارا عاما لأجل التشريعات الجديدة المطلوبة لهذا العصر، والتي تتطلب مرونة في الشريعة تدفع إلى العدول عن أحكام النصوص إلى أحكام أخرى تقتضيها الضرورة أو المصلحة بحجة المحافظة على المقاصد، وما أوردناه آنفا عن "الموافقات" للشاطبي يدحض هذه المزاعم التي لا أصل لها عنده، ويؤكد أنها فرية؛ فالشاطبي -رحمه الله- أبدا لم يتحدث عن فقه مصالح وضرورات ولا عن فقه موازنات.
أما ما يذكره الغنوشي عن تقسيم الشاطبي للمقاصد الشرعية إلى ضروريات وحاجيات =(1/53)
ص -45-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وتحسينيات؛ فهذا صحيح، ولكن ليس صحيحا ما يبنيه الغنوشي على ما يستنبطه الإمام؛ فما أشار إليه الغنوشي من إدخال الحريات العامة؛ كحرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية الملكية في هذه المقاصد؛ إنما هو من أوهامه، والشاطبي تحدث في الضروريات عن حفظ الدين وليس عن حرية العقيدة، وحفظ الدين الذي اعتبره الأصوليون من مقاصد الشريعة استدلوا عليه بأن الشارع قد شرع حدا للمرتد وهو القتل؛ فبهذا يحفظ الدين في شريعة الإسلام، بينما الغنوشي في كتابه يدعي أن مقصد حفظ الدين هو حرية العقيدة، أي بهتان هذا؟!
ثم إنه بعد ذلك يجادل عبثا في هذه المسألة، فيحاول أن يثبت أن عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية وليست حدا، استدعتها الظروف السياسية آنذاك -زمن النبي, صلى الله عليه وسلم- وأن ما صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الردة وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" كان باعتبار ولايته السياسية ولم يكن تشريعا، وأن قتل المرتد كان يعده خروجا بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وكل هذه الدعاوى منه ليست مبنية على أي دليل، وظاهر فيها ريح الحضارة الغربية النتنة؛ فكل هذه المحاولة اليائسة هي ليثبت أن الإسلام يقرر حرية العقيدة، وأن حق الإنسان محترم ومحفوظ في تغيير عقيدته، ومن أراد أقوال الغنوشي؛ فليراجع صفحة "48 و49 و50" من كتابه.(1/54)
وكذلك ما قاله الغنوشي عن مقصد حفظ العقل؛ فالأصوليون يجعلون حفظ العقل مقصدا، ويستدلون على ذلك بتحريم المسكر وبالعقوبة الشرعية عليه، بينما يذكر الشيخ راشد أن حفظ العقل يتعلق به حق الإنسان في التعليم وحرية التفكير وحرية التعبير، ما العلاقة بين حفظ العقل المستنبط من وضع عقوبة لشارب الخمر وبين حرية التعبير؟ ما هذا؛ أهو عمق في التفكير والاستنباط، أم هو استنتاج جار على مقتضى الأهواء وليس جاريا على حسب مقتضى العقول؟ إنه الاحتمال الأخير بلا شك، والدافع إليه هو موافقة الحضارة الغربية، وهذا النوع من الموافقات مختلف تمام الاختلاف عن "موافقات الشاطبي".
دعوكم من هذا أيها "المفكرون المعاصرون"؛ فإنه ضلال، وهو يسقطكم ولا يرفعكم.
وعلى كل حال؛ فالشاطبي بريء من كل هذا كما بينا سابقا.
وقطعا لكل المحاولات المريبة في تفسير مقصد الشاطبي من تقسيمه المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية؛ لا بد من بيان مقصده منها كما بينه هو، ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن الشاطبي لم يكن أول من تناول هذا التقسيم؛ فقد سبقه كثير من الأصوليين كالغزالي والآمدي -رحمهما الله- =(1/55)
ص -46-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تعالى.
والشاطبي لم يورد هذا التقسيم ليرد أحكاما شرعية ويستبدل بها أحكاما أخرى من تقديرات العقل بحجة أن الأولى تحسينية والثانية حاجية، أو أن الأولى حاجية والثانية ضرورية، بل هذا عين ما يسميه الشهوة والهوى؛ فكما أن المصلحة هي ما جعله الشرع مصلحة والمفسدة كذلك، كما بينا عنه سابقا؛ فكذلك مرتبة المصلحة أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية هو بجعل الشارع لها كذلك.
إن حديث الشاطبي ومن سبقه في هذا التقسيم للمصالح ينطوي على فهم عميق لواقع الإنسان؛ فهم لا تجده في كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أبحاث، هذه الحضارة التي ينطلق منها أحيانا من يطلق عليهم أحيانا: "مفكرو الإسلام المعاصرون".
ثم إن الشاطبي -رحمه الله- قد بين أن المصلحة ليست في مجرد سد هذه الحاجات؛ فالشرائع الوضعية تسعى إلى سدها وإشباعها، وإنما المصلحة في سدها كما أمر الشرع، يقول الشاطبي "2/ 63":
"المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية".
ويقول "2/ 78": "فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد القائل: إن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها؛ فذلك لا نزاع فيه".
فإذا ربطنا هذا الكلام بما ذكرناه عنه سابقا أن المصلحة هي بجعل الشرع لها كذلك، وكذلك المفسدة؛ علمنا رأيه، وهو أن العقول تدرك بالتجارب, أي: بعد تطبيق الشرع أن هذا المأمور به يؤدي إلى مصلحة، وأن هذا المنهي عنه يؤدي إلى مفسدة، وقول الشاطبي "بعد وضع الشرع أصولها"؛ أي: بعد أن نصب الشرع الأدلة الدالة على طلب الفعل أو تركه.(1/56)
وعليه؛ فالشاطبي يرى أن اللازم اتباع الشرع في الأمر والنهي كي تتحصل المصلحة في الدنيا والآخرة، وإلا؛ فسوف نقع في المفسدة حيث نتوقع المصلحة، أما ما يراه بعض المهزومين أمام الحضارة الغربية وأمام ضغط الواقع؛ فهو قلب للأمور رأسا على عقب، إنه استبدال لشريعة اسمها المصلحة بشريعة الإسلام. =(1/57)
ص -47-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهؤلاء الذين يريدون تحميل أوزارهم للشاطبي؛ فيقولون: إنهم ينتهجون نهجه، ويدعون أن الاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر يجعل من أصول الشاطبي إطارا عاما وأساسا لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، وأن الشرع قد تضمن أصولا عامة يمكن أن يتأسس عليها اجتهاد جديد كلما حصل تطور في الحياة، هؤلاء يعدهم الشاطبي أهل بدع، ولله در هذا الشاطبي المستنير؛ فلنقرأ بتأن قوله "3/ 34": "فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعلُهُ موافقا أو مخالفا"؛ أي: لصورة الفعل المأمور به أو المنهي عنه بالنص، ثم يتابع:
"وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام".
فيتحدث رحمه الله عن الأقسام الثلاثة الأولى بما يلزم، ثم يتحدث عن القسم الرابع وهو ما يلزمنا هنا؛ فيقول "3/ 37": "والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا؛ فهو أيضا ضربان:
أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة.
والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك.
فإن كان مع العلم بالمخالفة؛ فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات المستأنفة، والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك؛ فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة".(1/58)
ثم يسترسل الشاطبي -رحمه الله- في إثبات بدعية هذا الطرح وهو مخالفة الشارع فيما أمر أو نهى بحجة المحافظة على المقصد، وهذا هو عين ما طرحه الغنوشي في كتابه، وهو عين ما يطرحه الذين جعلهم الغنوشي مفكري الإسلام المعاصرين، وجميعهم يقصدون إلى تغيير شرع الله؛ فيثيرون مسألة مقاصد الشريعة كمقدمة وغطاء للانحراف، ثم يخادعون فيغشون على العقول والقلوب بإثارة مسألة مرونة الشريعة، ويتترسون بالإمام الشاطبي، والشاطبي بريء منهم ويعدهم أهل أهواء وبدع؛ فمن لي بأصحاب هذه المفاهيم الغربية السقيمة، يغرفونها من مستنقعات الكفر، ثم يزينونها بالبسملة والحمدلة ويدعون أنها الإسلام؟
إن الشاطبي يرد هذا المنهج ويعده مذموما شرعا، ويقول: "إن مخالفة الشرع بالفعل أو الترك مع قصد المحافظة على مقصد الشريعة هو بمثابة روح بلا جسد"، ثم يقول "3/ 45": فإذا =(1/59)
ص -48-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لم ينتفع بجسد بلا روح؛ كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد".
وجريا على المنهج الذي اتبعته هنا في الرد على الغنوشي بكلام الشاطبي نفسه؛ لأن الأول ادعى أنه يتخذ من أصول الثاني إطارا عاما لمنهجه؛ فلننظر ما هو رأي الشاطبي في مسألة التطور في الواقع والمرونة في الشريعة، والتغير في أحوال الأفراد والجماعات، يقول الإمام الشاطبي, رحمه الله "2/ 483-484":
"إن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة؛ كالإخبار عن السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله؛ كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال؛ فإن الخلاف بينهما محال".
وقال أيضا: "لولا أن اطراد العادات معلوم؛ لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه".
وقال أيضا "2/ 488": "العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.(1/60)
أما الأول؛ فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، والتأهب للمناجاة وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة؛ فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع؛ فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا؛ حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح؛ فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل".
ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني؛ فأطال قليلا، ثم لخص فقال "2/ 491":
"إن ما جرى ذكره هنا عند اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف =(1/61)
ص -49-…ويظهر تأثر علال الفاسي بالشاطبي في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"؛ فهو يصرح فيه بأنه قرأه ودرسه، ثم إنه كتبه ليسد فراغا، ويتجاوز الحد الذي وقف عنده الشاطبي؛ فها هو يقول في مطلعه:
"هذا كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" أضعه اليوم بين يدي قرائي الأفاضل، وأنا واثق من أنه سيسد فراغا في المكتبة العربية؛ لأن الذين تعاقبوا على كتابة المقاصد الشرعية لم يتجاوزوا الحد الذي وقف عنده إمامنا أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"، أو لم يبلغوا ما إليه قصد، وبعضهم خرج عن الموضوع إلى محاولة تعليل كل جزء من أجزاء الفقه أخذا للمقاصد بمعناها الحرفي"1، ثم يقول:
"وعرضت إلى أصول الشرعة؛ فتناولتها من جهة المقاصد أكثر مما تناولتها من جهة العلة، ولم أغفل عن المباحث التي وقعت حولها من المعاصرين مما اقتضته شبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه؛ فجمعت بذلك بين نقط الجدل القديم والجديد، ودللت القارئ على نقط الضعف فيها ووسائل الإجابة عنها، ثم بينت بعد ذلك وسائل الاجتهاد وأسباب الاختلاف بما يفسح المجال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك؛ لم يحتج في الشرع إلى مزيد....".
هذا هو الشاطبي، وهذه أفكاره ومفاهيمه وأصوله؛ فكيف يجعلها من يسمون أنفسهم مفكري الإسلام المعاصرين إطارا عاما لمنهجهم القائم على الحاجة إلى فقه جديد اسمه فقه المصالح أو فقه الموازنات أو فقه المصالح والضرورات؟!
انظر: مقالة "رد افتراءات على الإمام الشاطبي" لمحمود عبد الكريم حسن، منشورة في "مجلة الوعي" "العدد 88، السنة الثامنة، ربيع الأول، سنة 1415هـ، ص21 وما بعد".
1 "مقاصد الشريعة" "ص5".(1/62)
ص -50-…للذين يرغبون في تعمق أسرار الشريعة وتفهم مغازيها"1، ثم يقول:
"ويعلم الله كم بذلت من جهد في استخلاص فصول هذا الكتاب، وجعلها قريبة من أذهان المعاصرين، مستندا إلى أهم المصادر الإسلامية والكتب العلمية الصحيحة، مجتهدا في تفهم آراء المسلمين والتوفيق بينها وتوضيح مواطن الضعف في كتابات المعاصرين منهم، ومتتبعا ما أسميته بالإسرائيليات الجديدة، أي: الأفكار المتسربة من غيرنا عن طريق الاستعمار الروحي الذي هو آفتنا في هذا العصر.
وقد أخذ هذا الكتاب مني وقتا غير قصير؛ إذ اشتغلت فيه مع غيره من الأعمال الأخرى مدة أربعة أعوام؛ فهو ليس بالمرتجل ولا بالمستعجل، وكان أصله محاضرات ألقيتها على كل من طلبة الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بنفس الجامعة بفاس، وطلبة كلية الشريعة بجامعة القرويين من نفس المدينة.
وأملي أن يجد من قرائي الكرام قبولا حسنا، وعناية بالموضوع الذي ما يزال يستحق الكثير من البحث ومن التدقيق، وحسبي أني قد زدت فيه لبنة على من سبقني، وفتحت آفاقا لمن يريد أن يعمل من بعدي"2.
ويقول أيضا مبينا ما آل إليه العالم الإسلامي من خمود، وإيمانه بضرورة الجمود:
"وقد مضى على العالم الإسلامي ردح استسلم فيه إلى الخمود وآمن بضرورة الجمود؛ فأعرض عن النظر في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وأحل أقوال الأئمة والفقهاء مقام الكتاب والسنة؛ حتى أصبح من ينظر فيها محكوما عليه بالفسق، ومن يتجرأ على الاستدلال بها منظورا إليه النظر الشزر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" ص5".
2 "مقاصد الشريعة" "ص6".(1/63)
ص -51-…وأما من يدعي الاجتهاد ولو في جزئية ما؛ فهو المارق من الدين السالك سبيل غير المؤمنين، وذلك ما فتح الباب لقلب الأحكام الشرعية، وإظهار الشريعة الإسلامية بمظهر الشريعة التي لا تقبل التطور ولا تصلح لكل العصور"1، ثم يقول:
ومن حسن الحظ أن ينتبه بعض العلماء لهذه الفاجعة، ويتجرءوا على النظر والاجتهاد؛ فيعيدوا للشرع الشريف اعتباره، وللنظر والعلم الصحيح مكانتهما، ولكن ذلك وقع بالأسف في عصر طغى على المسلمين فيه الفكر الأجنبي والقانون الأجنبي؛ فصعب على القائمين بدعوة الإسلام النجاح، وكثر عليهم المعارضون والمتآمرون، وذلك ما يوجب عليهم الصمود ويفرض عليهم بذل أقصى ما يمكن من الجهد واستكمال ما يحتاجون إليه من العلم؛ حتى لا يفضي جمود الآباء إلى جحود الأبناء، وإن في قلة الفقهاء المجددين على قلتهم ضمانا للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطا بمقاصد الشريعة وأدلتها، ومتمتعا بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم، وليس ذلك على الله وعلى همة المجاهدين المجتهدين بعزيز.
يعتمد المجتهد في استنباطه الأحكام على أمرين:
1- المعرفة بالأدلة السمعية التي تئول إلى الكتاب والسنة والإجماع وما اختلف فيه العلماء من الأصول الأخرى.
2- التأكد من دلالة اللفظ في اللغة العربية وفي استعمال البلغاء، وهذه الدلالة إما بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بالمعقول وهو القياس وأنواع الاستدلال المختلف في حجيتها بين الأئمة.
القدرة على الموازنة بين الأدلة واختيار أرجحها وأقواها على من دونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" "ص164".(1/64)
ص -52-…فالمعرفة بالأدلة السمعية، والتأكد من الدلالات اللغوية، والقدرة على الترجيح بين الأدلة المتزاحمة؛ تلك هي العناصر التي يتوقف عليها المجتهد للقيام بمهمة الاجتهاد، والدلالات السمعية، وطرق التأكد من معانيها والترجيح بينها هو ما يبحث فيه علم الأصول وعلم الاجتهاد، والأخير جزء من الأول، ولكنه خاص باعتبار ما يتوقف عليه من العلوم.
فلا بد للفقيه إذا أراد أن يكون مجتهدا من معرفة الكتاب وقراءاته وناسخه ومنسوخه والسنة واصطلاحاتها ودرجاتها ومركزها من القرآن، ولا بد كذلك من معرفة علم الأصول واللغة وأقوال الفقهاء وأسباب اختلافهم وطرق الاستدلال السمعية والعقلية ومقاصد الشريعة.
ويرى الشاطبي أن درجة الاجتهاد إنما تحصل ممن اتصف بوصفين:
أحدهما:
فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وهو شرط لم يذكره أغلب علماء الأصول، مع أنه الذي يتفق مع ما قاله الشافعي من وجوب ملاحظة المجتهد القواعد الكلية أولا، وتقديمها على الجزئيات..."1.
والمتمعن في كتاب علال الفاسي يجد أثر الشاطبي واضحا فيه، ولكنه جعله قريبا من الأذهان، وسبكه في عبارة واضحة، وربطه بالواقع الذي يحياه؛ بحيث تعرض لشبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه.
وتولدت عن هذه الكتابات والجهود التي ركزت على ضرورة معرفة "المقاصد" أبحاث متخصصة في منهج الداعين إليها، وظهر منها فيما يخص الشاطبي اثنان2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "مقاصد الشريعة" "ص164-165".
2 ذكر الدكتور عبد المجيد تركي في كتابه "مناظرات في أصول الشريعة" "ص528" أنه يعد دراسة عن الشاطبي ومقاصد الشريعة؛ فلا أدري هل أتم ذلك أم لا؟(1/65)
ص -53-…الأول:
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني، طبع عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة "1412هـ - 1992م".
والآخر:
الشاطبي ومقاصد الشريعة لحمادي العبيدي، طبع عن دار قتيبة، سنة "1412هـ - 1992م" أيضا.
وكلاهما جلى منهج الشاطبي في قسم المقاصد من "الموافقات".
المحور الثالث:
طبعات الكتاب.
طبع كتاب "الموافقات" عدة طبعات1، هي:
الأولى:
طبع بتونس سنة "1302هـ - 1884م" بمطبعة الدولة التونسية، وبتصحيح ثلاثة من علماء جامعة الزيتونة في ذلك الوقت، هم: الشيخ علي الشنوفي، والشيخ أحمد الورتاني، والشيخ صالح قايجي، وظهر في أربعة أجزاء.
الثانية:
طبع في سنة "1327هـ - 1909م" الجزء الأول منه، ويقع في "189 صفحة" بمدينة "قازان" عاصمة جمهورية التتار بروسيا.
الثالثة:
طبع في مصر سنة "1341هـ - 1922م" في المطبعة السلفية، وأنفق على الطبع عبد الهادي بن محمد منير الدمشقي، وعلق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزء الأول والثاني، وعلق الشيخ محمد حسين مخلوف على الجزء الثالث والرابع.
الرابعة:
طبع في مصر بتعليق وتحقيق الشيخ عبد الله دراز، وظهر في أربعة أجزاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "معجم المطبوعات العربية والمعربة" "1091"، و"ذخائر التراث العربي الإسلامي" "1/ 607".(1/66)
ص -54-…الخامسة:
طبع في مصر بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد عن مطبعة محمد علي صبيح، وظهر في أربعة أجزاء أيضا.
تقويم الطبعات التي وقفت عليها:
من خلال المشوار الطويل الذي صحبته مع "الموافقات"، والنظر في الطبعات التي وقفت عليها، وهي عدا الأولى والثانية من الطبعات المتقدمة؛ أستطيع أن أقرر أن الأصل الذي اعتمده هؤلاء المحققون واحد، وأن الغلط والتحريف والسقط متكرر، اللهم إلا أن يشير المتقدم منهم -وهو الشيخ محمد الخضر أو محمد الحسين- إلى احتمال تحريف أو سقط، فيصححه المتأخر، مثل: الشيخ عبد الله دراز؛ كما تراه في مواطن من طبعتنا هذه، مثل: "3/ 176، 364، 373، 381 و4/ 179 و5/ 68، 302"، أو يتعقبه ويخطئه1؛ كما تراه من طبعتنا هذه في "3/ 237، 523، 566 و4/ 34، 192 و5/ 89، 210، 305"، وفي جميع هذه المواطن يتعقب الشيخ دراز الشيخ مخلوف، وتعقب دراز الشيخ محمد الخضر حسين أيضا، ولكن في مواطن قليلة منها "2/ 21".
أما الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وهو آخر من حقق هذا الكتاب؛ فيفترض أن تكون طبعته أدق الطبعات السابقة وأحسنها، ولكن -يا للأسف- كانت على خلاف ذلك؛ فعلى الرغم من قوله في المقدمة بعد أن ذكر الطبعات السابقة, عدا طبعة قازان: "ولم تخلُ طبعة من هذه الطبعات من تحريف وتصحيف وسقط، رغم ما بُذل في كل واحدة منها من الجهد، ورغم جلالة شأن القائمين عليها، وها أنذا أقدِّم هذه الطبعة الرابعة لمن يعنيهم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دون أن يذكر اسمه، ولكن ينقل عبارته -ويتصرف فيها غالبا- ثم يبين ما فيها من خطأ أو نحوه.(1/67)
ص -55-…يقرءوا هذا الكتاب، ويفيدوا منه، بعد أن بذلت الوسع في مراجعة أصوله وتحقيقها، والله سبحانه المسئول أن ينفع به، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه"1.
قلت: على الرغم من هذا القول؛ إلا أن طبعته لم تمتز بشيء يذكر عن سابقاتها إلا في مواطن يسيرة، أثبت في أصل الكتاب ما احتمله الشيخ مخلوف، وتابعه في نقل كثير من الهوامش -ولا سيما في الجزء الأخير- فأثبتها منه بالحرف، ولعله يزيد عليها كلمات2؛ كما تراه في "5/ 124، 125، 131، 133، 139، 158، 181، 183، 185، 195، 201، 267، 336".
والعجب كل العجب أن أخطاء وقعت في رسم الآيات في مواطن عدة؛ كما تراه في "3/ 421 و4/ 160، 305، 326-ط دراز"، وتتابعت جميع الطبعات عليها.
والحق يقال, إن أجود هذه الطبعات طبعة الشيخ عبد الله دراز، ولا سيما أنه بذل جهدا عظيما فيها، وذلك من خلال شرحه كلام المصنف، وتعقبه له وإحالته الدقيقة3 على كلام المصنف في مباحث فاتت أو ستأتي، وهذه التعليقات تدل على علم واسع، ونظر ثاقب، وقدم راسخة في علم الأصول، ودراسة دقيقة عميقة لكتاب "الموافقات"، وقد لاحظ بعض الباحثين أن "تعليقات الشيخ دراز تمتاز بالشح في الإطراء، وبالمبالغة في المعارضات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقدمة محمد محيي الدين لـ"الموافقات" "1/ 5".
2 وميزنا زياداته بوضعها بين معقوفات؛ فأينما رأيت "ف"، وتبعه "م"، وفيما يسبق ذلك معقوفات؛ فالمعقوفات من زيادات "م"؛ أي: محمد محيي الدين، وأصل الكلام لـ"ف"؛ أي: الشيخ مخلوف.
3 إلا في مواطن قليلة جدا، نبهنا عليها في مواطنها.(1/68)
ص -56-…والاستدراكات"1، ولكنه مع هذا أطرى عليه في غير موضع؛ فها هو يقول عن طريقة الشاطبي: "يتتبع الظنيات في الدلالة، أو في المتن، أو فيهما، والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعا في الموضوع... فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة"2.
وتعليقات الشيخ دراز تمتاز بالاختزال والضغط، وقد أشار هو في مقدمته على "الموافقات" تحت عنوان "سبب توجهي للكتاب وطريقة مزاولتي لخدمته" إلى الدافع عن تحقيقه، ومزايا هذا التحقيق؛ فقال:
"كثيرا ما سمعنا وصية "الشيخ محمد عبده" رحمه الله لطلاب العلم بتناول الكتاب، وكنت إذ ذاك من الحريصين على تنفيذ هذه الوصية؛ فوقف أمامي وأمام غيري صعوبة الحصول على نسخة منه، وبعد اللتيا والتي وفقنا إلى استعارة نسخة بخط مغربي من بعض الطلبة؛ فكان إلغاز الخط مع صعوبة المباحث، وإلحاح صاحب النسخة لاسترجاعها أسبابا تضافرت على الصدّ عن سبيله؛ فأنفذنا وصية القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه…وجاوزه إلى ما تستطيع
فلما يسر الله طبع الكتاب طبعة مصرية3، وأتيحت لي فرصة النظر فيه؛ عالجته أول مرة حتى جئت على آخره، فُرضتُ في هذا السفر الطويل شعابه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص252".
2 "الموافقات" "4/ 323-328-ط دارز، و5/ 405- طبعتنا هذه".
3 يشير الشيخ دراز -رحمه الله- إلى طبعة الشيخ محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف، والحق أن الكتاب طبع طبعتان قبل ذلك.(1/69)
ص -57-…وأوديته، وسبرت خزائنه وأوعيته، وقد زادني الخُبر به في تصديق الخبر، وحمدت السرى ومغبة السهر؛ فملك أعنة نفسي لإعادة النظر فيه بطريق الاستبصار، وامتحان ما يقرره بميزان النظار، والرجوع إلى الموارد التي استقى منها، والتحقق من معانيها التي يصدر عنها، والإفصاح عما دق من إشاراته، والإيضاح لما شق على الذهن في عباراته، بأكمل لفظ موجز، ومد معنى مكتنز، وجلب فرع توقف الفهم عليه، والإشارة لأصل يرمي إليه، ولم أرُم الإكثار في هذه التعليقات وتضخيمها باللم من المصنفات للمناسبات1، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب؛ إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه، والتزمت تحرير الفكر من قيوده وإطلاقه من مجاراة المؤلف في قبول تمهيده، أو الإذعان لاستنتاجه لمقصوده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومع هذا؛ فقد صرح في تعليقاته وشرحه النقل من كثير من الكتب؛ مثل "الإحكام" للآمدي، و"المستصفى" للغزالي, و"ميزان الأصول" لعلاء الدين السمرقندي، و"إرشاد الفحول"، و"منح الجليل"، و"الشرح الصغير" للدردير، و"مختصر ابن الحاجب" الأصولي، و"شروحه"، و"أحكام القرآن" لابن العربي، و"زاد المعاد"، و"تفسير البغوي"، و"السيرة الحلبية"، و"التحرير" لابن الهمام، و"المنهاج" للبيضاوي، و"شرح الطيبة" للنويري، و"إحياء علوم الدين"، و"القاموس المحيط"، و"الاعتصام" للشاطبي، و"الفروق" للقرافي، وغيرها.(1/70)
بالإضافة إلى المراجع التي اعتمد عليها في التخريج، وهي: الكتب الستة، "شرح ابن حجر على البخاري"، "شرح القسطلاني على البخاري"، "مشكاة المصابيح"، "تيسير الوصول"، "شرح العزيزي على الجامع الصغير"، و"شرح المناوي على الجامع الصغير"، "الترغيب والترهيب" للمنذري، "منتقى الأخبار" مع شرحه "نيل الأوطار"، "التلخيص الحبير", "مجمع الزوائد"، "تخريج العراقي لأحاديث الإحياء"، "المجموع الفائق من حديث خير الخلائق" للمناوي، "كنوز الحقائق" للمناوي، "تمييز الطيب من الخبيث"، "تذكرة الموضوعات"، "اللؤلؤ المرصوع"، "رسالة الصاغاني في الموضوعات"، "النهاية" لابن الأثير، "الشفا مع شرحي القاري والشهاب"، و"المواهب اللدنية"، "الموطأ"، كلاهما بشرح الزرقاني، "راموز الحديث" لأحمد ضياء الدين، "الغماز على اللماز"، "مسند الشافعي"، "تفسير الطبري"، "تفسير الآلوسي"، "إعلام الموقعين".(1/71)
ص -58-…وكان هذا سببا في عدم الاحتشام من نقده في بعض الأحيان، والتوقف في قبول رفده الذي لم يرجح في الميزان؛ فقد جعل هذا المسلك حقا على الناظر المتأمل فيما قرر، والطالب للحق فيما أورد وأصدر، وطلب منه أن يقف وقفة المتخيرين لا وقفة المترددين المتحيرين، كما نهى عن الاستشكال قبل الاختبار؛ حتى لا تطرح الفائدة بدون اعتبار، نعم؛ فليس في تحقيق العلم فلان وأين منه فلان؟ ولو كان لضاع كثير من الحق بين الخطأ والنسيان، وهذه ميزة ديننا الإسلام، قبول المحاجة والاختصام، حاشا للرسول, عليه الصلاة والسلام.
وقال تحت عنوان "تخريج أحاديث الكتاب" ما نصه:
"كان من استقراء المؤلف لموارد الشريعة أن أورد زُهاء ألف من الأحاديث النبوية، وفي الغالب لم يسندها إلى راويها، ولم ينسبها لكتب الحديث التي تحويها، بل قلما استوفى حديثا بتمامه، وإنما يذكر منه بقدر غرض الدليل في المقام، وقد يذكر جزءا آخر منه في مقام آخر حسبما يستدعيه الكلام، وقد يشير إلى الحديث إشارة دون أن يذكر منه شيئا؛ يقصد بهذا وذاك الوصول إلى قصده، دون أن يخرج في الإطناب عن حده، ولا تخفى حاجة الناظر في كلامه إلى الوقوف على الحديث بتمامه، ومعرفة منزلته قوة وضعفا؛ ليكون الأول عونا على معرفة الغرض من سياق الحديث, والثاني مساعدا على تقدير قيمة الاستدلال والاطمئنان أو عدمه في هذا المجال؛ فكان هذا حافزا للهمة، إلى القيام بهذه المهمة، على ما فيها من المشقة والعمل المضني في البحث، واستقصاء ساحات دواوين الحديث الفيحاء، مع كثرة مآخذه، وتعدد مراجعه، حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين1 كتابا من كتب الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرناها في آخر الهامش السابق.(1/72)
ص -59-…ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ محمد أمين عبد الرزاق، الذي استمر أشهرا طوالا يعاني مراجعة هذه الأصول للوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه، على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات، ليشار أمام الحديث إلى الكتاب الذي خرجه، وفي الغالب باللفظ الذي أدرجه؛ حتى يسهل الرجوع إلى محلته لمعرفة لفظه ومنزلته؛ فجزاه الله عن خدمته للعلم خير الجزاء"1.
وقال أيضا تحت عنوان "التحريفات والأخطاء الباقية في الطبعة الماضية" ما نصه:
"إنه وإن قام جليلان من أكابر العلماء بتصحيح الكتاب عند طبعه، والعناية بقدر الوسع في رده لأصله؛ فقد كانت كثرة ما وجد من الخطأ والتحريف في النسخة التي حصل عليها طابع الكتاب، مضافة إلى ضيق الوقت الذي جرى فيه التصحيح, كافية لقيام العذر لحضرتهما في بقاء قسم كبير من التحريفات، وسقوط جمل برمتها، أو كلمات لا يستقيم المعنى دون إكمالها، ولا يتم للمؤلف غرض دون إدراجها؛ فكان هذا من دواعي زيادة الأناة وإعمال الفكرة في هذه الناحية؛ حتى يسرها الله، وصار الكتاب في مبناه ومعناه خالصا سائغا للطالبين.
ولست -وإن أطرى الناظرون- بمدع أني بلغت في خدمة الكتاب النهاية، بل -إذا حسنت الظنون- قلت خطوة في البداية؛ فميدان العمل فيه سعة لمن شحذت همته، وبذل النصح شرعة لمن خلصت نيته؛ فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" انتهى كلامه.
قلت: وكلامه السابق يؤكد ما ذكرته آنفا من أن محققي الكتاب لم يحققوه على أصول خطية مضبوطة، وإنما توالوا على طبعه، معتمدين على الطبعات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما سيأتي من ملاحظات حول هذا التخريج.(1/73)
ص -60-…الأولى، ولذا وقع في جميع النسخ تحريف وسقط.
ومن القضايا الملفتة للنظر للمتمعن في طبعات الكتاب:
تحقيق اسم الكتاب:
سمى المصنف كتابه هذا أولا "عنوان التعريف بأسرار التكليف المتعلقة بالشريعة الحنيفة"، ثم حدثت حادثة أُعطي بسببها اسم "الموافقات"، وقد أوردها في مقدمته؛ فقال:
"لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل, ومناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي: رأيتك البارحة في النوم1، وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة2. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني؛ فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء؛ فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق؛ كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رأيت في المنام في أول ليلة بدأت فيها بخدمة هذا الكتاب "أسدا" على "شرفة" عالية، والناس ينظرون إليه، ويخافونه ويهابونه، وينصرفون عنه، وأحسست برباطة جأش، وقوة عزيمة؛ فسرتُ تجاهه، وقربت منه، دون خوف ولا وجل؛ فوجدته ذلولا مطوعا؛ فأولتُها على خدمة هذا الكتاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
2 لاحظ عدم ذكره الإمام مالكا بجانب الإمام أبي حنيفة، وإنما ذكر ابن القاسم.
3 "الموافقات" "1/ 10-11".(1/74)
ص -61-…وأخطأ كحالة؛ فاعتبر "عنوان التعريف بأسرار التكليف" كتابا مستقلا عن "الموافقات"1.
أما المعاصرون ممن طبع الكتاب؛ فزادوا في اسمه؛ فهو في طبعة دراز يحمل اسم "الموافقات في أصول الشريعة"، وفي طبعة كل من الشيخين محمد الخضر ومحمد حسين مخلوف يحمل اسم "الموافقات في أصول الأحكام"، وهذا العنوان هو الذي أثبته أيضا محمد محيي الدين عبد الحميد، ولا أدري من أين لهم هذه الزيادات، مع أنها لم تذكر عند المصنف2 ولا في الأصول الخطية للكتاب، ولا في المصادر والمراجع إلا باسم "الموافقات"؟!
الأصول المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في تحقيقي لكتاب "الموافقات" على نسختين خطيتين، وأربع نسخ مطبوعة، هذا وصفها:
النسخة الأولى:
وهي التي أطلقنا عليها "الأصل"3، وهي من محفوظات دار الكتب الوطنية بتونس، تحت "رقم 3189"، وتقع في جزأين: الأول في "142 ورقة"، ويبدأ بـ"مقاصد المكلف في التكليف"، والثاني في "172 ورقة"، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "29" سطرا، وخطها مغربي مقروء، تبدأ المسائل والفصول بخط كبير أحمر، وهو يختصر لفظة "تعالى" بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "معجم المؤلفين" "1/ 118".
2 مع أنه أحال عليه كثيرا في "الاعتصام"، وكذا سماه بـ"الموافقات" كما في النص المتقدم.
3 وذلك لوقوفي على هذه النسخة في وقت مبكر، وقد صوّرها لي الأخ الفاضل رياض السعيد -حفظه الله- من جامعة أم القرى بمكة المكرمة؛ فله ولقسم المخطوطات في الجامعة مني جزيل الشكر، وأسأل الله تعالى أن يجزيهم جزيل الأجر.(1/75)
ص -62-…اسم الجلالة، وكذا "الصلاة" من "عليه الصلاة والسلام" ويكتب "حينئذ" مختصرة أيضا ويشير إليها بحرف "ح"، جاء في أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما".
وعلى هوامشها تصحيحات، وهي مقابلة على نسخة أخرى، ووضع الناسخ في الهامش عناوين فرعية لفوائد وقعت عند المصنف؛ فمثلا في هامش "ق 4/ ب" تجد بإزاء كلام المصنف في شرح قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كلاما للناسخ، فيه: "اعرف معنى الحفظ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ...}"، هكذا.
وجاء على طرة المخطوط ترجمة للمصنف، وهذا نصها:
"الحمد لله، التعريف بمؤلف هذا الكتاب: هو الإمام، ناصر السنة، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الغرناطي، ويعرف بأبي إسحاق الشاطبي، قال الشيخ بابا في "كفاية المحتاج" في وصفه:
الإمام، الجليل، العلامة، المجتهد، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، المفسر، المحدث، الفقيه، النظار، اللغوي، النحوي، البياني، الثبت, الثقة، الورع، الصالح، السني، البحاث، الحجة، كان من أفراد محققي العلماء الأثبات وأكابر متقني الأئمة الثقات، له قدم راسخة في العلوم والإمامة العظمى في الفنون؛ فقها، وأصولا، وتفسيرا، وحديثا، وعربية وغيرها؛ مع تحر عظيم وتحقيق بالغ، له استنباطات جليلة، وفوائد كثيرة، وقواعد محققة محررة، واقتراحات غزيرة مقررة, وقدم راسخة في الصلاح والورع والتحري والعفة واتباع السنة وتجنب البدع والشبه والانحراف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة، وأوذي بسببها كثيرا كما ذكر في خطبة كتابه في البدع؛ حتى أنشد في ذلك:(1/76)
ص -63-…بُليت يا قوم والبلوى منوعة…بمن أداريه حتى كاد يُرديني
دفع المضرة لا جلبا لمصلحة…فحسبي الله في عقلي وفي ديني
قال شيخ الإسلام ابن مرزوق الحفيد الإمام في وصفه: المحقق، الفقيه، العلامة، الأستاذ, الصالح. ا. هـ.
وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام.
وقال أبو الحسن بن سمعة في حقه: هو نخبة علماء قطرنا، أخذ العربية عن إمام فيها بلا مدافع أبي عبد الله بن الفخار البيري، لازمه حتى مات، وعن الإمام رئيس علوم اللسان الشريف أبي القاسم السبتي.
قلت: هو الشريف الغرناطي، شارح "المقصورة الحازمية"، وأول من شرح "الخزرجية"، وكان ممن يفتخر بلقائه كما في "وفيات ابن قنفد"، قال الشيخ بابا: وأخذ بقية الفنون عن الأئمة:
الشريف أبي عبد الله التلمساني أعلم أهل وقته، والعلامة أبي عبد الله المقري وقطب الدائرة، وشيخ الشيوخ الأستاذ أبي سعيد بن لب، والعلامة المحدث الخطيب بن مرزوق، والمحقق الأصولي أبي علي منصور بن الزواوي، والمؤلف المفسر أبي عبد الله البلنسي، والحاج الخطيب أبي جعفر الشقوري.
وممن استفاد منه: الفقيه الحافظ أبو العباس القباب وغيره، اجتهد وبرع وفاق الأكابر، والتحق بالأئمة الكبار، وبالغ في التحقيق، وتكلم مع الأئمة في المشكلات، وجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته؛ كمسألة مراعاة الخلاف في المذهب، له فيها بحث جليل مع الإمامين: القباب وابن عرفة، ومسألة الدعاء عقب الصلاة بحث فيها معهما ومع القاضي الفشتالي وابن لب، وأبحاث في التصوف مع الإمام ابن عباد وغيرهم.(1/77)
ص -64-…قلت: مسألة مراعاة الخلاف قد أشار إليها في المقدمة الثالثة عشرة من هذا الكتاب، وقد استوفى كلامه وكلام القباب وابن عرفة أبو يحيى بن عاصم في "شرح منظومة" أبيه، وقد ذكر في "المعيار" أسئلته التي وجهها إلى ابن عرفة غير معزوة إليه، وذكر أجوبة ابن عرفة عنها، وقد رأيت منسوبا لابن عاصم أسقاط كثير من تلك الأجوبة؛ لغموض تلك المسائل؛ فراجعها في سفر البيوع.
قال الشيخ بابا: وبالجملة؛ فقدره في العلوم والصلاح فوق ما يذكر،
وتحليته أعلى مما يشهر، ألف تواليف جليلة في غاية النفاسة، مشتملة على تحرير القواعد، وتحقيق مهمات الفوائد، كهذا الكتاب الموسوم بـ"الموافقات" في الأصول.
قال: كتاب جليل القدر، لا نظير له، فيه من تحقيقات القواعد وتقريرات الأصول ما لا يعلمه إلا الله، يدل على بعد سمائه في العلوم كلها، خصوصا الأصول، قال فيه الإمام ابن مرزوق: إنه من أنبل الكتب في سفر ضخم، بل في سفرين، وتأليف نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة.
قلت: اسم كتاب البدع: "الاعتصام"، وفيه كلام طويل الذيل على آية {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}... إلخ، وعلى حديث "ستفترق أمتي", وحديث "البر ما تطمئن إليه نفسك"؛ في غاية النفاسة والغرابة والتحقيق والإحاطة بجميع ما يتوهم أن يقال في ذلك، وشرح فيه الاستحسان والمصالح المرسلة، وميزها عن البدع أتم شرح وتمييز.
قال الشيخ: وله كتاب "المجالس"، شرح فيه آيات وأحاديث من كتاب البيوع من "البخاري" لم يكمل.
قال: وفيه دليل على ما خصه الله تعالى به من التحقيق، و"شرحه" الجليل المشهور على "ألفية ابن مالك" في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف عليها(1/78)
ص -65-…مثله بحثا وتحقيقا، وكتاب "الإفادات والإنشادات"، فيه طُرَف وتحف وملح، وكتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"، وكتاب في أصول النحو، ذكرهما في "شرح الألفية".
قال: ورأيت في موضع آخر أنهما تلفا، ورد على أبي الأصبغ بن سهل صاحب "الإحكام" في مسألة ذكر المؤذن في الأسحار على الصومعة وغير ذلك.
قلت: ذكر في كتاب البدع أن قيام المؤذن بالإنشاد على الصومعة بدعة من ثلاثة وجوه؛ فراجعه.
ثم قال الشيخ: أخذ عنه الأئمة؛ كالقاضي الشهير أبي يحيى بن عاصم، والقاضي أبي بكر بن عاصم، والعلامة أبي جعفر القصار.
قلت: وكان يباحثه أيام تأليف هذا الكتاب ببعض المسائل، ثم يضعها فيه على عادة العظماء حسبما نقله الشيخ بابا في ترجمته عن ابن الأزرق عن شيخه ابن فتوح، ثم قال: وأخذ عنه غيرهم.
توفي يوم الثلاثاء، ثامن شعبان، سنة "790" تسعين وسبعمائة، وكان يرى جواز ضرب الخراج على الناس إذا ضعف بيت المال وعجز عن القيام بمصالح الناس؛ كما وقع للشيخ المالقي في كتاب "الورع"، وقرر ذلك في كتاب "الحوادث" بأبرع تقرير، وقال في أثناء كلامه: ولعلك تقول كما قال القائل لمجيز شرب العصير بعد طبخه حتى صار ربا: أحللتها والله يا عمر, يعني أنه أحل شرب الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ!
قال: فجوابه كما قال عمر, رضي الله تعالى عنه: والله! لا أحل ما حرمه الله، ولا أحرم ما أحله، وإن الحق أحق أن يتبع، ومن يتعد حدود الله؛ فقد ظلم نفسه.(1/79)
ص -66-…وكان يرى توظيف ما يبنى به السور على أهل الموضع؛ استنادا للمصالح المرسلة لضياعه إذا لم يقوموا به، مخالفا في ذلك الأستاذ ابن لب وله في المسألة كلام مستوفى، ولابن الفراء مع سلطان وقته كلام مشهور، ومن فرائده: "الكيل الشرعي المنقول عن شيوخ المذهب، تقر مسألة أخذ حفنة بكلتا اليدين مجتمعتين من يد متوسطة جربته -بل أربع منها بصاع- جربته؛ فصح فهو المعول عليه لابتنائه على أصل تقريبي شرعي، وتدقيق الأمور غير مطلوب لأنه تكلف وتنطع.
قال: ولا يحظى اختلافها اختلافا متباينا كما اختبرته، وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، وينهى عن الكتب المتأخرة؛ ككتب ابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ذكر ذلك في المقدمة الثانية عشرة من هذا الكتاب1.
قال: وقد أوصاني بعض العلماء بالفقه -يعني: القباب- بالتحامي عنها، وأتى بعبارة خشنة، ولكنه محض نصيحة، والتساهل في النقل عن كل كتاب لا يحتمله دين الله، وقد اختبرت ذلك فظهر لي وجهه.
قال الشيخ بابا: والعبارة الخشنة فهي قول القباب: أفسد ابن بشير وتابعاه الفقه" ا. هـ.
وأثبت الناسخ في الهوامش2 فوائد وإيضاحات لكلام المصنف، وأحيانا يتعقبه، ولكن يقع هذا في القليل النادر، انظر من طبعتنا, في الهامش "1/ 434 و2/ 140، 275، 277 و3/ 55، 333، 563".
وفي نهاية المخطوط أثبت الناسخ اسمه وتاريخ النسخ؛ فعليه ما صورته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: تعليقنا على "1/ 148".
2 وبعضها لم يظهر في التصوير.(1/80)
ص -67-…"تم نسخ الثاني من كتاب "الموافقات" بحمد الله سبحانه وتعالى على يد عبده أفقر عبيد الله وأحوجهم إليه، الراجي من مولاه الفضل والمزيد، عبده: محمد بن أحمد أبي عصيدة الفاني, غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ومؤدبيه ولإخوانه وممن حضر في محلته، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
ونَسَخته لشيخنا العالم العلامة المحقق الفقيه الشريف السيد إسماعيل التميمي نفع الله بعلومه المسلمين، آمين.
وكان الفراغ من نسخه بعد عصر يوم الخميس، السادس والعشرين من شهر شعبان المبارك عام تسعة عشر ومائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
النسخة الثانية:
وهي التي أطلقنا عليها "ط"، وهي من محفوظات الخزانة العامة بالرباط1 "رقم375- مخطوطات الأوقاف"، ومن محفوظات الزاوية الناصرية قديما تحت "رقم 89"، وهي تقع في "509" ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "27 سطرا" في الأغلب، وقد تزيد الأسطر؛ فتصل على "31" سطرا، وتنقص إلى "24" سطرا.
وخطها مغربي ومقروء، وهي منسوخة بخطين متغايرين.
جاء على طرة المخطوط ما صورته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصوّرها لي المقرئ عبد الكبير أبو ياسر المغربي جزاه الله خيرا.(1/81)
ص -68-…"كتاب الموافقات
تأليف الشيخ، الإمام، العالم، العلامة، القدوة, الحجة، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه".
وتحته:
"كان هنا بخط المؤلف في الأصل الذي هو -أيضا- بخطه1 ما نصه: "نقلت من كتاب "ألف باء" لأبي الحجاج بن الشيخ, رحمه الله: يُروى أن بعض الصديقين دعا إلى الله -عز وجل- بحقيقة التوحيد، فلم يستجب له، ولا الواحد بعد الواحد؛ فعجب من ذلك؛ فأوحى الله -عز وجل- إليه: تريد أن تستجيب لك العقول؟ قال: نعم. قال: أتحجبني عنهم؟ قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك؟ قال: تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب. قال: فدعا إلى الله من هذه الطريق؛ فاستجاب له الجم الغفير.
وكان أيضا فيه بالخط المذكور: ومن "تاريخ دمشق"2 عن مؤرج قال: قال رجل للمهلب, يعني: ابن أبي صُفرة: بم بلغْتَ ما بلغت؟ قال: بالعلم, قال: قد رأينا من هو أعلم منك لم يبلغ ما بلغْتَ. قال: ذاك علم صفة، وهذا علم وضع مواضعة، وأصبته به فرصة. وأخرى لم أُخْبرك بها: إيثاري فعلا أحمد عليه دون القول به".
وتحته: "للزاوية الناصرية صانها الله تعالى بمنه آمين، وفيه في آخره كراريس بخط الإمام ابن مرزوق, رحمه الله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولعل هذا يفيد أن هذه النسخة مقابلة على نسخة المصنف؛ لأنها مضبوطة وقليلة السقط والتحريف، ولا سيما القسم الأول منها.
2 "17/ ق 448".(1/82)
ص -69-…وبجانب العنوان المذكور: "ألف هذا الكتاب و"الحوادث والبدع"1 وشرح "ألفية ابن مالك" في النحو، وله تصانيف، أبدع في كل ما ألف، مات يوم الثلاثاء ثامن شعبان تسعين وسبعمائة، ودفن بجبانة باب الفخارين تجاه باب جسر قبة الزيتون".
وفي أوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله.
قال الشيخ، الفقيه، الإمام، العالم الأوحد الكبير، قدوة الأئمة المهتدين، وخاتمة المحققين المعتمدين، وناصر السنة إحياء لمعالم الدين، المعدود على تأخر زمانه في أهل السبق، المصنف، العلامة، الخطيب، الصالح، الكامل، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه".
والناسخ مجهول وهو من المشاركين في العلم، ولم يثبت اسمه على الكتاب، ولا تاريخ النسخ، وأقدّر أن يكون في القرن العاشر الهجري، وجاء في آخر هذه النسخة ما نصه:
"تم كتاب "الموافقات" بحمد الله وحسن عونه، اللهم إني أسألك بحق أسمائك كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وبحق أنبيائك2 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم، وبحق أوليائك3 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم؛ أن تتوب علي توبة صادقة، وأن تميتني على الإيمان والإسلام، وأن تشفيني من جميع الأمراض والأسقام، وأن لا تحرمني من زيارة قبر سيدنا ونبينا ومولانا محمد عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو "الاعتصام".
2 هذا من التوسل الممنوع؛ فيجب اجتنابه، والله الهادي.
3 نفسه(1/83)
ص -70-…أفضل الصلاة وأزكى السلام، آمين، آمين، آمين، يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم كثيرا كثيرا إلى يوم الدين".
وهذه النسخة مضبوطة، وأخطاء القسم الأول منها قليلة، وهي مقابلة على نسخة جيدة، لعلها نسخة المصنف، ومن مميزات هذه النسخة أيضا؛ أن الكتاب في طبعاته السابقة كلها لم يُقابل عليها، ولذا انفردت بكلمات وزيادات -قد تصل إلى فقرات- لا يستقيم النص ولا المعنى إلا بها، وتكون قد سقطت من جميع النسخ الأخرى، وفيها وحدها في غير موطن الصواب وفي غيرها الخطأ، انظر, على سبيل المثال: "1/ 75 و2/ 45، 134، 282، 309، 429، 411 و3/ 237، 273، 313، 327، 335، 351، 508، 516 و4/ 178، 386 و5/ 68، 262، 270، 384"، ولا تخلو هوامشها من بعض الفوائد العلمية.
أما المطبوعات الأربعة المعتمدة في التحقيق؛ فهي طبعة الشيخ دراز ورمزت لها بـ"د"، وطبعة الشيخين محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف ورمزتُ للأول "خ" وللثاني "ف"، وطبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ورمزتُ لها بـ"م"، وما نقله الشيخ ماء العينين في "المرافق على الموافق" من كتاب "الشاطبي" ورمزتُ له بـ"ماء"، وقد مضى وصف هذه الطبعات.
عملي في التحقيق:
يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالآتي:
أولا: عملت على ضبط نصه وتقسيمه إلى فقرات توضح معانيه وتعين على فهمه، وجهدت على سلامة النص من السقط والتحريف والتصحيف،(1/84)
ص -71-…وكان ذلك من خلال مقابلة النسخ المطبوعة على بعضها بعضا1، ثم قابلتها على النسختين الخطيتين المتقدم وصفهما، وأثبت الفروق في الهوامش، وأشرت إلى السقط الواقع في بعضها، وأثبت زيادات نسخة "ط" الخطية على سائر النسخ بين المعقوفات، وأهملت التنصيص على ذلك؛ فليكن ذلك على بالك.
ثانيا:
ومما ساعد على ذلك أني جهدت في توثيق النصوص، وبيان المصادر التي نقل منها المصنف، واستطعت بحمد الله أن أظفر بجم غفير من النصوص, وبعشرات من الكتب التي ينقل عنها المصنف وعملت على مقابلة ما عند المصنف بما في هذه المراجع، وأثبت الفروق في الهوامش أيضا، ووجدت أن المصنف غالبا يتصرف في النقل باختصار العبارة، وأثبت رحمه الله قدرة فائقة ومتميزة في ذلك، انظر, على سبيل المثال: "5/ 111" مع تعليقي.
ثالثا:
عملتُ على تخريج الأحاديث والآثار وأقوال السلف والأئمة العلماء من مصادرها، وأزعم أني قمت بذلك على وجه لم أُسبق إليه ولله الحمد، ذلك أني أشرت في الهوامش إلى عشرات النصوص التي أومأ إليها المصنِّف إيماء، وذكر معاني لا صلة بألفاظها إلى ألفاظ هذه الأحاديث والآثار؛ فذكرت نصوصها في الهامش2، وخرجتها تخريجا علميا، مع بيان الحكم عليها وفقا للمقرر في علم المصطلح، وناقلا أحكام الحفاظ والعلماء، وكانت خطتي في تخريج الأحاديث على النحو الآتي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأهملت الأخطاء الطبعية الظاهرة، واعتبرت جدول التصويبات المثبت في آخر الكتاب عند المقابلة.
2 انظر, على سبيل المثال: "2/ 54، 55، 96، 87، 92، 121، 369، 445، 503 و3/ 39، 70، 71، 81-84، 190، 191، 470، 471 و5/ 328".(1/85)
ص -72-…أولا:
لم أسهب في تخريج أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما؛ إلا لضرورة أو فائدة.
ثانيا:
اعتنيت بتخريج الأحاديث والآثار التي أومأ وأشار إليها المصنف.
ثالثا:
بيّنتُ درجة الحديث والأثر من حيث الصحة والحسن والضعف.
رابعا:
اعتنيت بتخريج اللفظ الذي أورده المصنف, انظر, على سبيل المثال: "2/ 41-42، 115، 368، 451 و3/ 335 و4/ 310، 471 و5/ 258-259، 295".
خامسا:
حاولت الوقوف على مصدر المصنف من النقل، وتمييز حد الصحيح من الضعيف الوارد في نقله.
سادسا:
إذا كان المصنف ينقل حديثا ضعيفا؛ كنتُ أُبيِّنُ ذلك، ثم أورد ما يغني عنه انظر, على سبيل المثال: "2/ 225-226، 398 و4/ 99، 399 و5/ 156-157".
ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية:
زعم المصنف في مقدمة الكتاب "ص11" أنه سيورد في الكتاب "من أحاديثه الصحاح والحسان"، والحق أنه أورد فيه كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، ووجدت أن بضاعة المصنف الحديثية ضعيفة، لا يعول عليها ولا أقول هذا جزافا، وإنما بعد علم وتحر، وسبب ذلك أنه يعتمد على ما اشتهر من أحاديث في كتب الأصوليين، وينقلها دون النظر في حكم الحفاظ عليها من ضعف أو بطلان، وتجد ذلك في عدد غير قليل من الأحاديث في هذا الكتاب، مثل: "كن عبد الله المقتول..." في "2/ 172"،(1/86)
ص -73-…و"أصحابي كالنجوم..." في "4/ 452"، وتعقب عائشة وابن عباس أبا هريرة في "3/ 192"، و"تمكث إحداكن شطر دهرها" في "2/ 152"، و"ما أجهلك بلغة قومك" في "4/ 30"، و"فلأولى عصبة ذكر" في "4/ 385"، وحديث معاذ: "بم تحكم..." في "4/ 298"، وحديث: "حكمي على الجماعة..." في "3/ 241".
واعتمد في كثير من الأحايين على كتب الوعظ والرقائق التي لا تعتني بصحة الأحاديث، ونقل منها نصوصا على أنها أحاديث. انظر مثلا: "1/ 44، 81، 88، 347، 352 و2/ 191، 425 و3/ 65-66، 148، 149، 403".
واعتمد أيضا على نقل أحاديث من "الشفا" للقاضي عياض، وقد عاب المحدّثون عليه تساهله في الأحاديث1، ووقع في أغلاط بسبب ذلك، انظر منها: "3/ 69، 92"
ووقعت له أوهام أخر في الأحاديث والآثار "1/ 199، 265 و3/ 41، 194، 342، 406 و4/ 117، 120".
والعجب أن المصنف لم يعتن بالحكم على الحديث إلا في النادر، وإن فعل؛ فإنما يتابع غيره؛ كما تراه مثلا: "3/ 472 و4/ 235 و5/ 46، 288"، بل قد يورد الحديث في موطن ويسكت عنه، ثم يذكر حكما لحافظ عليه بالضعف في موطن آخر. انظر, على سبيل المثال: "1/ 98 و5/ 147".
وقد يعلق الحكم على صحته أو صحة الأثر؛ كما تراه -مثلا- في:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "السير" "20/ 216" للذهبي.(1/87)
ص -74-…"2/ 227 و3/ 257"، بل قد ينقل الحديث من كتاب أو من ديوان من دواوين السنة ويكون مؤلفه قد ضعفه ولا يلقي بالا لهذا التضعيف؛ كما تراه في "2/ 115 و3/ 342"، وقد يعزو لديوان من دواوين السنة المشهورة، وينقل منها بالواسطة ويقع له بسبب ذلك وهم؛ كما تراه في "3/ 406".
ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز1:
ذكر الشيخ عبد الله دراز -رحمه الله- عند تخريج أحاديث الكتاب أن الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق2 قد ساعده في هذا العمل، وقال:
"ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق".
وقال قبل ذلك: "حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين كتابا من كتب الحديث".
وذكر أن عملهما "استمر أشهرا طوالا"، وأنهما حرصا على الوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه؛ على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات3.
قلت: لي على التخريج المذكور ملاحظات كثيرة، أُشير إلى قسم منها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يعتن غيره بالتخريج، ولذا خصصته بالذكر.
2 لعله الشيخ المحدث محمد عبد الرزاق حمزة، المدرس في الحرم المكي، وهو من علماء مصر، سافر إلى مكة سنة "1344هـ"، وقبل هذا الوقت بقليل كان الشيخ دراز مشغولا بكتاب "الموافقات".
انظر ترجمته في: "مشاهير علماء نجد" "514"، و"الأعلام" "6/ 203".
3 مقدمة الشيخ دراز على "الموافقات" "1/ 14"، ومضى كلامه "ص62-63".(1/88)
ص -75-…أولا:
تخريج الأحاديث المذكورة كانت بواسطة الكتب المتأخرة، ولم يقفوا على أغلب الأحاديث من مصادرها الأصلية؛ فتراهم مثلا يقولون في "2/ 258-ط دراز":
"أخرجه في "كنوز الحقائق" عن ابن أبي عاصم"، وفي حديث آخر: "رواه الشيخان، ملا علي في "شرحه على الشفا"، وفي ثالث في الجزء والصفحة نفسها: "رواه في "المشكاة" عن مسلم"، وهكذا أغلب تخريجاتهم.
ثانيا:
قد ينظرون في المصادر الأصلية، ولكن لا يتتبعون الحديث بألفاظه في مواطنه كلها؛ فينفون وجود لفظة في "صحيح البخاري" مثلا، وهي فيه؛ كما تراه في "2/ 259-ط دراز"نفوا وجود لفظة "قط" في حديث من "صحيح البخاري"، وهي فيه برقم "3294"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، انظر مثلا: "2/ 447- هذه الطبعة".
ثالثا:
يعزون الحديث إلى مصادر غير مشهورة ويكون الحديث في "الصحيحين" أو في أحدهما؛ كما في "2/ 265-ط دراز" عند قول المصنف: "وأن عمارا تقتله الفئة الباغية"، قالوا في الهامش: "جزء من حديث أخرجه أبو بكر البرقاني والإسماعيلي".
قلت: وهو في "الصحيحين" وهو متواتر، انظره "2/ 453- طبعتنا هذه"، وفي الصفحة نفسها يقول المصنف: "وأخبر بملك معاوية ووصاه"، قالوا: "روى ابن عساكر بإسناد ضعيف..."، وهذا قصور؛ فروى الحديث -وهو صحيح- جمع ممن هم أعلى من ابن عساكر؛ كالإمام أحمد وغيره، وعبارة المصنف مأخوذة من "الشفا" "1/ 656"، وانظر تعليقنا عليه في: "2/ 452-453"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، ولا سيما في أحاديث "الصحيحين"؛ فما بالك في غيرهما؟(1/89)
ص -76-…فمثلا في "4/ 56" عزيا الحديث لأبي داود وهو ليس فيه، وإنما في "صحيح مسلم"، وفي "4/ 99- هامش3" عزياه لمسلم وهو في "البخاري" -ومثل هذا كثير- وفي "4/ 54" عزيا حديثين لمسلم عن جرير بن عبد الله، وإنما هو عن جابر بن عبد الله، وفي "4/ 72" عزياه للترمذي وهو في "مسلم".
رابعا:
والعجب منهما أنهما إذ نصا على ضعف أحاديث ثابتة، كما وقع لهما في "4/ 39-ط دراز"، بينما سكتا عن عشرات الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
خامسا:
أهملا تخريج الآثار إلا النادر منها.
سادسا:
أهملا تخريج الأحاديث التي أشار إليها المصنف، وفاتهما التنبيه على العشرات منها، وصرحا بأنهما لم يظفرا ببعضها، انظر مثلا: "4/ 444".
والحاصل أن ميزة طبعة الشيخ دراز -رحمه الله- في تعليقاته الأصولية عليها، أما الحديثية؛ فليس لها كبير أهمية، ولا يوجد فيها نفس مشتغل بعلم الحديث، وقد يعذر بأن كثيرا من كتب الحديث لم تكن قد طبعت آنذاك، والمطبوع منها لم يخدم بالفهارس العلمية، والكشافات التحليلية؛ كما هو في يومنا هذا.
والخلاصة... أن الناظر في هذا الكتاب ينبغي له؛ بل يجب عليه مراجعة الأحاديث المذكورة فيه، ومعرفة درجتها من الصحة والضعف؛ فإن المصنف والمعلق فيما يظهر لي لم يكن لهما -رغم علو مقامهما في الرأي- كبير حظ من علم الحديث، وهذه آفة الأصوليين، بل داؤهم العضال، وأرجو أن أكون بطبعتي هذه للكتاب قد ملأت فراغا، وسددتُ نقصا.(1/90)
ص -77-…ومن عملي في تحقيق الكتاب أيضا:
رابعا:
قمت بتجميع تعليقات وشروح محققي الكتاب، ووضعتها في الهامش، ورمزت لتعليقات الشيخ دراز بـ"د" وتعليقات الشيخ محمد محيي الدين بـ"م", وتعليقات الشيخ محمد الخضر حسين بـ"خ", وتعليقات الشيخ محمد حسين مخلوف بـ "ف"، وتعليقات الشيخ الشنقيطي بـ"ماء".
وكنتُ أضيف عليها أحيانا، وميزت إضافاتي غالبا بـ"قلت"، وكنت أتعقب بعض ما وقع في هذه التعليقات والشروح، انظر -مثلا- تعقبي لـ ف" في: "5/ 394"، ولـ"خ" في: "1/ 271 و2/ 159، 346"، ولـ"د" في: "2/ 335، 419 و3/ 199-200، 501-502 و4/ 104، 105، 129، 377 و5/ 175، 208"، وكذا تعقبته والمصنف في مواطن.
خامسا:
تأويل الصفات، وقع المؤلف في هذا الكتاب والمعلق عليه1 في تأويل كثير من صفات الله تعالى؛ فبينت بإسهاب أن هذا مخالف لمنهج السلف الصالح في هذا الباب, انظر على سبيل المثال: "2/ 195، 257 و3/ 319، 323 و4/ 10، 11 "تعقب المعلق"، و137 "تعقب المعلق"، و5/ 144، 202-203".
سادسا:
ذكرتُ في الهوامش ما وقفت عليه من مواطن بحث شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم للمسائل التي عند المصنف2، ونقلت كلامهما -أو كلام أحدهما- في بعض الأحايين، إن كانت فيه فائدة زائدة, أو فيه توجيه وبحث يخالف ما عند المصنف3، ووجدتُ أنهما على الرغم من بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أعني: الشيخ محمد عبد الله دراز, رحمه الله تعالى.
2 أشار علي بهذا الشيخ بكر أبو زيد, حفظه الله ورعاه.(1/91)
3 الخلاف بين ابن تيمية ومدرسته من جهة والشاطبي من جهة أخرى يمكن في اعتماد ابن تيمية على النص والتأكد من صحته على وجه رئيس، وتوضيح ابن تيمية لمنهج السلف في العقيدة، والاستغراق في نصرته والذب عنه، بينما هو غير ظاهر عند الشاطبي إلا في المسائل الفقهية ومن الناحية الأصولية، وموقف ابن تيمية من التصوف وأعلام الصوفية والمسائل المطروحة في هذا الباب أدق من موقف الشاطبي؛ إذ عنده تحسين ظن زائد بهؤلاء كأبي يزيد البسطامي وغيره، ونجد تباينا بينهما في الكرامات، انظر: "2/ 440، 443" والتعليق عليه من "الموافقات".(1/92)
ص -78-…مواطنهما؛ فإنهما يلتقيان في كثير من المباحث، وتفطن لهذا شيخنا الألباني -حفظه الله- فقال في "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 37-38" بعد أن أورد كلاما لابن تيمية وآخر للشاطبي:
"قلت: هذا كله من كلام الإمام الشاطبي، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- ومن الطرائف أن هذا مشرقي وذاك مغربي، جمع بينهما -على بُعد الدار- المنهج العلمي الصحيح".
مسألة:
وهنا مسألة... لا بد من الإشارة إليها، وهي: هل اجتمع الشاطبي مع شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم، وهل نظر في كتبهما؟!
والجواب عن هذا السؤال: إننا نستطيع أن نقرر بكل طمأنينة أن ابن تيمية وابن القيم لم يرد لهما ذكر ألبتة في جميع كتب الشاطبي المطبوعة، ولم أظفر بعد شدة بحث، وكثرة استقصاء إلى ما يمكننا أن نجعل هذا اللقاء ثابتا، أو في حكم الواقع، ولم أعثر للشاطبي في كتابه هذا على ذكر للحنابلة، وقد صرح فيه "3/ 131" أن كتب الحنفية والشافعية كالمعدومة الوجود في زمانهم؛ فكيف بكتب الحنابلة؟
لا شك أنه ظفر ببعضها، ولكن بعد كتابته "الموافقات"؛ فها هو يصرح في "الاعتصام" "1/ 462-ط ابن عفان" -وقد أحال فيه كثيرا على(1/93)
ص -79-…"الموافقات" -بقوله: "قال بعض الحنابلة..."، ونقل نصا طويلا جهدتُ في البحث عنه؛ فلم أعثر على لفظه في كتب ابن تيمية وابن القيم1، وعلى فرض صحة العثور عليه في كتبهما؛ فلا يلزم أنه التقى بهما أو عثر على كتبهما؛ فلا يبعد أن يكون أخذه بواسطة بعض من له رحلة من المغاربة إلى المشرق، أو بواسطة بعض شيوخه.
وبهذه المناسبة أذكر أن بعض شيوخ الشاطبي قد التقى بابن القيم؛ فها هو أبو عبد الله المقري يحكي عن نفسه أنه "لقي شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية"2.
من خلال ما تقدم أستبعد صحة ما ذهب إليه سعد محمد الشناوي في كتابه "مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي" "1/ 150" عند كلامه على تأثر الشاطبي بمن سبقوه، قال ما نصه:
"وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبد السلام، وابن تيمية!! وابن القيم!! والقرافي، ولهذا نجد كتابه مزيجا وتحليلا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة...".
وسألتُ شيخنا الألباني -حفظه الله- عن هذه المسألة؛ فأجاب بأنه لم يثبت عنده ولم يطلع على ما يسمح بالجزم أو باحتمال أن تكون اللقيا قد تمت بين الشاطبي وابن تيمية أو ابن القيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع نحوه في "المسودة" "316"، و"إعلام الموقعين" "1/ 24-ط دار الحديث"، و"العدة" "4/ 1059-1060" للقاضي أبي يعلى. ثم ظفرت به في "إقامة الدليل على بطلان التحليل" بواسطة ما ذكره العلامة بكر أبو زيد في التقديم.
2 انظر: "نفح الطيب" "3/ 254"، و"نيل الابتهاج" "250"، وبحث هذا الموضوع الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص269-270".(1/94)
ص -80-…ومن عملي في التحقيق أيضا:
سابعا: أنني نشطت في بحث كثير من المسائل المطروقة في الكتاب، وأثبت أماكن بحثها من كثير من أمهات كتب الأصول أو الفقه، وربما نقلت بعض الاستطرادات أو التوضيحات أو الاستدراكات على كلام المصنف فيها.
ثامنا: قرأتُ ما كُتب عن الشاطبي ونظريته "المقاصد"، والأبحاث التي اعتنت بالنقل عنه، أو ناقشت كلامه، وأثبت في الهوامش النافع واللازم منها، وأضفت ذلك إلى قائليها وذلك من بركة العلم وشكره1.
تاسعا: أشرتُ إلى كلام الشاطبي في كتبه الأخرى، فيما يخص المسائل المبحوثة هنا، وحاولت أن أنقل منه ما يلزم في توضيح مبهم أو حل مشكل، وحاولت إثبات المواطن التي أحال عليها في كتابه هذا ليسهل النظر فيه؛ فإن "آخره يشرح أوله، وأوله آخره"، ووجدته أثبت شيئا هنا في "5/ 666" وتراجع عنه في "الاعتصام" "2/ 472-ط ابن عفان"، وكذا أثبت هنا مسألة "3/ 528" وتراجع عنها أو قرر خلافها في "5/ 199".
عاشرا: أثبت الجزء والصفحة من المصادر التي صرح الشراح بالنقل منها، ووضعته بين معقوفتين [ ]، وصوبت الأخطاء الطبعية الواقعة في عباراتهم، ولعلي خرَّجتُ أيضا -في بعض الأحايين2- الأحاديث والآثار التي يوردونها على سبيل الاستشهاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسند القاضي عياض في "الإلماع" "ص228-229"، ومحمد بن القاضي عياض في "تعريفه بوالده" "ص82" إلى أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "مِنْ شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذُكر لك؛ قلت: خفي علي كذا وكذا، ولم يكن لي به علم حتى أفادني منه فلان كذا وكذا؛ فهذا شكر العلم".
2 ولا سيما في المجلد الثالث والرابع والخامس من طبعتنا هذه.(1/95)
ص -81-…حادي عشر: وأخيرا... صنعت فهارس علمية تحليلية في مجلد خاص يحتوي على فهرس للآيات، وللأحاديث، وللآثار، وللأعلام، وللأشعار، وللفرق والطوائف والجماعات والمذاهب والملل، ولعناوين الكتب الواردة في نص كتاب الشاطبي هذا، وللفوائد والمسائل العلمية ورتبتها على الأبواب والمواضيع.
والمرجو من الله تعالى أن أكون قد قدَّمت خطوة في استفادة طلبة العلم من هذا الكتاب، ومن الله أستمد العون والتوفيق والسداد, وأرجو الأجر والثواب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب
أبو عبيدة
مشهور بن حسن آل سلمان
ضحى يوم الخميس, العشرين من محرم
سنة "1417هـ"
الأردن - عمان(1/96)
عنوان الكتاب:
الموافقات – الجزء الأول
تأليف:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
دراسة وتحقيق:
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر:
دار ابن عفان
الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م(2/1)
ص -1-…تقديم:
بقلم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبي زيد
الحمد لله القائل في كتابه المبين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فإن "معرفة الحكم والغايات والأسرار التشريعية الثابتة العامة الشاملة، المقصودة في جنس التشريع العام لتحقيق مصالح العباد في الدارين التي وُضعت الشريعة من أجلها" هي من جهة التصديق -الماصدق- حقيقة: "علم مقاصد الشريعة" من جميع جهات مقاصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء، وللإفهام بها، وللتكليف بها، ولدخول المكلف تحت حكمها في دائرة حفظ الضروريات -ويقال: الكليات- الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض, والمال، المبني حفظها وجودًا في جلب المصالح وتكثيرها؛ فكل طاعة ترجع إليها، وعدمًا في درء المفاسد وتقليلها؛ فكل مخالفة خارجة عنها، وذاك في أصنافها الثلاثة: "الضروريات"، و"الحاجيات"، و"التحسينيات"؛ فيكون في كل كلية ستة جوانب: ثلاثة وجودية، وثلاثة عدمية, الجميع ثلاثون مقصدًا، عشرة ضرورية، وعشرة حاجية، وعشرة تحسينية، وأجمع آية لها في(2/2)
ص -2-…كتاب الله -تعالى- قوله, سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، كما أشار إلى ذلك العلامة العز ابن عبد السلام في "قواعده" رحمه الله.
فهذا العلم الشريف: "علم مقاصد الشريعة" يصح أن نلقبه باسم: "علم اقتصاد الشريعة"؛ لأنه يُستثمر فيما وُضع له: معرفة غايات جنس الأحكام، وحكمها، ومقاصدها، ووظيفتها، وما تهدي إليه، وتدل عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدارين، وذلك في جنس التشريع العام.
وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل نوع من أنواع علوم الشريعة، مثل: "العبادات"، و"المعاملات"، و"الأنكحة"، وغيرها.
وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل جزئية من جزئيات الشريعة، وأحكامها التفصيلية.
وكذلك الحال في: "علم الاقتصاد" يُستثمر للفروع التجارية وردا وإصدارا.
وهذا العلم المتميز، هو أحد رُكْني: "علم أصول الفقه" الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل، وركنه الآخر: "علم لسان العرب".
وهذا العلم برُكْنَيْه قد وضع له الأصوليون كتبا تخصه، عُرفت باسمه. وهي بكليتها قد عُنيت عناية فائقة بركنه الأول: "علم لسان العرب"، وكثير منها جمع بين الركنين: "اللسان، والمقاصد".
فمن هؤلاء في المشرق: الجويني "ت سنة 478" في: "البرهان في(2/3)
ص -3-…أصول الفقه"، والغزالي "ت سنة 505" في: "المستصفى" و"شفاء الغليل"؛ فإنه تناول الكليات الخمس، وجعلها أصلا للمقاصد الشرعية، والرازي "ت سنة 606" في: "المحصول"، والآمدي "ت سنة 631" في: "الإحكام"، وغيرهم.
وما مباحث الأصوليين في: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"سد الذرائع"، و"رفع الحرج"، و"مراعاة مقاصد المكلفين"، و"مسالك العلة في القياس"، وما في كل واحدة منها من كتب مفردة إلا ميادين فسيحة لترقية هذا العلم: "علم مقاصد الشريعة".
بل إن من المشارقة من أفرد تأصيل: "المقاصد" في كتاب؛ منهم: العز ابن عبد السلام "ت سنة 660" في: "القواعد الصغرى" وهي: "الفوائد في اختصار المقاصد"، وبَسَطَها في: "القواعد الكبرى"، وذكر له مترجموه أيضا كتابا باسم: "المصالح والمفاسد"، ومنهم الشيخ طاهر الجزائري ثم الدمشقي "ت سنة 1338" في كتابه: "مقاصد الشرع"، وكان للنجم الطوفي الحنبلي "ت سنة 716" عناية فائقة في اعتبار المصالح، وكانت رسالته: "المصلحة المرسلة" محل عناية العلماء بين النقد والاعتبار.
واستظهر آخرون مقاصد التشريع، وعنوا بالكشف عن حكمة الشريعة وغاياتها، وأسرارها، وعللها في جنس التشريع العام، أو في نوعه، أو في جزئية منه، بمؤلفات مستقلة منهم:
الحكيم الترمذي "ت سنة 320" في عدد من كتبه، وأبو منصور الماتريدي "ت سنة 333" في كتابه: "مآخذ الشرائع"، والقفال الشاشي الشافعي "ت سنة 365" في: "محاسن الشريعة"، والعامري "ت سنة 381" في: "الإعلام بمناقب الإسلام"، والراغب "ت سنة 502" في: "الذريعة إلى(2/4)
ص -4-…مكارم الشريعة"، ومحمد بن عبد الرحمن البخاري "ت سنة 546" في: "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" في آخرين، رحم الله الجميع.
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية "ت سنة 728" رحمه الله تعالى, عناية بالغة، ولهج شديد بالكشف والبيان عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها، ولعله أول من أبرز المزج بين بيان الحكم التكليفي ومقصد الشارع، وأن الشريعة تجري أحكامها مطردة على نسق واحد وفق القياس؛ فلا تجمع بين المتضادين، ولا تفرق بين المتماثلين، وتلاه تلاميذ مدرسته الأثرية، وفي مقدمتهم العلامة صاحب التصانيف المفيدة: ابن قيم الجوزية "ت سنة 751" رحمه الله تعالى؛ فقد أبدى في كتبه وأعاد.
وكان من لفتات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عدم التسليم بحصر الكليات في الخمس المذكورة كما في: "الفتاوى" "32/ 234"، وقفاه ابن فرحون المالكي "ت سنة 799" في: "تبصرة الحكام" "2/ 105".
وبين يدينا الآن في "المقاصد" عالم وكتاب؛ ذلكم هو الإمام المجدد، العلامة المصلح، الزاهد، الورع، المحتسب، الناصر للسنة، القامع للبدعة: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي نسبا، المالكي مذهبا، الأثري مشربا، الشاطبي، ثم الغرناطي مولدا نحو "سنة 730"، ووفاة "سنة 790"، نجم لمع من أندلس الإسلام مولدا، ونشأة، ووفاة، وشيوخا، منهم:
ابن الفخار، والمقري الجد، وابن لُب، وابن مرزوق، ومنصور الزواوي, وابن الزيات، والشقوري، والبلنسي، وكان معاصرا لأعلام ثلاثة: لسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون، وابن القباب.
وأبو إسحاق هو أستاذ غرناطة في جامعها الأعظم: في القراءات، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والنحو, ولسان العرب.(2/5)
ص -5-…وكان له تلاميذ مشاهير؛ منهم: القاضيان الأخوان: أبو يحيى ابن عاصم، وأبو بكر ابن عاصم، وأبو جعفر ابن الفخار، والبياني، والمجاري، والقصار, وابن فتوح، وغيرهم.
وأبو إسحاق: هو مؤلف غرناطة الإبداعي في كُتبه: "الموافقات" في أصول الشريعة ومقاصدها، و"الاعتصام" في السنة وقمع البدعة، و"الإفادات والإنشادات"، وجمع له بعض المعاصرين: "الفتاوى" مستخرجة من: "المعيار" للونشريسي, وهذه الأربعة مطبوعة، وله "المجالس في شرح البيوع من صحيح البخاري"، و"شرح الخلاصة لابن مالك"، وهو قيد الطبع في جامعة أم القُرى، و"عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق" وهو في فقه لسان العرب، يقال: غَسَلهُ، ويقال: ضاع في حياته، كما ضاع كتابه الآخر: "أصول النحو".
وهو -رحمة الله عليه- في مؤلفاته هذه بعيد عن طرق التأليف التقليدية، والعمل المكرور، وإنما يفترعها افتراعا، ويُبدع فيها إبداعا؛ لأنه قد اتخذ القرآن والسنة له نبراسا وإماما، وحذق "لسان العرب"؛ لغة، ونحوا، وفقها، واشتقاقا؛ بما لم يدرك شأوه من لحقه، ولم ينسج على منواله ومسلكه؛ فلا جرم كان نجما لامعا، أضاء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب؛ فلفت الأنظار، وعكفت على كتبه الأبصار، واستضاءت بأنوارها بصائر أهل الأمصار.
وهذا الإمام الفذ -رحمة الله عليه- قد اشتهر في قطره، ثم ذاع صيته في المشارق والمغارب؛ لمناداته بالسنة، والاعتصام بها، ورفضه الجمود والتقليد، وإنكاره التصوف والبدع المضلة، ودعوته الملحة إلى الدليل، وله في ذلك منازلات ومراسلات مع شيوخ عصره، ابن عرفة، والقباب, وابن عباد الرَّنْدي, إلى آخرين سماهم صاحب: "المعيار" واحتفظ بتدوين هذه المراسلات؛ فجزاه الله خيرا.(2/6)
ص -6-…وقد حصل له لقاء ذلك ثارات، وخصوم، وخصومات، وبخاصة من شيخه ابن لُبَّ، ورُمِيَ بدعاوى هو منها بريء، ولبس عليه بها المغرضون.
ومن هذه التهم الباطلة التي نفاها في صدر كتابه: "الاعتصام":
1- نسب إليه: أن الدعاء لا ينفع، وهو إنما ينكر الدعاء الجماعي.
2- ورُمِيَ بالتشيع، والنيل من الصحابة -رضي الله عنهم- وهو إنما لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة.
3- ورُمِيَ بالغلو, وهو إنما كان يرفض الفتوى بالأقوال الضعيفة.
4- واتهم بمعاداة الأولياء، وهو إنما ينكر على المتفقرة أو المتصوفة غلوَّهم ومخالفتهم للسنة.
5- ورُمِيَ بالخروج عن جماعة المسلمين، وهو إنما يدعو إلى طريق الفرقة الناجية.
هذه إلماعة معتصرة عن هذا الإمام في حياته العلمية والعملية، وبتأملها يظهر فيها جَليا نزعته التجديدية، ودعوته الإصلاحية -شأن كل مجدد ومصلح- وهي تشبه إلى حد كبير دعوة التجديد التي قام بها في المشرق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع تباعد الدار، وأن ولادة هذا الإمام بعد وفاة شيخ الإسلام، وكل منهما لم يرحل قط إلى قطر الآخر، لكني وجدت أثارة من علم تدل على أن لشيخ الإسلام ابن تيمية صوتا مسموعا في غرناطة، ذلك أن الإمام الشاطبي قد نقل عنه في: "الاعتصام" "1/ 356" قوله:
"قال بعض الحنابلة..." وهو بنصه في كتاب ابن تيمية: "إقامة الدليل على بطلان التحليل" المطبوع ضمن: "الفتاوى الكبرى" "3/ 370".
وربما أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- لَمْ يُسَمِّه، ولَمْ يَسْتَرْسِلْ بِذِكْرِهِ(2/7)
ص -7-…والنَّقْلِ عنه؛ اتِّقَاءً لِمَا وَقَعَ في الخُلُوفِ مِنْ عَدَاوَتِهِ، والنفرة منه...
ومن أعظم وجوه التشابه بينهما: ربط الترجيح والاختيار في مسائل الخلاف بالنظر إلى مقاصد الشريعة، وتنقيحها، وتحقيقها، والتدقيق فيها، وهذه من أبرز السمات التي جعلت كتب هذين الإمامين تحتل مكان الصدارة عند أهل العلم.
وإذا كانت هذه الالتفاتة النفيسة ملحوظة في كتابات الشاطبي، فإن محط الرحل فيها هو كتابه الفريد الفارد: "الموافقات"، وقد حوى بين دفتيه بعد خطبته خمسة أقسام:
- القسم الأول: وفيه ثلاث عشرة مقدمة.
- القسم الثاني: في الأحكام: أحكام التكليف الخمسة: الواجب، المستحب، المحرم، المكروه، المباح، وأحكام الوضع الخمسة: السبب، الشرط، المانع، الصحة والفساد، والعزيمة والرخصة.
- القسم الثالث: في مقاصد الشريعة.
- القسم الرابع: في الأدلة، وقصر بحثه فيها على الكتاب والسنة.
- القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد.
وإذا نظرنا إلى هذه الأقسام, وجدناها في -الجملة- عمدة مباحث الأصوليين في: "كتب أصول الفقه"، وأن من مباحثهم: "مقاصد الشريعة"، وأنها قد أفردت بالتأليف من عدد من علماء المشرق.
فلماذا إذًا اشتهر هذا الإمام بها واشتهرت به، ولا يكاد تُعرف إلا من طريقه، وشغف الناس بكتابه هذا: "الموافقات" نظما واختصارا، وصار لأهل عصرنا من النصف الثاني من القرن الرابع عشر فما بعد، توجه عظيم إلى(2/8)
ص -8-…دراسة: "المقاصد" والتأليف فيها استقلالا، وبحثا، ومحاضرة بلغت نحو الأربعين، من أهمها كتاب ابن عاشور وكتاب علال الفاسي؛ حتى قُررت مادة مستقلة في الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل هذه الجهود من خلال "المقاصد عند الشاطبي"؟؟
والجواب من وجوه:
1- أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- أبرز هذا العلم، ولهج به، وأوسعه بحثا، وتحليلا، وتحقيقا، وتفصيلا؛ فعقد آصرة النسب بين الأصول والقواعد، ووسع لائحة المقاصد.
2- في النسج والصياغة فَارَقَ عامَّةَ مَنْ سبقَهُ؛ إذ ساقه بنقاوة اللسان العربي متخليا عن الاصطلاحات الكلامية، والأدوات المنطقية، وكيف لا يكون كذلك وديدنه في كتابه على أن هذه الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، ودعوته قائمة على ساقها بالتزام اللسان العربي وحِذْقه؟!
3- بناه إعدادا على الاستقراء الكلي للأدلة من الكتاب والسنة, بجمع نصوص الوحدة الموضوعية منهما، وضميمة كلام السلف إليهما، وشهود العقل لها.
4- أرْدَفَ هذا باستيلاد أبحاث بسط القول فيها، بما يعز نظيره، ومن هذه الأبحاث التي افترعها، وانفتق ثاقب فكره عنها:
أ- المصلحة وضوابطها.
ب- القصد في الأفعال وسوء استعمال الحق.
ج- النوايا بين الحكم والقصد.
د- المقاصد والعقل.(2/9)
ص -9-…هـ- الغايات العامة للمقاصد.
5- دعوته الجادة إلى التطبيق العملي بمزج الفروع الفقهية بالمقاصد الشرعية؛ ليستخرج القول الحق فيها.
6- والكتاب وضعه هذا الإمام؛ ليكون "وسيلة إلى فقه الاستنباط" بحذق اللسان، وتشخيص علم المقاصد؛ إلا أنه في حقيقته: فقه في الدين، ومثال متميز في توظيف الاستقراء الكلي؛ لفهم نصوص الوحيين، وعلم متكامل بنظام الشريعة وأسس التشريع ومقاصده في مصالح العباد في الدارين.
لهذه الوجوه وغيرها بهر العلماء, وتسابقوا إليه، وعكفوا عليه، وتسابقوا إلى طباعته شرقا وغربا؛ إذ طُبع في تونس عام "1302" ثم في قازان عام "1327"، وطُبع في مصر ثلاث طبعات عام "1341" بتعليق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزأين الأولين، وبتعليق الشيخ محمد حسنين مخلوف على الثالث والرابع، ثم بتحقيق الشيخ محمد بن عبد الحميد، ثم بتحقيق الشيخ عبد الله دراز بمقدمته الحافلة وتعليقاته المحررة التي تليق بمكانة الكتاب ومنزلته.
ولعله في قُطْره "الغرب الإسلامي" أول من نسج في الأصول بركنيه على هذا الطراز، وهو في قطره أول من بسط الكلام على: "علم المقاصد"، ونهض به، وفتق مسائله، وشيد عمارته، وجال في تفاصيله، وشخصها، ولفت الأنظار إلى قواعده الكلية، وبَسَطَها، وتعمق في بحثها، مناشدا باستخراج علل الأحكام، وحكمتها، ومصالحها، وصَرَف أنظار الفقهاء من الخلاف والجدل الفقهي الجامد في الفروعيات إلى تطعيمه بالنظر في مقاصد الشارع، وأنها كالحياض الواسعة لهذه الفروعيات والخلافيات فيتقلص ظل الخلاف، وتلتقي الأحكام الاجتهادية ما أمكن في قالب واحد، وفق مقاصدها التي وضعت لها،(2/10)
ص -10-…نابعة من مشكاة واحدة، بجامع مقاصد الشريعة الكلية، محققة خلود الشريعة، وعصمتها, ووحدة أحكامها.
والشاطبي -رحمه الله تعالى- ينص في مقدمته على افتراعه لهذا العلم، أي: بهذا الاعتبار. كما افترع الإمام الشافعي: "علم أصول الفقه"، والخليل بن أحمد: "علم العروض"، وابن خلدون: "علم الاجتماع" في "مقدمته"، وهكذا.
وبعد؛ فكم تطلعت إلى أن أرى هذا الكتاب مطبوعا محققا مخدوما بما يليق بمكانته من تعاليق، وفهارس علمية ونظرية، مع المحافظة على خدمات السابقين، وجهودهم المبذولة تقديما وتعليقا؛ لتحوي هذه الطبعة ما سبقها وزيادة؛ حتى يسر الله الكريم بفضله هذا المطلوب، على يد العلامة المحقق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان؛ فبعث إلي بنسخة من هذا الكتاب بعد صفه وتنضيده؛ فوجدته -أحسن الله إليه- قد بذل فيه جهده، وجمع له نفسه، ووفر المطالب المذكورة، وأضاف إليها تعليقات جمة بتحقيقات مهمة، وتخريجات للمرويات، وعزو للمنقولات وإحالات إلى كتب الشاطبي وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأتبع ذلك بمفاتيح للكتاب، ومسرد علمي للفوائد واللطائف؛ فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه، ونفع به عباده.
وإني أول مستفيد من عمله في هذا التقديم، ومن كتابين مهمين أحدهما: "الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي, وثانيهما: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني؛ فما في هذا التقديم مستخلص من ثلاثتهم، مع ما فتح الله به وهو خير الفاتحين, والحمد لله رب العالمين.(2/11)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عَمَاية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى عَلَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما مَنَّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله.
فلقد كنا قبل شروق هذا النور نَخْبِطُ خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء، كالقابض على الماء، ولا زلنا1 نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا2 على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ما زلنا".
2 من أكب على وجهه، إذا تمادى في الغواية، وهو أحد الأفعال التي تهمز؛ فتكون لازمة وتجرد فتتعدى، ونظائره: انسل الطير، وأحجم زيد، وأنزفت البئر "خ".(2/12)
ص -4-…حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار؛ لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار، وثبت في مكتسبات الأفعال حكمُ الاضطرار؛ فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم، ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم؛ إذ لم نستطع من دونه حيلا، ولم نهتد1 بأنفسنا سُبلا، بأن جعل العذر1 مقبولا، والعفو عن الزلات قبل [بعث الرسالات مأمولا]1؛ فقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فبعث الأنبياء -عليهم السلام- في الأمم، كل بلسان قومه من عرب أو عجم؛ ليبيِّنوا لهم طريق الحق من أمم2، ويأخذوا بحُجزهم عن موارد جهنم، وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم، ومسك3 ختامهم؛ محمد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدلا منها في نسخة "خ" بياضات, وكتب المعلق: "هكذا الأصل، وفيه حذف من الناسخ، ولعل نظم الكلام هكذا: "ولم نسلك بأنفسنا سُبُلا، بأن جعل لما أُمرنا به قبولا، وللعفو عن الزلات قبل الابتهال حصولا"".
2 أي: من قُرب. انظر: "لسان العرب" "أ م م".
3 في نسخة "خ": "مسكة"، وكتب المعلق عليها ما نصه:(2/13)
"قال الغزالي في كتاب "الاقتصاد": الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قاطع وضرب المثل لهذا بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ فأنكر عليه بعض المفسرين، ووسم هذه المقالة بأنها إلحاد، وما قاله الغزالي مبني على الوجه الذي سيقرره المصنف قريبا من أن الألفاظ لا تدل على المراد منها بوجه قاطع لتوقف القطع على التحقق؛ من عدم النقل، والمجاز، والإضمار، والتقديم، والتأخير، والإطلاق، والتقييد ونحو ذلك، وإنما يحصل القطع بمضمونها بعد أن ينضم إليها ما ينفي تلك الوجوه المحتملة؛ كأن ينعقد على مدلولها إجماع أو تتوارد عليه نصوص أخرى، والمحققون على أن الآية نص قاطع بنفسها وعلى أي مذهب؛ فقد بلغ مضمونها مبلغ القطع المعتد به في تقرير العقائد التي يخرج المتردد فيها عن دائرة الإسلام حيث تضافر عليها صريح القرآن والسنة والإجماع".(2/14)
ص -5-…عبد الله، الذي هو النعمة المُسْداة، والرحمةُ المهداة، والحكمةُ البالغة الأميَّة، والنخبة الطاهرة الهاشمية، أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل عليه كتابه العربي المبين، الفارق بين الشك واليقين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفِّه، وطيَّبه بطيب ثنائه وعرَّفه بعَرْفه1؛ إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته، وكلي وصفه، فصار عليه السلام مبيِّنا بقوله وإقراره وفعله وكفه؛ فوضُح النهار لذي عينين، وتبيَّن الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غَيْن2.
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له والشكر أول الزيادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، خالق الخلق أجمعين، وباسطُ الرزق للمطيعين والعاصين، بسطا يقتضيه العدل والإحسان، والفضل والامتنان، جاريا على حكم الضمان.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58].
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
كل ذلك ليتفرغوا لأداء الأمانة التي عُرضت عليهم عرضا، فلما تحمَّلوها على حكم الجزاء؛ حُمِّلوها فرضا، ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية، وتأمَّلوا في البداية خطر النهاية، لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال، كما خطر للسموات والأرض والجبال3؛ فلذلك سُمِّي الإنسان ظلوما جهولا، وكان أمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طيَّبه بطيب رائحته.
2 الغين لغة في الغيم. انظر: "لسان العرب" "غ ي ن".(2/15)
3 أشار إلى أن المراد بالأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} عهدة التكليف، وإباية السموات والأرض والجبال لحملها تمثيل لعدم استعدادها بحسب الفطرة لتقلدها، وفي هذا التمثيل تنويه بقدر هذه التكاليف وتعظيم لشأنها. "خ".(2/16)
ص -6-…الله مفعولا؛ فدل1 على هذه الجملة المستبانة شاهدٌ قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72].
فسبحان من أجرى الأمور بحكمته وتقديره، على وفق علمه وقضائه ومقاديره؛ لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون!
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الصادق الأمين، المبعوثُ رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة الحاكمين2 بها حفية، ينطق بلسان التيسير بيانها، ويعرِّف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها؛ فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة فهيما وغبيا، وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا، وترفق بجميع المكلفين مُطيعا وعصيا، وتقودهم بخزائمهم3 منقادا وأبيا، وتُسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا، وتُبوئ حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا، وتُلبس المتصف بها ملبسا سنيا، حتى يكون لله وليا؛ فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا، وما أفقر من عادها وإن كان غنيا.
فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها4، ويبث للثقلين ما لديها، ويناضل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "دل"، وما أثبتناه من الأصل و"خ" و"م".
2 في النسخ المطبوعة: "شرعة بالمكلفين"، والمثبت من الأصل.
3 جمع خِزامة، وهي حلقة من شعر تُجعل في وترة أنف البعير يُشد فيها الزمام. انظر: "مختار الصحاح" "خ ز م".
4 يتحقق هذا المعنى بالنظر إلى القرآن الذي هو مطلع الشريعة الغراء؛ فإنه من جهة اشتماله على الحجج المحكمة والمواعظ الحسنة مدعو به، ومن حيث تقريره للعقائد والأحكام والآداب مدعو إليه "خ".(2/17)
ص -7-…ببراهينها عليها، ويحمي بقواطعها جانبيها، بالغ الغاية في البيان، بقوله1 بلسان حاله ومقاله: "أنا النذير العُريان"2 صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه؛ الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصَّلوها، وأسسوا قواعدها وأصَّلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفَّعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا3، وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان؛ فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟! رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم4، الطالب لأسنى نتائج الحُلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "يقول"، والمثبت من الأصل.
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي 11/ 316/ رقم 6482، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 250/ رقم 7253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل, باب شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، 4/ 1788-1789/ رقم 2283" من حديث أبي موسى مرفوعا: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان؛ فالنجاء...".
3 في الأصل: "فتسبقوا"، وله وجه كما في "اللسان" "س ب ق".(2/18)
4 تتفاضل العلوم على حسب شرف غايتها، أو قوة دلائلها، أو كمال موضوعاتها؛ ولهذا كان أشرف العلوم وأرفعها منزلة علم التوحيد، ثم ما ينبني عليه من سائر علوم الشريعة "خ".(2/19)
ص -8-…طمعا في إدراك باطنه المرقوم، معاني1 مرتوقة في فتق تلك الرسوم2؛ فإنه قد آن لك أن تُصغي إلى من وافق هواك هواه، وأن تُطارح الشجي مَنْ مَلَكه -مثلك- شجاه، وتعود -إذْ شاركْتَه في جواه- محل نجواه؛ حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتسري في غَبَشِهِ الممتزج ضوءه بالظلمة كما سرى، وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى.
فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامِهَ فِيحا، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا، ولاقى من وجوهه المعترضة جَهْما وصَبِيحا، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا3، فإن شئت ألفيته لتعب السير طَلِيحا4، أو لما حالف من العناء طريحا، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا؛ فلا عيش هنيئا، ولا موت مريحا.
وجُملة الأمر في التحقيق: أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث5 عليل؛ فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل، إلى أن مَنَّ الرب الكريم، البر الرحيم، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ فبُعثت له أرواح تلك الجسوم، وظهرت حقائق تلك الرسوم، وبدت مسميات تلك الوسوم؛ فلاح في أكنافها الحق واستبان، وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان، وقويت النفس الضعيفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الطبعات الثلاث والأصل.
2 أي: ملتئمة في تضاعيف معالمه.
3 في الأصل: "سخيا".
4 أي: منهكا هزيلا. انظر: "لسان العرب" "ط ل ح".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من قولهم: طلح البعير طلحا وطلاحة، إذا أعيا؛ فهو طليح".
5 الأضغاث: الأخلاط، ومنه أضغاث الأحلام لما التبس منها، والمراد منها في هذه الجملة مثارات الحيرة، وشبه الباطل. "خ".(2/20)
ص -9-…وشجُع القلب الجبان، وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان، فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان1، وفوائده الغريبة البرهان، وبدائعه الباهرة للأذهان؛ ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل، ويقصر عن بث معشاره اللسان، إيرادا يميز المشهور من الشاذ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ، ويُوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل، ويُبصره في مقامه الخاص به بما دقَّ وجلَّ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال؛ ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمُحال؛ فله الحمد كما يجب لجلاله، وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله.
ولما بدا من2 مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى, لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجُملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحُكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها؛ فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهيه، وانتظمت في أسلاكها السَّنِية البهية؛ فصار كتابا منحصرا في خمسة أقسام3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل فيه أحاديث موضوعة وضعيفة؛ كما بيناه في التخريج، والله الموفق.
2 في "ط": "من".
3 "القسم؛ بالفتح: مصدر قسم الشيء يقسمه قسما، وبالكسر: النصيب والحظ، والجمع أقسام... وحقيقته أنه جزء من جملة تقبل التقسيم". "ماء".(2/21)
ص -10-…الأول:
في المقدمات1 العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود.
والثاني:
في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف.
والثالث:
في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام.
والرابع:
في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يُحكم بها على أفعال المكلفين.
والخامس:
في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب.
وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات، وأطراف وتفصيلات؛ يتقرر بها الغرض المطلوب، ويقرب بسببها تحصيله للقلوب.
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، سميته بـ"عنوان التعريف بأسرار التكليف"، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب، يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومُناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه؛ فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "جمع مقدمة بكسر الدال وفتحها، وهي بالكسر أفصح، وهي من كل شيء أوله.
والعلمية المنسوبة للعلم أي: المعرفة احترازا مما ينسب إلى العمل.
والمحتاج المفتقر.
وتمهيد الأمر: تسويته وإصلاحه وجعله وطئا سهلا، والمقصود الشيء الذي يقصد إتيانه لفائدة مرغوبة" "ماء".(2/22)
ص -11-…ألفته فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم1 وأبي حنيفة. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مُصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء. فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق؛ ليكون -أيها الخل الصفي، والصديق الوفي- هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق، لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق، ومرجعك في جميع ما يعنُّ لك من تصور وتصديق؛ إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم، وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم، لا جَرَمَ أنه قرب عليك في المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظَّهر، وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر.
فقدِّمْ قَدَم عزمك؛ فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قِبَلك منه؛ فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت، وإياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الظن والحسبان2، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وَهَد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خالف ابن القاسم الإمام مالكا في مسائل كثيرة؛ فوصفه بعض الفقهاء بأنه مجتهد مطلق، وذهب الأكثرون إلى أنه مجتهد في المذهب؛ أي: مقيد النظر بأصول مالك، ولهذا كان أهل الأندلس -وهم مقتدون بمذهب مالك- يشرطون في سجلات قرطبة أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم ما وجده، ولم يتركوا العمل بقوله إلا في ثماني عشرة مسألة. "خ".(2/23)
2 كذا في "ط" وحدها، وفي سائر النسخ: "مع الطرق الحسان"!! وفسرها "خ" بقوله: "لا يشغلك جمال الطريق عن السير إلى الغايات الشريفة، وكثير من القارئين من يلهيه حسن أساليب القول عن الغوص في أعماقه واقتناص حكمه البديعة ومراميه السامية".(2/24)
ص -12-…التقليد راقيا إلى يَفَاع الاستبصار1، وتمسك من هديك بهمة2 تتمكن بها من المدافعة والاستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار، والبس التقوى شعارا، والاتصاف بالإنصاف دثارا، واجعل طلب الحق لك نِحْلَة، والاعتراف به لأهله ملة، لا تملك [قلبك]3 عوارض الأغراض، ولا تُغير4 جوهرة قصدك طوارق الإعراض، وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين؛ إلا إذا اشتبهت المطالب، ولم يلح وجه المطلوب للطالب؛ فلا عليك من الإحجام وإن لجَّ الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنارُ5 على من اقتحم المناهي فأوردته النار، لا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية، فذلك مرعى لسوامها وَبيل، وصدود عن سواء السبيل.
فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار وغر6 الظان أنه شيء ما سُمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نُسج على منواله أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعل التقليد بمنزلة الوهد، وهو المنخفض من الأرض؛ لأن المقلد لا يرمي ببصره إلى ما وراء قول متبوعه أو فعله، فكأنه في منحدر تمنعه جوانبه من أن يمد عينه إلى ما خلفه من ملكوت السموات والأرض، وجعل التبصر بمكان اليفاع وهو الرابية؛ لأن المتبصر لا يقف بفكره جامدا على ما يسبق إليه من قول أو يشهده من عمل، بل ينفذ ببصيرته الصافية إلى مرتقى الاستدلال؛ فكأنه قائم على أكمة يشرف منها على مواقع شتى ليتخير من بينها أبدع المناظر وأصفى الموارد "خ".
2 في نسخة "خ": "من تهديك بمنة تتمكن".
3 ليست في الأصل ولا في "ط"، وضبط ناسخ "ط" "تُمِلْكَ" من "الميلان".
4 في "د": "تغر".(2/25)
5 في حاشية الأصل: الشنار, بالفتح: أقبح العيب والعار، الأمر المشهور بالشنعة. ا. هـ. "قاموس".
6 في "ط": "وظنَّ".(2/26)
ص -13-…اختبار، ولا ترْمِ بمظنة الفائدة على غير اعتبار؛ فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار1، وإذا وضُح السبيلُ لم يجب2 الإنكار، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل ويطرق صحة أفكارهم من العلل؛ فالسعيد من عُدَّت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته.
وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل، إذا وجد فيه نقصا أن يكمل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام؛ حتى أهدى إليه نتيجة عُمره، ووهب له يتيمة دهره؛ فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه، و"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"3.
جعلنا الله من العاملين بما علمنا، وأعاننا على تفهيم ما فهمنا، ووهب لنا علما نافعا يبلغنا رضاه، وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود، وآخذ في إنجاز ذلك الموعود، والله المستعانُ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تأمل الحفظة. انظر: "مختار الصحاح" "ن ظ ر".
2 من "أجبى" بمعنى أخفى، مأخوذا من الإجباء، وهو أن يغيب الرجل إبله عن المتصدق، والمعنى: أن السبيل الواضح لا يتمكن المنكر من إخفائه. "خ".
3 الحديث في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يصح إلا عن عمر -رضي الله عنه- وسيأتي تخريجه "ص459".(2/27)
ص -17-…المقدمة الأولى1
إن أصول الفقه2 في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نحو ما عند المصنف تحت هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 228-234، و20/ 62-64".
2 "قوله: "أصول" جمع أصل، وهو في الاصطلاح ما يبنى عليه غيره عكس الفرع؛ فإنه ما ينبني على غيره.
والفقه لغة: الفهم، وفي الاصطلاح: الأحكام الشرعية التي طريقها طريق المجتهدين والدين والجزاء والعبادة، وهو المراد هنا.
والقطعي: الذي لا شك فيه، وتراها وتبصرها.
وظنية: منسوبة إلى الظن، وهو الراجح من الأمر، والمرجوح يسمى وهما، والمستوي يسمى شكا". "ماء".
وكتب "د" ما نصه: "تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ"لا ضرر ولا ضرار"، و{لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، و{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، "إنما الأعمال بالنيات"، "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضا؛ كالكتاب، والسنة، والإجماع... إلخ. وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي فن الأصول؛ فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية؛ فالقاضي ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والمؤلف بصدد معالجة إثبات كون مسائل الأصول قطعية بأدلته الثلاثة الأول وبالأدلة الأخرى التي جاء بها في صدد الرد على المازري في اعتراضه على القاضي، ثم قرر أخيرا أن ما كان ظنيا يطرح من علم الأصول؛ فيكون ذكره تبعيا لا غير".(2/28)
ص -18-…راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك؛ فهو قطعي1.
بيان2 الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع3.
وبيان الثاني من أوجه:
أحدُها4: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية5، وهي قطعية، وإما إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خفي الوجه الذي بسطه المصنف في هذه المقدمة على بعض الكاتبين في الأصول؛ فقال: من أصول الفقه ما ليس بقطعي؛ كحجية الاستصحاب، ومفهوم المخالفة، وستطلع إن شاء الله على أن من قرر أصلا كالاستصحاب أو سد الذرائع أو المصالح المرسلة؛ إنما انتزعه من موارد متعددة من الشريعة حتى قطع بأنه من الأصول المقصودة في بناء الأحكام. "خ".
قال "ماء": "قطعية أبدا في جميع الدهر ولا تكون ظنية".
قلت: الخلاف في هذه المسألة يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط؛ فالقائلون بأن "أصول الفقه" قطعية لا تحتمل الظنيات -ومنهم المصنف-؛ يقصدون "أصول" الأدلة، والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية ليس من "أصول" الفقه، وإن بُحث في علم "أصول الفقه" وكتبه، وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات؛ فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى المصنف إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن "أصول الفقه" قطعية لا ظنية، تأمل اعتراض أستاذنا الدريني في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأدلته" "1/ 20" تجد مصداق التوجيه السابق، وقد ذكره الأستاذ أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص140".
2 في "م": "وبيان".
3 فإنا إذا تصفحنا جميع مسائل علم الأصول نقطع بأنها مبنية على كليات الشريعة الثلاث، واستقراء جميع الأفراد فيه ممكن؛ فإنها مسائل محصورة "د".(2/29)
4 حاصله أن كليات الشريعة مبنية؛ إما على أصول عقلية، وإما على استقراء كلي من الشريعة، وكلاهما قطعي؛ فهذه الكليات قطعية، فما ينبني عليها من مسائل الأصول قطعي "د".
5 أي: راجعة إلى أحكام العقل الثلاثة كما سيذكره في المقدمة الثانية تفصيلا. "د".(2/30)
ص -19-…الاستقراء الكلي1 من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث2 لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه.
والثاني3: أنها لو كانت ظنية؛ لم تكن راجعة إلى أمر عقلي؛ إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات4؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة؛ لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول5، وذلك غير جائز عادة6 -وأعني بالكليات7 هنا: الضروريات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يتأتى عادة أن يكون المستنبطون لقاعدة "أن الأمر للوجوب" مثلا وقفوا على كل أمر صدر من الشارع حتى يتحقق الاستقراء الكلي المعروف الموجب لليقين، لكن المطلوب هنا القطع؛ أي: الجزم، ويكفي لذلك الكثرة المستفيضة الإفراد من كل نوع من أنواع الأمر الواردة في مقاصد الشريعة الثلاثة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومثل هذا كافٍ في عده استقراء كليا يوجب القطع؛ لأن ما لم يطلع عليه المستنبط من الأوامر لا يخرج عن كونه فردا من أنواع الأوامر التي اطلعوا عليها؛ فلا يترتب عليه إخلال بالقاعدة.
2 سيأتي في المقدمة الثانية زيادة: العادي؛ فلعله توسع هنا بإدراجه في العقلي "د".
3 إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه؛ لأنه يترتب على كونه ظنية حصول ما لا يجوز عادة، وهو تعلق الظن بأصل الشريعة، وأيضا حصول الشك فيها، وأيضا جواز تبديلها، وكلها باطلة "د".
قلت: وانظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 112-126".
4 لا الكليات الشرعية بدليل قوله: "إذ لو جاز..."؛ فهو روح الدليل "د".
5 أي: بملاحظة أنها جاءت بعد الاستقراء الكلي؛ فيصح قوله: "لجاز..." إلخ، وأصل الشريعة المقطوع بها هي الكلي الأول الذي تفرعت عنه القوانين والكليات الأخرى، وحيث كان الأصل الأول مقطوعا به، وكان التفريع عليه بطريق الاستقراء الكلي؛ فحكم الفرع حينئذ يكون حكما للأصل، والعكس "د".(2/31)
6 لأنه بعد قيام الدليل على الأصل والقطع به يستحيل عادة أن يحصل فيه ظن بدل القطع، ولم يقل عقلا؛ لأنه لا يمنع العقل حصول الظن للشخص في شيء بعد القطع بالدليل؛ فإنه لا يلزم من عرض ذلك محال عقلا. "د".
7 أي: التي قلنا: إنها مرجع لمسائل الأصول "د".(2/32)
ص -20-…والحاجيات، والتحسينيات1-، وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة؛ لجاز تعلق الشك بها، وهي لا شك فيها، ولجاز تغييرها وتبديلها، وذلك خلاف ما ضمن الله -عز وجل- من حفظها.
والثالث:
أنه لو جاز جعل الظني2 أصلا في أصول الفقه؛ لجاز جعله أصلا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا؛ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة؛ فقد استوت في أنها كليات معتبرة3 في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات.
وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نُتَعبد بالظن إلا في الفروع4، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "الظن".
2 استدلال خطابي؛ لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول؛ حتى ما اتفقوا عليه منها، إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وكان يجدر به وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل "خ".
3 "أما الضروريات؛ فمعناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل.
وأما الحاجيات؛ فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال.
وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة" "ماء".(2/33)
4 ذهبت طائفة إلى أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالطرق المفيدة للعلم، متمسكين بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وأجاب الجمهور عن الآيتين بأنهما من قبيل العام المخصوص بالأدلة القائمة على العمل بما يفيد الظن في الفروع؛ كأدلة العمل بخبر الآحاد، أو أن العمل بمثل خبر الآحاد حيث كان يستند إلى الدلائل الموجبة للعمل عند ظن الصدق كان وجوبه معلوما قطعا؛ فالظن واقع في طريق الحكم، وقد انضمت إليه الدلائل القاطعة على وجوب العمل بمقتضى هذا الظن؛ فلم يكن العامل بما يفيده خبر الآحاد مثلا متبعا لمجرد الظن، بل مستندا إلى ما يفيد العلم بأن ذلك الحكم المنتزع بطريق مظنون هو ما ناطه الشارع بعهدته "خ".(2/34)
ص -21-…من الأصول تفاصيل العلل، كالقول في عكس العلة، ومعارضتها، والترجيح بينها وبين غيرها، وتفاصيل أحكام الأخبار، كأعداد الرواة، والإرسال؛ فإنه ليس بقطعي.
واعتذر ابن الجويني1 عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى2 فيما دل عليه الدليل القطعي.
قال المازري: وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وإن كان ظنيا، على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم3؛ لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها4، لكن ليُعْرَض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر. قال: فهي في هذا كالعموم5 والخصوص. قال: ويحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "البرهان" "1/ 85-86".
2 لا يخفى أن اعتبار مثل هذا يؤدي إلى دعوى أن الفروع قطعية أيضا "د".
3 أصول العلم قوانينه التي يتألف منها؛ ككون الإجماع أو القياس حجة، والمطلق يحمل على المقيد والعام يقبل التخصيص، ودلالته على جميع أفراده قطعية أو ظنية، أما الأصول بمعنى الأدلة؛ فهي الكتاب, والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. فقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أصل بمعنى الدليل، وقولك بعد: "والأمر للوجوب" أصل من أصول العلم "خ".
4 أي: لا لتعتقد حتى يلزم فيها ثبوتها على وجه قطعي "د".
5 لعله يريد أن القاعدة بالنسبة لجزئيات الأدلة كالعام بالنسبة لجزئياته، وحيث إن جزئيات الأدلة يلحقها الظن في دلالتها؛ فلا مانع أن تكون الكليات التي تنطبق عليها كانطباق العام على الخاص يلحقها الظن أيضا "د".(2/35)
ص -22-…من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول؛ لأن الأصول عنده [هي الأدلة، والأدلة عنده]1 ما يفضي إلى القطع، وأما القاضي؛ فلا يحسن به إخراجها من الأصول، على أصله الذي حكيناه عنه. هذا ما قال.
والجواب2: أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به؛ لأنه إن كان مظنونا تطرق إليها احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها3 وبين الأصول الكلية التي نص عليها، ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة4، وهو المراد بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أيضا، لا أن المراد5 المسائل الجزئية؛ إذ لو كان كذلك؛ لم يتخلف عن الحفظ جزئي من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست في الأصل.
2 أي: عن القاضي؛ أي: إن القاضي وإن قال: إن الأصول هي تلك القوانين؛ فهذا لا ينافي أنه يقول: إنها قطعية؛ لأن كل ما كان ظنيا لا يعد من الأصول؛ فسواء أريد بالأصول الأدلة من الكتاب والسنة... إلخ أو أريد بها تلك القواعد؛ لا بد أن تكون قطعية، ومنه يُعلم أن قوله: "لأن تلك الظنيات... إلخ" من كلام المازري لا من كلام القاضي، ومعلوم أن الغرض من جلب كلام القاضي والمازري تصفية المقام ورد شبهة المازري ليتم له أن أصول الفقه على أي تقدير في معناها قطعية، سواء كانت هي القواعد أو الأدلة من الكتاب والسنة، أو الكليات الشرعية المنصوصة. "د".
3 مجرد دعوى؛ إلا أن يجعل تفريعا على ما قبله فتكون الفاء ساقطة "د".
4 مسلم، ولكنك تعمم في المستنبطة الصرفة أيضا "د".
وانظر في معنى الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447"، و"المحرر الوجيز" "3/ 351-352" لابن عطية.(2/36)
5 سيأتي له ما يخالف هذا؛ إذ يقول في المقدمة التاسعة: "ولذا كانت الشريعة محفوظة أصولها وفروعها"، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن مراده هنا نفي حفظ الفروع بذاتها، وهناك إثبات حفظها بنصب أدلتها الكافية لمن توجه إليها بفهم راسخ، فإن أخطأها بعض؛ أصابها بعض آخر، فهي محفوظة في الجملة "د".(2/37)
ص -23-…جزئيات الشريعة، وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز، ويؤيده الوقوع؛ لتفاوت الظنون، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية، ووقوع الخطأ فيها قطعا؛ فقد وُجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات؛ فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا1، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا.
هذا على مذهب أبي المعالي، وأما على مذهب القاضي, فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه2؛ فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها, واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مُقام الحاكم على الأدلة، بحيث تُطرح الأدلة إذا لم تجز على مقتضى تلك القوانين؛ فكيف يصح أن تُجعل الظنيات قوانين لغيرها3؟
ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها؛ فإنها حاكمة على غيرها؛ فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تُجعل قوانين، وأيضا، لو صح كونها ظنية؛ لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة، وذلك غير صحيح، ولو سلم ذلك كله؛ فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تُجعلُ أصولا، وهذا كافٍ في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كليا منصوصا كما قال أولا؛ فيمنع قوله بعد: يلزم أن يكون كل أصل قطعيا، فإذا كان غرضه تقرير مذهب أبي المعالي، وأن القطع إنما هو في الكليات المنصوصة في الشريعة بدون تعرض للقوانين المستنبطة؛ لا يكون لذكره هنا فائدة تعود على غرضه من قطعية مسائل الأصول، وإذا كان يقيس القوانين على النصوص كما هو المفهوم من قوله: "لا فرق بينها وبين الأصول التي نص عليها"؛ فهو قياس لم يذكر له علة صحيحة "د".
2 في "ط": "أصول العلم".(2/38)
3 أي: من القطعيات التي تعرض فيما يعرض عليها، وقد يقال: إنها جعلت قوانين لاستخراج الفروع من القطعيات والظنيات، وليست قوانين لنفس القطعيات، والفروع المستنبطة بها ظنية ولا ضير في هذا "د".(2/39)
ص -24-…جرى1 فيها مما ليس بقطعي تفريعا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول؛ فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر، وتشعب وجوه الأدلة إثباتا وردا، راجع "الأسنوي على المنهاج" في تعريف الأصول على أنه -بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيرا من القواعد المذكورة في الأصول جزافا دون تحديد لنوع ما يطرح- صار لا يُعرف مقدار ما بقي قطعيا وما سلم فيه أنه ظني، وهذا يقلل من فائدة هذه المقدمة. "د".
2 بعد ختم "ماء" هذا الفصل قال: "تنبيه: اعلم أني ذكرت في النظم تبعا للأصل أن أصول فقه الدين قطعية، ولا تكون ظنية، وتقدم ما تقدم من الكلام، ثم إني أقول: إن أصول الفقه عرفها صاحب "جمع الجوامع" أعني السبكي بقول: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها، والأصولي: العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
وقال في تعريفها سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي في "مراقي السعود" "أصوله دلائل الإجمال"، قال في شرحه: "يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية؛ لأن الأصل في الاصطلاح هو الدليل أو الأمر الراجح... والدليل الإجمالي هو الذي لا يعين مسألة جزئية كقاعدة "مطلق الأمر والنهي".
وفعله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمبين والمجمل، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، وخبر الواحد..." إلى أن قال: "والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام... إلى غير ذلك من كلامهم في كتبهم, جزاهم الله خيرا" "ماء".(2/40)
ص -25-…المقدمة الثانية:
إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية1؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بين، وهي:
- إما عقلية؛ كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة.
- وإما عادية، وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا؛ إذ من العادي ما هو واجبٌ في العادة أو جائز أو مستحيل.
- وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
فإذًا الأحكام المتصرفة2 في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لازم أو ملزوم لما تقدم له في المقدمة الأولى؛ فيجري عليه ما جرى عليها "د".
2 أي: التي تتركب منها مقدماته لا تتجاوز الأحكام الثلاثة، سواء كانت عقلية أو عادية أو سمعية، وقد يذكر في الأصول أن كذا حجة أو ليس بحجة؛ فهذا ليس من المقدمات، وإنما هو مما يتفرع على تلك المقدمات؛ إذ هو العرض الذاتي الذي يُراد إثباته لموضوعاته التي هي الأدلة بواسطة تلك المقدمات "د".(2/41)
ص -26-…والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع، فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة؛ فراجع إلى وقوعه كذلك، أو عدم وقوعه كذلك، وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع1 إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما؛ فلا مُدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن2 باب خلط بعض العلوم ببعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنها بمعنى ثبوته أعم من أن يكون واجبا أو جائزا أو مستحيلا، يعني عقليا أوعاديا، لا خصوص العقلي "د".
2 إنما ذكروها من باب المقدمات لحاجة الأصولي إلى تصورها والحكم بها إثباتا ونفيا؛ كقوله: الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا، وقد ذكرها هو وأطال في تحديدها؛ إلا أن يكون مراده كون كذا من الأفعال فرضا أو حراما مثلا، فإن هذا من الفروع الصرفة التي ليست من المقدمات في شيء "د".(2/42)
ص -27-…المقدمة الثالثة1
الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركبة2 على الأدلة السمعية، أو مُعِينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع, وهذا مبيَّن في علم الكلام، فإذا كان كذلك؛ فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية، ووجود القطع3 فيها -على الاستعمال المشهور- معدوم، أو في غاية الندور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المقدمة كبيان ودفع لما يرد على المقدمة قبلها "د".
وقارن ما فيها بكلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "19/ 228-234".
2 أي: لا تكون أدلة هذا العلم مركبة من مقدمات عقلية محضة، بل قد تكون إحدى المقدمات والباقي شرعية مثلا، وقد تكون معينة بأن يأتي الدليل كله شرعيا، ويستعان على تحقيق نتيجته بدليل عقلي، وقد تكون المقدمات العقلية أو العادية لا لإثبات أصل كلي، بل لتحقيق المناط؛ أي: لتطبيق أصل على جزئي من جزئياته، وذلك بالبحث في أن هذا الجزئي مندرج في موضوع القاعدة ليأخذ حكمها، وسيأتي أن هذا البحث قد يرجع للطب أو للصناعات المختلفة أو للعرف في التجارات والزراعات وغير ذلك؛ إلا أنه يلاحظ على ذلك أن تحقيق المناط من صناعة الفقيه المجتهد، لا من تحقيق مسائل الأصول في ذاتها، ومثل ذلك يقال في تنقيح المناط وتخريج المناط الآتيين له في الجزء الرابع؛ لأنها كلها من وظيفة الفقيه لا الأصولي؛ إلا أن يقال: لا مانع من تحقيق المناط في مسائل الأصول أيضا، لكن على وجه آخر غير طريقة ذلك الاصطلاح "د".
3 يستعمل القطع في دلالة الألفاظ؛ فيأتي على نوعين:
أولهما:
الجزم الحاصل في النص القاطع، وهو ما لا يتطرقه احتمال أصلا نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهذا ما يقصده المصنف في هذه المقدمة.
ثانيهما:(2/43)
العلم الحاصل من الدليل الذي لم يقم بإزائه احتمال يستند إلى أصل يعتد به ولا يضره الاحتمالات المستندة إلى وجوه ضعيفة أو نادرة، وهذا المعنى هو الذي يقصده القائلون بأن دلالة العام على أفراده قطعية. "خ".(2/44)
ص -28-…"أعني: في آحاد الأدلة"؛ فإنها إن كانت من أخبار الآحاد؛ فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة؛ فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعُها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا؛ فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير والمُعارض العقلي1، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة؛ فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادرٌ أو متعذر2.
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموعٌ يفيد العلم؛ فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر3 المعنوي، بل هو كالعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العقليات التي يصح لها أن تعارض لفظ الشارع ويتعين صرفه عن ظاهره لأجلها كمال* ما إذا عارضه الحس والمشاهدة إنما هي القضايا الثابتة بأدلة قاطعة، أما مجرد استحسان العقل واستقباحه؛ فلا يقف أمام نص الشارع لأنه قد يكون ناشئا عن عدم صفاء الفطرة والذوق، أو تغلب الهوى، وكثيرا ما يكون أثرا من آثار النشأة والبيئة الخاصة. "خ".
2 أي: فلا يفيد الاعتصام به بحالة مطردة في سائر الأدلة كما هو المطلوب "د".(2/45)
3 وليس تواترا معنويا؛ لأن ذاك يأتي كله على نسق واحد؛ كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعُها دالة على شجاعة علي مثلا بطريق مباشر، أما هذا؛ فيأتي بعضه دالا مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب؛ كمدح الفاعل لها، وذم التارك، والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها... إلخ، ولذلك عده شبيها بالمعنوي ولم يجعله معنويا "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعل صوابه: "كما لو".(2/46)
ص -29-…بشجاعة علي -رضي الله عنه- وجود حاتم1 المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما.
ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس؛ كالصلاة، والزكاة، وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] أو ما أشبه ذلك؛ لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه2، لكن خف3 بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين.
ومن ههنا4 اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع؛ لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب.
وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة؛ فهو راجع إلى هذا المساق5؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 193": "يشير إلى التواتر المعنوي، ومثله بالأخبار الواردة في سخاء حاتم؛ فإنها كثيرة، لكنها لم تتفق على سياق واحد، ومجموعها يفيد القطع بأنه كان سخيا، وكذلك الأخبار الواردة في شجاعة علي، واستيعاب ذلك متعسر؛ فرأيت أن أشير إلى شيء من ذلك..."، ثم سرد بعضا منها.
2 أي: كان استدلالا ظنيا لتوقفه على المقدمات الظنية المشار إليها "د".
3 في "ط": "حَفَّت".
4 أي: فبدل أن يسردوا الأدلة الجزئية، فيؤخذ في مناقشة كل دليل يورد بالمناقشات المشار إليها؛ يعدلون عن هذا الطريق القابل للمشاغبة إلى طريق ذكر الإجماع القاطع للشغب، وما ذلك إلا لأن كل دليل على حدته ظني لا يفيد القطع "د".
5 وهو شبه التواتر المعنوي "د".(2/47)
ص -30-…وهي مع ذلك مختلفة المساق1، لا ترجع إلى باب واحد؛ إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب2، وهي مآخذ الأصول؛ إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما3 تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين؛ فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها4، وبالأحاديث على انفرادها؛ إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع5، فكر عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي إذا أخذت على هذا السبيل6 غيرُ مشكلة، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض؛ لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة؛ إلا أن نشرك العقل7، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع؛ فلا بد من هذا الانتظام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما أشرنا إليه؛ فلذا كان شبيها بالتواتر المعنوي وليس إياه "د".
2 فإنه بناها على هذه الطريقة بحالة اطردت له فيها "د".
3 إنما قال: ربما, ولم يقل: إنهم تركوه قطعا لأن الغزالي أشار إليه في دليل كون الإجماع حجة، كما تجيء الإشارة إليه, ولله در الغزالي؛ فإنه بإشارته لهذا في الإجماع جعل الشاطبي يستفيد منه كل هذه الفوائد الجليلة، ويتوسع فيه هذا التوسع، بل جعله خاصة كتابه؛ كما سيقول في آخره "د".
4 أي: كل آية على حدة بدون ضمها إلى سائر الآيات والأحاديث؛ حتى يصير النظر إليها نظرا إلى المجموع الذي يشبه التواتر "د".
5 في الأصل و"م": "الإجماع".
6 أي: سبيل الاجتماع الذي يصير كالإجماع من آحاد الأدلة على المعنى المطلوب "د".(2/48)
7 أي: بالاستقراء والنظر إلى الأدلة منظومة في سلك واحد، ويحتمل أن يكون المعنى: إلا أن نحكم العقل في الأحكام الشرعية، ونقول: إنه يدركها بنفسه؛ فيحصل القطع بها من جهته وإن كان دليل السمع ظنيا، لكن العقل عندنا لا يدركها مباشرة، وإنما ينظر فيها من وراء الشرع؛ فتعين هذا الطريق الاستقرائي في إفادة السمعيات القطع "د".(2/49)
ص -31-…في تحقيق الأدلة الأصولية.
فقد اتفقت1 الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك2؛ لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين3 هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته، إلى غير ذلك.
فنحن إذا نظرنا4 في الصلاة؛ فجاء فيها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] على وجوه، وجاء مدح المتصفين بإقامتها، وذم التاركين لها، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وقتال من تركها أو عاند في تركها، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى, وكذلك النفس: نُهي عن قتلها، وجُعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تمثيل بأهم مسألة أصولية لا يمكن إثباتها بدليل معين، وإنما ثبتت بشبه التواتر المعنوي بأدلة لم ترد على سياق واحد وفي باب واحد "د".
2 بعدها في "ط": "الأنظار والقرائح".
3 في الأصل: "يعتني".
4 مثالان آخران في أهم المسائل الشرعية من الفروع "د".(2/50)
ص -32-…كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى سائر ما ينضاف لهذا [المعنى]1، علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل، وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة.
وبهذا امتازت الأصول من الفروع؛ إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول؛ فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته؛ فهو صحيح يُبنى2 عليه، ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم؛ لأن ذلك كالمتعذر3.
ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل4 الذي اعتمده مالك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 في الأصل: "ينبني".
3 في "م": "كالمنعذر" بالنون، ومثل ما مضى عند الغزالي في "المنخول" "ص364".(2/51)
4 أي: المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها أصل شرعي من نص أو إجماع، لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وذلك كجمع المصحف وكتابته؛ فإنه لم يدل عليه نص من قِبَل الشارع، ولذا توقف فيه أبو بكر وعمر أولا، حتى تحققوا من أنه مصلحة في الدين تدخل تحت مقاصد الشرع في ذلك، ومثله ترتيب الدواوين وتدوين العلوم الشرعية وغيرها؛ ففي مثل تدوين النحو مثلا لم يشهد له دليل خاص، ولكنه شهد له أصل كلي قطعي يلائم مقاصد الشرع وتصرفاته، بحيث يؤخذ حكم هذا الفرع منه، وأنه مطلوب شرعا وإن كان محتاجا إلى وسائط لإدراجه فيه "د".(2/52)
ص -33-…والشافعي1؛ فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين؛ فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين, وقد يربو2 عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحا3 في بعض المسائل, حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك، ينبني على هذا الأصل، لأن معناه يرجع4 إلى [تقديم]5 الاستدلال المرسل على القياس6، كما هو مذكور في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الأبياري في "شرح البرهان" في الاستدلال بالمصالح: "هو عين ما ذهب إليه مالك، وقد رام إمام الحرمين التفريق بين المذهبين، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا؛ فالمصلحة المرسلة يتمسك بها كثير من الأئمة؛ إلا أن الإمام مالكا عمل بها في بناء الأحكام أكثر من غيره". "خ".
2 في جميع الأصول: "بربي".
3 في "م" و"خ": "موجودا".
4 بناء على بعض تفاسير الاستحسان، وسيأتي غير ذلك له في الجزء الرابع، وأنه يقدم على الظاهر وعلى القياس؛ فمالك يستحسن تخصيصه بالمصلحة، وأبو حنيفة يستحسن تخصيصه بخبر الواحد؛ فلذا نسبه هنا لمالك "د".
5 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
6 أي: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، وذلك كبيع العرية بخرصها تمرا؛ فهو بيع رطب بيابس وفيه الغرر الممنوع بالدليل العام؛ إلا أنه أبيح رفعا لحرج المعرِي والمعرَى، ولو منع لأدى إلى منع العريّة رأسا وهو مفسدة، فلو اطرد الدليل العام فيه لأدى إلى هذه المفسدة؛ فيستثنى من العام، وسيأتي شرحه بإيضاح في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد من الجزء الرابع، ومنه الاطلاع على العورات في التداوي أبيح على خلاف الدليل العام لأن اتباع العام في هذا يوجب مفسدة وضررا لا يتفق مع مقاصد الشريعة في مثله؛ فالاستحسان ينظر إلى لوازم الأدلة ويراعي =(2/53)
ص -34-…فإن قيل1:
الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح؛ لأن الأصل الأعم كلي، وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة، والأعم لا إشعار له بالأخص؛ فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة، من أين يُعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها؟
فالجواب:
أن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء [يكون]2 كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد، [أما كونه كليا؛ فكما يأتي في موضعه إن شاء الله، وأما كونه يجري مجرى العموم في الأفراد]3؛ فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد، ومن هنالك استنبط لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي والواقعين على جميع المكلفين؛ فهو كلي في تعلقه، فيكون عاما في الأمر به والنهي للجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مآلاتها إلى أقصاها، فلو أدت في بعض الجزئيات إلى عكس المصلحة التي قصدها الشارع؛ حجز الدليل العام عنها، واستثنيت وفاقا لمقاصد الشرع، وفي الشرع من هذا كثير جدا في أكثر أبوابه، وهو وإن لم ينص على أصل الاستحسان بأدلة معينة خاصة؛ إلا أنه يلائم تصرفاته ومأخوذ معناه من موارد الأدلة التفصيلية*؛ فيكون أصلا شرعيا وكليا يُبنى عليه استنباط الأحكام "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لعل في العبارة حذفا، وأصلها: "يرجع إلى تقدم أصل الاستدلال المرسل على القياس"، قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، وحاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي".
1 هذا الاعتراض يتجه على كل من المصالح المرسلة والاستحسان؛ لأن كلا منهما استدلال بأصل كلي على فرع خاص، والفرق بينهما أن الثاني تخصيص لدليل بالمصلحة، والأول إنشاء دليل بالمصلحة على ما لم يرد فيه دليل خاص "د".
2 ساقط من الأصل، "وفي "ط": "انتظم الاستقراء جرى مجرى...".
3 سقط من الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع "التفصيلة".(2/54)
ص -35-…لا يقال: يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة، وهو باطل؛ لأنا نقول: لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك, حسبما هو مذكور في موضعه1 من هذا الكتاب [بحول الله]2.
فصل
وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي3؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها4 ما يفيده القطع، فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة5 ومن بعده، ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية في الأخذ بأمور عادية، أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع6، وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها [هذا الإشكال فادعى فيها]7 أنها ظنية، وهي قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال، وهو واضح إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثامنة من كتاب المقاصد "د".
2 من "ط" فقط.
3 انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 267، 268، 270".
4 في "د": "بانفردها".
5 كذا في الأصول، ولعل صوابه: "الأئمة".
6 أي: إن عدم التفاتهم إلى التواتر المعنوي في حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" الذي استدل به الغزالي على حجية الإجماع، ونظرهم في الأحاديث الواردة نظرا إفراديا لكل حديث منها جعلهم يتركون الاستدلال بها على حجية الإجماع ويجنحون؛ إما إلى الاستدلال عليه بأمور عادية كالقرائن المشاهدة أوالمنقولة التي تدل عادة على اعتباره، وإما إلى الاستدلال عليه بالإجماع على القطع بتخطئة المخالف له، مع ما فيه من شبه المصادرة "راجع ابن الحاجب"، وبهذا البيان يعلم أن قوله في الأخذ إن لم يكن محرفا عن "والأخذ" أو "إلى الأخذ"؛ فهو بمعناه "د".
7 ساقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م".(2/55)
ص -37-…المقدمة الرابعة:
كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك1؛ فوضعها في أصول الفقه عارية.
والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك؛ فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه؛ كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق, والتصريف، والمعاني، والبيان، والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي يتوقف عليها تحقيق الفقه2، وينبني عليها من مسائله، وليس كذلك؛ فليس [كل ما يفتقر إليه الفقه يُعد من أصوله, وإنما اللازم أن كل أصل يُضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه؛ فليس]3 بأصل له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بطريق مباشر لا بالوسائط كما هو الحال في الاستعانة على الاستنباط بالعلوم الآتية؛ فهو يريد أن المقدمات التي ذكرها في كتابه فيها العون المباشر الذي يجعلها من الأصول، بخلاف المقدمات البعيدة مثل ما سيذكره من المباحث بعد "د".
2 تحقيقه غير استنباطه، ولهذا الغرض لم يقل: مسائله، بل: "من مسائله" "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط على ناسخ الأصل.(2/56)
ص -38-…وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها؛ كمسألة ابتداء الوضع1، ومسألة الإباحة2 هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل، كما أنه لا ينبغي3 أن يُعد4 منها ما ليس منها، ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه الفقه؛ كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز، وعلى المشترك والمترادف، والمشتق، وشبه ذلك.
غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أضف إليها مسألة الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجازا، ونحو ذلك "د".
2 تكلم على المباح في خمس مسائل تأتي قريبا؛ فعليك أن تنظر فيها بضابطه في هذه المقدمة لتعرف الفرق بين البحث في كون الإباحة تكليفا أو لا، وبين تلك المسائل؛ حتى عد هذا خارجا عن الأصول وعد مباحثه الخمسة من الأصول. "د".
3 ذكر فيما قبل الكاف نوعا من المسائل التي لا يصح إدخالها في أصول الفقه، وجعل ضابطه كل مسألة لا ينبني عليها فقه، ومثل له بكثير من مبادئ الأحكام وبعض المبادئ اللغوية؛ كمسألة ابتداء الوضع، وهذا نوع آخر وهو ما ينبني عليه فقه، ولكنه ليس من مسائل الأصول، بل من مباحث علم آخر، وقد استوفى البحث فيه في علمه الخاص به، وذلك كمبادئ النحو واللغة، وبهذا البيان تعلم أن قوله: "ثم البحث فيه في علمه" جملة اسمية معطوفة على صلة ما، ولعل أصل النسخة: "وتم* البحث... إلخ" بجملة فعلية من التام؛ فحُرِّفت إلى ما ترى.(2/57)
وبعد؛ فالمعروف أن مباحث النحو واللغة ذكرت في الأصول لا على أنها من مسائله، بل من مقدماته التي يتوقف عليها توقفا قريبا، نعم، كان ينبغي ألا يتوسعوا في بحثها وتحريرها كأنها مسائل من هذا العلم؛ لأنها محققة في علم آخر، ولعل هذا هو مراد المؤلف "د".
4 في الأصل: "لا يعد"، و"لا" ساقطة من جميع النسخ المطبوعة ومن "ط" و"ماء".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل المعتمد في التحقيق: "ثم" بمثلثة واضحة في أوله.(2/58)
ص -39-…في الأصول، وهي أن القرآن [الكريم ليس فيه من طرائق كلام العجم شيء، وكذلك السنة، وأن القرآن]1 عربي، والسنة عربية, لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل؛ لأن هذا من علم النحو واللغة، بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربي, بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثير من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع، وهذه مسألة مبينة2 في كتاب المقاصد، والحمد لله.
فصل
وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه؛ إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها اختلاف3 في فرع من فروع الفقه؛ فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عاريّة أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، وسيأتي بسط من المصنف لهذه المسألة في "2/ 101 وما بعد".
2 في المسألة الأولى من النوع الثاني في "المقاصد" "د".
3 في "د" و"خ" و"ط": "خلاف".
4 فالجمهور قالوا: الواجب واحد مبهم يتحقق في الخارج في أحد هذه المعينات التي خير بينها. وقال المعتزلة: بل الواجب الجميع, قال الإمام في البرهان: "إنهم معترفون بأن من ترك الجميع لا يأثم إثم تارك واجبات، ومن فعل الجميع لا يثاب ثواب واجبات؛ فلا فائدة في هذا الخلاف عمليا، بل هو نظري صرف، لا يبنى عليه تفرقة في العمل؛ فلا يصح الاشتغال بأدلته في علم الأصول" "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "ذهبت المعتزلة إلى أن الوجوب والتحريم يرجعان إلى =(2/59)
ص -40-…والمحرم المخير1؛ فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= صفات الأعيان، ونفى الجمهور أن يكونا راجعين إلى ذات المحكوم أو إلى صفة ذاتية أو عرضية، ويقولون: إنما هما تعلق أمر الله أو نهيه بالمخاطبين, ومناط الوجوب عند المعتزلة في مثل خصال الكفارة الجميع على وجه البدل، ويرجع إلى القول بأن الواجب هو القدر المشترك المتحقق في الخصال الثلاث، ومذهب الأشاعرة والفقهاء أن مناط الوجوب واحد منها لا بعينه؛ فالواجب كل خصلة على تقدير أن لا تسبق بأخرى، وحاول بعض الأصوليين أن يجعل لهذا الخلاف أثرا في الفروع؛ فقال: إذا ترك من وجبت عليه الكفارة جميع الخصال وقلنا للإمام المطالبة بالكفارات؛ أجبر بمقتضى مذهب الجمهور على فعل واحدة منها بدون تعيين، أما على مذهب المعتزلة؛ فيصح جبره على واحد بعينه؛ لأن الواجب عندهم القدر المشترك وهو يتأدى بأي خصلة فعلت".
وكتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "انظر هذا؛ فإن المسألة ذات أقوال أربعة:
الأول لأهل السنة:
إن الواجب واحد لا بعينه.
والثاني للمعتزلة:
إن الواجب هو الكل، ويسقط بواحد.
والثالث لهم أيضا:
إن الواجب معين عند الله تعالى، فإن فعل غيره؛ سقط.
والرابع:
وهو ما وقع التزاحم به بين أهل السنة والمعتزلة: إن الواجب هو ما يختاره المكلف.
وبنوا على الأول: إنه إذا فعل الجميع أنه يثاب على أعلاها ثواب الواجب، وعلى العمل في ثواب المندوب من حيث إنها أحدها، وإذا ترك الجميع يعاقب على أدناها، وبنوا على الثاني أنه يُثاب ثواب من فعل واجبات، ويعاقب على تركها عقاب من ترك واجبات؛ فإن الخلاف جاوز الاعتقاد إلى غيره؛ تأمل".(2/60)
قلت: نقل إمام الحرمين في الهامش السابق عن المعتزلة يشوش على استدراك الناسخ على المصنف، فإن لم يصح عنهم النقل المذكور؛ فكلامه وجيه قوي؛ فتأمل.
1 قال الأولون: يجوز أن يُحرَّم واحد لا بعينه، ويكون معناه: أن عليه أن يترك أيها شاء، جمعا وبدلا؛ فلا يجمع بينها في الفعل، وقال المعتزلة: لا يجوز، بل المحرم الجميع، وترك واحد كاف في الامتثال، والأدلة من الطرفين والردود هي بعينها المذكورة في الواجب المخير، وإذن؛ فليس من فائدة عملية في هذا الخلاف أيضا، هذا ما يريده المؤلف، وهو واضح "د".
وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "جرى الخلاف في جوازه ووقوعه، والحق أنه لم يقع
والمحرم في مسألة الأختين، إنما هو الجمع بينهما كما هو صريح قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}".(2/61)
ص -41-…أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفة الأعيان1، أو إلى خطاب الشارع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع2 عند الفخر الرازي، وهو ظاهر؛ فإنه لا ينبني عليه عمل، وما أشبه ذلك من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه.
لا يقال: إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد [ينبني عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم، وأيضا]3 ينبني عليه عصمة الدم والمال، والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى ما دونه، وأشباه ذلك، وهو من علم الفروع؛ لأنا نقول: هذا جار في علم الكلام في جميع مسائله؛ فليكن من أصول الفقه، وليس كذلك، وإنما المقصود ما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل صوابه الأفعال، وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ فالمعتزلة القائلون بها يقولون: إن الأمر بواحد مُبهم غير مستقيم؛ لأنه مجهول، ويقبح العقل الأمر بالمجهول، والجمهور يقولون: إن الوجوب والتحريم بخطاب الشرع، ولا دخل للعقل فيه، ولا حسن ولا قُبح في الأفعال إلا بأمر الشارع ونهيه؛ فلا مانع من الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كخصال الكفارة، على أن له جهة تعيين بأنه أحد الأشياء المعينة؛ فهذا وجه بناء مسألة المخير على قاعدة التحسين "د".
قلت: وفي النسخ المطبوعة جميعها: "صفات الأعيان" وما أثبتناه من الأصل و"ط".(2/62)
2 راجع الأسنوي؛ فقد ذكر له فوائد عملية كثيرة، من تنفيذ عتقه، وطلاقه... في نحو عشرة فروع خلافية، نعم، إنه قيد كلامه بقوله: "عند الفخر الرازي"، والرازي يقول: "لا فائدة في التكليف إلا تضعيف العذاب عليهم في الآخرة"، وعليه؛ فليس له عنده فائدة عملية فقهية، لكن بعد ظهور هذه الفروع، واطلاع المؤلف عليها بدليل تقييده بكلام الرازي؛ كان ينبغي للمؤلف حذف مسألة تكليف الكفار من بحثه هذا "د" وقال "خ" هنا: "بنى بعض الفقهاء على هذا الخلاف فروعا؛ منها: غرم من أتلف لهم خمرا أو خنزيرا، وإباحة وطء الكتابية لزوجها المسلم القادم من السفر في نهار رمضان".
قلت: وكذا تقديم الطعام والشراب لهم في نهار رمضان، وغيرها.
3 ساقط من الأصل.(2/63)
ص -43-…المقدمة الخامسة:
كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب1 شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يُعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به2؛ ففي القرآن الكريم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المباح ليس مطلوبا شرعا كما يأتي له في بحثه؛ فقاعدته هذه تقتضي أن البحث الذي ينبني عليه استنباط المباح ومعرفة أن العمل الفلاني مباح؛ لا يكون مستحسنا شرعا، وهو غير ظاهر؛ فتقييده بالحيثية فيه خفاء "د".
2 أليس هذا من باب النظر في مصنوعات الله المؤدي إلى قوة الإيمان وزيادة البصيرة بكمالات الخالق -جل شأنه- امتثالا للآيات الطالبة من المكلفين النظر في السموات والأرض وما فيها؟ ولذا قالوا: إن الجواب بالآية عن السؤال من الأسلوب الحكيم، أي: إنه أليق بحال هذا السائل لمعنى عرفه -صلى الله عليه وسلم- فيه، وعليه؛ فلو أجابه -صلى الله عليه وسلم- بما يطلب؛ لكان فيه فائدة عملية قلبية، إلا أنه رأى الأليق بحاله توجيه فكره إلى ثمرة من ثمرات طريقة سير الهلال، بدل بيان نفس الطريقة التي لا يفهمها هو، وقد يعسر فهمها على كثير من العرب، ومثله لا يناسب منصب النبوة؛ فالعدول لحال السائل وأمثاله كما هو اللائق بمنصب النبوة، وإن كان الجواب المطابق للسؤال قد يؤدي إلى فائدة عملية قلبية؛ فتأمل "د".(2/64)
ص -44-…فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: "لِمَ يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدرا، ثم يعود إلى حالته الأولى؟"1.
ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى؛ فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال في التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها2، والبر إنما هو التقوى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد".
قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق 6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269" من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490".
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ"، عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. فيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف.
وأخرج نحوه ابن جرير عن قتادة بسندٍ رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل.
وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي "1/ 118-119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب".(2/65)
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، 3/ 621/ رقم 1803، وكتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، 8/ 183/ رقم 4512" عن البراء -رضي الله عنه- قال: "نزلت هذه الآية فينا, كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها؛ فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك؛ فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}".
قال "خ": "ومتى ثبت سبب نزول الآية بسند صحيح؛ امتنع تأويلها على وجه التمثيل، وتعيَّن فهمُها على ما يطابق السبب حتما".(2/66)
ص -45-…لا العلم بهذه الأمور التي لا تفيد نفعا في التكليف، ولا تجرُّ إليه.
وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيَّان مُرْساها: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]؛ أي: إن السؤال عن هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من علمها أنه لا بد منها، ولذلك لما سُئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة؛ قال للسائل: "ما أَعْدَدْتَ لها؟"1؛ إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة، ولم يُجبه عما سأل.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
نزلت في رجل سأل: من أبي؟ رُوي أنه -عليه السلام- قام يوما يُعرف الغضب في وجهه؛ فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم". فقام رجل، فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: "أبوك حُذافة". فنزلت2.
وفي الباب3 روايات أُخر.
وقال ابنُ عبَّاس في سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة: "لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وهذا يبيِّن أن سؤالهم لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخار في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله، 10/ 557/ رقم 6171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، 4/ 2032-2033/ رقم 2639" من حديث أنس بن مالك, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال من تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وسيذكره المصنف "ص257-258" بأطول من هذا.
3 في "د" والأصل: "البابين".
4 أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 215-216/ رقم 698"، وابن جرير في =(2/67)
ص -46-…يكن فيه فائدة.
وعلى هذا المعنى يجري الكلام في الآية قبلها1 عند من روى أن الآية نزلت2 فيمن سأل3: أحجُّنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال عليه السلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التفسير" "1/ 338" بإسناد ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" أيضا -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر" "2/ 168"- بإسناد صحيح عن ابن عباس بلفظ: "لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم".
قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 114": "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد"، وأورده في كتابه "تحفة الطالب" "رقم 234" بإسناد ابن أبي حاتم الضعيف، وسكت عليه، وقال ابن حجر عقبه: "هذا موقوف صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عفان بن مسلم عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ورجاله كوفيون من رجال الصحيح".
وورد مرفوعا ولكن من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 111"، والبزار في "مسنده" "3/ 40/ رقم 2188- زوائده"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ 223/ رقم 727". وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 314"، وقال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة"، وقال البزار: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 189" للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 193- ط المحققة" عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ضعيف لإرساله.
وانظر: "الدر المنثور" "1/ 190"، و"بحر العلوم" "1/ 384", و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 66".
1 آية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ...}.(2/68)
2 هذا البحث مستوفى في المسألة الثانية من أحكام السؤال والجواب في قسم الاجتهاد آخر الكتاب "د" قلت: انظره في "5/ 374-392".
3 سأل بعد نزول آية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} كما يأتي للمؤلف "2/ 257".(2/69)
ص -47-…"للأبد، ولو قلت نعم؛ لوجبت"1، وفي بعض رواياته: "فذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم"2 الحديث، وإنما سؤالهم هنا زيادة3 لا فائدة عمل فيها؛ لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل، فصار السؤال لا فائدة فيه.
ومن هنا نهى عليه السلام: "عن قيل وقال وكثرة السؤال"4؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد، وقد سأله جبريل عن الساعة؛ فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الجملة ملفقة من حديثين في قصتين مختلفتين كما يُفهم من الأسلوب العربي، وكما يعلم من مراجعة "صحيح مسلم" في "باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي باب فرض الحج مرة"، والأصل أنه لما فُرض الحج؛ قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. ثم قال: "ذروني ما تركتكم، لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم..." إلخ، والسائل هنا هو الأقرع بن حابس، وهذه القصة هي المناسبة للمقام "د".
قلت: وسيأتي تخريج ذلك "ص257".
"أما الحديث الآخر؛ ففي صفة متعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج قال سُراقة بن مالك: أرأيت مُتعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: "بل هي للأبد" "د".
قلت: سيأتي تخريجه "ص275".
2 سيأتي عند المصنف "ص256" بلفظه، ولكن فيه "بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" مع تتمة له، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
3 فقد سأل بعدما أخذ من العلوم حاجته؛ لأن ظاهر الآية الإطلاق، وهو أن حجهم لا يجب إلا مرة في العمر، والآية تنزل على هذا الوجه، بمعنى أن الإجابة على الأسئلة الكثيرة مظنة الإساءة بزيادة تكليف لم يكن، أو بجواب يكرهه السائل، ولو في غير التكليف، وإن كان ليس في خصوص سببها هنا ما يكرهون؛ لأن الجواب بما فيه يُسْر، وهو أن الحج واجب مرة فقط "د".(2/70)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292" أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية: "إنه -أي: النبي, صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".(2/71)
ص -48-…"ما المسئول عنها بأعلم من السائل"1؛ فأخبره أن ليس عنده من ذلك عِلْم، وذلك يبيِّن أن السؤال عنها لا يتعلق به2 تكليف، ولما كان ينبني على ظهور أماراتها الحذرُ منها ومن الوقوع في الأفعال3 التي هي من أماراتها، والرجوع إلى الله عندها؛ أخبره بذلك، ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عُمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم؛ فصح إذًا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به "أعني: علْم زمان إتيانها"؛ فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها.
وقال: "إن أعظم الناس جُرما: من سأل عن شيء لم يُحرم فحُرِّم من أجل مسألته"4، وهو مما نحن فيه، فإنه إذا لم يُحرم؛ فما فائدة السؤال عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان... 1/ 39-40/ رقم 9" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 وإلا لعلمه -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هو لا يعنيه علمها وهو المعني بالعلم والمعارف الربانية, فغيره أولى. "د".
3 كما ينبه عليه حديث الترمذي مجملا: "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم..." إلخ إلى أن قال: "يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا". "د".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 264/ رقم 7289"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1831/ رقم 2358" من حديث سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه.(2/72)
قال "خ": "الحكمة من مثل هذا الإنذار تأكيد النهي عن إلقاء الأسئلة في وقت غير لائق من غير أن تدعو إليها حاجة، وتحريم الشيء عقوبة وتأديبا وقع في بعض الشرائع الماضية، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ولكن لم يقع في الشريعة الإسلامية بحال".(2/73)
ص -49-…بالنسبة إلى العمل؟
وقرأ عمر بن الخطاب: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، وقال: "هذه الفاكهة؛ فما الأب؟"1، ثم قال: "نُهينا عن التكلف"2.
وفي القرآن الكريم: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية [الإسراء: 85].
وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يُجابوا، وأن هذا مما لا يُحتاج إليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه لفت نظرهم أولا إلى أن هنا شيئا مجهولا ليبني عليه هذه الفائدة العلمية. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264-265" بسنده إلى أنس؛ قال: "كنا عند عمر؛ فقال: "نهينا عن التكلف"".
وأخرج الإسماعيلي وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، وعبد بن حميد في "التفسير" -كما في "فتح الباري" "13/ 271"، وأورد ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372" إسناد عبد بن حميد- وعبد الرزاق في "التفسير" "2/ 348"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 181/ رقم 43"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 327"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 825، 227- ط غاوجي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512-513"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 514"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 229-230/ رقم 2084"، وابن جرير في "التفسير" "30/ 59"، والهروي في "ذم الكلام" "ص133" من طرق عن عمر بعضها صحيح نحو ما عند المصنف من ذكر الأب.
وعزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 159" للثعلبي وابن مردويه والطبراني في "مسند الشاميين".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372": "وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا؛ فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل"، وقاله ابن كثير في "تفسيره" أيضا.(2/74)
قلت: ويستشكل هذا بما أخرجه الحاكم -مختصرا- في كتاب الصوم في "المستدرك" عن عمر بن الخطاب؛ أنه سأل ابن عباس عن الأب؛ فقال: هو نبت الأرض مما يأكله الدواب والأنعام، ولا يأكله الناس، وقال: "صحيح على شرط مسلم".(2/75)
ص -50-…التكليف.
وروي1 أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ملُّوا مَلَّة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا.
فأنزل الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الآية] [الزمر: 23].
وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا، وأنه لا ينبغي السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله، ثم ملُّوا ملَّة، فقالوا: حدِّثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن؛ فنزلت سورة يوسف2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قطعة من الحديث الآتي.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص22/ رقم 13" -ثنا حجاج- وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم، قبل الاختلاط، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد؛ كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل؛ كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؛ فهو مرسل، بل معضل بلا شك، وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند.
وقد أخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.(2/76)
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -وكما في "المطالب العالية" "3/ 343، ق 136/ ب-المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209- الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183"، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ...} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 1-3]؛ فتلاها عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زمانا، فقالوا: يا رسول =(2/77)
ص -51-…انظر الحديث في "فضائل القرآن" لأبي عُبيد.
وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع صبيغ في سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبني عليها حُكم تكليفي، وتأديب عمر [رضي الله عنه] له1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر: 23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن.
قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكِّرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرا من طريق محمد بن سعيد العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86- مسند سعد، و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المُذَكِّر والتذكير" "رقم 24" ثنا حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عن عمرو بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير خلاد، وهو ثقة، وثقه ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به", وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديثه مقارب".
وأعلَّه الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(2/78)
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن".
1 أخرج ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 426"، والدارمي في "السنن" "1/ =(2/79)
ص -52-…وقد سأل ابنُ الكوَّاء علي بن أبي طالب عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا...} [الذاريات: 1-2] إلخ؛ فقال له علي: "ويلك، سَل تفقها ولا تسأل تعنتا". ثم أجابه؛ فقال له ابنُ الكوَّاء: أفرأيت السواد الذي في القمر؟ فقال: "أعمى سأل عن عمياء". ثم أجابه، ثم سأله عن أشياء1، وفي الحديث طُول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 55-56"، والخلال -كما قال أبو يعلى في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" "ق 122-123"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 329، 330، 332، 333، 789"، وابن عساكر في "تاريخه" "ترجمة صبيغ"، وهو صحيح.
وأخرجها البزار في "البحر الزخار" "1/ 423-424/ رقم 299"، والدارقطني في "الأفراد" "ق 20/ ب-أطراف الغرائب" مرفوعا، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك.
قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 606" بعد عزوه للبزار: "قلت: المستغرب من هذا السياق رفع هذا التفسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا؛ فقصة صبيغ بن عسل التميمي مع عمر مشهورة وكأنه -والله أعلم- إنما ضربه لما ظهر له من حاله أن سؤاله سؤال استشكال، لا سؤال استرشاد واستدلال، كما قد يفعله كثير من المتفلسفة الجهال، والمبتدعة الضلال؛ فنسأل الله العافية في هذه الحياة الدنيا وفي المآل".
وانظر: "مجمع الزوائد" "7/ 112-113"، و"تفسير ابن كثير "4/ 231-232" و"الاعتصام" "1/ 80، و2/ 53-54" للمصنف.(2/80)
1 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 241"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 115-117"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 466-467"، والفريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "الدر المنثور" "6/ 111"- وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 464/ رقم 726-ط الجديدة"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 334"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص126-ط المغرب" من طرق عن علي -رضي الله عنه- وبعضها إسناده صحيح.
وانظر: "مسند الشاشي" "2/ 96/ رقم 620"، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 65-66"؛ فقد أطال في ذكر الروايات التي فيها إنكار علي -رضي الله عنه- على هذا المبتدع.(2/81)
ص -53-…وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكي كراهيته عمَّن تقدَّم1.
وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
- منها: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف الذي طُوِّقَه المكلَّف بما لا يعني، إذ لا ينبني على ذلك فائدة؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، أما في الآخرة؛ فإنه2 يُسأل عما أُمر به أو نُهي عنه، وأما في الدنيا؛ فإن علمه بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه، وأما اللذة الحاصلة منه في الحال؛ فلا تفي مشقة اكتسابها وتعبُ طلبها بلذة حصولها، وإن فُرض أن فيه فائدة في الدنيا؛ فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك، وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد؛ كالزنى، وشرب الخمر، وسائر وجوه الفسق، والمعاصي التي يتعلق بها غرض عاجل، فإذًا قطع الزمان فيما لا يجني ثمرة في الدارين، مع تعطيل ما يجني الثمرة من فعل ما لا ينبغي.
- ومنها: أن الشرع3 قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فما خرج عن ذلك قد يُظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية؛ فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصُّب، حتى تفرقوا شيعا4، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق5 إلا بهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "2/ 142-143، 5/ 332".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "إنما".
3 في "ط": "الشارع".(2/82)
4 وذلك كاختلافهم في نجاة أبويه -صلى الله عليه وسلم- فإنه طالما شقي به الناس فرقة وتدابرا. "د". قلت: وكذلك مسألة عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنا؛ هل هي قدرية أم شرعية؟ فإنها وقع بسببها خلاف وهجر بين بعض فضلاء علماء عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
5 في "ط": "الفِرَق".(2/83)
ص -54-…السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم، وإعراض الشارع -مع حصول السؤال- عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل.
- ومنها: أن تتبع النظر في كل شيء وتطلب عمله من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم1، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يُخالف السنة؛ فاتباعهم في نحلة هذا شأنها خطأ عظيم، وانحراف عن الجادَّة.
ووجوه عدم الاستحسان كثيرة.
فإن قيل: العلم محبوب على الجملة، ومطلوب على الإطلاق، وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق، فتنتظم صِيَغه كل علم، ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل، وما لا يتعلَّق به عمل؛ فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم2، وأيضا؛ فقد قال العلماء: إن تعلم كل علم فرض كفاية، كالسحر والطلسمات، وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل3، فما ظنك بما قرب منه؛ كالحساب، والهندسة، وشبه ذلك؟ وأيضا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتبرأ الإسلام من الفلسفة المتولدة من أوهام وظنون، لا يشهد لها حس أو تجربة صحيحة أو برهان، وأما ما يقوم منها على نظر صادق؛ فيأذن بتعلمه ولا سيما حيث يكون له مدخل في تنظيم شئون الحياة وترقية وسائل العمران. "خ".
2 قلت: أي: قول بالتشهي والهوى.
3 السحر والطلسمات من العلوم المحرمة، قال الذهبي في رسالته "مسائل في طلب العلم وأقسامه" "ص214-215- ضمن ست رسائل": "من العلوم المحرمة علم السحر والكيمياء والطيرة والسيمياء والشعبذة والتنجيم والرَّمل، وبعضها كفر صراح". وانظر, غير مأمور: كتابنا "كتب حذر العلماء منها" "المجموعة الأولى، 1/ 99"؛ فقد أتينا على نقل كثير من النقول على حرمة تعلم السحر والطلسمات، وذكرنا فيه أشهر كتبه الرائجة، ليحذر منها المتقي ربه -عز وجل- والله الهادي.(2/84)
ص -55-…فعلم التفسير من جُملة العلوم المطلوبة، وقد لا ينبني عليه عمل، وتأمل حكاية الفخر الرازي1: إن بعض العلماء مر بيهودي وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم، فسأل اليهودي عما يقرأ عليه؛ فقال له: أنا أفسر له آية من كتاب الله، فسأله ما هي؟ وهو متعجب، فقال: قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]. قال اليهودي: فأنا أُبيِّن له كيفية بنائها وتزيينها. فاستحسن ذلك العالم منه. هذا معنى الحكاية لا لفظها.
وأيضا؛ فإن قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] يشمل كل علم ظهر في الوجود، من معقول أو منقول، مُكْتسب أو موهوب، وأشباهها من الآيات، ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق، من حيث تدل على صانعها، ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات؛ فهذه وجوه تدل على عموم الاستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم.
فالجواب عن الأول: أن عموم الطلب مخصوص، وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة، والذي يوضحه أمران:
أحدهما: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب، بل قد عد عمر ذلك في نحو {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] من التكلف الذي نُهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكرها في "تفسيره" عند الآية المذكورة "28/ 133".(2/85)
ص -56-…عنه1، وتأديبه صبيغا ظاهر فيما نحن فيه، مع أنه لم يُنكر عليه2، ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَخُض في شيء من ذلك، ولو كان لنُقل، لكنه لم يُنقل؛ فدل على عدمه.
والثاني: ما ثبت في كتاب "المقاصد" أن هذه الشريعة أمية لأمة أميّة، وقد قال عليه السلام: "نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"3 إلى نظائر ذلك، والمسألة مبسوطة هنالك، والحمد لله.
وعن الثاني: أنا لا نُسلِّم ذلك على الإطلاق، وإنما فرض الكفاية رد4 كل فاسد وإبطاله، عُلم ذلك الفاسد أو جُهل؛ إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد، والشرعُ متكفل بذلك. والبرهان على ذلك أن موسى -عليه السلام- لم يعلم علم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص49".
2 مضى تخريجه "ص51-52".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" "4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصوم، باب الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه, 7/ 139-140" من حديث ابن عمر بلفظ: "إنا أمة أمية..." وتقديم "نكتب" على "نحسب".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 122" من حديثه بلفظ: "نحن أمة أميون...".(2/86)
وعلّق "خ" هنا: "وصف عليه -الصلاة والسلام- العرب بأنها أمة أمية لقلة العارفين منها بالكتابة، وإنما ذكر هذا الوصف ليكون كالعلة لتعليق حكم الصيام على رؤية الهلال دون الحساب، ولم يأت به في مساق الفخر حتى يفهم منه مدح الأمية والترغيب في البقاء عليها، بل القرآن وصفهم بالأميين ونبه على أن الرسول -عليه السلام- بعث فيهم ليخرجهم من طور الأمية ويرتقي بهم إلى صفوف الذين أوتوا العلم والحكمة؛ فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]".
4 في "ط": "فيه رد".(2/87)
ص -57-…السحر الذي جاء به السحرة، مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر، وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعْين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم؛ خاف موسى من ذلك، ولو كان عالما به لم يخف، كما لم يخف العالمون به، وهم السحرة؛ فقال الله له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68].
ثم قال: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وهذا تعريف1 بعد التنكير, ولو كان عالما به لم يُعرَّف به، والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة، وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب، فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل، ولو بخارقة على يد ولي لله، أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشئ عن فرقان التقوى؛ فهو المراد، فلم يتعيَّن إذًا طلبُ معرفة تلك العلوم من الشرع.
وعن الثالث: أن علم التفسير مطلوبٌ فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب، فإذا كان المراد معلوما؛ فالزيادة على ذلك تكلف، ويتبين ذلك في مسألة عمر، وذلك أنه لما قرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، توقف في معنى الأب2، وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية؛ إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة؛ كالحب3، والعنب، والزيتون، والنخل، ومما هو من طعامه بواسطة، مما هو مرعى للأنعام على الجملة؛ فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قوله: "إنما صنعوا... إلخ" تعريف لموسى بأن هذا سحر وصاحبه لا يفلح، بعد تنكير وعدم معرفة من موسى -عليه السلام- بذلك. "د".
2 مضى تخريجه "ص49".
3 في الأصل: "كالحب مباشرة والعنب".(2/88)
ص -58-…فلا على الإنسان أن لا يعرفه، فمن هذا الوجه والله أعلم؛ عد البحث عن معنى الأب من التكلف، وإلا؛ فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف، بل من المطلوب علمه لقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، ولذلك سأل الناس على المنبر عن معنى التخوف في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]؛ فأجابه الرجل الهُذلي بأن التخوُّف في لغتهم التنقص، وأنشده شاهدا عليه:
تخوَّف الرَّحْل منها تامِكا قَرِدا…كما تخوَّف عودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: "يا أيها1 الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "أيها".
2 قال المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 755/ رقم 642": "لم أقف عليه", وقال ابن همات في كتابه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "ق 194/ ب": "قال السيوطي: لا يحضرني الآن تخريجه، لكن أخرج ابن جرير [في "التفسير" "14/ 113"] عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية...." وذكر نحوه.
قلت: إسناد ابن جرير ضعيف، فيه رجل لم يسم عن عمر، وفيه سفيان بن وكيع ضعيف، وذكره القرطبي في "التفسير" "10/ 110" عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 386": "وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر؛ أنه سأل عن ذلك, فلم يجب، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله. قال: فخرج فلقي أعرابيا؛ فقال: ما فعل فلان؟ قال: تخوفته -أي: تنقصته- فرجع؛ فأخبر عمر فأعجبه"، ثم قال: "وفي شعر أبي كبير الهذلي ما يشهد له". وورد نحوه عن ابن عباس فيما أخرجه الحاكم "2/ 499"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص345"، وابن الأنباري في "الوقف"؛ كما في "المزهر" "2/ 302"، وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد؛ كما في "الدر" "6/ 254".(2/89)
قلت: ويشير ابن حجر في مقولته السابقة إلى البيت المذكور، وقد عزاه الجوهري في "الصحاح" "مادة: خوف، 4/ 1359" لذي الرمة، وفيه: "ظهر النبعة"، وعزاه ابن منظور في "لسان =(2/90)
ص -59-…ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] مما يُشوش على العامة من غير بناء عمل عليه، أدَّب عمر صبيغا بما هو مشهور1.
فإذًا تفسير قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} الآية [ق: 6] بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل؛ غير سائغ؛ ولأن ذلك من قبيل ما لا تعرفه العرب، والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها، وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله.
وكذلك القول في كل علم يُعزى إلى الشريعة لا يؤدي فائدة عمل، ولا هو مما تعرفه العرب؛ فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما استدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العرب" "مادة خوف، 9/ 101" لابن مقبل، ونسبه الأصفهاني في "الأغاني" -كما قال الزبيدي في "تاج العروس"- لابن مزاحم الثمالي، ونسبه الآلوسي في "تفسيره" "14/ 152" والبيضاوي في "تفسيره" "357" وغيرهما لأبي كبير الهذلي، ووقع في بعض المصادر: "تخوف السير".
ومعنى "تامكا" -بالمثناة الفوقية، اسم فاعل- من "تمك السنام يتمك تمكا"؛ أي: طال وارتفع، فهو تامك؛ أي: سنام مرتفع، وقوله "قردا" -بفتح القاف، وكسر الراء- أي: متراكما أو مرتفعا، و"النبعة" -بضم النون وفتحها-: واحد "النبع"، وهو شجر يتخذ منه القسي، و"السَّفَن" -بفتح السين والفاء-: ما ينحت به الشيء كالمبرد، وهو فاعل "تخوف"، ومفعوله "عود" أو "ظهر"، ومعنى البيت: إن رحل ناقته أثر في سنمهم المتراكم -أوالمرتفع- وتنقص كما ينقص المبرد عود النبعة، أفاده ابن همات.(2/91)
وقال "خ" في هذا الموطن: "اختلف علماء اللغة في قائل هذا البيت؛ فنسبوه إلى زهير وذي الرمة وابن مزاحم الثمالي وعبد الله بن عجلان النهدي؛ كما اختلفت الرواية في بعض ألفاظه؛ فروى لفظ "السير" بدل "الرحل"، و"ظهر" بدل "عود"، والبيت وارد في وصف ناقة أضناها السير، والتامك المرتفع والمراد به السنام، والقرد المتلبد بعضه على بعض، والسفن الحديدة التي تبرد بها القسي".
1 مضى تخريجه "ص51-52".(2/92)
ص -60-…أهل العدد بقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113].
وأهل [النسب العددية أو الهندسية]1 بقوله تعالى: [{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ..... مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] إلى آخر الآيتين.
وأهل الكيمياء بقوله, عز وجل]: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية [العدد: 17].
وأهل التعديل النجومي بقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية موجبة بقوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الآية] [الأنعام: 91].
وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أُخر.
وأهل خط الرمل بقوله سبحانه: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، وقوله, عليه السلام: "كان نبي يخط في الرمل"2 إلى غير ذلك مما هو مسطور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" -وكذا ما بين المعقوفتين فيما سيأتي- فقط، وبدله في سائر النسخ: "الهندسة".
2 رواه عن معاوية بن الحكم السلمي اثنان، ضمن حديث طويل جليل في باب الصفات، في بعض طرقه ذكر بالسؤال "أين الله؟" وإجابة الجارية "في السماء"، وفيه اللفظ المذكو عند المصنف، على النحو التالي:
أولا: عطاء بن يسار، وعنه هلال بن أبي ميمونة، ورواه عنه ثلاثة:
1- يحيى بن أبي كثير.
قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار" "16": "رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية السلمى". قلت: وقفت على ثمانية منهم:
الأول: حجاج الصَّوَّاف:(2/93)
كما عند ابن أبي شيبة في "الإيمان" مختصرا "رقم 84"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1/ 381-382/ رقم 537 بعد 33، وكتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1749"، وأحمد في "المسند" "5/ 447، 448"، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في =(2/94)
ص -61-….............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "تحفة الأشراف" "8/ 427"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 61"، وأبي داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 244/ رقم 930، وكتاب الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، 3/ 230/ رقم 3282، وكتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، 4/ 16/ رقم 3909"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 490"، والدارمي في "السنن" "1/ 354" -ولم يسق لفظه- وأبي عوانة في "المسند" "2/ 142-143"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ ورقم 859"، و"التوحيد" "ص122"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 383/ رقم 165- مختصرا، 6/ 124/ رقم 2248- الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398-399، الأرقام: 938 و943 و947"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 212"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 237/ رقم 726"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 360 مختصرا"، ولفظه:... ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه؛ فذاك".
ورواه عن يحيى وفيه اللفظ المذكور جماعة، منهم:
الثاني: الأوزاعي:
كما عند مسلم في "الصحيح" "1/ 383" -ولم يسق لفظه- وأشار إليه في "4/ 1749"، وأبي عوانة في "المسند" "2/ 141"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الكلام في الصلاة، 3/ 14-18", وابن حبان في "الصحيح" "6/ 22/ رقم 2247- الإحسان"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ رقم 859"، و"التوحيد" "ص121"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398/ رقم 937 و941 و945"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249"، و"الأسماء والصفات" "421".
وأخرجه من طريقه مختصرا البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 193"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والدارمي في "المسند" "1/ 353"، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" "84".(2/95)
الثالث والرابع: حرب بن شداد وأبان بن يزيد العطار:
كما عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1105".
ومن طريقه: البيهقي مختصرا في "السنن الكبرى" "2/ 250"، و"الأسماء والصفات" "422"، وابن قدامة مختصرا في "إثبات صفة العلو" "رقم 16".
وأخرجه أبو عوانة في "المسند" "2/ 141-142" بسنده إلى أبان والأوزاعي، جميعا عن =(2/96)
ص -62-….............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يحيى به، وفيه اللفظ المذكور.
وأخرجه مختصرا دونه عن أبان وحده به: أحمد في "المسند" "5/ 448"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 60"، و"الرد على بشر المريسي" "ص95"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 489"، ومن طريقه الحافظ أبو العلاء ابن العطار في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 20"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 939 و942 و946"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 652"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "ص63".
الخامس: هشام الدستوائي:
كما عند الحربي في "غريب الحديث" "2/ 720"؛ قال: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى "هو ابن سعيد القطان" عن هشام به مختصرا، وفيه اللفظ المذكور.
السادس: حسين المعلم:
كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 401/ رقم 944"، وفيه اللفظ المذكور.
السابع: همام بن يحيى:
كما عند أحمد في "المسند" "5/ 448"، وفيه اللفظ المذكور.
ورواه عن يحيى، لكن بلفظ: "... فمن وافق علْمَه علِم".
الثامن: معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 403/ رقم 19501، وبإسناده إليه الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 940"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 181/ رقم 3359".
ورواه تاسع عن يحيى وهو من أقرانه، وهو:
التاسع: أيوب السختياني:
ولكن عن يحيى عن هلال عن معاوية به، ولم يذكر فيه عطاء بن يسار؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 402-403/ رقم 948" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور.
وهذا حديث سمعه يحيى من هلال؛ إذ صرح بالتحديث عند أحمد وابن خزيمة؛ فانتفت شبهة تدليسه، كما صرح كل من هلال بن أبي ميمونة وعطاء بالتحديث عند ابن خزيمة.
2- فليح بن سليمان:(2/97)
رواه مختصرا ولم يرد فيه السؤال المذكور، ولا جواب الجارية، ولا اللفظ الذي أورده المصنف؛ كما عند البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 530"، وأبي داود في "السنن" "كتاب =(2/98)
ص -63-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 245/ رقم 931"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249".
3- مالك بن أنس:
وذكر فيه السؤال وجواب الجارية، ولم يذكر اللفظ الذي أورده المصنف أو نحوه؛ كما في "الموطأ" "2/ 776-777"، وعنه الشافعي في "الرسالة" فقرة "242"، و"الأم" "5/ 280"، والنسائي في "التفسير" "2/ 255-256/ رقم 485"، و"السنن الكبرى" في "السير" و"النعوت"؛ كما في "تحفة الأشراف" "رقم 11378"، وابن خزيمة في "التوحيد" "ص122"، والخطيب في "الموضح" "1/ 195"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 387".
ولكن قال مالك في روايته في اسم الصحابي "عمر بن الحكم"؛ فتعقبه الشافعي؛ فقال في "الرسالة" "ص76": "وهو معاوية بن الحكم، وكذلك رواه غير مالك، وأظن مالكا لم يحفظ اسمه".
قلت: رواه عن مالك على الصواب يحيى بن يحيى التميمي، وعنه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 62"، والبيهقي في "السنن الكبرى "7/ 387"، وقال: "ورواه يحيى بن يحيى عن مالك مجوّدا".
وانظر غير مأمور: "الجوهر النقي"، وشروح "الموطأ"، و"تحفة الأشراف" "رقم 11348"، وترجمة "معاوية بن الحكم" من "تهذيب الكمال" ومختصراته؛ ففيها كلام تفصيلي بخصوص هذا الشأن.
ثانيا: أبو سلمة بن عبد الرحمن:
وعنه الزهري، وعنه جماعة؛ كما عند مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، 4/ 1748-1749/ رقم 537 بعد 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 402/ رقم 19500"، وأحمد في "المسند" "3/ 443 و5/ 447-448، 449"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1104"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 396-397/ رقم 933-936".(2/99)
والحديث صحيح، وقد شكك بعضهم في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الجارية، وجوابها، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- لها بقولهم تارة: إن الحديث مضطرب، وبقولهم أخرى: إنها زيدت فيما بعد في "صحيح مسلم"! =(2/100)
ص -64-…...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن زعم الاختلاف في متنه؛ فلم يصب لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف على أنها عند التحقيق لا تُعدّ اختلافا، وإنما أراد بعض أهل البدع التعلق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن الله فوق خلقه، وكذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في "صحيح مسلم" هو أوهى من بيت العنكبوت، لمن علم وَفَهِمَ وأنصف، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب؛ فكيف تسلم منها السنن؟!
أما اللفظ الذي أورده المصنف آنفا في الخط؛ فهو صحيح عند مسلم وغيره، ورواته جميعا ثقات معروفون؛ فقول ابن رشد "ت520هـ" في رسالته "الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط" "ص42- بتحقيقي"، وكذا قول ابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 696" بأن جميع أحاديث الخط ضعيفة؛ ليس بجيد، ويعوزه التحقيق العلمي، والله تعالى أعلم، وكذا قال القرطبي المفسر في "الجامع لأحكام القرآن" "16/ 179" متعقبا ابن العربي: "هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم".
تنبيه: أورد الرافعي في "الشرح الكبير" هذا الحديث عن معاوية بن الحكم، وورد في أوله: "لما رجعت من الحبشة؛ صليت مع رسول الله, صلى الله عليه وسلم..." وهو غلط محض لا وجه له، ولم يذكر أحد "معاوية بن الحكم" في مهاجرة الحبشة؛ لا من الثقات، ولا من الضعفاء، وكأنه انتقال ذهني من حديث متقدم لابن مسعود، يورده الفقهاء قبل هذا؛ فإن فيه "رجعت من الحبشة"، والله أعلم، أفاده ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 281".
ومن الجدير بالذكر أن الذهبي عد هذا الحديث في "العلو للعلي الغفار" "16" من الأحاديث المتواترة الواردة في العلو، وذكر طرفا منه، وقال: "هذا حديث صحيح".(2/101)
وأخرجه ابن وهب في "جامعه" "1/ 113-114"؛ قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن أناسا قالوا لرسول الله, صلى الله عليه وسلم... "وذكر نحوه".
وهذا النبي هو إدريس -عليه السلام- كما قال أبو ذر ابن الشيخ الإمام سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 258، 932- بتحقيقنا"، والأبي في "إكمال الإكمال" "2/ 239"، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" "1/ 912"، واقتصروا عليه، وذكره الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 118"، وشبير العثماني في "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" "2/ 135"، وذكرا معه قولا آخر، وهو "دانيال".(2/102)
ص -65-…في الكتب، وجميعُه1 يقطع بأنه مقصود لما تقدم.
وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع، وأن قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها2، ولا يليق بالأميين الذين بُعث فيهم النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- بملة سهلة سمحة، والفلسفة -على فرض أنها جائزة الطلب- صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تُتعرف آيات الله ودلائل توحيده3 للعرب الناشئين في محض الأمية؛ فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة، مُنبَّه على ذمها بما تقدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وجميع المسطور في هذه الكتب يأتون فيه بما يدل على القطع بأن هذه الآيات مقصود منها ما استدلوا عليه، يعني: وإنما هي تكلفات لا تليق بلسان العرب ومعهودها. "د".
قلت: وهنالك أمثلة من إسقاطات العقلانيين و"العلمانيين" يضحك منها العقلاء بله العلماء، والله الهادي. وفي "ط": "بأنه غير مقصود ما تقدم".(2/103)
2 إذا نظرنا للحديث الصحيح: "بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع"، مع العلم بأن القرآن للناس كافة، وأنه ليس مخاطبا به خصوص طائفة العرب في العهد الأول لها، بل العرب كلهم في عهدهم الأول وغيره وغير العرب كذلك، إذا نظرنا بهذا النظر؛ لا يمكننا أن نقف بالقرآن وبعلومه وأسراره وإشاراته عند ما يريده المؤلف وكيف نوفق بين ما يدعو إليه من ذلك وبين ما ثبت من أنه لا ينضب معينه؟ والخير في الاعتدال؛ فكل ما لا تساعد عليه اللغة، ولا يدخل في مقاصد التشريع؛ يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف، أما ما لا تنبو عنه اللغة، ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه؛ فلا يوجد مانع من إضافته إلا الكتاب العزيز، ومنه ما يتعلق بالنظر في مصنوعات الله للتدبر والاعتبار وتقوية الإيمان وزيادة الفهم والبصيرة. "د".
3 من الآيات المبثوثة في السماء والأرض ما يكفي في إدراكه النظر الفطري، ومنها ما يُدرك بمزاولة قوانين علمية، ولا مانع من أن يبقى هذا القسم في الآيات المرغب في تدبرها؛ فإن النظر الذي يحث عليه مثل قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] لم يحد بنهاية أو ينص فيه على طريق معين. "خ".(2/104)
ص -66-…في أول المسألة.
فإذا ثبت هذا؛ فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل؛ غيرُ مطلوب في الشرع.
فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب؛ كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك؛ فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا، حسبما تبيَّن في موضعه، لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو:(2/105)
ص -67-…المقدمة السادسة:
وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور، وإن فُرِضَ1 تحقيقا.
فأما الأول؛ فهو المطلوب، المنبَّه عليه، كما إذا طُلب معنى المَلَك؛ فقيل: إنه خَلْقٌ مِنْ خَلْق الله يتصرف في أمره، أو معنى الإنسان؛ فقيل: إنه هذا الذي أنت من جنسه، أو معنى التخوف؛ فقيل: هو التنقص، أو معنى الكوكب؛ فقيل: هذا الذي نشاهده بالليل، ونحو ذلك؛ فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة؛ كما قال عليه السلام: "الكِبْرُ بَطر الحق وغمطُ الناس"2؛ ففسَّره بلازمه الظاهر لكل أحد، وكما تُفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة، من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وقد بيَّن عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سينازع في كونه تحقيقا، وأنه يتعذر الوصول لحقائق الأشياء؛ فلذا قال: "وإن فرض" "د".
قلت: وفي نسخة "م": "وإن قرض" بالقاف، وهو خطأ.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.(2/106)
ص -68-…السلام, الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب، والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية؛ فلا يليق بها من البيان إلا الأمي، وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا، والحمد لله.
فإذًا؛ التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني -وهو ما لا يليق بالجمهور- فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له؛ لأن مسالكه صعبة المرام، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، كما إذا طلب معنى الملك، فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو: ماهية مجردة عن المادة أصلا، أو يقال: جوهرٌ بسيط ذو نهاية ونطق عقلي، أو طلب معنى الإنسان؛ فقيل: هو الحيوان الناطق المائت1، أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه جسم بسيط، كُرِيٌّ، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن يُنير، متحرك على الوسط، غير مشتمل عليه، أو سئل عن المكان؛ فيقال: هو السطح الباطن من الجرم الحاوي، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به2.
وأيضا؛ فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء3، وقد اعترف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بمعنى الميت؛ أي: الذي مآله الموت. انظر "لسان العرب" "م و ت".
2 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على فساد المنطق وعلم الكلام في المجلد التاسع من "مجموع الفتاوى"، وفي كتابه "الرد على المنطقيين"، وغير ذلك.
3 معرفة كنه الأشياء ينفع في علوم الطبيعة، والعلوم المعروفة اليوم كالطب والهندسة والفلك، أما في "الإلهيات"؛ فهو علم لا ينفع.(2/107)
ص -69-…أصحابه بصعوبته، بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر، وأنهم أوجبوا أن لا يُعرف شيء من الأشياء على حقيقته؛ إذ الجواهر لها فصول مجهولة, والجواهر عرفت بأمور سلبية؛ فإن الذاتي الخاص1 إن عُلم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا، وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس, فهو مجهول، فإن عُرِّف ذلك الخاص بغير ما يخصه؛ فليس بتعريف، والخاص به كالخاص المذكور أولا؛ فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة، أو ظاهرة من طريق أخرى, وذلك لا يفي بتعريف الماهيات، هذا في الجوهر، وأما العرض؛ فإنما يعرف باللوازم؛ إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك.
وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها، وللمنازع أن يطالب بذلك, وليس للحادّ أن يقول: لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه؛ إذ كثير من الصفات غير ظاهر. ولا يقال أيضا:
لو كان ثم ذاتي آخر ما عُرفت الماهية [دونه]2؛ لأنا نقول: إنما تُعرف الحقيقة إذا عُرف جميع ذاتياتها، فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف؛ حصل الشك في معرفة الماهية.
فظهر أن الحدود على ما شرطه أربابُ الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يُجعل من العلوم الشرعية التي يُستعان بها فيها، وهذا المعنى تقرر، وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها؛ فتسوُّر الإنسان على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1الذي يُراد جعله فصلا إن علم بوجوده في غير الماهية التي يُراد جعله فصلا لها؛ لم يكن خاصا، وإن لم يعلم في غيرها؛ كان مجهولا، فإن عرّفناه بشيء لا يخصه؛ فليس تعريفا له، وإن عرّفناه بشيء خاص به؛ انتقل الكلام إليه، كالخاص الذي هو موضوع الكلام، فيتسلسل؛ فلا بد من الرجوع في كون الفصل ذاتيا خاصا إلى أمور محسوسة... إلخ، وذلك نادر الحصول؛ فلا يفي بما يُطلب من تعريف الماهيات الكثيرة "د".
2 ليست في الأصل.(2/108)
ص -70-…معرفتها رمي في عماية، هذا كله في التصور.
وأما [في]1 التصديق؛ فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية، حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.
فإذا كان كذلك؛ فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة، وهو الذي نبَّه القرآن على أمثاله؛ كقوله [تعالى]2: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].
وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلى آخرها.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ [مِنْ شَيْءٍ]3} [الروم: 40].
وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58-59].
وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا؛ فتقرير الحكم كافٍ.
وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف4 والمخالف، ومن نظر في استدلالالهم على إثبات الأحكام التكليفية؛ علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلَّف، ولا نظم مؤلف5، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يُبالون كيف وقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل.
2، 3 ساقطات من الأصل.
4 في "م": "للموافق".
5 كقياسات المنطق "د".(2/109)
ص -71-…ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعا1 إلى نظم الأقدمين في التحصيل؛ فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدَّمهم.
وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة؛ إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل؛ فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح2؛ فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية3؛ فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي؛ لكان مناقضا لهذه المطالب، وهو غير صحيح.
وأيضا؛ فإن الإدراكات ليست على فن واحد، ولا هي جارية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قد يتفق أن يكون على نظم الأقيسة لا من حيث إنهم قصدوا الاقتداء بالفلاسفة في تركيب الأدلة، بل من جهة أنهم قصدوا الوصول إلى المقصود، فاتفق لهم المشاكلة في النظم كما سيأتي في حديث: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"؛ إلا أنه نادر، كما يأتي في آخر مسألة في الكتاب "د" قلت: انظر "5/ 418"، وسيأتي تخريج الحديث "4/ 360".
2 جرى السلف في البحث عن العقائد على طريقة الكتاب العزيز حتى رفع المعاندون من المتفلسفة والمبتدعة رءوسهم بإلقاء الشكوك والشبه على حقائق الدين؛ فلم يسع علماء الكلام إلا أن تصدوا لمكافحتهم بمثل السلاح الذي كانوا يهاجمونهم به، وأخذ البحث في العقائد هيئة غير هيئته الأولى، وإنما يكون هذا الصنيع بدعة مكروهة حيث يتحقق أنه رفع أو بدل حقيقة شرعية "خ".(2/110)
3 أي: مطلوب تحصيلها في الوقت التالي للخطاب بها، بدون التراخي الذي يقتضيه السير في طريقة الاستدلال المنطقي، ونظام المناقضات والمعارضات والنقوض الإجمالية، التي قد تستغرق الأزمان الطويلة، ولا تستقر النفس فيها على ما ترتاح إليه، مع كثرة المطالب الشرعية اليومية وغيرها. "د".(2/111)
ص -72-…التساوي في كل مطلب؛ إلا في الضروريات وما قاربها؛ فإنها لا تفاوت فيها يُعتدُّ به، فلو وُضعت الأدلة على غير ذلك1؛ لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، أو أدى إلى تكليف ما لا يُطاق2، أو ما فيه حرج، وكلاهما مُنتفٍ عن الشريعة، وسيأتي في كتاب "المقاصد" تقرير هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: غير ما كان من الضروريات وما قاربها. "د".
2 في "م": "يطلق".(2/112)
ص -73-…المقدمة السابعة:
كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [من]1 حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما تقدَّم في المسألة قبل أن كل علم لا يُفيد عملا2؛ فليس في الشرع ما يدلُّ على استحسانه، ولو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنا شرعا، ولو كان مستحسنا شرعا؛ لبحث عنه الأولون3 من الصحابة والتابعين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من الأصل و"م" و"خ".
2 كالفلسفة النظرية الصرفة، أما الفلسفة العملية؛ كالهندسة، والكيمياء، والطب، والكهرباء, وغيرها؛ فليست داخلة في كلامه، ولا يصح أن يقصدها؛ لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشرع في الضروريات والحاجيات... إلخ، والمصالح المرسلة تشملها، وهي وسيلة إلى التعبد أيضا؛ لأن التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما، بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رَسم له مولاه، لا على مقتضى هواه؛ كما سيأتي للمؤلف. "د".
3 ممنوع؛ فكم من علم شرعي لم يبحث عنه الأولون لعدم الحاجة إليه عندهم؟ وأقربها إلينا علم الأصول، ولم يبدأ البحث في تأصيل مسائله في عهد الصحابة والتابعين. "د".
وقال "خ": "من العلوم ما تقتضيه حال العصر؛ كعلم الكيمياء، والهندسة، ومباحث الحرارة والكهرباء، وقاعدة وزن الثقل، وما يشاكلها من العلوم التي لا يمكن الخلاص من الأعداء إلا بالقيام عليها، ولم يبحث عنها الأولون من الصحابة والتابعين؛ لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم".(2/113)
ص -74-…وذلك غير موجود، فما يلزم عنه كذلك.
والثاني: أن الشرع إنما جاء بالتعبُّد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء -عليهم السلام- كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1].
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1-2].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{[الْحَمْدُ لِلَّهِ] الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي: يُسوون به غيره في العبادة؛ فذمهم على ذلك.
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92].
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 2].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآية [الزمر: 2-3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.(2/114)
ص -75-…وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصى، كلها دال على أن المقصود التعبد لله، وإنما أُتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده، سبحانه لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14].
وقال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد، لا بد أن أُعقبت بطلب التعبد لله وحده، أو جُعل مقدمة لها، بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها: ألا تُذكر إلا كذلك1؛ وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تُحصى.
والثالث: ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل، وإلا؛ فالعلم عارية وغير منتفع به؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
قال قتادة: يعني لذو عمل بما علَّمناه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط" فقط، وفي سائر النسخ: "إلا تذكرة إلا كذا"، وهو خطأ.
2 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "13/ 15"، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "4/ 557". وقال "خ" معلقا عليه: "ولا وجه لهذا التأويل على ما يطابق وضعها المألوف قيما لا عوج فيه، وهو الثناء على يوسف -عليه السلام- بفضيلة العلم، وبيان أنه مفاض عليه بتعليم الله إياه على طريق الوحي، أو نصب الأدلة الكونية".(2/115)
ص -76-…وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ...} إلى أن قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]؛ قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره1.
وعن أبي هريرة؛ قال: "إن في جهنم أرْحاء تدور بعُلماء السوء، فيُشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا، فيقول: ما صيَّركم في هذا، وإنما كنا نتعلم منكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم بالأمر, ونخالفكم إلى غيره"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1194".
2 أخرج نحو هذا الحديث عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، 6/ 331/ رقم 3267، وكتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، 13/ 48/ رقم 7098"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، 4/ 2290/ رقم 2989"، ولفظ البخاري: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاهُ؛ فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".(2/116)
وأخرجه من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور عند المصنف الديلمي في "المسند" "رقم 845"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1177" بسند ضعيف جدا، ونحوه عن أنس عند ابن عدي وابن عساكر، وعن ابن عمر عند ابن عساكر بإسناد فيه متهم بالكذب؛ كما في "إتحاف السادة المتقين" "10/ 519"، ويغني عن هذه الأحاديث حديث أسامة السابق، وكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، ولكنه يتابع الغزالي -في بعض الأحايين- في نقل الأحاديث من "الإحياء"، وضعفها مشهور معلوم، والله الموفق.(2/117)
ص -77-…وقال سفيان الثوري: "إنما يُتعلَّم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره؛ لأنه يُتقى الله به"1.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خِصال"، وذكر فيها: $"وعن علمه, ماذا عمل فيه؟"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص82".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، 4/ 612/ رقم 2416"، وأبو يعلى في "المسند" "9/ 178/ رقم 5271"، والطبراني في "الكبير" "10/ 8-9/ رقم 9772"، و"الصغير" "1/ 269"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 763-764"، والخطيب في "التاريخ" "12/ 440"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص96" من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن ابن مسعود مرفوعا به.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه".
قلت: إسناده ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد يصحح بها، منها:
حديث أبي بَرْزة الأسلمي: أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2417" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والدارمي في "السنن" "1/ 135"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 428/ رقم 7434"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 1، ص16-17"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 30"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 494"، وأبو نعيم في الحلية "10/ 232"، وإسناده حسن.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "رقم 2212" بإسناد واه عن أبي برزة، وفيه زيادة: "وعن حب أهل البيت"، وفيه معروف بن خرَّبوذ، ترجمه الذهبي في "الميزان" "1/ 443"، وقال: "أتى بخبر باطل..." وذكره، إلا أنه جعله من مسند أبي ذر.(2/118)
قلت: وهو كذلك في "تاريخ ابن عساكر" "12/ ق 126"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "11/ 102/ رقم 11177" بهذه الزيادة بإسناد ضعيف جدا، فيه حسين بن الحسن الأشقر، كان يشتم السلف، كذا في "المجمع" "10/ 346".
حديث معاذ بن جبل: أخرجه الطبراني في "الكبير" "20/ 60-61/ رقم 11"، والخطيب في "التاريخ" "11/ 441-442"، و"الاقتضاء" "رقم 2"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 493" بإسناد لا بأس به في الشواهد، وصححه المنذري في "الترغيب" "4/ 185".
وقد اضطرب فيه ليث بن أبي سُليم؛ فكان يرفعه مرة، ويوقفه مرة عن معاذ؛ كما عند هناد في "الزهد" "رقم 724"، والدارمي في "السنن" "1/ 135"، والبزار في "المسند" "رقم 3437، 3438"، والخطيب في "الاقتضاء" "رقم 3"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1208".
وانظر: "مجمع الزوائد" "10/ 346"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 946".(2/119)
ص -78-…وعن أبي الدرداء: "إنما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أَعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، [ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع]1، ومن دعاء لا يُسمع"2.
وحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 أخرجه أحمد في "الزهد" "2/ 58"، وابنه عبد الله في "زوائده" "2/ 65" -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 213-214"- وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 253" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 489"- وابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 311"، والدارمي في مقدمة "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 39" -ومن طريقة ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1201"- وأبو داود في "الزهد" "رقم 226، 254"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "5/ 17، 18/ تهذيب ابن بدران"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 51، 53، 54، 55"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 630"، والآجري في "أخلاق العلماء "ص97-ط المغرب" من طرق عن أبي الدرداء مطولا ومختصرا، والمطول الذي فيه: "فلا تبقى آية في كتاب الله..."، أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1207"، وهو عند أبي داود وعبد الله بن أحمد، وإسناده لا بأس به.
وأخرجه دونه أيضا البيهقي في "المدخل" "رقم 492" و"الشعب" "4/ 411", وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1204"، وهو صحيح مختصرا.(2/120)
ص -79-…القيامة، قال فيه: "ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت فيك العلم وعلَّمته، وقرأتُ القرآن. قال: كذبت، ولكن ليقال: فلان قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار"1.
وقال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة/ رقم 2383"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23، 24".
2 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 305/ رقم 507- الروض الداني"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1807"، والبيهقي في "الشعب" "2/ 284-285/ رقم 1778"، والخطيب في "الكفاية" "6-7"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 162" من طريق عثمان البري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا، مداره على عثمان بن مقسم البري، قال الطبراني: "لم يروه عن المقبري إلا عثمان البري"، وهو ضعيف جدا، واتهمه ابن معين بالوضع، وألان الهيثمي في "المجمع" "1/ 185" فيه الكلام بقوله بعد عزو الحديث للطبراني في "الصغير": "وفيه عثمان البري، قال الفلاس: صدوق كثير الغلط، صاحب بدعة، ضعّفه أحمد والنسائي والدارقطني".(2/121)
وضعف الحديث العراقي في "تخريجه لأحاديث الإحياء" "1/ 3 و3/ 377"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 78"، وابن حجر كما قال المناوي في "فيض القدير" "1/ 518"؛ إلا أنه لم يرتض حكم هؤلاء الحفاظ، فاستدرك عليهم بقوله: "لكن للحديث أصل أصيل"، وعزا للحاكم حديث ابن عباس بلفظ: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا، أو قتله نبي، أو قتل أحد والديه, والمصوّرون، وعالم لم ينتفع بعلمه".
قلت: أخرجه أبو القاسم الهمذاني في "فوائده" "1/ 196/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1617"- من طريق عبد الرحيم أبي الهيثم عن الأعمش عن الشعبي عن ابن عباس مرفوعا. =(2/122)
ص -80-…وروي أنه -عليه السلام- كان يستعيذ من علم لا ينفع1.
وقالت الحكماء: "من حَجب الله عنه العلم؛ عذَّبه به على الجهل، وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به"2.
وقال معاذ بن جبل: "اعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يأجُركم الله بعلمه حتى تعملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال شيخنا الألباني: "وهذا إسناد واهٍ، آفته عبد الرحيم هذا، وهو ابن حماد الثقفي، قال العقيلي في "الضعفاء": "حدث عن الأعمش مناكير، وما لا أصل له من حديث الأعمش"، ثم ساق له أحاديث ونقلها الذهبي عنه، ثم قال: "ولا أصل لها من حديث الأعمش"، ثم قال: "عبد الرحيم هذا شيخ واه، لم أر لهم فيه كلاما، وهذا عجيب"".
ثم بيَّن أن الحديث ليس في "المستدرك" وقال: "وقد ثبت الحديث من رواية ابن مسعود مرفوعا دون جملة الوالدين، وكذا جملة العالم... وهو مخرج في "الصحيحة" "رقم 281"".
قلت: فالحديث المذكور ضعيف جدا مرفوعا، ولكنه ثبت عن أبي الدرداء من قوله، أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 40"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 223"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 165" بإسناد رجاله ثقات.
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل، 4/ 2088/ رقم 2722" مطولا من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع". وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب منه، 5/ 519/ رقم 4382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، 8/ 255"، وتصدير المصنف للحديث بصيغة التمريض "روي" ليس بجيد، والحديث صحيح ثابت، والله الموفق.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "1214".(2/123)
3 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 62" -ومن طريقه أبو داود في "الزهد" "رقم 196"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 693/ =(2/124)
ص -81-…وروي أيضا مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه زيادة: "إن العلماء همتهم الرعاية، وإن السفهاء همتهم الرواية"1.
وروي موقوفا أيضا عن أنس بن مالك2، وعن عبد الرحمن بن غَنْم؛ قال: حدَّثني عشرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: كنا نتدارس العلم في مسجد قُباء؛ إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تعلَّموا ما شئتم أن تعلَّموا؛ فلن يأجركم الله حتى تعملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 1227-ط الجديدة"- والدارمي في "السنن" "1/ 81"، وأحمد في "الزهد" "ص181" بإسناد رجاله ثقات إلى معاذ موقوفا، وفيه انقطاع، يزيد بن جابر لم يدرك معاذا.
1 أخرجه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 7، 8"، و"التاريخ" "10/ 94"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 458-459"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن الشجري في "أماليه" "1/ 62" عن معاذ مرفوعا، وله إسنادان، كل منهما ضعيف جدا، وفيه انقطاع في الأول بكر بن خنيس، وهو متروك، وحمزة النصيبي مثله, بل أشد؛ إذ هو متهم بالوضع، وفي الآخر عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عامة ما يرويه مناكير؛ كما قال ابن عدي.
والزيادة التي في آخره: "إن العلماء همتهم الرعاية" إنما هي من قول الحسن؛ كما عند الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 39"، وأرسلها في رواية عند ابن عساكر "19/ 78/ 2"، وهي خطأ، ومدارها على أبي محمد الأطرابلسي، وهو مجهول.
2 أشار إليه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694-695"، وأفاد أنه جاء عن أنس مرفوعا وموقوفا، وأسند الموقوف، وفيه وفي المرفوع عباد بن عبد الصمد، قال ابن حبان: "واه، وله عن أنس نسخة أكثرها موضوعة".
وقال ابن عبد البر إثر الموقوف: "وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به، بل هو ممن لا يشتغل بحديثه؛ لأنه متفق على تركه وتضعيفه".(2/125)
وأخرج الموقوف أبو الحسن بن الأخرم في "أماليه".
3 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694/ رقم 1228" عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم مثله، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 289": "لم أجد له إسنادا". وانظر: "إتحاف السادة المتقين" "1/ 373".(2/126)
ص -82-…وكان رجل يسأل أبا الدرداء؛ فقال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حُجَّة الله عليك؟1.
وقال الحسن: "اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم؛ فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدّقه أو يكذّبه، فإذا سمعت قولا حسنا؛ فَرويدا بصاحبه، فإن وافق قوله عمله؛ فنِعْم ونعمةَ عَين"2.
وقال ابن مسعود: "إن الناس أحسنوا القول كلهم, فمن وافق فعله قوله؛ [فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف فعله قوله]3؛ فإنما يُوبِّخ نفسه"4.
وقال الثوري: "إنما يطلب الحديث ليُتَّقى به الله -عز وجل- فلذلك فُضِّل على غيره من العلوم، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء"5.
وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد؛ قال: "أدركت الناس وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1232".
2 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 77"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1234"، وفيه يحيى بن المختار، قال عنه ابن حجر في "التقريب": "مستور".
3 ساقطة من الأصل، واستشكل الناسخ السياق؛ فكتب في الهامش: قوله: "يوبخ نفسه" كذا في النسخ!! وهو إما تحريف، أو مرتب على كلام نقص من هذه النسخ.
4 قلت: وفي "خ": "يربح نفسه"!! أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 75" -ومن طريقه الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 627"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1233"- ووكيع في "الزهد" "رقم 266" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "2/ 108"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 414-415"- من طريقين عن ابن مسعود، أحدهما حسن. وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار" "4/ 179" عن زبيد اليامي؛ قال: "أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة..." وذكرها.(2/127)
5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1152، 1159"، وأبو نعيم "6/ 362، 366"، والبيهقي في "المدخل" "470"، وتمام في "الفوائد" "97- روض"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "298، 299" بإسناد حسن بألفاظ، مضى واحد منها في "ص77".(2/128)
ص -83-…يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل"1، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، وكل ذلك يُحقق أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم؛ فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به2.
فلا يقال: إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله، وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن مرتبة العلماء تلي مرتبة الأنبياء، وإذا كان كذلك، وكان الدليل الدال على فضله مطلقا لا مقيَّدا؛ فكيف يُنكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة؟ هذا وإن كان وسيلة من وجه؛ فهو مقصود لنفسه أيضا، كالإيمان3؛ فإنه شرط في صحة العبادات، ووسيلة إلى قبولها، ومع ذلك؛ فهو مقصود لنفسه.
لأنا نقول: لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل، بدليل ما تقدَّم ذكره آنفا، وإلا؛ تعارضت الأدلة، وتناقضت الآيات والأخبار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2062، 2063" عن ابن وهب؛ قال: "قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم". قال ابن وهب: "يريد المسائل".
قال: "وقال مالك: إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام في الناس اليوم".
2 تكلَّم ابن القيم عن العلم والعمل في مواطن عديدة من كتبه؛ منها: "إعلام الموقعين" "1/ 165-169 و3/ 394 و2/ 158"، و"مفتاح دار السعادة" "52-196، 175، 183، 188، 189، 190، 304"، و"الداء والدواء" "3"، و"المدارج" "2/ 60، 293، 464-478 و3/ 260، 302، 325"، و"روضة الطالبين" "68، 156، 195، 305"، و"البدائع" "2/ 62"، و"الزاد" "1/ 152"، و"الصواعق" "1/ 93-96"، و"طريق الهجرتين" "618".
3 في الأصل: "المقصود لنفسه كالإيمان أيضا".(2/129)
ص -84-…وأقوال السلف الأخيار؛ فلا بد من الجمع بينها، وما ذُكر آنفا شارح لما ذُكر في فضل العلم والعلماء، وأما الإيمان؛ فإنه عمل من أعمال القلوب، وهو التصديق، وهو ناشئ عن العلم، والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها، أما العلم؛ فإنه وسيلة، وأعلى ذلك العلم بالله، ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدِّق بمقتضاه، وهو الإيمان بالله.
فإن قيل: هذا متناقض؛ فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به.
قيل: بل1 قد يحصل العلم مع التكذيب2؛ فإن الله قال في قوم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20].
فأثبت لهم المعرفة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بيَّن أنهم لا يؤمنون، وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم؛ كما أن الجهل مُغايرٌ للكفر.
نعم، قد يكون العلم فضيلة، وإن لم يقع العمل به على الجملة، كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف، إذا فُرض أنها لم تقع في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "بلى".
2 يرى بعض أهل العلم أن المعتبر في الإيمان هو التصديق اللغوي، وهو بعينه التصديق المنطقي؛ كما قال السيد في حواشي شرح "التلخيص": إن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة، وذهب فريق إلى أن التصديق اللغوي -وهو الشرعي- أخص من التصديق المنطقي؛ إذ يزيد عليه بقيد الاختيار والتسليم، وهذا ما جرى عليه المصنف في هذه المقدمة. "خ".(2/130)
ص -85-…الخارج؛ فإن العلم بها حسن، وصاحب العلم مُثابٌ عليه وبالغ مبالغ العلماء، لكن من جهة ما هو مظنَّة الانتفاع عند وجود محله، ولم يُخرجه ذلك عن كونه وسيلة، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد، أو جاء ولم يمكنه أداؤُها لعذر، فلو فُرض أنه تطهَّر على عزيمة أن لا يُصلي؛ لم يصح له ثواب الطهارة، فكذلك إذا علم على أن لا يعمل؛ لم ينفعه علمه، وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من اليهود والنصارى يعرفون دين الإسلام، ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه، ولم يكن ذلك نافعا لهم مع البقاء على الكفر1 باتفاق أهل الإسلام.
فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل.
فصل
ولا يُنكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل، ولكن له قصد أصلي وقصد تابع.
فالقصد الأصليُّ ما تقدم ذكره.
وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنيء، وإن كان في أصله شريفا، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار2 وحكمه ماض3 على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالمستشرقين والمتخصصين من الكافرين في علوم الشريعة، وهو مشهور معلوم هذه الأيام.
2 أي: البشر. انظر: "لسان العرب" "ب ش ر".
3 في "ط": "قاض".(2/131)
ص -86-…العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر،... إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة؛ فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه1 يناله.
وأيضا؛ فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة2؛ إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس ومُيلت3 إليها القلوب، وهو مطلبٌ خاص، برهانه التجربة التامة والاستقراء العام؛ فقد يُطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها مُتسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع.
ولكن كل تابع من هذه التوابع؛ إما أن يكون خادما للقصد الأصلي، أو لا.
فإن كان خادما له؛ فالقصد إليه ابتداء صحيح، وقد قال تعالى في معرض المدح: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وجاء عن بعض السلف الصالح: اللهم اجعلني من أئمة المتقين، وقال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن النخلة: "لأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "صاحبها".
2 ذهبت طائفة من الحكماء إلى أن اللذة الدنيوية محصورة في المعارف، وقالوا: ما يتوهم من لذة حسية كقضاء شهوتي البطن والفرج، أو خيالية كالازدهاء بالرئاسة والاستعلاء؛ فهو دفع ألم فقط؛ فالأولى دفع ألم الجوع والعطش ودغدغة المني لأوعيته، والثانية دفع ألم القهر والغلبة. "خ".
3 في "م": "مالت".(2/132)
ص -87-…تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا"1.
وفي القرآن عن إبراهيم, عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة، وأشباه ذلك.
وإن كان غير خادم له؛ فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلمه رياء، أو ليُماري به السفهاء، أو يُباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم، أو ما أشبه ذلك؛ فإن مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب زهد في التعلم، ورغب في التقدم، وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه، وأنف من الاعتراف بالتقصير؛ فرضي بحاكم عقله، وقاس بجهله؛ فصار ممن سُئل فأفتى بغير علم؛ فضَلَّ وأضلَّ، أعاذنا الله من ذلك بفضله.
وفي الحديث: "لا تعلَّموا العلم لُتباهوا به العلماء، ولا لتُماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك؛ فالنار النار"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.
قال "م": "كان ابن عمر حدثا؛ فاستحيا أن يذكر ما جال بخاطره".
2 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93/ رقم 254"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 90- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص100"، والخطيب في "الجامع" "1/ 86-87"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 187" من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 116"، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "1/ 111": "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم"؛ فهو صحيح.(2/133)
ص -88-…وقال: "من تعلم علما ما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة"1.
وفي بعض الحديث: سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية؛ فقال: "هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يُجلس إليه"2 الحديث.
وفي القرآن العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [الآية] [البقرة: 174].
والأدلة في المعنى كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبوداود في "السنن" "كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، 3/ 323/ رقم 3664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 92-93/ رقم 252"، وأحمد في "المسند" "2/ 338"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 89- موارد" والآجري في "أخلاق العلماء" "ص107"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 102"، و"تاريخ بغداد" "5/ 347 و8/ 78"، و"الجامع" "1/ 84"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 190" بسند صحيح، وصححه الذهبي في "الكبائر" "ص120- بتحقيقي".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، سنده ثقات، رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وهو كما قالا.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس"، وقال ابن حجر: "وفيه إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك"، قاله المناوي في "فيض القدير" "1/ 189".(2/134)
ص -89-…المقدمة الثامنة:
العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا -أعني الذي مدح الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يُخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها، ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب1:
المرتبة الأولى:
الطالبون له ولمّا يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به؛ فبمقتضى الحَمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف؛ فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله؛ من زجر، أو قصاص، أو حد، أو تعزير، أو ما جرى هذا المجرى، ولا احتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك؛ إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه.
والمرتبة الثانية:
الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم ابن تيمية نحو ما عند المصنف في مواطن من "مجموع الفتاوى"، منها: "5/ 270، 274، 3/ 30-34 و4/ 36-39".(2/135)
ص -90-…المجرد، واستبصارا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل، الذي يصدِّقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه؛ إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس، بمعنى أنه لم يصِر كالوصف الثابت للإنسان، وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، و[عليه]1 يعتمد في استجلابها، حتى تصير من جملة مودعاته، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل؛ خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما2؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي؛ العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف، ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين؛ فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج، غير أنه يتسع في حقهم؛ فلا يُقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثَم أمور أُخر كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك.
وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة، إلا أنها أخفى مما قبلها، فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الاتصافات السلوكية.
والمرتبة الثالثة:
الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول، أو تُقاربها، ولا يُنظر إلى طريق حصولها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 لو عقدنا موازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة؛ لوجدنا الفرق بينهما من جهة الورع والقيام بفريضة الإرشاد واضحا جليا، ولم يكن هذا التفاضل فيما أحسب إلا لأن علماء السلف لا يقنعون بتصور الأحكام العملية حتى ينفذوا منها إلى معرفة أسرارها وأدلتها، وبعد أن كانت هذه الحجة تتدفق بسالكيها تتدفق السيل الجرار؛ ضرب التقليد الصلب أطنابه في النفوس، وأصبحت الرابطة بين العلم والعمل واهية.(2/136)
"خ". قلت: انظر تفصيل ذلك عند ابن رجب في "فضل علم السلف على الخلف".(2/137)
ص -91-…فإن ذلك لا يُحتاج إليه، فهؤلاء لا يُخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخلقية1، وهذه المرتبة هي المترجم لها.
والدليل على صحتها من الشريعة كثير؛ كقوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
[ثم قال]2: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم، لا من أجل غيره.
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
والذين يخشون ربهم هم العلماء، لقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية [المائدة: 83].
ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة؛ بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى -عليه السلام- حق، ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الخليقية".
2 ليست موجودة في الأصل.
3 مبادرة السحرة إلى الانقياد والإيمان تستند مباشرة إلى تحققهم في العلم بصدق موسى -عليه السلام- وصحة رسالته؛ فهي أثر من آثار هذا العلم المترتب على مشاهدة المعجزة وتمييزهم بينها وبين ما هو سحر، وهذا التمييز الذي أومض في قلوبهم بسرعة هو الناشئ عن رسوخهم في علم السحر. "خ".(2/138)
ص -92-…وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
فحصر تعقلها في العالمين، وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال.
وقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
ثم وصف أهل العلم بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرعد: 20].
إلى آخر الأوصاف، وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون.
وقال في أهل الإيمان, والإيمان من فوائد العلم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18].
فشهادة الله تعالى وفق علمه1 ظاهرة التوافق؛ إذ التخالف مُحال، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة؛ لأنهم محفوظون من المعاصي، وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حُفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم2 ذلك وأقلقهم، حتى يسألوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أجرى الشهادة على ظاهرها، والمفسرون يقولون: إنها بمعنى إقامة الأدلة ونصب الدلائل في الكون على ذلك؛ فشهد بمعنى أقام ما يدل عليه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. "د" وفي "ط": "على وفق علمه".
2 في الأصل: "أحزنتهم".(2/139)
ص -93-…النبي -صلى الله عليه وسلم- كنزول1 آية البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ...} الآية [البقرة: 284].
وقوله2: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...} الآية [الأنعام: 82].
وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 115-116/ رقم 125" -واللفظ له- وأحمد في "المسند" "2/ 412"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 143" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:(2/140)
لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى؛ فأنزل الله, عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قال: "نعم". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال: "نعم".(2/141)
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، 8/ 294/ رقم 4629" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال أصحابه: وأيُّنا لم يظلم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}".
3 لأنه لما كان علمهم علما ملجئا لهم إلى الجري على مقتضاه طوعا أو كرها، وعرفوا أنهم قد يحصل منهم ما ليس على مقتضاه؛ لأنه فوق الطاقة البشرية، فلا يكون لهم الأمن من غضب الله كما في الآية الثانية، ولا بد من حسابهم عليه كما في الآية الأولى؛ حصل لهم القلق إلى أن فهموا ما يزيله عنهم. "د".(2/142)
ص -94-…والأدلة أكثر من إحصائها هنا، وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به.
فإن قيل: هذا غير ظاهر من وجهين:
أحدهما: أن الرسوخ في العلم؛ إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة، أو لا.
فإن لم يكن كذلك؛ فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم، ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به، ولا مُلجئ إليه.
وإن كان محفوظا به من المخالفة؛ لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي، ما عدا الأنبياء -عليهم السلام- ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43].
وقال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].(2/143)
ص -95-…وسائر ما في هذا المعنى؛ فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم، فلو كان العلم صادا عن ذلك؛ لم يقع.
والثاني: ما جاء من ذم العلماء السوء، وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله, عليه السلام: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"1.
وفي القرآن: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [البقرة: 174].
وحديث الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة2، والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غيرُ معصومين بعلمهم، ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب؛ فكيف يقال: إن العلم مانع من العصيان؟!
فالجواب عن الأول: أن الرسوخ في العلم يأبى أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا3، فإن تخلف؛ فعلى أحد ثلاثة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص79"، والصواب أنه من قول أبي الدرداء؛ كما بيناه هناك.
2 مضى تخريجه "ص78"، وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1905".(2/144)
3 من طبيعة العالم الراسخ أن يتدفق غيرة على الحقائق والمصالح حتى يبلغ به التفاني في حب إقامتها أن يكافح الرئيس المستبد حيث حاول العبث بها، ولا يعبأ بما يسومه به من اضطهاد وأذى، ومما يصلح مثلا لهذا أن الملك إسماعيل صاحب دمشق خان السلطان نجم الدين الأيوبي واتفق مع الإفرنج على أن يسلم إليهم في مقابلة نجدتهم له صيداء وغيرها من الحصون؛ فقام في وجهه الإمام عز الدين بن عبد السلام بالإنكار البالغ، واحتمل في سبيل مصارعة الباطل الاعتقال وما كان يشهره عليه ذلك الملك من ضروب التهديد والإرهاب إلى أن تخلص إلى الديار المصرية "خ".(2/145)
ص -96-… أوجه1:
الأول: مجرد العناد، فقد يُخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى، وعلى ذلك دل قوله تعالى: [{وَجَحَدُوا بِهَا} الآية [النمل: 14]، وقوله تعالى]2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]}3 [البقرة: 109] وأشباه ذلك.
والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى، من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}4 الآية [النساء: 17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 علل شيخ الإسلام ابن تيمية مرد هذا الأمر إلى الإرادة الجازمة والعلم التام، وأنه كلما قل العلم التام، وضعفت الإرادة الجازمة؛ ضعف العمل، إذ هما المؤثر الفعال، وفصل ذلك بتفصيل حسن واف في كتابه "الحسنة والسيئة" وغيره.
2 ليست في الأصل.
3 زيادة من الأصل.
4 ذهب جماعة من المفسرين إلى تأويل آخر؛ فحملوا الجهالة في الآية على معنى السفه وارتكاب ما لا يطابق الحكمة، والأقرب في النظر إبقاؤها على حقيقتها، والمراد عدم العلم بكنه الخاتمة السيئة والعقوبة التي تلحق مرتكب المعصية؛ إذ لو تبصر الهاجم على خرق سياج العفة والعدالة بارتكاب المآثم، وتمثل أمام عينيه ما يحيط به من الخزي والشقاء؛ لملك داعية الهوى، وأحجم عن مواطن اللذائذ الفانية غير مأسوف عليها. "خ".(2/146)
ص -97-…وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 102].
ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة؛ كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية؛ فقد لا تبصر العين، ولا تسمع الأذن، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما؛ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يُصاب1، ومع ذلك لا يُقال: إنه غير مجبول على السمع والإبصار؛ فما نحن فيه كذلك.
والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا، أو كالوصف مع عده من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
وفي الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس", إلى أن قال: "اتخذ الناس رؤساء جُهالا، [فسئلوا، فأفتوا بغير علم]2؛ فضلُّوا وأضلُّوا3".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيصاب بسقطة في وهدة؛ لأنه لم يبصرها، أو تؤذيه دابة أو غيرها لم يسمع حركتها أو صوتها من بُعد فيتقيها، كل هذا من غفلة طرأت على غير مقتضى طبيعته؛ فكذلك فلتات العالم "د".
2 ليست في الأصل.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان" "4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما. وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على "الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم" "ص55-58"؛ فانظره هناك إن أردت الاستزادة، والله الهادي.(2/147)
ص -98-…وقوله: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين1 فرقة، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم2" الحديث، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يقدح في هذا الحديث أن الفرق الأصلية لم يبلغ عددها هذا الحد، والفرق الفرعية تتجاوزه؛ إذ يكفي في صحته أن تبلغ الفرق الإسلامية هذا المقدار ولو في بعض الأزمنة، وقد بلغته بلا ريب، وساقها العلامة عضد الدين في خاتمة كتاب "المواقف" بتفصيل. "خ".
قلت: أحصى هذه الفِرَق البغدادي في كتابه "الفرق" "ص25"، وخلط بين الفرق الخارجة عن الإسلام والداخلة فيه مع ابتداع، وذكر ما يزيد على ثمانين فرقة، وقال: "فهذه ثنتان وسبعون"، مع ملاحظة أن فرقا كثيرة نشأت بعد البغدادي لو عايشها لأدخلها في حسابه.
2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "18/ 90"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 1072"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2483"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 430"، والبزّار في "المسند" "رقم 172- زوائده"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 307-308"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 179-180"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 207"، والهروي في "ذم الكلام" "ص83"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1673"، وابن حزم في "إبطال القياس" من طرق عن نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا.
والحديث ضعيف، وأشار إلى ذلك المصنف بقوله "5/ 147": "ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه". ثم قال: "وإن كان غيره قد هوّن الأمر فيه".(2/148)
قلت: الحديث ضعيف، آفته نعيم بن حماد، وقد تكلم الحفاظ فيه بسببه، قال ابن عدي: "وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد، رواه عن عيسى بن يونس، فتكلم الناس بجراه، ثم رواه رجل من أهل خراسان، يقال له: الحكم بن المبارك، يُكنَّى أبا صالح، يقال له: "الخواشتي"، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث؛ منهم: عبد الوهاب بن الضحاك، والنضير بن طاهر، وثالثهم سويد الأنباري"، وقال البيهقي عقبه: "تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وبالله =(2/149)
ص -99-…الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ1 لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التوفيق".
وقال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس؛ فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يرد به الأصل".
قلت: مراد أحمد ويحيى هذا الحديث بلفظه المذكور، وفيه ذكر وذمٌّ للقياس، وإلا؛ فقد أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 3992"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 63"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 149" بسند جيد من حديث عوف بن مالك مرفوعا: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وإحدى وسبعين في النار، والذي نفسي بيده؛ لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وثنتين وسبعين في النار". قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: "هم الجماعة".
وأخرجه من حديثه أيضا الحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129" من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد الله المزني، لا تقوم به الحجة.
ولحديث عوف باللفظ السابق -وليس بلفظ المصنف- شواهد عديدة من حديث أبي هريرة ومعاوية وأنس وعبد الله بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ؛ كما بيَّن ذلك بتطويل وتحقيق متين شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204".(2/150)
وقد ضعّف حديث عوف -بلفظ المصنف- الزركشي فقال في "المعتبر" "ص227": "هذا حديث لا يصح، مداره على نُعيم بن حماد، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" "13/ 311": بهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل الحديث، وكان يحيى بن معين لا ينسبه إلى الكذب، بل إلى الوهم، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا وسألته عن صحته؛ فأنكره. قلت له: من أين يؤتى؟ قال: شبه له. وقال محمد بن علي بن حمزة المروزي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، قال: ليس له أصل. قلت: فنُعيم بن حماد؟ قال: نُعيم ثقة. قلت: كيف يحدّث ثقة بباطل؟ قال: شُبِّه له".
1 في "م": "حظ".(2/151)
ص -100-…فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة؛ فهو الداخل تحت حفظ العلم، حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير.
وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به؛ حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها" أو قال: آخرها، "حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان؛ فهما مَقْمُوعان ذليلان، إن تكلَّما أو نطقا؛ قُمعا وقُهرا واضطُهدا"1 الحديث.
وفي الحديث: "سيأتي على أمتي زمان يكثر القُرَّاء، ويَقِلُّ الفُقهاء، ويُقبض العلم، ويكثر الهَرْج, إلى أن قال: ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يُجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يُجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 234/ رقم 7807"، والهروي في "ذم الكلام" "ص157"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1026، 1028"، وابن السني وأبو نعيم -كما في "كشف الخفاء" "2/ 192/ رقم 2070"- من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهاني.
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 262، 271": "رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن زيد، وهو متروك".
2 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ ق 187" -وكما في "مجمع البحرين" "رقم 273"- من طريق ابن لهيعة، والحاكم في "المستدرك" "4/ 457"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1043" من طريق عمرو بن الحارث، كلاهما عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 187" بعد عزوه للطبراني في "الأوسط": "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف".
قلت: توبع، ودراج صدوق في غير روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها؛ فالحديث إسناده حسن.
وقال الهيثمي: "الحديث: في "الصحيح" بعضه".(2/152)
قلت: في "الصحيح": "قبض العلم، وكثرة الهرج، وقراءة القرآن من أناس لا يجاوز حناجرهم"، نسأل الله العافية والسلامة، ولو اقتصر المصنف على ما في "الصحيح"؛ لكان أحرى وأولى، والله الموفق، وما في "الصحيح" سيأتي "5/ 173".(2/153)
ص -101-…وعن علي: "يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإن العالم من عَلِم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حلقا يُباهي بعضهم بعضا؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالُهم تلك إلى الله, عز وجل"1.
وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم رُعاة، ولا تكونوا له رواة؛ فإنه قد يَرْعَوي ولا يَروي، وقد يروي ولا يَرْعَوي"2.
وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا"3.
وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله؛ فذلك راوية حديث، سمع شيئا فقاله"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 106"، والخطيب في "الجامع" "رقم 31"، وفي "الاقتضاء" "رقم 9" عن يحيى بن جعدة عن علي به، وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف، ويحيى بن جعدة غير معروف بالرواية عن علي -رضي الله عنه- فالإسناد ضعيف.
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1238".
3 أخرجه من طرق عن أبي الدرداء الدارمي في "السنن" "1/ 88"، والخطيب في "الاقتضاء" "16، 17"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1239" بإسناد رجاله ثقات.
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1241".(2/154)
ص -102-…وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شُغلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هَربوا"1.
وعن الحسن؛ قال: "الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل"2.
وعنه في قول الله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91]؛ قال: "عُلِّمتم فَعَلِمتم ولم تعملوا؛ فوالله ما ذلكم بعلم"3.
وقال الثوري: "العلم يَهتف بالعمل، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل"4. وهذا تفسير كون العلم هو الذي يُلجئ إلى العمل.
وقال الشَّعبيُّ: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"5، ومثله عن وكيع بن الجراح6.
وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1249".
2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1270".
3 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1273".
4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1274"، وأسند نحوه عن علي -رضي الله عنه- وابن المنكدر الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 40، 41".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1284".
6 أخرجه عن وكيع, ابن عساكر في "جزء حفظ القرآن" "11"، وأخرجه الخطيب في "الجامع" "الأرقام 1787، 1788، 1789"، و"الاقتضاء" "رقم 149"، والبيهقي في "الشعب" "رقم 1659، 1741"، مرة بذكر العمل، ومرة بذكر الصوم -عن شيخ لوكيع به- وأخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 539" عن شيخ لهم؛ قال: "كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم"، وجاء مصرحا في بعض الروايات بأنه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمَّع.
وانظر: كلام محقق "الزهد" الشيخ عبد الرحمن الفريوائي حفظه الله ورعاه.(2/155)
ص -103-…الله"1.
والآثار في هذا النحو كثيرة.
وبما ذُكر يتبيَّن الجواب عن الإشكال الثاني؛ فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك؛ فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة -والفقه فيما رَوَوْا أمرٌ آخر- أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله.
على أن المثابرة على طلب العلم، والتفقه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجرُّ إلى العمل به ويُلجئ إليه، كما تقدم بيانه، وهو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2.
وعن مَعْمَر؛ أنه قال: "كان يقال: من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يُصيِّره إلى الله"3.
وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "الزهد" "185"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 182"، والطبراني في "الكبير" "9/ 105/ رقم 8534"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص21"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 131"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 486"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1400، 1401"، بإسناد كلهم ثقات؛ إلا أن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، كما قال أئمة هذا الفن، وبالانقطاع أعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 235"؛ فإسناده ضعيف بسببه.
وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 416".
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1375" بسند فيه عبد الله بن غالب مستور، والربيع بن صبيح صدوق، سيئ الحفظ؛ كما في ترجمتيهما في "التقريب".
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 256"، ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "519"، والخطيب في "الجامع" "774، 775"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1376، 1377، 1378، 1379" بإسناد صحيح.(2/156)
ص -104-…النية بعد"1.
وعن الثوري؛ قال: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2، وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنتُ أغبطُ الرجل يُجتمع حوله، ويكتب عنه، فلما ابتليت به؛ وَدِدْتُ أني نجوت منه كفافا، لا علي ولا لي"3.
وعن أبي الوليد الطيالسي؛ قال: سمعت ابن عُيَيْنَةَ منذ أكثر من ستين سنة يقول: "طلبنا هذا الحديث لغير الله؛ فأعقبنا الله ما ترون"4.
وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده"5؛ فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم.
فصل:
ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة، وما هي.
والقول في ذلك على الاختصار أنها أمرٌ باطن، وهو الذي عُبَّر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية، وعنه عبر في الحديث في أول ما يُرفع من العلم الخشوع6، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الخطيب في "الجامع" "رقم 773"، والبيهقي في "المدخل" "521"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1380"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 61" بإسناد صحيح.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1381".
3 أخرج نحوه عن الثوري بإسناد حسن ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 982".
4 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "38"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1382".
5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1383".
6 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب العلم"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 211"، وأحمد في "المسند" "6/ 26-27"، والطبراني في "الكبير" "18/ رقم 75"، و"الأوائل" "رقم =(2/157)
ص -105-…الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب"1، وقال أيضا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة: وهو التجافي عن دار الغُرور، والإنابة إلى دار الخلود"2, وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة.
وأما تفصيل القول فيه؛ فليس هذا موضع ذكره، وفي كتاب الاجتهاد منه طرف3؛ فراجعه إن شئت، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 81"، وابن أبي عاصم في "الأوائل" "رقم 109"، والبزار في "المسند" "رقم 232- زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 433/ رقم 4572- الإحسان" في آخر حديث طويل لشداد بن أوس الأنصاري، وإسناده صحيح.
وله شاهد عن أبي الدرداء عند الترمذي في "الجامع" "رقم 2653"، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن؛ كما في "الترغيب" "رقم 543- صحيحه"، و"مجمع الزوائد" "2/ 36"، وقال المنذري: "الموقوف أشبه"، وعلق على مقولته شيخنا الألباني: "قلت: بل المرفوع أشبه؛ لأن له شواهد, ولا سيما وهو لا يقال بالرأي". وفي "ط": "العلم ليس...".
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 469" عن حذيفة، وصححه ووافقه الذهبي.
1 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "558"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 319"، وابن منده في "الفوائد" "رقم 68"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1398"، عن "جامع ابن وهب"، وأورده البغوي في "شرح السنة" "1/ 284"، وابن الجوزي في "صفوة الصفوة" "2/ 179"، والفلاني في "إيقاظ الهمم" "24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "32"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 184".
2 أورده ابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 267"، و"الجامع" "70" عن "جامع ابن وهب" وعنه: الفلاني في "إيقاظ الهمم" "ص24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "ص32"، وكلمة "والعلم" ساقطة من "ط".
3 انظر: "5/ 24، 260 وما بعد".(2/158)
ص -107-…المقدمة التاسعة:
من العلم ما هو من صُلْب1 ومنه ما هو2 مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صُلْبه ولا مُلَحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.
- القسم الأول:
هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مَدَارُ الطَّلَب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الصلب؛ بضم، فسكون: عظم الظهر من لدن الكاهل إلى العجب، والصلب أيضا الشديد القوي.
والملح؛ بفتح وسكون اللام؛ أي: ملحة التي تستملح, أي: تعد مليحة، أي: حسينة؛ إذ الملح بضم ففتح: هي الأخبار المليحة، وهي الملح بفتح فسكون" "ماء".
2 في "م" و"خ" زيادة: "من".
3 حمل المصنف في المقدمة الأولى الحفظ في الآية على الأصول الكلية، ونفى أن يكون المراد المسائل الجزئية وهو كما يظهر مخالف لعبارته في هذه المقدمة؛ إذ جعل الحفظ شاملا للأصول والفروع، والتحقيق أن الفروع محفوظة بنصب الأدلة الكافية لمن توجه إلى استنباطها ببصيرة صافية وفهم راسخ، فإذا ضل نبؤها على قوم؛ اهتدى إليه آخرون. "خ".(2/159)
ص -108-…وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.
هذا وإن كانت وضعية لا عقلية؛ فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء التام1 الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة، عامة، ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقليات2.
وأيضا؛ فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي؛ فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما.
فإذًا لهذا القسم3 خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها:
العموم والاطراد؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا عمل يُفرض, ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا، وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما؛ فهو راجع إلى عموم؛ كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "العام"، وما أثبتناه من المخطوط الأصل.
2 في "م": "العقلية"، وأثبت "م" هنا في الهامش ما نصه: "من لوازم ذلك وصف الشريعة بثلاثة أوصاف: عمومها، وثباتها، وكونها حاكمة".
3 أصوله وفروعه. "د".(2/160)
ص -109-…والمساقاة1، والصاع في المصراة2، وأشباه ذلك؛ فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها3، وهي أمور عامة4؛ فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك.
والثانية:
الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال5، بل ما أثبت سببا؛ فهو سبب أبدا لا يرتفع، وما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فعموم النهي عن الغرر، وعدم مسئولية الشخص عن فعل غيره، وفساد المعاملات المشتملة على الجهالة في الثمن أو الأجرة مثلا، يشمل بظاهره هذه المسائل، ولكن لما كان لها في الواقع علل معقولة تجعل حكمها مغايرا لحكم العمومات المذكورة، وقد أخذت حكمها المعقول على خلاف حكم ما كان يشملها في الظاهر؛ أطلقوا عليها أنها مستثناة، وقالوا: إنها خاصة، وهي في الحقيقة قواعد كلية أيضا انبنت على أصول من مقاصد الشريعة الثلاثة. "د".
2 انظر وجه نظمه في هذا السلك مع أنهم قالوا: إنه حكم تعبدي محض "د".
و"المصراة": الناقة -مثلا- يربط صاحبها ضرعها ليجتمع لبنها، فيظن من يريد شراءها أن حلبتها كثير، فإذا اشتراها فحلبها، ثم أراد ردها للتدليس؛ رد معها صاعا من تمر. "م".(2/161)
3 تندرج صور الوقائع تحت أصل واحد، وتتفق في الحكم إذا كانت متماثلة من كل وجه له مناسبة بالحكم، فإذا اختلف بعض المسائل في الحكم؛ عرفنا أنها لم تكن متماثلة تماثلا تاما، وأن اختلافها في الحكم كان لوجه يفرق بينها في نفس الأمر؛ فوصف بعض الفقهاء العرايا ونحوها بأنها مخالفة للقياس أو خارجة عن الأصل لا يصح إلا إذا أرادوا القياس أو الأصل الذي يتراءى لهم في بادئ النظر "خ". قلت: حقق ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "20/ 555" وتلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.
4 بعدها في "ط" وحدها كلمة لم نتبينها.
5 لا يرد على هذا اختلاف الأحكام عند اختلاف العرف والعادة؛ فإنه ليس باختلاف في أصل الخطاب، وتحقيقه أن العوائد إذا اختلفت؛ رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يختص بها وينطبق حكمه عليها "خ".(2/162)
ص -110-…كان شرطا؛ فهو أبدا شرط، وما كان واجبا؛ فهو واجب أبدا، أو مندوبا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام؛ فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية؛ لكانت أحكامها كذلك.
والثالثة:
كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل, أو يصوب نحوه, لا زائد على ذلك, ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم.
فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم، وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب، والحمد لله.
- والقسم الثاني:
وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه1: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صح أن يعد في هذا القسم.
فأما تخلف الخاصية الأولى -وهو الاطراد والعموم- فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص2 فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم، ويقربه من الأمور الاتفاقية الواقعة عن غير قصد؛ فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية -وهو الثبوت- فيأباه صُلب العلم وقواعده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "القواعد" للمقري "2/ 406".
2 في "د": "النقض" بالمعجمة.(2/163)
ص -111-…فإنه إذا حكم في قضية، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال؛ كان حكمه خطأ وباطلا، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص؛ فعدم الناظر الوثوق بحكمه، وذلك معنى خروجه عن صلب العلم.
وأما تخلف الخاصية الثالثة -وهو كونه حاكما ومبنيا عليه- فقادح أيضا؛ لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة، غير مجرد راحات النفوس, فاستوى مع سائر ما يتفرج به، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح، كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم.
ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها:
أحدها:
الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات1 كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه2 فيأتي بعض الناس فيطرق3 إليه حكما يزعم4 أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلام المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "2/ 406-408، القاعدة التاسعة والخمسون بعد المائة".
2 أي: لا تحوم جهته من الطور، وهو الحوم حول الشيء. "د".
وكتب "م" في الهامش" "يطور: يتجه".
3 أي: يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليه.
4 في "ط": "يزعم فيها أنها".
5 فيكون من باب ما انتفى فيه خاصتان، ومع ذلك؛ فهو مبني على ظني، وربما يستفاد منه أن قوله سابقا: "إلا أنه تخلف عنه خاصة" ليس خاصا بما كان مبنيا على قطعي، وأنه لو كان ظنيا وانتفى فيه خاصة أو أكثر؛ يصح أن يعد من هذا القسم؛ فتأمل. "د".(2/164)
ص -112-…وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ، وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم، ولا دليل لنا عليه1.
والثاني:
تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد؛ فالتزمها المتأخرون بالقصد، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا له، بحيث يتعنى في استخراجها، ويبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل، وإن صحبها العمل؛ لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث، كما في حديث:
"الراحمون يرحمهم الرحمن"2؛ فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالنهي عن اتخاذ التماثيل، يقولون: إن العلة في التحريم خشية أن تجر إلى احترامها، ثم إلى عبادتها؛ لقرب الألف بعبادة الأوثان, فلما أيس الآن من ذلك؛ صار لا مانع مع اتخاذها، فهذا استنباط للعلة بطريق الظن واتباع الهوى. "د".
وعلق "خ" هنا ما نصه: "من هذا الصنف ما يصنعه بعض أصحاب الأهواء حين يريدون التملص من بعض ما نهت عنه الشريعة؛ إذ يقصدون إلى أمر كان واقعا في زمن التشريع، ثم ارتفع، يزعمون من غير بينة أنه علة التحريم؛ ليتسنى لهم القول بالإباحة بناء على قاعدة أن الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما".(2/165)
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، 4/ 323-324/ رقم 1924"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في الرحمة، 4/ 285/ رقم 4941"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، والحميدي في "المسند" "رقم 591"، والبخاري في "التاريخ" "9/ 64"، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" "69"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "775"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 159"، والبيهيق في "الأسماء" =(2/166)
ص -113-…التلميذ من شيخه، فإن سمعه من بعد ما أخذ عنه غيره؛ لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه، [وكذا سائرها؛ غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك وتحسين الظن خاصة]1، وليس2 بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها؛ حتى يُقال: إنه مقصود؛ فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه.
والثالث:
التأنق3 في استخراج الحديث من طُرق كثيرة، لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة، ومن جهات شتى، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "ص423"، والخطيب في "التاريخ" "3/ 260"، وابن أبي الدنيا في "العيال" "1/ 426" من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وحسنه ابن حجر في كتابه "الإمتاع" "ص63"، وذكر تصحيح الترمذي وعلق عليه بقوله: "وكأنه صححه باعتبار المتابعات والشواهد، وإلا؛ فأبو قابوس لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار, ولا يعرف اسمه، ولم يوثقه أحد من المتقدمين".
قلت: وأقوى هذه الشواهد ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}، 13/ 358/ رقم 7376"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، 4/ 1809/ رقم 2319" عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: "من لا يرحم الناس؛ لا يرحمه الله عز وجل".
وما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، 10/ 426/ رقم 5997"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2318" عن أبي هريرة مرفوعا: "من لا يَرْحم؛ لا يُرحَم". وانظر: "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" لابن طولون.
1 زيادة من الأصل المخطوط و"خ" و"م"، وسقطت من "د".
2 فيكون انتفى فيه الخاصتان المنتفيتان في المثال قبله. "د".(2/167)
3 وهو مما انتفى فيه فائدة بناء عمل عليه؛ لأنه ما دام ذلك راجعا إلى كثرة الرواة في بعض طبقاتهم في الحديث لا إلى جميع الطبقات حتى يفيد قوة في الحديث، لا يكون فيه فائدة، ولا ينبني عليه ترجيح للحديث على غيره. "د".(2/168)
ص -114-…كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة، أو التابعين، أو غيرهم؛ فالاشتغال بهذا من الملح، لا من صلب العلم.
خرج أبو عمر ابن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني؛ قال: خرجت حديثا واحدا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق, أو من نحو مائتي طريق -شك الراوي- قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك؛ فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! قد خرجت حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}1 [التكاثر: 1]، هذا ما قال. وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في المقصود منه؛ فصار الزائد على ذلك فضلا.
والرابع: العلوم المأخوذة من الرؤيا، مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة2؛ فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا، فإنها وإن كانت صحيحة؛ فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1988"، وذكرها السلفي في "الوجيز" "93"، وابن رشيد في "ملء العيبة" "3/ 215"، والذهبي في "السير" "16/ 181".
2 الأدلة المعتد بها ما يمكن التوصل إلى تمييز صحيحها من فاسدها، وهي اللفظ المروي أو الاستنباط، والرؤيا لا يمكن تمييز صالحها من باطلها كالإلهامات، ومن ثَم أفتى الفقهاء بأن من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- في المنام وأخبره بأن زوجه طالق عليه، أو أن هذا اليوم من رمضان؛ ألغى العمل على مقتضى الرؤيا، وعول على ما يعرفه في اليقظة "خ".
قلت: وانظر في هذا: "مجموع ابن تيمية" "24/ 376"، و"الاعتصام" "1/ 261-263"، و"مدارج السالكين" "1/ 51"، و"التنكيل" "2/ 242"، وما سيأتي عند المصنف "4/ 470 وما بعدها".(2/169)
ص -115-…الشريعة في مثلها1، كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا، فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح، ولكنه لم نحتج2 به حتى عرضناه على العلم في اليقظة؛ فصار الاستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام، وإنما ذُكرت الرؤيا تأنيسا، وعلى هذا يُحمل ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرؤيا.
والخامس: المسائل التي يُختلف فيها؛ فلا ينبني على الاختلاف فيها فرع عملي، إنما تعد من الملح، كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه3، ويقع كثير منها في سائر العلوم، وفي العربية منها كثير؛ كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر4، ومسألة اللَّهُم5، ومسألة أشياء6، ومسألة الأصل في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مثل هذه الاستدلالات؛ فلم يجعلها الشرع من الأدلة على الأحكام، وإنما جعلها بشارة للمؤمنين مثلا "د".
2 فهذا من باب الظني غير المطرد، ولا ينبني عليه عمل. "د".
3 انظرها: "ص38".
4 ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرعٌ عليه، وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 235"، "شرح الرضى على الكافية" "2/ 178".
5 ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشددة في "اللهمَّ" ليست عوضا من "يا" التي للتنبيه في النداء، وذهب البصريون إلى أنها عوض من "ياء" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم؛ لأنه نداء.
انظر تفصيل المسألة في "الإنصاف" لابن الأنباري "1/ 341"، "لسان العرب" "أ ل ه".
6 ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه "أفْعاء"، والأصل "أفعلاء"، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه "أفعال"، وذهب البصريون إلى أن وزنه "لفعاء"، والأصل "فعلاء".
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف" لابن الأنباري "2/ 812"، "لسان العرب" "ش ي أ".(2/170)
ص -116-…لفظ الاسم1، وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة، ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للاختلاف فيها؛ فهي خارجة عن صلب العلم.
والسادس: الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية، وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم2، وفي بيان مقاماتهم؛ فينتزعون معاني الأشعار، ويضعونها للتخلق بمقتضاها، وهو في الحقيقة من الملح3؛ لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع، وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب, ولذلك اتخذه الوعاظ دَيْدَنا، وأدخلوه في أثناء وعظهم، وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه؛ فالاستشهاد بالمعنى، فإن كان شرعيا؛ فمقبول، وإلا فلا.
والسابع: الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح، بناء على مجرد تحسين الظن، لا زائد عليه؛ فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في كتاب الاجتهاد4، فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يُحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة، وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو وهو العلو.
انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 6"، "لسان العرب" "س م و".
2 ذكروا لمأخذ اسم الصوفية وجوها أقربها أنه نسبة إلى الصوف الذي هو لباس العباد أو إلى آل الصوفة على وجه التشبيه بهم، وهم حي من مضر كانوا يخدمون الكعبة، ويتنسكون كما في "أساس البلاغة" و"القاموس". "خ".
قلت: وهذه المآخذ ليست بصحيحة، والأسقم منها نسبة الصوفية إلى "أهل الصفة"، وقد بينت خطأ ذلك من وجوه أربعة في مقدمة تحقيقي لكتاب السخاوي "رجحان الكفة"؛ فانظره إن أردت الاستزادة، والله الهادي.
3 لأنها ليست قطعية، ولا مبنية على قطعي غالبا، ولا هي مطردة عامة "د".
4 انظر: "5/ 258 وما بعدها".(2/171)
ص -117-…الظن به؛ فهو -عندما يسلم من القوادح1- من هذا القسم؛ لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل، ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله، ولجواز تغيره، فإنما يؤخذ -إن سلم- هذا المأخذ2.
والثامن: كلام أرباب الأحوال3 من أهل الولاية4؛ فإن الاستدلال به من قبيل ما نحن فيه، وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم، حتى أعرضوا عن غيره جملة، فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الاطراح لكل ما سوى الله، وأعربوا عن مقتضاه، وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور، وهم إنما يكلمون به الجمهور، وهو وإن كان حقا؛ ففي رتبته لا مطلقا؛ لأنه يصير -في حق الأكثر- من الحرج أو تكليف ما لا يطاق، بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه، وفي حال دون حال؛ فصار أخذه بإطلاق موقعا في مفسدة، بخلاف أخذه على الجملة؛ فليس على هذا من صلب العلم، وإنما هو من ملحه ومستحسناته.
والتاسع: حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده؛ حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي، كما يحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "الفوادح", بالفاء.
2 انظر في هذا والذي يليه "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 430 و11/ 15".
3 وهو مما انتفى فيه الاطراد، وأخذ كلامهم على الاطراد والإطلاق موقع في مفسدة الحرج أو تكليف ما لا يطاق؛ فالبحث في كلامهم وشرحه من الملح "د".
4 الولي في العرف الشرعي وكلام السلف من صفت بصيرته وامتلأ قلبه وثوقا بالله ثم استقام على السنة الصحيحة والآداب الرفيعة، وبهذا المعنى يفسر الولي في مثل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، والحديث القدسي: "من آذى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب". "خ".(2/172)
ص -118-…عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي, وكان حاضرا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟
قال الفراء: لا شيء عليه.
قال: وكيف؟
قال: لأن التصغير عندنا1 لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك2.
فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف؛ إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر.
فلو جمعهما أصل واحد؛ لم يكن من هذا الباب، كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد.
روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة "عندنا" ليست في "م" و"خ".
2 المحاورة بين الفراء ومحمد بن الحسن موجودة في "تاريخ بغداد" "14/ 151-152"، لكن رواها قبل ذلك "14/ 151" على أن بشرا المريسي هو الذي سأل الفراء.
وذكرها كذلك ابن خلكان في "وفيات الأعيان" "6/ 179"، وكان ذكرها قبل ذلك "3/ 296" في ترجمة الكسائي أنها جرت بينه وبين محمد بن الحسن، ثم قال: "هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع، وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء".(2/173)
ص -119-…له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك.
فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.
فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟
فقال: نحو أم فقه؟
قال: بل فقه.
فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟
قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟
قال: إذا دخلت طلقت.
قال: أخطأت يا أبا يوسف.
فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟
قال: إذا قال "أن"؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: "إن"؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق.
قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471".
والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك.
وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق".(2/174)
ص -120-…فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين.
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر؛ فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها1 ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ: أن أبا العباس بن البناء سئل، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في {هَذَانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟
فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول؛ لم يؤثر العامل في المعمول.
فقال2 السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق, أو كلاما هذا معناه3!
فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العمل.
والقسم الثالث:
وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر4 على أصله أو على غيره بالإبطال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "استسحانها" بتقديم السين الثانية.
2 في "م" و"خ" زيادة: "له".
3 أورد المصنف في "الإفادات" "ص110" هذه القصة وسمى شيخه، وهو المقري.
4 أي: يرجع. "ماء".(2/175)
ص -121-…مما صح كونه من العلوم المعتبرة، والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة؛ فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضا، ولا هو من ملحه؛ لأن الملح هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس؛ إذ ليس يصحبها منفر، ولا هي مما تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة، بخلاف هذا القسم؛ فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه؛ فلشبه عارضة، واشتباه بينه وبين ما قبله، فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء؛ كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص... وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور1 منه صاحبه إلا بالافتضاح2 عند الامتحان، حسبما بينه الغزالي3، وابن العربي4، ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما.
ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما يُنال من الإمام المعصوم، تقليدا لذلك الإمام، واستنادهم -في جملة من دعاويهم- إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرجع، انظر: "مختار الصحاح" "ح و ر"، وبالأصل: "يجوز"، وفي "ط": "يحلا".
2 في "ط": "بافتضاح".
3 انظر: "إحياء علوم الدين" "كتاب العلم، بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة" "1/ 41".
4 انظر: "قانون التأويل" "ص196-197".(2/176)
ص -122-…علم الحروف، وعلم النجوم1، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع؛ فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية2؛ حتى آل3 ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلا عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة4 والمتحكمون5، وكل ذلك ليس له أصل ينبني عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكتب السحر والشعبذة أكبر دليل على ذلك؛ مثل: "شمس المعارف الكبرى" للبوني، و"الرحمة في الطب والحكمة" المنسوب كذبا للسيوطي، و"الجفر" المنسوب كذبا تارة لعلي -رضي الله عنه- وتارة لجعفر الصادق، وغيرها كثير؛ كما بينته في المجلد الأول من "المجموعة الأولى" من كتابي "كتب حذر العلماء منها"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
وقد عالج ابن القيم في كتابه: "مفتاح دار السعادة" هذا الموضوع معالجة وافية.
وأورد في آخره "2/ 148- إلى آخر الكتاب" رسالة في الرد على المنجمين لأبي القاسم عيسى بن علي بن الجراح البغدادي "ت391هـ" كتبها لما بصره الله رشده وأراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال، كتبها نصيحة لبعض إخوانه، وهي نفيسة جدا، ولا سيما مع تعقبات ابن القيم عليها، وانظر تفصيلا عن علم الحروف "مبادئه وأشهر أعلامه" في "علم الحروف وأقطابه" لعبد الحميد حمدان-مكتبة مدبولي، القاهرة، "1410هـ".
2 مبدأ هذا المذهب كما حكى السيد في "شرح المواقف": إن طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أن للقرآن ظاهرا وهو المعلوم في اللغة، وباطنا وهو المراد. "خ".(2/177)
قلت: وكلام ابن تيمية فيهم كثير جدا، انظر منه ما في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 235"، وسيأتي للمصنف كلام بديع حول الظاهر والباطن في "4/ 231 وما بعدها".
3 ساقطة من الأصل المخطوط، وأشار إلى ذلك الناسخ.
4 السفسطة: شعبة من شعب الفلسفة اليونانية نشأت في المائة الخامسة قبل الميلاد، ومن أشهر مؤسسيها "بروتغورس" القائل: كل واحد مخطئ ومصيب في آن واحد؛ لأن الحقيقة تابعة للشعور الوقتي الذي نحس به، وقد تصدى لنقض مغالطاتهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ونشأة هذا المذهب هي التي بعثت أرسطو على وضع علم المنطق "خ".
5 أي: مدعو الحكمة.(2/178)
ص -123-…ولا ثمرة تُجنى منه؛ فلا تعلق به بوجه.
فصل:
وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثاني، ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض؛ كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية مثلا، فيرجع إلى تقريرها مسألةً -كما يقررها النحوي- لا مقدمة مسلمة، ثم يرد مسألته الفقهية إليها، والذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها، فلما لم يفعل ذلك، وأخذ يتكلم فيها, وفي تصحيحها، وضبطها، والاستدلال عليها، كما يفعله النحوي؛ صار الإتيان بذلك فضلا1 غير محتاج إليه، وكذلك إذا افتقر إلى مسألة [عددية؛ فمن حقه أن يأتي بها مسلمة]2 ليفرع عليها في علمه، فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد؛ كان فضلا معدودا من المُلَح إن عُدَّ منها، وهكذا سائر العلوم التي يخدم بعضها بعضا.
ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث، ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على ضد التربية المشروعة، فمثل هذا يوقع في مصائب3، ومن أجلها قال علي, رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يفهمون،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: زيادة غير مغتفر إليها. "م".
2 ساقطة من الأصل.
3 تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في معاهدنا؛ فقتلت أوقاتا نفيسة في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين, وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثوابًا في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجأتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم. "خ".(2/179)
ص -124-…أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"1، وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين، حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب2.
وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يعد من الثالث؛ لأنه أقرب إليه من الأول.
فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مربيا، واحتاج هو إلى عالم يربيه.
ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225/ رقم 127"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 610"، والخطيب في "الجامع" "رقم 1318"، وآدم بن أبي أياس في "العلم"، وأبو نعيم في "المستخرج"؛ كما في "فتح الباري" "1/ 225" بألفاظ مقاربة منها المذكور، وسيأتي "5/ 168" مرفوعا ولا يصح.
2 انظر: "5/ 167".
3 التعصب للمذهب ينشأ عن قصر النظر وعدم التفقه في الأصول العالية، ولهذا نجد المتبحر في علم الكتاب والسنة، المطلع على مذاهب الفقهاء ومداركها؛ يكاد احترامه للمذهب الذي يتبعه لا يزيد على احترامه للمذاهب الأخرى، وذلك لما يبدو له من رجحانها وتفوقها على مذهبه في كثير من المسائل "خ".(2/180)
ص -125-…المقدمة العاشرة:
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1، والدليل على ذلك أمور:
الأول:
أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل؛ لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة؛ لأن الفَرَض أنه حد له حدا، فإذا جاز تعديه؛ صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله.
والثاني:
ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح2، ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع؛ لكان محسنا ومقبحا، هذا خلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة بما لا مزيد عليه في "درء تعارض العقل والنقل"، وكذا في المجلد الأول من "مجموع الفتاوى"، وأيضا فيها "13/ 64 وما بعدها".
وللمصنف كلام رائع في "الاعتصام" "2/ 318-322، 327-334" حيث قسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام، وتكلم عليها بإسهاب.
ولابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 331 وما بعدها و2/ 3 وما بعدها، 47 وما بعدها"، و"الصواعق" "3/ 796 إلى نهاية الجزء الرابع"، و"مختصره" "1/ 129 وما بعدها" كلام مسهب قيم متين في هذا الموضوع.
2 هذه مسألة مشهورة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه، وهي معروفة بمسألة =(2/181)
ص -126-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "التحسين والتقبيح"، ولم ينج المصنف من بعض الآثار السلبية لها، أعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع، ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح*.
وأفضل الكلام على هذه المسألة في هذا الموطن، جامعا الكلام فيها، ولا سيما كلام الشاطبي؛ فأقول: هذه المسألة لها جوانب اتفاق وافتراق بين العلماء.
أما محل الاتفاق؛ فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم لطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع؛ فحسن؛ كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح؛ كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم**.
أما محل الافتراق والتنازع؛ فهو في الحسن والقبح المتعلق بالشرع، بمعنى كون الفعل سببا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، أم يعلم بهما معا***؟ وحاصل أقوال الناس في هذه المسألة على سبيل الإجمال ثلاثة أقوال أساسية، هي:
القول الأول:
وهو قول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، وهو قول عموم الأشاعرة، وحاصل هذا القول: "إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة، وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه الصفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع"****، أي: إنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويقولون: إن ذلك لا يعرف إلا بالشرع فقط، مع أنه "من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما =(2/182)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216".
** انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 308، 309"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 44"، و"مدارج السالكين" "1/ 230"، و"إرشاد الفحول" "7".
*** "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 309".
**** انظر: "درء التعارض" "8/ 492"، ونحوه في "مجموع الفتاوى" "11/ 676-677 و8/ 90"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 5"، و"مدارج السالكين" "1/ 91, 230"، و"شفاء الغليل" "435 وما بعدها".(2/183)
ص -127-…
............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشارع فرق بينهما؛ فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر, وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث، لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية؛ حتى يكون إباحة هذا أو تحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهي المفرق بين المتماثلين..."*.
إلا أن هذا هو مذهب الأشاعرة الذي يصرحون به في كتبهم الاعتقادية والأصولية؛ ففي "المواقف" يقول الإيجي: "القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر"**.
وفي "الإرشاد" "228" للجويني: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما تلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع".(2/184)
وهذا ما ردده الشاطبي هنا؛ فهو يقول: "إن العقل لا يحسن ولا يقبح"، ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وعلى وجه أوضح؛ فيقول "3/ 28": "الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح", وعلى الرغم من مرور الشاطبي على المسألة مرورا سريعا على خلاف ما يفعله المتكلمون والأصوليون؛ فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، قارن كلامه السابق بقول الجويني في "الإرشاد" "ص259": "فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح، فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر؛ فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا، والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما".
واقرأ له قوله الآتي "2/ 534-535": "... كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "مفتاح دار السعادة" "2/ 5".
** "المواقف" "323"، وانظر: "إتحاف المريد" "32-33"، و"الاقتصاد في الاعتقاد" "102-110" للغزالي، و"أصول الدين" "262-263" للبغدادي، و"أصول الدين" للرازي "92-94".(2/185)
ص -128-…
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما؛ فهو الواضع لها مصلحة، وإلا؛ فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء العقل فيها بحسن ولا قبح، فإذًا؛ كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس".
وهذا بالضبط هو كلام الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة، ولهذا القول لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها، منها كما يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 42-52": إنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وإنه ليس بقبيح، وإنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وإنه لا يقبح منه، وإنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع، وإنه لا يقبح الشرك ولا عبادة الأصنام، ولا مسبة المعبود سبحانه، وإنه لا يقبح الزواج بالأم والبنت، وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط.
وهذه كلها لوازم فاسدة تدل على فساد الملزوم، بل ويلزم على قولهم هذا أنه يصح أن يأمر الله بالشرك؛ فلا يكون قبيحا، وبالزنى والسرقة والظلم وسائر المنكرات؛ فلا يكون ذلك قبيحا، ويجوز عندهم أن ينهى سبحانه عن التوحيد والعفة والصدق والعدل؛ فتكون هذه كلها قبيحة، كما قال الإيجي في "المواقف" "323": "ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر".
القول الثاني:(2/186)
وهو مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في التفصيلات، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وهذا القول يقع في مقابل القول الأول؛ إذ الحسن والقبح عند هؤلاء عقليان، لا يتوقف في معرفتهما وأخذهما عن الدليل السمعي، ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية للفعل لازمة له، ويجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات، ترى تفصيل ذلك في "مجموع الفتاوى" "8/ 431 و11/ 677"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492"، و"مدارج السالكين" "1/ 238"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 8، 39، 105"، و"شرح الأصول الخمسة" "41، 46"، و"سلم الوصول شرح نهاية السؤل" "1/ 83"، و"إرشاد الفحول" "7".
ورتب المعتزلة على هذا الأصل أمورا عديدة، منها: أن القبح في العقل يترتب عليه الذم والعقاب في الشرع، والحسن في العقل يترتب عليه المدح والثواب في الشرع، وأن الله -سبحانه وتعالى- يجب عليه أن يفعل ما استحسنه العقل ويحرم عليه أن يفعل ما استقبحه العقل، وأن =(2/187)
ص -129-…
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به فقط؛ كالصدق، والعفة، والإحسان، والعدل؛ فإن مصالحها ناشئة منها، وغير ذلك من الأمور المترتبة على هذا الأصل الفاسد واللوازم الملازمة له، كما بينه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 59-60 و105".
القول الثالث:
هو القول الوسط بين هاتين الطائفتين، والطريق القاصد بين الطريقين الجائرين, إذ قال أصحابه, كما في "مفتاح دار السعادة" "2/ 57": "ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه؛ فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم, لبنا خالصا سائغا للشاربين".
وحاصل هذا القول:
أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم.
وهذا هو قول عامة السلف وأكثر المسلمين؛ كما في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 677"، وأهل هذا القول يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم بالثواب والعقاب والأمر والنهي في الفعل إلا جهة الوحي، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة، وأن الله لا يعذبهم قبل بعثة الرسل، ولا يطالبهم إلا بما بلغهم من أمر، ولا يعاقبهم إلا على ارتكاب ما نهاهم عنه.(2/188)
ويوافقون المعتزلة في أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه، وأن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر، والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، ويوافقونهم في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة.
ومن الجدير بالذكر أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد لا يعني أن إدراكه تام مطلق، بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ... وقد بين ابن القيم هذه النقطة؛ فقال في "مفتاح دار =(2/189)
ص -130-…
............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السعادة" "2/ 117": "... بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله أو قبحه؛ فيدركه العقل جملة، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما؛ فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه.
فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي الشرائع بتقريره، وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه، وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك؛ فتأتي الشرائع ببيانه؛ فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل؛ فلا تعلم إلا بالشرع؛ كالجهاد والقتل في الله، ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة، هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك؛ فالحاجة إلى الرسل ضرورية، بل هي فوق كل حاجة؛ فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين, صلوات الله عليهم أجمعين...".
وقد تعرض الشاطبي مرارا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، ترى ذلك في "الاعتصام" "2/ 321-322"، وكما سيأتي "ص537 و2/ 77 و3/ 210".(2/190)
انظر بسط المسألة في: "مفتاح دار السعادة" "2/ 2-118"، و"مدارج السالكين" "1/ 230-257، 91 و3/ 407، 488، 492"، و"شفاء الغليل" "435"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 91 و428-432 و3/ 114-115 و11/ 675-687 و75/ 8 و16/ 235-363"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492-493"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 300، 322"، و"لوامع الأنوار" "1/ 284-291"، و"روح المعاني" "14/ 94 و15/ 37-42"، و"تيسير التحرير" "1/ 283-387", و"حقيقة البدعة وأحكامها" "2/ 127-133"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216-229".(2/191)
ص -131-…والثالث:
أنه لو كان كذلك؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل، وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا؛ في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته، فإن جاز للعقل تعدي حد واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله؛ أي: ليس هذا الحد بصحيح، وإن جاز إبطال واحد؛ جاز إبطال السائر، وهذا لا يقول به أحد لظهور مُحاله.
فإن قيل: هذا مشكل؛ من أوجه:
الأول:
أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية1؛ لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه.
والثاني:
أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، و{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وهو نقص من مقتضى العموم؛ فلتجز الزيادة لأنها بمعناه2، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوزة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم أصحاب داود بن علي الأصفهاني، ولكن الذي صح عن داود أنه يحتج بالقياس الجلي وينكر القياس الخفي فقط، والذي أنكر القياس مطلقا -خفيه، وجليه- طائفة من أصحابه زعيمهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي "خ".
2 في أن كلا منهما تصرف، ومن له النقص له الزيادة، هكذا يفهم هذا الاستدلال مجملا حتى يكون للدليل بعده فائدة جديدة، وهي أنهم* يشتركان في المعنى الخاص المطلوب بناء الإشكال عليه في قوله، ولما لم يعد... إلخ؛ إلا أن تكون الواو في قوله: ولإن زائدة في النسخ، ثم يبقى النظر في أن أصل الدعوى هي تعدي حد الشرع وإبطاله بالعقل، سواء في ذلك النقص =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "أنها".(2/192)
ص -132-…له؛ فكلاهما إبطال للحد على زعمك، فإذا جاز إبطاله مع النقص؛ جاز مع الزيادة، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد؛ فلا يعد الآخر.
والثالث:
أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص؛ صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثلوا ذلك بقوله, عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"1؛ فمنعوا -لأجل معنى التشويش2- القضاء مع جميع المشوشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب؛ فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف، وذلك خلاف ما أصلت, وبالجملة؛ فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه.
فالجواب: أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والزيادة، وعليه؛ فكان المفهوم أنه يجعل نفس النقص مما يقتضيه العموم تعديا أيضا يعترض به، ويقول: إن ما أصلته هنا ينافيه أصل آخر، وهو تخصيص العقل؛ لأنه نقص, ثم يبني على تخصيص العقل، وكونه نقصا مما حده الشرع، الإشكال بالزيادة على الطريق الذي قرره كما راعى الإشكال بالزيادة والنقص في الإشكال الثالث، وقد وجه همته في الجواب عن الإشكال الثاني إلى طرف النقص فأبطله، ثم قال: "فلا يصح قياس المجاوزة عليه"، وهو يقتضي أنه راعى الاعتراض بالنقص مدرجا في قوله: "وهو نقص" يعني، وهذا إشكال، ثم أخذه مقدمة؛ فقال: فلتجز الزيادة". "د".
1 سيأتي تخريجه "ص411"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.(2/193)
2 أنكر هذه الكلمة جماعة من علماء اللغة؛ كأبي منصور، والحريري، وصاحب القاموس، وقالوا: إنها مولدة وصوابها التهويش، ومن المتأخرين من أجاز استعمالها وثوقا بذكر الجوهري لها في "صحاحه"؛ إذ هو مثبت فيقدم على النافي والمتحري للعربية الفصحى لا يكفيه في صحة الكلمة متى أنكرها طائفة من أئمة اللغة ولم يظفر لها بشاهد صحيح أن ترد في كتاب "الصحاح" الذي تركه مؤلفه في المسودة حتى يبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق، وتسربت فيه أغلاط كثيرة. "خ".(2/194)
ص -133-…أما الأول:
فليس القياس1 من تصرفات العقول محضا، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس، فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع، وأمر بها، ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمل بها؛ فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مهتدٍ فيه بالأدلة الشرعية، يجري بمقدار ما أجرته، ويقف حيث وقفته.
وأما الثاني:
فسيأتي في باب العموم والخصوص2 إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص3، وإن سلم أنها تخصص؛ فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب، بأدلة شرعية دلت على ذلك؛ فالعقل مثله، فقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته؛ لأن ذلك محال4, بل المراد جميع ما عدا ذلك؛ فلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل لتأخذ جواب أصل الإشكال الأول؛ لأنه أوسع من إنكار القياس الذي تصدى للجواب عنه صراحة، أي؛ فالعقل تابع للأدلة وخادم لها، وهو ما ندعيه. "د".
2 انظر: "4/ 44".
3 ادعى المصنف فيما يأتي أن الشارع نقل ألفاظ العموم عن مدلولاتها اللغوية إلى معانٍ أخر، وصار له في هذه العمومات عرف يخالف عرف اللغة؛ فيكون العام الذي يراه الأصوليون مخصوصا بمنفصل مستعملا عنده في المراد منه فقط، وبهذا يخرج عن العام الذي دخله التخصيص، وستطلع إن شاء الله تعالى على ما يطعن في هذه الدعوى. "خ".(2/195)
4 ودل الاستقراء للشريعة على أنها لا تصادم العقل بقلب الحقائق، وجعل المحال جائزا أو واجبا، وبذلك يكون العقل آخذا تصرفه في التخصيص من النقل وتحت نظره، أما مجرد قياس العقل على الأدلة الشرعية بدون هذه المقدمة؛ فإنه تسليم للإشكال، ونقض للأصل الذي أصله في المسألة؛ فتأمل. "د".(2/196)
ص -134-…يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه، وإذا كان كذلك؛ لم يصح قياس المجاورة1 عليه.
وأما الثالث:
فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير؛ فليس من تحكيم العقل، بل من فهم معنى التشويش، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب.
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى، وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ، لكن خصصه المعنى.
والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص؛ فإن لفظ غضبان وزنه فعلان، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه؛ فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا؛ كريان في الممتلئ ريًّا، وعطشان في الممتلئ عطشا، وأشباه ذلك، لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه2، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا؛ حتى كأنه قال: لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب، أو ممتلئ من الغضب، وهذا هو المشوش، فخرج المعنى عن كونه مخصصا، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ، لا بحكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة "المجاوزة" بالزاي.
2 ممن صرح بهذا المعنى عز الدين ابن جماعة؛ فقال في "كشف المعاني" "ص85" موجها تقديم الرحمن على الرحيم في البسملة: إن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمه والامتلاء منه، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، ونومان، وصيغة فعيل لدوام الصفة ككريم، وظريف؛ فمعنى الرحمن الرحيم: العظيم الرحمة، الدائمها.
قلت: انظر: "نظم الدرر" "1/ 26" للبقاعي.(2/197)
ص -135-…المعنى، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش؛ فلا تجاوز للعقل إذًا.
وعلى كل تقدير؛ فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم.(2/198)
ص -137-…المقدمة الحادية عشرة:
لما ثبت أن العلم المعتبر1 شرعا هو ما ينبني عليه عمل؛ صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته؛ فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة، وهذا ظاهر؛ غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت؛ انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية، حسبما يأتي إن شاء الله2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إن المعتبر من العلم هو الذي دل عليه أدلة الشرع حال كونها تستقل -أي: تثبت- بحصر أي بعد، وحيث تحصر عند أحد؛ فإن العلم يحصر عنده بكل مدرك من مداركه" "ماء".
2 انظر: "3/ 165 وما بعد".(2/199)
ص -139-…المقدمة الثانية عشرة:
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين1 به على الكمال والتمام.
وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا؛ غير أن ما علمه من ذلك على ضربين:
ضرب منها ضروري2، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا -هذا من المحسوسات، وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان- من جملة المعقولات.
وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أو لا؛ كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يأتي شرح التحقق "ص140 وما بعدها".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-139".(2/200)
ص -140-…وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر؛ فلا بد من معلم فيها، وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟ فالإمكان مسلم، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل؛ كاختلاف جمهور الأمة والإمامية -وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك؛ فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم، علما كان المعلم أو عملا، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع، وجريان العادة به كافٍ في أنه لا بد منه، وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛ إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم، وأصل هذا في الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء"1 الحديث، فإذا كان كذلك؛ فالرجال هم مفاتحه بلا شك.
فإذا تقرر هذا؛ فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال.
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97"، وهو في "الصحيحين".(2/201)
ص -141-…وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، وربما تصور تفريعها على أصول1 مختلفة في العلم الواحد فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه، وهي في نفس الأمر على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح, وأشباه ذلك؛ فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به، فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص.
فصل:
وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر2، وهي ثلاث:
إحداها:
العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد3، والحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر صورا ثلاثا: إحداها فرع ينبني على فرع مبني على أصل؛ فيفهم أن كلا من الفرعين له أصل خاص به، فيشكل عليه الأمر، فيهمل الاستنباط ويقف، وقد لا يهتدي في بعض الفروع إلى أصل يرجعها إليه؛ فيقف ويهمل الاستنباط، وقد يكون الفرع من المشتبه بأصلين، ويذهب عن العالم الأرجح من وجوه الترجيح، فيأخذ بالمرجوح في الواقع أو يقف، والتمثيل للثلاثة لا يخفى عليك، وكلها لا تضر في كونه إماما؛ فقد توقف مالك كثيرا، ورجع عما ترجح عنده أولا كثيرا لأحد الأسباب السالفة "د".
2 لأن بعضها سبب للتحقق بالعلم وهي الثانية، وبعضها مرتب عليه وهي الأولى؛ فهي تتفق مع الشروط المتقدمة، من حيث حصول كل وإن اختلفت في الاعتبار. "د".
3 انظر: "5/ 262".(2/202)
ص -142-…والثانية:
أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم1 فهموا مغزى ما أراد به أولا2 حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال: "بلى".
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: "بلى".
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال: "يابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل قوله: "فهم" زائد أو محرف عن لفظ منه، وعليه يتعين أن يكون الشاهد في قصة عمر بدليل سائر المقدمات التي منها قوله، وفيه قال سهل بن حنيف. وقوله: والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال، وقوله: ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم... إلخ، وبه ينتظم المقام كله, ويأخذ بعضه بحجز بعض؛ فالأمر لم يشكل على أبي بكر، بل على عمر، ولكنه صبر حتى لاح البرهان "د".
2 في "م": "أولا"! ولا وجود لها في الأصل.(2/203)
ص -143-…فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع1.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس! اتهموا رأيكم، والله؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل2 ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"3، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3182، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785", وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 222"، وعنده: "فطابت نفسه، ورجع"، وفي سائر النسخ: "ولم يضيعني" في الموطنين والمثبت من "ط".
2 سمي يوم الحديبية يوم [أبي] جندل؛ إذ لم يقع في ذلك اليوم أشد على المسلمين من قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو؛ إذ جاء يوسف في قيوده فارا من مشركي قريش، ورده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيه سهل وفاء بما شرطوه في عقد الصلح من أن يرد عليهم من يأتيه منهم وإن كان على دين الإسلام. "خ".(2/204)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3181، وكتاب المغازي، [باب] غزوة الحديبية، 7/ 457/ رقم 4189، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، 8/ 587/ رقم 4844، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 13/ 282/ رقم 7307"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785"، وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والحميدي في "المسند" "رقم 404"، والبيهقي في "السنن" "9/ 222".
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".(2/205)
ص -144-…الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة1 إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري2، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه3، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".
2 هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، كان شافعي المذهب ثم صار ظاهريا، وبلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة؛ فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه؛ فكان يرمي بشرر من عبارات الازدراء والغضاضة من شأن أئمة السلف، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة؛ فنهضوا في وجهه ودارت بينه وبينهم المناظرات حتى امتدت إليه يد الدولة وأبعدته عن وطنه، وتوفي بالبادية رحمه الله سنة "456". "خ".(2/206)
3 أخص من الأمارة الأولى؛ لأن الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه بعض العمل بما علم، وقد يؤخذ من وصفه لمالك بميزته عن أضرابه المجتهدين في هذه الأمارة، أنه لا يلزم من العمل بما علم أن يكون مقتديا بمن أخذ عنه، بل يغلب عليه العمل بما يراه باجتهاده، وإن لم يظهر عليه التأسي بنوع آداب أستاذه؛ تكون أمارة مستقلة. "د".(2/207)
ص -145-…الوصف امتاز مالك عن أضرابه -أعني: بشدة الاتصاف به- وإلا؛ فالجميع ممن يهتدى به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما ترك هذا الوصف؛ رفعت البدع رءوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى1.
فصل:
وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما:
المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين2:
الأول:
خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة, وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: "إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3، وحديث حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثانية من الطرف الثاني من الاجتهاد.
2 لم يذكر إلا وجها واحدا؛ فتأمل.
3 وقع نحوه وما يفيده؛ ففي "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذ أدرج في أكفانه/ رقم 1242" بسنده إلى عمر بن الخطاب؛ قال: "والله؛ ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 44]- فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.(2/208)
وأخرجه بلفظ المصنف عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2387"، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" "6/ 89"، وتتمته: "وكيف لا ننكر أنفسنا والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]".(2/209)
ص -146-…رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها"1.
وقد قال عُمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث"2، وهي من فوائد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، 4/ 2106-2107/ رقم 2750"، وأحمد في "المسند" "4/ 346" عن حنظلة الأسيدي، بلفظ: "والذي نفسي بيده؛ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". واللفظ المذكور عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1345"، وأحمد في "المسند" "4/ 346"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2452".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، 8/ 168/ رقم 4483, وباب في سورة الأحزاب, 8/ 527/ رقم 4790, وباب في سورة التحريم, 8/ 660/ 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه- 4/ 1865/ رقم 2399"، والنسائي في "التفسير" "الأرقام 18، 435، 623"، والترمذي في "الجامع" "4/ 69"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 322/ رقم 1009"، وأحمد في "المسند" "1/ 23-24، 36"، والدارمي في "السنن" "2/ 44" من قول عمر, رضي الله عنه.
وقد جمع موافقات عمر وتكلم عليها في رسالة مفردة السيوطي في "قطف الثمر"، وهي =(2/210)
ص -147-…مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك1؛ فقيل له: فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخِيفَ على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني:
مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول:
أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: "كان العلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوى"، واعتنى بها عناية جيدة ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وذكر طرفا منها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص97 وما بعدها، ترجمة عمر".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "بيان الثلاث في بقية هذا الأثر المروي في "صحيح البخاري"، وهي آية الحجاب، وآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، ولا بدع أن ينطق الفاروق بما يوافق الوحي؛ فإن الشرائع تنزل لبيان الحقائق والإرشاد إلى المصالح، وكثير من القضايا والوقائع لا يلتبس على ذوي البصائر النقية والمدارك الراقية وجه كونها حقا أو مصلحة".
1 كان يكره الكتابة، ويقول: "لا تكتبوا "يعني ما يفتيهم به"؛ فلعله يتغير رأيي، فتذهب الكتابة إلى الأقطار قبل أن يستقر الحكم؛ فيحصل للناس بذلك ضرر، وإلا؛ فقد دون "الموطأ". "د". قلت: وانظر ما سيأتي "5/ 332".(2/211)
ص -148-…في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال"، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر1: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد2 به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر.
أما التجربة3؛ فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "والشرط الثاني"، وما أثبتناه في الأصل المخطوط.
2 أي: أثبت. "ماء".
3 قال أبو عبيدة: خاطب الشاطبي بعض مستفتيه؛ فقال في "فتاويه" "120-122": "... ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة؛ فلم يكن ذلك مني -بحمد الله- محض رأيي، ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة".
وقد بين الونشريسي -رحمه الله تعالى- في "المعيار العرب" "11/ 142" ما أبهمه المصنف؛ فقال: "العبارة الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: أفسدوا الفقه".
ونقل السراج في "الحلل السندسية" "1/ 2/ 665" عن الشيخ أحمد بابا توضيحا لوجه الفساد المذكور؛ فقال: "كأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل من "وجيز الغزالي" في المذهب مع مخالفتهما له، كما نبه عليها الناس، والأول بنى فروعا على قواعد أصولية وأدخلها في المذهب كذلك، ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد الأصول".(2/212)
وفي "الحلل السندسية" "1/ 3/ 656" و"سلوة الأنفاس" "3/ 245" ذكر لمحاورة جرت بين أبي العباس أحمد بن قاسم القباب "ت حوالي سنة 779هـ" وابن عرفة، وكان قد شرع آنذاك في تأليفه؛ فقال له القباب: "ما صنعت شيئا. فقال ابن عرفة: ولم؟ قال: لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي".(2/213)
ص -149-…الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري؛ فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر؛ ففي الحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك، وروي عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض"2، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب فضائل أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 7/ 3/ رقم 3651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1962/ رقم 2533" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بلفظ: "خير الناس...".(2/214)
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم 237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه: "وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ.(2/215)
ص -150-…شيء1، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق.
وعن ابن مسعود؛ أنه قال: "ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخضب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم2؛ فيهدم الإسلام ويثلم"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانظر في ترجيح فعل السلف المتقدمين على غيرهم: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4، 9، 10، 23، 157 و5/ 1-11 و11/ 366-373".
2 يطلق القياس في سياق الذم مضافا إلى الرأي، وإنما يراد به القياس الباطل، وهو ما لم يتحقق فيه شروط الصحة؛ كأن يكون مخالفا لنص، أو لا يقوم بجانبه دليل يشهد بأن المعنى المشترك بين صورتي المقيس والمقيس عليه هو العلة في تقرير الحكم المنصوص عليه. "خ".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 65"، والفسوي في "المعرفة" "3/ 393"، وابن أبي زمنين في "السنة" "10"، وابن وضاح في "البدع" "ص33"، والطبراني في "الكبير" "9/ 109"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 182"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 205"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2007، 2008، 2009، 2010"، والهروي في "ذم الكلام" "ق 37/ أ" من طرق مدارها على مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود به.
وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 180":
"وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، ومع هذا؛ فقد جوده ابن حجر في "فتح الباري" "13/ 20".
نعم، هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، أفاده ابن حجر أيضا "13/ 21".
وأوله محفوظ في حديث أنس مرفوعا.(2/216)
أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، 13/ 19-20/ رقم 7068"، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي؛ قال: "أتينا أنس بن مالك؛ فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج؛ فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم, صلى الله عليه وسلم".(2/217)
ص -151-…ومعناه موجود في "الصحيح" في قوله: "ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيَضلون ويُضلون"1.
وقال عليه السلام: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء". قيل: من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل".
وفي رواية: قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون عند فساد الناس"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص97".
2 الحديث دون ذكر "من هم الغرباء" أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، 1/ 130/ رقم 415" من حديث أبي هريرة وابن عمر, رضي الله عنهم.
وأخرجه مع تفسيرهم بـ"النزاع من القبائل" الترمذي في "العلل الكبير" "2/ 854"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1320/ رقم 3988"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 236" -ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 398"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 4975"، والآجري في "الغرباء" "رقم 2"، وابن وضاح في "البدع" "ص65"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 174-175"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 64"، وابن حزم في "الإحكام" "8/ 37"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 298"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 208".
وقال البخاري, كما نقل عنه الترمذي في "العلل": "وهو حديث حسن"، وصححه البغوي. وأخرجه مع تفسيرهم بـ"الذين يصلحون عند فساد الناس": الداني في "السنن الواردة في الفتن" "رقم 288"، والآجري "رقم 1" من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح.
وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 184"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 99/ رقم 756"، والبزار في "المسند" "رقم 56- مسند سعد" -دون زيادة- والدورقي في "مسند سعد" "رقم 87"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 424"، والداني في "الفتن" "رقم 290" بإسناد صحيح.(2/218)
ص -152-…وعن أبي إدريس الخولاني: "إن للإسلام عُرًى يتعلق الناس بها، وإنها تمتلخ عروة عروة"1.
وعن بعضهم: "تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة"2.
وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الآية [النصر: 1],
ثم قال: "والذي نفسي بيده؛ ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 174-ط عمرو سليم، ورقم 190-ط بدر" بسند ضعيف فيه نعيم بن حماد.
2 القائل هو عبد الله بن محيريز، وأسند هذه المقولة عنه الدارمي في "السنن" "رقم 98"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 93"، وابن وضاح في "البدع" "ص66"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 226"، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 144"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص12".
3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 41"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 496"، والداني في "الفتن" "رقم 417" مرفوعا -وليس موقوفا كما ذكر المصنف- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: تلا رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...} وذكره، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي.
قلت: وفيه أبو قرة -وتصحف في جميع مصادر التخريج إلى "فروة"؛ فليصحح- مولى أبي جهل، ترجمه ابن أبي حاتم "9/ 428" ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكذا ابن عبد البر في "الاستغناء" "3/ 1516"، ثم ظفرت به موقوفا عند ابن وضاح في "البدع" "رقم 199-ط بدر"، وفيه: "قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة" "وذكره".
وهذا إسناد ضعيف لإعضاله، وسقط سنده ومتن الأثر الذي قبله في "ط عمرو عبد المنعم" وهو فيه برقم "182".(2/219)
وله شاهد عن جابر بن عبد الله مرفوعا، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 343"، والداني في "الفتن" "رقم 420"، وابن بطة في "الإبانة" "137"، والثعلبي في "تفسيره" -كما في "تفسير القرطبي" "20/ 231"- وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "8/ 664"- عن جار لجابر عنه، وسنده ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 281": "رواه أحمد، و[جار] جابر لم أعرفه".(2/220)
ص -153-…وعن عبد الله؛ قال: "أتدرون كيف ينقص الإسلام؟". قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سِمَن الدابة. فقال عبد الله: "ذلك منه"1.
ولما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3]، بكى عمر؛ فقال عليه السلام [له]2: "ما يبكيك؟" قال: يا رسول الله! إنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل؛ فلم يكمل شيء قط إلا نقص. فقال عليه السلام: "صدقت"3.
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك.
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة4، الذي هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 201-ط بدر، ورقم 184-ط عمرو". وإسناده صحيح.
2 ساقطة من الأصل.
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140-ط دار الفكر"، وابن جرير في "التفسير" "6/ 52"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154"، وابن وضاح في "البدع" "رقم 202" بإسناد ضعيف، وهو منقطع.
قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 14": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا".
قلت: ومضى تخريجه قريبا.
4 كتب المتقدمين في العلوم الإسلامية مقاصد كانت أو وسائل هي أحكم صنعا وأشد صلة بروح الموضوع من كتب المتأخرين، ولا سيما منذ أصبحت سوق الاختصار نافقة، وقد صرح المصنف في مراسلة دارت بينه وبين بعض أصحابه في هذا الغرض بأنه يعني بالمتأخرين من الفقهاء مثل ابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهما. "خ".(2/221)
ص -154-…العروة الوثقى، والوَزَر الأحمى1، وبالله تعالى التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوزر: الملجأ. والأحمى: الممنوع. انظر: "لسان العرب" "و ز ر"، و"ح م".(2/222)
ص -155-…المقدمة الثالثة عشرة:
كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل؛ فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرى؛ فذلك الأصل صحيح، وإلا؛ فلا.
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبية أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف؛ فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه، وإلا؛ لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه، وذلك فاسد؛ لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله: أنه قد تبين في أصول الدين1 امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يُطاق، وألحق2 به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد، فإذًا؛ كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "الأصول الدينية".
2 في الأصل و"ط": "لحق".(2/223)
ص -156-…ولا قاعدة يستند إليها.
ويقع ذلك في فهم الأقوال، ومجاري1 الأساليب، والدخول في الأعمال.
فأما فهم الأقوال؛ فمثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، إن حُمل على أنه إخبار؛ لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي؛ فعليه يجب أن يُحمل2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معطوف على الأقوال، والأول معناه أن القول في ذاته بقطع النظر عن أقوال أخرى سبقته أو لحقته يختلف الفهم فيه بين صحيح وغيره، أما الفهم في مجاري الأساليب؛ فإنه ينظر فيه إلى أن فهمه على صحته يقتضي التوفيق بين المساق جميعه وعدم مخالفته السابق واللاحق. "د".
2 كتب بعض الفضلاء* في التعليق على هذا الموضع أنه: "يجوز بقاء الآية على معنى الخبر، ويكون المراد من المؤمنين: جماعة المسلمين العاملين بما يقتضيه الإيمان الراسخ؛ من الاستعداد، والاتحاد، والثبات"، وقال: "إن التاريخ يشهد بأن المسلمين لا يغلبون على أمرهم ما داموا كذلك"**.
ولكن هذا يقتضي أمورا قد لا تسلم؛ منها أنهم يعطون من ذلك ما لم يعطه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حياته، وأنت تعلم ما حصل لهم في مكة، وانفرادهم في شعب أبي طالب، وإذلال الكثير منهم، وهجرتهم إلى الحبشة، وغيرها.
ومنها: أن تاريخ الحروب الصليبية -وكان في عز الإسلام واستمر قرونا- كان الأمر فيه تارة للمسلمين وتارة عليهم بأخذ بلادهم، والاستيلاء على بيت المقدس، وانكماش دولتهم، وآية: =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو الشيخ محمد الخضر حسين, رحمه الله تعالى.(2/224)
** ونص عبارته الثانية: "والتاريخ الصادق يشهد بأن الممالك الإسلامية لا تزال تتمتع باستقلالها آمنة من أن يغلبها العدو على أمرها وينشب مخالبه في مقاتلها؛ إلا حيث ينفضون أيديهم من وسائل الدفاع، أو يسري بينهم داء التفرق، أو يخالط قلوبهم الفزع واليأس". "خ".(2/225)
ص -157-…ومثله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، إن حُمل على أنه تقرير حكم شرعي؛ استمر وحصلت الفائدة، وإن حُمل على أنه إخبار بشأن الوالدات؛ لم تتحكم فيه فائدة زائدة1 على ما عُلم قبل الآية.
وأما مجاري الأساليب؛ فمثل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إلخ [المائدة: 93].
فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}... [النور: 55] لا تدل على المعنى الذي يراد تحميله لهذه الآية، وما في هذه الآية الأخيرة قد أعطيه -عليه السلام- وأصحابه في حياته وبعد وفاته والمسلمون بعدهم؛ لأن تمكين الدين وتبديل الخوف أمنا لا يلزمه كل ما يراد من الآية الأولى باعتبار المعنى الذي يراد تحميلها إياه، وأنت ترى أن آية الوعد قيدت الإيمان بعمل الصالحات؛ بخلاف الآية المذكورة؛ فليس فيها إلا مجرد الإيمان المقابل للكفر، على خلاف آيات الوعد في القرآن؛ فإنها مقيدة بعمل الصالحات، ولا يخفى أن مجرد الإيمان كاف في تطبيق حكم أنه لا يتولى الكافر شئون المسلم في العقود وغيرها؛ فيكون هو الذي ينبغي تنزيل الآية عليه "د".(2/226)
1 لم يقل: "لم يستمر"؛ لأن الاستمرار حاصل على كلا الفهمين، غايته أنه على الفهم الثاني لم توجد فيه فائدة زائدة؛ لأنه يكون مجرد إخبار بمجرى العادة المعروفة للناس بدون هذه الآية، فلتحقق الفائدة يلزم أن يكون إنشاء لتقرير ما جرت به العادة حكما شرعيا يرجع إليه في تقرير النفقات وغيرها؛ إلا أنه يبقى الكلام في التمثيل به لما ذكره؛ فإنه بصدد التمثيل لما يقتضي تخلف خبر الله ورسوله، أو لما يلزم عليه تكليف بما لا يطاق، أو بما فيه حرج زائد عن المعتاد، وليس في هذا واحد من هذه الثلاثة، بل شيء آخر، وهو أنه لم يفد فائدة جديدة، فلو زاد على الأمور الثلاثة أنه يلزم في خبر الله ورسوله أن يفيد فائدة جديدة؛ لم تكن معروفة، ثم فرع عليه هذا المثال لكان ظاهرا "د".
2 لأن آية تحريم الخمر السابقة في نفس الموضوع تقتضي تحريم الخمر نصا، وهذا =(2/227)
ص -158-…الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر؛ قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93]، فكان هذا نقضا للتحريم، فاجتمع الإذن والنهي معا؛ فلا يمكن للمكلف امتثال.
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر، وقال له: "إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله"1.
إذ لا يصح أن يقال للمكلف: "اجتنب كذا"، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا، ثم يقال: "فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الظاهر ينافيها؛ فلا ينتظم السياق إلا بعدم دخول الخمر في العموم الظاهر؛ لئلا يلزم نقض التحريم، واجتماع النهي والإذن؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق فضلا عن إهمال السبب في النزول، وهو أنهم قالوا لما نزل تحريم الخمر: "كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟". فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يعني: ليس عليهم وزر لأنهم آمنوا واتقوا وما تعدوا ولا فعلوا ذلك بعد التحريم، وفضلا أيضا عن معارضة النص بالظاهر، ومعلوم أن النص هوالمقدم، ويكفي للتمثيل بالآية أن يكون فيها عدم جريان الفهم في الأسلوب، وإن كان هناك أسباب أخرى، كما أشار إليه بقوله: "مع إهمال السبب"، وبقوله: "بعد"، وأيضا؛ فإن الله أخبر، وكما أشرنا إليه في تقديم النص على الظاهر وتخصيص النص له. "د".
1 أي: ومنه الخمر التي تقتضي صحة الأسلوب تقرير حرمته، ولما كان هذا ضمن الوجوه التي يصح أن يني عمر عليها أن التقوى لا تكون إلا باجتنابها لتقرر تحريمها وعدم دخولها في هذا الظاهر؛ قال: "ومن هنا"، ولم يجزم فيقول: "ولذلك قال عمر"؛ فتأمل "د".(2/228)
قلت: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة "9/ 546"، وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 174"، وسيأتي عند المصنف بأطول من هذا "ص272"، وأفاد هناك أنه عند القاضي إسماعيل في "الأحكام" وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-844"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 154".(2/229)
ص -159-…وأيضا؛ فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي1 لقوله:
{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]؛ فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت؛ لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يُطاق.
وأما الدخول في الأعمال؛ فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج2 أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص، إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا.
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية؛ لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين.
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من حيث الكمال؛ كما يفيده كلامه "د".
2 تقتضي قاعدتا تعيين قدر المبيع في البيع وتحديد مدة الانتفاع بالمحل في الإجارة أن لا يجوز الدخول للحمام إلا بشرط تحديد مدة المكث به، وبيان مقدار ما يستعمل من الماء، ولكن وقع استثناء هذه المسألة وأعطيت حكم الإباحة بإطلاق لما في تقدير الماء المستعمل في الحمام، وتحديد مدة المقام به من المشقة القاضية بالرخصة والتيسير. "خ".(2/230)
3 أفاد التنبكي في "نيل الابتهاج" "ص48" أن الشاطبي "تكلم مع كثير من الأئمة في =(2/231)
ص -160-…إحداهما: أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب1 في فصل يتضمن "ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه، والشغل به"، فقال فيه: "وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته؛ فرغ سره منه، بالخروج عنه، ولو كان يُساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون".
فاستشكلت هذا الكلام، وكتبت إليه بأن قلت2: أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه؛ فصحيح، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب؛ فلا أدري ما هذا الوجوب؟ ولو كان واجبا بإطلاق؛ لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم، وديارهم، وقُراهم، وأزواجهم، وذرياتهم، وغير ذلك3 مما يقع لهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم؛ كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد؛ فجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها"، وأفاد ناسخ الأصل كما سيأتي أن ابن عرفة كتب للشاطبي في مسألة "مراعاة الخلاف"، ونقل عن "نوازل البرزالي" ذلك.
قلت: وفي "المعيار المعرب" "6/ 387" ما يدل عليه وعلى أن أبا العباس القباب باحثه في ذلك، ثم وجدت في "الاعتصام" "2/ 146" قوله: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب -رحمة الله عليه- فكتب إلي ما نصه...".
وأورد الونشريسي في "المعيار" "12/ 293" مراسلة بين المصنف والشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي النفري في علم التصوف ومدى ضرورة الشيخ في ذلك.
1 هو ابن القباب كما صرح به الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 20".
2 في "ط": "قلت له".(2/232)
3 وهذا منتهى الحرج للأفراد، وتكليف الجميع به تكليف بما لا يطاق، وهو أيضا مخالف لما يقصده الشرع من المحافظة على الضروريات والحاجيات... إلخ؛ فهو جار على غير استقامة. "د". وانظر رد المصنف على القشيري في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج من ماله في: "الاعتصام" "1/ 214-215".(2/233)
ص -161-…به الشغل في الصلاة، وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال.
وأيضا؛ فإذا كان الفقر هو الشاغل؛ فماذا يفعل؟ فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء؛ أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة؟ هذا ما لا يفهم، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة، وقد يُندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله، من مال أو غيره، إن أمكنه الخروج عنه شرعا، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم، ثم ينظر بعدُ في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل: كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة، أو استحبابها، أو سقوطها؟ وله موضع غير هذا. ا. هـ حاصل المسألة.
فلما وصل إليه ذلك؛ كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه، وهو صحيح؛ لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة؛ لاختلاف أحوال الناس؛ فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة.
والثانية: مسألة الورع بالخروج عن الخلاف1؛ فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذه المسألة: "مجموع ابن تيمية" "10/ 644، 522 و20/ 138، 139", و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257"، و"تهذيب السنن" "1/ 60"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130" -كلها للإمام ابن القيم- و"الإحكام" لابن حزم "6/ 745"، و"إيضاح السالك" للونشريسي "160"، و"فتح الباري" "1/ 27"، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"الورع" للصنهاجي "ص37"، و"تمام المنة" "159"، و"رفع الحرج" ليعقوب الباحسين "ص137-182"، وما سيأتي "5/ 107 وما بعدها".(2/234)
ص -162-…ولا زلت منذ زمان أستشكله؛ حتى كتبت فيها إلى المغرب، وإلى أفريقية؛ فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر، بل كان من جملة الإشكالات الواردة؛ أن جمهور مسائل الفقه1 مختلف فيها اختلافا يعتد به، فيصير إذًا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف2 وضع الشريعة.
وأيضا؛ فقد صار الورع من أشد الحرج؛ إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة، ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه، وفي هذا ما فيه.
فأجاب بعضهم3: بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه، المختلف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمهور الشيء أكثره، وهي دعوى تحتاج لإحصاء مسائل الشريعة مسألة مسألة، والوقوف على حصول خلاف في أكثرها بين مجتهدين مسلم لهم في الاجتهاد، ومنقول لنا خلافهم بطريق صحيح، ويكون الخلاف معتدا به كما يقول، وسيذكر في كتاب الاجتهاد أن هناك عشرة أسباب تجعل كثيرا من الخلافات غير معتد به خلافا، على أن الورع بعد هذا كله في مراعاة شرط أو ركن لم يقل به آخر، أو في تحريم شيء لم ير حرمته آخر، أو إيجاب شيء لم ير وجوبه آخر، أما الخلافات بين مباح ومندوب، وبين سنة ومباح، وبين طلب تقديم شيء وتأخيره، وهكذا من أمثال هذا الذي لا يترتب عليه حرمة ولا بطلان عبادة؛ فليس مما يقصد دخوله في ورع الخروج من الخلاف، وإذًا؛ فهل بقي بعد هذا أن الورع في ذلك من أشد أنواع الحرج؟ ذلك ما يحتاج إلى دقة نظر. "د".
2 سيأتي بيانه في المتشابه والمحكم في فصول ضافية. "د".
3 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "المراد بهذا البعض هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه:
أحدها:(2/235)
أن الورع إما لتوقع العقاب أو ثبوت الثواب، وإلا؛ فليس بورع، أما الأول؛ فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح. =(2/236)
ص -163-…فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي موارد1 التأمل, وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل، وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط؛ فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأما الثاني:
فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين.
وثانيها: أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع "الصحيح لغة: رجح" الضرب المحرم؛ إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع.
وثالثها: أن المتورع إن كان مجتهدا يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير، وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر.
ورابعها: أن الورع بمثل هذا لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث "أصحابي كالنجوم"1 مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي.
خامسها: أن ترجيح المتورع لأحد القولين فممنوع؛ لأنه إن كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق.
سادسا: ما ذكره المصنف هنا وهو أن جمهور مسائل الفقه... إلخ.
سابعها: لأن عامل الورع في مسائل الخلاف الآخذ بالأشد وتتبع الأشد أبدا لمذهب لا يقصر عمن تتبع الرخص في الذم.(2/237)
فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين، وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ.
1 في النسخ المطبوعة الثلاث: "مواد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث منكر، كما سيأتي تفصيله "4/ 452".(2/238)
ص -164-…عنه، وقد قال عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره"1، هذا ما أجاب به.
فكتبت إليه: بأن ما قررتم من الجواب غير بين؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال؛ فليس مما نحن فيه، وأما المقلد؛ فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين، والعامي -في عامة أحواله- لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف، ولا يعلم: هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؛ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر، وليس العامي كذلك، وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل2؛ كالخلاف في المتعة3، وربا النساء، ومحاش4 النساء، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها, باب منه 4/ 2174/ رقم 2823" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 أشرنا آنفا إلى أنه أكثر مواضع الخلاف، رجوعا إلى ما سيقرره في موضعه، وأن القليل هو الذي يعتد به خلافا. "د".
3 أبيحت المتعة في صدر الإسلام بداعية قلة النساء وطول مدة الاغتراب في سبيل الجهاد، ثم حرمت تحريما مؤبدا بقوله -عليه الصلاة والسلام- كما في "صحيح مسلم" "رقم 1406 بعد 21": "قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، ومن حكمة تحريمه أنه يحط من شأن المرأة، ويجعلها كالأدوات المبتذلة يتناولها الرجال واحدا بعد آخر، ثم إن المقصد الأعظم من النكاح التناسل، ومصلحة الولد تستدعي أن يتربى بين أبوين يرتبطان بعاطفة وداد روحي وإخلاص في المعاشرة، وهذه الرابطة لا تستقيم حيث يعقد النكاح لأمد معلوم. "خ".(2/239)
4 جمع محشة، وهي من الألفاظ المكنى بها عن الاست، ومنه حديث ابن مسعود: "محاش النساء عليكم حرام" "خ".(2/240)
ص -165-…وأيضا؛ فتساوي الأدلة1 أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين، ولا يكونان كذلك عند بعض؛ فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد؛ لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده، من غير أن يخرج عن الخلاف، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر؛ فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور، وهو شديد جدا، و"من يشاد هذا الدين يغلبه"2، وهذا هو الذي أشكل على السائل، ولم يتبين جوابه بعد.
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد؛ إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل؛ لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة.
وإذا تأملنا مناط المسألة؛ وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا، فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع، وإن كان شديدا في مخالفة النفس، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يدفع بهذا ما يتوهم وروده على قوله: "ولا يعلم هل تساوت أدلتهم..." إلخ؛ فقد يقال: يرجع في ذلك إلى المجتهد ليعرف التساوي والتقارب؛ فقال هنا: إنه لا يتأتى الرجوع في ذلك له. "د".
2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..."؛ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.(2/241)
ص -166-…مخالفة النفس؛ فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. ما كتبت به، وهنا وقف الكلام بيني وبينه.
ومن تأمل هذا التقرير؛ عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد1، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه؛ فلا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلا يبنى2 عليه3.
والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع، وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه4 وما لا يعتبر، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج "د".
2 في "خ": "ينبني".
3 أنكر جماعة من الفقهاء دخول الورع في بسملة المالكي في الصلاة بحجة أنه لا يخرج من خلاف الإمام الشافعي؛ إلا أن يقرأ البسملة معتقدا وجوبها، كما أنكروا دخوله في مسح الشافعي جميع رأسه خروجا من خلاف المذهب المالكي؛ لأنه لا يتخلص من خلاف هذا المذهب إلا أن يمسح الجميع باعتقاد الوجوب، وحاول شهاب الدين القرافي في "قواعده" تصوير الجمع بين المذهبين في الفرع الثاني؛ فلم يهتد إلى وجه مرضي، ومن المتعذر عليه وعلى غيره أن يجمع بين حكمين متضادين مثل الندب والوجوب في عبادة واحدة "خ".
4 تعارض الأدلة على المجتهد لا تعارض الأقوال على المقلد؛ فلا يلزم عليه الحرج.
نعم، سيأتي له أن على المقلد إذا تعارضت عليه الأقوال أن يرجح واحدا منها، ولكنه اعتبر في الترجيح أمورا واضحة لا يبقى معها اشتباه، كأن يأخذ بقول من عرف بأنه يعمل بعلمه مثلا "د".(2/242)
ص -169-…بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم1.
كتاب الأحكام:2
والأحكام الشرعية قسمان: أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف3 والآخر يرجع إلى خطاب الوضع؛ فالأول ينحصر في الخمسة؛ فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل، وهي جملة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولا في "م" و"خ".
2 "الأحكام: جمع حكم، وإلى تعريف الحكم أشرت في "منور الأفهام" بقولي:
فالحكم بالإثبات أو بالنفي…للأمر يعرف لَدُنْ ذي الرأي
أعني أن الحكم يعرف عند أهل العقل بالإثبات للشيء أو بالنفي له، نحو: قام زيد، أو ما قام" "ماء".
3 "تعلق الخطاب بالأفعال؛ إما أن يطلب منها طلبا، أو بأن يبيحها، وهذا هو المسمى بخطاب التكليف، وإما بأن يضع لها سببا أو شرطا أو مانعا، ويسمى خطاب الوضع، وتخصيص هذا النوع من الأحكام باسم الوضع محض اصطلاح.
وإلا؛ فالأحكام كلها -أعني: المتعلقات بالأفعال التنجيزية لوضع الشرع- لا مجال للعقل ولا للعادة في شيء منها، قاله في "شرح المقدمات"..." "ماء".(2/243)
ص -171-…القسم الأول: خطاب التكليف
المسألة الأولى1: [في المباح]2
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب3؛ فلأمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استفاد المصنف كثيرا في هذه المسألة من الإمام شمس الدين علي بن إسماعيل الصنهاجي الأبياري المالكي "ت 616هـ" في كتابه المطبوع بعنوان: "الورع"، بتحقيق فاروق حمادة، طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت، وبين عبارة المصنف وعبارة الأبياري تطابق إلى حد كبير في كثير من الأحايين؛ فاقتضى التنويه.
2 ما بين المعقوفتين ليس في "د".
تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في المباح في "مجموع الفتاوى" "12/ 300 و14/ 108، 109 و15/ 448 و18/ 9، 10 و21/ 314-318، 538-541 و29/ 16-18، 150، 151".
3 ممن حقق النظر في هذه المسألة أبو بكر الأبهري، ونفى دخول الورع في ترك المباح بحجة أن الله سوى بين الفعل والترك، والورع مندوب، والندب مع التسوية متعذر، وتصدى شهاب الدين القرافي للتوفيق بينه وبين مخالفيه قائلا: "لا ورع ولا زهد في المباحات من حيث هي مباحة، ولكن يدخلها الورع والزهد من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات ويفضي إلى بطر النفس"، وهذا هو المبدأ الذي رتب عليه المصنف بحثه المسهب في هذا المقام "خ".(2/244)
ص -172-…أحدها:
أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير؛ لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك؛ فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب، ولا طلب؛ فلا طاعة1.
والثاني:
أن المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا؛ لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا.
لا يقال: إن الواجب والمندوب يفارقان المباح، بأنهما مطلوبا الفعل؛ فقد قام المعارض لطلب الترك، وليس المباح كذلك؛ فإنه لا معارض لطلب الترك فيه.
لأنا نقول: كذلك المباح؛ فيه معارض لطلب الترك, وهو التخيير في الترك؛ فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه2.
والثالث:
أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه، وهذا غير صحيح باتفاق، ولا معقول في نفسه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16".
2 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16-17".
3 سيأتي أنه مؤد إلى التناقض "د".
قلت: وقارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17".(2/245)
ص -173-…والرابع:
إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره، بأن يترك ذلك المباح، وأنه كنذر1 فعله.
وفي الحديث2: "من نذر أن يُطيع الله؛ فليطعه"3، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر، لكنه غير لازم؛ فدل على أنه ليس بطاعة.
وفي الحديث: "أن رجلا نذر أن يصوم قائما، ولا يستظل، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه"4. قال مالك: أمره -عليه السلام- أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية؛ فجعل5 نذر ترك المباح معصية6 كما ترى7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "كناذر".
2 هو تمام الدليل، ومحصله أن النذر إنما يكون في الطاعة كما في الحديث، وقد أجمعوا على أن ناذر ترك المباح نذره لغو؛ فلو كان تركه طاعة وداخلا فيما يُطلب بالحديث الوفاء به؛ لم يجمعوا على عدم لزوم الوفاء به. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية, 11/ 585/ رقم 6700" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح. "د".
قلت: وعبارة مالك في "الموطأ" "2/ 29".(2/246)
6 ترك الكلام والاستظلال والجلوس لا يبلغ أن يكون معصية بنفسه؛ إلا أن يجر إلى نصب ومشقة، ولكن في نذر المباح قلبا لحقائق الشرع؛ فيدخل صاحبه من هذه الجهة في قبيل الذي يقصدون إلى حقيقة قررها الشارع على وضع خاص، ويخرجون بها على ذلك الوضع المرسوم؛ إما عبثا وتلاعبا، وإما جهلا بالحكم الذي تمكنهم معرفته بسهولة. "خ".
7 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17-19".(2/247)
ص -174-…والخامس:
أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه -وقد فرضنا1 أن تركه وفعله عند الشارع سواء- لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله، وهذا باطل قطعا؛ فإن القاعدة المتفق عليها2 أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا، فإذا تحقق الاستواء في [جميع الطاعات؛ تحقق الاستواء في]3 الدرجات، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا4 فرضنا تساويهما في الطاعات، والفرض5 أن التارك مطيع دون الفاعل؛ فيلزم أن يكون أرفع درجة منه، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة، اللهم إلا أن يظلم6 الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع7؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا حاجة لذكره هذا الفرض في صوغ الدليل، وسيذكره في بيان بطلان اللازم؛ فيقول: وفعل المباح وتركه... إلخ "د".
2 من أين هذه القاعدة، وقد قالوا: إنه تعالى يعطي على القليل كثيرا وأن أمور الثواب ليست في التقدير؛ إلا بمجرد الفضل لا بالوزن؟ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ فلا مانع أن يكون اثنان متساويين في الطاعات، وأحدهما أرفع من الآخر منزلة، بل قد يكون الأقل عملا أرفع منزلة؛ لأن الكل بمحض الفضل لا بوزان الأعمال؛ فهذا الدليل كما ترى يحوطه الضعف من جهات. "د".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط".
4 في "د": "وإذا" بزيادة واو.
5 ملخص الدليل: أنه لو كان تارك المباح مطيعا بالترك؛ للزم أن يكون أرفع درجة ممن فعله، واللازم باطل؛ لأنهما متساويان في الدرجة، فما أدى إليه وهو المقدم باطل؛ فعليك بالنظر فيما توسط من كلامه أثناء الدليل، والتعرف عن وجه الحاجة إلى ذلك. "د".
6 أي: نفسه بالحمل عليها ومشاقتها بترك المباح، ثم يدعي أنه يؤجر على ذلك، أي: وهذا لا يقول به أحد. "د".(2/248)
قلت: وهذا التفسير خطأ، وضبط الكلمة منه خطأ [ضبطها بعد بالفتحة، ثم فسرها]، ولو ضبطها بالضمة؛ لبان المعنى، يدل على ذلك سياق العبارة في "الورع" "ص21".
7 مقابل قوله: "أولا مطيعا" بتركه أي: وإن لم يكن مطيعا بالترك؛ فلا يكون المباح مطلوب الاجتناب، يعني وهو مع هذا الفرض مفروغ منه لا داعي للكلام فيه. "د".(2/249)
ص -175-…كلام في هذا1.
والسادس:
أنه لو كان ترك المباح طاعة؛ للزم رفع المباح من أحكام الشرع، من حيث النظر إليه في نفسه، وهو باطل بالإجماع، ولا يخالف في هذا الكعبي2؛ لأنه إنما نفاه3 بالنظر إلى ما يستلزم، لا بالنظر إلى ذات الفعل، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
وأيضا؛ فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح؛ لأنه مستلزم ترك حرام، بخلافه بالنظر إلى تركه، إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا؛ فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق، وذلك باطل باتفاق.
والسابع:
أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار؛ فترك المباح إذًا فعل مباح4.
وأيضا؛ القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص21".
2 يأتي مذهبه ودليله والرد عليه في الفصل اللاحق لهذه المسألة. "د".
قلت: ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 530-548".
3 هنا جزم بالحصر، وسيأتي له جعله استظهارا فقط. "د".
4 وإذًا؛ فليس بمطلوب، وهو مدَّعانا. "د".
5 أي: مقاصد الشريعة من تشريع الأحكام، وهي* حفظ الضروريات والحاجيات؛ فالحكم الشرعي يتوجه إلى الفعل من إيجاب أو غيره حسبما فيه من المصلحة، وكيف يكون الشيء فعله وتركه مصلحة حتى يطلب تركه وفعله؟ "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وهو".(2/250)
ص -176-…حسبما يأتي إن شاء الله، وذلك يستلزم رجوع1 الترك إلى الاختيار، كالفعل، فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك؛ جاز أن يكون فاعله مطيعا، وذلك تناقض2 محال.
فإن قيل: هذا كله معارض بأمور:
أحدها:
أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة:
- منها: أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات، وصدا عن كثير من الطاعات.
- ومنها: أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الممنوعات؛ لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضرواة الخمر، وبعضها يجر إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة3، والعياذ بالله.
- ومنها: أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، والتمتع بلذاتها؛ كقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
[وقوله]: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15].
وفي الحديث: "إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم4 الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم"5 الحديث. وفيه: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حتى صح أن تعلق به مقاصد الشرع وتبنى عليه الأحكام "د".
2 لأنه يقتضي أن يكون الشيء مقصود الفعل للشارع لحفظ المصلحة، ومقصود الترك له أيضا لحفظها، حتى تعلق بكل منهما حكمه، وهو طلب الفعل والترك؛ فيعد المكلف مطيعا لهما. "د".
3 في "ط": "الهلكة".
4 في الأصل: "لكم".(2/251)
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، 6/ 257/ رقم 3158، وكتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، 7/ 319/ رقم 4015، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، 11/ 243/ رقم 6425"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب منه، 4/ 2273-2274"، وأحمد في "المسند" "4/ 137"، والترمذي في "الجامع" "4/ 640/ رقم 2462"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1324/ رقم 3797"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 319"، من حديث عمرو بن عوف, رضي الله عنه.(2/252)
ص -177-…حبطا أو يلم"1.
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة، وهو كافٍ في طلب ترك المباح؛ لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح.
- ومنها: ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء: "إن حلالها حساب، وحرامها عذاب"2، وعن بعضهم3: "اعزلوا عني حسابها"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث في أوله نحو المذكور عند المصنف آنفا، وسيأتي "2/ 281".
أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 2/ 327/ رقم 1465، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6724" من حديث أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه.
2 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "رقم 8192" من طريق الدراقطني في "الأفراد" عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "يابن آدم! ما تصنع الدنيا! حلالها حساب، وحرامها عذاب".
وإسناده واه جدا، فيه عمر بن هارون البلخي، قال ابن مهدي وأحمد والنسائي: "متروك الحديث"، وقال يحيى: "كذاب خبيث"، وقال أبو داود: "غير ثقة"، وقال ابن المديني والدارقطني: "ضعيف جدا"، وقال صالح جزرة: "كذاب". وانظر: "الميزان" "3/ 228".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 17"، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 7/ 371/ رقم 10622" بسند منقطع عن علي موقوفا بلفظ: "حلالها حساب، وحرامها النار".
وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"؛ كما في "إتحاف السادة" للزبيدي "8/ 120 و10/ 25" موقوفا، وقال عن المرفوع: "لم أجده"!!
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 211" عن الحسن قوله، وهو الأشبه، ولكن إسناده ضعيف، فيه أبو عباد الزاهد، لا يحل الاحتجاج به؛ كما قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 158".
3 القائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال ابن الجوزي في "سيرة عمر" "ص141": "عن الحسن أن عمر أتي بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: "اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها"".(2/253)
وذكره الأبياري في "الورع" "ص22"، وقال قبله: "في قول الصديق أو غيره".
وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 803، 804" بلفظين آخرين، آخرهما: "استسقى، فأتي رجل بقدح من زجاج -أو قال: من قوارير- فيه عسل، فقال -أي: عمر: "ما رأيت كاليوم إناء أحسن ولا شرابا أحسن". ثم قال: "شرابا هو أيسر في المسألة من هذا"؛ فأتي بماء، فشرب.
ونحوه في "الزهد" "ص119" لأحمد، و"الزهد" "رقم 618" لابن المبارك، و"الزهد" "رقم 94، 95" لأبي داود، و"الطبقات الكبرى" "3/ 319" لابن سعد، و"مناقب عمر بن الخطاب" "ص142" لابن الوزي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "رقم 618" لعبد بن حميد بأسانيد بعضها حسن.(2/254)
ص -178-…حين أتي بشيء يتناوله، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، والمباح صاد عن ذلك؛ فإذًا تركه أفضل شرعا؛ فهو طاعة، فترك المباح طاعة1.
فالجواب: أن كونه سببا في مضار لا دليل فيه؛ من أوجه:
أحدها:
أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين2، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع؛ صار ممنوعا من باب سد الذرائع، لا من جهة كونه مباحا,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20".
2 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "10/ 460-462".(2/255)
ص -179-…وعلى هذا يتنزل قول من قال: "كنا ندع ما لا بأس به1؛ حذرا لما به البأس".
وروي مرفوعا2.
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب؛ فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف.
وأيضا3؛ فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح، كالمال4 إذا لم تؤد زكاته، والخيل5 إذا ربطها تعففا، ولكن نسي حق الله في رقابها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة؛ فليس تركه أفضل بإطلاق, بل هو ثلاثة أقسام:
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه؛ فيكون من تلك الجهة مطوب الترك.
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به؛ كالمستعان به على أمر أخروي؛ ففي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"6، وفيه: "ذهب أهل الدثور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما لا بأس به في ذاته؛ حذرا أن يوقعنا فيما هو ذريعة إليه مما فيه بأس. "د".
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص189".
3 أعم مما قبله الخاص بالذريعة؛ أي: باللواحق. "د".
4 و5 المثالان من نوع واحد، والظاهر أنهما من أمثلة المقارن، ويصح أن يكونا من اللواحق. "د". وفي "ط": "والخيل إذا ارتبطها".
6 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 299"، وأحمد في "المسند" "4/ 197، 202"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 2، 236"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 320-322/ رقم 7336"، وعنه ابن حبان في "الصحيح" "8/ 6، 7/ رقم 3210، 3211- الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 259/ رقم 1315"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2495"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 43" بإسناد صحيح، وأوله: "يا عمرو"، وجود إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 228" وغيره.(2/256)
ص -180-…بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم..." إلى أن قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"1، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا، وإن كان قاضيا لشهوته؛ لأنه يكف به عن الحرام2، وذلك في الشريعة كثير؛ لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به؛ كان لها حكم ما توسل بها إليه.
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء؛ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة، فإذا فرض ذريعة إلى غيره؛ فحكمه حكم ذلك الغير، وليس الكلام فيه.
والثالث:
أنه إذا قيل: إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه، فهو معارض بمثله؛ فيقال: بل فعله طاعة بإطلاق؛ لأن كل مباح ترك حرام3، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح؛ فقد شغل النفس به عن جميعها، وهذا الثاني أولى4؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال: كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق؛ فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة.
وأما قوله: "إنه سبب في طول الحساب"؛ فجوابه من أوجه5:
أحدها:
أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه؛ لزم أن يكون التارك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 416-417، رقم 595" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 سيأتي نصه وتخريجه "ص461".
3 أليس قد يكون فعل المباح ترك واجب؛ فيكون غير تارك للحرام بفعل المباح؟
تأمل. "د".
4 أي: إن هذا المعارِض أقوى من الدليل المعارَض؛ لأنه كلي بخلاف أصل الدليل. "د".
5 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20-22".(2/257)
ص -181-…محاسبا على تركه، من حيث كان الترك فعلا، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح، وذلك محال؛ فما أدى إليه مثله.
وأيضا؛ فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب، مع أنه آت بحلال، وهو الترك؛ فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض، وهذا تناقض من القول.
والثاني:
أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك؛ لزم أن يُطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها، فقد قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، فقد انحتم على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك، وكذلك سائر المكلفين.
لا يقال: إن الطاعات يُعارض طلب تركها طلبها.
لأنا نقول: كذلك المباح، يعارض طلب تركه التخيير فيه، وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة.
والثالث:
أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح، فإن المباح هو أكل كذا مثلا، وله مقدمات، وشروط، ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا روعيت؛ صار الأكل مباحا، وإن لم تراع؛ كان التسبب والتناول غير مباح.
وعلى الجملة؛ فالمباح كغيره من الأفعال له أركان، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه.(2/258)
ص -182-…ولا يقال: إن الفعل كثير الشروط والموانع، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك؛ فإن ذلك فيه قليل، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك.
لأنا نقول: حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات، كان فعلا أو تركا، ولو بمجرد القصد.
وأيضا؛ فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل، من حقوق الله، أو حقوق الآدميين، أو منهما جميعا، يدل عليه قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه"1.
وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء2 -رضي الله عنهما- يبين3 لك هو وما في معناه أن الفعل والترك -في المباح على الخصوص- لا فرق بينهما من هذا الوجه؛ فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل، وإذا كان الأمر كذلك؛ ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح؛ فالفعل والترك سواء، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا؛ فالفعل والترك أيضا سواء.
وأيضا؛ إن كان في المباح ما يقتضي الترك؛ ففيه ما يقتضي عدم الترك؛ لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام}... إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 10-22].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ 1968، وكتاب الآداب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم182".
2 سيأتي بلفظه وتمامه عند المصنف "2/ 247-248"، والمذكور آنفا قطعة منه.
3 في الأصل: "يتبين".(2/259)
ص -183-…وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ} إلى قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع، ثم الشكر عليها، وإذا كان هكذا؛ فالترك له قصدا يسأل عنه: لِم تركته، ولأي وجه أعرضت عنه، وما منعك من تناول ما أحل لك؟ فالسؤال حاصل في الطرفين، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله1.
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
أي: لا تبعة فيها، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7-8].
وفسره النبي -عليه السلام- بأنه العرض2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "ص224 وما بعد".(2/260)
2 وذلك فيما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، وذكره تعليقا في "كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، 11/ 400/ رقم 6536"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، 5/ 535/ رقم 3337" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح" - والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير/ رقم 679" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عُذب". قالت: قلت: قال الله, عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}. قال: "ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".(2/261)
ص -184-…وعذاب، وإلا؛ لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6].
أعني: سؤال المرسلين، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات؛ كما سيذكر على إثر هذا1.
والثاني من الأمور العارضة:
أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين؛ فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا، وذلك منقول عنهم تواترا؛ كترك الترفه في المطعم، والمشرب، والمركب، والمسكن، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب، وأبو ذر، وسلمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وعلي بن أبي طالب، وعمار، وغيرهم -رضي الله عنهم- وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب "الجهاد"، وكذلك الداودي في كتاب "الأموال"2؛ ففيه الشفاء، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح، ولو كان ترك المباح غير طاعة؛ لما فعلوه.
والجواب عن ذلك من أوجه3:
أحدها: أن هذه أولا حكايات أحوال؛ فالاحتجاج بمجردها من غير نظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام في هذا في "مجموع الفتاوى" "10/ 514، 515".
2 انظره بتحقيق رضا محمد سالم شحادة، طبع مركز إحياء التراث العربي - الرباط.
3 ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب في "مجموع الفتاوى" "10/ 150، 151، 514 و20/ 146".(2/262)
ص -185-…فيها لا يجدي، إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد، وسيأتي1 إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج.
والثاني: أنها معارضة بمثلها في النقيض.
فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل2.
ويأكل اللحم، ويختص بالذراع، وكانت تعجبه3.
وكان يستعذب له الماء4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "1/ 391 و2/ 458، 495".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب الحلوى والعسل، 9/ 557/ رقم 5431، وكتاب الأشربة، باب شرب الحلواء والعسل، 10/ 78/ رقم 5614، وكتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 8/ 139/ رقم 5682"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق/ رقم 1474 بعد 21"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل/ رقم 1832"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب شراب العسل/ رقم 3715"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب الحلواء/ رقم 3323"، وأحمد في "المسند" "6/ 59" عن عائشة, رضي الله عنها.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} "6/ 371/ رقم 3340", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها, 1/ 184/ رقم 194"، عن أبي هريرة، وذكر حديث طويلا فيها: "فرفعت إليه الذراع، وكانت تعجبه؛ فنهس منها نهسة".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب استعذاب الماء، 10/ 74/ رقم 5611"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب منه/ رقم 998" من حديث أنس؛ قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". =(2/263)
ص -186-…وينقع له الزبيب والتمر1.
ويتطيب بالمسك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرج أبو داود في "السنن" "رقم 3735"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 138"، وأحمد في "المسند" "6/ 108"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 158"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 149/ رقم 5332- الإحسان"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "رقم 245"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 394"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 125"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 1017، 1018"، و"شرح السنة" "رقم 3049" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يستعذب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السقيا".
وإسناده قوي، وجوده ابن حجر في "فتح الباري" "10/ 74".
وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2207/ رقم 3013" ضمن حديث طويل جدا فيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الماء في أشجاب له على حمارة من جريد".
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب نقيع التمر ما لم يسكر، 10/ 62/ رقم 5597" عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعرسه؛ فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور.
وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1950-1951/ رقم 2006"، وخرجته مسهبا في تحقيقي لكتاب ابن حيويه "ت 366هـ" "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص43-44".(2/264)
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب، 1/ 381/ رقم 270، 271"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام/ رقم 1190" عن عائشة: "أنا طيبت رسول الله ثم طاف في نسائه", وقالت: "وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي, صلى الله عليه وسلم" لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "يتطيب بأطيب ما يجد"، وعنده أيضا "برقم 1191"، عنها: "كنت أطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك".(2/265)
ص -187-…ويحب النساء1.
وأيضا؛ فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا؛ لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة؛ إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم، ولا شارك أحد أخاه المؤمن -ممن قرب عهده أو بعد- في رفده2 وماله مشاركتهم، يعلم ذلك من طالع سيرهم، ومع ذلك؛ فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا، ولو كان مطلوبا؛ لعلموه قطعا، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء، لكنهم لم يفعلوا؛ فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات؛ فنهوا عن ذلك، وأدلة هذه الجملة كثيرة، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى3 في "مقدمات ابن رشد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يأتي عند المصنف "2/ 240" في حديث: "حُبب إلي..."، وتخريجه هناك.
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "في البشر داعية فطرية إلى الأنس بالمرأة وملابستها، وليس في هذه الفطرة ما يمس الكمال الروحي بغضاضة متى وقفت بالنفس في غاية معتدلة، وكان تمتع صاحبها بالنساء في دائرة الحكمة والنظام؛ فحبه -عليه الصلاة والسلام- للنساء غريزة بشرية، ولكنها لم تتجاوز حد الاعتدال؛ فتلهيه عن معالي الهمم والجهاد في سبيل العبادة والدعوة إلى صراط الله المستقيم، ومن حكمة انتظامها في جملة دواعيه الفطرية؛ أن يتعلم المسلمون من معاشرته لأزواجه الطاهرات كيف تعاشر المرأة بعواطف المودة والرحمة والاحترام". ا. هـ.
وانظر فيما تقدم جميعا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 641 و22/ 124".
2 الرفد: العطاء والصلة. انظر: "لسان العرب" "ر ف د".(2/266)
3 لم يختلفوا في المفاضلة بين أصحاب الوصفين إلا باعتبار العمل الصالح اللاحق بكل منهما، وهو محل النظر والأخذ والرد بينهم؛ فلا محل للاعتراض الذي أوردها هنا بأن الفقر والغنى لا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح، وسيأتي للمؤلف في التعارض والترجيح آخر الكتاب بحث جيد في هذا المعنى. "د". =(2/267)
ص -188-…والثالث:1
إذا2 ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه؛ فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة، بل لأمور خارجة, وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك:
- منها: أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات، وحائل دون خيرات، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب، كما كانت عائشة -رضي الله عنها- يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح، فتتصدق به، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش3، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا، وهذا هو محل النزاع.
- ومنها: أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرًا لا يختاره لنفسه، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة؛ فيترك المباح لما يؤديه إليه، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام، أتي بفرس, فلما ركبه فهملج4 تحته؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي "م": "الفقير والغني".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الفقر والغنى حالان لا يحسبان في مراقي الكمال، ولا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح وما يفيض على جوانبه من أشعة الإخلاص وصفاء السريرة؛ فأعظم الرجلين عملا وأقواهما إخلاصا يكون أرفع مقاما في التقوى وأكرم منزلة عند الله من صاحبه، وفي استطاعة الغني أن يكون أفضل من الفقير مما يتيسر له من إقامة المشروعات العظيمة والمساعي التي يعم نفعها ويتجدد أثرها كل حين". وانظر: "5/ 367".
1 ينظر وجه الفرق بينه وبين الأول، غير الإجمال والتفصيل في المقاصد؛ إلا أن يقال: إنه روعي في الأول مجرد كونها حكايات أحوال، وهي لا يؤخذ بها دليلا بمجردها؛ فلا بد من عرضها على قواعد الشرع، ويكون قوله: "لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد"، وهي ما فصلها هنا ليس محل القصد فيما سبق. "د".
2 في "ط": "أنه إذا".
3 سيأتي تخريجه "ص191".(2/268)
4 أي: سار سيرا حسنا سريعا. انظر: "لسان العرب" "هـ م ل ج".(2/269)
ص -189-…عنه، ورجع إلى حماره1، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم، حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه2، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم- ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع؛ فيترك من حيث هو وسيلة، كما قيل: "إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال، ولا أحرمها"3، وفي الحديث: "لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرا لما به البأس"4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الخبر في "تاريخ المدينة" "3/ 822-823" لابن شبة.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، 1/ 482-483/ رقم 373"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، 1/ 391/ رقم 556"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام 2/ 72", وابن ماجه في "السنن" "كتاب اللباس، باب لباس رسول الله, صلى الله عليه وسلم 2/ 1176/ رقم 3550"، ومالك في "الموطأ" "1/ 91- مع "تنوير الحوالك""، وأبو عوانة في "المسند" "2/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 423" من حديث عائشة -رضي الله عنها- وليس عندهم "فكاد يفتنه"، وإنما "إنها ألهتني آنفا عن صلاتي"، وفي رواية عند البخاري: "فأخاف أن تفتنني"، ونقل المصنف العبارة السابقة عن "الأموال" للداودي "ص89".
3 في النسخ الثلاث: "ولا أحرمها"، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 209" عن ابن عمر، وفيه: "لا أخرقها"، وأورد نحوه عن مجموعة من التابعين، وانظر: "الحلية" "4/ 84، 7/ 284، 288".
ثم ظفرت بطرف من الخبر في "زهد أبي داود" "رقم 320" عن مالك بلاغا، ولم يهتد المحقق إلى لفظه بتمامه.(2/270)
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 634/ رقم 2451"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، 2/ 1409/ رقم 4215"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 319"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 335"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 484"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 74-76/ رقم 909-912"، =(2/271)
ص -190-…وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية؛ نظر إلى محرم، أو تكلم فيما لا يعنيه، أو نحوه.
- ومنها: أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر "لغيره" أنه مباح، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة، ولم يتخلص له حله، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف؛ كقوله: "كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس"1، ولم يتركوا كل ما لا بأس به، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع.
- ومنها: أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله؛ إما للعون به على طاعة الله، وإما لأنه2 يحب أن يكون عمله كله خالصا لله، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له، فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة، أو عونا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدولابي في "الكنى" "2/ 34"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 446" من حديث عطية السعدي.
وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي، وروى ابن عقيل عن ابن يزيد أحاديث منكرة؛ كما قال ابن عدي في "الكامل" نقلا عن الدولابي: "ابن يزيد هذا ضعيف"، وضعف هذا الحديث شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 178"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق هذا الحديث ابن حزم في كتاب "الإحكام" ولفظه: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا لما به بأس"، ثم قال: "وفي سنده أبو عقيل وليس بالمحتج به".
1 مضى ما يشهد له.(2/272)
2 يغاير ما قبله في أن هذا دائما لا يكون عمله إلا لأحد هذه الأمور: أن تحضره نية عبادة، أو عون ما على عبادة، أو أخذه له من جهة الإذن؛ فيترك الفعل حتى يجد أحد هذه الأمور، ولعل الأخير يدعو إلى الترك في بعض الأحيان، وأن مجرد نية أخذه من جهة الإذن لا تكفي، بل تحتاج لشرط غير ميسور في كل وقت؛ فيوكل هذا لأهله، أما الأول؛ فإنه قد يتفق أن يتركه لأنه لم تحضره نية العون به على عبادة، ولا شك أن الثاني أرقى من صاحب الحال الأول. "د".(2/273)
ص -191-…عبادة، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ؛ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا؛ كالأكل والشرب ونحوهما؛ فإنه -إذا كان لغير حاجة- مباح كأكل بعض الفواكه، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية، والعون في الطاعة، وهذه كلها أغراض صحيحة، منقولة عن السلف, وغير قادحة في مسألتنا.
- ومنها: أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة: من علم، أو تفكر، أو عمل، مما يتعلق بالآخرة؛ فلا تجده يستلذ بمباح، ولا ينحاش1 قلبه إليه، ولا يلقي إليه بالًا، وهذا وإن كان قليلا؛ فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة، بل هو في طاعة بما اشتغل به، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أُتيت بمال عظيم فقسمته، ولم تبق لنفسها شيئا, فعُوتبت على تركها نفسها دون شيء، فقالت: "لا تُعنِّيني2، لو كنت ذكرتني لفعلت"3، ويتفق مثل هذا للصوفية، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له4 هو في حكم المغفول عنه.
- ومنها: أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا، والإسراف مذموم، وليس في الإسراف حد يوقف دونه، كما في الإقتار؛ فيكون التوسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتحرك. انظر: "لسان العرب" "ح و ش".
2 لا تعنيني؛ أي: لا تعترضيني. انظر "لسان العرب" "ع ن ن".
وفي بعض مصادر التخريج: "لا تعنفيني".
3 أخرجه الدارقطني في "المستجاد" "رقم 36، 37"، وابن سعد في "الطبقات" "8/ 67"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47، 48، 49"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 13"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738" بأسانيد بعضها صحيح.
4 كترك تناول بعض المأكولات؛ لأن نفسه لا تقبل عليها ولا تتلذذ بها، وإن كان الغير على خلاف ذلك. "د".(2/274)
ص -192-…راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين؛ فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف، فيتركه لذلك، ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح، ولا يكون كما ظن؛ فكل أحد فيه فقيه نفسه.
والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك، ولا مطلوب الفعل؛ كدخول المسجد1 لأمر مباح هو مباح، ومن شرطه أن لا يكون جُنبا، والنوافل من شرطها الطهارة، وذلك واجب، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين؛ فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا.
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم؛ فلا تعدو هذه الوجوه، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم، والله أعلم.
والثالث من الأمور المعارضة:
ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا، وترك لذاتها وشهواتها، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا، وذم تاركه على الجملة، حتى قال الفضيل بن عياض: "جُعل الشر كله في بيت، وجُعل مفتاحه حب الدنيا، وجُعل الخير كله في بيت، وجُعل مفتاحه الزهد"2.
وقال الكتاني الصوفي: "الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي، ولا مدني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنظير لا تمثيل. "د".
2 أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 290"، والسلمي في "طبقاته" "ص13"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 247" بإسنادهم إلى الفضل.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها، ولا جَرَمَ أن من أحكم هذا الخلق يتمكن من اجتناب الحرام بسهولة، ويترفع عن الوصول إلى هذه الملاذ من طرق تخدش في وجه المروءة".(2/275)
ص -193-…ولا عراقي، ولا شامي؛ الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق".
قال القشيري1: يعني: أن هذه الأشياء لا يقول أحد: إنها غير محمودة.
والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال، أما الحرام؛ فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام، عام في أهل الإيمان، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص، وهو الزهد في المباح، فأما المكروه؛ فذو طرفين، وإذا ثبت هذا؛ فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه، ومحال أن يُمدح شرعا مع استواء فعله وتركه.
والجواب من أوجه:
أحدها:
أن الزهد -في الشرع2- مخصوص بما طُلب تركه حسبما يظهر من الشريعة؛ فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال؛ فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات، أو لغير ذلك مما تقدم.
والثاني:
أن أزهد البشر -صلى الله عليه وسلم- لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين، مع تحققهم في مقام الزهد.
والثالث:
أن ترك المباحات [من حيث إنه مباح]3؛ إما أن يكون بقصد أو بغير قصد، فإن كان بغير قصد؛ فلا اعتبار به، بل هو غفلة لا يقال فيه: "مباح"، فضلا عن أن يقال فيه: "زهد"، وإن كان تركه بقصد؛ فإما أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الرسالة" "ص57"، وأورد فيها مقولتي الفضيل والكتاني السابقتين.
2 انظر تعريفه في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 616-619، 11/ 28، 20/ 142".
3 زيادة من الأصل فقط.(2/276)
ص -194-…القصد مقصورا على كونه مباحا، فهو محل النزاع، أو لأمر خارج؛ فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد، وإن كان أخرويا؛ فالترك إذًا وسيلة إلى ذلك المطلوب؛ فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك، ولا نزاع في هذا.
وعلى هذا المعنى فسره الغزالي؛ إذ قال1: "الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه"، فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه، وقال في تفسيره: "ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة؛ لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه، وإلا؛ فترك المحبوب لغير الأحب محال"2. ثم ذكر أقسام الزهد، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال، ومن تأمل كلام المعتبرين؛ فهو دائر على هذا المدار.
فصل:
وأما كون المباح غير مطلوب الفعل؛ فيدل عليه كثير مما تقدم3؛ لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "إحياء علوم الدين" "4/ 216".
2 "4/ 217".
3 يجري فيه الدليل الأول لا الثاني، ويجري فيه الثالث باعتبار قوله: "ولا معقول في نفسه"، لا باعتبار قوله: "غير صحيح باتفاق"؛ لأنه في الترك غير متفق عليه، ولا يجري فيه الخامس، ويجري فيه السادس، وقد أعاده هنا بقوله: "أحدها"؛ لأنه احتاج هنا إلى كلام فيه وإلى رد على الكعبي ليس محله هناك، ويجري فيه الشق الأخير من الدليل السابع؛ فصح قوله: "يدل عليه كثير مما تقدم"، وعليك بالنظر في تطبيق ذلك. "د".(2/277)
ص -195-…وقد استدل من قال: إنه مطلوب1، بأن كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب؛ فكل مباح واجب... إلى آخر ما قرره الأصوليون عنه، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح -مع قطع النظر عما يستلزم- مستوي الطرفين، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح2؛ لوجوه:
أحدها:
لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا3 ألبتة؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب الكعبي وأتباعه، وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تصوير مأخذه على ثلاثة وجوه:
أحدها: أن كل فعل يوصف بأنه مباح عند النظر إليه بانفراده هو واجب باعتبار أنه ترك به حرام.
ثانيها: أن المباح مأمور به بناء على أنه حسن؛ فيحسن أن يطلبه الطالب لحسنه.
ثالثها: أن المباح من أضداد المحروم؛ فيكون مأمورا به بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده، والقول الفاصل في هدم هذه المآخذ من أساسها هو ما نبه عليه المصنف من أن تمايز الأحكام يرجع إلى قصد الشارع, ومقصود الشارع بخطاب الإباحة أن يكون المباح موكولا إلى خبرة المكلف ولا قصد له في فعله دون تركه ولا في تركه دون فعله. "خ". وانظر في الرد على الكعبي: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 530-548"، و"البرهان" "1/ 294"، و"المحصول" "2/ 207"، و"المستصفى" "1/ 75"، و"المنخول" "116"، و"البحر المحيط" "1/ 155"، و"شرح المنهاج" "1/ 115-117" لشمس الدين الأصبهاني.
2 لم يقل: وعند ذلك يكون الخلاف* لفظيًّا؛ لأنه وإن وافقهم في هذا؛ يرى أن استلزامه للواجب حتم؛ لأن فيه ترك محرم دائما، بخلافه عندهم؛ فإنه يجري عليه ما يجري على الذريعة، وتكون تسميته مباحا لا محصل لها على رأيه؛ فلا يوجد فعل في الخارج مباح أبدا؛ لأنه مهما وقع ما يسمى مباحا؛ فهو واجب، وهو مبنى الرد في الوجه الأول، وسيرتب عليه الوجه الثاني، وهو أن يكون وضع هذا القسم بين الأحكام الشرعية عبثا، ولا يقول هو بذلك كغيره "د".(2/278)
3 أي: في أي فعل معين. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخلف".(2/279)
ص -196-…يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا، وهذا باطل باتفاق؛ فإن الأمة -قبل هذا المذهب- لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة، كما تحكم عليها بسائر الأحكام، وإن استلزمت ترك الحرام؛ فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح.
والثاني:
أنه لو كان كما قال؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة، وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره.
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين؛ كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا؛ لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف، وقد فرضناه واجبا؛ فليس بمباح، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا؛ إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف.
والثالث:
أنه لو كان كما قال؛ لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية؛ لاستلزامها ترك الحرام؛ فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة، وتصير واجبة1.
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه؛ فهو باطل؛ لأنه يعتبر جهة الاستلزام، [فلذلك نفى المباح؛ فليعتبر جهة الاستلزام]2 في الأربعة الباقية فينفيها، وهو خلاف الإجماع والمعقول؛ فإن اعتبر3 في الحرام والمكروه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الموجود في الخارج فعل واحد، ولا يصح أن يكون حراما واجبا مثلا؛ إذ المعنى الذي يتقوم به مفهوم الواجب يعاند المعنى الذي يتقوم به مفهوم الحرام، ويستحيل وجود فرد يصدق عليه مفهومان يتقومان من أمرين متناقضين. "خ".
2 غير موجود في الأصل.
3 أي: لتبقى الأحكام الأربعة ولا تنفى؛ حتى يخلص من القول بما يخالف المعقول، وذلك بألا يعتبر فيها جهة الاستلزام، بل جهة النهي أو الأمر. "د".(2/280)
ص -197-…جهة النهي، وفي المندوب جهة الأمر -كالواجب- لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح؛ إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما.
فإن قال: يخرج المباح عن كونه [مباحا]1 بما يؤدي إليه، أو بما يتوسل به إليه؛ فذلك غير مسلم، وإن سُلِّم؛ فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والخلاف فيه معلوم؛ فلا نسلم أنه واجب، وإن سلم؛ فكذلك الأحكام الأخر، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع.
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه، ولا في تركه دون فعله، بل قصده جعله لخيرة المكلف، فما كان من المكلف من فعل أو ترك، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه؛ فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة، أيهما2 فعل فهو قصد الشارع، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه، ولا في الترك بخصوصه.
لكن يرد على مجموع الطرفين3 إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص، وإلى تركه على الخصوص.
فأما الأول؛ فأشياء:
- منها: الأمر بالتمتع بالطيبات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غير موجودة في الأصل.
2 ليست في "م".
3 أي: استواء الفعل والترك في المباح؛ فالإشكال السابق كان على كون الترك ليس مطلوبا، أما هنا؛ فعلى كون كل منهما غير مطلوب، فيقال: كيف وقد طلب الفعل وطلب الترك أيضا؟ فهل مع هذا يقال: إن المباح يستوي طرفاه؟ "د".(2/281)
ص -198-…فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 51].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال.
وأيضا؛ فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها، وقررت عليهم؛ فهم منها القصد إلى التنعم بها، لكن بقيد الشكر عليها.
- ومنها: أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطييات، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم؛ فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32]؛ أي: خلقت لأجلهم، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، لا تِبَاعة1 فيها ولا إثم؛ فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها2.
- ومنها: أن هذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟! هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع, بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه؛ فليقبل، ثم ليشكر له عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التباعة كالتبعة: ما فيه إثم يتبع به. انظر: "لسان العرب" "ت ب ع".
2 الإنكار في الآية واقع على تحريم الزينة والطيبات؛ أي: الحكم عليها بالحرمة، وهذا الحكم مخالف للواقع, وقول على الله بغير بينة؛ فيكون محظورا، ويستحق صاحبه الإنكار والإنذار، وليس في الآية وجه يمكن الاستئناس به لرجحان استعمال الزينة والطيبات سوى ذكرها على وجه أنها نعمة خلقها الله ليتمتع بها عباده المخلصون. "خ".(2/282)
ص -199-…وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى، حيث قال عليه السلام: "إنها صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته"1، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه: "أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك؟ ألم تغضب؟"2، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 686"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب في تقصير الصلاة في السفر، 3/ 116-117"، والترمذي في "الجامع" أبواب التفسير، باب سورة النساء/ رقم 3034، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة/ رقم 1199/ 1200" من حديث عمر, رضي الله عنه.
2 لم يرد في مسألة القصر كما قال المصنف، وإنما في الفطر.
أخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 103" بسند حسن عن بلال بن عبد الله بن عمر؛ أنه سأل أباه عبد الله بن عمر؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نكون في السفر، فيكون الطعام والخبيص، فلعلنا نرحل غدوة، فلا ننزل حتى تغرب الشمس؛ فنحب أن نصوم بعض الذي علينا. فقال ابن عمر: أرأيت لو أنك أهديت لرجل هدية فردها عليك، ألم تجد في نفسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزيمته.
وأخرجه الديلمي في "الفردوس" "1/ 2/ 226" بسند ضعيف، وفيه أن هذه الزيادة وقعت بين ابن عمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إسنادها إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وأبو بكر بن محمد وهو مجهول، قاله عبد الحق في "الأحكام"؛ كما في "اللسان" "6/ 349"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 2196".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي.(2/283)
وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى.(2/284)
ص -200-…وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب؛ كالفطر في السفر، أو التحريم؛ كما قاله طائفة في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخرها, وإذا تعلقت المحبة بالمباح؛ كان راجح الفعل.
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه.
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص؛ فجميع ما تقدم من ذم [التنعمات]1 والميل إلى الشهوات على الجملة، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة؛ كالطلاق السني2؛ فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"3، ولذلك لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من الأصل.
2 وهو الذي رسمته السنة بأن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، أما البدعي؛ فليس بمباح حتى يمثل به. "د".
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق, باب في كراهية الطلاق، 2/ 255/ رقم 2178" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322"- وابن عدي في "الكامل" "6/ 2453" من طريق محمد بن خالد الوهبي عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، شذ محمد بن خالد الوهبي في وصله, فرواه من هو أوثق منه وأكثر عددا فأرسلوه، وهذا البيان:(2/285)
أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 2177", ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322": ثنا أحمد بن يونس، والبيهقي أيضا "7/ 322" من طريق يحيى بن بكير، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 253" من طريق وكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك في "البر والصلة" -كما في "المقاصد الحسنة" "12"- وأبو نعيم الفضل بن دكين -كما قال الدارقطني في "العلل" "4/ ق 52/ ب"-، خمستهم عن معرف بن واصل عن محارب مرسلا دون ذكر "ابن عمر" فيه، وهذا هو الصواب، وهو الذي رجحه أبو حاتم -كما في "العلل" "1/ 431" لابنه- والدارقطني في =(2/286)
ص -201-…يأتِ به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم، وإنما جاء مثل قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "العلل" "4/ ق 52/ ب"، والخطابي في "معالم السنن" "4/ 231"، وإليه مال البيهقي حيث رجح رواية أبي داود عن أحمد بن يونس المرسلة على رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أحمد بن يونس الموصولة -وهي عند الحاكم "2/ 196"، والبيهقي- حيث قال عقبها: "ولا أراه -أي: ابن أبي شيبة- حفظه".
وقد جاء الحديث موصولا من حديث ابن عمر، ولكن من طريق المعتمد عليها: "كالقابض على الماء"، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2018"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 14"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 64" -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" "رقم 1056"- وتمام في "الفوائد" "رقم 798- ترتيبه" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ ق 103/ أ"- وابن عدي في "الكامل" "4/ 1630" من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب به.
والوصافي ليس بشيء؛ كما قال ابن معين، وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث؛ فإسناده ضعيف جدا.
وفي الباب عن معاذ عند الدارقطني في "السنن" "4/ 35"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 694" بلفظ: "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق"، وله ألفاظ أخرى، وإسناده ضعيف.(2/287)
وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "وهو محمول على الصور التي لا يتحقق فيها الموجد للفراق؛ فإنه يكون وقتئذ من المكروه الذي يناله نصيب من بغض الله لما يترتب عليه من الإساءة للزوجة أو أقاربها، أو الولد الذي تتركه من خلفها، وإنما سمي بالحلال؛ لأن الحلال يطلق على ما يقابل الحرام؛ فيتناول المباح والمكروه".(2/288)
ص -202-…ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة1.
وجاء: "كل لهو باطل إلا ثلاثة"2.
وكثير من أنواع اللهو مباح، واللعب أيضا مباح، وقد ذم.
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر، وذلك مما يدل على [أن]3 المباح يتعلق به الطلب فعلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تجعله مرجوحا، كما أن تعلق الحب بالرخصة المباحة يجعل المباح راجحا. "د".
2 وتتمته: "رميه الصيد بقوسه، وتأديبه فرسه, وملاعبته امرأته؛ فإنه من الحق".
أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 95"، والطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 120/ ب"- بإسناد ضعيف عن أبي هريرة فيه سويد بن عبد العزيز، قال أحمد: "متروك"، وضعفه الجمهور، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" "5/ 269".
وقد وهم فيه سويد، إنما هو عن ابن عجلان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين مرسلا، كما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، 4/ 174/ رقم 1637".
أفاده أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان؛ كما في "العلل" "1/ 302/ رقم 905" وزاد ابن أبي حاتم:
"قال أبي: ورواه ابن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الشعثاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أيضا مرسل".
قلت: وروايته أخرجها سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 2454-ط الأعظمي".
وأخرجه موصولا من طريق آخر عن أبي هريرة القراب في "فضائل الرمي" "رقم 12"، وإسناده ضعيف جدا، فيه عمر بن صبح، متروك، وقد اتهم.
انظر: "المجروحين" "2/ 88"، و"الميزان" "3/ 206".
وللحديث شواهد بألفاظ مقاربة يصل بها إلى درجة الصحة، خرجتها في "فضائل الرمي" للقراب، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 315".
3 ليست في الأصل.(2/289)
ص -203-…وتركًا على غير الجهات المتقدمة1.
والجواب من وجهين2، أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فالإجمالي أن يقال: إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين؛ فكل ما ترجح أحد طرفيه؛ فهو خارج عن كونه مباحا، إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح، وإما لأنه مباح في أصله, ثم صار غير مباح لأمر خارج، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة3.
وأما التفصيلي؛ فإن المباح ضربان:
أحدهما: أن يكون خادما لأصل ضروري، [أو حاجي]4، أو تكميلي.
والثاني: أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يُراعى من جهة ما هو خادم له؛ فيكون مطلوبا ومحبوبا5 فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء6، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الخارجة عنه، الآتية بطريق الاستلزام يعني: بل ذلك راجع لنفس المباح؛ فلا تصلح هنا الأجوبة المتقدمة "د".
2 في الأصل: "جهتين".
3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".
4 ليست في الأصل.
5 في "م" و"خ": "محبوبا ومحبوبا"!
6 يعني أنه باعتبار هذا المأكول بعينه، وهذا الجزئي من الملبس والمشرب بخصوصه مباح، وباعتبار أنه يخدم ضروريا وهو إقامة الحياة -وهي جهة كلية- يكون مطلوبا ويؤمر به، لا من جهة خصوصيته، بل من جهة كليته؛ فليس الأمر آتيا من جهة كونه خوخا أو تفاحا أو خبزا في وقت كذا، بل من الوجهة العامة، ومن هنا يجيء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى غير ذلك من صيغ الأوامر. "د".(2/290)
ص -204-…مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب؛ فالأمر به راجع إلى حقيقته1 الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
والثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء كالطلاق2؛ فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة، واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص، وفي هذا الزمان مباح وحلال، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا، وقد تقدم، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري؛ كالدين3 -على الكافر والتقوى على العاصي- كان من تلك الجهة مذموما، وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح، ولكنه مذموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا غير الاستلزام وغير الأمور الخارجية التي سبق الكلام عليها في الرد على الكعبي. "د".
2 فالطلاق خادم لترك النكاح الحلال الذي يخدم ضروريا كليا هو إقامة النسل؛ فالطلاق خدم ما ينقض أصلا كليا وحاجيا أيضا كما سيقول. "د".
3 فإن المال واقتناءه حلال في ذاته، ولكنه قد يكون فتنة تلحق الشخص؛ فيكون سببا في الكفر أو الاستمرار عليه، وهذا في الكافر، وقد يكون سببا في خرم التقوى وهدمها بالنسبة للمسلم العاصي "د".(2/291)
ص -205-…ولم يرضه العلماء1، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد؛ لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية.
وفي القرآن: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]؛ إذ2 يشير إلى هذا المعنى.
وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة"3، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث، ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى، بخلاف اللعب مع الزوجة؛ فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل، وبخلاف تأديب الفرس، وكذلك اللعب بالسهام؛ فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد4، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل، وجميع هذا بين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه5.
وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية؛ فلنضعه [ها] هنا، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العقلاء".
2 في الأصل: "قد".
3 مضى تخريجه قريبا.
4 عده هنا من التكميليات، وسيعده في كتاب المقاصد من الضروريات، ولا تعارض بين المقامين؛ إذ لا مانع من جعله ضروريا في حال، وتكميليا في حال؛ فالأول فيما إذا ترتب على تركه هرج وفساد، وفوت حياة دنيوية أو أخروية، والثاني فيما إذا دعت إليه حاجة كون كلمة الإسلام هي العليا، أو توقف عليه كف بعض الأذى عن المسلمين. "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "عد المصنف في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد الجهاد في قسم الضروريات، وهو الذي يقتضيه تعريف الضروري بما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا؛ فإن هذا المعنى متحقق في الحرب التي يقصد بها دفاع الهاجمين أو مناجزة المتحفزين".
5 هذه هي فائدة الإشكال والجواب عنه، ولم تستفد من أول المسألة، ولا من الجدل الماضي كله، وفي الحقيقة قد أخذ من هنا تقييد الكلام السابق وتنقيحه، وأنه لا بد أن نزيد هذه الكلمة الوجيزة "بخصوصه" "د".(2/292)
قلت: ونحو ما سبق عند البغوي في "شرح السنة" "10/ 383"، وابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 371"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 516, 21/ 48، 30/ 216، 32/ 223".(2/293)
ص -206-…المسألة الثانية في الإباحة:
فيقال: إن الإباحة1 بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي؛ فالمباح يكون مباحا بالجزء، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب2، ومباحا بالجزء، منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة3 أو المنع.
فهذه أربعة أقسام:
فالأول:
كالتمتع بالطيبات4؛ من المأكل، والمشرب، والمركب، والملبس، مما سوى الواجب من ذلك, والمندوب المطلوب في محاسن العبادات، أو المكروه في محاسن العادات؛ كالإسراف؛ فهو مباح بالجزء، فلو ترك بعض الأوقات5 مع القدرة عليه, لكان جائزا كما لو فعل، فلو ترك جملة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة: مصدر أباحه له إباحة؛ أي: أحله له، والمباح: الحلال. "ماء".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 461".
3 في "ط": "الكراهية".
4 أي: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واجبا "كما إذا اقتضته ضرورة حفظ الحياة أو دفعت إليه حاجة رفع الحرج"، ولا مندوبا "كما إذا كان داخلا فيما هو من محاسن العادات"، ولا مكروها "كما إذا كان فيه إخلال بمحاسنها، كالإسراف في بعض أحواله" نقول: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واحدا من هذه الثلاثة يكون مباحا بالجزء مندوبا بالكل، فلو تركه الناس جميعا وأخلوا به, لكان مكروها، فيكون فعله كليا مندوبا إليه شرعا. "د".
5 مقتضاه مع سياق الأحاديث أنه مباح بالجزء مندوب بالكل في حق الشخص الواحد بعينه، وقوله بعد: "لو تركه الناس جميعا؛ لكان مكروها"، يقتضي أن طلبه كفائي، لو قام به البعض سقط عن الباقي، ولو كان قادرا عليه فلم يفعله رأسا؛ لم يكن مكروها، ولعل الأول هو المعول عليه، ويشهد له قوله في الثاني: "إذا اختار أحدها، أو تركها الرجل في بعض الأحيان أو تركها بعض الناس" "د". وفي "ط": "ترك ذلك في بعض...".(2/294)
ص -207-…لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه؛ ففي الحديث: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم"1، و: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"2، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته: "أليس هذا أحسن؟"3، وقوله: "إن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء 1/ 475/ رقم 365" عن أبي هريرة ضمن حديث، فيه: "إذا وسع الله فأوسعوا".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب الحنطة، 5/ 52-53" عن ابن عباس ضمن حديث آخر، في آخره: "قال علي: أما إذا أوسع الله, فأوسعوا".
وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 911" بسند صحيح إلى عمر -رضي الله عنه- قال: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة؛ منها: حديث عمران بن حصين, أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله -عز وجل- على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح.
وانظر سائر الشواهد في "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75".(2/295)
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 949" من طريق عطاء بن يسار؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع؛ فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان".
وإسناده ضعيف بهذا اللفظ؛ لإرساله، وسائر رجاله ثقات.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 50": "ولا خلاف عن مالك أن هذا الحديث مرسل، =(2/296)
ص -208-…جميل يحب الجمال"1، بعد قول الرجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة"، وكثير من ذلك، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان مكروها.
والثاني: كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع، والشراء، ووجوه الاكتسابات الجائزة؛ كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
وكثير من ذلك، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء؛ أي: إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها؛ فذلك جائز، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد يتصل معناه من حديث جابر وغيره".
قلت: أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب اللباس، باب في غسل الثوب/ رقم 4062"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب تسكين الشعر, 8/ 183-184"، وأحمد في "المسند" "3/ 357"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 23/ رقم 2026"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1438- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 186"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 78"، وابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 52-53"، بسند صحيح على شرط الشيخين عن جابر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه، فقال: "أما وجد هذا ما ينقي ثيابه؟!" ورأى رجلا ثائر الشعر، فقال: "ما وجد هذا ما يسكن به شعره؟!".
وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "1/ 122" للترمذي وغيره، وقال: "بإسناد جيد".
قلت: أخشى أن يكون العراقي قد رمز له بـ"ن"؛ فتحرفت إلى "ت"، وعلى كل؛ فعزو الحديث للترمذي خطأ، والله الموفق.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان, باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.(2/297)
ص -209-…أو تركها بعض الناس1؛ لم يقدح ذلك, فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك؛ لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل.
والثالث:
كالتنزه2 في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، واللعب المباح بالحمام، أو غيرها؛ فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فعل يوما ما، أو في حالة ما؛ فلا حرج فيه, فإن فعل دائما كان مكروها، ونسب فاعله إلى قلة العقل, وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح.
والرابع:
كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة؛ فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة، وأجري صاحبها مجرى الفساق، وإن لم يكن كذلك، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا، وقد قال الغزالي: "إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تصيره3 كبيرة"4، ومن هنا قيل5: "لا صغيرة مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا في غير الأكل والشرب مثلا، أما هما؛ فلا، بل الذي يجري فيهما قوله تركها في بعض الأحوال؛ فقوله: "فلو فرضنا ترك الناس كلهم" يعني: أو فرضنا ترك الشخص لمثل الأكل والشرب دائما وكليا لكان... إلخ، فهو مع كونه ذكر أحوالا كثيرة؛ اكتفى بافتراض الترك في بعضها فقط، مع اعتباره عموم الحكم لما بقي من وجوه الافتراض، ويمكن أن يقال نظيره في القسم الأول.
فكأنه قال في القسمين: ولو فرضنا ترك الشخص دائما وكليا, لكان تاركا للمندوب في الأول، وللواجب في الثاني فيما يكون فيه ذلك كالأكل والشرب. "د".
2 في هذا القسم والذي بعده جعل الكلام في الشخص الواحد جزئيا وكليا؛ فتنبه. "د".
3 في "ط": "تصيرها".(2/298)
4 في "إحياء علوم الدين" "4/ 22"، وانظر منه: "3/ 129"، وهذا النوع الأخير عند المصنف قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثلة ولا أدلة، كما يصعب التفريق بينه وبين سابقه؛ ففي كل منهما "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها -أي: تلك المباحات- تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها؛ لأنها حينئذ تصير هوى متبعا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر، وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى، ومن الأمثلة الجلية على هذا احتراف بعض الناس اليوم لبعض أنواع اللعب, فيصير الإنسان حرفته "لاعب"، وتصير حياته لعبا في لعب، وقريب من هذا ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال من كل أيامهم أو معظمها في المقاهي وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها، أفاده الريسوني.
5 في "ط": "قالوا".(2/299)
ص -210-…الإصرار"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتب "خ" هنا ما نصه: "هذه مقالة لبعض الصوفية، وليست بحديث كما تخيله بعض من لا يتحرى في الرواية". وفي "ط": "إصرار".
قال أبو عبيدة: وردت المقولة السابقة على أنها حديث مرفوع عن:
- ابن عباس، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 853"، وأبو الشيخ، والديلمي، والعسكري في "الأمثال" -كما في "المقاصد" "467"- بسند ضعيف, فيه أبو شيبة الخراساني، أتى بخبر منكر؛ كما قال الذهبي في "الميزان" "4/ 537"، وذكره.
- أبي هريرة، أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" بسند واه بمرة، فيه مبشر بن عبيد الدارسي، وهو متروك، أفاده السخاوي.
وأخرجه من حديثه أيضا: الثعلبي وابن شاهين في "الترغيب" من طريق آخر لا يفرح بها، فيها بشر بن إبراهيم وضاع مشهور؛ كما في "اللسان" "2/ 18".
- عائشة، أخرجه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في "المبتدأ"، قاله السخاوي، وزاد: "وإسحاق حديثه منكر" قلت: وهو متهم بالوضع.
- أنس، أخرجه البغوي ومن جهته الديلمي، قال السخاوي: "وينظر سنده"، قال محشيه: "نظرت سنده؛ فوجدت فيه راويا مجهولا"؛ فالحديث لم يثبت مرفوعا، وثبت موقوفا على ابن عباس, وليس عن بعض الصوفية، وقد قلد المحشي في عبارته السابقة الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص47"؛ إذ المقولة مقولته!! -أخرج ابن جرير في "التفسير" "رقم 9207"، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 498، النساء: 31"- والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 7150"، وابن المنذر -كما في "المقاصد"- بسند صحيح؛ أن ابن عباس سئل: كم الكبائر؛ أسبع هي؟ قال: "إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار".
وانظر في ضابط الإصرار المصير للصغيرة كبيرة: "الذخيرة" "10/ 223" للقرافي.(2/300)
ص -211-…فصل:
إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل1؛ كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، والفجر2، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب؛ فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها, ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول -عليه السلام- من دوام على ترك الجماعة؛ فهم أن يحرق عليهم بيوتهم3، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار4، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إما كفائيا كالأذان وإقامة الجماعة، وإما عينيا كباقي الأمثلة؛ إلا ما يأتي بعد من النكاح، فوجوبه الكفائي بقدر ما يتحقق منه مقصود الشارع. "د".
قلت: وفي بعض الأمثلة المذكورة عند المصنف نزاع في كونها على الكفاية، وانتصر غير واحد من المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه- للقول بوجوب صلاة الجماعة والعيدين على الأعيان، والله الموفق.
2 هذا التمثيل غير صحيح, ولا وجه له إلا أن يكون فيه سقط تقديره "وسنة الفجر".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، 1/ 451/ رقم 651"، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ناسا في بعض الصلوات؛ فقال: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها؛ فآمر بهم، فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها" يعني: صلاة العشاء، لفظ مسلم.(2/301)
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب ما يحقن الأذان من الدماء، 2/ 89-90/ رقم 610، وكتاب الجهاد، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، 6/ =(2/302)
ص -212-…مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني، وما أشبه ذلك؛ فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين، إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات؛ فلا تأثير له، فلا محظور في الترك.
فصل:
إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل؛ كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه1، فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة؛ لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها؛ قدحت في عدالته، وذلك2 دليل على المنع بناء على أصل الغزالي3، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج: "إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة؛ لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 111/ رقم 2943، 2944"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان" "1/ 288/ رقم 382" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه.
وعلق "خ" على الحديث بقوله: "فترك الأذان لم يكن السبب في الإغارة على القوم، وإنما كان كالدليل على أنهم لا زالوا على مناوأة الإسلام التي هي السبب في الإغارة عليهم، ولم يكن عليه السلام ليغير على قوم من العرب إلا بعد أن تبلغهم دعوته، ويجاهروا بعداوته، ويشهد بهذا قوله لعلي بن أبي طالب في هذه الغزوة نفسها: "على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام".
1 والحق أن اللعب بالنرد والشطرنج والغناء حرام، كما هو مقرر عند كثير من المحققين من أهل العلم. انظر: "الفروسية" لابن القيم "ص302 وما بعد-بتحقيقي".
2 وذلك "أي: قدح المداومة على المكروهات في العادة، وإخراج صاحبها عن أهل الشهادة" دليل على أنه اقترف ذنبا. "د".
3 وهو أن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، بل هذا أولى من المداومة على بعض المباحات "د".(2/303)
ص -213-…تقبل شهادته"، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة1، والحلول بمواطن التهم لغير عذر، وما أشبه ذلك.
فصل:
أما الواجب إن قلنا: إنه مرادف للفرض؛ فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء، فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي، وإذا كان واجبا بالجزء؛ فهو كذلك بالكل من باب أولى، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا؟
أما بحسب الجواز2؛ فذلك ظاهر, فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها, ويعد مرتكب كبيرة؛ فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله؛ فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة، مع من كثر ذلك منه وداوم عليه، وما أشبه ذلك؛ فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها.
وأما بحسب الوقوع؛ فقد جاء ما يقتضي ذلك؛ كقوله -عليه السلام- في تارك الجمعة: "[من ترك الجمعة]3 ثلاث مرات طبع الله على قلبه"4؛ فقيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كتابنا: "المروءة وخوارمها"؛ فقد فصلنا -ولله الحمد- في ذلك.
2 أي: جواز ذلك وإمكان وقوعه شرعا، ويأتي مقابله، وهو الوقوع بالفعل في قوله: "وأما بحسب الوقوع". "د".
3 ساقطة من الأصل، والسياق واضح بدونها.
4 ورد عن أبي الجعد الضمري، بلفظ: "من ترك ثلاث جمع تهاونا؛ طبع الله على قلبه".
أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة، 1/ 277/ رقم 1052"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، 3 =(2/304)
ص -214-…بالثلاث كما ترى، وقال في الحديث الآخر: "من تركها1 استخفافا بحقها أو تهاونا"2، مع أنه لو تركها3 مختارا غير متهاون ولا مستخف؛ لكان تاركا للفرض؛ فإنما قال ذلك لأن [تركها]4 مرات أولى في التحريم، وكذلك5 لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون، وانبنى على ذلك في الفقه: أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر؛ لم تجز شهادته. قاله سحنون، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا6 تركها مرارا لغير عذر؛ لم تجز شهادته7. وكذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 277/ رقم 1052"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، 1/ 357/ رقم 1125"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الص لاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، 2/ 373/ رقم 500"، وأحمد في "المسند" "3/ 424"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 175، 176/ رقم 1875، 1876"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 230"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 280"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 237-238/ رقم 258 و4/ 198/ رقم 2775- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 172"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 213/ رقم 1053"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "1/ 21-22"، والمروزي في "فضل الجمعة" "رقم 62" بإسناد قوي، كما قال الذهبي في "الكبائر" "ص208- بتحقيقي"، وصحح الحديث جماعة، انظر: "التلخيص الحبير" "2/ 52".
1 ذكر الحديث بهذه الرواية على ما فيها ليفيد أن الشارع رتب على تكرار الترك ما رتبه على الترك تهاونا واستخفافا، ولا يخفى عظم جرم الاستخفاف؛ فدل على أن جريمة التكرار أكبر من جريمة المرة الواحدة، ولا يخفى عليك حكمة ذلك؛ فإن تكرار الترك لغير عذر وإن لم تشعر النفس فيه بالاستخفاف، ولم يخطر بالبال؛ إلا أنه في الواقع لا بد أن يكون مركوزا في نفس الشخص الذي يتكرر منه الترك؛ لأنه هو السبب الحقيقي للتكرار، كما يشير إليه كلامه بعد. "د".
2 تقدم نحوه في الحديث السابق.(2/305)
3 أي مرة واحدة؛ لكان تاركا للفرض؛ أي: ولم يرتب عليه الطبع على القلب. "د".
4 ما بين حاصرتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 لعل صوابه "كما"، ويكون بيانا لحكمة ذكر الحديث الثاني. "د".
6 في "د": "إذ".
7 بعدها في النسخ المطبوعة: "قاله سحنون"، وليس لها معنى، وهي ليست في الأصل، وأشار إلى ذلك محقق "د" بقوله: "انظر ما معنى إعادتها؟ فلعل هنا تحريفا".(2/306)
ص -215-…يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك: إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة، فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته، وصار في عداد من فعل كبيرة، بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
وأما إن قلنا: إن الواجب ليس بمرادف للفرض؛ فقد يطرد فيه ما تقدم، فيقال: إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل1، لا مانع يمنع من ذلك؛ فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم؛ فيقال في الفرض2: إنه يختلف بحسب الكل والجزء، كما تقدم بيانه أول الفصل.
وهكذا القول في الممنوعات: إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما، أو في حالة ما؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر، بل يختلف الحكم فيها, كالكذب من غير عذر, وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها، وقد ينضاف3 الذنب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فينزل الواجب منزلة المندوب فيما سبق, ويكون جزئيه واجبا وكليه فرضا، بل يكون هذا أولى من المندوب، وعليه لا يخرج الواجب عن الطريقة التي شرحت في المندوب والمكروه والمباح، واختلافها جزئيا عنهما كليا، وأخذ الكلي حكما* آخر من الأحكام الخمسة غير ما كان في الجزئي. "د".
2 أي: أيضا كما قيل في الواجب والأقسام قبله، لكن بالطريقة التي ذكرها في هذا الفصل، وأن جريمة التكرار أكبر من الترك، وهكذا مما سبق له، لا أنه يأخذ لقبا آخر من ألقاب الأحكام الخمسة لم يكن له قبلا في الجزئية، ومثله يقال في الحرام. "د".
3 في الأصل: "يضاف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "حكم"!(2/307)
ص -216-…الذنب؛ فيعظم بسبب الإضافة؛ فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه، ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر -مع أن السرقة معدودة من الكبائر- وقد قال الغزالي: "قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر، -قال:- ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة، ولم يتفق عوده إليها، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره"1.
فصل:
هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق2.
ولمدع3 أن يدعي اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية.
أما في المباح؛ فمثل قتل كل مؤذ، والعمل بالقراض، والمساقاة، وشراء العرية، والاستراحة بعد التعب، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب، والتداوي، إن قيل: إنه مباح4؛ فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "إحياء علوم الدين" "4/ 32"، وفي الأصل المخطوط: "غيره" بدل "عمره".
2 أي: في الحكم بين الجزئي والكلي، ويجعل ذلك قاعدة كلية مطردة لا تتخلف "د".
3 أي: له أن ينازع في اطراد القاعدة، ويقول: بل قد يستوي حكم الكلية والجزئية، وذاك في مثل الأمثلة التي ذكرها ووجدها في كل نوع من أنواع الأحكام الخمسة "د".
4 هذا مذهب طائفة من الفقهاء، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأخذ بالتداوي أفضل من تركه، ونظر فريق من المحققين إلى صحة قوانين الطب وكثرة إصابة الأطباء الماهرين في تطبيقها عمليا؛ فقالوا: متى خيف على النفس الوقوع في خطر، وغاب على الظن نفعه؛ كان أمرا واجبا، وأجازوا جميعا حتى الطائفة القائلة بالإباحة تمكين الطبيب من بعض الوسائل المحرمة بحسب الأصل؛ كلمس الأجنبية، والنظر إلى العورة. "خ".(2/308)
ص -217-…فعلها ولا من تركها إثم، ولا كراهة، ولا ندب، ولا وجوب، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا؛ فهو كما لو فعلوه كلهم.
وأما في المندوب؛ فكالتداوي إن قيل بالندب فيه؛ لقوله, عليه السلام: "تداووا"1، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية؛ لقوله: "إذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة"2؛ فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها3 ولا ممنوعا، وكذلك لو فعلها دائما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، 4/ 3/ رقم 3855"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، 4/ 382/ رقم 2038"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "1/ 62-63"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 2/ 1137/ رقم 3436"، وأحمد في "المسند" "4/ 278"، والبخاري في "الأدب المفرد" "291"، والحميدي في "المسند" "824"، والطيالسي في "المسند" "1747"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 323"، والطبراني في "الصغير" "1/ 202، 203"، و"الكبير" "1/ 144-151"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 399" بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، ولفظه: "نعم يا عبد الله! تداووا؛ فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد". قالوا: وما هو؟ قال: "الهرم".(2/309)
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة، 4/ 23/ رقم 1409" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، 7/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 3170"، وأحمد في "المسند" 4/ 123، 124، 125"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 60" من حديث شداد بن أوس مرفوعا، وأوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم...".
3 الجاري على ما تقدم أن يقول: لم يكن ممنوعا، وأيضا؛ فالذي يراد نفيه هنا أن تكون واجبة بالكل، أي: فيكون تركها دائما ممنوعا على وزان ما تقدم، أما كونه ليس مكروها؛ فمن جهة أن ضد المندوب المكروه. "د".(2/310)
ص -218-…وأما في المكروه؛ فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ1، والاستجمار بالحممة2 والعظم وغيرهما مما ينقي؛ إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن3، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم، وكذلك البول في الجحر4، واختناث الأسقية في الشرب5، وأمثال ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في حديث ابن عباس: "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أربع من الدواب: النملة..." أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب, باب في قتل الذر، 4/ 367، 5267"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله، 2/ 1074/ رقم 3224"، والدارمي في "السنن" "2/ 88-89", والطحاوي في "المشكل" "1/ 371"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 649"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، كلهم من طريق عبد الرزاق -وهو في "المصنف" "رقم 8415"- عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس به.
قال أبو زرعة, كما في "العلل" "2/ 302" لابن أبي حاتم: "أخطأ فيه عبد الرزاق، والصحيح من حديث معمر عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل".
والحديث صحيح، وله طرق أخرى عن ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 332، 347" -ومن طريقه القطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 58"- وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5617"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 142/ رقم 2490".
2 الحممة: الفحمة الباردة، وكل ما احترق من النار. انظر: "لسان العرب" "ح م م".
3 كما في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في "كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، 1/ 255/ رقم 155، وكتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، 7/ 171/ رقم 3860".
ولفظ "الحممة" جاء في حديث ابن مسعود، أخرجه أبو داود في "كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، 1/ 10/ رقم 39" بإسناد صحيح.(2/311)
4 كما في حديث عبد الله بن سرجس، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الحجر، 1/ 8/ رقم 29"، وأحمد في "المسند" "5/ 82"، وإسناده ضعيف.
5 كما في حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، 3/ 1600/ رقم 2023"، ونصه: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اختناث الأسقية".(2/312)
ص -219-…وأما في الواجب والمحرم؛ فظاهر أيضا التساوي، فإن الحدود وضعت على التساوي؛ فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة، وقاذف الواحد1.
كقاذف الجماعة، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس في إقامة الحدود عليهم، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك، وما أشبه ذلك.
وأيضا؛ فقد نص الغزالي على أن الغيبة، أو سماعها، والتجسس2، وسوء الظن، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكل الشبهات، وسب الولد والغلام، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة، وإكرام السلاطين الظلمة، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين؛ جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها؛ لأنها غالبة في الناس على الخصوص، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة؛ فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات، فإذا ثبت هذا؛ استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي، وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية.
ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تراجع هذه الأحكام في الفروع. "د".
2 التجسس: البحث عن عورات الناس، واستطلاع معائبهم ولو بقصد مجازاتهم عليها متى كانت تستوجب التأديب والعقوبة، قيل لابن مسعود كما أخرجه أبو داود وغيره: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال: "قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به، أما التجسس بالتنقيب عن أحوال الأمة والسعي بها إلى عدوها ليستعين بمعرفة شئونها الخفية على تمزيق وحدتها ووضع قيد الاستعباد في عنقها؛ فجناية تقتلع أصل العدالة من حيث نشأت، وأمر مرتكبها -كما نص فقهاء المالكية- موكول إلى اجتهاد من بيده الحكم النافذ، وله أن يحمله على أشد العقوبات، ويقضي على حياة تلك النفس السامة قبل أن تقضي على حياة أمة بأجمعها". "خ".(2/313)
ص -220-…أما الأول؛ فإن الكلى والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك، داخلهم الحرج من وجوه عدة، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا؛ فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد، فيكون الفعل إذًا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا، وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه؛ فلا استواء إذًا بين الكلي والجزئي فيه، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك؛ لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي، وناهيك به، نعم قد يسبق ذلك النظر1 إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي، وأما إذا تباعد ما بينهما؛ فالواقع ما تقدم، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه.
وأما ما ذكره في الواجب والمحرم؛ فغير وارد، فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر، وإن اتفقت في بعض، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة2، وإن سلم؛ ففي العدالة وحدها لمعارض راجح، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة؛ فتعذرت الشهادة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: نظر الاتفاق في الحكم بين الكلي والجزئي في هذه المسائل إذا كان الكلي قليل الشمول ضعيف العموم؛ فربما يقال: إن الشخص الواحد لو ترك قتل المؤذي أو العمل بالقراض أو المساقاة طول حياته؛ لما خرج عن حكم المباح، وكذا يقال في الباقي، أما إذا اتسع العموم؛ فإن الحكم لا يتفق، ولا يخفى عليك أنه تسليم في شيء مما يوهن القاعدة العامة الكلية التي قررها أول الفصل.
"د".
2 وهي اختلاف مراتب الممنوعات بالكلية والجزئية كما سبق. "د".(2/314)
3 يكتفي الفقهاء بالميسور من شروط العدالة من تعطيل الشهادة المفضي إلى إضاعة الحقوق واختلال شأن الأمن، قال القرافي في باب السياسة من كتاب "الذخيرة": "نص ابن أبي زيد في "النوادر" على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول؛ أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم وأقلهم فجورا، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح". ثم قال القرافي: "وما أظن أحدا يخالفه في هذا؛ فإن التكليف شرطه الإمكان". "خ". وانظر: "النوازل" للعلمي "3/ 28".(2/315)
ص -221-…فصل:
إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة؛ فقد يطلب الدليل على صحتها، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب، وانشراح الصدر؛ فيدل على ذلك جمل:
- منها: ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان، مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة، ولولا أن للمداومة تأثيرا؛ لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال، لكنهم اعتبروا ذلك؛ فدل على التفرقة، وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف.
- ومنها: أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق, وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات؛ إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر1 الكليات على حكم الاطراد، كالحكم بالشهادة, وقبول خبر الواحد، مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد، لكن الغالب الصدق؛ فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق, ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم، ولا طرح الظن بإطلاق، وليس كذلك, بل حكم بمقتضى ظن الصدق، وإن برز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تجز" بالزي، ولها وجه.(2/316)
ص -222-…بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية1 في حكم الكلية، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية، وأن شأن الجزئية أخف.
- ومنها: ما جاء في الحذر من زلة العالم، [فإن زلة العالم]2 في علمه أو عمله -إذا لم تتعد لغيره- في حكم زلة غير العالم، فلم يزد فيها على غيره، فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره، فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل، أو على مقتضى القول؛ فصارت عند الاتباع عظيمة جدا، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به، ويجري مجراه كل من عمل عملا فاقتدى به فيه؛ إن صالحا فصالح، وإن طالحا فطالح، وفيه جاء: "من سن سنة حسنة أو سيئة"3، و"إن نفسا تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كان هذا في أحكام وضعية لا الأحكام الخمسة التكليفية التي الكلام فيها؛ لأن الشهادة وقبولها من الأحكام الوضعية. ا. هـ. إلا أن يقال: إن مجاري العادات تدخلها الأحكام التكليفية أيضا، وأنت ترى أن هذه الأدلة الثلاثة إنما تدل على مجرد أصل الاختلاف بين الفعل الواحد كلا وجزءا، ولكن هل ذلك مطرد ومطرود بمعنى؟ وفي كل الأحكام الخمسة كما هي أصل الدعوى، أو في بعضها فقط؟ ا. هـ. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".(2/317)
3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة، 5/ 75-77"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هوى فاتبع أو إلى ضلالة/ رقم 2675"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة/ رقم 203"، وأحمد في "المسند" "4/ 357-359"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 175-176" من حديث جرير -رضي الله عنه- بلفظ:
"من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص =(2/318)
ص -223-…أول من سن القتل"1، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب, وإن كانت في نفسها صغيرة، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية، وهو المطلوب.
المسألة الثالثة: اختلافات المباح
المباح يطلق بإطلاقين:
أحدهما: من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك.
والآخر: من حيث يقال: لا حرج فيه، وعلى الجملة؛ فهو على أربعة أقسام2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "فيدخل في معنى "سن" السنن استنباط الرجل لأصل أو حكم شرعي ينبني عليه عمل صالح, أو ابتكاره مشروعا، أو نظاما له أثر في إصلاح شأن وتأييد قوة الدفاع عن حقوق البلاد كما يتناول إظهاره عملا نافعا يترتب على قيامه به بين الناس اقتداؤهم بأثره، وإن عرف حكمه من قبل، وسبب ورود الحديث كان من هذا القبيل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين جاء رجل من الأنصار بصرة من وَرِق لتنفق على أناس من الأعراب كانوا في حاجه، ثم جاء آخر، وتتابع المسلمون على ذلك، وكذلك يجري معنى سن السنن السيئة على نظير هذا البيان".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب منه، 7/ 81-82"، وابن أبي عاصم في "الديات" "ص23" وغيرهم من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
في "د": "لا تقتل ظلما", ولا معنى لزيادة "لا" في هذا الموضع؛ إلا إن كانت: "لا تقتل..."، والتصحيح من الأصل.
2 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462".(2/319)
ص -224-…أحدها: أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل.
والثاني: أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك.
والثالث1: أن يكون خادما لمخير فيه.
والرابع: أن لا يكون فيه شيء من ذلك.
فأما الأول؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الفعل بالكل، وأما الثاني؛ فهو المباح بالجزء، المطلوب الترك بالكل، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها، وأما الثالث والرابع؛ فراجعان إلى هذا القسم الثاني.
ومعنى هذه الجملة؛ أن المباح -كما مر- يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما، والخدمة هنا2 قد تكون في طرف الترك؛ كترك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستعرف أنه على ما قرره لا يكون هذا التقسيم ظاهرا؛ فلا يتأتى وجود الثالث والرابع. "د".
وكتب ناسخ الأصل ما صورته:
"قوله: والثالث أن يكون خادما لمخير فيه... إلخ, فإن قيل عليه: انظر ما قرره في هذه من أن خادم المخير فيه من مطلوب الترك؛ فالكل مع ما يقرره فيما بعدها من أن المخير فيه مطلوب الفعل بالكل؛ إذ مقتضاه أن يكون خادمه مثله.
قيل: الذي فيما بعدها هو أن مطلوب الفعل بالكل هو المخير فيه، وذلك يقتضي حصر المطلوب الكلي في المخير، فلا يلزم أن يكون كل مخير مطلوب الفعل؛ فلا تنافي بين كلاميه، ويدل عليه ما ذكره في هذه من أن القسم الثالث مثل الرابع؛ لأنه خادم له؛ فدل هذا على أن المخير فيه تارة يكون خادما لمطلوب الفعل بالكل، وتارة يكون خادما فيه غير خادم لشيء.
2 أي: في موضوع المباح قد تكون في طرف الترك، وقد تكون في طرف الفعل؛ أي: في كل من القسمين الأول والثاني، وإن اقتصر في التمثيل على جانب الترك في القسم الثاني, وجانب الفعل في القسم الأول، وتوضيح ذلك على هذا الفهم أن يقال: ترك سماع الغناء جزئيا خادم لترك =(2/320)
ص -225-…الدوام1 على التنزه في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، فإن ذلك هو المطلوب2، وقد يكون3 في طرف الفعل؛ كالاستمتاع بالحلال من الطيبات، فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب، من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات4، بخلاف المطلوب الترك؛ فإنه5 خادم لما يضادها6، وهو الفراغ من الاشتغال بها، والخادم للمخير فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدوام المطلوب، ونفس السماع خادم للمطلوب الترك وهو الكلي من اللهو، والتمتع بالطيبات خادم لكلي إقامة الضروري، وترك الجزئي خادم للترك الكلي المنهي عنه.
وقد أشار إلى مطلوب الترك كليا فيما يخدمه من جانب الفعل؛ فقال: "بخلاف المطلوب الترك" يعني: الجزئي الذي يخدم كليا مطلوب الترك؛ فإنه يكون خادما لما يضادها وهو الفراغ في الاشتغال بها.
ويحتمل أن يكون قوله "هنا"؛ أي: في خصوص مطلوب الفعل كليا، فإنه يكون بالترك؛ كمثال الغناء, وبالفعل كمثال الاستمتاع بالطيبات، وربما رشح هذا الاحتمال قوله بعد المثال الأول: "فإن ذلك هو المطلوب". "د".
1 لو قال: كترك التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام؛ فإنه مباح خادم لترك الدوام على التنزه وهو المطلوب، لكان جاريا مع بيانه بعد في طرف الفعل، ولظهر غرضه من أن مطلوب الفعل كما يخدمه الفعل يخدمه الترك إذا أجرينا كلامه على الاحتمال الثاني الذي أشرنا إليه. "د".
2 لأنه يخدم كليا مطلوبا هو إقامة الحياة. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "تكون"؛ بالتاء المثناة الفوقية.
4 هو إقامة الحياة. "د".
5 أي: فعل جزئيه خادم؛ أي: فالمطلوب الترك كليا يخدمه فعل المباح، وعلى ما قررنا أولا قد يخدمه أيضا، أي: يحققه ويعين على حصوله ترك المباح، وذلك كترك الاستمتاع بالمباح كليا؛ فإنه مطلوب الترك، ويخدمه مباح أهله وترك الاستمتاع بها جزئيا، وإن كان قد اقتصر على بيان خدمته جانب الفعل كما أشرنا إليه. "د".(2/321)
6 فإن الاشتغال باللهو الجزئي يتكون منه ومن جزئيات اللهو أمثاله فراغ من الاشتغال بالضروريات؛ فاللهو الجزئي خادم للهو الكلي الذي يضاد الضروريات. "د".(2/322)
ص -226-…على حكمه1.
وأما الرابع؛ فلما كان غير خادم لشيء يعتد به؛ كان عبثا، أو كالعبث عند العقلاء، فصار مطلوب الترك [أيضا]2؛ لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا، فهو إذًا خادم [لمطلوب3 الترك؛ فصار مطلوب]4 الترك بالكل، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له؛ فصار مطلوب الترك أيضا.
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، وأما بالكل؛ فهو إما مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك.
فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مخير فيه، هذا إذا كان المخدوم المحذوف جزئيا؛ كالمشي المباح لسماع الغناء مثلا؛ فلا ينافي أنه يأخذ -وهو كلي- حكما من الأحكام الباقية غير المباح، كما سبق، وبهذا يمكن تصوير مباح خادم لمخير، لكن قوله بعده: "والقسم الثالث مثله لأنه خادم له" يقتضي أنه خادم لمخير كلي, ويكون قوله في أول المسألة: "والثالث أن يكون خادما لمخير فيه"؛ أي: كلي, وقوله: "والرابع ألا يكون خادما لشيء من ذلك"؛ أي: إنه مباح لا يخدم كليا مطلقا، أو لا يخدم كليا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، ولا يخفى عليك أن هذا التقسيم بهذا المعنى لا يستقيم مع ما سبق من القاعدة التي أسهب في أدلتها، وهي أن المباح بالجزء لا بد أن يأخذ حكما آخر إذا نظر إليه كليا؛ فكيف يتصور أن يخدم المباح كليا مخيرا فيه أو كليا لا حكم له من الأحكام؟ على أنه سيصرح بأن القسمين الثالث والرابع من باب المطلوب الترك بالكل هو حكمه؛ فيقال: فيما يخدم المطلوب مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه، يقال: مطلوب بالترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".
2 ليست في الأصل.
3 في الأصل: "المطلوب".
4 ليست في الأصل.(2/323)
ص -227-…فالجواب أن لا؛ لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه، من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرت إليه في نفسه؛ فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة؛ فهو المسمى بالمطلوب بالكل1، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه؛ فلا قصد له في أحد الأمرين، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك، وهو -من جهة ما هو وقاية للحر والبرد، وموار للسوأة، وجمال في النظر- مطلوب الفعل، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين, ولا بهذا الوقت المعين؛ فهو نظر بالكل لا بالجزء.
المسألة الرابعة: انواع المباح
إذا قيل في المباح: إنه لا حرج فيه -وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين- فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك؛ لوجوه:
أحدها: أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة:
فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك؛ كقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وقوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني مثلا، وإلا؛ فالنظر إليه بالأمور الخارجية يجعله؛ إما من هذا، وإما من المسمى بالمطلوب الترك بالكل كما تقدم في اللهو، وبالجملة؛ فهذه المسألة لم تقرر قاعدة وأصلا زائدة على ما تقدم في المسألة قبلها، بل هي زيادة إيضاح لمسلك فهم مغايرة حكم الكلي للجزئي، وذلك باعتبار ضابط هو الخدمة، فما يخدمه الجزئي يأخذ هو حكمه؛ فيقال فيما يخدم المطلوب: مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه يقال: مطلوب الترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د".(2/324)
ص -228-…{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58].
والآية الأخرى في معناها؛ فهذا تخيير حقيقة.
وأيضا؛ فالأمر في المطلقات -إذا كان الأمر للإباحة- يقتضي التخيير حقيقة؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 160].
وما أشبه ذلك؛ فإن إطلاقه -مع أنه يكون على وجوه- واضح في التخيير في تلك الوجوه؛ إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك.
وأما القسم المطلوب الترك بالكل؛ فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا، بل هو مسكوت عنه، أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح؛ كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها، فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه، وجاء: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، وهو الطبل أو ما في معناه، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وما تقدم من قول بعض الصحابة1: حدثنا يا رسول الله -حين ملوا ملة- فأنزل الله, عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
وفي الحديث: "كل لهو باطل"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه "ص50".
2 تقدم تخريجه "ص202".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وذكر القوس بجانب الرمي؛ لأنه المعروف في ذلك العصر، والحكم =(2/325)
ص -229-…وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب، فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة1، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات2 أو بعض الأحوال؛ فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"3؛ أي: مما عفا عنه، وهذا إنما يعبر به في العادة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من حيث المعنى شامل لسائر أنواع الرماية على اختلاف آلاتها، كما أن العلة في استثناء تأديب الفرس من الباطل، وهي التوسل به إلى القيام بواجب الجهاد تقتضي أن يلحق بالفرس في استحسان العناية بها والتدرب على إدارة عنانها حسب الإرادة كل ما اخترع من المراكب البحرية والبرية والجوية، وتعين اتخاذه في وسائل الدفاع عن البلاد وحماية الحقوق. "خ".
قلت: ويلحق بالرمي بالنشاب الأسلحة النارية في أيامنا، ومن الغباوة الجمود على الرمي بالنصل على ظاهر الحديث؛ فإن التحريض عليه ليس إلا للجهاد، وليس فيه معنى وراءه، ولما لم يبق الجهاد بالنشاب والأقواس؛ لم يبق فيه معنى مقصود، فلا تحريض فيها، ومن هذه الغباوة ذهبت سلطنة "بخارى", حيث استفتى السلطان من علماء زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه؛ فمنعوه، وقالوا: إنها بدعة، فلم يدعوه أن يشتريها، حتى كانت عاقبة أمرهم أنهم انهزموا، وتسلط عليهم الروس، ونعوذ بالله من الجهل، قاله الكشميري في "فيض الباري شرح صحيح البخاري" "3/ 435" ونحوه عند المطيعي في "تكملة المجموع" "15/ 203"، والساعاتي في "الفتح الرباني" "13/ 130".
1 أي: بحال مخصوصة كما ورد: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف"، وكما ورد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما حضرت زواج الجارية الأنصارية: "أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" "د".
2 كما ورد في لعب الحبشة في المسجد يوم العيد. "د".(2/326)
3 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 375"، والبزار في "مسنده" "رقم 123، 2231، 2855- زوائده"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 12" عن أبي الدرداء مرفوعا: "ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئا".
وإسناده حسن، ورجاله موثقون؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 171"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال البزار: "إسناده صالح"، وحسن إسناده شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 2".
وفي الباب عن سلمان وعائشة وابن عمر ومرسل الحسن وعن ابن عباس موقوفا.(2/327)
ص -230-…إشعار بأن فيه ما يعفى عنه، أو ما هو مظنة عنه، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات.
وحاصل الفرق؛ أن الواحد1 صريح في رفع الإثم والجناح، وإن كان قد2 يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به؛ إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة، وأما الإذن؛ فمن باب "ما لا يتم3 الواجب إلا به"، أو من باب "الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا"، و"النهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده4 أم لا"، والآخر صريح في نفس التخيير، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل؛ فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة، وأما رفع الحرج؛ فمن تلك الأبواب.
والدليل عليه أن رفع الجناح5 قد يكون مع الواجب؛ كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من هذين الإطلاقين للمباح، وهو ما لا حرج فيه. "د".
2 أي: وقد لا يلزمه الإذن فيهما، كما سيأتي له أنه يكون مع مخالفة المندوب ومع الواجب الفعل. "د".
3 أي: شبيه بهذه الأبواب وقريب من طريقها لا أنه منها حقيقة كما هو ظاهر. "د".
4 أورد المصنف هذه المسائل الثلاث على سبيل التنظير لوجه استلزام معنى نفي الحرج للإذن في الفعل والترك؛ فاللفظ المعبر به عن رفع الجناح يتضمن الإذن في الفعل والترك، كما أن الأمر بالواجب يتضمن طلب ما لا يتم ذلك الواجب إلا به، والأمر بالشيء يتضمن ترك كل ما هو ضد له، والنهي عن الشيء يتضمن فعل أحد أضداده. "خ".
5 أي: على هذا الفرق بين الإطلاقين، وهذا أظهر الأدلة الثلاثة، وإن كان لا يطلق عليه لفظ المباح حتى يدرج في هذا القسم؛ فالاستدلال من حيث إن كلمة رفع الجناح عامة ولا تقتضي التخيير. "د".(2/328)
ص -231-…{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وقد يكون مع مخالفة المندوب؛ كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}1 [النحل: 106].
فلو كان رفع الجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك؛ لم يصح مع الواجب، ولا مع مخالفة المندوب، وليس كذلك التخيير المصرح به؛ فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك، ولا مندوبا، [وبالعكس]2.
والثاني:
أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على سواء في قصده، ورفع الحرج مسكوت عنه، وأما لفظ رفع الجناح؛ فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه، فيمكن أن يكون مقصودا له، لكن بالقصد الثاني, كما في الرخص؛ فإنها راجعة إلى رفع الحرج، كما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر، وبالعكس، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع: "لا حرج فيه"؛ فلا يؤخذ منه حكم الإباحة، إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروها3، فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه؛ فليتفقد هذا في الأدلة.
والوجه الثالث:
مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في الآية لفظ رفع الجناح، ولكن فيها ما يفهمه، ولذلك أدرجها فيما فيه رفع الجناح مع أنه خلاف المندوب، وسيذكر في الدليل الثاني لفظ التخيير ولفظ رفع الحرج؛ فلا يتوهمن أن كلامه قاصر هناك على ما فيه اللفظان، بل غرضه اللفظ الدال على التخيير، وكذا اللفظ الدال على رفع الحرج، ولو لم يكن بعبارة التخيير ولا بعبارة الحرج. "د".
2 ليست في الأصل.
3 الجاري على ما سبق أن يقول: "وقد يكون واجبا أيضا". "د".(2/329)
ص -232-…الإطلاق، أن1 المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل؛ صار خارجا عن محض اتباع الهوى، بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل؛ فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء، ولما كان مطلوبا بالكل؛ وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات، والقصد إليها في التكاليف؛ فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه، ولا هو مضاد له، بل هو مؤكد له؛ فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له.
وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة، لكنه لقلته، وعدم دوامه، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه؛ لم يحفل2 به، فدخل تحت المرفوع الحرج؛ إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا، وإن كان فتحا لبابه في الجملة؛ فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه، والاجتماع مقو، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه، وهو المضاد للمطلوب فعله، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول3 تحت كلي أمر، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "وأن".
2 في الأصل: "يجعل".
3 بخلاف المخير؛ فإنه داخل تحت كلي أمر؛ فإنه كلية* مأمور به. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: ".... تحت على أمر؛ فإن كلية..."!!(2/330)
ص -233-…مخيرا فيه؛ تصريحا1 بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى، وأنه مضاد للشريعة، [والله أعلم وبه التوفيق]2.
المسألة الخامسة: وصف المباح
أن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط، فإن خرج عن ذلك القصد؛ كان له حكم آخر، والدليل على ذلك أن المباح -كما تقدم- هو ما خير فيه بين الفعل والترك، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام؛ فهو إذًا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك، ولا حاجي، ولا تكميلي، من حيث هو جزئي؛ فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة، وكذلك المباح الذي يقال: "لا حرج فيه" أولى أن يكون راجعا إلى الحظ، وأيضا3؛ فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي، أو تكميلي، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه، فما خرج عن ذلك؛ فهو مجرد نيل حظ، وقضاء وطر.
فإن قيل: فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف؟ ولعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فتصريحا"، وفي "د": "فتصريح"، وكتب المعلق عليه: "ينظر في تصحيح التركيب"، والمثبت من "ط".
2 زيادة من الأصل و"ط".
3 ليس بعيدا عن الدليل الأول؛ فإنه يفيد أن الشارع قصد المأمور به والمنهي عنه لما يترتب على ذلك من حفظ الأمور الثلاثة، بخلاف المباح؛ فلم يقصده بفعل ولا ترك؛ لأنه لا يترتب عليه شيء من ذلك؛ فكان بمجرد اختيار المكلف وتابعا لهواه المحض وحظه الصرف، وهو الدليل الأول بعينه، غايته أن الأول سلك إلى الغرض من جهة المباح مباشرة، وهذا بواسطة الأمر والنهي؛ فهو تصوير آخر لنفس الدليل. "د".(2/331)
ص -234-…بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ.
فالجواب: أن القاعدة المقررة؛ أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد؛ فالأمر، والنهي، والتخيير، جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه؛ لأن الله غني عن الحظوظ، منزه عن الأغراض؛ غير أن الحظ على ضربين:
أحدهما:
داخل تحت الطلب، فللعبد أخذه من جهة الطلب؛ فلا يكون ساعيا في حضه, وهو مع ذلك لا يفوته حظه، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ، وقد يأخذه من حيث الحظ؛ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه1 من ذلك الوجه؛ صار حظه تابعا للطلب، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ، وسمي باسمه، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
والثاني:
غير داخل تحت الطلب؛ فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره؛ لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض، فهو قد أخذه إذًا من جهة حظه، فلهذا يقال في المباح: إنه العمل المأذون فيه، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة.
المسألة السادسة: الأحكام الخمسة
الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال، والتروك بالمقاصد2، فإذا عريت عن المقاصد؛ لم تتعلق بها، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما ثبت من أن الأعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بصيغة الفعل؛ فصح قوله: "صار حظه... إلخ". "د".
2 أي: النيات. "ماء".(2/332)
ص -235-…الجملة، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع1، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال؛ إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة2، أما في غير ذلك؛ فالقاعدة مستمرة، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد؛ كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا؛ فكذلك ما كان مثلها.
والثاني: ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها: جائز، أو ممنوع، أو واجب، أو غير ذلك؛ كما لا اعتبار بها من البهائم.
وفي القرآن: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
قال: "قد فعلت"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 256 و26/ 23-29".
2 يمتاز خطاب التكليف عن خطاب الوضع بأنه لا يتعلق إلا بفعل المكلف المكسوب له، وشرط صحته علم المكلف به وقصده إليه، أما خطاب الوضع؛ فقد يتعلق بفعل غير المكلف كوجوب ضمان ما يتلفه الصبي أو الدية، ويتعلق بغيره بما لا كسب له فيه؛ كوجوب الدية على العاقلة في قتل الخطأ، ولا يشترط في نفاذه علم المكلف أو قصده؛ فيتقرر له الإرث بموت من يحق له إرثه، ويطلق عليه الحاكم زوجته بثبوت الضرر وإن كان غائبا. "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2992"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5046" من حديث ابن عباس, رضي الله عنهما.(2/333)
ص -236-…وفي معناه روي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"1، وإن لم يصح سندا؛ فمعناه متفق على صحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 573"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 90-91" من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعا: "رفع الله -عز وجل- عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"، وإسناده ضعيف، فيه جعفر بن جسر في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر, وحدث بمناكير، وأبوه مضعف. انظر: "الميزان" "1/ 403-404".
وأخرجه الفضل بن جعفر التميمي المعروف بـ"أخي عاصم" في "فوائده" -كما في "التلخيص الحبير" "1/ 283"- من حديث ابن عباس: "رفع الله عن أمتي..."، وعزاه بلفظ المصنف السيوطي في "الجامع الصغير" "2/ 16" إلى الطبراني من حديث ثوبان، وهو خطأ، ولفظ الطبراني في "الكبير" "2/ 94/ رقم 1430": "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ..."، وتابع السيوطي على هذا الوهم: المناوي في "الفيض" "4/ 35"، وأقر السيوطي شيخنا الألباني في "صحيح الجامع" "رقم 3515"، ولكنه نبه في "الإرواء" "رقم 82" أنه منكر بلفظ: "رفع عن أمتي...".
وأخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، 1/ 659/ رقم 2045" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ: "إن الله تجاوز لي عن أمتي...".
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 95"، والدارقطني في "سننه" "4/ 170-171"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 356"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 2045"، وابن حزم في "الإحكام" "5/ 149" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعا.(2/334)
وهذا إسناد صحيح، وقد أعله أحمد في "العلل" "1/ 227" بالنكرة، وأبو حاتم في "العلل" "1/ 431" بالانقطاع؛ فقال: "لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء"!! ورجح شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 82" صحة هذا الطريق، وعلى كلٍّ؛ الحديث له شواهد عديدة، ولحديث ابن عباس طرق كثيرة يصل معها إلى درجة الصحة، وحسنه النووي في "أربعينه" "رقم 39"، ولأحمد الغماري جزء بعنوان: "شهود العيان بثبوت حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وصححه ابن حبان والضياء المقدسي والذهبي والسخاوي في "المقاصد" "ص229" وجماعة.(2/335)
ص -237-…وفي الحديث أيضا: "رفع القلم عن ثلاث"1؛ فذكر "الصبي حتى يحتلم، والمغمى عليه حتى يفيق"؛ فجميع هؤلاء لا قصد لهم، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم.
والثالث:
الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق2.
فإن قيل: هذا في الطلب، وأما المباح؛ فلا تكليف فيه، قيل: متى صح [تعلق التخيير؛ صح]3 تعلق الطلب، وذلك يستلزم قصد المخير، وقد فرضناه غير قاصد، هذا خلف.
ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك؛ لأن هذا من قبيل خطاب الوضع، وكلامنا في خطاب التكليف، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق، 4/ 558/ رقم 4398"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق, باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، 6/ 156"، وابن ماجه في السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم, 1/ 657/ رقم 2041"، وأحمد في "المسند" "6/ 100-101، 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1713"، والدارمي في "السنن" "2/ 171", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 148"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1496- موارد", والحاكم في "المستدرك" "2/ 59"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" "رقم 1003" من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وإسناده صحيح.
وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وأبي قتادة -رضي الله عنهم- ولا يتسع المقام للتفصيل.
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 344-348 و22/ 100-102".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(2/336)
ص -238-…بالسكران1؛ لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛ فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه2؛ ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون، وفي سواهما3 لما أدخل السكر على نفسه؛ كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية؛ فعومل بنقيض المقصود، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة، فصار استعماله4 له تسببا في تلك المفاسد، فيؤاخذه الشرع بها وإن لم يقصدها، كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم، ونظائر ذلك كثيرة؛ فالأصل صحيح، والاعتراض عليه غير وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السكران المنتشي وهو من لا يزال حاضر الذهن بحيث يتصور معنى الخطاب يجري في التكليف على حكم العقلاء بإجماع، أما الطافح الذي اختل شعوره وأخذ يقذف بالهذيان؛ فلا ينفذ عليه ما يصدر عنه من إقرار وعقود ومعاملات، ولكن يخاطب بعد الإفاقة بقضاء ما أدركه من الواجبات؛ كالصوم، والصلاة، ويؤاخذ بما يقترفه من الجناية على الأنفس أو الأموال، واختلف الأئمة في حكم طلاقه؛ فنفذه عليه قوم، وعده آخرون لاغية، قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان لا يرى طلاق السكران، وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة"، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" الثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم؛ أن السكران لا يقع طلاقه. "خ".
2 الجواب: أن النهي عائد إلى السكر عند إرادة الصلاة كما يقال لمن أراد التهجد: لا تتهجد وأنت شبعان، والمراد: لا تملأ بطنك بالطعام إن كنت تريد التهجد حتى تنهض إليه بنشاط وتقبل عليه بصفاء نفس وارتياح, والنهي على هذا الوجه يقتضي أن لا يتناولوا الخمر حيث يعلمون أن أثرها من السكر يستغرق وقت الصلاة "خ".(2/337)
3 في "ط": "وفيما سواها".
4 فقد استعمله وهو عاقل يعلم أنه يجر إلى مفاسد كثيرة وإن لم يقصد حصولها فيؤاخذ بها، والزاني ما شددت عليه العقوبة بالجلد والقتل إلا للمآلات التي قد تسبب عن فعله، وهو يعرف هذا التسبب وإن لم يقصده من الفعل، ولا خطر بباله حينه، وسيأتي في المسألة الثامنة من السبب؛ أن إيقاع المسبب بمنزلة إيقاع السبب، قصد ذلك المسبب أو لا. "د".(2/338)
ص -239-…المسألة السابعة: المندوب
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم1 من الاعتبار المتقدم؛ وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له، [أو تكميل له]2، أو تذكار به، كان من جنس الواجب أو لا.
فالذي من جنسه؛ كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج، وغير ذلك مع فرائضها.
والذي من غير جنسه؛ كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى، والسواك، وأخذ الزينة، وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك.
فإذا كان كذلك؛ فهو لاحق بقسم الواجب بالكل، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء، ويحتمل هذا المعنى تقريرا، ولكن ما تقدم مغن3 عنه بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد في هذه المقدمة أن يتوسع في أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل؛ فيجعله شاملا لغير السنن المؤكدة ورواتب النوافل التي اقتصر عليها في الفصل الأول من المسألة الثانية، ويقول: إنه قلما يشذ مندوب عن ذلك. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ".
3 مدار الدليل فيما تقدم أن تركها جملة واحدة يجرح التارك لها، وأيضا؛ فإنه مؤثر في أوضاع الدين, فهل هذا وذاك يجري هنا في المندوبات التي لا كراهة في تركها وليست كالسنن التي بنى عليها القاعدة السابقة؟ فإذا كان لا كراهة في تركها؛ فكيف يجرح التارك لها؟ وكيف تؤثر على أوضاع الدين؟ فالموضع يحتاج إلى فضل نظر في ذاته وفي دعوى أن ما تقدم يغني* هنا. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يعني" بالعين المهملة.(2/339)
ص -240-…فصل:
المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع؛ كان كالمندوب مع الواجب، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا، وهو أعظمها، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود1؛ كطهارة الحدث، وستر العورة، واستقبال القبلة، والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون2 وجوبه بالكل، وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا، ومنه ما يكون وسيلة له؛ كالواجب حرفا بحرف؛ فتأمل ذلك.
المسألة الثامنة: الواجبات أو المندوبات
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات؛ فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا، ولا عتب، ولا ذم، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا3؛ لأمرين:
أحدهما:
أن حد الوقت؛ إما أن يكون لمعنى قصده الشارع، أو لغير معنى، وباطل أن يكون لغير معنى؛ فلم يبق إلا أن يكون لمعنى، وذلك المعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "المقصود".
2 أي: فلا يتأكد الوجوب فيه تأكده في المقصود، وينبني عليه أن إثم تركه والثواب على فعله لا يساوي الواجب المقصود. "د".
3 بنى المسألة على مذهب الجمهور في الموسع، وهو أن هناك وقتا موسعا لبعض المطلوبات لو أوقعها المكلف في أي جزء منه لا إثم فيه، ويريد هنا أن يقول: بل ولا تقصير ولا عتب أيضا، والأفضلية في السبق أول الوقت شيء آخر لا يلزم منه أن يكون إيقاعه آخر الوقت تقصيرا موجبا للعتاب. "د".
قلت: وانظر في تحقيق المسألة "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299-302".(2/340)
ص -241-…هو أن يوقع الفعل فيه، فإذا وقع فيه؛ فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت، وهو يقتضي -قطعا- موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه، فلو كان فيه عتب أو ذم؛ للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه، وقد فرضناه موافقا، هذا خلف.
والثاني:
أنه لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب، ليس من الوقت المعين؛ لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا، والعتب مع التخيير متنافيان؛ فلا بد أن يكون خارجا عنه، وقد فرضناه جزءا من أجزائه، هذا خلف محال، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل.
فإن قيل: قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، وهو أصل قطعي، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض، وإذا1 كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد؛ فالمقصر عنه معدود في المقصرين والمفرطين، ولا شك أن من كان هكذا؛ فالعتب2 لاحق به في تفريطه وتقصيره؛ فكيف يقال لا عتب عليه؟
ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله"3؛ قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إذا" بدون واو، وفي الأصل و"خ": "وإن".
2 تحرفت في "د": "فالمتعب" بتقديم المثناة.
3 أخرجه الدارقطني في "السنن" "1/ 249"، ومن طريقه أحمد عيسى المقدسي في "فضائل جرير" "2/ ق 238/ ب"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 647- مع التنقيح" عن جرير بن عبد الله بسند واه بمرة، فيه عبيد بن القاسم، متروك، كذبه ابن معين واتهمه أبو داود بالوضع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 272"، والدارقطني في "السنن" "1/ 249"، وابن =(2/341)
ص -242-…رضوان الله أحب إلينا من عفوه؛ فإن رضوانه للمحسنين، وعفوه عن المقصرين.
وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا؛ فقد قال في المسافرين يقدمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عدي في "الكامل" "7/ 2606"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 189"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 435"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق يعقوب بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا... فذكره، قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 138":
"ما رواه إلا يعقوب بن الوليد المدني".
قلت: وهو متهم بالكذب، قال أحمد: "كان من الكذابين الكبار", وقال الحاكم: "يعقوب بن الوليد هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب؛ إلا أنه شاهد".
قلت: لا يفرح به؛ فالشاهد كالعاضد؛ فما فائدته إذا لم تكن فيه قوة؟! وهذا ساقط ولذا تعقبه الذهبي بقوله: "يعقوب كذاب"، وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل".
وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509"، وعنه ابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق بقية بن الوليد عن عبد الله مولى عثمان بن عفان حدثني عبد العزيز حدثني محمد بن سيرين عن أنس بن مالك؛ فذكره مرفوعا. قال ابن عدي: "وهذا بهذا الإسناد لا يرويه غير بقية، وهو من الأحاديث التي يحدث بها بقية عن المجهولين؛ لأن عبد الله مولى عثمان، وعبد العزيز الذي ذكر في هذا الإسناد لا يعرفان..." وتبعه ابن الجوزي.
وآخر من حديث أبي محذورة -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي "1/ 255" من طريق إبراهيم بن زكريا ثنا إبراهيم بن أبي محذورة مؤذن مسجد مكة؛ قال: حدثني أبي، عن جدي مرفوعا... فذكره. قال ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه إبراهيم بن زكريا".(2/342)
قلت: وإبراهيم كان يحدث عن الثقات بالبواطيل كما قال ابن عدي، قال ابن حبان: "يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، إن لم يكن بالمتعمد؛ فهو المدلس عن الكذابين...".
وبالجملة؛ فالحديث ضعيف جدا، بل قال أبو حاتم: "موضوع"؛ كما في "نصب الراية" "1/ 127".
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 243" أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث؛ فقال: "من روى هذا؟ ليس هذا يثبت".
وقد ضعفه جماعة، وورد نحوه في أحاديث فيها مقال، انظر: "تنقيح التحقيق" "1/ 646 وما بعدها"، و"الإرواء" "رقم 259"، وسيأتي تضعيف المصنف له "ص246".(2/343)
ص -243-…الرجل لسنه يصلي1 بهم فيسفر بصلاة الصبح، قال: "يصلي الرجل وحده في أول الوقت، أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة"؛ فقدم كما ترى حكم المسابقة، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا؛ فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا.
وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء، فلم يصمه حتى مات؛ فعليه الإطعام، وجعله مفرطا، كمن صح أو قدم في شعبان؛ فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني، مع أن القضاء ليس على الفور عنده.
قال اللخمي: جعله مترقبا2 ليس على الفور ولا على التراخي، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان؛ فلا إطعام لأنه غير مفرط، وإن مات قبل شعبان؛ فمفرط وعليه الإطعام، نحو قول الشافعية في الحج: إنه على التراخي، فإن مات قبل الأداء3؛ كان آثما، فهذا أيضا -رأي الشافعية- مضاد لمقتضى الأصل المذكور.
فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا؛ إما بالنص4، وإما بالاجتهاد5، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا، بل آثما في بعضها، وذلك مضاد لما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس المراد أنه يطول بهم حتى يسفر، بل المراد أنه يبتدئ الصلاة بعد الإسفار وحينئذ يتم الدليل "د".
2 بل لعله مترتبا؛ أي: إنه لم يعامل معاملة الفور الصرف، ولا التراخي الصرف، بل حالة بين الحالتين؛ فلذا كان الحكم مترددا بين الأمرين كما شرحه بقوله: "فإن قضى... إلخ" "د".
3 في الأصل: "التراخي".
4 كما في الحديث السابق: "أول الوقت" إلخ "د".
5 كما في المسائل التي نسبها لمالك والشافعي في الصلاة والصوم والحج؛ فأوقاتها معينة بالاجتهاد. "د".(2/344)
ص -244-…تقدم.
فالجواب: أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر، غير أن ما عين له وقت معين من الزمان؛ هل يقال: إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة؛ فكيف الأصل المذكور شاملا له، أم يقال: ليس شاملا له؟
والأول هو الجاري على مقتضى الدليل1؛ فيكون قوله -عليه السلام- حين سئل عن أفضل الأعمال؛ فقال: "الصلاة لأول وقتها"2 يريد به وقت الاختيار مطلقا، ويشير إليه أنه -عليه السلام- حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها، وحد ذلك حدا لا يتجاوز، ولم ينبه فيه على تقصير، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضروريات3، إذا صلى فيها من لا ضرورة له؛ إذ قال: "تلك صلاة المنافقين"4 الحديث؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المتقدم أول المسألة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 2/ 9/ رقم 527"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه.
3 تقسيم الأوقات إلى اختيارية وضرورية يقول به أكثر علماء الأمصار، وإنما اختلفوا في تحديدها وفي الصلوات التي يكون لها وقتان: اختياري وضروري، وفي أهل العذر الذين يختصون بأوقات الضروريات، ونفى أهل الظاهر أن تكون الأوقات منقسمة إلى اختياري وضروري، وأسباب الخلاف بين الفريقين مفصلة في كتب الخلاف. "خ".(2/345)
4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434/ رقم 622"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، 1/ 112-113/ رقم 413"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في تعجيل العصر، 1/ 301/ رقم 160"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب التشديد في تأخير العصر، 1/ 254"، وأحمد في "المسند "3/ 102-103، 247" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ولفظه: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس, حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا".(2/346)
ص -245-…فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان.
فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد، وعند ذلك يسمى مفرطا، ومقصرا، وآثما أيضا عند بعض الناس، وكذلك الواجبات الفورية.
وأما المقيدة بوقت العمر، فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول؛ كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة1 في أول أزمنة الإمكان، فإن العاقبة مغيبة، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدي ذلك المطلوب، فلم يفعل -مع سقوط الأعذار- عد ولا بد مفرطا، وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب، لا أنه -على التحقيق- مخير بين أول الوقت وآخره؛ فإن آخره غير معلوم، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور؛ فلا تعود عليه بنقض2.
وأيضا؛ فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة؛ فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها، وإن كان الأجر فيها يتفاوت؛ فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض، كما يقول بذلك [مالك] في الإطعام في كفارة رمضان، مع وجود التخيير في الحديث, وقول مالك به، وكذلك العتق في كفارة الظهار، أو القتل، أو غيرهما، هو مخير في أي الرقاب شاء، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "المبالغة".
2 في "م": "بنقص" بالصاد المهملة.(2/347)
ص -246-…وأنفسها عند أهلها، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ولا مفرطا, وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها، مع حصول الفضل في الأعلى منها، وكما أن الحج ماشيا أفضل، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولا مقصرا، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة1 خطاه له مقصرا، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه، وليس في مسألتنا ذلك.
وأما حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فلم يصح, وإن فرضنا صحته؛ فهو معارض بالأصل القطعي, وإن سلم؛ فمحمول على التأخير2 عن جميع الوقت المختار، وإن سلم؛ فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر.
وأما مسائل مالك؛ فلعل استحبابه لتقديم الصلاة، وترك الجماعة، مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة، وكان الإمام قد أخر إليه، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان، بناء على القول بالفور في القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال؛ فلا اعتراض بذلك، وبالله التوفيق.
المسألة التاسعة: الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين, كانت من حقوق الله؛ كالصلاة, والصيام، والحج، أو من حقوق الآدميين؛ كالديون، والنفقات، والنصيحة، وإصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك:
أحدهما:
حقوق محدودة شرعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فقلت".
2 في "ط": "على التقصير".(2/348)
ص -247-…والآخر: حقوق غير محدودة.
فأما المحدودة المقدرة؛ فلازمة لذمة المكلف1، مترتبة عليه دينا، حتى يخرج عنها؛ كأثمان المشتريات، وقيم المتلفات، ومقادير الزكوات، وفرائض الصلوات، وما أشبه ذلك؛ فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته، دينا عليه.
والدليل على ذلك التحديد والتقدير؛ فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين، فإذا لم يؤده؛ فالخطاب باق عليه، ولا يسقط عنه إلا بدليل2.
وأما غير المحدودة؛ فلازمة له، وهو مطلوب بها، غير أنها لا تترتب في ذمته؛ لأمور:
أحدها:
أنها لو ترتبت في ذمته؛ لكانت محدودة معلومة؛ إذ المجهول لا يترتب في الذمة ولا يعقل نسبته إليها، فلا يصح أن يترتب دينا، وبهذا استدللنا على عدم الترتب؛ لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار، والتكليف بأداء ما3 لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع, وهو ممتنع سمعا.
ومثاله: الصدقات المطلقة, وسد الخلات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذمة كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا، وهذا المعنى إنما يتحقق في البالغ الرشيد؛ فإن قلنا: إن للصبي ذمة أيضا كما يراه بعض الفقهاء؛ اقتصرنا في تعريفها على كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق، فيتناول التعريف الصبي؛ لأنه وإن كان لا يقبل التزام الحقوق من نحو البيع والهبة والحمالة؛ يقبل لزوم بعضها كأرش الجنايات وقيم المتلفات. "خ".
قلت: الأرش هو بدل الدم أو بدل الجناية مقابل بآدمية المقطوع أو المقتول، لا بماليته، قاله الكفوي في "الكليات" "ص78".
2 كإبرام الدائن للمدين "د".
3 تحرفت في "د": "بأدائنا" بالنون بدل الميم.(2/349)
ص -248-…فإذا قال الشارع: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، أو قال: "اكسوا العاري"1، أو: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195]؛ فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها، من غير تعيين مقدار، فإذا تعينت حاجة؛ تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها، بالنظر لا بالنص، فإذا تعين جائع؛ فهو مأمور بإطعامه وسد خلته، بمقتضى ذلك الإطلاق، فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع؛ فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين، فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع، فيحتاج إلى مقدار من الطعام، فإذا تركه حتى أفرط عليه؛ احتاج إلى أكثر منه، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا، [وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به]2.
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان؛ لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة، وهذا معنى كونه مجهولا؛ فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر، لا بمقتضى النص، فإذا زال الوقت الحاضر؛ صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول، أو سقط3 عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة.
والثاني:
أنه لو ترتب في ذمته أمر؛ لخرج إلى ما لا يعقل؛ لأنه في كل وقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أظفر به بهذا اللفظ، وله شواهد كثيرة تؤيد معناه، وأقرب الألفاظ له ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 438/ رقم 17933" ضمن حديث طويل مرسل، فيه: "واكسوهم ولا تعروهم".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 أي: فكيف يتأتى الاستقرار في الذمة والأمر يختلف باختلاف الحال والزمان بين سقوط المكلف به رأسا، وبين تغير المكلف به قلة وكثرة؟ "د".(2/350)
ص -249-…من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا، ثم لم يفعل؛ فترتب في ذمته، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد، فأما أن يقال: إنه مكلف أيضا بسدها أو لا، والثاني باطل؛ إذ ليس هذا الثاني بأولى1 بالسقوط من الأول؛ لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة، فيرتفع التكليف والخلة باقية، هذا محال؛ فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد، قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية، وهذا غير معقول في الشرع.
والثالث:
أن هذا2 يكون عينا أو كفاية، وعلى كل تقدير يلزم -إذا لم يقم به أحد- أن يترتب؛ إما في ذمة واحد غير معين، وهو باطل لا يعقل، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا؛ فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد، أو غير مقسط؛ فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم، وهو باطل كما تقدم3.
والرابع:
لو ترتب في ذمته لكان عبثا، ولا عبث في التشريع، فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة؛ فعمران الذمة ينافي هذا المقصد؛ إذ المقصود إزالة هذا العارض4 لا غرم قيمة العارض، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب؛ كان عبثا غير صحيح.
لا يقال: إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها؛ إذ المقصود بها سد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لو قال: ليس بأضعف سببية في التكليف من الأول؛ لكان أوضح. "د".
2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "الواجب؛ إما أن".
3 في قوله: "فهذا غير معقول في الشرع". "د".
4 أي: العارض* الوقتي ولا فائدة تعود على إزالته من شغل ذمة الغير به. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعارض"!!(2/351)
ص -250-…الخلات، وهي تترتب في الذمة.
لأنا نقول: نسلم أن المقصود ما ذكرت، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة1 على الجملة، ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة؛ فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها، فلو ارتفع العارض بغير شيء؛ لسقط الوجوب، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت، ولذلك عينت، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم.
فإن قيل: لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة؛ لكان مانعا من أصل التكليف أيضا؛ لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف؛ إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق، فلو قيل لأحد: أنفق مقدارا لا تعرفه, أو صل صلوات لا تدري كم هي، أو انصح من لا تدريه ولا تميزه، وما أشبه ذلك؛ لكان تكليفا بما لا يطاق؛ إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي، وإذا علم بالوحي؛ صار معلوما لا مجهولا، والتكليف بالمعلوم صحيح، هذا خلف.
فالجواب: أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع؛ كما لو قال: اعتق رقبة، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان؛ فهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فيكون القسم الأول وهو الزكاة مثلا متعينا محدودة المقدار ولا زيادة فيها ولا نقص؛
فكانت متقررا وإن كانت الحاجة فيه غير متعينة ولا صاحبها معلوما، وهنا بالعكس، وصاحب الحاجة معلوم، ومقدار ما يلزمه غير معلوم ولا ثابت؛ فالمكلف به هناك معلوم محدود المكلف بسببه غير معلوم، والقسم الثاني بالعكس. "د".(2/352)
ص -251-…هو الممتنع، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف؛ فالتكليف به صحيح، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة؛ إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي؛ فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة، فما لم يتعين1 [فيه]2 خلة فلا طلب، فإذا تعينت وقع الطلب، هذا هو المراد هنا، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره.
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين؛ فلم يتمحض لأحدهما، هو محل اجتهاد، كالنفقة على الأقارب والزوجات، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين اختلف الناس فيه، هل له ترتب في الذمة أم لا؟ فإذا ترتب؛ فلا3 يسقط بالإعسار4؛ فالضرب الأول لاحق بضروريات5 الدين، ولذلك محض بالتقدير والتعيين، والثاني لاحق بقاعدة التحسين والتزيين، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين؛ فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "يتعين" بياء -آخر الحروف- في أوله.
2 سقطت من النسخ المطبوعة، وأثبتناها من الأصل.
3 بدلها في الأصل: "فقد"
4 ذهب جمهور العلماء إلى أن نفقة الزوجة غير مقدرة، وأمرها موكول إلى ما يقتضيه حال الزوجين، وذلك مما يجعلها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، واقتضى عدم تقديرها أن لا تستقر في الذمة، وأن تسقط بالإعسار، وكذلك يقول المالكية، والمشهور في مذهب الشافعية أنها مقدرة؛ فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد، وينبني على تقديرها أنها تتعلق بالذمة ولا تسقط بالإعسار، وكذلك يقول الشافعية، وحجة الجمهور في القول بعدم تقديرها حديث هند بنت عتبة وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وقد روي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- ما يوافق مذهب الجمهور. "خ".
5 في "د": "بضروريات".(2/353)
ص -252-…فصل:
وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية1؛ فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين، وحاصل الثاني إقامة الأوَد العارض في الدين وأهله، وإلا أن هذا الثاني قد2 يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين, ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية؛ كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وأما إذا لم يتحتم؛ فهو مندوب، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان؛ فتأمل هذا الموضع، وأما الضرب الثالث؛ فآخذ شبها من الطرفين أيضا؛ فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فائدة: السنة أيضا قد تكون كفاية، كما مثلوه بتشميت العاطس, وبالأضحية في حق أهل البيت الواحد كما في "المنهاج". "د".
قلت: والصواب في التشميت أنه ليس على الكفاية، بل على أعيان الحاضرين السامعين، لما أخرج البخاري في "الصحيح": "حق على كل من سمعه أن يشمته"، والله أعلم.
2 أي: قد يكون مخيرا بالجزء؛ كالصناعات المختلفة التي لها أثر في إقامة العمران، وقد يكون مندوبا بالجزء؛ كالعدل، والإحسان، وسائر النوافل، والنكاح وغيرها مما تقدم في المندوب بالجزء، ولكن هذا الثاني إنما يكون واجبا كفاية إذا نظر إليه كليا في الغالب، وقد يكون متحتما جزئيا؛ كالعدل بالنسبة للأمير نفسه، فهو مطلوب بإقامة العدل جزئيا أيضا طلبا حتما؛ إلا أن قوله: "وفروض الكفايات مندوبة على الأعيان" ليس كليا، بل قد تكون مندوبة, وقد تكون مخيرا فيها؛ كما سبق في فصله, وكما أشرنا إليه في هذه الجملة.(2/354)
وملخصه أن فريضة الكفاية قد يكون مخيرا بالجزء، وقد يكون مندوبا بالجزء، ولا يتحتم إلا بالكل، وقد يتحتم على البعض أيضا نادرا، ويبقى بعد هذا أنه يقتضي أن مؤدى فرض الكفاية إنما يثاب عليه ثواب المندوب، فإذا تركه الكل؛ عوقب عليه الجميع، وقد لا يثاب عليه الفاعل وذلك إذا كان بالجزء مخيرا؛ فتأمل هذا الموضع جيدا. "د".(2/355)
ص -253-…المسألة العاشرة: مرتبة العفو
يصح أن يقع1 بين الحلال والحرام مرتبة العفو؛ فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة، هكذا على الجملة2، ومن الدليل على ذلك أوجه:
أحدها:3
ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل، وأما دون ذلك؛ فلا، وإذا لم يتعلق بها حكم منها، مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به؛ فهو معنى العفو المتكلم فيه؛ أي: لا مؤاخذة به.
والثاني:4
ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص؛ فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لما كان لهذه المرتبة شبه بالحلال؛ لأنه لا طلب يتعلق بها ولا إثم في فعلها، وشبه بالحرام؛ لأن مثلها لو تعلق به حكم لكان اللوم والذم، قال: "يقع بين الحلال والحرام، وليس لها شبه بما يطلب من الواجب والمندوب رأسا". "د".
2 لما لم يحكم عليها إلا بأنها غير الخمسة، ولم يقل: إنها حكم شرعي سادس، أو ليست حكما؛ قال: "على الجملة"، وسيأتي الإشارة إليه آخر المسألة. "د".
3 الدليل قاصر على خصوص بعض النوع الثاني من أنواع مواضع مرتبة العفو المذكورة في الفصل الثاني: ولا يدل على الباقي, وسيأتي في الفصل الأول ما يصح أن يكون دليلا على البعض الباقي من النوع الثاني؛ حيث يقول: "ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضها" إلخ. "د".
4 هذا الدليل قاصر على النوع الثالث من مراتب العفو الآتية في الفصل الثاني. "د".
5 أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 183-184" والطبراني في "الكبير" "22/ 221-222/ رقم 589"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 9"، والبيهقي في "الكبرى" "10 =(2/356)
ص -254-…وقال ابن عباس: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلها في القرآن: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217].
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"1.
يعني: إن هذا كان الغالب2 عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 12-13"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 314"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1045/ رقم 2012" من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 150": "له علتان:
إحداهما: أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما.
والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني [في "العلل" "رقم 1170"]: "الأشبه بالصواب المرفوع"، قال: "وهو الأشهر".
وقد حسن الشيخ, رحمه الله [أي: النووي في "أربعينه" "رقم 30"] هذا الحديث، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في "أماليه". ا. هـ.
قلت: والحديث حسن بشواهده، وتقدم بعضها في "ص229", وانظر التعليق عليها.
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" من طريق جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي "ط": "كلهن في القرآن".
وإسناده ضعيف، جرير وابن فضيل رويا عن عطاء بعد اختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات". وانظر عن تحرير عدد الأسئلة: "5/ 375".(2/357)
2 قيده لما سيأتي بعضه أثناء المسألة من مثل سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه "د".(2/358)
ص -255-…وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "ما لم يذكر في القرآن؛ فهو مما عفا الله عنه"1، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم2؛ فيقول: عفو، وقيل له: ما تقول في أموال أهل الذمة؟ فقال: العفو "يعني: لا يؤخذ منهم زكاة"3.
وقال عبيد بن عمير: "أحل الله حلالا, وحرم حراما، فما أحل؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو"4.
والثالث5: ما يدل على هذا المعنى في الجملة؛ كقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، 3/ 354-355/ رقم 3800" بإسناد صحيح عن ابن عباس؛ قال: "... وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}" إلى آخر الآية.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 115"، وابن مردويه؛ كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 184"، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 372".
وفي الباب عن سلمان -واختلفوا في رفعه ووقفه- وعن غيره، انظره مبسوطا في "سنن سعيد بن منصور" "2/ 320-330/ رقم 94" مع التعليق عليه للشيخ سعد آل حميد، وفقه الله لكل خير.
2 أي: فيه شبهة الحرمة، ولم يرد فيه تحريم بل سكت عنه. "د".
3 إن كان معناه أنه لا تؤخذ منهم زكاة بمقتضى النص؛ فليس مما نحن فيه ولا محل لذكره، وإن كان معناه أنه مما سكت عنه؛ فلا تؤخذ الزكاة لذلك كان لذكره وجه, وقد يقال: إنه يرجع إلى قاعدة أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا. "د".
4 ذكره عن عبيد بن عمير, ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 152".
5 هذا الدليل خاص ببعض النوع الثاني كما في حديث: "أكل عام"، وبالنوع الثالث، وقد انتهى به مقام الاستدلال ولم يجئ فيه بما يدل على النوع الأول، وهو الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض وإن قوي معارضه. "د".(2/359)
ص -256-…{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}1 الآية [التوبة: 43]؛ فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص.
وقد ثبت من الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون, ومنه قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].
وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال2 فيما لم ينزل فيه حكم، بناء على حكم البراءة الأصلية؛ إذ هي راجعة إلى هذا المعنى، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها، وقد قال, صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته"3.
وقال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محط الدليل بقية الآية؛ كأنه أذن قبل أن يتبين الذين صدقوا؛ فهو من محل العفو المصدرة به الآية. "د".
2 انظر ما تقدم "ص47".
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أخرجه البخاري "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 251/ رقم 7288"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، 2/ 975/ رقم 1337"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج، 5/ 110-111"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 5/ 47/ رقم 2679" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 1/ 3/ رقم 2"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 313، 517"، من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(2/360)
ص -257-…وقرأ عليه السلام قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]؛ فقال رجل: يا رسول الله! أكل عام [فرض]؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام [فرض]1؟ فأعرض. ثم قال: يا رسول الله! أكل عام؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم؛ فذروني ما تركتكم"2، ثم ذكر معنى3 ما تقدم.
وفي مثل هذا نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ثم قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101].
أي: عن تلك الأشياء؛ فهو إذًا عفو.
وقد كره -عليه السلام- المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال, وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب؛ فذكر الساعة، وذكر قبلها أمورا عظاما، ثم قال: "من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله؛ لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا". قال أنس: فأكثر الناس من البكار حين سمعوا ذلك، وأكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: "سلوني". فقام عبد الله بن حذافة السهمي؛ فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". فلما أكثر أن يقول: سلوني؛ برك عمر بن الخطاب على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال عمر ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين في الموضعين زيادة من الأصل.
2 المذكور هنا هو صدر الحديث السابق، وتتمته: "فإنما هلك...".
3 أي: من قوله: "فإنما هلك" إلخ "د".(2/361)
ص -258-…فنزلت الآية1، وقال أولا: "والذي نفسي بيده؛ لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض [هذا]2 الحائط وأنا أصلي؛ فلم أر كاليوم في الخير والشر"3، وظاهر من هذا المساق أن قوله: "سلوني" في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال، حتى يروا عاقبة السؤال4، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101], وقد ظهر من هذه الجملة5 ما يعفى عنه، وهو ما نهي عن السؤال عنه.
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه6 أيضا، فلما سكت عن التكرار؛ كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته, وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد؛ فهو ما يُعفى عنه.
ومثل هذا قصة أصحاب البقرة، لما شددوا بالسؤال -وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا- شدد عليهم7 حتى ذبحوها {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لفظ البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، وأخرجه أيضا مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورية إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضى مختصرا "ص45".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هو جزء من الحديث المتقدم.
4 التي منها نزول تحريم ما لم يحرم، وغيره مما يكرهونه ويسيئهم؛ كالتعرض للفضيحة، وزيادة التكاليف. "د".
5 وهي من قوله: "وقد كان النبي -عليه السلام- يكره كثرة السؤال إلى هنا". "د".
6 لأن المطلق يتحقق في فرد واحد مما يطلق عليه "د".
7 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 105".(2/362)
ص -259-…فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه؛ فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة، وأنها ليست من الأحكام الخمسة.
فصل:
ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة؛ منها ما يكون متفقا عليه، ومنها ما يختلف فيه.
- فمنها: الخطأ والنسيان؛ فإنه متفق على عدم المؤاخذة به، فكل فعل صدر عن غافل، أو ناس، أو مخطئ؛ فهو مما عفي عنه، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا؛ لأنها إن لم تكن منهيا عنها ولا مأمورا بها ولا مخيرا فيها؛ فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع, وهو معنى العفو، وإن تعلق بها الأمر والنهي؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي، والقدرة على الامتثال، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال، ومثل ذلك النائم والمجنون والحائض، وأشباه ذلك.
- ومنها: الخطأ في الاجتهاد1، وهو راجع إلى الأول, وقد جاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب المتقدمون إلى أن المخطئ في أصول الفقه آثم كالمخطئ في أصول الدين، وجنح المتأخرون إلى أنه غير آثم كالمخطئ في الفروع, ووجه ما ذهب إليه المتقدمون؛ أن القواعد الكلية لقلتها وجلاء شواهدها أقرب مأخذا وأيسر على الراسخ في فهم الكتاب والسنة من الأحكام الجزئية التي تتجاوز حد الحصر ويتوقف استنباطها بحق على النظر في أسباب الوقائع وما يترتب عليها من المصالح أو المفاسد ثم الرجوع إلى النصوص والأصول، وهي كثيرا ما تتجاذب الواقعة؛ فلا يهتدي المجتهد لتخليص الحكم مع معاقدها؛ إلا بحذقه في صناعة التطبيق والترجيح, واستثنى بعض القائلين بتأثيم المخطئ في الأصول كالإمام القرافي المسائل التي لم يدل فيها المتنازعون على قاطعة كالإجماع السكوتي وما يجري على شاكلته. "خ".(2/363)
ص -260-…القرآن: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].
وقال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 68].
- ومنها: الإكراه، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه، إذا قلنا بجوازه؛ فهو راجع إلى العفو، كان الأمر1 والنهي باقيين عليه أو لا؛ فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه2.
- ومنها: الرخص كلها على اختلافها، فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح، ورفع الحرج، وحصول المغفرة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة؛ لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال، وإن كانت مطلوبة؛ فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب؛ فأكل الميتة -إذا قلنا بإيجابه- فلا بد أن يكون نقيضه وهو الترك معفوا عنه، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما، وهو محال ومرفوع عن الأمة.
- ومنها: الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ولم يمكن الجمع، فإذا ترجح أحد الدليلين؛ كان مقتضى المرجوح في حكم العفو، لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح، فيؤدي إلى رفع أصله, وهو ثابت بالإجماع؛ ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين، وهو باطل، وسواء علينا أقلنا3 ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح وأنه في حكم الثابت، أم قلنا: إنه في حكم العدم؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو.
- ومنها: العمل على مخالفة دليل لم يبلغه، أو على موافقة دليل بلغه وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح؛ لأن الحجة لم تقم عليه بعد؛ إذ لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على القولين في ذلك. "د".
2 انظر كلاما حسنا حول الإكراه في آخر "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 في "م" و"خ": "قلنا".(2/364)
ص -261-…بد من بلوغ الدليل إليه وعلمه به، وحينئذ تحصل المؤاخذة به, وإلا لزم تكليف ما لا يطاق.
- ومنها: الترجيح1 بين الخطابين عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بنهما، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم؛ لأنه الممكن في التكليف بهما، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وهو مرفوع شرعا.
- ومنها: ما سكت عنه؛ فهو عفو؛ لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته؛ فهو دليل على العفو فيه، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به، والله أعلم.
فصل:
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه:
أحدها:
أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون؛ إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف وهو الاقتضاء أو التخيير، أو لا تكون بجملتها داخلة، فإن كانت بجملتها داخلة؛ فلا زائد على الأحكام الخمسة، وهو المطلوب، وإن لم تكن داخلة بجملتها؛ لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف، ولو في وقت أو حالة ما، لكن ذلك باطل؛ لأنا فرضناه مكلفا، فلا يصح خروجه، فلا زائد على الأحكام الخمسة.
والثاني:
أن هذا الزائد؛ إما أن يكون حكما شرعيا أو لا، فإن لم يكن حكما شرعيا؛ فلا اعتبار به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا خوطب في وقت واحد بفعل شيئين مما لم يكن إيجادهما معا، كأن خوطب بأن يكلم اثنين بجملتين مختلفتين؛ فيرجح هو تقديم خطاب أحدهما على الآخر، فهذا الترجيح أيضا عفو. "د".(2/365)
ص -262-…والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو, والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه؛ فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام.
وأيضا؛ فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا.
وأما إن كان العفو حكما شرعيا؛ فإما من خطاب التكليف، أو من خطاب الوضع، وأنواع خطاب التكليف محصورة1 في الخمسة، وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون، وهذا ليس منها؛ فكان لغوا.
والثالث:
أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية، وهي أن يقال: هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا؟ فالمسألة مختلف فيها؛ فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل2، والأدلة فيها متعارضة؛ فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه.
وأيضا إن كانت اجتهادية؛ فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة؛ فليست بمفهومة، وما تقدم من الأدلة إلى إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه؛ فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لإمكان الجمع بينهما, ولأن العفو أخروي.
وأيضا، فإن سلم للعفو ثبوت؛ ففي زمانه -عليه السلام- لا في غيره، ولإمكان تأويل تلك الظواهر، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محل النزاع؛ فلا يصح أن يكون دليلا على إلغاء هذه المرتبة. "د".
2 في الأصل: "بالدليل".(2/366)
ص -263-…فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج، وذلك يقتضي؛ إما الجواز بمعنى الإباحة، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض، فارتفع الحكم بمرتبة العفو، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة، وفي هذا المجال أبحاث أخر.
فصل:
وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو -إن قيل به- نظر؛ فإن الاقتصار به على محال النصوص نزعة ظاهرية، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول؛ فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله، والقول في ذلك1 ينحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه2 وإن قوي معارضه.
والثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل.
والثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا.
فأما الأول؛ فيدخل تحته العمل بالعزيمة، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا، فإن3 العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة، وكذلك العمل بالرخصة وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" زيادة: "أنه".
2 الواو للحال، وأن زائدة. "د".
3 في "د": "إن" بدون الفاء.(2/367)
ص -264-…توجه حكم العزيمة؛ فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي؛ فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد.
لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل؛ ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف.
وقد اعتبر في مذهب مالك هذا1؛ ففيه: إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد، فظن أن الفطر مباح به2 فأفطر؛ فلا كفارة عليه، وكذلك من أفطر فيه بتأويل, وإن كان أصله3 غير علمي، بل هذا جار في كل متأول؛ كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر، وأشباه ذلك، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده.
وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه جاء يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فسمعه يقول: "اجلسوا". فجلس بباب المسجد، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال [له]4: "تعال يا عبد الله بن مسعود"5. فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الوقوف مع دليل معارض بقوي، وإن كان نفس الدليل غير علمي؛ لأنه مجرد ظن غير مبني على شيء من الشرع. "د".
2 في "ط": "له".
3 الذي بني عليه الفطر أو التأويل غير دليل أو مستند علمي؛ أي: لا يلزم فيه ذلك. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط".
5 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "3/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف, مرسل، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخلد =(2/368)
ص -265-…مع مجرد الأمر، وإن قصد غيره؛ مسارعة إلى امتثال أوامره.
وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "اجلسوا". فجلس في الطريق، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما شأنك؟". فقال: سمعتك تقول: اجلسوا فجلست. فقال [له]1 النبي, صلى الله عليه وسلم: "زادك الله طاعة"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هو شيخ".
قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/ رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء عن النبي, صلى الله عليه وسلم".
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد وكان يدلس تدليس التسوية, وهشام بن عمار كان يتلقن".
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 866/ رقم 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة..."، ثم قال: "ذكره أبو داود في كتاب الجمعة من "السنن""؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -أي: الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك، بل هو -عند أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثير من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر, رحمه الله تعالى.
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"خ" و"ط".(2/369)
2 أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" -كما في "الكنز" "رقم 37170، 37171"- بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.(2/370)
ص -266-…وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله، ولذلك سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رآه جالسا في غير موضع جلوس.
وقد قال عليه السلام: "لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركهم وقت العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك. "فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدة من الطائفتين1"2.
ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد، ثم يتبين له خطؤه، ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع3، وكذلك الترجيح بين الدليلين؛ فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر، فإذا فرض مهملا للراجح؛ فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح؛ فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "م" إلى: "الطائعتين"؛ بالعين بدل الفاء.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء, 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظ مسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر..."!(2/371)
3 إذا حكم الحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده؛ فليس له أن ينقض حكمه بنفسه, ولا يسوغ لغيره نقضه؛ لأنه يؤدي إلى عدم استمرار الأحكام؛ فتفوت المصلحة المقصودة من نصب الحكام وفصل الخصومات قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان: "لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك", وإنما يمضي حكم الحاكم في القضايا الموكولة إلى الاجتهاد, فإن خالف نصا جليا أو إجماعا أو قاعدة قطعية؛ وجب نقضه كما ينقض حكم القاضي المقلد إذا خالف الراجح المفتى به في مذهب إمامه. "خ".(2/372)
ص -267-…مثله في الجملة، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور.
وإنما قلنا: "الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض"؛ فشرط فيه المعارضة؛ لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو؛ لأنه أمر أو نهي أو تخيير عُمل على وفقه، فلا عَتبَ يُتوهم فيه، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر؛ فلا موقع للعفو فيه.
وإنما قيل: "وإن قوي معارضه"؛ لأنه إن لم يقْوَ معارضه لم يكن من هذا النوع، بل1 من النوع الذي يليه على إثر هذا؛ فإنه ترك لدليل2، وإن كان إعمالا لدليل أيضا؛ فإعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر كإعمال الدليل غير المعارض؛ فلا عفو فيه.
وأما النوع الثاني وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد، أو عن قصد لكن بالتأويل، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته، أو يتركه معتقدا إباحته إذا3 لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه؛ كقريب العهد بالإسلام، لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها، أو لا يعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الأصل هكذا: "بل ولا من النوع الذي... إلخ"؛ أي: إنه إذا كان المعارض ضعيفا لا يكون أيضا من النوع الثاني؛ لأن الثاني ترك لدليل وخروج عن مقتضاه قصدا بتأويل أو بغير قصد, وما نحن بصدده إعمال لدليل ضعيف معارضه؛ فلا هو من الأول الذي لوحظ فيه قوة معارضه، ولا هو من الثاني الذي لوحظ فيه أنه ترك لدليل وخروج عنه بغير قصد أو بقصد، لكن بتأويل، والحاصل أنه لما كان إعمال المعارض بضعيف كان إعمال* لدليل غير معارض صار لا يتوهم فيه مؤاخذة حتى يكون من مواضع العفو. "د".
2 في "د" بعد كلمة "وهنا" -واستظهر المحقق عدم مناسبتها للسياق- فقال: "يشبه أن يكون هنا سقط، والأصل: "وهذا"".
3 في "ط": "إذ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، والأحسن أن تكون العبارة: "إعمال المعارض بضعيف إعمالا لدليل...".(2/373)
ص -268-…أن غسل الجنابة واجب فيتركه، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين1، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، ويراه من التعمق، حتى بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلل2؛ فرجع إلى القول به، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع، حتى رجع إلى القول بذلك3.
ومن ذلك العمل على المخالفة4 خطأ أو نسيانا، ومما يروى من الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"5، فإن صح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن أبي موسى الأشعري؛ قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار؛ فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل...
2 ورد ذلك في أحاديث عديدة سردها الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 26-27"، منها حديث لقيط بن صبرة؛ قال: قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فأسبغ الوضوء, وخلل بين أصابعك"، وهو حديث صحيح؛ كما قال ابن حجر في "الإصابة" "3/ 329"، وقال في "التلخيص الحبير" "1/ 81": "صححه الترمذي والبغوي وابن القطان".
قلت: وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن؛ كما قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "1/ 184"، وقد خرجته وتكلمت عليه بتوسع في تحقيقي لكتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 284".
3 ذكره ابن تيمية في "صحة أصول أهل المدينة" "33"، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 394".(2/374)
4 أي: يخرج عن مقتضى الدليل خطأ بأن لا يفهم الدليل مثلا على وجهه، أو نسيانا للدليل، أما خطأ المجتهد المعدود سابقا في النوع الأول؛ فقد وقف فيه مع دليل لكن ظهر خطؤه في التمسك به لضعفه بإزاء دليل آخر مثلا؛ فهذا خرج عن الدليل، وذاك وقف مع دليل ظهر خطؤه في الاعتداد به؛ فتنبه لتفرق بين النوعين في جميع الأمثلة فيهما. "د".
5 مضى تخريجه "ص236".(2/375)
ص -269-…فذلك, وإلا فالمعنى متفق عليه.
ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد وإن وجد القصد: الإكراه المضمن في الحديث، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات؛ فإنه ثبت في الشرع إقالتهم1 في الزلات، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم، جاء في الحديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"2. وفي حديث آخر: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح"3، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم؛ فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه؛ فأرسله وقال: أنت من ذوي الهيئات.
وفي خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله4 بن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: استأدى علي مولى لي جرحته يقال له سلام البربري إلى ابن حزم، فأتاني فقال: جرحته؟ قلت: نعم. قال: سمعت خالتي عمرة تقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على فرض تسليم أصل الحديث وما بعده؛ فليس هذا من العفو الذي فيه الكلام، وهو أنه لا حرج فيه شرعا، يعني: لا إثم, وفيه المغفرة... إلخ، أما كونه لا يقتص منه لعبده أو لمن شجه؛ فهذا غير موضوع مرتبة العفو التي فيها الكلام من أول المسألة. "د".
2 سيأتي تخريجه قريبا من حديث عائشة -رضي الله عنها- وهو حسن.
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 130-ط الهندية، و6/ 150/ رقم 2378-ط المحققة" من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة وهم ذوو الصلاح"، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز ضعفوه، كما قال الذهبي، وباقي رجاله ثقات.
وأخرج ابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 326"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "154" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعا: "تجاوزوا في عقوبة ذوي الهيئات"، هذا لفظ ابن الأعرابي، ولفظ السهمي: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم".
والحديث حسن يحتج به، وسيأتي تخريجه من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 في الأصل والنسخ الثلاث: "عبد الله"، والتصويب من مصادر التخريج الآتية.(2/376)
ص -270-…قالت عائشة: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"1 فخلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 181"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 43" من طرق عن عبد الملك بن زيد عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا، مع زيادة في آخره: "إلا الحدود".
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، 4/ 133/ رقم 4375", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 267، 334" من طريقين عن ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد -وهو من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة مثله، بزيادة: "عن أبيه".
وعبد الملك بن زيد ترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 95"، وقال عنه النسائي: "ليس به بأس"، وضعفه علي بن الجنيد.
ورواه بهذا اللفظ ولكن بإسقاط "عن أبيه" من السند المذكور:
أبو بكر بن نافع العمري عن محمد بن أبي بكر به؛ كما عند البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 465"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 599"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 126"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 94- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334".
ولفظ إسحاق وابن حبان: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم".
وأبو بكر بن نافع مولى آل زيد بن الخطاب ضعيف.
وتابع أبو بكر بن نافع وعبد الملك بن زيد, عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر؛ كما عند النسائي في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف" "12/ 413"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 127, 128، 129".
وتابع المذكورين: عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله؛ كما عند الطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، وهو ثقة، وكذا من دونه؛ فإسناده صحيح، وذكر القصة التي أوردها المصنف، وهي سبب إيراده للحديث، لا سبب ورود الحديث.(2/377)
وللحديث شواهد؛ منها حديث ابن عمر مر قريبا, وحديث ابن مسعود مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم"، رواه الخطيب "10/ 85-86"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234" بسند حسن في الشواهد، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 638"، وحسنه ابن حجر في "أجوبته على =(2/378)
ص -271-…سبيله ولم يعاقبه.
وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه؛ فإنه قال: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الآية [النجم: 31، 32]، لكنها1 أحكام أخروية، وكلامنا في الأحكام الدنيوية.
ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات؛ فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد، ومع ذلك، فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت؛ غلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحاديث المشكاة" "ص1790"، ومن قبله العلائي في "النقد الصحيح" "رقم 5".
وانظر كذلك: "عون المعبود" "12/ 39"، و"المقاصد الحسنة" "73".
وعلق "خ" في هذا الموطن ما نصه: "هذا الأثر مما نرتاب في صحته، ولا نكاد نفهم كيف يسوغ القاضي أن يعفو من تلقاء نفسه على من اعتدى على شخص بالضرب أو بالجرح، ويخلي سبيله متكئا على أنه من ذوي الهيئات؛ فصورة الواقعة بحسب الوجه الذي حكيت به مخالفة لما جاءت به الشريعة العادلة من التساوي في الحقوق، وأن لا فرق فيها بين شريف ووضيع، ولو كان في يد الحاكم أن يطلق سبيل المعتدي على غيره بضرب أو جرح؛ لكان لعمر بن الخطاب وجه لو أغضى عن لطم جبلة ملك غسان لذلك العامل الضعيف ولم يقل له بملء فمه الطاهر: "الإسلام سوى بينكما"، ولو عفا ابن الخطاب عن جبلة في هذه الواقعة؛ لهدم قاعدة المساواة من أساسها، وتكدرت عليه خواطر الأمة؛ فيضطرب حبل السياسة، ولا يستطيع أن يكون ذلك الرجل الذي مد جناحي خلافته على دول عظيمة في أمد غير بعيد".
قلت: توجيه الطحاوي في "المشكل" "6/ 142-154" هذا الحديث يرد على المزبور، وكلامه قوي ولا سيما وقد صح الحديث, ولله الحمد.(2/379)
1 والعفو بالمعنى الذي نقرره هو أمر أخروي؛ فراجع أمثلته السابقة، حتى إنه عبر عنه فيما سبق آنفا بحصول المغفرة, وهي حكم أخروي بالقصد الأول، وإن كان قد يتبعها عدم الحد في مثل الشرب مثلا، إلا أن هناك أمورا لا شيء فيها دنيويا، كخطأ الاجتهاد مثلا؛ فإن عفوه أخروي صرف. "د".(2/380)
ص -272-…حكمها، ودخل1 صاحبها في حكم العفو.
وقد يعد هذا المثال2 مما خولف فيه الدليل بالتأويل، وهو من هذا النوع أيضا3، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل: ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب: إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله4.
قال القاضي إسماعيل: وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه؛ لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ في التأويل، بخلاف من استحلها، كما في حديث علي -رضي الله عنه- ولم يأت في حديث قدامة أنه حُدَّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذا لا يسقط الإثم أيضا، وظاهر أنه يسقطه في غالب صور الشبهة، فإذا استقلت الشبهة بإسقاط الحد؛ لا يكون من مرتبة العفو التي هي موضوعنا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "المجال"، والتصحيح من الأصل.
3 لأنه الضرب الثاني من النوع الثاني؛ إلا أنه يقال عليه: كيف يعد خروجا عن مقتضى الدليل بالتأويل مع أنه وقوف مع الدليل الصريح: "ادرءوا الحدود بالشبهات"؛ فهو لم يخرج عن الدليل العام في الحدود المخصص بها الدليل؛ لأنه بعد تخصصه لا يقال خرج عنه، بل هو إعمال للدليل المخصص الذي أفاد أن دلالة العام لا تشمل هذا الموضع؛ فلا نسلم أن درء الحدود بالشبهات من النوع الثاني بقسميه؛ لأنه لا ترك فيه للدليل* بغير قصد ولا بقصد التأويل. "د".
4 مضى تخريجه "ص158".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الدليل".(2/381)
ص -273-…ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت، قال في "مختصر ما ليس في المختصر": لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم، فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهرا؛ لم يقضيا ما مضى -إذا تأولتا في1 ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم- وقيل في المستحاضة: إذا تركت بعد أيام أَقْرَائها يسيرا أعادته، وإن كان كثيرا؛ فليس عليها قضاؤه بالواجب، وفي سماع أبي زيد عن مالك: أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام. واستحب ابن القاسم لها القضاء؛ فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل؛ فجعلوه من قبيل العفو، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم2 قبل الفجر، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر؛ فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب، فلا كفارة هنا، وإن خالف الدليل؛ لأنه متأول، وإسقاط الكفارة هو3 معنى العفو.
وأما النوع الثالث، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه فيه نظر، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله مما اختلف فيه4، فأما على القول بصحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تصحفت في "د": "تأولنا" بالنون.
2 تأمل لتدرك الفرق بين هذه الأمثلة وما مضى فيمن سافر أقل من أربعة برد، حيث كان من الأول الواقف مع مقتضى الدليل المعارض بقوي، وبين هذا الخارج عن الدليل متأولا؛ فالفرق غير ظاهر. "د".
3 ولِمَ لم نقل: وإسقاط الإثم أيضا، وكأنه بان على ما سبق له آنفا من أن الكلام في الأحكام الدنيوية، وقد علمت أن هذا لا يطرد في أصل المسألة، وأمثلته الكثيرة لها، بل وتصريحه سابقا بقوله: "ورفع الحرج والمغفرة". "د".(2/382)
4 لا يحق لأحد بعد التفقه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}, وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أن يذهب إلى أن يكون بعض الوقائع خاليا من الحكم الشرعي على معنى أن الشريعة أهملته إهمالا مطلقا، بحيث لم تصب دليلا أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه؛ هل هو الإيجاب، أو الحظر، أو رفع الحرج؟ ولم يبق سوى أن من يقول في الوقائع ما يخلو عن الحكم إنما يقصد عدم نصب دليل يخصه أو يخص نوعه، وهو المسكوت عنه الذي عرف بأدلة عامة أن الشريعة تصدت رفع الحرج فيه عن المكلفين، ورأت طائفة إلى أن الأدلة العامة تجعله من قبيل المحظور. "خ".(2/383)
ص -274-…الخلو؛ فيتوجه النظر، وهو مقتضى الحديث: "وما سكت عنه؛ فهو عفو"1، وأشباهه مما تقدم.
وأما على القول الآخر؛ فيشكل الحديث؛ إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال، بل هو إما منصوص، وإما مقيس على منصوص، والقياس من جملة الأدلة الشرعية؛ فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم، فانتفى المسكوت عنه إذًا.
ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم, عليه السلام.
فالأول:
كما في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، وإذا نظر إلى المعنى [أشكل]2؛ لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام؛ فكان للنظر هنا مجال، ولكن مكحولا سئل عن المسألة؛ فقال: كله، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم، يريد -والله أعلم- أن الآية لم يخص3 عمومها، وإن وجد هذا الخاص المنافي، وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص225".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 في الأصل: "تخص".(2/384)
ص -275-…اللفظ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة.
وإلى نحو هذا يشير قوله, عليه السلام: "وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"1 وحديث الحج أيضا مثل هذا، حين قال: "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟"2؛ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد، فكَرِهَ عليه السلام سؤاله، وبين له علة ترك السؤال عن مثله، وكذلك حديث: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما..."3 إلخ يشير إلى هذا المعنى، فإن السؤال عما لم يحرم، ثم يحرم لأجل المسألة، إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه4 فيه يقتضي التحريم، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية، وإن اختلفت فروعه في أنفسها، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل، ونحو حديث: "ذروني5 ما تركتكم"6 وأشباه ذلك.
والثاني:
كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج؛ كالخمر، فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية، ثم جاء الإسلام؛ فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص253" وهو حديث حسن.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، 3/ 606/ رقم 1785"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، 2/ 883-884/ رقم 1216" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين".
4 أي؛ فهو يسكت عنه؛ أي: يترك الاستفصال فيه مع وجود مظنته. "د".
5 فلا تستقصوا*؛ فيترتب على ذلك تفصيل لا يكون فيه مصلحتكم. "د".
6 مضى تخريجه "ص256"، وهو في "الصحيحين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "يستقصوا".(2/385)
ص -276-…ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]؛ فبين ما فيها من المنافع والمضار، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع1، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم؛ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة؛ فالحكم للمفسدة، والمفاسد ممنوعة2؛ فبان وجه المنع فيهما، غير أنه لما لم ينص على المنع -وإن ظهر وجهه- تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات، ودخل لهم تحت العفو، إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوه}؛ فحينئذ استقر حكم التحريم، وارتفع العفو, وقد دل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]؛ فإنه لما حرمت قالوا: كيف بمن مات وهو يشربها؟ فنزلت الآية3، فرفع الجناح هو معنى4 العفو.
ومثال5 ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم؛ كبيع المضامين، والملاقيح، والثمر قبل بدو صلاحه، وأشباه ذلك، كلها كانت مسكوتا عنها، وما سكت عنه؛ فهو في معنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النفع".
2 ولذا قال بعضهم: إن التحريم بدأ من هذه الآية؛ لأنه ذكر ما يقتضي الحرمة، لكن لما لم ينص؛ تمسكوا بالأصل بمقتضى العادة، فكان عفوا. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...}، 8/ 278/ رقم 4620"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر... 3/ 1570/ رقم 1980" عن أنس, رضي الله عنه.
4 تنبه لهذا؛ فهو يؤيد ما قلناه في معنى العفو، وأن الأصل فيه الحكم الأخروي، والأحكام الدنيوية إن وجدت تكون تابعة له. "د".
5 في النسخ المطبوعة: "ومثل".(2/386)
ص -277-…العفو، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى؛ لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام؛ كالقراض، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء.
والثالث:
كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما؛ إلا ما غيروا؛ فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام؛ فيفرقون بين النكاح والسفاح، ويطلقون، ويطوفون بالبيت أسبوعا، ويمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة، ويلبون، ويقفون بعرفات، ويأتون مزدلفة، ويرمون الجمار، ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها، ويغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم، ويقطعون السارق، ويصلبون قاطع الطريق، إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم؛ فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام؛ فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم، وانتسخ ما خالفه؛ فدخل ما كان قبل ذلك1 في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة، وقد نسخ منها ما نسخ، وأُبقي منها ما أبقي على المعهود الأول.
فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة وانضبطت والحمد لله على أقرب ما يكون إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته؛ إلا أنه بقي النظر في العفو؛ هل هو حكم أم لا؟ وإذا قيل حكم؛ فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم خطاب الوضع؟ هذا محتمل كله، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي؛ لم يتأكد البيان فيه، فكان الأولى تركه، والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما استمروا عليه مدة ثم نسخ."د".(2/387)
ص -278-…المسألة الحادية عشرة: فرض الكفاية
طلب الكفاية, يقول العلماء بالأصول: إنه متوجه على الجميع، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين, وما قالوه صحيح من جهة كلي1 الطلب، وأما من جهة جزئيه؛ ففيه تفصيل, وينقسم أقساما، وربما تشعب تشعبا طويلا، ولكن الضابط للجملة من ذلك؛ أن الطلب وارد على البعض، ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب، لا على الجميع عموما.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية [التوبة: 122]؛ فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع.
وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}2 الآية [آل عمران: 104].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار مجموعة فروض الكفايات، وإلا؛ فهذا إنما يتوجه على بعض المكلفين المتأهلين للقيام به، ويتفرع على هذا أنه إذا لم يقم به أحد؛ فإن الإثم لا يعم المكلفين، بل يخص المتأهلين فقط، هذا مراده ومحل استدلاله؛ فعليك بتطبيق أدلته على هذا المعنى، وهذا غير الخلاف بين الأصوليين في أنه متوجه على الكلي الإفرادي؛ كما هو التحقيق، أو المجموعي كما هو مقابله؛ لأن خلافهم يجري هنا أيضا بعد تسليم مسألته هنا؛ فيقال: هل البعض المتأهل لهذا الفرض الوارد عليه الطلب المراد به كل البعض الإفرادي أو المجموعي. "د".(2/388)
2 هذه الآيات لا تدل على أن الطلب متوجه إلى البعض، بل للمانع أن يقول: المعنى يجب عليكم جميعا أن يكون بعضكم المتأهل لذلك داعيا إلى الخير... إلخ مثلا، ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل المسائل ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة؛ أثم جميع المكلفين، المتأهل وغيره، وفي مثله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلخ. "د".
قلت: انظر حول تفسير الآيات في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 165-166"، و"بدائع التفسير" "1/ 508 و2/ 384-385" لابن القيم.(2/389)
ص -279-…وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 102] الآية إلى آخرها.
وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع.
والثاني:
ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى؛ كالإمامة1 الكبرى أو الصغرى، فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب2 بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها3, وكذلك الجهاد -حيث يكون فرض كفاية- إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأيه يكون الإثم الآن حيث لا خلافة قائمة على من كان فيه الأوصاف المعتبرة للخلافة لا غير، وليست الأمة بآثمة، فإذا فرض أن الشروط المرعية غير متوفرة الآن؛ فلا إثم على أحد، وهذا ما لا يمكن أن يسلم به، والتعين الذي يقوله شيء آخر غير فرض الكفاية الذي هو موضوعنا. "د".
2 بل الذي يقال: إنما تسند إلى من كان أهلا، ولكن المطالب بذلك الجميع. "د".(2/390)
3 المستحق للولاية من تحقق فيه أمران: أحدهما: القدرة على القيام بأعبائها، وهذا يرجع إلى العلم وجودة الرأي في تدبير شئونها. ثانيهما: الاستقامة، وهي العمل بما عرف من حق ومصلحة، وإجراؤه بعزم ثابت على الرغم من كل هوى يثور في النفس أو خيال يزين له إيثار مرضاة الوجيه أو الغني على الفوز برضا الأمة الذي هو أمارة رضوان الخالق وسلامة العاقبة، هذان الشرطان هما اللذان يصح لمن تحققا فيه أن يتقلد منصبا أو عملا، ولكن جاء في الحديث الصحيح المصرح بأن يكون الإمام الأكبر قرشيا، وحقق آخرون النظر؛ ففهموا أن ذكر القرشية في الحديث لكون شدة العصبية التي هي ملاك المنعة وعزة الجانب كانت بالغة غايتها في قريش، لو انحلت الرابطة القرشية ونهض رئيس غير قرشي، وقد التفت حوله قوة يمكنها أن تذود عن الأمة كل من يتهافت به الجشع على استعبادها؛ لكان جديرا بالإمامة وحقيقا بأن تمد له الشعوب الإسلامية أيديها بالمبايعة والطاعة. "خ".(2/391)
ص -280-…يتعين1 القيام به على من فيه نجدة وشجاعة، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية؛ إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعا.
والثالث:
ما وقع من فتاوى2 العلماء، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى؛ فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال لأبي ذر3: "يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم"3، وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك؛ فقد نهاه عنها، فلو فرض إهمال الناس لهما؛ لم يصح4 أن يقال بدخول أبي ذر في حرج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لسنا في فرض العين، فهذا مسلم أنه إنما يتعين على هؤلاء، ولكن علينا جميعا أن يحصل ذلك، وبالجملة؛ فالقيام فعلا بالمصلحة إنما يسند إلى من يتأهل له، وقد يكون الطلب المتوجه إليه في ذلك طلب عين إذا لم يوجد متأهل خلافه، فإن وجد؛ كان الطلب لا يزال كفائيا، كغيره ممن لم يتأهل، ويكون الفرق بين المتأهل وغيره؛ أن غير المتأهل عليه أن يعمل ليقوم بها المتأهل، والمتأهل عليه ذلك، وعليه إذا تعين لها أن يقوم بها. "د".
2 هل فتاوى العلماء تعتبر دليلا في مثل هذا، وهو أصل كبير في الدين ينبني عليه كما قلنا أحكام تشمل الأمة أو لا تشملها؟ "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826", وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا/ رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
4 وهذا صريح فيما قررناه من أنه ينبني على كلامه أن المخاطب بفرض الكفاية خصوص(2/392)
من فيه أهلية له، فلو أهمل؛ لم تأثم الأمة، حتى لو فرض أن المسلمين كان فيهم واحد فقط أهلا للخلافة ولم يتوسدها؛ كان هو الآثم فقط، وهل ينال الخلافة بغير الأمة التي تعهد إليه بها؟ فإذا لم تنهضه الأمة وتبايعه؛ كانت آثمة قطعا. "د".(2/393)
ص -281-…الإهمال، ولا من كان مثله.
وفي الحديث: "لا تسأل الإمارة"1، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب، ونهى أبو بكر -رضي الله عنه- بعض الناس عن الإمارة، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليها أبو بكر، فجاءه الرجل، فقال: نهيتني عن الإمارة ثم وليت؟ فقال له: "وأنا الآن أنهاك عنها". واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا2.
وروي أن تميمًا الداري استأذن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في أن يقص؛ فمنعه من ذلك3، وهو من مطلوبات الكفاية -أعني: هذا النوع من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- وتتمته: "فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "ص235"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 321" مطولا، دون قصة مراجعة الرجل له بذلك بعد توليه الخلافة، وفيه أن اسم الرجل: رافع الطائي.
وزاد نسبته في "الإصابة" "1/ 497"، للطبراني وابن خزيمة.
3 أخرج أحمد في "المسند" "3/ 449", وابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر/ رقم 3"، والطبراني في "الكبير" "7/ 177" عن السائب بن يزيد؛ قال: "لم يقص على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عهد أبي بكر، ولا عهد عمر -رضي الله عنهما- وأول من قص تميم الداري، استأذن عمر أن يقص؛ فأذن له أن يقص قائما على رجليه".
وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن.
وأخرج ابن وهب في "الجامع" "1/ 89"، والطبراني في "الكبير" "2/ 49"؛ أن تميمًا الداري استأذن عمر في القصص فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال: =(2/394)
ص -282-…القصص الذي طلبه تميم -رضي الله عنه- وروي نحوه عن علي بن أبي طالب, رضي الله عنه1.
وعلى هذا المَهْيَع2 جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات؛ فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم: أفرض هو؟ فقال: "أما على كل الناس؛ فلا"3، يعني به الزائد على الفرض العيني، وقال أيضا: "أما من كان فيه موضع للإمامة؛ فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"؛ فقسم كما ترى، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه، ومن لا جعله مندوبا إليه, وفي ذلك بيان أنه ليس على كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "إن شئت"، وأشار بيده "يعني الذبح".
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عمرو بن دينار لم يسمع عمر، قاله الهيثمي في "المجمع" "1/ 89".
وأخرج ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر" "رقم 5" عن حميد بن عبد الرحمن؛ قال: "إن تميمًا الداري استأذن عمر -رضي الله عنه- أن يقص، فلم يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال له عمر: تقول ماذا؟ فقال: أقرأ عليهم القرآن وأذكرهم وأعظهم. قال: فأذن له في الأسبوع يوما واحدا، ثم استأذن عثمان -رضي الله عنه- فأذن، ثم استزاده؛ فزاده يوما واحدا، وقد كان استزاد عمر يوما واحدا؛ فلم يأذن له".
وحميد بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، وفي إسناده أيضا عبد الله بن نافع الصائغ، في حفظه لين؛ فإسناده ضعيف، ولكن أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 9-15"، وابن وهب في "الجامع" "1/ 88، 89" من طرق كثيرة عن عمر، تدلل على أن للقصة أصلا.
1 وعن عثمان -رضي الله عنه- كما تقدم، والوارد عن علي أخرجه ابن وهب في "الجامع" "1/ 88".
2 المهيع: الطريق الواسع المنبسط. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
3 أخرجه بنحوه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 32، 34، 35"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 45-46".(2/395)
ص -283-…الناس1، وقال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم؛ ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه؟!
وبالجملة؛ فالأمر في هذا المعنى واضح، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول.
لكن قد يصح أن يقال: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز2؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون بسدها على الجملة3؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القيام به فعلا، وهذا لا نزاع فيه؛ لأن طبيعة فرض الكفاية أنه يقوم به أحد المتأهلين له. "د".
2 هذا مع قوله سابقا: "فلو فرض إهمال... إلخ" يقتضي أنه ليس وجوبا حقيقيا بحيث يأثم الجميع بالترك؛ لأن هذا معنى "التجوز" الذي يقوله، يعني أنه* ليس واجبا بمعناه الشرعي؛ فلا يتم قوله بعد: "فلا يبقى للمخالفة وجه"، وإن كان يريد أنه فرض على الجميع حقيقة يأثم الكل بتركه؛ لأن عليهم إقامة القادر على الواجب، يعني: فإذا تركوا أثم الكل صح الكلام، لكن يخالف ما تقدم، ويجعل البحث كله والمسألة جميعها غير منتجة ثمرة في الدين، وتدخل المسائل التي لا هي من صلب العلم ولا من ملحه. "د".
3 يمتاز فرض الكفاية عن فرض العين بأن القصد منه وقوع الفعل المأمور به من غير نظر إلى فاعله، فمتى وقع ذلك الفعل على الوجه الصحيح؛ ارتفع الطلب سواء قام به فرد أو الجماعة بأكملها، أما فرض العين؛ فإن قصد الشارع منه يتوجه إلى الفاعل بعينه، حتى إذا عجز عن القيام بالفعل؛ سقط الطلب جملة، ولم ينتقل إلى غيره؛ لأن مصلحة الفعل في صدوره عن المكلف به المعين لا في وجوده كيف اتفق, كما هو الشأن في فرض الكفاية. "خ".(2/396)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "وأنه" بزيادة واو!(2/397)
ص -284-…-وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف؛ فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر.
فصل:1
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها وتتبين صحتها بحول الله.
وذلك أن الله -عز وجل- خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد؛ إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح -كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب الشرعية أو العادية- وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر تحته مبادئ وأسسا مهمة في التربية غاية، قل أن تجدها عند غيره؛ فلله دره ما أفهمه وأبعد غوره وأغزر علمه!
وانظر حول هذه المبادئ: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-151".(2/398)
ص -285-…تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم1 على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها, وآخر للصراع والنطاح، إلى سائر الأمور.
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه؛ فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها ويراعونها [إلى]2 أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط3، ثم يخلى4 بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدركات الضرورية؛ فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.
فإذا فرض -مثلا- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع -وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف- ميل به نحو ذلك القصد, وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ظهر. انظر: "لسان العرب" "ن ج م".
2 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.
3 أي: الأمور والأحوال. انظر: "لسان العرب" "خ ط ط".
4 في الأصلي: "تخلي".(2/399)
ص -286-…به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ ترك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به؛ فعل معه فيه ما فعل فيما قبله، وهكذا إلى أن ينتهي.
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا -فإنه الأحق بالتقديم- فإنه يصرف إلى معلميها؛ فصار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له, فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعد إلى أن [صار]1 يحذق القرآن؛ صار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له كذلك، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيمال به نحو ذلك، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية، أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض, وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم؛ لأنه سير أولا في طريق مشترك, فحيث وقف السائر وعجز عن السير؛ فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وفي التي يندر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة.
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، ولا على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل، ولا بالعكس، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع، وإلا؛ لم ينضبط الأول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم [وأحكم]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل.(2/400)
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(2/401)
ص -287-…المسألة الثانية عشرة: للحاجة والضرورة
ما أصله1 الإباحة للحاجة أو الضرورة؛ إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض, أم2 هذا محل نظر وإشكال؟ والقول فيه أنه لا يخلو؛ إما أن يضطر إلى ذلك المباح، أم لا، وإذا لم يضطر إليه, فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا؛ فهذه أقسام3 ثلاثة:
أحدها:
أن يضطر إلى فعل ذلك المباح؛ فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل، وعدم اعتبار ذلك العارض؛ لأوجه:
- منها: أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل، ولم يبق على أصله من الإباحة، وإذا صار واجبا؛ لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه، وليس فرض المسألة هكذا؛ فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى؛ فلا بد من الرجوع إليه، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما كان أصله مباحا؛ كالأكل والشرب والبيع والشراء والنكاح، ولكنه اضطر إليه الشخص أو احتاج إليه حاجة يلحقه بسببها ضيق شديد وحرج لو ترك فعله، وهو مع كونه مضطرا إليه أو محتاجا إليه تعرض له مفسدة واقعة بالفعل أو متوقعة؛ فهل يعتبر جانب اللاحق من المفسدة فتنقض حكم الإباحة فيصير ممنوعا مع أنه ضروري أو حاجي، أو لا يعتبر الطارئ ويبقى لا حرج في استعماله؟ وقد مثل الضروري في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الأدلة بالبيع والشراء الذي لا يسلم غالبا من لقاء المنكر أو ملابسته بسببه، وسيمثل هنا لما في تركه الحرج بمخالطة الناس.
"د".
2 في النسخ المطبوعة: "أو".
3 وهي ما إذا اضطر إليه، وما إذا لحقه بتركه حرج، وما ليس واحد منها، وسيذكر الثالث أثناء المسألة الثالثة عشرة. "د".(2/402)
ص -288-…والثاني: أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة في جنب المصلحة المجتلبة، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه، فما نحن فيه من ذلك النوع؛ فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية.
والثالث: أنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها؛ لأدى ذلك إلى رفع الإباحة1 رأسا، وذلك غير صحيح، كما سيأتي في كتاب "المقاصد" من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره2، واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب؛ فإن البيع والشراء حلال في الأصل، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه؛ ففقد الموانع من المكملات، كاستجماع الشرائط، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل؛ فما نحن فيه مثله.
والقسم الثاني:
أن لا يضطر إليه، ولكن يلحقه بالترك حرج، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ؛ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج، كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام3، وكما إذا كثرت المناكر في الطرق4 والأسواق؛ فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإباحة هنا بمعنى الإذن؛ كما هو ظاهر "د".
2 انظر: "2/ 302 وما بعدها".
3 انظر: "3/ 527".
4 في الأصل: "الطريق".(2/403)
ص -289-…وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج؛ كالقرض الذي فيه بيع الفضة بالفضة ليس يدا بيد، وإباحة العرايا، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح1، وعوارض مخالطة الناس، وما أشبه ذلك، وهو كثير، هذا وإن ظهر ببادئ الرأي2 الخلاف ههنا؛ فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم، وهم أهل علم يقتدى بهم، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض؛ فهؤلاء إنما بتّوا في المسألة على أحد وجهين:
- إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم، وأنه مما هو معتاد في التكاليف، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام3.
- وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع4 في الرخص، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان، وإن لم يطرق في طريقه عارض؛ فما ظنك به إذا طرق العارض؟ والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا ترتب على النكاح دخول في كسب الشبهات وارتكاب بعض الممنوعات؛ قالوا: إن هذا لا يمنع النكاح، ويعرض للمخالطة وقوع -أو توقع سماع- المنكرات ورؤيتها، ومع ذلك لم تمنع. "د".
2 وعليه يكون خلافا في حال لا خلافا حقيقيا؛ فلذا قال: "ظهر ببادئ الرأي"؛ أي: إن هؤلاء لو بنوا على أن فيه حرجا لقالوا بعدم اعتبار العوارض. "د".
3 انظر: "2/ 214".
4 في الأصل و"ط": "الرابع" ولا معنى لها.
5 وانظر: "4/ 543".(2/404)
ص -290-…وربما اعترضت1 في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح، وأن الحرج فيها أعظم منه في تركه، وهذا أيضا مجال اجتهاد؛ إلا أنه يقال: هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا؟ وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى، وهي:
المسألة الثالثة عشرة: سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل
فنقول: لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه، أو من باب آخر هو أصل في نفسه، فإن كان هذا الثاني؛ فإما أن يكون واقعا أو متوقعا، فإن2 كان متوقعا؛ فلا أثر له مع وجود الحرج؛ لأن الحرج بالترك واقع وهو مفسدة، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة؛ فلا تعارض الواقع ألبتة، وأما إن كان واقعا؛ فهو محل الاجتهاد في الحقيقة3، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة الترك المباح, وقد يكون الأمر بالعكس، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح، وإن كان الأول؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيذكر القسم الثالث أثناء المسألة الآتية، بعد أن يتكلم في صدرها ما يشرح فيه ما يعترض طريق المباح من مفاسد, قد تكون أرجح من فوت الأصل المحتاج إليه الذي فرض فيه أن يلحقه بالترك له حرج ومشقة، ولكنه صنيع غير مناسب؛ إذ إنه عقد مسألة خاصة ليبين فيها تفاصيل لبعض أحكام القسم الثاني، وأدرج فيها حكم القسم الثالث وتفاصيل أحكامه، وكان الأجدر به أن يسوق ما يتعلق بالقسم الثاني لاحقا لبيانه هنا، دون عقد مسألة خاصة به؛ لأن ما ذكره بالنسبة إلى القسم الثاني في المسألة التالية ليس بأكثر ولا بأهم مما ذكره في بيانه في مسألته الثانية عشرة، وأيضا؛ فإنه مع كونه فرض المسألة في تتميم هذا القسم كما قال هنا جاء فيها بالقسم الثالث برمته في جمل أوسع مما يخص القسم الثاني؛ فالصنيع غير وجيه. "د".
2 في "م": "فإذا".(2/405)
3 في الأصل: "بالحقيقة".(2/406)
ص -291-…يصح التعارض، ولا تُساوَى المفسدتان، بل مفسدة فقد الأصل أعظم، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف، وقد مر بيان ذلك في موضعه، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق1 -بخلاف العكس- كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم، وفي المصلحة والمفسدة؛ فكذا ما كان مثل ذلك.
والثاني: أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي، وقد علم2 أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمِّل في مقابلة وجود مصلحة المكمَّل.
والثالث: أن المكمِّل من حيث هو مكمِّل إنما هو مقوٍّ لأصل المصلحة ومؤكد لها؛ ففوته إنما هو فوت بعض المكملات، مع أن أصل المصلحة باقٍ، وإذا كان باقيا؛ لم يعارضه ما ليس في مقابلته، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل، وهو ظاهر.
والقسم الثالث من القسم3 الأول:
وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج- فهو محل اجتهاد، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية؛ فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد يعود إذا كانت صفة لازمة لتحقيق الماهية. "د".
2 وسيأتي في أول باب الأدلة؛ فراجعه لتعرف معنى عدم أثر الجزئي في مقابلة الكلي. "د".
انظر: "3/ 172 وما بعد".
3 لعله من التقسيم الأول؛ أي: التقسيم في أول المسألة السابقة. "د".
قلت: بل هو كذلك.(2/407)
ص -292-…ومنه1 ما فيه خلاف، كالذرائع في البيوع وأشباهها2، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب، والخلاف فيه شهير.
ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما؛ فإن أصل التعاون على البر والتقوى، أو الإثم والعدوان مكمِّل لما هو عون عليه، وكذلك أصل الذرائع، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمَّل لا مكمِّل.
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري؛ إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات, وهي أصول المصالح؛ فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها؛ فاعتبار المعارض في المباح3 اعتبار لمعارض الضروري في الجملة، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا، وإذا كان كذلك؛ صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله، وهو خلاف الدليل.
وأيضا، إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه4 المكمِّل، وأطلق هذا النظر، أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته؛ إذ عوارض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من فروعه. "د".
2 هي البيوع التي ظاهرها الصحة، ولكن يقصد به التوسل لاستباحة الربا، وقد ذهب إلى منعها فريق من أهل العلم؛ كالمالكية نظرًا إلى أن المنهي عنه كالربا يتضمن مفسدة كان من قصد الشارع درؤها وسد الطريق دونها؛ فالوسيلة الموصلة إلى المنهي عنه تعد عملا مناقضا لقصد الشارع عند هؤلاء، وسيوافيك كتاب المقاصد بتحرير الفرق بين الوسيلة التي تعد حيلة باطلة والوسيلة التي تتخذ مخلصا من الوقوع في محظور. "خ".
3 في الأصل: "للمباح".
4 أي: لأجل معارضه؛ فاللام للتعليل. "د".(2/408)
ص -293-…المباح كثيرة، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج؛ فيصار إلى القسم الذي قبله، وقد مر ما فيه1.
ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك؛ لم يَسُغِ الميل إليه ولا التعريج عليه.
وأيضا، فإن كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه؛ لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل؛ فيجب الوقوف إذًا، إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم2، وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة وإما العفو، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن؛ فكان هو الراجح.
ولمرجح3 جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات، وهي كذلك أبدا؛ لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها، وقد فرضت كذلك هذا خلف، وإذا تخير المكلف فيها؛ فذلك قاضٍ بعدم المفسدة في تحصيلها, وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها، وكلاهما صادّ عن سبيل التخيير؛ فلا يصح -والحالة هذه- أن تكون مخيرا فيها، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة.
وأيضا؛ فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل؛ لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة، غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع؛ فنهى عن ملابستها، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله: "وإن كان الأول؛ فلا يصح التعارض... إلخ". "د".
2 لا يتم الدليل الثالث إلا به. "د"
3 حججه متينة، أما الأول؛ فخطابيات لا تثبت عند بحثها. "د".(2/409)
ص -294-…هذه المطالب، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة.
وأيضا؛ فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت، فإن المسألة مختلف فيها, فمن قال: إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر؛ فلا نظر1 في اعتبار العوارض؛ لأنها ترد الأشياء إلى أصولها، فجانبها أرجح، ومن قال: الأصل2 الإباحة أو العفو؛ فليس ذلك على عمومه باتفاق، بل له مخصصات، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض, ولا يقال: إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر، كما لا يصح أن يقال: إن قوله, عليه السلام: "لا يرث المسلم الكافر"3 معارض لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تحتاج إلى نظر في ذلك، بل لا بد من اعتبارها. "د".
2 في الأصل: "إن أصل".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، 12/ 50/ رقم 6764", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفرائض باب منه، 3/ 1233/ رقم 1614", وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر، 3/ 326/ رقم 2909", والترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر، 4/ 423/ رقم 2107"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض, باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، 2/ 911/ رقم 2729"، وأحمد في "المسند" "5/ 200"، ومالك في "الموطأ" "2/ 519"، وغيرهم من حديث أسامة بن زيد, رضي الله عنه.
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 84"، وعزاه للبخاري ومسلم وأصحاب "السنن" الأربعة: "وأغرب ابن تيمية في "المنتقى" فادعى أن مسلما لم يخرجه, وكذلك ابن الأثير في "الجامع" ادعى أن النسائي لم يخرجه".(2/410)
قلت: نعم، هو ليس في "المجتبى" وهو من الكتب الستة، والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي؛ كما في "تحفة الأشراف" "1/ 56، 57, 58"؛ فابن الأثير مصيب، وتعقب ابن حجر للمجد ابن تيمية صحيح، والله الموفق.(2/411)
ص -295-…حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم، والله أعلم.(2/412)
ص -297-…القسم الثاني من قسمي الأحكام: خطاب الوضع
وهو يرجع1 إلى خطاب الوضع2، وهو ينحصر3 في الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة والبطلان، والعزائم والرخص؛ فهذه خمسة أنواع، فالأول ينظر فيه في مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "خ": "القسم الثاني الذي يرجع...".
2 بدل ما بين المعقوفتين بياض في الأصل.
3 لم يحصره الآمدي فيها وإن اقتصر في بيانه عليها، أما "تحرير الكمال" فقد زاد فيها كثيرا فراجعه، وقال ابن الحاجب: "إن الصحة والبطلان أمر عقلي لا حكم شرعي؛ فنفى أن يكونا حكمين وضعيين، ونفي بعضهم أن يكون هناك أحكام وضعية ورجعها إلى الأحكام التكليفية؛ لأن خطاب الوضع يرجع إلى الاقتضاء أو التخيير؛ إذ معنى جعل الزنى سببا لوجوب الحد وجوب الحد إذا حصل الزنى، وجعل الطهارة شرطا لصحة البيع جواز الانتفاع به عند تحقق الطهارة وحرمته دونها؛ فالاقتضاء والتخيير إما صريح أو ضمني, وفي الحقيقة هو خلاف لا تظهر له ثمرة عملية. "د".(2/413)
ص -298-…النوع الأول في الأسباب:
المسألة الأولى:
الأفعال الواقعة في الوجود، المقتضية لأمور تشرع لأجلها، أو توضع فتقتضيها1 على الجملة ضربان:
أحدهما: خارج عن مقدور المكلف.
والآخر: ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فالأول قد يكون سببا، ويكون شرطا، ويكون مانعا.
فالسبب2 مثل3 كون الاضطرار سببا في إباحة الميتة, وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء، والسلس سببا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات، وما أشبه ذلك.
والشرط ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع, والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب، وما كان نحو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "فيقتضيها" بالتحتية بعد الفاء.
2
فسبب منه الوجود والعدم…لذاته مثل الزوال منحتم
أعني أن السبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته؛ كزوال الشمس لوجوب الظهر مثلا. "ماء".
3 ذكر في السبب أمثلة لما يشرع من أجله وما يوضع من أجله كالسلس، ولم يذكر ما يوضع من أجله في الشرط والمانع، إلا أن يقال: إن الحيض مثلا مانع مسقط لحق الوطء ووجوب الصلاة، وعدم الرشد مسقط لحقه في التصرفات. "د".(2/414)
ص -299-…ذلك1.
والمانع ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام، والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك.
وأما الضرب الثاني؛ فله نظران:
نظر من حيث هو مما يدخل2 تحت خطاب التكليف، مأمورا به أو منهيا عنه، أو مأذونا فيه3، من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا؛ كالبيع4 والشراء للانتفاع، والنكاح للنسل، والانقياد5 للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك، وهو بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتحد السبب والشرط في أن كلًّا منهما يتوقف الحكم الشرعي على تحققه، ويتمايزان بأن مناسبة السبب في ذاته ومناسبة الشرط لغيره، فملك النصاب يتحقق به الغنى الذي يقتضي إنفاق قسط من المال على وجه الشكر للنعمة، وأما مرور الحول؛ فإنما هو مكمل لوصف الغنى، إذ في مدة الحول يتمكن مالك النصاب من تنميته غالبا, فمعنى الشرطية في الحول بالنسبة لوجوب الزكاة واضح، وقد استشكل بعض الأصوليين جعل الأوقات الخمسة أسبابا للصلوات حيث لم يتضح له وجه المناسبة بينها؛ فكان جوابه من بعض الفقهاء بأنها تشتمل على حكمة خفية، وتصدى آخرون لبيان تلك الحكمة بتفصيل لا يسعه هذا المقام. "خ".
2 و4 أي: بقطع النظر عن كونه يترتب عليه مشروعية حكم أو وضعه، وبهذا الاعتبار لا يكون داخلا معنا في بحثنا؛ لأن بحثنا خاص بالأفعال من حيث كونها يشرع الحكم أو يوضع لأجلها؛ فالبيع والشراء وضعا سببًا شرعيًّا في حل الانتفاع، لا لنفس الانتفاع، وكذا النكاح لم يكن سببا شرعيا أو شرطا للنسل. "د".
3 في الأصل و"م": "مأمور به، أو منهي عنه، أو مأذون فيه".
5 أي: فإن الانقياد لفعل الطاعة الذي وإن ترتب عليه مصلحة الفوز في الآخرة؛ إلا أنه لا يعد حصول الفوز حكما شرعيا حتى يكون مما دخل تحت النظر الثاني، ومثله يقال في الانقياد بالنسبة للوصف بالطاعة والعد من الطائعين. "د".(2/415)
ص -300-…ونظر من جهة ما يدخل1 تحت خطاب الوضع؛ إما سببا، أو شرطا، أو مانعا.
أما السبب؛ فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببا للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات، وما أشبه ذلك؛ فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات.
وأما الشرط؛ فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا، والإحصان شرطا في رجم الزاني، والطهارة شرطا في صحة الصلاة، والنية شرطا في صحة العبادات؛ فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب، ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات.
وأما المانع؛ فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى، ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعا من القصاص للكافر2، والكفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه في النظر الأول لوحظ فيه أنه داخل تحت خطاب التكليف بقطع النظر عن كونه سببا أو شرطا مثلا، أما الثاني؛ فالنظر فيه إلى جهة كونه شرطا... إلخ، مع كونه في كل من النظرين داخلا تحت خطاب التكليف، كما ترشد إليه الأمثلة في كليهما، والضرب الثاني أمثلته جميعها واضحة؛ لأنها أفعال داخلة تحت مقدور المكلف، وشرع أو وضع لأجلها أحكام أخرى؛ فكانت سببا لها أو شرطا أو مانعا. "د".
2 هذا متفق عليه في حكم الكافر الحربي، وأما من دخل في ذمة الإسلام؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى إلى أنه يقتص له من المسلم في كل حال، واستندوا في ذلك إلى أحاديث أيدوها بالقياس على ما انعقد عليه الإجماع من قطع يد المسلم متى سرق مالًا لبعض أهل الذمة، وقالوا, حيث كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم: فلتكن حرمة دمه مساوية لحرمة دمه. "خ".(2/416)
ص -301-…مانعا من قبول الطاعات، وما أشبه ذلك، وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا؛ كالإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه للكافر، ومثله كثير.
غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا وقع سببا لحكم شرعي؛ فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببا لحكم، وشرطا لآخر، ومانعا لآخر، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة، كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف.
المسألة الثانية:
مشروعية الأسباب1 لا تستلزم مشروعية المسبَّبات، وإن صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي؛ من إباحة, أو ندب، أو منع, أو غيرها من أحكام التكليف؛ فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبَّباتها، فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهى عنه لم يستلزم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/417)
1 محصل المسألة أن المسببات عن الأمور التكليفية لا يلزم أن تأخذ حكمها من إباحة أو منع مثلا، بل قد تكون المسببات غير داخلة في مقدور العبد؛ كإزهاق الروح، ونفس الإحراق، ووجود الرزق؛ فهذه لا يعقل فيها تعلق حكم شرعي بها فضلا عن نفس الحكم الذي تعلق بسببها، وقد تكون في مقدوره ولكنها تأخذ حكما آخر؛ كأكل لحم الخنزير المسبب عن ذبحه؛ فذبحه ليس بحرام، ولكن مسببه وهو أكل لحمه حرام، ومشتري الحيوان مباح، ولكن مسببه وهو النفقة عليه واجبة، وقد يكون المسبب مقدورا عليه وآخذا حكم السبب، وذلك كتحريم الربا وتحريم ما تسبب عنه، وهو الانتفاع بمال الربا، والذكاة مباحة، ولازمها وهو الأكل من المذبوح مباح، وهكذا؛ فالذي يقرره هنا هو أنه لا استلزام بين حكم السبب وحكم المسبب، بل قد لا يكون للمسبب حكم شرعي رأسا؛ فعليك بتطبيق ما يذكره في المسألة على هذا, والتوفيق بين ما يظهر ببادئ الرأي مخالفا له. "د".(2/418)
ص -302-…النهي عن المسبب، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه.
مثال ذلك الأمر بالبيع مثلا، لا يستلزم1 الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البُضْع، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق، ومن ذلك كثير.
والدليل على ذلك: ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه، لا كسب فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان عليه؛ فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق؛ كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
وقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] إلى آخر الآية.
وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الآية [الطلاق: 2].
إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق، وليس المراد نفس التسبب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالبيع سبب في حل الانتفاع بالمبيع، وليس الأمر بالبيع سببا في الأمر بحل الانتفاع؛ لأن الحل المسبب ليس إلا حكما لله؛ فلا يتعلق به الحكم الشرعي الذي في السبب، وهو الأمر، ومثله يقال في النكاح؛ ليتم له أن هذه الأمثلة الستة لا يوجد فيها أن الحكم الذي في السبب أخذه المسبب، بل لا حكم في المسبب؛ لأنه ليس من كسب العبد، إلا أنه يبقى أن المناسب أن يقول: زهوق الروح واحتراق الثوب. "د".(2/419)
ص -303-…الرزق، بل الرزق المتسبب إليه.
ولو كان المراد نفس التسبب؛ لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها، أو ازدراع1 الحب، أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة، لكن ذلك باطل باتفاق؛ فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه. وفي الحديث: "لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير"2 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ازدرع القوم: اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا، أو احترثوا؛ كما في "لسان العرب" "ز ر ع".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 559" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب في التوكل على الله، 4/ 573/ رقم 2344", والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 79", والطيالسي في "المسند" "ص50"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 1"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69"، والبغوي في شرح السنة" "14/ 301/ رقم 4108"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1444" عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن عمر بن الخطاب مرفوعا.
وتابع حيوة عبد الله بن يزيد المقرئ؛ كما عند أبي يعلى في "المسند" "1/ 212/ رقم 247", وعنه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 509/ رقم 730- الإحسان"، وأحمد في "المسند" "1/ 30", و"الزهد" "ص18"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 318"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69".
وإسناده جيد، رجاله رجال الصحيح؛ سوى بكر بن عمرو، روى له البخاري حديثا واحدا متابعة، واحتج به الباقون سوى ابن ماجه، وقال الدارقطني: "يعتبر به"، وقال أبو حاتم: "شيخ"، وقال أحمد: "يروى له"، وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 103"، وقال الذهبي في "الميزان" "1/ 347": "كان ذا فضل وتعبد, محله الصدق".(2/420)
ومع هذا؛ فقد تابعه ابن لهيعة، ورواه عنه عبد الله بن وهب، وهو ممن روى عنه قديما قبل احتراق كتبه، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 52"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد, باب التوكل واليقين/ رقم 4164"؛ فإسناده صحيح.
قال "د": "بقيته: "تغدو خماصا وتروح بطانا"؛ فهي تغدو وتروح في طلب الرزق والتسبب إليه، والله تعالى يخلق لها الرزق، فلم يقل: تترك كل سبب؛ فيحصل لها الرزق".(2/421)
ص -304-…وفيه: "اعقلها1 وتوكل"2؛ ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد جمع بين طلب عقل الناقة والاعتماد على الله في حفظها المسبب عادة عن عقلها، ولو كان الحفظ مأمورا به؛ كالسبب ما جمع بين العقل والتوكل، بل كان يطلب الحفظ أيضا، أو يسكت عن التوكل على الأقل؛ فالجمع قاضٍ بأن المسبب لا يتعلق به مشروعية. "د".
قلت: وفي الأصل و"ط": "قيدها".
2 أخرجه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 510 رقم 731- الإحسان"، والحربي في "الغريب" "3/ 1226-1227"، ومحمد بن العباس البزار في "حديثه" "2/ 117/ 2"، وأبو بكر الكلاباذي في "مفتاح معاني الآثار"
"ق 251/ 2" -كما في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" "رقم 22"- والحاكم في "المستدرك" "3/ 623", وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 215/ رقم 970، 971"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 84/ ب"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 633" من طرق عن يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه بلفظ: "اعقلها وتوكل"، أو: "قيدها وتوكل".(2/422)
وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 303": "رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح؛ غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري, وهو ثقة"، وقال أيضا "10/ 291": "رواه الطبراني بإسنادين, وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات", وجود إسناده الذهبي في "التلخيص"، وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "4/ 279" إلى الطبراني وابن خزيمة في "التوكل", وجود إسناده أيضا، ونقل المناوي في "الفيض" "2/ 8" عن الزركشي؛ أنه قال: "إسناده صحيح", وله شواهد من حديث أنس، كما عند أبي داود في "القدر" -كما في "تهذيب الكمال" "3/ ق 1363"- والترمذي في "الجامع" "رقم 2517"، وآخر "العلل" "5/ 762" الملحق مع "الجامع"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 11"، وأبي نعيم في "الحلية" "8/ 390"، والقشيري في "الرسالة" "466-467"، وابن الجوزي في "التلبيس" "279"، وابن عساكر في "التاريخ"، والضياء في "المختارة" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 507"- وفيه المغيرة بن أبي قرة، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال ابن حجر: "مستور", ونقل الترمذي عن يحيى القطان قوله: "وهذا عندي حديث منكر"، ثم قال الترمذي: "وهذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا".
قلت: تقدم حديث عمرو بن أمية، وهو حسن إن شاء الله تعالى.(2/423)
ص -305-…ومما يبينه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59].
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}1 [الواقعة: 63].
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة: 68].
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 71].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؛ أي: تنبتونه أم نحن المنبتون المثمرون له؟ والآيات الثلاث الأولى واضحة في البيان هنا؛ لأن في كل منها نسبة التسبب للعبد، وإنكار أن يكون له إيجاد للمسبب، بل الموجد هو الله، أما الآية بعدها؛ فليست مما تعلق به كسب للعبد مطلقا، لا في تسبب ولا غيره؛ لأن الإنزال من المزن -وهو محل الغرض- لا شأن لنا به ولا تسببا، فلو كان الكلام في الري المسبب عن الشرب وكانت الآية: "أأنتم تخلقون الري أم نحن الخالقون"؛ لكانت الآية مما نحن فيه؛ فتأمل، وانظر في الآية التي بعدها أيضا، وعليك بالتأمل في صنيعه لتعرف السبب في هذا الأسلوب: جعل الآيات الأولى دليلا وبدأ بها وعلق عليها أولا، ثم ذكر الآيات الأخيرة قائلا: "ومما يبينه" دخولا عليه، وقال بعد الحديثين: "فيهما بيان لما تقدم", وخذ نموذجا لطريق التأمل مثلا:
الآية الأولى: فيها نفي التكليف بالمسبب صراحة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} مع العلم بطلب الرزق والتسبب فيه لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
الآية الثانية: حصر الرزق في كونه عليه تعالى؛ فطبعا لا يكلف به غيره.
الآية الثالثة: جعل الرزق في السماء على ما هو ظاهرها، وليس في متناول العبد؛ فلا يكلف به، مع أنه طلب بالتسبب إلى الرزق.(2/424)
أما الآيات الأخرى؛ فنسب الخلق إليه تعالى لا للعبد, ويلزمه ألا يطلب من العبد؛ فهو ظاهر في أنه لا يكلف به غيره, مع بقاء احتمال أنه سبحانه هو الخالق مع تسبب العبيد فيها ومطالبتهم بذلك التسبب, بخلاف الآيات الأولى؛ ففيها عدم المطالبة بالتسبب صريحة أو كالصريحة. "د".(2/425)
ص -306-…وأتى على ذلك كله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].
وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه، ثم الحكم فيه لله وحده.
واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به، وإذا كان كذلك؛ دخلت الأسباب المكلف بها1 في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات، فإذًا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب؛ فخرجت المسببات2 عن خطاب التكليف؛ لأنها ليست من مقدورهم، ولو تعلق بها؛ لكان تكليفا بما لا يطاق، وهو غير واقع كما تبين في الأصول.
ولا يقال: إن الاستلزام موجود، ألا ترى أن إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها؟ وإذا تعلق بها التحريم؛ كبيع الربا, والغرر، والجهالة, استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها، وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها، والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة، وتستلزم إباحة الانتفاع، فإذا وقعت على غير المشروع؛ كانت ممنوعة، واستلزمت منع الانتفاع... إلى أشياء من هذا النحو كثيرة؛ فكيف يقال: إن الأمر بالأسباب والنهي عنها لا يستلزم الأمر بالمسببات ولا النهي عنها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيها".
2 لو أخذ هذا على عموم؛ لكرّ على المسألة بالنقض, وكان الواجب أن يقال بدل "لا تستلزم": لا يترتب حكم شرعي على مسبباتها ولا يتعلق بها حكم مطلقا؛ لأنها كلها خارجة عن مقدوره، مع أن صنيعه الآتي يسلم فيه أن بعضها يتعلق بها حكم، لكن لا على طريق الاستلزام، والواقع أن المسببات كثيرة؛ منها ما هو كالسبب من مقدور المكلف، ومنها ما ليس كذلك، والأول قد يأخذ حكم سببه وقد يأخذ حكما غيره. "د".(2/426)
ص -307-…وكذلك في الإباحة؟
لأنا نقول: هذا كله لا يدل على الاستلزام، من وجهين:
أحدهما: أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام، وقام الدليل على ذلك، فما جاء بخلافه؛ فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام.
الثاني: أن ما ذكر ليس فيه استلزام، بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة؛ فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمورا به؛ فكما نقول في الانتفاع بالمبيع: إنه مباح؛ نقول في النفقة عليه: إنها واجبة إذا كان حيوانا، والنفقة من مسببات العقد المباح، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح، وهو مطلوب، ومثل ذلك الذكاة؛ فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول؛ كالخنزير، والسباع العادية، والكلب, ونحوها، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ومكروه في البعض.
هذا في الأسباب المشروعة، وأما الأسباب الممنوعة؛ فأمرها أسهل1؛ لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب، وإذا لم تكن أسبابا لم تكن2 لها مسببات؛ فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع، لا أن3 المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة، وهذا كله ظاهر؛ فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم أنه يتفق فيها أن تكون مسبباتها ممنوعة؛ كالغصب والسرقة، وقد تكون غير متعلق بها حكم شرعي؛ كالقتل مع الموت مثلا؛ فلا يظهر فرق بين الممنوعة والمأمور بها في درجة عدم الاستلزام. "د".
2 في الأصل: "يكن".
3 يقال مثله في المأمور بها والمباحة ما دام الجميع لا استلزام فيه، وأنه أمر اتفاقي. "د".(2/427)
ص -308-…وينبني على هذا الأصل:
المسألة الثالثة:
وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها1, بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسبابا كانت أو غير أسباب، معللة كانت أو غير معللة.
والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب، وأنها ليست2 من مقدور المكلف، فإذا لم تكن راجعة إليه, فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم، وهو السبب، وما سواه غير لازم، وهو المطلوب.
وأيضا, فإن3 من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ، وإلى جهته ميل، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يولي على العمل من طلبه4، والولاية الشرعية كلها مطلوبة؛ إما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ماء": "وفي نسخة: إليه".
2 مما سبق يعلم أنه ليس مطردا، وأن من المسببات ما هو من مقدور المكلف، ويتعلق به الخطاب المتعلق بنفس السبب؛ كالانتفاع بالمبيع في عقد البيع. "د".
3 فالولاية الشرعية مثلا لها مسببات كثيرة، وقد يكون القصد إلى بعض هذه المسببات مانعا من التسبب فيها مع كونها مطلوبا شرعيا؛ كالقصد إلى حظوظ نفسه ومنافعه المسببة عن الولاية؛ فلا تكون الولاية حينئذ مطلوبة شرعا, وجعل الشارع من أدلة قصد المكلف لحظوظه فيها طلبه لها, فلذلك منع من طلب الولاية منها، وإذا كان النظر إلى المسبب قد يكون قاضيا بجعل المطلوب شرعا غير مطلوب، بل ويجعل المباح غير مباح؛ فأولى ألا يلزم القصد إلى المسبب, يعني أن القصد إلى المسبب قد يضر؛ فضلا عن لزومه؛ فهو ترقٍّ في الاستدلال، على أنه لا يلزم. "د".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام, باب ما يكره من الحرص على الإمارة، 13/ 125/ رقم 7149"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة, باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 3/ 1456/ رقم 1733" عن أبي موسى؛ قال: دخلتُ =(2/428)
ص -309-…طلب الوجوب، أو الندب، ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ، وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره، كما سيأتي بحول الله تعالى1، بل قد راعى عليه السلام مثل هذا في المباح؛ فقال: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه"2 الحديث؛ فشرط في قبوله عدم إشراف النفس؛ فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك، وتفسيره في الحديث الآخر: "من يأخذ مالًا بحقه؛ يبارك له فيه, ومن يأخذ مالًا بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع"3، وأخذه بحقه هو أن لا ينسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي؛ فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمرنا على بعض ما ولاك الله, عز وجل, وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله, ولا أحدا حرص عليه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "طلب الرجل الولاية لمقصد غير صحيح؛ كالتباهي بمقامها، أو التمتع بما تجره إليه من المنافع المادية؛ تهمة تنادي بالحذر من عاقبته، فإن من كان هذا شأنه لا يبالي أن يضحي بمصلحتها أو يحتمل الإهانة في سبيل بقائه على منصتها، وعلى مثل هذا الوجه تحمل الأحاديث الواردة في كراهة الحرص على الولاية، أما من سعى إليها ليدبر شئونها بحزم ونصيحة، أو ليتخذ مكانتها وسيلة إلى القيام بأعمال شريفة؛ فله أسوة بقول يوسف, عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}".
1 انظر: "2/ 298-299، 327، 330 وما بعد، 344 وما بعد، 438 وما بعد".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس، 2/ 337/ رقم 1473"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، 2/ 723/ رقم 1045" عن عمر -رضي الله عنه- وتتمته: "وما لا؛ فلا تتبعه نفسك".(2/429)
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، 5/ 277/ رقم 2750، وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/ 249-250/ رقم 3143، وكتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة"، 11/ 258/ رقم 6441"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" من حديث حكيم بن حزام, رضي الله عنه.(2/430)
ص -310-…حق الله فيه، وهو من آثار عدم إشراف النفس، وأخذه بغير حقه خلاف ذلك، وبين1 هذا المعنى الرواية الأخرى: "نعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"2، أو كما قال: "وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, ويكون عليه شهيدا يوم القيامة"3.
ووجه ثالث: وهو أن العباد من هذه الأمة -ممن يعتبر مثله ههنا- أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن شوائب الحظوظ، حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها, وأسسوها قاعدة بنوا عليها -في تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض- أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه، أو ما ثقل عليها؛ حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس، وهم الحجة فيما انتحلوا؛ لأن إجماعهم إجماع، وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات في الأسباب, وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك"4، وكل تصرف للعبد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ويبين".
2 هو قطعة من حديث في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري، سيأتي تخريجه في الحديث الآتي.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن -تقدم بيانها "ص309"- وليس عنده: "ويكون عليه شهيدا يوم القيامة" من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 3/ 327/ رقم 1465"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا, 2/ 727-729" من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ المصنف.
4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 36-38/ رقم 8" عن عمر, رضي الله عنه.(2/431)
ص -311-…تحت قانون الشرع؛ فهو عبادة، والذي يعبد الله على المراقبة يعزب عنه -إذا تلبس بالعبادة- حظ نفسه فيها, هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها، وهو معنى بينه أهله؛ كالغزالي1 وغيره.
فإذًا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الالتفات إلى المسببات، وهذا أيضا جارٍ في الأسباب الممنوعة كما يجري في الأسباب المشروعة، ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في جريان الثواب والعقاب2؛ فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه، والسبب هو المتضمن له؛ فلا يفوته شيء إلا بفوت شرط أو جزء أصلي أو تكميلي في السبب خاصة.
المسألة الرابعة:
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات، أعني الشارع، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر، وإذا كان كذلك؛ لزم من القصد إلى وضعها أسباب القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات.
والثاني: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعا، فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "إحياء علوم الدين" "3/ 66، 67، 69".
2 يعني: مع أنهما من المسببات؛ فيجريان على العبد بدون قصد إليهما. "د".(2/432)
ص -312-…المسببات؛ لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات.
والثالث1: أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب؛ لم يكن وضعها على أنها أسباب، لكنها فرضت كذلك؛ فهي ولا بد موضوعة على أنها أسباب، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات، فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها، وإذا ثبت هذا، وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع؛ لزم أن تكون المسببات كذلك.
فإن قيل: فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب2؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن القصدين متباينان، فما تقدم هو بمعنى أن الشارع لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات؛ فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم, وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشارع [مما]3 يقصد وقوع المسببات عن أسبابها؛ ولذلك وضعها أسبابا، وليس في هذا ما يقتضي أنها داخلة تحت خطاب التكليف, وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى مجرد الوقوع خاصة؛ فلا تناقض بين الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل في هذه المقدمات لتعرف ما يحتاج إليه منها في غرضه وما لا يحتاج إليه، وهل بقيت حاجة إلى قوله: "وإذا ثبت هذا..." إلخ بعد قوله: فواضع الأسباب قاصد المسببات من جهتها؟ أليس هذا هو الدعوى المطلوبة؟ لكنه جعلها من المقدمات ورتب عليها قوله: "وإذا ثبت هذا..." إلخ، وهل معنى قصد وضعها مسببات زائد على قصد وقوع المسببات من جهتها؟ "د".
قلت: قارن ما عند المصنف بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 179-183، 287".
2 في الأصل: "المسببات".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(2/433)
ص -313-…والثاني1: أنه لو فرض توارد القصدين2 على شيء واحد؛ لم يكن محالا إذا كان باعتبارين مختلفين3، كما توارد قصد الأمر والنهي معا على الصلاة في الدار المغصوبة باعتبارين.
والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق.
المسألة الخامسة:
إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب؛ فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق، وله القصد إليه.
أما الأول؛ فما تقدم4 يدل عليه.
فإذا قيل لك: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرهما؟
قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال؛ فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به، كما أنه أمرني أن أصلي وأصوم وأزكي وأحج، إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها.
فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح.
قلت: نعم، وذلك إلى الله لا إلي؛ فإن الذي إلي التسبب، وحصول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لازم لما قبله وليس شيئا جديدا، فإن تباين القصدين إنما جاء من عدم تواردهما باعتبار واحد. "د".
2 في الأصل و"ط": "فرض القصدان".
3 هذا الجواب مبني على أن القصدين: المثبت والمنفي متوجهان إلى شيء واحد، وهو المسببات، ولكن القصد المثبت يتعلق بها من جهة وقوعها، والقصد المنفي من حيث التكليف بها. "خ".
4 أي: في أدلة المسألة الثالثة؛ لأنه إذا كان لا يلزمه؛ فله تركه. "د".(2/434)
ص -314-…المسببات ليس إلي؛ فاصرف قصدي إلى ما جعل إلي, وأكل ما ليس لي إلى من هو له.
ومما يدل على هذا أيضا؛ أن السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما وقع المسبب عنده لا به, فإذا تسبب المكلف؛ فالله خالق السبب، والعبد مكتسب له {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29].
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
وفي حديث العدوى قوله, عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟"1، وقول عمر في حديث الطاعون: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، حين قال له عمرو بن العاص: "أفرارا من قدر الله؟"2، وفي الحديث: "جف القلم بما هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب لا هامة, 10/ 241/ رقم 5770، وباب لا صفر، 10/ 171/ رقم 5717"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام, باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، 4/ 1742-1743/ رقم 2220" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه:
"لا عدوى ولا صفر ولا هامة". فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب؛ فيدخل بينها فيجربها؟ قال: "فمن أعدى الأول".
2 جزء من قول عمر في قصة خروجه إلى الشام وسماعه في الطريق عن وقوع الطاعون فيها، واستشارته الصحابة في ذلك، ثم عودته؛ أخرجه مطولا البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 4/ 1740/ رقم 2219".
والقائل لعمر: "أفرارا..." هو أبو عبيدة بن الجراح وليس عمرو بن العاص؛ كما ذكر المصنف.(2/435)
ص -315-…كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه"1.
والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع, وإذا كان كذلك؛ فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد2 على ترك الالتفات إليه؛ فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون؛ فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون وقد لا يكون، ونقض3 مجاري العادات دليل على ذلك، وأيضا؛ فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل، أوله: "يا غلام! ألا أعلمك شيئا ينفعك..."، وفيه: "احفظ الله يحفظك..."؛ أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 126" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ رقم 2516" -وقال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41، 42" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار, وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره".(2/436)
وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح.
2 أي: من جهة إيجاد المسبب وعدمه. "د".
3 فكم وجد السبب ولم يوجد المسبب، وكم وجد المسبب بدون سببه العادي، ولله خرق العوائد. "د".(2/437)
ص -316-…إلى المسبب.
فإن قيل1: قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف، وإلا؛ فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع؛ إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه2 من هذا الكتاب، فإذا طابقه صح، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات، وقد فرضناها مقصودة للشارع؛ كان بذلك مخالفا له، وكل تكليف قد خالف3 القصد فيه قصد الشارع فباطل كما تبين؛ فهذا كذلك.
فالجواب: أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب, وليس كذلك؛ لما مر أن المسببات غير مكلف بها، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق، وهو أن يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب4 ليسعد من سعد ويشقى من شقي، فإذًا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الإشكال مبني على المسألة الرابعة، وبه تعلم جودة صنيعه في تقديمها على هذه المسألة. "د".
2 في النوع الرابع من قصد الشارع من كتاب "المقاصد" "ص2/ 289 وما بعدها".
3 ترويج للسؤال يجعل أن للمكلف قصدا غير قصد الشارع، مع أن الفرض أن المكلف لا قصد له في المسبب مطلقا، لا بموافقة ولا بمخالفة. "د".
4 هذا جار على مذهب أهل السنة من أن الآثار صادرة عن قدرة الخالق مباشرة، ولكنه يوجدها عند وجود أسبابها المرتبطة بها في النظام العام ما لم يرد خرق السنن المعروفة لحكمة بالغة، وقالت القدرية: وَهِم المعتزلة أن الله أودع في العبد قدرة تصدر عنها آثارها بطريق الاختيار أو التوليد والسببية، ووافقوا الفلاسفة في قولهم: إن السبب يوجب أثره إلا أن يمنع منه مانع؛ فالسبب والمسبب عندهم مقدوران للعبد؛ إلا أن أحدهما مباشرة والآخر بواسطة. "خ".
قلت: قارن لزاما بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 287، 288 و10/ 388-393 و484-488".(2/438)
ص -317-…بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه، بل لا يصح ذلك1 لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير، [ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير]2؛ لأنه غير مكلف بفعل الغير، وإنما يكلف بما هو من فعله، وهو السبب خاصة؛ فهو الذي يلزم القصد إليه، أو يطلب القصد إليه، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع.
فصل:3
وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب؛ فكما إذا قيل لك: لم تكتسب؟ قلت: لأقيم صلبي، وأقوم في حياة نفسي وأهلي، أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب؛ فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح؛ لأنه التفات إلى العادات الجارية، وقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12].
وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23].
وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا4 مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لزوم قصد المكلف، وقد تقدمت أدلته، ولا يجوز أن يعود الضمير على نفس القصد؛ لأن ما دلل به هنا عليه لا يفيده، وأيضا ينابذ الأدلة الآتية على صحة قصد المسبب، على أن قوله بعد "فهو الذي يلزم القصد إليه" يؤيد ما قررناه. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 قارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 175-179، 165، 169".
4 كأنه قال: اقصدوا فضل الله ورزقه بأخذكم في الأسباب من الانتشار في الأرض مثلا، وهو قصد إلى المسبب بالسبب، وحيث كان في مقام الامتنان؛ فهو باق على ظاهره؛ لأن الامتنان إنما يظهر فيما كان من فعله تعالى الذي لا شأن للغير فيه، وإنما يكون ذلك في المسبب لا في السبب.(2/439)
ولو قال: عبر بالقصد الذي هو المسبب مقارنا أو مرتبا على السبب في مقام الامتنان؛ فدل على أنه يصح قصد المسبب بالسبب؛ لكان ظاهرا لأن فيه قصد المسبب بنفسه لا قصد السبب، وعبر عنه بقصد المسبب مجازا؛ لأنه لو كان مجازا وكان المسبب ليس مقصودا حقيقة؛ ما دل على مدعاه ولو في مقام الامتنان، إذا فرضنا أنه يظهر مقام الامتنان في هذه الحالة. "د".(2/440)
ص -318-…فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار؛ أشعر بصحة ذلك القصد، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ1 جَنَّاتٍ} [الطلاق: 11]، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب.
وأيضا؛ فإنما محصول هذا أن يبتغي ما يهيئ الله له بهذا السبب؛ فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ويصلح به حاله, وهذا لا نكير فيه شرعا، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا؛ فالداخل تحته مقتض لما وضعت له، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع، والمحظور إنما هو أن يقصد2 خلاف ما قصده، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع، ولا يلزم منه عقد مخالف؛ فالفعل3 موافق، والقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس فيه ما يدل على القصد من المكلف، ولكن آية {انْتَشِرُوا} و{ابْتَغُوا}، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا} مثلا ظاهرة فيما أراد، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ...} إلخ، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} الآية، واضح الدلالة على صحة قصد المسبب في أمور الآخرة. "د".
2 هذا يؤيد ما سبق لنا تعليقه على قوله: "وكل تكليف خالف القصد فيه قصد الشارع باطل". "د".
3 يشير إلى ما يأتي في موافقة ومخالفة قصد المكلف وعمله في المسألة الساسة من النوع الرابع. "د".(2/441)
ص -319-…موافق؛ فالمجموع موافق.
فإن قيل: هل يستتب هذان1 الوجهان في جميع الأحكام العادية والعبادية أم لا؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات، لظهور وجوه المصالح فيها، بخلاف العبادات؛ فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى؛ فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات؛ لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد، وهي ظاهرة في العاديات، وغير ظاهرة في العباديات, وإذا كان كذلك؛ فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في العاديات، ولا سيما في المجتهد؛ فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع، فيبطل القياس, وذلك غير صحيح؛ فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام2 والمعاني هي مسببات الأحكام، أما العباديات؛ فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها؛ كان ترك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بهما قصد المسبب وعدمه بقطع النظر عما سبق من اعتبار عدم اللزوم فيهما؛ لأنه سيبني سؤاله على لزوم القصد في العاديات ولزوم عدم القصد في العبادات. "د".
قلت: وقارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 536".
2 سرد ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" "1/ 196-200" عشرات الأمثلة من تعليلات القرآن والسنة، وله تفصيل وتقعيد حسن نحو ما عند المصنف في "مفتاح دار السعادة" "2/ 22"، وسيأتي للمصنف في "2/ 526 وما بعدها" تفصيل مسهب في هذا الموضوع.
وانظر: "شفاء الغليل" "205" للغزالي، و"أصول الفقه الإسلامي" "2/ 762" لوهبة الزحيلي، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 312"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص169-207".(2/442)
ص -320-…الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات؛ إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية.
فالجواب: أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه لتقع المصلحة المشروع لها الحكم، هذا نظره خاصة1، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه؛ فتارة يقصد إذا كان هو العامل، وتارة لا يقصد، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر؛ كالمقلد سواء، فإذا سمع قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"2؛ نظر إلى علة منع القضاء؛ فرآه الغضب، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم؛ فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين، والوجع، وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك -وكان قاضيا- امتنع من القضاء بمقتضى النهي، فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط, من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء؛ حصل مقصود الشارع, وإن لم يقصده القاضي، وإن قصد به ما ظهر قصد الشرع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج؛ حصل مقصود الشارع أيضا؛ فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال وما لم يفهم؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو ينظر إلى محلات العلل ليثبت فيها مثل الحكم في الأصل، وهذا أمر نظري غير [عملي]* أخذه هو بالعمل في هذا الفرع الذي استنبطه، وعند أخذه في العمل يستوي مع المقلد في مراعاة المسبب وعدم مراعاته. "د".
2 سيأتي تخريجه "ص411", والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سقط من المطبوع.(2/443)
ص -321-…كالعبادات بالنسبة إلى الجميع، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة1 على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة؛ فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم.
المسألة السادسة:
إذا تقرر ما تقدم؛ فللدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين؛ فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب:
إحداها: أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له؛ فهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله2، والسبب غير فاعل بنفسه، والله خالق كل شيء، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
وفي الحديث: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"3 الحديث؛ فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات، ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة، ومما يؤيد ذلك قوله فيا سيأتي "3/ 144" بعد أن ذكر فوائد الصلاة في الدنيا والآخرة: ".... وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية".
2 انظر في هذا: "الواسطة بين الحق والخلق"، و"مجموع الفتاوى" "8/ 175-179"، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 83-84/ رقم 71"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النجوم، 4/ 16/ رقم 3906"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستسقاء، باب كراهية الاستمطار بالكواكب، 3/ 164-165" وغيرهم من حديث زيد بن خالد الجهني, رضي الله عنه.
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما.(2/444)
ص -322-…المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب [فاعلا بنفسه، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام]1.
والثانية:
أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة، وهذا هو المتكلم على حكمه قبل، ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال، بل من جهة2 كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب؛ فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب؛ لأنه معقوله، وإلا لم يكن سببا؛ فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى؛ فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب وعند عدمه؛ فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا، ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب.
والثالثة:
أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى؛ لأنه المسبب؛ فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته، من غير تحكيم لكونه سببا؛ فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف، كالأسباب العقلية3، فلما لم4 يكن كذلك؛ تمحض جانب التسبيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "خ"، وكتب محشيها: "هكذا بياض في الأصل وهو غير خفي على المتأمل"، وأثبتها "م" و"ط" أيضا.
2 كلمة "جهة" ليست في "م" و"خ".
3 الأسباب العقلية لا يعترضها مانع ولا يتأخر عنها أثرها في حال؛ كالزيادة في حجم أحد الشيئين علة في كونه أكبر من الآخر، ولهذا لم يستطع المعتزلة أن يعطوا السبب المولد كالتقريب من النار المولد للإحراق حكم العلة العقلية، واضطروا إلى أن قالوا: إنه يوجب الأثر ما لم يمنع منه مانع. "خ".
4 في "خ": "لما".(2/445)
ص -323-…الرباني، بدليل السبب الأول، وهنا يقال لمن حكمه1: فالسبب الأول عن ماذا تسبب؟ وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟!"2.
فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله؛ فالله هو المسبب، لا هي؛ إذ ليس له شريك في ملكه، وهذا كله مبين في علم الكلام، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه، وذلك صحيح3.
فصل:
وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب:
إحداها:
أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد [وامتحان لهم لينظر كيف يعملون، من غير التفات إلى غير ذلك، وهذا مبني على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد]4 وامتحانا لهم؛ فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة، وهي على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن اعتقد أنه إذا وُجد وُجد المسبب، وإذا فُقد فُقد المسبب. "د".
2 مضى تخريجه "ص314"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "جاء في الشريعة ما يقتضي الحذر من العدوى؛ كحديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"؛ فالقصد إذًا من حديث: "لا عدوى" إبطال الاعتقاد بأن العدوى من الأسباب المؤثرة على سبيل الوجوب، ونبه في الحديث على وجه إبطال هذا الاعتقاد بالإشارة إلى أن المرض الذي يحدث عند مخالطة بعض المرضى قد يكون مثل الإصابة الأولى ناشئا عن سبب غير سبب العدوى".
3 وبذلك كانت الأسباب جعلية لا عقلية طبعية، تفضي إلى آثارها بذوقها.
وانظر: "مدارج السالكين" "3/ 395-401"، و"بدائع الفوائد" "3/ 178-180"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص285"، و"بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 412" لفتحي الدريني.
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(2/446)
ص -324-…أحدهما: ما وضع لابتلاء العقول، وذلك العالم كله1 من حيث هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها.
والثاني: ما وضع لابتلاء النفوس، وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه؛ لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع، ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي، وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذي لا مرد له؛ فإن الله غني عن العالمين، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط، لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها.
والأدلة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ2 أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ3 لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جملة وتفصيلا، وكذا يقال فيما بعده، وإن كانت تصاريف كل شخص لا تمس جميع التفاصيل؛ إلا أن الجزئيات مرتبة بالكليات. "د".
2 تصح دليلا على الابتلاء للعقول والنفوس على مقتضى ما قرره. "د".
3 ما قبل هذه الآية يرجع إلى قوله: "لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر..." إلخ، والآية وما بعدها -عدا الآية الأخيرة- يرجع إلى قوله: "وليظهر مقتضى العلم السابق.... إلخ". "د".(2/447)
ص -325-…{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا...} إلى قوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب إنما هي للابتلاء، فإذا كانت كذلك؛ فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق1 بذلك فيها، وهذا صحيح، وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها؛ لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه، لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها؛ فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة.
والثانية:
أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة، فضلا عن الالتفات إلى المسببات، بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه2، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة؛ لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات، وركون إلى الأغيار، وهو تدقيق في نفي الشركة، وهذا أيضا في موضعه صحيح، ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3].
وسائر ما كان من هذا الباب، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التحقيق".
2 في الأصل و"ط": "سواها".(2/448)
ص -326-…رب العالمين، كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه وصدق العبودية؛ فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها؛ فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه؛ فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة.
والثالثة:
أن يدخل في السبب بحكم الإذن1 الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك، وإنما توجهه في القصد إلى السبب تلبية للأمر2 لتحققه بمقام العبودية؛ لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به؛ لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب، وقد تبين له أنه مسببه, وأنه أجرى العادة به، ولو شاء لم يجرها كما أنه قد يخرقها إذا شاء، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص، وعلى أنه يقتضي صدق التوجه به إليه؛ فدخل على ذلك كله؛ فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره, وقد علم قصده في تلك الأمور، فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب، مما علم ومما لم يعلم؛ فهو طالب للمسبب من طريق السبب، وعالم بأن الله هو المسبب, وهو المبتلى به، ومتحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/449)
1 هو وقوله بعد "وعلى أنه ابتلاء" إشارة للمعنى الأول في هذا الفصل، وقوله: "يقتضي صدق توجهه هو المعنى الثاني في الفصل"، وقوله: "وقد تبين له أنه مسببه وأنه أجرى العادة به ولو شاء... إلخ" إشارة للمعنى الثالث فيما فيه الالتفات للمسبب، وقد صرح بهذه المعاني بعد؛ فقال: "فهو طالب للمسبب... إلخ"؛ فقوله: "شاملا لجميع ما تقدم"؛ أي: من المرتبة الثالثة من القسم الأول والمرتبتين المذكورتين في هذا الفصل، ويبقى الكلام معه في عد هذه المرتبة الثالثة هنا مندرجة تحت هذا الفصل الذي موضوعه ترك الالتفات إلى المسبب؛ فإن هذه المرتبة مزيج من القسمين كما عرفت، كما يبقى تصحيح الجمع بين الالتفات إلى المسبب وعدم الالتفات إليه، معا في حال واحدة من شخص واحد. "د".
2 في الأصل العبارة: "تتوجه في القصد إلى السبب... تلبية إلى الأمر".(2/450)
ص -327-…في صدق التوجه به إليه؛ فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب، لكن ذلك كله منزه عن الأغيار، مصفى من الأكدار1.
المسألة السابعة:
الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أو لا.
فإن كان منهيا عنه؛ فلا إشكال في طلب رفع [ذلك] التسبب، سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا؛ فإنه يتأتى منه الأمران: فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح فيقع، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع، على مقتضى [العادة لا على]2مقتضى الشرع، وقد لا يقع ألبتة، وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب والالتفات إليه لعارض يطرأ، غير العارض المتقدم الذكر3 ولا اعتبار به.
وإن كان غير منهي عنه؛ فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها.
أما الأولى:
فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أن التعلق بالمسببات قد ينسي المسبب الحقيقي، أو ينسي شكره على ما أعطى من نتائج وثمرات، وقد يكون مرهقا لصاحبه؛ لشدة همه وفرط حرصه على المسببات، وخوفه من عدم حصولها، أو حزنه لعدم مجيئها على ما يؤمل، قاله الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص160".
2ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3تقدم له ذكر الغفلة التي تعتري العالم حتى تجعله غير عالم بما يفعل، ومثله بمن يطرأ عليه غفلة ترفع منه منفعة العين فيصاب, ولكن هذا العارض لما كان يمنع نفس التكليف، وأصل كلامه أنه منهي عنه ومكلف بعدم التسبب، قال: "غير العارض المتقدم الذكر"، وقوله: "ولا اعتبار به"؛ أي: بهذا العارض هنا لأنه لا يزال معه منهيا عن التسبب ومكلفا. "د".(2/451)
ص -328-…فاعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب، فلا يبطله؛ إلا إن قيل: إن مثل هذه المقارنة مفسدة، وإن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه، كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالمدية المغصوبة، وذلك مبين في الأصول.
وأما الثانية:
فظاهر أن التسبب صحيح؛ لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات، وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها، وغلب على الظن ذلك؛ كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو، وكذلك إذا بلغ [اعتقاده] مبلغ القطع العادي؛ فواجب عليه أن يتسبب، ولأجل هذا قالوا في المضطر: إنه1 إذا خاف الهلكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها، ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت، ولذلك قال مسروق: "ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات؛ دخل النار"2.
وأما الثالثة:
فالتسبب أيضا ظاهر؛ إلا أنه يبقى فيها بحث: هل يكون صاحبها بمنزلة3 صاحب المرتبة الثانية أم لا؟ هذا مما ينظر فيه، وإطلاق كلام الفقهاء يقتضي عدم التفرقة، وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضي ذلك، هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم كطريقة الفقهاء، على تفصيل له في ذلك4؛ فالذي يظهر في المسألة نظر آخر، وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية وتكون حالية5، والفرق بين العلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 "استدراك1".
3 لأن الفرق بينهما لا يترتب عليه فرق في غلبة الظن بوقوع المسبب عند السبب؛ فيجيء فيه التفصيل المذكور من وجوب التسبب وعصيانه بتركه. "د".
4 انظر: "إحياء علوم الدين" "4/ 261 وما بعدها".(2/452)
5 يعلم الإنسان حقيقة التوكل أو الصبر أو الخشية، ولا شك أن علمه بهذه الحقائق وما شاكلها غير اتصافه بها، فإذا ارتقى قلبه إليها، وانصبغت نفسه بأثرها حتى غلب عليها حاله؛ انتقل من حكم العمل بالعلم وحده إلى حكم العمل بالحال المصاحب للعلم؛ فالحال ثمرة العلم، ولا يكمل إلا إذا تصرف في صاحبه على مقتضى قانون العلم المثمر إليه. "خ".(2/453)
ص -329-…والحال معروف عند أهله، فإذا كانت علمية؛ فهي المرتبة الثانية1؛ إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها، وإنما الفاعل2 فيها مسببها سبحانه، لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة، وقد يخرقها إذا شاء لمن شاء، فمن حيث كانت عادة؛ اقتضت الدخول في الأسباب، ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات؛ اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها؛ فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين، فإن غلب الطرف الأول وهو العادي؛ فهو ما تقدم3، وإن غلب الثاني؛ فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة؛ فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة؛ فسواء عليه أتسبب أم لا؛ إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى، فلم يغلب على ظنه -والحال هذه- أن تركه للسبب إلقاء باليد إلى التهلكة؛ بل عقده في كلتا الحالتين واحد؛ فلا يدخل تحت قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}4 [البقرة: 195]؛ فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك؛ لأن علمه5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي بمنزلتها، وتشترك معها في المآل؛ فحكمها حكمها. "د".
2 في الأصل: "الدليل"، وهناك إشارة لخطئها مع عدم ذكر الصحيح، والله أعلم.
3 أي: ويكون صاحبها لم يرتق فيها عن الحالة العلمية إلى التحقق بها وصيرورتها صفة له كالطبعية، يجري في أفعاله على مقتضاها دون كلفة ولا حمل لنفسه عليها. "د".
4 في "صحيح مسلم" وغيره أن أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- رد على من فهموا أن حمل الغازي الواحد على جماعة العدو من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وبين لهم أن الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي نزلت فيه الآية هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها، والتحقيق أنه يجوز للواحد الحمل على الكتيبة متى غلب على ظنه أن يكون لإقدامه أثر نافع؛ كالفتك ببعض رجال العدو، أو إرهابهم, أو تشجيع غيره من المسلمين. "خ".(2/454)
5 أي: الذي صار حالة له كالأوصاف الطبيعية. "د".(2/455)
ص -330-…بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعيين، بل السبب وعدمه في ذلك سواء، فكما أن أخذه للسبب لا يعد إلقاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب، كذلك في الترك، ولو فرض أن آخذ السبب أخذه بإسقاط الاعتماد على المسبب؛ لكان إلقاء باليد إلى التهلكة لأنه اعتمد على نفس السبب، وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه, وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا، فلذلك إذا ترك السبب لا لشيء1؛ فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان وحقائق الإيقان2.
وكل أحد فقيه نفسه، وقد مر الدليل على ذلك3، وقد قال في الحديث:
"جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه، [وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه]"4، وحكى عياض5 عن الحسن بن نصر السوسي -من فقهاء المالكية- أن ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر: يا أبت! اشتر طعاما؛ فإني أرى السعر قد غلا. فأمر ببيع ما كان في داره من الطعام، ثم قال لابنه: لست من المتوكلين على الله، وأنت قليل اليقين، كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك! من توكل على الله؛ كفاه الله.
ونظير مسألتنا في الفقه؛ الغازي إذا حمل وحده على جيش الكفار؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا لسبب آخر. "د".
2 تكلم ابن تيمية على نحو ما عند المصنف، ولكن على وجه آخر. انظر: "مجموع الفتاوى" "8/ 520-523".
3 في المسألة الخامسة.
4 مضى تخريجه "ص315"، وهو حديث صحيح، وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
5 في "ترتيب المدارك" "6/ 36-ط المغربية".(2/456)
ص -331-…فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة، أو الهلكة، أو يقطع بإحداهما؛ فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل، والذي اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وكذلك داخل المفازة بزاد أو بغير زاد؛ إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام، وإن غلب على ظنه الهلكة لم يجز.
وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت؛ أمر بالتأخير ولا يتيمم [فإن غلب على ظنه أن لا ماء يتيمم]، [وكذلك راكب البحر1 وعلى هذا يباح له التيمم مع وجود الماء في رحله أو يمنع، وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت]2، وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم، أفطر... إلى غير ذلك من المسائل المبنية3 على غلبات الظنون، وإن كانت موجبات الظنون تختلف؛ فذلك غير قادح في هذا الأصل، فمسألتنا داخلة تحت هذه القاعدة.
فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق؛ صح أن يقال: إنه لا يجب عليه التسبب فيه, ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال، ويقتحمون الأخطار، ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة؛ فلا يكون كذلك، بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر وأسباب الهلكة، يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا غلب على ظنه السلامة في ركوب السفينة ركبها، وإلا؛ منع من ركوبها. "د". وانظر في المسألة: "5/ 354" مع التعليق عليه.
2 ينظر في هذا. "د". قلت: انظر في المسألة: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب "1/ 38"، و"الخلافيات" للبيهقي "2/ 519-525" مع تعليقي عليها, وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 في الأصل: "المبنيات".(2/457)
ص -332-…وقد حكى عياض1 عن أبي العباس الإبياني2: "أنه دخل عليه عطية الجزري العابد؛ فقال له: أتيتك زائرا ومودعا إلى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك. وبكى، وليس مع عطية ركوة ولا مزود، فخرج مع أصحابه, ثم أتاه بأثر ذلك رجل؛ فقال له: أصلحك الله! عندي خمسون مثقالا ولي بغل؛ فهل ترى لي الخروج إلى مكة؟ فقال له: لا تعجل حتى توفر هذه الدنانير. قال الراوي: فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما. فقال أبو العباس: عطية جاءني مودعا غير مستشير، وقد وثق بالله، وجاءني هذا يستشيرني ويذكر ما عنده؛ فعلمت ضعف نيته، فأمرته بما رأيتم".
فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب، والنظر في مراعاتها، وسلم لقوي اليقين في طرح الأسباب3؛ بناء -والله أعلم- على القاعدة المتقدمة في الاعتقادات وغلبات الظنون في السلامة والهلكة، وهي مظان النظر الفقهي، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة؛ كما تقدم.
فإن قيل؛ فصاحب هذه المرتبة؛ أي الأمرين أفضل له؛ الدخول في السبب, أم تركه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "2/ 351 - ط مكتبة دار الحياة - بيروت".
2 قال عياض في "ترتيب المدارك" "2/ 347": "بكسر الهمزة وتشديد الباء ويقال: صوابه تخفيفهما". وانظر: "التبصير" "1/ 36"، و"الأنساب" "1/ 128" مع الحاشية.
3 تهافت على هذا المسلك طوائف زين لهم الكسل أن يفسروا به معنى فضيلة التوكل؛ فنفضوا أيديهم من العمل واستعاضوا عنه البطالة والتطلع بما في أيدي الناس؛ فكانوا حملا ثقيلا على أعناق العاملين، ومن البلية أن هذا التحريف الباطل لكلمة التوكل قد ضرب وباؤه في القلوب، وكان من أكبر العلل التي قعدت بالشعوب الإسلامية عن القيام بوسائل المنعة حتى هوت إلى درك الشقاء والتخبط في أسر الذلة والاضطهاد. "خ".(2/458)
ص -333-…فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الأسباب في حقه لا بد منها، كما أنها كذلك في حق غيره؛ فإن خوارق العادات وإن قامت له مقام الأسباب في حقه؛ فهي في أنفسها أسباب، لكنها أسباب غريبة، والتسبب غير منحصر في الأسباب المشهورة؛ فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لا يحتسب؛ إما من نبات الأرض، وإما من جهة من يلقى من الناس في البادية وفي الصحراء، وإما من حيوان الصحراء، أو من غير ذلك، ولو أن ينزل عليه من السماء، أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية، يعرفها أربابها المخصوصون بها؛ فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب، ومنها الصلاة؛ لقوله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
وروي أنه, عليه الصلاة والسلام "كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا"1، وإذا كان كذلك؛ فالسؤال غير وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ 487"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 176"، والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 9705"، وسعيد بن منصور في "سننه" وابن المنذر في "تفسيره"؛ كما قال السيوطي في "حصول الرفق" "رقم 29" من طريق معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام؛ قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق؛ أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}".
ورجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "7/ 67"، إلا أنه منقطع، محمد بن حمزة لم يسمع من جده عبد الله بن سلام.
وله شاهد من مرسل ثابت البناني؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصابه خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه! يا أهلاه! صلوا".
أخرجه أحمد في "الزهد" "10"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 79"- وهو مرسل؛ فالحديث ضعيف.(2/459)
وأخرج عبد الرزاق نحوه بإسناد ضعيف، وانظر: "الدر المنثور" "5/ 613"، و"الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "2/ 824-825".(2/460)
ص -334-…والثاني, على تسليم وروده: أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة واستيقنوها حالا وعلما، ولكنه -عليه السلام- ندبهم إلى الدخول في الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا، كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة، ولم يتركهم مع هذه الحالة؛ فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه، ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقام1 فيه؛ ألا ترى إلى قوله, عليه الصلاة والسلام: "قيدها وتوكل"2؟!
وأيضا؛ فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات، ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أهل علم، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره.
وأما المرتبة الرابعة:
وهي مرتبة الابتلاء؛ فالتسبب فيها أيضا ظاهر، فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق، لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية، فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذي سببها من حيث كانت مصروفة إليه؛ كذلك الأسباب العادية، ومن هنا لما قال عليه السلام: "ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار". قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: "لا، اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له". ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخرها3؛ فكذلك العاديات؛ لأنها عبادات، فهي عنده جارية على الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يقدم"، وفي النسخ المطبوعة: "يقوم"، والمثبت من "ط".
2 مضى تخريجه "ص304" وهو حديث حسن.(2/461)
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، 11/ 494/ رقم 6605"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2040/ رقم 2647" بألفاظ، المذكور لفظ مسلم برقم "2647" بعد "7"، ولكن ليس فيه لفظة "منفوسة"، وهي فيه برقم "2647" بعد "1"، لكن بلفظ مغاير عن هذا السياق، وهو من حديث علي, رضي الله عنه.(2/462)
ص -335-…الموضوعة، ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في العبادات، يعتبر فيها مجرد الأسباب ويدع المسببات لمسببها.
وأما المرتبة الخامسة:
فالتسبب فيها صحيح أيضا؛ لأن صاحبها وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب، ولا إلى المسبب من باب أحرى؛ فلا بد منه من جهة ما هو راق به وملاحظ للمسبب من جهته، بدليل الأسباب العبادية، ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها؛ فلا فارق بين العاديات والعباديات؛ إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على الجملة، فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري، واقتصر على ما هو ضروري، وضيق على نفسه المجال فيها، فرارا من تكاثرها على قلبه؛ حتى يصح له اتحاد الوجهة، وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب؛ فلا شك في أخذها في هذه الرتبة؛ إذ من جهتها يصح المطلوب.
وأما السادسة:
فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها؛ كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها؛ غير أن ذلك فيها معتبر من جهة صفة العبودية وامتثال الأمر، لا من جهة أمر آخر؛ فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها؛ كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله، فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه؛ كان قصد في امتثال الأمر شاملا له، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا؛ لأنه لما جعل مسبب عنه في مجرى العادات؛ عد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا(2/463)
ص -336-…قاعدة مجاري العادات؛ إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا1، وسائر المسببات إلى أسبابها2؛ فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا، وإذ كان هذا معهودا معلوما؛ جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان.
وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو الممنوعة؛ كقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ...} إلى قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا3} [المائدة: 32].
وفي الحديث: "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل"4.
وفيه: "من سن سنة حسنة؛ كان له أجرها وأجر من عمل بها"5.
وكذلك: "من سن سنة سيئة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السقمونيا: نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن؛ كما في "المعجم الوسيط" "س ق م".
2 في الأصل: "الأسباب إلى مسبباتها".
3 هذا مبني على أن المراد بالقتل والإحياء المسبب، وهو في الآيتين زهوق الروح والحياة؛ فيكون فيه نسبة المسبب وهو الحياة والموت إلى المتسبب، وقد سبق له في المسألة الثانية جعل القتل سببا لا مسببا، ويمكن إرادته هنا؛ فلا يكون فيه دليل. "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.(2/464)
ص -337-…وفيه1: "إن الولد لوالديه ستر من النار"2، و"إن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع؛ فهو له صدقة، وما أكلت الطير؛ فهو له صدقة، ولا يرزؤه3 أحد إلا كان له صدقة"4، وكذلك الزرع، والعالم يبث العلم؛ فيكون له أجر كل من انتفع به5.
ومن ذلك ما لا يحصى، مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ليست من فعل المتسبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من هنا إلى آخر المسألة واضح فيه نسبة المسبب إلى المتسبب، وهو يدل على مدعاه. "د".
2 لم أظفر به بهذا اللفظ، ولكن أخرج أحمد في "المسند" "4/ 386" ضمن حديث عمرو بن عبسة السلمي, مرفوعا: "وأيما رجل مسلم قدم لله -عز وجل- من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو امرأة؛ فهم له سترة من النار".
وقد خرجته في تحقيقي لرسالة السيوطي "التعلل والإطفا" "رقم 21"، وهو صحيح.
3 أي: لا ينقصه ويأخذ منه.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1552" عن جابر بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا؛ إلا كان من أكل منه..." تتمته باللفظ الذي أورده المصنف.
5 قال الشيخ ابن عرفة في حديث: "أو علم ينتفع به" إنما تدخل التآليف في الأعمال التي لا ينقطع ثوابها إذا اشتملت على فوائد زائدة "يعني: على ما في الكتب السابقة"، وإلا؛ فهي إضاعة للورق، وهذا تلميح منه إلى انحطاط درجة من ليس له من المعلومات سوى ما يتلقاه بتقليد، وشرف من رزق فكرا يتجول في حدائق العلم حتى يعود بثمر جديد. "خ".(2/465)
ص -338-…فإذا كان كذلك؛ فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه، لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل، وإن كان غير محيط بجميع التفاصيل, وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة لا على التفصيل، وذلك أن ما أمر الله به؛ فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله، وما نهى عنه؛ فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله, فإذا فعل؛ فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد، ولا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما, فإن الأمر قد تضمن أن في إيقاع [المأمور به مصلحة علمها الله، ولأجلها أمر به، والنهي قد تضمن أن في إيقاع]1 المنهي عنه مفسدة علمها الله، ولأجلها نهى عنه؛ فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد، وإن جهل تفاصيل ذلك.
فإن قيل: أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل؟
فالجواب: أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله وتعاطاه، لا على ما لم يفعل لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه2 من المصالح أو المفاسد وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته؛ فجعله ركنا، أو مفسدته؛ فجعله كبيرة وبين ما ليس كذلك؛ فسماه في المصالح إحسانا وفي المفاسد صغيرة، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله ويعرف ما هو من الذنوب كبائر، وما هو منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات؛ فهو من أصول الدين، وما جعله دون ذلك؛ فمن فروعه وتكميلاته، وما عظم أمره في المنهيات؛ فهو من الكبائر, وما كان دون ذلك؛ فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "والنهي كذلك قد...".
2 أي: يقيم الفعل بما يترتب عليه.(2/466)
3 سيأتي للمصنف بيان فيه ضابط أدق للفرق بين الضروريات والحاجيات؛ وذلك في المسألة السابعة عشرة في النوع الرابع من القسم الأول من المقاصد، وفي "الاعتصام" "2/ 38-39" للمصنف نحو ما ذكر هنا مع تفصيل زائد.(2/467)
ص -339-…المسألة التاسعة:
ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف، وأن السبب هو المكلف به، إذا اعتبر ينبني عليه أمور:
أحدها:
أن متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه1 وانتفاء موانعه، ثم قصد أن لا يقع مسببه؛ فقد قصد محالا، وتكلف رفع ما ليس له رفعه، ومنع ما لم يجعل له منعه.
فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع، أو بيعا أو شيئا من العقود، ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه؛ فقد وقع قصده عبثا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه، وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع, ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك؛ فهو قصد باطل، ومثله في العبادات؛ إذا صلى، أو صام، أو حج كما أمر، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له، أو لا ينعقد قربة، وما أشبه ذلك؛ فهو لغو.
وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة، وفيه جاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية: [المائدة: 87]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضع الأصل من أول الأمر على أنه تعاطى السبب بكمال شروطه ثم قصد ألا يقع... إلخ، وفي تمثيلاته أيضا في العادات والعبادات لاحظ ذلك ليسلم له الأصل من الإشكالات الآتية؛ فأنت تراه جعل القصد المخالف لقصد الشارع لاحقا لتمام العمل لا مقارنا، إلا أنه يبقى الكلام في قوله في الطلاق والعتق؛ "قاصدا به مقتضاه في الشرع", إن كان مراده أنه لم يغلط ولم يسبق لسانه فواضح، وإن كان مراده ما هو ظاهره من أنه لا بد من قصد المعنى؛ فالفقه عند المالكية غير ذلك، بل لو كان هازلا لوقع الطلاق والعتق، ولم يكن له رفعه. "د".
2 فقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ..} إلخ بعد ذكر التحريم يفيد أن التحريم السابق المنهي عنه لغو؛ كأنه قال: وكلوا من هذا الطيب الذي حرمتموه. "د".(2/468)
ص -340-…ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا؛ من المأكول، والمشروب, والملبوس، والنكاح، وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد للتعليق في خاص1 -بخلاف العام- وما أشبه ذلك؛ فجميع ذلك لغو؛ لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه، ومثله قوله, عليه الصلاة والسلام: "إنما الولاء2 لمن أعتق"3، وقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط"4 الحديث.
وأيضا؛ فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم، فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع، وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل5؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 احتاج إليه على مذهب مالك لا على مذهب الشافعي؛ فالتعليق عنده كله لغو. "د".
2 فالشارع جعل الولاء لمن أعتق مسببا عن عتقه؛ فمن وقع العتق منه ثبت له الولاء، فمن أراد رفعه قصد محالا وتكلف رفع ما ليس له رفعه، وهو دليل على أصل المسألة, وإن كان في موضوع خاص بالولاء. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، 12/ 39/ رقم 6751، 6754"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1141/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
وهو وما قبله دليل على أن ما جعله الله مسببا عن شيء، فقصد العبد رفع هذا المسبب لغو؛ إلا أن الأول خاص، وهذا عام في الولاء وغيره. "د".(2/469)
5 من الفروع الموضحة لهذه القاعدة أن الزوج لا يملك إسقاط الرجعة لأنها حق أثبته الله شرعا، فمن قال لزوجته: أنت طالق ولا رجعة لي عليك؛ نفذ طلاقه وبقي حق الرجعة في يده لأنها من الحقوق التي رتبها الشارع على الطلاق غير البائن، وما قرره الشارع لا يملك المكلف رفعه بحال. "خ".(2/470)
ص -341-…فهذا القصد باطل، والمسألة واضحة.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب1، فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها؛ كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها، بل مفقودة الشرط وهو الاختيار، فلم تصح من جهة فقد الشرط؛ فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الاختيار.
والثاني: أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وتعاطي الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة، من حيث كان قصد الشارع التحليل2 بوساطة هذه الأسباب؛ فيكون إذًا تعاطي هذه الأسباب باطلا وممنوعا؛ كالمصلي قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله, والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة، وما أشبه ذلك؛ فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين، وهو باطل.
فالجواب عن الأول: أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالاختيار لأن تكون أسبابا, لكن مع عدم اختياره للمسبب وليس الكلام في موقعها بغير اختيار، والجمع بينهما ممكن عقلا؛ لأن أحدهما سابق على الآخر؛ فلا يتنافيان؛ كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد، أو اختار وضع البذر في الأرض وكره نباته، أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه، وما أشبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن الأفعال والتروك إذا عريت عن القصد كانت لغوا, كما تقرر في المسألة السادسة من كتاب الأحكام. "د".
2 في جميع النسخ "التحصيل" والمثبت من "ط".(2/471)
ص -342-…ذلك، فكما يمكن اجتماعها1 في العاديات؛ فكذلك في الشرعيات.
والجواب عن الثاني: أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج, وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب، وهذا ليس له؛ فقصده فيه عبث بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع؛ فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسب لم يجعله الشارع مسببا له، كنكاح المحلل عند القائل بمنعه؛ فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره، ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب؛ فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا2؛ فلم يكن محللا للناكح ولا للمحلل له لأنه باطل.
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب3، والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج؛ فالأول لا ينتج له شيئا، والآخر ينتج له؛ لأنه ليس الإنتاج باختياره ولا عدمه، فهذا لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب، ولكن زعم أنه لا يقع مسببه، وهذا كذب أو طمع في غير مطمع، والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع؛ فاعرف الفرق بينهما؛ فهو دقيق.
ويوضحه4 أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه، والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اختيار السبب وقصده ليكون سببا، وقصده عدم المسبب، وقوله: "العاديات"؛ أي: الأمثلة الثلاثة. "د".
2 في الأصل: "مرعيا".
3 أي: مع أنه ليس بسبب, أي: قصد به ما لم يجعل سببا له، والثاني بعد ما تعاطى السبب كاملا قصد ألا يقع مسببه وطلب رفع الواقع كما يقولون. "د".
4 أي: يوضح المقام في ذاته لا الحاصل المتقدم. "د".(2/472)
ص -343-…فإن قيل: لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات؟ فإنه في الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا؛ فالطهارة مثلا سبب في رفع الحدث، فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث؛ فهو معنى رفض النية فيه، وقد قالوا: إن رفض النية ينهض سببا في إبطال العبادة؛ فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب1 لا إبطال المسببات.
فالجواب: أن الأمر ليس كذلك، وإنما يصح الرفض في أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر، ثم أتمها على غير ذلك، بل بنية أخرى ليست بعبادته التي شرع فيها؛ كالمتطهر ينوي رفع الحدث، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو التنظف من الأوساخ البدنية، وأما بعد ما تمت العبادة وكملت على شروطها؛ فقصده أن لا تكون عبادة ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أو استباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها؛ بل هي على حكمها لو لم يكن ذلك القصد؛ فالفرق بينهما ظاهر.
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض، وقال إنه يؤثر، ولم يفصل2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيعود الإشكال الأول. "د".
2 بل جعل رفض الوضوء ولو بعد تمامه وقبل أداء الصلاة به مبطلا له. "د".
قلت: من نسب القول إلى مالك بأن رفض النية له أثر في بطلان الطهارة بعد تمامها لم يأخذه من نص كلامه، وإنما قاسوه على قوله: "من تصنع لنوم؛ فعليه الوضوء، وإن لم ينم". قالو: هذه عبادة يبطلها الحدث؛ فصح رفضها.(2/473)
والقول بهذا قول عند الشافعية، والصحيح المشهور في مذهبهم أنها لا تبطل، ومن الغريب أن يحكي القرافي في "الذخيرة" "1/ 244-ط المصرية، و2/ 520-ط دار الغرب" أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال، ويقول: "هذا هو المشهور عندهم"؛ إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال، ولعل القول الفصل في هذه المسألة ما قاله ابن رشد: "من ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض؛ فعليه الدليل". انظر: "مواهب الجليل" "1/ 241"، و"المجموع" "1/ 388"، و"نهاية الأحكام في بيان ما للنية من الأحكام" "45 وما بعدها"، و"مقاصد المكلفين" "239-240"، وانظر رفض النية في أثناء العبادة: "المحلى" "6/ 174" و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"المجموع" "6/ 331-332" وما سيأتي "3/ 16".(2/474)
ص -344-…القول في ذلك؛ فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل، من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في النظر: فمن نظر1 إلى فعلها على ما ينبغي؛ قال: إن استباحة الصلاة بها لازم ومسبب عن ذلك الفعل؛ فلا يصح رفعه إلا بناقض طارئ، ومن نظر إلى حكمها -أعني: حكم استباحة الصلاة، مستصحبا إلى أن يصلي, وذلك أمر مستقبل- فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة، وهي بالنية المنافية منسوخة؛ فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها؛ لأن ذلك كالرفض المقارن لفعل، ولو قارن الفعل لأثر؛ فكذلك هنا، فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة وتم حكمها؛ لم يصح أن يقال: إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة؛ فكذلك من صلى ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها، وقد كان أتى بها على ما أمر به، فإن قال به [أحد] في مثل هذا2؛ فالقاعدة ظاهرة في خلاف ما قال، والله أعلم، وبه التوفيق.
هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء موانعها، وأما إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مآل الفرق بين النظرين أن من اعتبر الوضوء عبادة تامة مستقلة بنفسها بقطع النظر عن الصلاة وإن كانت شرطا فيها؛ قال: لا يؤثر الرفض بعدما تمت، ومن نظر إلى أن الوضوء شرط في صحة الصلاة وكأنه جزء منها؛ لم يجعل تمامه إلا بأداء الصلاة، فرفضه قبل الصلاة رفض له قبل تمامه؛ فيؤثر فيه. "د".
2 أي: فإن قال: إن الوضوء يبطل حتى إذا كان رفضه بعد تمام الصلاة به؛ فيكون مخالفا للقاعدة. "د".(2/475)
ص -345-…لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف موانعها؛ فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره.
وأيضا؛ فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها، فإذا لم تتوفر؛ لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا، سواء علينا أقلنا: إن الشرط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا؛ فالثمرة واحدة.
وأيضا، لو اقتضت الأسباب مسبباتها وهي غير كاملة بمشيئة المكلف، أو ارتفعت اقتضاءاتها وهي تامة؛ لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة، ولكان وضعه لها عبثا؛ لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا، ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا، فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا؛ لم يكن لها وضع معلوم في الشرع، وقد فرضناها موضوعة في الشرع على وضع معلوم، هذا خلف محال؛ فما يؤدي إليه مثله, وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية1.
فإن قيل: كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد، أو بأنه يدل على الصحة، أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه؟ فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه -وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في يد المكلف أن يتصرف فيما وضع من الأسباب التي تترتب عليها مصالح تعود إلى غيره بإجماع، فإن كان الوضع الشرعي قائما على مراعاة حظ ذلك المكلف خاصة؛ فهذا هو الذي يطرقه الاختلاف وتتفاوت الأنظار في تحقيق أمره، ومن هذا نشأ الخلاف في بعض مسائل يلتزم فيها المكلف ما لا يلزمه شرعا كمن التزم عدم القيام بعيب يجده في المبيع، والذي يرى أن التزامه لغو يبني الحكم على أن الشارع جعل القيام بالعيب حقا للمشتري؛ فالتزامه لإسقاطه لا يؤثر في وضعه الشرعي وله التمسك به حيث أراد. "خ".(2/476)
ص -346-…انتفت موانعه- يفيد حصول المسبب، وفي مذهب مالك1 ما يدل على ذلك؛ فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع، وأيضا؛ فتفيد الملك بحوالة الأسواق وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين, وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل، والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله؛ فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب، إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا.
فالجواب: أن القاعدة عامة، إفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو2 لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول3، وبيان ذلك لا يسع ههنا، وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله.
فصل:
ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم؛ أن الفاعل للسبب عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه؛ كان أقرب إلى الإخلاص، والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية والأحوال المرضية, ويتبين ذلك بذكر البعض، على أنه ظاهر!
أما الإخلاص؛ فلأن المكلف -إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي- خارج عن حظوظه، قائم بحقوق ربه، واقف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وكما قاله أبو حنيفة وغيره في عدم الحد، وفي ثبوت النسب في نكاح المحارم. فقالوا: إن هذا ليس حكم العقد، وإنما هو شيء آخر، وهو حكم الشبهة بصورة العقد، ولم يقل به الأئمة الثلاثة، بل أوجبوا الحد وعدم ثبوت النسب. "د".
2 في الأصل: "هي".
3 من هذه الأمور مراعاة الخلاف في البيوع التي اختلف أهل العلم في إجازتها. "خ".(2/477)
ص -347-…موقف العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه؛ فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب, بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص.
وأما التفويض؛ فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به, ولا هو من نمط مقدوراته؛ كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك، وهو الله سبحانه؛ فصار متوكلا ومفوضا، هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا1، فإن كان ممن2 يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب؛ صار مترقبا له ناظرا إلى ما يئول إليه تسببه، وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السبب استعجالا لما ينتجه؛ فيصير توجهه إلى ما ليس له، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه، وهنا تقع حكاية من سمع أن "من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"3؛ فأخذ -بزعمه- في الإخلاص لينال الحكمة، فتم الأمد ولم تأته الحكمة، فسأل عن ذلك؛ فقيل له: إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله.
وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب، ربما غطت ملاحظاتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جامعا بين الأمرين, بخلافه إذا نظر إلى المسبب دائما؛ فإنه يغلب عليه جانب الرجاء، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تضعضع همته وفتور نفسه عن الأعمال التكليفية. "د".(2/478)
2 هل هذا غير ما شرحه في الفصل التالي؟ ولا يخفى أن قوله: "فإن كان" مقابل لقوله: "إذا علم أن المسبب... إلخ"؛ فالكلام هنا شامل للعادي والعبادي، كما هو شامل لهما في الفصل التالي؛ فكان يمكن الاستغناء بما يأتي عن هذا، على أنه لا خصوصية لبيان ابتناء مقام التفويض على ما سبق في ذكر الإعراض عن تكميل السبب، بل هذا شأن آخر يترتب على النظر للمسبب، ونسبته لموضوع التفويض كنسبته لمقام الصبر والشكر والإخلاص، وهي الأمور التي بناها على قطع النظر عن المسبب. "د".
3 سيورده المصنف "3/ 148"، ويصرح بأنه حديث، وهو ضعيف، ضعفه جماعة من الحفاظ كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلا، والصحيح أنه من قول مكحول.(2/479)
ص -348-…فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب، وبذلك يصير العابد مستكثرا لعبادته، والعالم مغترا بعلمه، إلى غير ذلك.
وأما الصبر والشكر؛ فلأنه إذا كان ملتفتا1 إلى أمر الآمر وحده، متيقنا2 أن بيده ملاك المسببات وأسبابها، وأنه عبد مأمور؛ وقف مع أمر الآمر، ولم يكن له عن3 ذلك محيد ولا زوال، وألزم نفسه الصبر على ذلك؛ لأنه تحت حد المراقبة، وممن عبد الله كأنه يراه، فإذا وقع المسبب كان من أشكر الشاكرين؛ إذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب وِرْدا ولا صَدَرا4، ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ولا ضرا، وإن كان علامة وسببا عاديا؛ فهو سبب بالتسبب5 ومعتبر في عادي الترتيب، ولو كان ملتفتا إلى المسبب؛ فالسبب قد ينتج وقد يعقم، فإذا أنتج فرح، وإذا لم ينتج؛ لم يرض بقسم الله ولا بقضائه، وعد السبب كلا شيء، وربما مله فتركه، وربما سئم منه فثقل عليه، وهذا يشبه من يعبد الله على حرف، وهو خلاف عادة من دخل تحت رق العبودية، ومن تأمل سائر المقامات السنية وجدها في ترك الالتفات إلى المسببات، وربما كان هذا أعظم نفع الكرامات والخوارق.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره لله إنما همه السبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "ملفتا".
2 في الأصل: "يقينا".
3 هكذا في الأصل, وفي النسخ المطبوعة: "من".
4 الورد والصدر من أورد الماشية الماء وأصدرها عنه، والمعنى هنا: لم ير لنفسه شيئا أولا ولا آخرا. انظر: "لسان العرب" "و ر د"، و"ص د ر".
5 في الأصل: "التسبب".(2/480)
ص -349-…الذي دخل فيه؛ فهو على بال منه في الحفظ له والمحافظة عليه والنصيحة فيه؛ لأن غيره ليس إليه، ولو كان قصده المسبب من السبب؛ لكان مظنة لأخذ السبب على غير أصالته، وعلى غير قصد التعبد فيه؛ فربما أدى إلى الإخلال به وهو لا يشعر، وربما شعر به ولم يفكر فيما عليه فيه، ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة، وهو أصل الغش في الأعمال العادية، نعم والعبادية، بل هو أصل في الخصال المهلكة.
أما في العاديات؛ فظاهر، فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح الذي يأمله في تجارته، أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته، أو ما أشبه ذلك.
وأما في العبادات؛ فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع له القبول في الأرض، بعد ما يحبه أهل السماء؛ فالتقرب بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى، ثم من الملائكة، ثم يوضع القبول في الأرض؛ فربما التفت العابد لهذا المسبب بالسبب الذي هو النوافل، ثم يستعجل ويداخله طلب ما ليس له؛ فيظهر ذلك السبب، وهو الرياء، وهكذا في سائر المهلكات، وكفى بذلك فسادا.
فصل:
-ومنها: أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس، ساكن البال، مجتمع الشمل، فارغ القلب من تعب الدنيا، متوحد الوجهة1؛ فهو بذلك طيب المحيا، مجازى في الآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جاعل وجهه إلى الله في كل ما يفعل وما يقول من عبادة وعادة. "ماء".
2 محل شاهده فيما ذكره منها كما سيأتي في بيان معنى الحياة الطيبة، أما بقية الآية؛ فراجع إلى قوله: "مجازى في الآخرة", ولا يتعلق به غرضه هنا. "د".(2/481)
ص -350-…وروي عن جعفر الصادق؛ أنه قال في الحياة الطيبة: "هي المعرفة بالله، وصدق المقام مع الله، وصدق الوقوف على أمر الله"1.
وقال ابن عطاء: "العيش مع الله، والإعراض عما سوى الله".
وأيضا؛ ففيه كفاية جميع الهموم، بجعل همه هما واحدا، بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب؛ فإنه ناظر إلى كل مسبب في كل سبب يتناوله، وذلك مكثر ومشتت.
وأيضا؛ ففي النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال، وإذا أنتج؛ فليس على وجه واحد، فصاحبه متبدد الحال، مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان؛ فتراه يعود تارة باللوم على السبب، وتارة بعدم الرضى بالمسبب, وتارة على غير هذه الوجوه، وإلى هذا النحو يشير معنى قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا الدهر2؛ فإن الله هو الدهر"3 وأمثاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 174".
2 أي: لا تسبوا الدهر؛ لعدم مؤاتاتكم بمطالبكم ومسببات أعمالكم على ما تشتهونه، فإن الله هو الفاعل للمسببات الواقعة من الدهر. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، 4/ 1763/ رقم 2246 بعد 5" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 304" شارحا الحديث: "المعنى: لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب, ولا تنسبوها إليه؛ فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإنكم إذا سببتم الدهر؛ وقع السب على الفاعل لا على الدهر؛ لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر؛ فتقول: أصابه الدهر في ماله، ونابته قوارع الدهر ومصائبه؛ فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر؛ فيقولون: لعن الله الدهر، ومحا الله الدهر، وأشباه ذلك، وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه؛ فكأنهم إنما سبوا الفاعل، والفاعل هو الله وحده؛ فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى".(2/482)
ص -351-…وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره؛ فمشتغل بأمر واحد، وهو التعبد بالسبب أي سبب كان، ولا شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة، بل هم واحد ثابت، خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه، وقد جاء أن "من جعل همه هما واحدا؛ كفاه الله سائر الهموم، ومن جعل همه أخراه؛ كفاه الله أمر دنياه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1375/ رقم 4105"، وأحمد في "المسند" "5/ 183"، و"الزهد" "33"، والدارمي في "السنن" "1/ 75"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 163", وابن حبان في "الصحيح" "رقم 67، 68- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "5/ 158", وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 354"، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 352"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 184" من طرق عن شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا، وفيه: "من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا؛ إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة". لفظ أحمد.
وأوله: "نضر الله امرأ سمع منا...".
وأخرجه جماعة غير المذكورين بهذا اللفظ دون القطعة السابقة.
وإسناده صحيح، صححه البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "3/ 270-271/ رقم 1454"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "4/ 121"، وشيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 404".(2/483)
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 220-221" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "رقم 257-4106"- وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص29"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "رقم 317"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 105"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2521-2522"، والدارقطني في "العلل" "رقم 688"، و"الأفراد" "ق 207/ أ-مع أطراف الغرائب"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1128" بإسناد ضعيف جدا عن ابن مسعود مرفوعا: "من جعل الهموم هما واحدا؛ كفاه الله هم آخرته، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي أوديتها وقع".(2/484)
ص -352-…ويقرب من هذا المعنى قول من قال: "من طلب العلم لله؛ فالقليل من العلم يكفيه1، ومن طلبه للناس؛ فحوائج الناس كثيرة".
وقد لهج الزهاد في هذا الميدان، وفرحوا بالاستباق فيه، حتى قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه؛ لقاتلونا عليه بالسيوف".
ورُوي في الحديث: "الزهد في الدنيا يُريح القلب والبدن"3، والزهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في "العلل" "2/ 122-123": "هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث"، وبنهشل أعله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 54".
وللحديث شواهد عن أنس وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وابن عباس, ومن مرسل سليمان بن حبيب المحاربي ومن مرسل محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم، وانظر: "الزهد" لابن أبي عاصم "باب ما ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة"، ص62 وما بعدها"، و"زهد وكيع" "رقم 359، 360" والتعليق عليه.
1 أي: من طلبه ليعمل هو به؛ فما يتعلق به منه قليل لا يشتت عليه باله. "د".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "الصفة" "4/ 127"، و"سلوة الأحزان" "رقم 98"، وأبو نعيم "7/ 370".
3 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2/ ق 78" -وكما في "مجمع البحرين" "8/ 228/ رقم 5016"- والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 394"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 367" -ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 348/ رقم 10538"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 803/ رقم 1343"- عن أبي هريرة مرفوعا.(2/485)
وإسناده ضعيف جدا مسلسل بالضعفاء، فيه: علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، وأشعث بن براز، تصحف على الهيثمي في "المجمع" "10/ 286" إلى "ابن نزار"؛ فقال: "لم أعرفه"!! وهو ضعيف جدا، قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين وغيره، وقال النسائي: "متروك الحديث"، كذا في "الميزان" "1/ 262"، وقال ابن عدي: "الضعف بيّن على رواياته"، ونقل تضعيفه عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل, وأعله العقيلي بيحيى بن بسطام =(2/486)
ص -353-…ليس عدم ذات اليد، بل هو حال للقلب يعبر عنها -إن شئت- بما تقرر من الوقوف مع التعبد [بالأسباب]1، من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها في الأسباب؛ فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة.
فصل:
- ومنها: أن النظر2 في المسبب قد يكون على التوسط، كما سيأتي ذكره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الراوي له عن الأشعث، وقال عنه: "حديثه غير محفوظ"، وهو قد تفرد به، كما أفاده الطبراني.
وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أحمد: علي بن زيد ليس بشيء، قال يحيى: علي وأشعث ليسا بشيء".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 131"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 347-348/ رقم 10536" عن طاوس مرسلا، وفيه محمد بن مسلم الطائفي، وهو ضعيف لسوء حفظه، وأخرجه أيضا "برقم 289" بسنده عن الفضيل بن عياض؛ قال: يذكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم... وسرده.
وهو معضل، وفيه إبراهيم بن الأشعث ضعيف من قبل حفظه.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 188/ رقم 278"، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا، وفيه زيادة: "والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، والبطالة تقسي القلب". وإسناده ضعيف جدا، فيه أحمد بن الفرج الحمصي، وهو ضعيف، ومثله بكر بن خنيس، وفيه أيضا بقية وقد عنعن، وهو مدلس.
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "7/ 368/ رقم 10609" من طريق ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 155" عن عمر قوله، وهو الأشبه، وفيه عنعنة بقية.
والخلاصة: الحديث ضعيف مرفوعا، وقد ضعفه شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1292".
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(2/487)
2 أي: ومما يبني على أن للمسبب ليس من مقدور المكلف، ولا هو مكلف به؛ أنه إذا اتفق للمكلف نظره للمسبب فيحسن به أن يكون نظره على التوسط والاعتدال، ولا يجهد نفسه في العناية به، حتى إذا زاد عن ذلك؛ نبه على القصد والاعتدال، وإن كان ذلك ناشئا من مقام العبد من المقامات السنية؛ كالشفقة على عبادة الله وكثرة الخوف من عدم قيامه بواجبهم عليه. "د".(2/488)
ص -354-…إن شاء الله تعالى1، وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات، وهو أسلم لمن التفت إلى المسبب، وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر، فيحصل بذلك للمتسبب؛ إما شدة التعب، وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له.
أما شدة التعب؛ فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك، وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف، وأصل هذا تنبيه الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب العزيز -حالة دعائه الخلق بشدة الحرص- على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الآية، إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} الآية [الأنعام: 33-35].
وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية [المائدة: 41].
وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...} الآية, إلى قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد، والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، بقوله2: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [الرعد: 7]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وللمصنف كلام بديع على الوسطية بوجه عام في "2/ 279 وما بعدها".(2/489)
2 أفرد هذه الآيات عما قبلها وعلق عليها بأن المطلوب منك التسبب، وليس في هذه الآيات الحض على الإقصار مما يكابد كما كان ذلك في الآيات السابقة، وهو وجيه؛ إلا أنه يبقى الكلام في الآيتين الأخيرتين؛ فإن آية {لَيْسَ لَكَ...} إلخ ترجع في المعنى إلى مثل آية: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}، ولكن هذه أصرح في طلب الرجوع والوقوف عند حد وظيفته، بخلاف آية: {لَيْسَ لَكَ}؛ فلم يذكر فيها ما كلف به من ربه، والآية الأخيرة أبعدت الآيات المذكورة هنا عما يريده منها؛ إذ إنها ليس فيها ما يفهم من طلب إقصاره مما يكابد، ولا طلب رجوعه إلى التسبب. "د".(2/490)
ص -355-…{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [هود: 12]، وأشباه ذلك.
وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب، والله هو المسبب1، وخالق المسبب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية [آل عمران: 128]، وهو ينبهك على شدة مقاساته -عليه الصلاة والسلام- في الحرص على إيمانهم، ومبالغته في التبليغ؛ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة، وهي إيمانهم الذي به نجاتهم من العذاب؛ حتى جاء في القرآن: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
ومع هذا؛ فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق وأحرى بالتوسط في مقام النبوة، وأدنى من خفة ما يلقاه في ذلك من التعب والمشقة، وأجرى في سائر الرتب التي دون النبوة، هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد؛ فلا يقدح ذلك في صحة الاستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة، كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الاستدلال بأحواله وأحكامه في أحكام أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته.
وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له؛ فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون؛ كان مخالفا لمقصود الشرع؛ إذ قد تبين أن المسبب ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وليس هذا مما فيه أن الالتفات إلى المسبب التفات إلى حظوظ -وهو عليه السلام بريء من مثله- لأن ذلك منه غاية الرحمة لعباد الله، لا نظر إلى حظه في ذلك. "د".(2/491)
ص -356-…للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده، فمن قصده؛ فالغالب عليه بحسب إفراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين، وهو إنما يجري على مقتضى إرادة الله تعالى، لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه؛ فقد صار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به، وذلك خارج عن مقتضى الأدب، ومعارضة للقدر، أو ما هو ينحو ذلك النحو.
وقد جاء في "الصحيح" التنبيه على هذا المعنى بقوله, عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"1. فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان؛ لأنه التفات إلى المسبب في السبب، كأنه متولد عنه أو لازم عقلا، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل؛ إذ لا يعينه وجود السبب، ولا يعجزه فقدانه.
فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر، ويبقى السبب: إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف، وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره، استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله؛ فلا ينفتح [عليه]2 باب الشيطان، وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى، حتى يصير منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، 4/ 2052/ رقم 2664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في القدر/ رقم 79، وكتاب الزهد، باب التوكل واليقين/ رقم 4168"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 623، 624"، وأحمد في "المسند" "2/ 366، 370"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 259، 260، 261، 262"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 356"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 89"، و"الأسماء والصفات" "1/ 263" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.(2/492)
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(2/493)
ص -357-…إلى ما هو مكروه شرعا؛ من تشويش الشيطان، ومعارضة القدر، وغير ذلك.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى عملا، إذا كان عاملا في العبادات، وأوفر أجرا في العادات؛ لأنه عامل على إسقاط حظه، بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات، فإنه عامل على الالتفات إلى الحظوظ؛ لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله، فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم كما في حديث أبي ذر: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها"1، وأصله في القرآن: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]؛ فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي [عامل على إسقاط الحظوظ، وهو مذهب أرباب الأحوال]2، ولهذا بسط في موضع آخر3.
فإن قيل: على أي معنى يفهم إسقاط النظر في المسببات، وكيف ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495" -وقال: "هذا حديث حسن"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213-214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انظر: "2/ 227".(2/494)
ص -358-…فالجواب: أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات القلب إليها1 جملة وهذا قليل، وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية2؛ فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن ينظر هل له مسبب أم لا، وقد يكون غير ظاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "إليه".
2 الصوفي من يزن أفعاله وأقواله بميزان الشريعة ويأخذ نفسه بالاستقامة على آدابها؛ حتى تستنير بصيرته، وتكون الأخلاق العالية مثل الإخلاص وخشية الله والغيرة على الحق أقطابا تدور عليها سائر تصرفاته ومعاملاته؛ وكذلك كان الصوفية إلى أن خرج في لباسهم قوم نطقوا بكلمات تعبر عن الحلول والاتحاد، وظهر في أثرهم آخرون بمحدثات تتبرأ منها الفضيلة، وانخرط فريق منهم في أعوان الحاكم المغتصب؛ فكانوا لسانه الذي ينطق، وقلمه الذي يكتب، وقد كسا هؤلاء الطوائف الثلاث التصوف صبغة مكروهة اتخذها المتجافون عن الطرق المنسوبة إليه سندا لحكمهم عليها بأنها منابت أخلاق ذميمة وبدع سيئة وعقائد غير خالصة. "خ".
قلت: لم يرد في الكتاب ولا في السنة لفظة "التصوف"، والوارد "التزكية"، وهي إحدى مهمتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ حصر الله بعثة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين اثنين: {يُزَكِّيهِمْ}، و{يُعَلِّمُهُمُ}؛ فالواجب النزول عند الأسامي والألقاب الشرعية، وقد ألمح المصنف إلى فساد الصوفية في عصره في كتابه "الاعتصام" "1/ 120-121-ط ابن عفان"؛ فقال نقلا عن أبي القاسم القشيري:
"ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا؛ فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف". ثم قال عقبه:
"هذا معنى كلامه؛ فقد عد هذا اللقب لهم مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم.(2/495)
وفي غرضي -إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد, صلى الله عليه وسلم.
وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله".(2/496)
ص -359-…-بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب؛ إلا أنه التفت إليه من وراء الأمر أو النهي- ويكون هذا مع الجريان على مجاري العادات، مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء، ويكون أيضا مع طلب المسبب بالسبب؛ أي: يطلب من المسبب مقتضى السبب؛ فكأنه يسأل المسبب باسطا يد السبب، كما يسأله الشيء باسطا يد الضراعة, أو يكون مفوضا في المسبب إلى من هو إليه؛ فهؤلاء قد أسقطوا النظر في المسبب بالسبب، وإنما الالتفات للمسبب بمعنى الجريان مع السبب؛ كالطالب للمسبب من نفس السبب، أو كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب؛ فهذا هو المخوف الذي هو حرٍ بتلك المفاسد المذكورة، وبين هذين الطرفين وسائط هي مجال نظر المجتهدين؛ فإلى أيهما كان أقرب؛ كان الحكم له، ومثل هذا مقرر أيضا في مسألة الحظوظ1.
المسألة العاشرة:
ما ذكر من أن المسببات مرتبة2 على فعل الأسباب شرعا، وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب، يترتب عليه بالنسبة إلى المكلف -إذا اعتبره- أمور:
- منها: أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المتسبب3 شرعا، [أو]4 اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه؛ فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه، وكما يكون التسبب في الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير؛ لقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثالثة والرابعة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "2/ 305 وما بعد".
2 كما تقدم في المسألة الرابعة "ص311".
3 في "د": "المسبب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من الأصل.(2/497)
ص -360-…{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقوله, عليه السلام: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها"1، وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت"2 الحديث3.
كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر؛ لقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقوله, عليه الصلاة والسلام: "ما من نفس تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"4، وقوله: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها"5، وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله"6 الحديث، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، 11/ 308/ رقم 6478" بلفظ: "... من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم".
وأخرجه أيضا برقم "6477" مقتصرا على الشق الثاني بلفظ "... بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق".
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، 4/ 557/ رقم 2314"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1313/ رقم 3970"، وأحمد في "المسند" "2/ 334، 355، 533" من حديث ابن مسعود مقتصرين على الشق الثاني بلفظ مقارب.
3 الدليل في بقيته، وهو: "يرفع الله بها في الجنة" "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح، "و" الدليل في بقية الحديث. "د".
6 جزء من حديث صحيح, أوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله..." مضى تخريجه أعلاه.(2/498)
ص -361-…وقد قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب "الإحياء" وفي غيره ما فيه كفاية، وقد قال في "كتاب الكسب": "ترويج الدرهم الزائف من الدراهم في أثناء النقد ظلم؛ إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف، وإن عرف؛ فيروجه على غيره، وكذلك الثاني والثالث، ولا يزال يتردد في الأيدي، ويعم الضرر، ويتسع الفساد, ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه, فإنه الذي فتح ذلك الباب". ثم استدل بحديث: "من سن سنة حسنة"1 إلخ.
ثم حكى عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم؛ قال: "لأن السرقة معصية واحدة، وقد تمت وانقطعت، وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين، وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده؛ فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة، ومائتي سنة، إلى أن يفنى ذلك الدرهم، ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة، يعذب بها في قبره، ويسأل عنها إلى انقراضها، وقال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]؛ أي: نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما قدموه2، ومثله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، وإنما أخر أثر أعماله، من سن سنة سيئة عمل بها غيره"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.(2/499)
2 فسر بعض أهل العلم الآثار بالخطا مستندا لما يروى من أن الآية نزلت في قوم كانت منازلهم بعيدة عن المسجد؛ فأرادوا أن ينتقلوا إلى منازل قريبة منه، وهذه الرواية على فرض صحتها لا تمنع من إبقاء الآثار في الآية على عمومها حتى يدخل فيها آثار خيانة الأمم الغافلة، وتمكين يد العدو من ناصيتها؛ فأي أذية أو إهانة تقع على نفس مسلمة إلا كان على من فتح له سبيل التسلط أو جرك القلم في مساعدته كفل منها؟! والوارد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ لأولئك القوم هذه الآية ولم يصرح بأنها نزلت في حقهم. "خ".
3 انظر: "الإحياء" "2/ 73-74".(2/500)
ص -362-…هذا ما قاله هناك، وقاعدة إيقاع السبب أنه بمنزلة إيقاع المسبب قد بينت1 هذا.
وله في "كتاب الشكر" ما هو أشد من هذا؛ حيث قدر النعم أجناسا وأنواعا، وفصل فيها تفاصيل جمة، ثم قال: "بل أقول من عصى الله ولو في نظرة واحدة؛ بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر؛ فقد كفر [كل]2 نعمة الله في السموات والأرضين وما بينهما, فإن كل ما خلق الله حتى الملائكة, والسموات، والحيوانات، والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها3 انتفاعه".
ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان، ثم قال: "قد كفر نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن, ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسموات، ولا السموات إلا بالملائكة؛ فإن الكل كالشيء الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض".
قال: وكذلك ورد في الأخبار: "إن البقعة التي يجتمع فيها الناس؛ إما أن تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "تبين".
2 زيادة من "الإحياء".
3 في الأصل: "به".
4 قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 122": "لم أجد له أصلا"، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 360": "لم أجد له إسنادا"، وكذا أودعه السويدي في كتابه "الموضوعات في الإحياء" "ص101".
وأخرج أبو يعلى في "مسنده" "7/ 143/ رقم 4110" عن أنس مرفوعا: "ما من بقعة يذكر الله عليها بصلاة أو بذكر؛ إلا استبشرت بذلك إلى منتهاها من سبع أرضين، وفخرت على ما حولها من البقاع، وما من عبد يقوم بفلاة من الأرض يريد الصلاة إلا تزخرفت له الأرض".
وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وشيخه يزيد الرقاشي, كلاهما ضعيف، وضعفه المناوي في "فيض القدير" "5/ 475".(3/1)
ص -363-…وكذلك1 ورد: "إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر"2، وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها؛ فيتبدل اللعن بالاستغفار؛ فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه"3، ثم حكى غير ذلك، ومضى في كلامه.
فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب؛ فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء؛ إذ يبدو له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب، والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعات الثلاث: "ولذلك"، والمثبت من "الإحياء".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5/ 50/ رقم 2685"، والطبراني في "الكبير" "8/ 278/ رقم 17911، 17912"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 183" عن أبي أمامة مرفوعا: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلم الناس الخير".
وفي سنده سلمة بن رجاء، صدوق يغرب.
وله شواهد عن علي وعائشة وابن عباس مرفوعا وموقوفا، وأبي الدرداء ومن مرسل مكحول والحسن، والحديث حسن.
وانظر: "المجالس الخمسة" للسلفي "رقم 8- بتحقيقي".
3 "إحياء علوم الدين" "3/ 122-123".(3/2)
ص -364-…فصل:
- ومنها: أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ربما ارتفعت عنه إشكالات ترد في الشريعة، بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب1 أخر حاضرة، وذلك أن متعاطي السبب قد يبقى عليه حكمه، وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه؛ فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب، ولا يكون كذلك.
مثاله: من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج منها؛ فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ في الامتثال، غير عاصٍ ولا مؤاخذ؛ لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في حالة واحدة، ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة؛ لأن ذلك تكليف ما لا يطاق؛ فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه، ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج؛ فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج.
وقال أبو هاشم2: هو على حكم المعصية، ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله عن الأرض المغصوبة، ورد الناس عليه قديما وحديثا، والإمام أشار في "البرهان" إلى تصور هذا وصحته3 باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان؛ فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة4، ونظر ذلك بمسائل، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أحكام أسباب "د".
2 يراجع المقام في كتب الأصول كالتحرير، وابن الحاجب في مسألة يستحيل كون الشيء الواحد واجبا حراما من جهة واحدة... إلخ. "د".
3 بقوله في "البرهان" "2/ 97".
4 أي: ولا تتم التوبة إلا بعد الخروج فعلا؛ لأن من شرط قبولها رد التبعات والمظالم. "د". =(3/3)
ص -365-…صحيح باعتبار الأصل المتقدم؛ فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره، فلو نظر الجمهور إليها؛ لم يستبعدوا اجتماع الامتثال مع استصحاب1 حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة، وهذا أيضا2 ينبني على الالتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره3، فإنه إذا رأى ذلك؛ وجد نفس الخروج ذا وجهين:
أحدهما: وجه كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض، وهو من كسبه.
والثاني: كونه نتيجة دخوله ابتداء، وليس من كسبه بهذا الاعتبار؛ إذ ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "اعترف إمام الحرمين بانتفاء النهي عمن شرع في الخروج من الأرض المغصوبة تائبا؛ حيث قال: هو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي، والوجه الذي اعترضوا به هذه المقالة أن وصف المعصية والعقاب إنما يرتبطان بالنهي؛ فيجب ارتفاعهما حيث انتفى النهي إذ لم يعهد في موارد الشريعة فعل يوصف بكونه معصية ويستحق صاحبه العقاب من غير أن يتعلق به نهي، والظاهر من مقام التوبة في نظر... فشارع أن حكمها يسري إلى كل ما يترتب على السبب من أثر لا قدرة للمكلف على اجتنابه، فمن سن سنة سيئة، ثم تاب توبة نصوحا، وأصلح وبين جهد استطاعته؛ لا يضره من بقي عاملا بها بعد ذلك البيان".
1 لا أن النهي حاصل مع الأمر حتى يرد ما تقدم: "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: قوله: "وهذا أيضا..." إلخ، معناه أن مسألة أبي هاشم والجمهور تنبني على أن الداخل في أرض غصبا؛ هل هو محمول على أنه ملتفت إلى ما تسبب عن دخوله وهو الخروج، فيكون مؤاخذا به في الدنيا، فيعد فاعل حرام كما هو مؤاخذ به في الآخرة وهو مذهب أبي هاشم، أو غير محمول على ذلك؛ فيكون ذا وجهين كما قال؟! وعلى هذا؛ فضمير "في نظره" راجع إلى المكلف الداخل، وقوله: "وما ذلك"؛ أي: والمسبب خارجا، والمراد بالمسبب بالفتح: الخروج.(3/4)
وهذا إيضاح ذلك مأخوذا من كلام المصنف في آخر المسألة حيث...
3 كما تقدم أنه ليس له رفعه وليس من نمط مقدوراته. "د".(3/5)
ص -366-…له قدرة عن الكف عنه.
ومن هذا مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس، وقبل وصوله إلى الرمية، ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في الناس وقبل أخذهم بها، أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها، ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء، وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله، وقبل تأثيره ووجود مفسدته، أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها؛ فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان، فإن اجتمعا في الفعل الواحد كما في المثال الأول؛ كان عاصيا ممتثلا، إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير؛ لأنه من جهة العصيان غير مكلف به1 لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته؛ فلا نهي إذ ذاك، ومن جهة الامتثال مكلف؛ لأنه قادر عليه، فهو مأمور بالخروج وممتثل به، وهذا معنى ما أراده الإمام، وما اعترض به عليه وعلى أبي هاشم لا يرد مع هذه الطريقة2 إذا تأملتها، والله أعلم.
فصل:
- ومنها: أن الله -عز وجل- جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج، فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي؛ كان المسبب كذلك، وبالضد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل هو باقٍ من أثر التكليف في السبب وهو الدخول، وإيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب؛ فهو مؤاخذ بالمسبب وإن لم يكن مقدورا له. "د".
2 أي: بخلاف ما إذا قيل: إن النهي يتوجه عليه حين الخروج، كما يتوجه عليه الأمر به؛ لأنه يكون تكليفا بما لا يطاق كما قال، والذي رفع الإشكال هو الابتناء على القاعدة القائلة: إن المسببات معتبرة شرعا بفعل الأسباب، ومرتبة عليها؛ فيبني عليه أن المسببات ما دامت موجودة تأخذ حكم الأسباب وإن عدمت، وهو ما أشار إليه العضد شارح ابن الحاجب. "د".(3/6)
ص -367-…ومن ههنا إذا وقع خلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب: هل كان على تمامه أم لا؟ فإن كان على تمامه؛ لم يقع على المتسبب لوم، وإن لم يكن على تمامه؛ رجع اللوم والمؤاخذة عليه، ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيره من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم؛ إما بكونه غر من نفسه وليس بصانع، وإما بتفريط، بخلاف ما إذا لم يفرط؛ فإنه لا ضمان عليه لأن الغلط في المسببات1 أو وقوعها على غير وزان التسبب قليل؛ فلا يؤاخذ، بخلاف ما إذا لم يبذل الجهد؛ فإن الغلط فيها كثير؛ فلا بد من المؤاخذة.
فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد، لا من جهة أخرى2؛ فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع، أو على خلاف ذلك، ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلا على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرما؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيما؛ حكم على الباطن بذلك أيضا، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدا، والأدلة على صحته كثيرة جدا، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التسببات".
2 أي: من الجهات السابق إبطال النظر إليها؛ ككونها من مقدور المكلف أو كسبه، وكذا الجهات التي أشار إلى أن الأفضل عدم النظر إلى المسبب باعتبارها، وهي كثير فيما تقدم؛ أي: فالنظر في المسببات هنا ليس مقصودا لذاته، بل لاكتشاف حال السبب: هل أخذه العبد على طريق5 الكمال؟ لتبنى عليه أحكام شرعية. "د".(3/7)
ص -368-…بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة.
فصل:
- ومنها: أن المسببات1 قد تكون خاصة، وقد تكون عامة.
ومعنى كونها خاصة أن تكون بحسب وقوع السبب؛ كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع، والنكاح الذي يحصل به حلِّية الاستمتاع، والذكاة التي بها يحصل حل الأكل، وما أشبه ذلك، وكذلك جانب النهي؛ كالسكر الناشئ عن شرب الخمر، وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة.
وأما العامة؛ فكالطاعة التي هي سبب في الفوز بالنعيم، والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم، وكذلك أنواع المعاصي التي يتسبب عنها فساد في الأرض؛ كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق، والحكم بغير الحق الناشئ2 عنه الدم، وختر3 العهد الذي يكون عنه تسليط العدو، والغلول الذي يكون عنه قذف الرعب، وما أشبه ذلك4، ولا شك أن أضداد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يحتاج الفرق بين مضمون هذا الفصل ومضمون صدر المسألة إلى دقة نظر؛ لأن الغرض من كل منهما أن المتسبب إذا نظر إلى المسبب وأنه يجر خيرا كثيرا، أو شرا له آثار كبيرة؛ فإنه يزداد إقداما على فعل السبب وإتقانا له، أو يخاف من السبب؛ فلا يدخل فيه، إلا أنه في الأول من طريق أنه سن سنة اتبعه فيها غيره، فوزر فعل غيره لاحق له؛ فالشر الكثير ليس من فعله مباشرة، أما هنا؛ فإن فعله مما يترتب عليه فساد كبير في الأرض أو خير كثير من إقامة العدل، إذا كان حاكما مثلا وإن لم يكن اقتدى به غيره فيه؛ فهذا نوع آخر من النظر إلى المسبب غاير الأول باعتبار تنوع آثار المسبب. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "الفاشي"، والتصحيح من الأصل و"ط".
3 الختر: الغدر، وفي حاشية الأصل: "الغدر والخديعة أو أقبح الغدر".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 362-363/ رقم 927- رواية أبي مصعب، و1/ 460- رواية يحيى" عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس؛ قال: "ما ظهر =(3/8)
ص -369-…...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الغلول في قوم قط؛ إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط؛ إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان؛ إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق؛ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد؛ إلا سلط الله عليهم العدو".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "14/ 211": "وقد روينا هذا الحديث عن ابن عباس متصلا"، وقال قبل ذلك: "مثل هذا لا يكون إلا توقيفا؛ لأن مثله لا يروى بالرأي".
ثم أخرجه "14/ 212" متصلا عن ابن عباس قوله مختصرا، وقال: "حديث مالك أتم، وكلها تقضي القول بها والمشاهدة بصحتها".
قلت: قوله "كلها"؛ أي: شواهده، وقد ساق له شاهدا من حديث ابن عمر مرفوعا، وآخر عن بريدة مرفوعا أيضا.
أما حديث ابن عمر؛ فقد أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 4019"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 333-334" من طريق ابن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عنه مرفوعا بلفظ: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان؛ إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم".(3/9)
وإسناده ضعيف، فيه ابن أبي مالك، وهو: خالد بن يزيد بن عبد الرحمن، ضعيف، واتهمه ابن معين، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه": "هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وتعقبه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 106"؛ فقال: "قلت: الأب لا بأس به، وإنما العلة من ابنه".
وبه أعله ابن حجر في "بذل الماعون" "ص210".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق 62/ ب"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 211-212" من طريق نافع بن عبد الله عن فروة بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه مرفوعا، وإسناده ضعيف، نافع وفروة لا يعرفان. =(3/10)
ص -370-…..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 540" من طريق حفص بن غيلان عن عطاء به، وإسناده حسن، ابن غيلان وثقه الجمهور، وضعفه بعضهم.
وأخرجه الروياني في "مسنده" "ق 247/ أ" عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، عطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني، صدوق، لكنه مدلس، وقد عنعن، وابنه عثمان ضعيف.
وأما حديث بريدة، فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 126"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 346"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 212"، وابن حجر في "بذل الماعون" "ص211-212" عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا مختصرا بلفظ: "ما نقض قوم العهد قط؛ إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط؛ إلا سلط الله -عز وجل- عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة؛ إلا حبس الله عنهم القطر".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وبشير تكلم فيه، وقد خولف؛ فقال البيهقي عقبه: "كذا ورواه بشير بن المهاجر"، ثم ساقه بإسناده من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن ابن عباس قوله، وإسناده صحيح.
وعد ابن حجر في "بذل الماعون" "ص212" طريق بشير -وعزاها لأبي يعلى- أصح طرق هذا الحديث، ثم قال: "وله علة غير قادحة". ثم ساق طريق ابن واقد، وقال: "ويحتمل أن يكونا محفوظين، وإلا؛ فهذه الطريق أرجح، لاحتمال أن يكون بشير بن المهاجر سلك الجادة".(3/11)
قلت: وتابع بشيرا على رفعه وجعله من "مسند بريدة": الفضيل بن غزوان، كما عند الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 122/ أ"- وتمام في "الفوائد" "رقم 519- ترتيبه" بإسناد رواته ثقات؛ كما قال المنذري في "الترغيب" "1/ 543"، والهيثمي في "المجمع" "3/ 66"، وكان ابن حجر قد أشار أن له شاهدا عند الطبراني من حديث عمرو بن العاص، وعند تمام في "الفوائد" "رقم 520" عن ابن عباس مرفوعا، وهو منكر جدا، كما في "الميزان" "4/ 165"، و"اللسان" "6/ 79".
والخلاصة: الحديث صحيح، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 106، 107".(3/12)
ص -371-…هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها.
فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور؛ اجتهد في اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات، رجاء في الله وخوفا منه، ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال، وبمسببات الأسباب، والله أعلم بمصالح عباده، والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة.
فصل:
فإن قيل: تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب، وتبين الآن أن النظر في المسببات يستجر مصالح، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها، فإن كان هذا على الإطلاق؛ كان تناقضا، وإن لم يكن على الإطلاق؛ فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح، من الالتفات الذي يجر المفاسد، بعلامة يوقف عندها، أو ضابط يرجع إليه.
فالجواب: أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع1، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله؛ فهو الذي يجلب المصلحة2، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تفاصيل المسائل والفصول السابقة؛ لأنه بين النظر في المسبب بالاعتبار الذي يجر إلى المفاسد، وبالاعتبار الذي يجر إلى المصالح. "د".
2 من مواضع الالتفات إلى المسبب مقام الدعوة إلى الأسباب؛ فإن الحكمة تقتضي بيان ما ينتج عنها من أثر نافع وعاقبة حميدة، فلو بذل رئيس القوم وسعه في اتخاذ وسائل المنعة ومظاهر القوة امتثالا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، غير ملتفت إلى ما يتصل بها من عزة الجانب والتقلب في نعمة الاستقلال؛ لأدى الواجب بإخلاص فائق، فإن أخذ يدعو الناس على القيام بهذه الوسائل؛ فلا غنى له عن إرسال نظره إلى ما ينتج عن إقامتها من عز وسعادة، ثم إلى ما يحدث عن إضاعتها من النزول إلى درك الخزي والشقاء. "خ".(3/13)
ص -372-…من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به؛ فهو الذي يجلب المفسدة.
وهذان القسمان على ضربين:
أحدهما: ما شأنه ذلك بإطلاق، بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف، وبالنسبة إلى كل زمان، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف.
والثاني: ما شأنه ذلك لا بإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض.
وأيضا؛ فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين:
أحدهما: ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به.
والثاني: مظنونا أو مشكوكا فيه؛ فيكون موضع نظر وتأمل؛ فيحكم بمقتضى الظن، ويوقف عند تعارض الظنون، وهذه جملة مجملة غير مفسرة، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي؛ ظهر مغزاه، وتبين معناه بحول الله.
ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين, فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين، وبالله التوفيق.(3/14)
ص -373-…فصل:
وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين؛ فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه:
فقد1 قالوا في السكران إذا طلق، أو أعتق، أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص: عومل معاملة من فعلها عاقلا، اعتبارا بالأصل الثاني2، وقالت طائفة بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول، على تفصيل لهم في ذلك مذكور في الفقه، واختلفوا أيضا في ترخص3 العاصي بسفره، بناء على الأصلين أيضا، واختلفوا في قضاء صوم التطوع4، وفي قطع التتابع5 بالسفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وقد".
2 وهو اعتبار المسببات في الخطاب بالأسباب، وهو المذكور في صدر هذه المسألة، والأصل الأول هو أن المسببات غير مقدورة للمكلف، ولا هو مخاطب بها، وأيضا الأصل القائل: إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب وهي المسألة الثامنة يتعارض مع ظاهر الأصل الأول على المجتهد. "د".
3 أي: فاعتبار المسبب مرتبا على السبب آخذا حكمه يقتضي ألا رخصة، وإذا اعتبر المسبب منفصلا عن السبب؛ فمنع تحقق السفر المدة المشترطة يرخص له؛ لأنه مسافر وعصيانه في قصده السفر؛ أي: عصيانه بالتسبب لا أثر في الترخص. "د".
4 أي: فإذا اعتبر أنه صائم بالفعل وقد أبطل عمله؛ فيجب عليه القضاء بقطع النظر عن كون تسببه والدخول فيه لم يكن واجبا؛ لأنا لا نعتبر المسبب مرتبا على السبب حتى يأخذ حكمه، وإذا اعتبر ذلك؛ فقد كان التسبب غير واجب، فيبقى المسبب كذلك؛ فلا يجب القضاء. "د".
5 حيث كان مسافرا بدون ضرورة ولكن طرأت عليه ضرورة تلجئه للفطر؛ فهل تعتبر الضرورة ولا ينقطع التتابع؟ لأن المسبب له شأن آخر غير شأن السبب؛ فيعتبر منفصلا في أحكامه عن السبب، أو أن له حكمه، وقد كان مسافرا بدون عذر، فينجر عليه حكمه ولا يعتبر عذره الذي طرأ، فينقطع التتابع. "د".(3/15)
ص -374-…الاختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله، وكذلك اختلفوا في أكل الميتة1 إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه، وعليهما يجري الخلاف أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره، فيمن توسط2 أرضا مغصوبة.
المسألة الحادية عشرة:
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد.
مثال ذلك3: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب -في الوضع الشرعي- لإتلاف مال أو نفس، ولا نيل من عرض، وإن أدى إلى ذلك في الطريق، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس، ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال، والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام، وإن أدى إلى القتال، كما فعله أبو بكر -رضي الله عنه- وأجمع عليه الصحابة -رضي الله عنهم- وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد، وإن أدى إلى إتلاف النفوس، وإهراق الدماء، وهو في نفسه مفسدة، وإقرار حكم الحاكم4 مشروع لمصلحة فصل الخصومات، وإن أدى إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على النحو الذي قررناه في ترخص العاصي بسفره. "د".
2 فإذا قلنا: يعتبر المسبب وحده بقطع النظر عن السبب؛ فلا إثم عليه بالخروج عن الأرض، وإن قلنا: إن السبب ملاحظ فيه، وقد تسبب؛ فالإثم باقٍ حتى يخرج. "د".
3 انظر حول المثال المذكور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 126، 129-134، 165-168".
4 أي: عدم نقضه، ولو كان خطأ؛ فلا ينقض إلا إذا خالف إجماعا أو نصا, أو خالف القواعد الشرعية. "د".(3/16)
ص -375-…الحكم بما ليس بمشروع، هذا في الأسباب المشروعة.
وأما في الأسباب1 الممنوعة؛ كالأنكحة2 الفاسدة ممنوعة، وإن أدت إلى إلحاق الولد، وثبوت الميراث، وغير ذلك من الأحكام، وهي مصالح3، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه4، وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب، أو غيره من وجوه الفوت.
فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة، [والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة]5 ليست بناشئة عنها في الحقيقة، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها6.
والدليل على ذلك ظاهر؛ فإنها7 إذا كانت مشروعة؛ فإما أن تشرع للمصالح، أو للمفاسد، أو لهما معا، أو لغير شيء من ذلك؛ فلا يصح أن تشرع للمفاسد لأن السمع يأبى ذلك، فقد ثبت الدليل الشرعي على أن [تلك]8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك الأسباب...".
2 في النسخ المطبوعة: "فالأنكحة".
3 أي: هذه المسببات التي أدت إليها الأسباب الممنوعة هي في الحقيقة مصالح، والمراد بالمصالح ما يعتد به الشارع؛ فيبني عليه الحكم الشرعي المترتب على الصحيح من نوعه؛ كالملك في الغصب يرتب عليه أثره من صحة تصرفات المالك، وكميراث الولد الملحق بالنكاح الفاسد، وكالأحكام الأخرى للأولاد من ولايات ومن حقوق الأولاد على آبائهم وحقوق آبائهم عليهم، وهكذا؛ فلا يقال: كيف يعتبر انتقال الملك من المغصوب إلى الغاصب مصلحه مع أنه عين المفسدة بعدم استقرار ملك المالكين وخروجه من أيديهم بطرق غير مشروعة؟ "د".
4 بل ومفسدة في الأرض من حيث عدم استقرار الأملاك والتعدي المترتب عليه مفاسد اجتماعية عظمى. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: حدثت لاحقة لها وجاءت تبعا. "د".
7 أي: الأسباب مطلقا. "د".
8 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(3/17)
ص -376-…الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح، وإن كان ذلك غير واجب في العقول؛ فقد ثبت في السمع، وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل، ولا لغير شيء لما ثبت من السمع أيضا1؛ فظهر أنها شرعت للمصالح.
وهذا المعنى يستمر فيما منع؛ إما أن يمنع لأن فعله مؤدٍّ إلى مفسدة، أو إلى مصلحة، أو إليهما، أو لغير شيء، والدليل جارٍ إلى آخره؛ فإذًا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة؛ فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع.
وأيضا؛ فلا سبب ممنوعا إلا وفيه مفسدة لأجلها منع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر؛ فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا، وما منع لأجله إن كان ممنوعا.
وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل؛ كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة، لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين، وشهر السلاح، وتناول القتال، والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف، من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك، وحكم الحاكم سبب لرفع2 التشاجر، وفصل الخصومات بحسب الظاهر؛ حتى تكون المصلحة ظاهرة، وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر من تقصير في النظر، أو كون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من أن التكاليف لم تكن عبثا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "لدفع"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".(3/18)
ص -377-…الظاهر على خلاف الباطن، ولم يكن له على ذلك دليل، وليس بمقصود1 في أمر الحاكم، ولا ينقض الحكم2 -إذا كان له مساغ ما- بسبب أمر آخر، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم، من الفصل بين الخصوم ورفع التشاجر؛ فإن الفسخ ضد3 الفصل.
وأما قسم الممنوع؛ فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع، لا من جهة كونه فاسدا، حسبما هو مبين في موضعه4، والبيوع الفاسدة من هذا النوع؛ لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا، فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد، فإذا فاتت عينها؛ تعين المثل أو القيمة، وإن بقيت على غير تغير ولا وجه من وجوه الفوت؛ فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد، فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين؛ تواردت أنظار المجتهدين: هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ، إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة5 مثلا، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وليس بمقصود في توليته الحكم أن يخطئ، ولكن الخطأ جاء تابعا ولاحقا، وهو مفسدة ليست بناشئة عن نفس توليته القضاء، ولكنها نشأت عن أمر آخر وهو تقصيره في النظر أو استبهام الأمر عليه، فقد يصادفه أن ظاهر الأمر الذي يمكنه الاطلاع عليه غير باطنه الذي يعسر الاطلاع عليه؛ فلا يكلف به. "د".
2 هذه فائدة جديدة لا يتوقف عليها البيان المطلوب، وهو أن المصلحة التي شرع لها تنصيب القاضي قد يكون في طريقها مفسدة طرأت بسبب آخر. "د".
3 في "م" زيادة: "هذا" بين المعقوفتين.
4 وسيأتي في موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ حتى إن المجتهد يتغير رأيه ويجعل للواقعة بعد النزول حكما ما كان يقول به قبله. "د".
5 أي: بنقص، أما بزيادة؛ فيكون الحمل -لو ردت- على المشتري من هذه الجهة، ومن الجهة التي أشار إليها المؤلف. "د".(3/19)
قلت: وفي الأصل: "ردت إليه متغيرة".(3/20)
ص -378-…أن فيها حملا على المشتري، حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما تعنَّى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع؛ فكان العدل النظر فيما بين هذين، فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق، والتغير الذي لم يفت العين، وانتقال الملك، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء، وحاصلها أن عدم الفسخ، وتسليط المشتري على الانتفاع؛ ليس سببه العقد المنهي عنه، بل الطوارئ المترتبة بعده.
والغصب من هذا النحو أيضا, فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا1، والضمان2 يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة؛ فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما، فصار له بذلك شبهة ملك، فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة؛ صار محل اجتهاد، نظرا إلى حق صاحب المغصوب، وإلى الغاصب؛ إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة3 له، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه؛ فكان في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسباب الضمان ثلاثة: الإتلاف، والتسبب، ووضع اليد غير المؤتمنة، وقد جعل بعض الفقهاء الغاصب ضامنا للرقبة دون الغلة مستندا إلى حديث: "قضى أن الخراج بالضمان"، وهذا الحديث قضية معينة لا يلحق بها إلا ما ماثلها من الصور، ولا وجه في النظر الصحيح يقضي باستواء المبطل والمحق، كما أن تضمينه الرقبة بأرفع القيم أقرب إلى العدل من تضمينه قيمتها يوم الغصب فقط؛ إذ هو مأمور بإرجاعها إلى صاحبها في كل الأحوال ومن جملتها ارتفاع قيمتها إلى غايتها القصوى. "خ".
2 في الأصل زيادة: "لا".
3 لا يظهر فيما إذا كان التغير بارتفاع الأسواق، ولا في كل ما كانت زيادتها لا ترجع إلى تكاليفه أو صنعه، بل كان ناشئا عن حالتها هي بأن كانت عشراء فولدت مثلا، فيزيد ثمنها كثيرا، فهذا وأمثاله لا يظهر أن يقال فيه: إنه تغير يعتد به مفوتا، ويلزم الغاصب بخصوص القيمة يوم الغصب؛ لأن هذا حمل على خصوص صاحبها، ولذلك جرى الخلاف في مثله. "د".(3/21)
ص -379-…ذلك الاجتهاد بين هذين؛ فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب، بل التضمين أولا، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب؛ فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور.
والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح؛ إذ لا يصح ذلك بحال.
فصل:
وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك وغيره.
ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلى زمان كذا، ثم خاف الحنث بعدم القضاء، فخالع1 زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة، ثم راجعها؛ أن الحنث لا يقع عليه، وإن كان قصده مذموما وفعله مذموما؛ لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا، فكانت المخالعة1 ممنوعة وإن أثمرت عدم الحنث؛ لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة، بل بسبب أنه حنث ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا.
وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان: إن له أن يفطر وإن كره له هذا القصد؛ لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر، لا بسبب نفس السفر المكروه، وإن علل الفطر بالسفر؛ فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر، ويحقق ذلك أن الذي كره له السفر الذي هو من كسبه، والمشقة خارجة عن كسبه؛ فليست المشقة هي عين المكروه له, بل سببها، والمسبب هو السبب في الفطر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فصالح، المصالحة".(3/22)
ص -380-…فأما لو فرضنا1 أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة، أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة؛ فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا؛ ولا عن الممنوع2 مصلحة تقصد شرعا، وذلك كحيل3 أهل العِينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل4؛ فهنا طرفان وواسطة: طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال؛ كالحيلة المذكورة، وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا؛ كتغيير المغصوب في يد الغاصب، فيملكه على التفصيل المعلوم، وواسطة لم ينتفِ فيها السبب ألبتة، ولا ثبت قطعا5؛ فهو محل أنظار المجتهدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالأمثلة المتقدمة جميعها مثمرة لذلك. "د".
2 في "د": "المنوع" بنقصان ميم.
3 فالحيلة مدخول فيها على أنها عقدة واحدة في صورة عقدتين؛ فليس هناك شيئان أحدهما يعتبر سببا ممنوعا أنتج مسببا هو سبب في مصلحة يعتد بها، بخلاف سائر الأمثلة السابقة؛ فتأمل. "د".
4 استدل المالكية والحنفية والحنابلة على تحريم بيع العِينة بأحاديث لم تكن لها القوة الكافية في الاحتجاج، ولكن أيدوها من جهة النظر بأنها عقدة ربا، وإنما استعير لها اسم البيع وألقي عليها ثوب المعاملة الجائزة، ولا عبرة بالصورة ما دامت الحقيقة التي تترتب عليها المفسدة قائمة، ومدرك الشافعية في إجازتها أنها تشتمل على عقدين, كل منهما منفصل عن الآخر، والتفاوت بين الثمنين في العقدين لا أثر له، وهي وإن كانت وسيلة إلى ما يقصد من الربا وهو الفضل؛ لم تكن وسيلة إلى عين الربا الذي هو مقابلة الدينار بالدينارين مباشرة، كما أن النكاح وسيلة إلى ما يقصد بالزنى وهو التلذذ بالوطء؛ لا إلى نفس الزنى الذي هو التلذذ على وجه غير مشروع. "خ".
قلت: أحاديث تحريم بيع العينة صحيحة، وسيأتي تخريج ذلك "3/ 114".
5 يحسن مراعاة الظن أيضا ليتقابل مع سابقه الذي اعتبره فيه؛ حتى تصح المقابلة. "د".(3/23)
ص -381-…فصل:
هذا كله إذا نظرنا1 إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر، فإن تُؤُملت من جهة أخرى؛ كان الحكم آخر، وتردد الناظرون2 فيه؛ لأنه يصير محلا للتردد.
وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع المسببات، وإذا كان كذلك؛ اقتضى أن المسبب في حكم الواقع باختياره، فلا يكون سببا شرعيا، فلا يقع له مقتضى؛ فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر؛ لأن المشقة كأنها واقعة3 بفعله؛ لأنها ناشئة عن سببه، والمحتال للحِنْث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث، بل يقع عليه إذا راجعها، وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل، وما أشبه ذلك؛ فههنا إذا روجع الأصلان كانت المسائل في محل الاجتهاد، فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه، والله أعلم.
فصل:4
ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة؛ أي: من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع، لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسببات عادية؛ فإنها إذا نظر إليها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "نظر".
2 في "م": "الناظر".
3 في "د": "واقعلة" بزيادة لام.
4 يقصد به إيضاحا للأصل السابق في المسألة، ويدفع به ما يقال: كيف لا تكون الأسباب الممنوعة سببا للمصالح، والعاقل لا يفعلها إلا وهي سبب في مصالحه وأغراضه؟ ومحصله أنه ليس المراد بالمصلحة ما هي ملائمة لطبعه أو منافرة، بل ما يعتد بها الشارع ويرتب عليها مقتضياتها. "د".(3/24)
ص -382-…هذا الوجه؛ كان النظر فيها آخر؛ فإن قصد التشفي بقصد1 القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة, وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من إتعاب النفس، وقصدا إلى الدَّعة والراحة بتركها؛ فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق، أو تارك بإطلاق، متسبب في درء المفاسد عن نفسه، أو جلب المصالح لها، كما كان الناس في أزمان الفترات، والمصالح والمفاسد هنا هي المعتبرة بملاءمة الطبع ومنافرته؛ فلا كلام هنا في مثل هذا.
المسألة الثانية عشرة:
الأسباب -من حيث هي أسباب شرعية لمسببات- إنما شرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد المستدفعة.
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:
أحدهما: ما شرعت الأسباب2 لها؛ إما بالقصد الأول3، وهي متعلق المقاصد الأصلية4 أو المقاصد5 الأُوَل أيضا، وإما بالقصد الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة6، وكلا الضربين مبين في كتاب "المقاصد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بسبب".
2 أي: علما أو ظنا بدليل مقابليه، وما جاء له في بيانه لهذا القسم. "د".
3 قصد الشارع في الأمور من جلب المصالح ودفع المفاسد. "ماء".
4 سيأتي أنها ما لم يكن فيها حظ للمكلف بالقصد الأول، وأنها هي الواجبات العينية والكفائية، ومقابلها ما كان فيه حظ للمكلف ولم يؤكد الشارع في طلبها إحالة على ما جبل عليه طباعه من سد الخلات ونيل الشهوات، وبيانه في المسألة الثانية من النوع الرابع من المقاصد الشرعية. "د".
5 مغايرة في العبارة. "د".
6 وهو قصد أحدنا لما قصد الشارع... وهو تابع للقصد الأول. "ماء".(3/25)
ص -383-…والثاني: ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها، أو لم تشرع لها؛ فتجيء الأقسام ثلاثة:
أحدها:
ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله؛ فتسبب المتسبب فيه صحيح لأنه أتى الأمر من بابه، وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه؛ لأنا1 فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا2، ثم يتبعه اتخاذ السكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك، أو الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله, أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة؛ فصار إذًا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة، وهذا كاف، وقد تبين في كتاب "المقاصد" أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح؛ فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب.
لا يقال: إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل البضع بالعقد أولا؛ فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد، والشارع إنما قصده بالعقد أولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله سقط هنا كلمة "إذا"، وبعد قوله: "دلت عليه الشريعة" سقطت هذه الجملة: "وقصد الشخص المتسبب بالنكاح التناسل وحده أو هو مع بعض المنافع المذكورة، أو مجرد بعض المنافع غير التناسل" صار إذا... إلخ، وبهذا يلتئم الكلام. "د".(3/26)
2 فالتناسل مقصد أصلي, كما في الحديث: "تزوجوا الوَلُود الوَدُود؛ فإني مكاثر بكم الأمم"؛ فجاء بصيغة الأمر على طريقة ما لم يكن من حظ المكلف كما يأتي شرحه في كتاب "المقاصد"، وبقيتها تبع، فالسكن كما في آية {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} والمال والجمال... إلخ كما في الحديث: "تنكح المرأة لأربع خصال: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها"، والقيام على المصالح كما في حديث جابر بن عبد الله في تزوجه المرأة الثيب للقيام على مصالح أخواته، وهكذا الباقي؛ فكلها مقاصد للنكاح أقرها الشرع. "د".(3/27)
ص -384-…الحل، ثم يترتب عليه الانتفاع، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع؛ فقد تخلف قصده عن قصد الشارع؛ فيكون مجرد القصد إلى الانتفاع غير صحيح، ويتبين هذا بما إذا1 أراد التمتع بفلانة كيف اتفق، بحل أو غيره؛ فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع، وقصده أنه لو أمكنه [بالزنى] لحصل مقصوده، فإذا عقد عليها والحال هذه؛ فلم يكن قاصدا لحله، وإذا لم يقصد حلها؛ فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا، والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى.
لأنا نقول: [بل] هو2 على ما فرض في السؤال صحيح وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز؛ فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه، ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه، لكن ملجأ إلى ذلك؛ فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه، ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذي لم يقدر عليه، فإن كان عند3 عزم على المعصية لو قدر عليها؛ أثم عند المحققين4، وإن كان خاطرا على غير عزيمة؛ فمغتفر كسائر الخواطر، فلم يقترن إذًا بالعقد ما يصيره باطلا؛ لوقوعه كامل الأركان، حاصل الشروط، منتفي الموانع، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده5 الاستباحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "إذ".
2 أي: العقد. "د".
3 في "م" و"خ": "عنده" بزيادة الضمير.
4 من باشر امرأة معتقدا أنها أجنبية فإذا بها زوجته؛ كان فاسقا، وكتب عليه إثم هذه النية السيئة وإن لم يحتمل خطيئة الزنى؛ لأن نفس الوطء كان مباحا، وهذه الصورة المنكرة أشد من مجرد العزم الذي لم ينفذه صاحبه في صورة عمل كأنه يتركه ناسيا أو مغلوبا على قصده، والظاهر أن موضع الخلاف يختص بهذا العزم الذي لم يكن له أثر في الظاهر، ولا يتعدى إلى تلك الصورة التي تمثل فيها العزم بمظهر فظيع. "خ".
5 أي: منفصل عنه ولا يضره لانفكاكه عنه. "د".(3/28)
ص -385-…بالوجه المقصود للشارع، وهذا القصد الثاني موجود1 عنده لا محالة، وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب؛ فصح التسبب، وأما إلزام قصد الحل؛ فلا يلزم، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع، وإن غفل عن وقوع الحل به؛ لأن الحل الناشئ عن السبب ليس بداخل2 تحت التكليف كما تقدم.
والثاني:
ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء3؛ فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح؛ لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض، وإذا لم يشرع له؛ فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة، بالنسبة إلى ما قصد بالسبب؛ فهو إذًا باطل، هذا وجه.
ووجه ثانٍ: وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع؛ فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا, وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا؛ لا يصح، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له.
ووجه ثالث: أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب؛ فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا، فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص؛ فالأمر واضح4، فإذا قصد بالنكاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حكما كما يقتضيه فرض السؤال، وكما يشير إليه قوله: "وأما إلزام قصد الحل... إلخ". "د".
2 فهو مسبب لا يلزم قصده ولا عدم قصده؛ لأنه فعل غيره. "د".
3 أي: إنه ليس من مقاصد الشرع بهذا السبب، وإن كان قد يترتب على مسببه، كالطلاق والعتق بالنسبة لعقد النكاح والبيع؛ فالطلاق لا يكون إلا عن نكاح، والعتق لا يكون إلا عن ملك، كما لا يكون هدم البيت إلا عن بناء يهدم، ولكن الطلاق، والعتق، وهدم البيت؛ لم تقصد بالنكاح والبيع وبناء البيت. "د".
4 في الأصل: "أوضح".(3/29)
ص -386-…مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل، أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها؛ كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع، وهكذا سائر الأعمال والتسببات العادية والعبادية.
فإن قيل: كيف هذا والناكح في المثال المذكور؟ وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول؛ فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح، فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق، وهو مباح في نفسه؛ فيصح، لكن كونه قصد مع ذلك التحليل للأول أمر آخر، وإن كان مذموما، فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما؛ فلا تأثير لأحدهما في الآخر؛ لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا، كالصلاة في الدار المغصوبة1.
وفي الفقه ما يدل على هذا:
فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح، والعتق قبل الملك؛ فيقول للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، وللعبد: إن اشتريتك فأنت حر، ويلزمه الطلاق إن تزوج، والعتق إذا اشترى، وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان2 له أن يتزوج المرأة وأن يشتري العبد.
وفي "المبسوطة" عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ثم يخاف العنت؛ قال: "أرى له جائزا أن يتزوج، ولكن إن تزوج طلقت عليه"3، مع أن هذا النكاح وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي؛ فهو مما يتوجه فيه النهي لوصف منفك، لا للذات ولا لوصف ملازم، ومعروف أن فيه خلافا في فساده وعدمه. "د".
2 أي: فيحكمان بصحة التسبب مع أنه مما علم أن السبب لم يشرع له. "د".
3 انظر: "المدونة" "2/ 132-ط العلمية".(3/30)
ص -387-…الشارع بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني؛ إلا الطلاق والعتق، ولم يشرع النكاح للطلاق، ولا الشراء للخروج عن1 اليد، وإنما شرعا لأمور أخر، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما؛ فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثانٍ عن حصول النكاح أو الملك وعن القصد إليه؛ فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق، والمشتري قاصد بشرائه العتق، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع، ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين، وإذا كان كذلك؛ فأحد الأمرين جائز2؛ إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب، وإما بطلان هذه المسائل.
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا؛ ففي "المدونة" فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق3 أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا4 تزوج المرأة ليمين؛ لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة، وقال مالك5: إن النكاح حلال فإن شاء أن يقيم عليه أقام، وإن شاء أن يفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا. قال: وهو عندنا نكاح ثابت، الذي6 يتزوج يريد أن يبر في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد حبسها ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها؛ فأمرهما واحد، فإن شاءا أن يقيما أقاما؛ لأن أصل النكاح حلال. ذكر هذه في "المبسوطة".
وفي "الكافي" في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته أن يطلقها بعد السفر: "أن قول الجمهور جوازه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "من".
2 في "ط": "لازم".
3 لكنه لم يحدد مدة على ما يأتي لمالك. "د". قلت: وانظر "الذخيرة" "4/ 404".
4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "فإذًا إذا".
5 في "ط": "قال فيها مالك". قلت: أي: في "المدونة" "2/ 131-ط العلمية".
6 أي: نكاح الذي... إلخ. "د".(3/31)
ص -388-…وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة، وأنه لا يجيزه بالنية؛ كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ بذلك، ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثل بنكاح المسافرين، قال: "وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك؛ فإنا لو ألزمناه أن ينوي1 بقلبه النكاح الأبدي2؛ لكان نكاحا نصرانيا، فإذا سلم لفظه؛ لم تضره نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة ورجاء الأُدْمَة3، فإن وجدها وإلا فارق، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة، فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق"، وهذا كلامه في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وحكى اللخمي عن مالك [فمن نكح]4 لغربة أو لهوى ليقضي أَرَبَه ويفارق؛ فلا بأس.
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها، وأشدها5 مسألة حل اليمين؛ لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه، وإنما قصد أن يبر في يمينه، ولم يشرع النكاح لمثل هذا، ونظائر ذلك كثيرة، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا، ثم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرق بين أن ينوي النكاح الأبدي وبين ألا ينوي النكاح إلا لمدة، وهو ما يشترطه مالك، والتنظير أيضا نابٍ؛ لأنه متزوج على الأبدية إن حسنت عشرتها، فليس فيه دخول على التوقيت القطعي، وهو نكاح المتعة. "د".
2 بعدها في "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي "1/ 171": "حتى لا مثنوية فيه".
3 "استدراك2".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.(3/32)
5 وإنما كان هذا أشدها؛ لأنه قصد ألا يدخل بها ولا يرتب المسببات مطلقا على سببها وهو العقد، ولكنه في الأمثلة الأخرى يرتب المسبب ويتمتع، لكن لا على الوجه المعروف للشرع في النكاح مثلا، وظاهر أن الكلام في الأمثلة التي بعد قوله: "وفي مذهب مالك من هذا كثير"، ولا يدخل في المفضل عليه المسائل السابقة من المحلوف بطلاقها والمعلق حريته على مشتراه؛ فلا تظهر الأفضلية في الشدة، بل قد يقال العكس؛ لأن النكاح المقصود به بر اليمين يمكنه أن يرتب عليه حكمته ويستمسك بها بخلاف المحلوف بطلاقها. "د".(3/33)
ص -389-…الفراق ثانيا: وهما قصدان غير متلازمين، [وإلا] فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى1 بحيث يؤثر أحدهما في الآخر، فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم2؛ فعلى الجملة يلزم: إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم.
فالجواب من وجهين: أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فأما الإجمالي؛ فهو أن نقول: أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ولا هي منها، بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها، فما اتفقوا منها على جوازه؛ فلسلامته من مقتضى أصل المسألة، وما اختلفوا فيه؛ فلدخوله عند المانعين تحتها، ولسلامته عند المجيزين؛ لأن العلماء لا يتناقض كلامهم3، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله، ويورد على العالم4 من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف، ويتأمل، ويلتمس المخرج، ولا يتعسف بإطلاق الرد.
وأما التفصيلي؛ فنقول: إن هذا المسائل لا تقدح فيما تقدم، أما مسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة نكاح المحلل. "د".
2 من هذا الأصل وهو أن الدليل يقتضي أن هذا التسبب غير صحيح. "د".
3 العالم المتين لا يرضى لنفسه التناقض في الكلام ولبعد غوصه ودقة ملاحظته قد يبدو لبعض الناظرين أنه وقع في زلة التناقض، وهو بريء منها، وليس مع هذا بمعصوم من أن يبني على أصل مرة ويغفل عنه مرة أخرى، فيأخذ بعض الفروع المندرجة تحته ويرجع بها إلى أصل آخر؛ فيقع في التناقض من حيث لا يقصد ولا يدري؛ فغرض المصنف من هذه الجملة أخذ طالب العلم إلى التؤدة والأناة في تفهم أقوال العلماء، وأن لا يسارع إلى رميها بالخطأ كما يصنع كثير ممن وقفوا على الشاطئ الأدنى من العلم وتخبطهم الغرور بالإثم؛ فعاثوا في أعراض العلماء بألسنة حداد. "خ".
4 أي: المجتهد، أي: يعرض عليه ليتنبه، وذلك من تحسين الظن به. "د".(3/34)
ص -390-…التعليق؛ فقد قال القرافي1: "إنها من المشكلات على الإمامين، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك؛ فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا". قال: "وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة، لكن العقد صحيح إجماعا؛ فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد". قال: "فحيث أجمعنا على شرعيته؛ دل ذلك على بقاء حكمته، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده". قال: "وهذا موضع مشكل على أصحابنا". انتهى قوله.
وهو عاضد2 لما تقدم، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه، وهي:
المسألة الثالثة عشرة:
وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا، فإن علم أو ظن ذلك؛ فلا إشكال في المشروعية، وإن لم يعلم ولا ظن ذلك؛ فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة، أو لأمر خارجي.
فإن كان الأول؛ ارتفعت المشروعية أصلا، فلا أثر للسبب شرعا ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل، مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى، والعقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الفروق" "3/ 171، الفرق الخامس والستون والمائة".
2 لأن فيه تسليما للقاعدة مآلا، وإنما الإشكال في التفريع كما قال: "وكان يلزم ألا يصح العقد... إلخ"، وقال: "وهذا موضع مشكل على أصحابنا"؛ أي: حيث فرعوا ما ينافي مع القاعدة التي سلموها. "د".(3/35)
ص -391-…على الخمر والخنزير، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية1، والعتق بالنسبة إلى ملك الغير2، وكذلك العبادات، وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غير العاقل، وما أشبه ذلك.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة، بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه، فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة؛ لم يصح أن يكون مشروعا، وقد فرضناه مشروعا، هذا خلف.
والثاني: أنه لو كان كذلك؛ لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر، والعبادات لغير قصد الخضوع لله، وكذلك سائر الأحكام، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام.
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب -وهي المسببات- لأمر خارجي، مع قبول المحل من حيث نفسه؛ فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب، أم يجري السبب على أصل مشروعيته؟ هذا محتمل، والخلاف فيه سائغ، وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور:
أحدها: أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر3 التخلف، وسيأتي4 لهذا المعنى تقرير في موضعه, إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: بدون تعليق. "د".
3 في الأصل: "موارد".
4 في كتاب المقاصد في المسألة العاشرة؛ أي: فحيث إن المحل قابل في ذاته؛ فتخلف الحكمة في هذا الفرد بخصوصه لأمر خارج لا يضر في اطراد الحكم، كالملك المترفه مثلا، لا مشقة في سفره ومع ذلك يطرد معه حكم السفر من قصر وفطر؛ ولذلك يقال فيمن علق الطلاق على النكاح: المحل قابل للحكمة والمانع خارج؛ فيجري التسبب على أصله.
وهذا الدليل عام في المسائل الفقهية لا يخص موضع تخلف الحكمة عن سببها. "د".(3/36)
ص -392-…والثاني, وهو الخاص بهذا المكان: أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط، وإما أن تعتبر بوجودها فيه، فإن اعتبرت بقبول المحل فقط؛ فهو المدعى، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره؛ فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع، وهو غير موجود، وإن اعتبرت بوجودها في المحل1؛ لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا، لمانع أو لغير مانع، كسفر الملك المترفه؛ فإنه لا مشقة له في السفر، أو هو مظنة لعدم وجود المشقة، فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين، وكذلك إبدال الدرهم بمثله، وإبدال الدينار بمثله، مع أنه لا فائدة في هذا العقد، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته، والحكمة غير موجودة.
ولا يقال2: إن السفر مظنة المشقة بإطلاق، وإبدال الدرهم بالدرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فعلا. "د".
2 أي: ردا على اعتبار مجرد قابلية المحل، وعلى الاستناد في ذلك إلى أن الحكمة غير موجودة فعلا في مسألة الملك المترفه المسافر، وكذا في مسألة إبدال الدينار بمثله، وأمثال ذلك؛ أي: لا يقال: نحن لا نقارن خصوص الملك المترفه بمسألة نكاح المحلوف بطلاقها، بل إنما يلزم أن نقارن السفر مطلقا بنكاح المحلوف بطلاقها، يعني: والسفر في ذاته مظنة المشقة وإن لم توجد في بعض الأفراد النادرة؛ كالملك مثلا, أما مسألة نكاح المحلوف بطلاقها؛ فليست مظنة وجود الحكمة في أي فرد، فضلا عن الفرد النادر، وعلى ذلك لا يصح أن تجعل هذه المسألة من هذا الباب، يعني: فعلى فرض أن المحل قابل؛ فهو قبول ذهني صرف لا يحتمل تحققه، بخلاف مسألة الملك والدينار؛ فالمحل قابل ويتحقق وجود الحكمة في السفر المطلق؛ لأن المقيس عليه السفر بإطلاق، وغالبه تتحقق فيه الحكمة، أما هنا؛ فلا تتحقق الحكمة في مسألة المحلوف بطلاقها ولا في فرد. "د".(3/37)
ص -393-…مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق، وكذلك سائر المسائل التي في معناها؛ فليجز التسبب بإطلاق، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق؛ فإنها ليست بمظنة للحكمة، ولا توجد فيها على حال.
لأنا نقول1: إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق، فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار [وجود المصلحة في المسألة]2 المقيدة؛ فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها؛ لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات، بخلاف نكاح القرابة المحرمة، كالأم والبنت مثلا؛ فإنها محرمة بإطلاق3؛ فالمحل غير قابل بإطلاق، فهذا من الضرب الأول، وإذا لم يكن ذلك4؛ فلا بد من القول به في تلك المسائل، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها، إذا كان المحل في نفسه قابلا؛ لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا، وهذا معقول.
والثالث: أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط؛ لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها؛ فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة؛ فلا يصح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالمقارنة على ما صورتم غير مستقيمة؛ لأنه يلزم أن يقارن المطلق بالمطلق, والمطلق هنا نكاح الأجنبية حلف بطلاقها أو لا، هذا هو الذي يقارن بالسفر مطلقا، فإذا قلتم بإطلاق الجواز في السفر ولو لم تتحقق المشقة في مثل مسألة الملك؛ فلتقولوا بإطلاق الجواز في زواج الأجنبية وإن لم تتحقق الحكمة من النكاح في المحلوف بطلاقها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفيه: "اعتباره مقيدة"، وفي "ط" بدله "الصورة".
3 في "د": "بإطلا" من غير قاف.(3/38)
4 أي: إذا لم يكن المحل غير قابل، بل كان قابلا وإن منع منه مانع خارج؛ صح التسبب، وتحمل عليه المسائل المتقدمة التي استشكلها القرافي؛ فينحل الإشكال. "د".(3/39)
ص -394-…توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور محال؛ فإذًا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة1 كافيا2.
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة:
أحدها:
أن قبول المحل؛ إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قال: "على الجملة"؛ ليصح الكلام، فتدخل مسألة الملك مثلا ونكاح الأجنبية المحلوف بطلاقها، أما على التفصيل؛ فإن اعتباره ينقض كثيرا من المسائل المحكوم فيها باطراد السبب، وهي ما لم توجد فيها مظنته في خصوص المحل مهما كان قابلا وجاء المانع من أمر خارج.(3/40)
لكن يبقى الكلام في تحديد المعنى الذي أفاده هذا الدليل الثالث، وبالتأمل فيه نجده دليلا ثانيا على عدم صحة اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وقد استدل عليه أولا بأنه يلزمه باطل، وهو كون المسائل الشرعية المذكورة في قصر وفطر الملك وإبدال الدرهم بالدرهم باطلة مع أنها متفق عليها، ثم استدل عليه هنا بأمر عقلي، وهو أن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور باطل، فما أدى إليه -وهو اعتبار وجودها في المحل- باطل؛ فلا بد من اعتبار مظنة قبول المحل إجمالا، وعليه؛ فهو وإن كان دليلا ثالثا على أصول الموضوع، وهو أن الاعتبار بقبول المحل ولو منع من الحكمة أمر خارج، إلا أنه يشترك مع الدليل الثاني في الفرض الذي بنيا عليه، وهو اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وهذا الفرض كان أحد فرضين أدرجهما تحت قوله: "والدليل الثاني"؛ فحصل بهذا الصنيع شيء من الغموض في وضع هذا الدليل الثالث وتوجهه، فما جعله الدليل الثاني في الحقيقة تحته الدليلان الثاني والثالث، بقي شيء آخر وهو قوله: "وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة"، هذا غير ظاهر؛ فإن المفروض هو أن اعتبار السبب بعد وجود الحكمة لا وجوده، ولا يحصل الدور إلا بناء على ما فرضه من توقف كل من الوجودين على الآخر؛ لأن توقف وجود الحكمة على وقوع السبب ثم توقف اعتبار السبب ومشروعيته على وجود الحكمة لا دور فيه, فلا يتم هذا الدليل إذا لوحظ فيه مسألة الدور، ولكنه يمكن تمامه بما قاله قبل الكلام في مقدمات الدور. "د".
2 وقعت العبارة في الأصل هكذا: "اعتبار أن مظنة... كافٍ".(3/41)
ص -395-…خاصة1، وإن فرض غير قابل في الخارج، فما لا يقبل2 لا يشرع التسبب فيه، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج، فما لا توجد حكمته في الخارج؛ لا يشرع أصلا، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا، فإن كان الأول؛ فهو غير صحيح لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه مصلحة ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج؛ فقد ساوى ما لا يقبل3 المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد الشرعي، وإذا استويا؛ امتنعا أو جازا، لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه؛ فلا بد من القول بمنعهما مطلقا، وهو المطلوب.
والثاني:
أنا لو أعملنا السبب هنا، [مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به؛ لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم، لأن التسبب هنا يصير]4 عبثا، والعبث لا يشرع، بناء على القول بالمصالح؛ فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول، وهذا هو [معنى]4 كلام القرافي5.
والثالث:
أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار6 وجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كنكاح المحلوف بطلاقها مثلا؛ فإن فرض حصول الحكمة فيها عقلا مع وجود هذا التعليق غير محال. "د".
2 أي: ذهنا، وأما ما يقبل ولو ذهنا فقط؛ فيشرع فيه التسبب. "د".
3 وذلك كنكاح القرابة المحرمة المتفق على منعه. "د".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
5 أي في قوله: "وكان يلزم ألا يصح العقد ألبتة". "د". قلت: انظر "الفروق" "3/ 171".
6 أي: فلا بد من وجود مظنة الحكمة تفصيلا، وهي موجودة كذلك في مسألة الملك، والمشقات متفاوتة في الأشخاص والأحوال، حتى الملك المترفه يحصل له مشقة في السفر تناسبه، وإذا فرض أنه لم يحصل له مشقة؛ فلا يضر لأن الضابط هو المظنة وهي متحققة فيه، دون مسائل النكاح والعتق المتقدمة؛ لأنه لا يوجد فيها مظنة الحكمة مطلقا، بل مقطوع فيها بعدم ترتب الحكمة عليها. "د".(3/42)
ص -396-…الحكمة، فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالب؛ غير أن المشقة تختلف اختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة؛ ضبطا للقوانين الشرعية، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف؛ لأنه غير منضبط في نفسه، إلى أشياء من ذلك كثيرة.
وأما إبدال الدرهم بمثله؛ فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا، فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما، ولو فرض التماثل من كل وجه؛ فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب1؛ فأطلق الجواز لذلك، [وإذا كان ذلك]6 كذلك؛ فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا.
فصل:
وقد حصل في ضمن2 هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق.
وأما مسألة النكاح للبر في اليمين وما ذكر معها3؛ فإنه موضع فيه احتمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البريء من الشبهة وغير البريء؛ أي: فإن لم يوجد اختلاف في ذات الدينارين وأوصافهما اللازمة؛ فقد يوجد بأوصاف أخرى لاحقة لهما كما أشار إليه. "د".
2 بناء على القول بإجراء السبب على أصله ولو لم توجد الحكمة بالفعل متى كان المحل قابلا في ذاته وكان المانع خارجا عنه. "د".(3/43)
3 هذه المسائل أيسر كثيرا من مسألة التعليق؛ لأن التعليق لا يتأتى فيه تحقق الحكمة بوجه، أما هذه؛ فإنها لا مانع من تحقق الحكمة فيها ووجود منافع النكاح ومقاصده الشرعية، غايته أنه لابسها قصد قضاء اللذة ولو لم ينو التمسك بها، أو حل اليمين، يعني: والغلب أنه لا يتمسك بها أو قضاء شهوته مدة إقامته حتى إذا سافر فارق، وهكذا من المقاصد التي لا تناسب الزوجية أو لا تتفق مع المعتبر فيها، وكلها لا تنافي تحقق المقاصد المشروعة بالنكاح؛ فصار الفرق أن كلا من التعليق وهذه المسائل المحل فيها قابل لحصول الحكمة، لكن يوجد في الأولى مانع من الحصول وفي هذه المسائل لا مانع منه. "د".
قلت: وانظر في هذه المسائل "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 534، 535، و29/ 13-21".(3/44)
ص -397-…للاختلاف، وإن كان وجه الصحة هو الأقوى، فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله في محله القابل له -كما تقدم بسطه- لم يمنع، ومن نظر إلى أنه -لما كان له نية المفارقة أو كان مظنة لذلك- أشبه النكاح المؤقت؛ لم يجز، هذا وإن كان ابن القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا؛ فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان، وهذا كاف فيما فيه من الشبهة؛ فالموضع مجال نظر المجتهدين.
وإذا نظرنا إلى مذهب مالك؛ وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود، لكن على أن يرفع حكم اليمين، وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذي تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده؛ إلا أنه يتضمن رفع اليمين، وهذا غير قادح، وكذلك النكاح لقضاء الوَطَر مقصود أيضا؛ لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة1، ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذي جعل الشارع له، وقد يبدو له فلا يفارق، وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة؛ فإنه في نكاح المتعة بانٍ على شرط التوقيت.
وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح، إنما قصد به تحليلها للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره، لا بحقيقته، فلم يتضمن غرضا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الشرع".(3/45)
ص -398-…من أغراضه التي شرع لها.
وأيضا، فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا؛ فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره.
وأيضا؛ فالنص1 بمنعه عتيد2، فيوقف عنده، على أنه لو لم يكن في نكاح المحلل تراوض3 ولا شرط، وكان الزوج هو القاصد لذلك؛ فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد للاستمتاع على الجملة، ثم الطلاق؛ فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة، ويتضمن4 ذلك العود إلى الأول إن اتفق، على قول، ولا يتضمنه على قول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "لعن الله المحلل والمحلل له"، ولعل هذا هو الوجه الوجيه، وإلا؛ فالتعليق أشد منه بعدا عن صحة التسبب؛ لأنه لا يترتب عليه مقصد من مقاصد النكاح، بخلاف نكاح التحليل الذي لا بد فيه من الوطء، وقد يبدو له؛ فلا يفارق كما حصل كثيرا، فيكون كقضاء الوطر، ولكن ورد النص فيه بخصوصه لمعنى خاص ومفسدة أخلاقية رأى الشارع دفعها بتحريمه، وأنت إذا تأملت قوله بعد: "إذا لم يكن تراوض ولا شرط وكان الزوج هو القاصد؛ فإن بعض العلماء يصحح النكاح اعتبارا بأنه... إلخ" تعلم وجه ما قلنا، وأن مسألة المنع لا ترجع إلى عدم وجود منافع النكاح الشرعية؛ لأنها حاصلة على الجملة، ولا إلى القصد؛ لأنه مع حصول القصد من الزوج وهو صاحب الشأن صح النكاح، فالكلام في هذا التراوض المهين للزوج والزوجة والمحلل المؤدي إلى انحطاط الأخلاق وقبول الجميع ما يشبه الزنى بمن تعتبر زوجة للأول وحرما له حتى في هذا الوقت نفسه في نظرهم، وهذا أمر يصح أن يرجع فيه للوجدان ليعلم مقدار ما يصيب الكرامة وعزة النفس من جزائه. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث: "لعن الله المحلل..." "ص429".
2 أي: حاضر مهيأ. انظر: "لسان العرب" "ع ت د".
3 أي: كلام بين الطرفين للاتفاق. انظر: "لسان العرب" "ر و ض".(3/46)
4 أي: يتضمن نكاح التحليل -مع مقاصد النكاح الأصلية- قصده أن تعود إلى الزوج الأول إن كان هناك اتفاق وشرط، وقال بعضهم: بل لا يتضمن حتى مع الشرط، وإنما هو أمر تبعي وليس مقصودا أصليا؛ فلا يمنع صحة العقد. "د".(3/47)
ص -399-…وذلك بحكم التبعية، وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة؛ فلا يخلو من وجه من النظر.
ومما يدل على أن يحل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه؛ أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة؛ من صلاة، أو حج، أو عمرة، أو صيام، أو ما أشبه ذلك من العبادات؛ أنه يفعله ويصح منه قربة، وهذا مثله، فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في أصل العقد؛ لكان قادحا في أصل العبادة؛ لأن شرط العبادة التوجه بها إلى المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه، فكما تصح1 العبادة المنذورة أو المحلوف عليها وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين -وإلا لم يبر فيه- فكذلك هنا، بل أولى، وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها؛ فالعقد ببيعها صحيح وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين، وكذلك إن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك.
وهذا كله راجع إلى أصلين:
أحدهما: أن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة في كل فرد من أفراد محالها، وإنما يعتبر أن يكون مظنة2 لها خاصة.
والثاني: أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع، ولا يشترط ظهور الموافقة، وكلا الأصلين سيأتي إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فهكذا تقع".
2 أي على الجملة، وإلا؛ فنكاح حل اليمين مظنة ألا يترتب عليه شيء من مقاصد النكاح المذكورة فيما سبق وأمثالها، وإن كان يترتب، وقلنا "على الجملة"؛ أي: باعتبار أنه مطلق نكاح أجنبية مستوف للأركان والشروط، وقوله: "خاصة" توكيد للحصر المستفاد من إنما. "د".(3/48)
ص -400-…فصل:
والقسم الثالث1 من القسم الأول:
هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود [له]2، وهذا موضع نظر، وهو محل إشكال واشتباه، وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض, كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره؛ فعلى الأول3 يكون التسبب غير مشروع، وعلى الثاني يكون مشروعا، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع؛ كان الإقدام على التسبب غير مشروع.
لا يقال: إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة؛ فلِم لا يتسبب به؟
لأنا نقول: إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شيء معين مفروض معلوم، لا مطلقا، وإنما كان يصح التسبب [به] مطلقا إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم، وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا، بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها، ولم تشرع لأمور، وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها؛ كالنكاح؛ فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه، ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه، فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة؛ كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم؛ فلا4 تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم.
ولا يقال: الأصل الجواز.
لأن ذلك ليس على الإطلاق؛ فالأصل في الأبضاع المنع، إلا بأسباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يظهر أن هذا الموضع يدخل تحت قاعدة الأمور المشتبهات. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "مقصود للشارع".
3 في "د": "الأولى".
4 في "ط": "فلم".(3/49)
ص -401-…مشروعة، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا، فإذا ثبت هذا وتبين مسبب1 لا ندري: أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده؟ وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه، ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع2 من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع، وهي مذكورة في كتاب "المقاصد" [والله المستعان].
المسألة الرابعة عشرة:
كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا، كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا؛ كالقتل يترتب عليه القصاص، والدية في مال الجاني أو العاقلة، وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا3، والكفارة، وكذلك [الإتلاف و] التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة، والسرقة يترتب عليها الضمان والقطع، وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف، المسببة لهذه الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف، المسببة لهذه الأسباب4 في خطاب الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "تسبب".
2 في "ط": "للشارع".
3 لم يرد في قتل الحر بالعبد وعدم قتله نص صريح صحيح، وإذا قطعنا النظر عن الأحاديث الصريحة المروية في نفي القصاص وإثباته حيث لم تبلغ مبلغ الصحة الكافية في تقرير الأحكام؛ بقي بيد الجمهور مفهوم الخطاب في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وفي يد الإمام النخعي وتابعيه بعض أدلة عامة كحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم". "خ".
4 كذا في النسخ المطبوعة وفي الأصل، وفي هامشه: "لعله تصحيف والصواب الأشياء".(3/50)
ص -402-…وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة1 من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها؛ كالقتل2 يترتب عليه ميراث الورثة، وإنفاذ الوصايا، وعتق المدبرين، وحرية أمهات الأولاد و[كذلك]3 الأولاد4، وكذلك الإتلاف بالتعدي يترتب عليه ملك المتعدي للمتلف، تبعا لتضمينه القيمة، والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير في يديه، على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه، وما أشبه ذلك.
فأما الضرب الأول؛ فالعاقل لا يقصد التسبب إليه؛ لأنه عين مفسدة عليه، لا مصلحة فيها، وإنما الذي من شأنه أن يقصد.
الضرب الثاني: وهو إذا قصد؛ فالقصد إليه على وجهين:
أحدهما:
أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك؛ كالتشفي5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يترتب عليه أمر معتد به شرعا له أحكامه ومستتبعاته، وإن كان السبب الممنوع لم يقصد به ذلك في نظر الشارع، كما تقدم في النكاح، يترتب عليه الطلاق وإن لم يكن في مقاصده؛ لأنه لا طلاق إلا في ملك عصمة، إلا أن هذا يمكن أن يقال في كل ما تضمنته الأسباب الممنوعة لأنها غير مقصودة بالتسبب، بخلاف المشروعة؛ فبعض ما ينبني عليها مقصود بالتسبب. "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: "قوله: "ليس ذلك سببا فيها، كالقتل... إلخ" يريد: إن الميراث وما معه مسبب عن الموت المسبب عن القتل".
3 سقطت من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، "وكذلك الأولاد" ليست في "ط".
4 كتب الناسخ في هامش الأصل: "إن صحت الرواية بهذا؛ فالمراد أولاد أمهات الأولاد من غيره إذا خلقوا بعد صيرورتها أم ولد".(3/51)
5 هل يعتبر شفاء النفس من غيظها بقتل من غاظها مصلحة؟ وكذا مطلق الانتفاع بالمسروق والمغصوب بقطع النظر عما يترتب عليهما من الملك، الظاهر أن ذلك كله لا يسمى مصلحة، أعني أمرا معتدا به شرعا، له أحكام؛ كالملك فهو مصلحة لها توابع كثيرة، وعليه؛ فلا يظهر وجه لإدراج هذا في الضرب الثاني الذي يترتب عليه مصلحة، وكان يجمل به أن يجعله أمرا ثالثا غير الضربين المذكورين، يرشدك إلى أن التشفي وما معه ليس مصلحة بالمعنى المقصود، قوله: "فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام المصلحية" يعني كملك المغصوب، فيؤخذ منه أن التشفي ليس حكما مصلحيا. "د".(3/52)
ص -403-…في القتل، والانتفاع المطلق في المغصوب والمسروق، فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية؛ لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت مسبباتها؛ إلا من باب سد الذرائع، كما في حرمان القاتل وإن كان لم يقصد إلا التشفي، أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه1، ولكن2 قالوا: إذا تغير المغصوب في يد الغاصب أو أتلفه؛ فإن من أحكام [ذلك] التغير أنه إن كان كثيرا؛ فصاحبه غير مخير فيه، ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة، على كراهية عند بعض العلماء، وعلى غير كراهية3 عند آخرين.
وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب هذه الأحكام؛ لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما، وإنما ناقضة في إيقاع السبب المنهي عنه، والقصد إلى السبب بعينه ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذي هو ناشئ عن الضمان أو القيمة أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب جمهور الفقهاء واقفين على عموم قوله, عليه الصلاة والسلام: "ليس لقاتلٍ ميراثٌ"، وفهم الإمام مالك أن العلة في حرمان القاتل من الميراث هي المعاملة بنقيض قصده حتى لا يتخذ الناس القتل ذريعة لاستعجال الإرث قبل أوانه؛ فخص الحديث بالمتعمد للقتل، وقضى بصحة إرث المخطئ على عادته في رعاية المصالح، وحمل الأحاديث على ما يطابقها. "خ".
2 بالتأمل يعرف الفرق بين القتل والغصب، حيث أجروا قاعدة سد الذرائع في الأول دون الثاني؛ فمرتبة النفس في حفظ الضروريات غير مرتبة المال، وأيضا في الغصب لا يضيع على المغصوب منه شيء؛ فيمكن تدارك حفظ ماله بالقيمة، ولا يتأتى ذلك في النفس بعد القتل، ويمكن لكل قاتل ادعاء قصد التشفي ولو كان قاصدا للتوابع كالميراث؛ لأنه أمر مستور عنا، فلو أخذ بهذا؛ لطاحت نفوس وهدرت دماء وراء ستار قصد التشفي فقط. "د".
3 في الأصل: "كراهة".(3/53)
ص -404-…مجموعهما، وبينهما فرق، وذلك أن الغصب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره؛ فتجب القيمة بسبب التغير الناشئ عن الغصب، وحين وجبت القيمة وتعينت؛ صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له1، حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا بإطلاق؛ فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه، لا بسبب الغصب؛ فانفك القصدان، فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث، وقصد الغاصب الانتفاع غير قصده لضمان القيمة وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه، وإذا كان كذلك؛ جرى الحكم التابع الذي لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه، وترتب نقيض مقصوده2 فيما قصد مخالفته، وذلك عقابه، وأخذ المغصوب من يده أو قيمته، وهذا ظاهر؛ إلا ما سدت فيه الذريعة.
والثاني:
أن يقصد توابع السبب، وهي التي تعود عليه بالمصلحة ضمنا؛ كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث، والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به، والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقصد الغاصب بالغصب إلى مجرد الانتفاع بقطع النظر عن الملك غير القصد من الغاصب بالغصب إلى الملك، وحيث إن الأخير لم يحصل منه؛ فلا يقال: كيف يملك بسبب الغصب وقد ناقض قصد الشارع حيث لم يجعل الغصب سببا في الملك؟ فإنه إنما ناقض في فعل السبب الممنوع، وسبب الملك هنا ليس هو الغصب الممنوع، بل السبب التغير والضمان وإن ترتبا عليه، فلم ينبن الملك على سبب ناقض فيه قصد الشارع، ويبقى الكلام فيما لو قصد بالغصب التملك ولم يغيره بنفسه، بل حصل فيه موجب فوت المغصوب بدون إرادته، هل يكون حكمه صحة تملكه بالقيمة أم لا؟ لم يفرقوا في الفروع بين القصدين متى حصل موجب الفوت، كما أنهم لم يفرقوا في قتل العمد بين القصدين التشفي وغيره في حرمانه من توابع السبب التي تعود على القاتل بالمصلحة. "د".
2 وهو مطلق الانتفاع بلا مقابل. "د".(3/54)
ص -405-…ويتملكه، وأشباه ذلك؛ فهذا التسبب باطل؛ لأن الشارع لم يضع1 تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة؛ فليست إذًا بمشروعة في ذلك التسبب، ولكن يبقى النظر: هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا2، حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب، فتنشأ من هنا قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود"، ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض، وهو مقتضى3 الحديث في حرمان القاتل الميراث، ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة4، وكذلك ميراث المبتوتة في المرض, أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة، إلى كثير من هذا، أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة، ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد؛ فيستوي في الحكم مع الأول، هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر، ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين؛ فلنقبض عنان الكلام فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "يمنع".
2 فقد قصد بالسبب بعينه إلى المسبب بعينه الذي لم يجعله الشارع من أسبابه؛ فليس الغصب والسرقة مثلا من أسباب الملك في نظر الشارع، ولكنه قصد إلى ذلك؛ فيكون قصده بعينه مناقضا لقصد الشارع بعينه. "د".
3 وإن كان الحديث لم يفرق في القصد، بل قال: "القاتل لا يرث"، فإذا كان قاصدا الميراث بالقتل؛ فظاهر، وإن لم يظهر قصده؛ عومل بذلك أيضا سدا للذريعة، ولو قال: "مقتضى الفقه في الحديثين"؛ كان أحسن. "د".
قلت: وسيأتي تخريج حديث: "القاتل لا يرث" في "2/ 521"، وهو صحيح بشواهده كما فصلناه هناك، والله الهادي.
4 سيأتي لفظه وتخريجه "ص424".(3/55)
ص -406-…النوع الثاني في الشروط:
والنظر فيه في مسائل:
المسألة الأولى:
إن المراد1 بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط، أو فيما اقتضاه الحكم فيه2؛ كما نقول: إن الحول أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشرط من عدمه انعدام…وليس في وجوده إلزام
"منور الأفهام-ماء".
2 يؤخذ من شراح ابن الحاجب أنه كما أن المانع نوعان: مانع للسبب، ومانع للحكم؛ فكذا الشرط شرط للسبب وشرط للحكم، وإن الشرط مطلقا في الحقيقة يرجع إلى أنه مانع، لكن بجهة عدمه، والمسمى مانعا منعه بجهة وجوده، وإن شرط السبب يشتمل عدمه على أمر ينافي حكمة السبب، مثاله البيع سبب في ثبوت الملك، وحكمته حل الانتفاع، وشرطه القدرة على تسليم المبيع، وعدم القدرة يقتضي العجز عن الانتفاع، وهو يخل بحكمة حل الانتفاع، وشرط الحكم اختلفت عبارتهم فيه: فمن قائل: إن عدمه يقتضي حكمه تنافي حكمة الحكم، وعند تطبيقه يتعسر وجود حكمتين مطردتين متنافيتين، فلذلك قال غيره: شرط الحكم ما اشتمل عدمه على حكمة تنافي نفس الحكم، ومثلوه بالصلاة؛ فهي سبب الحكم وهو ترتب الثواب وعدم العقاب، وحكمة الصلاة التوجه لجناب القدس، وشرطها الطهارة؛ فعدم الطهارة يشتمل على أمر هو مخالفة الشارع في جعله الطهارة شرطا للثواب، وهذا ينافي الحكم وهو حصول الثواب وعدم العقاب، وإن كانت حكمة الصلاة -وهي مطلق التوجه لجناب القدس- موجودة فيما هو مسمى الصلاة ولو دون الطهارة.
وعليه؛ فشرط السبب عدمه يخل بحكمة السبب؛ فيخل بتسبب الحكم عنه أيضا، وشرط الحكم يخل بالحكم وإن كانت حكمة السبب موجودة؛ فلنعد إلى بيان كلام المؤلف ومقارنته بما قالوه:(3/56)
يقول: إن الشرط "ما كان مكملا للمشروط فيما اقتضاه المشروط"؛ أي: فيما ترتب على المشروط من الحكمة، أي: وإذا كان مكملا له في حكمته؛ فعدم الشرط مخل بحكمته، ولا يخفى أن هذا هو شرط السبب. ثم قال: "أو فيما اقتضاه الحكم فيه"؛ أي: يكون الشرط مكملا للمشروط =(3/57)
ص -407-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لا في حكمته هو بل في الحكمة التي اقتضاها الحكم الحاصل بسبب هذا المشروط، وإذا كان كذلك؛ فعدمه يقتضي حكمة تخل بحكمة الحكم، ولا يخفى أن هذا هو شرط الحكم على الرأي الأول الذي اعترض بأنه يتعسر تطبيقه على كل شرط للحكم؛ لاستدعائه حكمتين متنافيتين:
إحداهما في عدم الشرط، والأخرى في الحكم، وهو ما لم يذكروا له مثالا فضلا عن اطراده.
وقد علمت مثاله على الرأي الثاني، وهو يريد بإدماج النوعين في تعريف واحد جعل الشرط نوعا واحدا كما سيأتي له ذلك في المانع أيضا، ويجعل ذلك اصطلاحه، أما أمثلته؛ فالمثال الأول لشرط السبب لأن ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، وحكمته التي اقتضاها وصف الغنى، وشرط هذا السبب المكمل له في هذه الحكمة الحول وبعبارة أخرى إمكان النماء؛ لأن استقرار حكم الملك إنما يكون بالتمكن من الانتفاع به في وجود المصالح؛ فقدر له حول جعل مناطا لهذا التمكن الذي يظهر به وجه كونه غنيا، فعدم الشرط وهو التمكن ينافي حكمة السبب وهي الغنى، وعليه؛ فمتى اختلت حكمة السبب لعدم الشرط؛ فلا يترتب الحكم أيضا، فقوله: "أو لحكمة الغنى" تنويع في العبارة، أي: إن ما يقتضيه الملك هو الحكمة التي هي وصف الغنى، وكذا يقال في أمثاله الآتية بعد.(3/58)
ومثاله الثاني لشرط الحكم؛ فالزنى سبب لحكم هو الرجم، وحكمته حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني، أي: حكمة ترتب الحكم عليه وشرعيته عنده حفظ النسل، وشرطه الإحصان، فإذا عدم الإحصان؛ كان معذورا، فعدم الحكم وهو الرجم مع بقاء حكمة السبب وهي حفظ النسل؛ لأن حفظ النسل يحصل برجم المحصن وغير المحصن، ولا يخفى عليك أنه لا يظهر في مثاله هذا تطبيقه على ما جرى عليه من أن شرط الحكم مكمل لحكمة الحكم التي اقتضاها؛ لأنه لا يوجد فيه حكمتان متنافيتان بين عدم الشرط والحكم، أما على الرأي الثاني؛ فظاهر كما صورناه.
ومثاله الثالث من شرط السبب؛ فالقتل العمد العدوان سبب في القصاص، وحكمته المترتبة من شرعية الحكم عنده الزجر واستتباب الأمن، وشرطه التكافؤ بحيث لا يقتل الأعلى بالأدنى، فإذا عدم الشرط وهو التكافؤ؛ اختلت حكمة السبب وهي الزجر، واستتباب الأمن؛ لأنه يترتب على قتل الأعلى بالأدنى مفسدة، ونزاع وهرج؛ لأنه لا تقبله النفوس، فعدم الشرط مخل بحكمة السبب؛ فلا حكم أيضا.
ومثاله الرابع من شرط السبب أيضا؛ فالصلاة سبب للثواب، وحكمتها الانتصاب للمناجاة =(3/59)
ص -408-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالخضوع والأدب، والطهارة شرطها، وعدم الطهارة ينافي حكمة الخضوع والأدب؛ لا يترتب الحكم وهو الثواب.
وقوله: "سواء علينا.. إلخ" يشير به إلى ما قالوه في تقسم الحكم الوضعي إلى ما جعله الشارع علة وما جعله سببا وما جعله علامة وما جعله ركنا... إلخ، كما جاء في "تحرير الكمال"، وشرحه أن الذي وضعه الشارع لحكم فكان ذلك الحكم موقوفا عليه، إن كانت المناسبة ظاهرة بين ما وضع وبين الحكم المشروع لذلك الموضوع، يعني بحيث تتلقاه العقول السليمة بالقبول والتسليم بأن هذا يترتب عليه عند العقل هذا الحكم؛ فيسمى وضع العلة كالقتل العمد العدوان الموجب لانتشار العدوان، وجعله الشارع علة للقصاص لإبطال انتشار القتل المذكور؛ فالعقول السليمة تقبل ترتب هذا الحكم على هذه العلة؛ لأن ملاءمته ظاهرة، وأما إن كانت المناسبة غير ظاهرة إلا بوسائط، وفي الجملة بحيث يقال: إن هذا الموقوف عليه يفضي إلى الحكم في الجملة؛ فيسمى وضع السبب كملك النصاب، فإنه يفضي إلى الغنى في الجملة، وهو يفضي إلى طلب الزكاة، وإن كان جعله الشارع دلالة على الحكم وليس فيه مناسبة ظاهرة ولا إفضاء؛ فهو وضع العلامة كالأوقات للصلاة... إلخ ما قال؛ فالمؤلف يقول: "إن المنظور إليه في الشرط إنما هو أن يكون مكملا للمشروط؛ سواء أكان الشرط وصفا لما يسمونه سببا يعني كالمثال الثاني، وهو ملك النصاب؛ فالشرط وهو التمكن من النماء وصف له؛ فتقول: يشترط في النصاب أن يكون متمكنا من نمائه، وكما تقول: يشترط في الملك أن يكون تاما، أم كان الشرط وصفا لما يسمونه علة كما في شرط التكافؤ في القتل العمد، فتقول: يشترط في القتل العمد لترتب القصاص أن يحصل من مكافئ للمقتول، أم كان وصفا لما يسمى مسببا؛ كما تقول: يشترط في الملك المسبب من صيغة البيع كونه(3/60)
برضى المتعاقدين، أم كان وصفا لما يسمى معلولا؛ كما تقول: يشترط في القصاص المعلول للقتل العمد أن يكون من الحاكم أو جماعة المسلمين، أم وصفا لمحالها؛ كما تقول: يشترط في القتل الذي يوجب القصاص أن يصدر من عاقل؛ فهو وصف لمحل القتل الذي هو العلة، أم وصفا لمحل المسبب كما تقول: يشترط في ملك المبيع بالعقد أن يكون منتفعا به؛ فكونه منتفعا به قائم بالمبيع الذي تعلق به الملك، يعني: فالمدار على أن يكون الشرط مكملا للمشروط في حكمته أو حكمة الحكم الذي ترتب عليه، وهذا شامل لكل الشروط مهما نظرت إليها بكونها وصفا لأي شيء مما ذكروه من هذه الأنواع، كما أنه شامل أيضا للشروط التي هي أوصاف حقيقية كما =(3/61)
ص -409-…إمكان النماء مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى، والإحصان مكمل لوصف الزنى في اقتضائه للرجم، والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر، والطهارة والاستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الانتصاب للمناجاة والخضوع، وما أشبه ذلك، وسواء علينا أكان وصفا للسبب أو العلة، أو المسبب أو المعلول, أو لمحالها، أو لغي ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي؛ فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط، ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له، بحيث1 يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط، وإن لم ينعكس، كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا، ولا فائدة في التطويل هنا؛ فإنه تقرير اصطلاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تقول: يشترط في وجوب الصلاة العقل والبلوغ، أو اعتبارية كما تقول: يشترط لصحتها طهارة الحدث ولصحة الشهادة الحرية؛ فالأولان وصفان حقيقيان والأخيران اعتباريان ثبوتهما بمجرد اعتبار الشارع.
وبهذا البيان تعلم أنه لم يخالف اصطلاحهم إلا في العبارة، وجعل النوعين للشرط مندرجين في عبارة واحدة، مع أنك ترى فيها النوعين صريحين، ولكنه يريد أن يجعل الشرط شرطا للسبب مطلقا؛ إلا أنه تارة يكون مكملا لحكمته هو، أو مكملا لحكمة الحكم المترتب عليه والمآل واحد، وسيأتي له في المانع جعله قسما واحدا وهو مانع السبب فقط كما هو صريح تعريفه له وإدراجه الأمثلة التي ذكروها للنوعين تحته، وسيأتي الكلام معه فيه.(3/62)
لا يقال: إنه لم يذكر في الشرط أن عدمه ينافي أو لا ينافي، وإنما اعتبر كونه مكملا، وهم قد اعتبروا فيه المنافاة؛ فاصطلاحه بعيد عن اصطلاحهم، لنا نقول أولا: إن عدم المكمل ينافي كمال المكمل؛ سواء أكان سببا، أم حكما؛ فهو آيل إلى كلامهم، وثانيا، فإن الشرط والمانع من باب واحد كلاهما يعد مانعا، ولا فرق إلا أن هذا مانع بجهة عدمه، وقد صرح في المانع بالتنافي بين مقتضى المانع وعلة الحكمة كما يأتي؛ فلا معنى لاعتبار التنافي في أحد المانعين دون الآخر، وبالجملة؛ فقد أراد أن يخالف الاصطلاح كما يقول، وأوجز حتى صار الكلام ألغازا؛ فاضطرنا إلى هذا الإطناب، والله أعلم. "د".
1 في "ط": "وبحيث".(3/63)
ص -410-…المسألة الثانية:
وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب في الشرط؛ فليذكر اصطلاحه في السبب والعلة والمانع.
فأما السبب؛ فالمراد به: ما وضع1 شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما كان حصول النصاب سببا في وجوب الزكاة، والزوال سببا في وجوب الصلاة، والسرقة سببا في وجوب القطع، والعقود أسبابا في إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك، وما أشبه ذلك.
وأما العلة؛ فالمراد بها: الحكم والمصالح التي تعلقت2 بها الأوامر أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وصف ظاهر منضبط بخلاف العلة؛ فلا يلزم فيها الوصفان، كما سيقول, وقوله: "لحكم"؛ أي: وضعي أو تكليفي؛ فإباحة الانتفاع حكم تكليفي، وانتقال الأملاك حكم وضعي. "د".
قلت: انظر السبب ومباحثه عند الأصوليين في "شرح الكوكب المنير" "1/ 359، 445"، و"التمهيد" للكلوذاني "1/ 68"، و"المستصفى" "1/ 94"، و"جمع الجوامع" "1/ 94"، و"أصول السرخسي" "2/ 301"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 102"، و"شرح تنقيح الفصول" "81"، و"مختصر المنتهى" "2/ 7- مع العضد والحواشي"، و"نشر البنود" "1/ 42"، و"إرشاد الفحول" "6، 7".
2 أي: شرعت عندها، وظاهر كلامه قصرها على ما تعلق به حكم تكليفي، مع أن الواقع أن العلة أعم، فدفع حاجة المتعاقدين في البيوع مثلا حكمة تعلق بها انتقال الملك. "د".
قلت: انظر في مناقشة تعريف المصنف وما يؤخذ عليه: "مباحث العلة في القياس" "ص92"، وانظر عن العلة: "نبراس العقول" "215 وما بعدها"، و"المسودة" "385"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 15"، و"المستصفى" "2/ 230"، و"الإحكام" "3/ 276" للآمدي، و"اللمع" "58"، و"أصول السرخسي" "2/ 174"، و"تيسير التحرير" "3/ 302"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 231"، و"شرح العضد" "2/ 209"، و"الإبهاج" "3/ 28"، و"فواتح الرحموت" "3/ 249"، و"إرشاد الفحول" "207".(3/64)
ص -411-…الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي؛ فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر، والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة؛ فعلى الجملة؛ العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنتها1، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة، وكذلك نقول في قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"2؛ فالغضب سبب، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة3، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأما المانع؛ فهو السبب المقتضي لعلة تنافي علة ما منع4؛ لأنه إنما يطلق بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه، فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة؛ ارتفع ذلك الحكم، وبطلت تلك العلة، لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذي نسب له المانع5؛ فيكون رفعا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما المظنة؛ فهي التي جعلها الشارع سببا للحكم بحيث ينضبط به؛ كالسفر مثلا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7158"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقية، باب كراهية قضاء القاضي وهو غضبان، 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237-238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة, رضي الله عنه.
3 ولما كان التشويش وصفا غير منضبط، وكان الغضب مظنته، وكان وصفا ظاهرا؛ ضبط به وجعل سببا. "د".
4 جرى على أن المانع مطلقا يقتضي علة تنافي علة السبب حتى فيما يسميه الأصوليون مانع الحكم؛ كما تراه في تعريفه وسائر بيانه، وهو اصطلاح له كما صدر به المسألة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن إذا كان مبنيا على أمر معقول، وستأتي مناقشته في هذا الأمر. "د".(3/65)
5 المعروف في الأصول أن المانع ينقسم إلى مانع الحكم، وهو ما يستلزم حكمة تقتضي بقاء نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب؛ كالأبوة مع القتل العمد العدوان، وإلى مانع السبب وهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب كالدين مع ملك النصاب. "خ".(3/66)
ص -412-…لحكمه، فإنه إن لم يكن كذلك؛ كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين، وهذا بابه كتاب التعارض والترجيح، فإذا قلنا: الدين مانع من الزكاة؛ فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدي به دينه، وقد تعين فيما بيده من النصاب؛ فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب، وهي الغنى الذي هو علة وجوب الزكاة؛ فسقطت1، وهكذا نقول في الأبوة المانعة من القصاص؛ فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل2 العمد العدوان3، وما أشبه ذلك مما هو كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا أحد مدارك جمهور أهل العلم القائلين بعدم وجوب الزكاة على من عليه دين يستغرق النصاب أو ينقصه، وذهب الشافعية إلى وجوبها عليه نظرا إلى أن الزكاة حق متعلق بعين المال؛ فتقدم على الدين الذي هو متعلق بالذمة، وهذا مذهب المالكية أيضا في زكاة الحرث والماشية، وأما زكاة العين؛ فوافقوا فيها الجمهور بناء على أن تفويضها إلى أمانة المزكي جعلها كالدين المتعلق بالذمة، وترجح جانب صاحب الدين لتقدم حقه على حق مستحق الزكاة؛ ولأنه حق لمعين؛ فيقدم على الحق الثابت لغير معين. "خ". وفي "ط": "علة في وجوب...".(3/67)
2 جرى في المانع على أنه لا بد فيه من علة تنافي علة السبب، وجعله نوعا واحدا، وأدرج ما يسمونه مانع الحكم في مانع السبب، ومثل لمانع السبب بالمثالين اللذين جعلوا الأول منهما مثالا لمانع السبب, والثاني مثالا لمانع الحكم، وظاهر أن مثال الأبوة الذي جعلوه مثالا لمانع الحكم فيه حكمة المانع -وهي: كون الأب سببا لوجود الابن- هذه لا تخل بتحقق حكمة السبب وهي الزجر؛ إذ الزجر والانكفاف وضرورة استتباب الأمن لا تزال قائمة إذا اقتص من الوالد فلم يخل بها حكمة الأبوة حتى يكون في هذا ما يخل بحكمة السبب كما يريد، بل فيه تعارض سببين؛ فكان مقتضى تقريره في المانع ألا تعد الأبوة مانعا؛ فأنت ترى أن قصره المانع على ما نافت حكمته حكمة السبب أخرج هذا النوع من المانع، وصير تعريف المانع قاصرا، وعليه؛ فاصطلاحه مبني على اطراد أن كل مانع فيه علة تنافي علة السبب؛ فعليه تحقيق ذلك، وما لم يتحقق لا يكون هناك وجه للعدول عن كلام الأصوليين في جعلهم المانع نوعين. "د".
3 هذه العلة هي كون الأب سببا في وجوب الابن؛ فلا يليق أن يكون الابن سببا في عدمه، قال أبو بكر بن العربي: حضرت فخر الإسلام ببغداد يناظر القاضي أبا ثعلب الواسطي؛ فقال القاضي أبو ثعلب: لا يقتل الأب بابنه لأنه سبب وجوده؛ فلا يكون سبب عدمه. فقال فخر الإسلام: هذا يبطل بما إذا زنى بابنته؛ فإنه سبب وجودها ويقتل بزناه بها. وفي الزنى مفسدة أعظم وأعم من مفسدة القتل؛ فيصح أن يكون لها تأثير في اختلاف حكمهما، ومن أدلة المسألة حديث ابن عباس: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد" "خ".(3/68)
ص -413-…المسألة الثالثة:
الشروط على ثلاثة أقسام:
أحدها:
العقلية؛ كالحياة في العلم، والفهم في التكليف.
والثاني:
العادية؛ كملاصقة النار الجسم المحرق, في الإحراق، ومقابلة الرائي للمرئي وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار، وأشباه ذلك.
والثالث:
الشرعية؛ كالطهارة في الصلاة، والحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وهذا الثالث هو المقصود بالذكر، فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب الوضع أو خطاب التكليف، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار؛ فيدخل تحت القسم الثالث.
المسألة الرابعة:
افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف وليس بجزء، والمستند فيه الاستقراء في الشروط الشرعية؛ ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة1 حصول النصاب وهي الغنى فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الانتفاع به في وجوه المصالح؛ فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذي ظهر به وجه الغنى، والحنث في اليمين مكمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الحول مكمل لحكمة...".(3/69)
ص -414-…لمقتضاها؛ فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفي الإقدام عليها جناية ما على اسم الله، وإن اختلفوا في تقريرها؛ فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث فعند ذلك كمل مقتضى اليمين والزهوق1 أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب2 للقصاص أو الدية، ومكمل لتقرر حقوق الورثة في مال المريض مرضا مخوفا3، والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم، وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها.
وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف، والإيمان شرط في صحة العبادات والتقربات، فإن العقل إن لم يكن؛ فالتكليف محال عقلا أو سمعا، كتكليف العجماوات والجمادات؛ فكيف يقال: إنه مكمل؟ بل هو العمدة في صحة التكليف، وكذلك لا يصح أن يقال: إن الإيمان مكمل للعبادات؛ فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان، وكثير من هذا.
ويرتفع هذا الإشكال4 بأمرين:
أحدهما:
أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية5، وكلامنا في الشروط الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خروج أي روح. "ماء".
2 إن اعتبر الزهوق مكملا لحكمة المشروط وهو القتل؛ كان من النوع الأول للشرط، وإن كان مكملا لحكمة الزجر المترتبة على القصاص؛ كان من النوع الثاني. "د".
3 فمجرد المرض المذكور سبب في تقرر حقوقهم، ولكن شرطه الموت. "د".
4 أي: في العقل خاصة، أما الإيمان؛ فجوابه يأتي بعده بعدم التسليم بشرطيته. "د".
5 ولكنا قلنا: إذا اعتبرها الشرع من حيث تعلق بها حكم شرعي؛ صارت شرعية تدخل تحت قسم الشروط الشرعية، وتنالها أحكامها؛ إلا أن يقال: إن كلامنا في الشرعية الصرفة التي ليست في الأصل عادية ولا عقلية، ولكن هذا لا يتناسب مع اعتباره الزهوق شرطا، وقد سلمه. "د".(3/70)
ص -415-…والثاني:
أن العقل في الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف1 وهو الإنسان، لا في نفس التكليف، ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل، وأما الإيمان؛ فلا نسلم أنه شرط؛ لأن العبادات مبنية عليه, ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح؟ وهذا فرع الإيمان؛ فكيف يكون أصل الشيء وقاعدته التي ينبني عليها شرطا فيه؟ هذا غير معقول، ومن أطلق هنا لفظ الشرط؛ فعلى التوسع في العبارة.
وأيضا، فإن سلم في الإيمان أنه شرط؛ ففي المكلف لا في التكليف, ويكون شرط صحة عند بعض، وشرط وجوب عند بعض -فيما عدا التكليف بالإيمان- حسبما ذكره الأصوليون في مسألة خطاب الكفار بالفروع.
المسألة الخامسة:
الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط؛ فلا يصح أن يقع المسبب دونه، ويستوي في ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء؛ فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط، [كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط]2، وهذا من كلامهم ظاهر؛ فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه؛ لم يكن شرطا فيه، وقد فرض كذلك، هذا خلف.
وأيضا، لو صح ذلك؛ لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا، وذلك محال.
وأيضا؛ فإن الشرط من حيث هو [شرط]3 يقتضي أنه لا يقع المشروط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون في التعبير بشرط التكليف تساهل، والغرض هو ما ذكر. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.(3/71)
ص -416-…إلا عند حضوره, فلو جاز وقوعه دونه؛ لكان المشروط واقعا وغير واقع معا، وذلك محال، والأمر أوضح من الإطناب فيه.
ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليين أصل آخر، وعزي إلى مذهب مالك: أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط؛ فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا؟ قولان؛ اعتبارا باقتضاء السبب، أو بتخلف الشرط، فمن راعى السبب وهو مقتضٍ لمسببه؛ غلَّب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط، ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه؛ لم يراع حضور السبب بمجرده، إلا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه.
وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا1، ويمثلون ذلك بأمثلة، منها:
إن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة، ودوران الحول شرطه، ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف.
واليمين سبب في الكفارة، والحنث شرطها، ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين.
وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية، والزهوق شرط، ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب, ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا.
وفي المذهب: إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هي في ملكه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعرض القرافي في الثالث والثلاثين من "قواعده" [1/ 196] لهذا المبحث، وذكر أن الحكم الذي يتقدم على سببه وشرطه غير معتبر إجماعا، والذي يتأخر عن السبب ويتقدم عن الشرط يختلف العلماء في كثير من صوره؛ هل هو معتبر أو لا؟ ثم ضرب لذلك أمثلة وأهمها ما تصدى المصنف للجواب عنه في هذا التحرير. "خ".(3/72)
ص -417-…إن شاءت طلقت أو أبقت، فاستأذنها1 في التزويج فأذنت له، فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه، قال مالك: ليس لها ذلك؛ بناء على أنها قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك، وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج.
وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز، مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت؛ فالمرض هو السبب لتملكهم، والموت شرط؛ فينفذ إذنهم عند مالك -خلافا لأبي حنيفة والشافعي- وإن لم يقع الشرط، ومن الناس من قال بإنفاذ إذنهم في الصحة والمرض؛ فالسبب على رأي هؤلاء هو القرابة، ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط.
وفي المذهب: من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل فأنزل2 ففي وجوب الغسل عليه ثانية قولان، ونفي الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره، وقد اغتسل، فلا يغتسل له مرة أخرى، هذه حجة سحنون وابن المواز؛ فالسبب هو الانفصال، والخروج شرط، ولم يعتبر، إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل.
وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول؛ فإن الأول يقضي بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق، والثاني يقضي بأنه صحيح عند بعض العلماء، وربما صح باتفاق، كما في مسألة العفو قبل الزهوق، ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق، والمعلوم صحة الأصل الأول؛ فلا بد من النظر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المذكور في كتب المذهب أنه إذا ملكها أمر امرأة يتزوجها، ثم أسقطت حقها الذي ملكها إياه بأن قالت مثلا: أسقطت حقي، ثم تزوج بالمرأة التي جعل لزوجته حق تطليقها، فإذا أرادت أن تتمسك بهذا الحق؛ فليس لها ذلك على المشهور المعتمد، ومقابله ضعيف، وبتنزيل كلام المؤلف عليه يظهر الكلام هنا، والجواب الآتي، أما مجرد الإذن له على ما هو ظاهر كلامه؛ فإنه لا يسقط حقها ولا يتم معه الجواب الآتي، ولا يخفى عليك أن قوله: "بناء على... إلخ" ليس من مقول مالك "د".
2 في "ط": "ثم أنزل".(3/73)
ص -418-…كلامهم في الأصل الثاني:
أما أولا؛ فنفس التناقض بين الأصلين كافٍ في عدم صحته عند العلم بصحة1 الأصل الأول.
وأما ثانيا؛ فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط؛ فإنا نقول:
من أجاز تقديم الزكاة قبل [حلول]2 الحول مطلقا -من غير أهل مذهبنا- فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الانحتام؛ فالحول كله كأنه وقت -عند هذا القائل- لوجوب3 الزكاة موسع، ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة، وأما الإخراج قبل الحول بيسير -على مذهبنا- فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه، فشرط الوجوب حاصل.
وكذلك القول في شرط الحنث: من أجاز تقديم الكفارة عليه؛ فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير، لا شرط في وجوبها.
وأما مسألة الزهوق؛ فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية، لا أنه شرط في صحة العفو، وهذا متفق عليه؛ إذ العفو بعده لا يمكن4؛ فلا بد من وقوعه قبله إن وقع، ولا يصح5 أن يكون شرطا إذ ذاك في صحته، ووجه صحته أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بإطلاق ليصح التناقض. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستظهرها ناسخ المخطوط.
3 ومثل هذا الجواب للسعد في "حاشيته" على ابن الحاجب في مسألة الأداء والقضاء. "د".
4 وهو ظاهر متى كان الاعتراض في خصوص عفو المجروح. "د".
5 لو كان تفريعا بالفاء؛ لكان أوضح. "د".(3/74)
ص -419-…حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال؛ فجاز عفوه عنه مطلقا1 كما يجوز عفوه عن سائر الجراح، وعن عِرْضه إذا قذف، وما أشبه ذلك، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه2 أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق، ولو كان كما قالوه؛ لكان في هذه المسألة قولان3.
وأما مسألة تمليك المرأة؛ فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه؛ لم يبق لها ما تتعلق به بعده؛ لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها4 فيه بعد ما جرى سببه، فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط، وهو فقه ظاهر.
ومسألة إذن الورثة بينة5 المعنى؛ فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه، والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له؛ فهما سببان، كل واحد منهما يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر، فمن حيث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: زاد عن ثلث ماله أم لا؛ فلا شأن للورثة بذلك. "د".
2 أي: فيما سبق من بنائه على أن مجرد حصول السبب قاضٍ بترتب المسبب, وإن لم يحصل الشرط اعتبارا باقتضاء السبب. "د".
3 ومعلوم أن الزهوق شرط في القصاص والدية، وقد اتفقوا على أنه إن لم يحصل هذا الشرط؛ فلا يتأتى القصاص ولا أخذ دية النفس، فاتفاقهم دليل على أن مجرد حصول السبب بدون الشرط لا يترتب عليه المسبب، ولو كان هناك من يقول باعتبار السبب وحده بدون الشرط؛ لكان قائلا بصحة استيفاء الدية والقصاص قبل تحقق الشرط وهو الزهوق، ولم يقل بذلك أحد؛ فدل على اعتبار الجميع للشرط في تحقق حكم المسبب. "د".
4 أي: فليس تزوج المرأة شرطا في صحة التمليك؛ لأن الملك تم بمجرد الصيغة، غايته أن أثره إنما يكون بعد التزوج، فإذا أسقطت الملك؛ فليس إسقاطا قبل حصول الشرط في الملك. "د".
5 في الأصل: "مبينة".(3/75)
ص -420-…كان المرض سببا لتعلق الحق وإن لم يكن ملك كان إذنهم واقعا في [محله] لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث صارت لهم فيه شبهة ملك, فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة؛ لأنهم صاروا في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض كالأجانب1، فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق كالثلث و[قول]2 القائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط؛ لأنهم أذنوا قبل التمليك3 وقبل حصول الشرط؛ فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها.
وأما مسألة الإنزال فيصح4 بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل، أو لأنه لا حكم له؛ لأنه إنزال من غير اقتران لذة.
فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد أسقطوا المقدار الذي ترتب لهم على مرض مورثهم، وصاروا كالأجانب لا يقبل منهم بعد الموت كلام فيما تصرف فيه زائدا على الثلث؛ كحال الأجانب في ذلك، وكل هذا خارج عن تقرر ملك لهم في حالة المرض. "د" وفي "ط": "صاروا في المال...".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"م".
3 أي: قبل تمامه بحصول شرطه. "د". وفي "ط": "قبل التملك أو قبل...".(3/76)
4 أي: تبنى على أن الجماع ليس من شرط وجوب الغسل فيه الإنزال، وفرض المسألة الجماع؛ فدعوى أن الإنزال شرط ليست بصحيحة في هذا الفرض، أو يقال: إن عدم وجوب الغسل مبني على ما هو أعم من ذلك، وهو أن كل إنزال لم يقترن بلذة يكون كالعدم لا حكم له، ولو لم يكن ناشئا عن الجماع، اللهم إلا ما كان في النوم؛ فإنهم وإن لم يشترطوا مقارنته للذة إلا أنه لما كانت الحالة حالة نوم وغفلة عن ضبط اللذة مع كون الغالب أن المني لا يكون إلا مع لذة؛ طردوا الباب في النوم حتى فيما لم يشعر فيه باللذة، وهذا إنما يصح إذا سلمنا أنه يشترط مقارنة اللذة في اعتبار الإنزال موجبا، مع أنهم صرحوا في غير الجماع بأن الإنزال بسبب اللذة موجب للغسل، وإن لم يقارنها، بل تأخر عنها؛ فتأمل، ثم رأيت أن ما قلناه ليس متفقا عليه بل هو المعتمد، ومقابله يشترط في الإنزال الموجب للغسل أن يكون بلذة مقارنة، حتى إذا التذ وبعد انقضاء اللذة خرج منه المني؛ فإنه لا يطالب بالغسل مطلقا، سواء اغتسل قبل خروجه -وإن لم يطالب به- أو لم يغتسل؛ فكلام المؤلف مبني على هذا. راجع الزرقاني وحاشية العدوي عليه. "د".(3/77)
ص -421-…المسألة السادسة:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين:
أحدهما:
ما كان راجعا إلى خطاب التكليف إما مأمورا بتحصيلها -كالطهارة للصلاة وأخذ الزينة لها وطهارة الثوب وما أشبه ذلك- وإما منهيا عن تحصيلها -كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول والجمع بين المتفرق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة الذي هو شرط لنقصان الصدقة وما أشبه ذلك- فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه, فالأول مقصود الفعل والثاني مقصود الترك وكذلك الشرط المخير فيه -إن اتفق1- فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف إن شاء فعله فيحصل المشروط, وإن شاء تركه فلا يحصل.
والضرب الثاني:
ما يرجع إلى خطاب الوضع كالحول في الزكاة والإحصان في الزنى والحرز في القطع وما أشبه ذلك, فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ولا في عدم تحصيله فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب علي [صاحبه]2 إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه, ولا مطلوب الترك أن يقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالنكاح الذي يكون به محصنا؛ فهو مباح وشرط في ترتب حكم الرجم على الزنى. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وسقطت من "د".(3/78)
ص -422-…يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة, وكذلك الإحصان, لا يقال: إنه مطلوب الفعل1 ليجب عليه الرجم إذا زنى, ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى.
وأيضا فلو كان مطلوبا, لم يكن من باب خطاب الوضع, وقد فرضناه كذلك, هذا خلف, والحكم فيه ظاهر2.
فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه, من حيث هو فعل داخل تحت قدرته؛ فلا بد من النظر في ذلك, وهي:
المسألة السابعة:
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف3، مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا, فإن كان ذلك, فلا إشكال فيه؛ وتنبني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ليس مطلوب التحصيل بفعل سببه وهو النكاح، وإلا؛ فالإحصان وصف لا يفعل. "د".
2 في "م": "ظاهرة"؛ فضبط الجملة الأستاذ محيي الدين تبعا لذلك: "والحِكَمُ فيه ظاهرة".
3 لا يقال: موضوع المسألة عام في الضربين، وقد خصه بخطاب التكليف؛ فيكون خاصا بالضرب الأول في المسألة قبلها، وهذا لا يناسب فرض المسألة كما لا يناسب الأمثلة الآتية.
لأنا نقول: إن خطاب الوضع يدخل تحت قوله: "أو مخيرا فيه"، وكذا تحت ما قبله من المأمور به والمنهي عنه، من حيث إن خطاب الوضع في المسائل الآتية يحصل مسببا عن فعل المخير فيه مثلا كما تقدمت أمثلته؛ فإن الحول في الزكاة يحصل من إمساك المال مدة الحول، وهو فعل مخير فيه، له أن ينفق أو يمسك, والإحصان مرتب على النكاح المخير فيه, وجمع المتفرق وتفريق المجتمع مخير فيه, وكل منهما مترتب عليه خطاب الوضع؛ فالكلام جارٍ مع فرضه المسألة؛ فإن فعل الشرط؛ لأنه مأمور به أو تركه؛ لأنه منهي عنه، أو فعله لأنه مخير فيه، وكان قصده قضاء حاجته، لا إبطال مسبب شرعي، فلا كلام في ترتب أحكام الشرط عليه. "د".(3/79)
ص -423-…الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حضوره، وترتفع عند فقده؛ كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه، أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه، أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة، أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة أخرى، أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده، أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان، إلى ما أشبه ذلك.
وإن كان1 فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الاقتضاء [في السبب]2 أن لا يترتب عليه أثره؛ فهذا عمل غير صحيح، وسعي باطل؛ دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا.
فمن الأحاديث في هذا الباب قوله, صلى الله عليه وسلم3: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإن فعل ما يحقق الشرط أو فعل ما يخل به بهذا القصد؛ فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه أثره، وظاهره أن ذلك جار فيما ترتب عليه ما لا يعد هربا من الأثر؛ كأن يجمع لتلزمه الزكاة أو يفرق لتلزمه أيضا، وكذا إذا أبقى النصاب بقصد وجوب الزكاة، أو فعل موجب الإحصان ليرجم إذا زنى ظاهره أن هذا لا يترتب عليه أثره؛ لأنه قصد إلى الشرط من جهة كونه شرطا بنية إسقاط حكم الاقتضاء السابق على فعل ما يحقق الشرط حتى لا يترتب عليه أثره، وهو عدم الزكاة في المثالين الأول والثاني، وعدم الرجم في المثال الثالث، ولا يخفى أن هذا الظاهر غير واضح؛ لأنه متى بقي النصاب إلى الحول عنده ولو بهذا القصد لزمته الزكاة، وكذا يقال في بقية الأمثلة؛ فهل تقيد المسألة بما إذا كان الفعل أو الترك قصدا إلى إسقاط أثر شرعي لا يراه في مصلحته، وهربا مما ينافي مقاصد الناس في المألوف عند العقلاء؛ فيكون الحكم في المسائل السابقة وأمثالها اعتبار الحالة الواقعة ولو كان القصد مندرجا فيما يقوله المؤلف؟ "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(3/80)
3 فهو فعل منهيا عنه ليخل بشرط الزكاة أو زيادتها، وفي المثال الثاني فعل منهيا عنه ليخل بشرط الخيار، وفي المثال الثالث فعل منهيا عنه وهو إدخال فرس معروف فيها أنها تسبق الخيل ليحقق شرط حوز الرهان وهو السبق؛ فهو مخل بقصد المسابقة ومقترن بقصد حصول الشرط، وكذا يقال في شرط الولاء: إنه فعل منهيا عنه بقصد إسقاط حكم الاقتضاء ألا يترتب عليه أثره، وكذا =(3/81)
ص -424-…بين مجتمع خشية الصدقة"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البيع، وشرط ألا يبيعه المشتري مطلقا أو لغيره مثلا؛ فهذا إسقاط لما يترتب على البيع من حق المشتري في سائر تصرفات الملك، وما بعده قيد فيه السلف الذي لا يكون إلا لله وليس فيه مشاحة ولا ربح بالبيع الذي فيه ذلك؛ فقد خرج السلف بذلك عن مقتضاه، وشرط في شرط كشرط أن يكون الولاء للبائعين في مسألة بريرة حيث اشترطوا في بيعها أن تعتقها، واشترطوا في عتقها أن يكون الولاء لهم، والفقهاء استثنوا من عدم جواز البيع والشرط مسألة شرط العتق فقد أجازوها؛ فيتصور فيها شرط في شرط، وكذا فعل اليمين المنهي عنها ليرتب عليها حقا له لم يكن؛ فقد فعل شرطا يترتب عليه القضاء له بغير حقه، وقد فعله من جهة كونه شرطا بالقصد المعلوم، وجعل الشارع اليمين على نية المستحلف حتى لا يمكن الحالف من فعل شرط بهذا القصد الباطل، وآية {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ...} إلخ من هذا أيضا، فإذا فعل ما يقتضي نشوزها وعدم قيامها بحدود الله؛ فقد فعل منهيا عنه بقصد حصوله على غرضه من الفدية، وآية شهادة الزور؛ فالشهادة يحقق بها شرطا لحكم القاضي للمشهود له بقصد إسقاط حكم الاقتضاء قبل الشهادة، والتيس المستعار يريد تحقيق شرط عودها للأول بهذا القصد. "د".
وفي "م": "قوله, عليه السلام"، وفي "خ": "قوله, عليه الصلاة والسلام".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" من حديث أنس, رضي الله عنه.(3/82)
وأخرجه من حديث ابن عمر ضمن قطعة من آخر حديث طويل, أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، 2/ 244-225/ رقم 1568"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، 2/ 66-67/ رقم 617"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الإبل، 1/ 573، 574/ رقم 1798"، وأحمد في "المسند" "2/ 15"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 121، 122"، وابن زنجويه في "الأموال" "رقم 1519"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 392"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 88"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 32، 40" من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه ابن عمر به، وإسناده ضعيف لضعف سفيان في رواية عن الزهري.
ولكن للحديث شواهد عديدة اعتنى بسردها ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 861-863"، وانظر: "التلخيص الحبير" "2/ 151، 155"، و"فتح الباري" "3/ 314".(3/83)
ص -425-…وقال صلى الله عليه وسلم1: "البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"2.
وقال: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن تسبق؛ فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق؛ فهو قمار"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عليه السلام"، وفي "خ": "عليه الصلاة والسلام".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب كم يجوز الخيار، 4/ 326/ رقم 2107، وباب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع، 4/ 327-328/ رقم 2109"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، 3/ 1163/ رقم 1531"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب في خيار المتبايعين/ رقم 3454، 3455"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا/ رقم 1245", والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، 7/ 248-249"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب البيعان بالخيار ما لم يفترقا، 2/ 736/ رقم 2181"، ومالك في "الموطأ" "2/ 2671"، وأحمد في "المسند" "2/ 4، 9، 73", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 617"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 268، 272" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بألفاظ متعددة منها هذا.(3/84)
3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 505"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 960/ رقم 2876"، وأبو داود في "السنن" "3/ 30/ رقم 2579"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 499"، والدراقطني في "السنن" "4/ 305"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 365-366"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 114"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 395-396/ رقم 2654"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 175"، والحربي في "غريب الحديث" "2/ 373"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 285/ رقم 470- الروض الداني"، وابن المنذر في "الإقناع" "2/ 506"، وأبو عبيد في "غريب الحديث" "2/ 143"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1208-1209"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 259/ رقم 5864"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ 103/ 2" من طريقين "سفيان بن حسين وسعيد بن بشير" بأسانيد متفرقة عن الزهري عن سعيد بن المسيب =(3/85)
ص -426-…............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن أبي هريرة به.
وهذا إسناد ضعيف، والحديث معلول، أعله جهابذة الجرح والتعديل.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" "2/ 252/ رقم 2249" له: "سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون وغيره عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: "أيما رجل أدخل فرسا بين فرسين وهو يأمن أن يسبق؛ فهو قمار" قال أبي: هذا خطأ، لم يعمل سفيان بن حسين شيئا لا يشبه أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب من قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد من قوله".
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 163"، و"الفروسية" "230- بتحقيقي" لابن القيم:
"سألت يحيى بن معين عن حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فرسا بين فرسين..." الحديث؛ فقال: باطل وخطأ على أبي هريرة".
وقال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرجه "رقم 2580": "رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم، قالوا: "من أدخل فرسا"، وهذا أصح عندنا.
هذا لفظ أبي داود؛ فلا ينبغي أن يقتصر المخرج له من "السنن" على قوله: رواه أبو داود، ويسكت عن تعليله له.
وقد رواه مالك في "الموطأ" "2/ 468"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20" "عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب؛ أنه قال: "من أدخل فرسا"؛ فجعله من كلام سعيد نفسه.
وكذلك رواه الأساطين الأثبات, من أصحاب الزهري معمر بن راشد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيلي، وهؤلاء أعيان أصحاب الزهري، كلهم رووه عن سعيد بن المسيب من قوله.(3/86)
وممن أعله أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" "2/ 143"، وأعله أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 87"، وقال:
"هذا حديث انفرد به سفيان بن حسين من بين أصحاب ابن شهاب، ثم أعله بكلام أبي داود". =(3/87)
ص -427-…وقال في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط"1 الحديث.
ونهى عليه [الصلاة والسلام] عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن شرطين في بيع2، وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال بعض الحفاظ فيما نقل ابن القيم في "الفروسية" "231-232- بتحقيقي": "يبعد جدا أن يكون الحديث عند الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا، ثم لا يرويه واحد من أصحابه الملازمين له، المختصين به, الذين يحفظون حديثه حفظا، وهم أعلم الناس بحديثه، وعليهم مداره، وكلهم يروونه عنه كأنما من قول سعيد نفسه، وتتوفر هممهم ودواعيهم على ترك رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الطبقة العليا من أصحابه، المقدمون على كل من عداهم ممن روى عن الزهري، ثم ينفرد برفعه من لا يدانيهم ولا يقاربهم؛ لا في الاختصاص به، ولا في الملازمة له، ولا في الحفظ، ولا في الإتقان، وهو معدود عندهم في الطبقة السادسة من أصحاب الزهري على ما قال أبو عبد الرحمن النسائي، وهو سفيان بن حسين؛ فمن له ذوق في علم الحديث لا يشك ولا يتوقف أنه من كلام سعيد بن المسيب لا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يتأتى له الحكم برفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إما أن يرويه ويسكت عنه، أو ينبه عليه".
قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب".(3/88)
قال: "وهذا مما يعلم أهل العلم بالحديث أنه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه، وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه عن سعيد بن المسيب؛ مثل: الليث بن سعد، وعقيل، ويونس، ومالك بن أنس، وذكره في "الموطأ" عن سعيد بن المسيب نفسه، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي، وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك". ونحوه في "مجموع الفتاوى" "18/ 63-64".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل, 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
2 في الأصل و"ط": "عن شرطين في شرط"، وفي النسخ الثلاث المطبوعة: "وعن شرط =(3/89)
ص -428-…ومنه حديث: "من اقتطع مال امرئ مسلمٍ بيمينه"1.
وحديث: أن "اليمين على نية المستحلِف"2.
وعليه جاءت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران: 77].
وفي القرآن أيضا: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 229].
وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
وما جاء من3 الأحاديث.
وقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في شرط"! والصواب: "وعن شرطين في بيع"؛ كما أثبتناه.
وسيأتي النهي عن ذلك في حديث بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن...". انظره وتخريجه "ص469".
وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "لم يجر البيع والسلف لاتهام المتعاقدين على قصد السلف بزيادة، ولأن فيه الجمع بين عقدين متضادين؛ فإن السلف معروف، والبيع موضوع للتجارة، ومبني على المشاحَّة".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، 1/ 122/ رقم 137" بلفظ: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار".
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف، 3/ 1247/ رقم 1653، بعد 21" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
3 في "ط": "وما في معناه من".(3/90)
ص -429-…وما جاء من أحاديث لعن المحلِّل والمحلَّل له1 والتيس المستعار.
وحديث التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة الدَّرِّ2.
وسائر أحاديث النهي عن الغش3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 149"، وأحمد في "المسند" "1/ 450"، والدارمي في "السنن" "2/ 294"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود: "لعن المحلل والمحلل له".
وقال الذهبي في "الكبائر" "ص213- بتحقيقنا" بعد أن أورد حديث: "لعن الله المحلل والمحلل له"، قال: "جاء ذلك من وجهين جيدين عنه, صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 170": "صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري".
وانظر غير مأمور: "الاقتراح" "207"، و"تحفة المحتاج" "2/ 372".
2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم/ 3/ 361/ رقم 2148"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة، 3/ 1158/ رقم 1524" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها؛ إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"، وفي رواية لمسلم: "من اشترى مصراة؛ فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها؛ رد معه صاعا من تمر لا سمراء".
وهي في البخاري معلقة، دون "لا سمراء".(3/91)
3 أخرج ابن حبان في "الصحيح" "2/ 326/ رقم 567- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10234"، و"الصغير" "1/ 261"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 189"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 253، 254" بإسناد حسن عن ابن مسعود مرفوعا: "من غشنا فليس منا".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 101"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3455"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1315"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2224"، وأحمد في "المسند" "2/ 242، 417"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 57"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 139"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 564"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 8، 9"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 230" من حديث أبي هريرة.(3/92)
ص -430-…والخديعة.
والخلابة1.
والنجش2.
وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها وتزوجها3 عبد الرحمن بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، 4/ 337/ رقم 2117", ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع، 3/ 1165/ رقم 1533"؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن يخدع في البيع: "متى بايعت؛ فقل: لا خلابة"، وهذا الرجل هو حبان بن منقذ، وقيل: بل والده، وهذا هو الصحيح، وانظر: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 596"، وتعليقنا عليه.
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النجشي، 4/ 355/ رقم 2142"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه" من حديث ابن عمر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النجش".
قال "د": "تصرية الشاة وما معها من مسائل الغش والخديعة والخلابة والنجش -ويجمعها في الحقيقة جنس الغش- قد فعل بها أمرا يقتضي زيادة الثمن عما إذا كانت غير مغشوشة، ولو كان ما فعله بهذا القصد صحيحا؛ لرتب الشارع عليه ملكه للزيادة وحل الانتفاع بها، ولكنه لا يرتب ذلك لأنه فعل شرط الزيادة بهذا القصد السيئ ولا بد؛ فلا تكون الزيادة ملكا له، ولا يحل انتفاعه بها، وللمشتري رد المبيع واسترداد الثمن".(3/93)
3 في جميع الأمثلة السابقة وجد الشرط فعلا، ولكن بقصد غير صحيح, فكان سعيا باطلا من هذه الجهة، أما في مسألة امرأة رفاعة؛ فليس فيها تحقق الشرط وهو نكاح الزوج الآخر، وأنه فعل بقصد سيئ كالتحليل مثلا حتى يلغى الأثر المترتب على الشرط, ويبقى الأمر كما كان قبل فعله، وإنما الذي في المسألة أن الشرط لم يتحقق بدليل قوله, عليه السلام: "لا، حتى تذوقي عسيلته..." إلخ، أي: إنه لم يتحقق المس مع الانتشار بدليل أنها لما عادت إليه -عليه السلام- بعد مدة تقول: إنه قد مسني؛ فقال لها: "كذبت بقولك الأول، فلن أصدقك في الآخر"؛ فلا يظهر وجه إدراج المسألة في هذا الباب. "د".(3/94)
ص -431-…الزبير1.
والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 731-732/ رقم 2309"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثا والنكاح الذي يحلها به، 6/ 148"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها، 2/ 293/ رقم 1127"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ 1/ 621-622/ رقم 1932"، وأحمد في "المسند" "6/ 42، 96" من حديث عائشة قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 531" عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب، وذكر نحوه.
وهو مرسل عند أكثر رواة "الموطأ"، ورواه ابن وهب وابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، جميعهم عن مالك؛ فقالوا: عن الزبير بن عبد الرحمن عن أبيه موصولا، وهو صاحب القصة.
"فائدة": الزبير ضبطها الحافظ في "التقريب" "3860" بفتح الزاي، وفي حاشية الأصل بكسر الباء وفتح الزاي المشددة.(3/95)
ص -432-…وأيضا؛ فإن هذا العمل1 يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة، عبثا لا حكمة له ولا منفعة به2، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح، وأنها معتبرة في الأحكام.
وأيضا؛ فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد وحصل في الوجود؛ صار مقتضيا شرعا لمسببه، لكنه توقف على حصول شرط3، هو تكميل للسبب؛ فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا، وقد تبين [أن]4 مضادة قصد الشارع باطلة؛ فهذا العمل باطل.
فإن قيل: المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط، فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده؛ كان كما لو لم يقصد ذلك، ولا تأثير للقصد، وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض5 السبب أن يكون مقتضيا؛ كالحول في الزكاة؛ فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض، والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط، لا عند فقدها، فإذا لم ينتهض سببا؛ كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما تقدم من الآيات والأحاديث استدلال بالنقل والاستنباط منه، وهذا وما بعده استدلال بطريق العقل المبني على ما استقرئ من مقاصد الشرع في شرع الأحكام للمصالح، فلو جرى العمل باعتبار هذا الشرط الذي قصد به هذا القصد؛ لبطلت تلك المصالح التي يبنيها الشاع على تلك الأسباب، فمثلا لو اعتبر التفريق والجمع بهذه النية، ولو اعتبر الإنفاق قبل الحول بقليل ليهرب من الزكاة في المسألتين؛ لأمكن لكل واحد أن يخلص من وجوب الزكاة بفعل هذا الشرط أو تركه مثلا، وضاعت المصلحة المترتبة على الزكاة، وكذا يقال في سائر الأمثلة. "د".
2 في "ط": "فيه".
3 كمرور الحول مثلا في النصاب، فإذا أنفق بعضه بقصد رفع الزكاة؛ كان قصده رفع الزكاة عن هذا النصاب المملوك له مضادا لقصد الشارع إيجاب الزكاة فيه. "د".
4 سقط من الأصل.(3/96)
5 في الأصل و"ط": "ينتهض".(3/97)
ص -433-…من معاني الانتفاع، فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن السبب لم يقتضِ إيجابها لتوقفه على ذلك الشرط الذي ثبت اعتباره شرعا، فمن حيث قيل فيه: إنه مخالف لقصد الشارع؛ يقال: إنه موافق1، وهكذا سائر المسائل.
فالجواب: أن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب، وأما مع القصد إلى ذلك؛ فهو معنى غير معتبر؛ لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها؛ فإن الجمع بين المتفرق2 أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال3 حكم السبب، بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين؛ فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق، ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف؛ فذلك هو المنهي عنه، كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة، ففرقها قصدا أن يخرج واحدة؛ فكذلك، وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرطا يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج، وكذلك قوله: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"4؛ فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو مضاد لقصد الشارع كما ذكر في الدليل السابق، وموافق له من جهة أن قصد الشارع أن السبب إنما يقتضي مسببه عند وجود الشرط لا عند فقده، يعني: فكان يقتضي ذلك على أكثر الفروض أن يقال: إنه فعل منهيا عنه وأثم مثلا، ولكنه لا تجب عليه الزكاة؛ فإثمه من جهة المضادة لقصد الشارع وعدم وجوب الزكاة لفقد الشرط الذي قصد الشارع توقف تأثير السبب على حصوله. "د".
2 في الأصل: "المفترق".
3 وتقدمت القاعدة الأصولية وهي أنه ليس لأحد أن يرفع حكم السبب؛ لأن المسبب من فعل الله لا من فعل المكلف، ولما كان هذا الشرط يقصد به رفع المسبب؛ كان لاغيا وكأنه لم يكن. "د".
4 قطعة من حديث صحيح مضى تخريجه "ص425".(3/98)
ص -434-…له بسبب العقد، وعن الإتيان بشرط الفرس المحللة1 [للجعل]2 بقصد أخذه، لا بقصد المسابقة معه، ومثله مسائل الشروط؛ فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة3؛ فإن العقد على الكتابة4 اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه، ومن ذلك الولاء، فمن شرط أن الولاء له من البائعين؛ فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه، واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك؛ فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه5، وإذا كان منهيا عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "المحلية".
2 سقط من الأصل.
3 قيد به لما سبق له من أن المسبب الذي لا يرفع هو مسبب سبب وقع بالفعل؛ فارجع إليه. "د".
4 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: قوله: "فإن العقد على الكتابة... إلخ" كلام غير صحيح؛ فإن بيع الكتابة منعه أبو حنيفة والشافعي، وأجازه مالك، لكنه يقول: "الولاء لعاقدها لا لمشتريها" عكس ما قاله المصنف، وكلامه يشير إلى أن حديث بريرة محمول على بيع كتابتها لا رقبتها، وهو حمل فاسد كما ذكرناه من كون الولاء في بيع الكتابة عند من يجيزها للعاقد، والذي في الحديث خلافه.
وأيضا؛ فإن الكتابة إذا كانت نقدا إنما تباع بعرض، والذي في القصة خلافه، والمحققون من المالكية يحملون بيعها على بيع رقبتها بعد "عجزها"، فمن اشترطه من بائعي الرقبة: الولاء على المشتري أن أعتق، فقد قصد رفع حكم السبب فيه؛ فكان الصواب التمثيل على هذا الوجه، وكان المصنف اعتمد على ما في "بداية المجتهد" للحفيد ابن رشد، حيث نقل عن المالكية حمل الحديث على بيع الكتابة وهو كلام فاسد بما أوضحناه، والله تعالى أعلم.
وممن أشار إلى فساده بالوجه الأول الأبي في "شرح مسلم"، وبالوجه الثاني ابن قيم الجوزية في كتاب "الهدي". ا. هـ. كاتبه.(3/99)
5 أي: فقوله, في الاعتراض السابق: إنه موافق من جهة ومخالف من جهة؛ غير صحيح، فإنه مخالف من كل جهة؛ لأنه متى كان المنهي عنه هو فعل الشرط نفسه؛ فيكون باطلا وكأنه لم يحصل؛ فبقي الحكم كما كان قبل فعله. "د".(3/100)
ص -435-…كان مضادا لقصد الشارع1؛ فيكون باطلا.
فصل:
هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا؟
الجواب: أن في ذلك تفصيلا، وهو أن نقول2: لا تخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع، أو المرفوع في حكم الحاصل معنى، أو لا.
فإن كان كذلك؛ فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه، ولا حكم له، مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها، وكالجامع بين المفترق3 ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى التفرقة، أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت عليه, وكالناكح لتظهر صورة الشرط ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا، وأشباه ذلك؛ لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ولا فائدة فيه تقصد شرعا.
وإن لم يكن كذلك؛ فالمسألة محتملة، والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه:
أحدها:4
أن يقال: إن مجرد انعقاد السبب كافٍ؛ فإنه هو الباعث5 على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مضاد له عينا، وسيأتي لهذا ذكر في الفصل بعده. "د".
2 في "ط": "يقال".
3 في "ط": "المتفرق".
4 ضعيف في النظر إن لم يكمل بما سبق من أنه منهي عنه ومضاد لقصد الشارع قطعا؛ فيكون باطلا، أما مجرد أن الشرط أمر خارجي... إلخ؛ فإنه لا يفيد، ولو جعل ما بعده مكملا له لا دليلا مستقلا، وكان هو روح الدليل لصح، ولكن قوله: "وأيضا" يقتضي استقلاله في نظره بالاستدلال، وكلامه في التطبيق على الأمثلة بعد يقتضي أن محل الاستدلال وروحه ما بعد قوله:
"وأيضا"؛ فتأمل. "د".
5 لا يخفى ما فيه من التسامح. "د".(3/101)
ص -436-…الحكم، وإنما الشرط أمر خارجي مكمل، وإلا؛ لزم أن يكون الشرط جزء العلة1، والفرض بخلافه، وأيضا؛ فإن القصد فيه قد صار غير شرعي؛ فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع، فهو في حكم ما لم يعمل فيه، واتحد مع القسم الأول في الحكم؛ فلا يترتب على هذا العمل حكم، ومثال ذلك: إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بَتْلة لم2 يرجع فيها، أو جمع بين المفترق، أو فرق بين المجتمع -وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة- لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبول الحول، وما أشبه ذلك؛ فقد علمنا -حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم- أنه قاصد لثبوت الحكم به، فإذا أخذ هذا برفع حكم السبب مع انتهاضه سببا؛ كان مناقضا لقصد الشارع، وهذا باطل، وكون الشرط -حين رُفع أو وُضع- على وجه يعتبره الشارع على الجملة3 قد أثر فيه القصد الفاسد؛ فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا، فكان كالمعدوم بإطلاق، والتحق بالقسم الأول.
والثاني:
أن يقال: إن مجرد انعقاد السبب غير كاف، فإنه وإن كان باعثا؛ قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط، فإذًا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده، وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه، فإذا كان كذلك؛ فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط لم يناقض قصدُه قصدَ الشارع من كل وجه، وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه، وهو الشرط أو عدمه، لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ط: "علة".
2 أي: بائنة قاطعة. انظر: "لسان العرب" "ب ت ل".(3/102)
3 فالشارع يعتبر إنفاق النصاب قبل الحول في منافعه، والهبة البتلة، وجمع المتفرق مثلا بهذا القصد نافذا؛ فيرتب في الهبة ملك الموهوب له، ولا يرد ما أنفقه في قضاء مصالحه، وهكذا لا يلزمه بتفريق المجتمع؛ فتكون التصرفات صحيحة في الجملة، لا من كل وجه؛ لأنه بهذا القصد الفاسد يكون آثما، وأيضا لا يرتب عليه الحكم الذي أراده وهو الفرار من الزكاة. "د".(3/103)
ص -437-…قصد الشارع على الجملة، لا عينا؛ لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها.
وأيضا؛ فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا؛ لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا، كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه وفي تملك الغاصب له، ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم.
وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة، أو سافر في رمضان قصدا للإفطار، أو أخر صلاة حضر عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين، أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها، قال: فجميع ذلك مكروه، ولا يجب على هذا في السفر صيام، ولا أن يصلي أربعا، ولا على الحائض قضاؤها، وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف: ليقضين فلانا حقه إلى شهر، وحلف بالطلاق الثلاث؛ فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث، فلما انقضى1 الأجل راجعها؛ فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث وليست بزوجة؛ لأن الخلع ماضٍ شرعا وإن قصد به قصد الممنوع.
والثالث:
أن يفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين؛ فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله، وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي؛ كمسألة الجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع، ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول؛ لأن الزكاة من حقوق الله، وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله؛ لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين، وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين؛ كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "قضى".(3/104)
ص -438-…وهذا كله ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك، فإنه إن دل دليل خاص على خلافه؛ صير إليه، ولا يكون نقضا على الأصل المذكور؛ لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله، أو إلى حق الآدميين، ويبقى بعد ما إذ1 اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد؛ فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
الشروط مع مشروطاتها2 على ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها3 بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال؛ كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه، واشتراط الكفء والإمساك بالمعروف والتسريح4 بإحسان في النكاح، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع، واشتراط العهدة في الرقيق، واشتراط مال العبد وثمرة الشجر وما أشبه ذلك، وكذا اشتراط الحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وعدم الطَّوْل في نكاح الإماء، والحرز في القطع؛ فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا؛ لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكما، فإن5 الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على وجه لائق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "إذا".
2 في المسألتين السادسة والسابعة قيد الشروط بقوله: "المعتبرة في المشروطات شرعا"، وهنا أطلقها حتى يتأتى التقسيم إلى الأقسام الثلاثة؛ فالكلام هنا عام فيما اشترطه الشارع وما اشترطه الشخص نفسه من شرط ملائم أو منافٍ أو لا ملائم ولا منافٍ. "د".
3 مقويا لها. "ماء".
4 في "ط": "أو التسريح".
5 في الأصل: "فإن كان الاعتكاف..." بزيادة "كان".(3/105)
ص -439-…بلزوم المسجد؛ كان للصيام فيه أثر ظاهر، ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجين والعصبة، وأولى بمحاسن العادات؛ كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح، وهكذا الإمساك بمعروف، وسائر تلك الشروط المذكورة تجري على هذا الوجه؛ فثبوتها شرعا واضح.
والثاني:
أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته، بل هو على الضد من الأول، كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب، أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأي مالك1، أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عِنِّين، أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع، أو إن انتفع؛ فعلى بعض الوجوه دون بعض، أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف، أو أن يصدقه في دعوى التلف، وما أشبه ذلك؛ فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله؛ لأنه منافٍ لحكمة السبب؛ فلا يصح أن يجتمع معه؛ فإن الكلام في الصلاة منافٍ لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له، وكذلك المشترط في الاعتكاف الخروج مشترط ما ينافي حقيقة الاعتكاف من لزوم المسجد، واشترط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه، وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل، وأضر بالزوجة؛ فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤالفة، وهكذا سائر الشروط المذكورة، إلا أنها إذا كانت باطلة؛ فهل تؤثر في المشروطات أم لا؟
هذا محل نظر يستمد2 من المسألة التي قبل هذه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لزوم المسجد. "د".
2 فهي شروط تقتضي رفع حكمة السبب، ويقصد بها رفع المسبب الواقع، وتقدم تفصيل ذلك "د".(3/106)
قلت: مما ينبغي أن يلاحظ أن عقد الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه ليس عقد معاوضة، بل يبطل الشرط وحده، ويبقى العقد صحيحا منتجا لآثاره.(3/107)
ص -440-…والثالث:
أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة1 وهو محل نظر؛ هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة؛ أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا؟ والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة؛ لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن؛ إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات؛ فكذلك ما يتعلق بها من الشروط، وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه2، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موافقة. "ماء".
2 تقسيم الشروط إلى ثلاثة أقسام يذكره المالكية في البيع، ويقولون: ما كان من مقتضيات العقد أو مصلحاته؛ صح فيه البيع والشرط، وما كان منافيا للعقد، أو مؤديا إلى غرر فسد فيه البيع والشرط، وما لا يفيد مصلحة في البيع ولا مفسدة، ولا يؤثر في زيادة الثمن أو نقصه؛ صح فيه البيع وبطل الشرط، ويضاف إلى هنا قسم رابع وهو ما إذا تمسك المشترط بالشرط بطل البيع، وإن أسقطه كان البيع ماضيا، وبهذا التفصيل أمكنهم الجمع بين ما روي في هذا الصدد من الأحاديث المتعارضة في بادئ النظر. "خ".(3/108)
ص -441-…النوع الثالث في الموانع:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الموانع1 ضربان:
أحدهما: ما لا يتأتى فيه2 اجتماعه مع الطلب.
والثاني: ما يمكن فيه ذلك، وهو نوعان:
أحدهما: يرفع أصل الطلب.
والثاني: لا يرفعه, ولكن يرفع انحتامه.
وهذا قسمان:
أحدهما: أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا3 فيه لمن قدر عليه.
والآخر: أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الموانع جمع مانع، وإلى تعريف المانع أشرت بقولي في "منور الأفهام".
ومانع وجوده منه العدم …كالحيض عكس ما إذا يرى انعدم
"ماء".
2 أي: عقلا، وقوله: "أحدهما يرفع أصل الطلب"؛ أي: وهو ما أمكن اجتماعه مع الطلب عقلا وامتنع الاجتماع شرعا، والقسمان الباقيان يصح فيهما الاجتماع عقلا وشرعا. "د".
قلت: انظر تفصيل ما عند المصنف مع تعليق عليه في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 431-436"، وقارن ما عنده بـ"بداية المجتهد" "2/ 159"، و"الفتاوى الكبرى" "3/ 239" لابن تيمية، و"إعلام الموقعين" "4/ 6 وما بعدها"، و"المدخل الفقهي" "1/ 522".
3 يعني: ليس واجبا وإن كان مطلوبا شرعا كما يوضحه فيما بعد. "د".(3/109)
ص -442-…فهذه أربعة أقسام1:
فأما الأول:
فنحو زوال العقل بنوم، أو جنون، أو غيرهما، وهو مانع من أصل الطلب جملة؛ لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه لأنه إلزام يقتضي التزاما، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه2 كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات، فإن تعلق طلب3 يقتضي استجلاب مصلحة أو درء مفسدة؛ فذلك راجع إلى الغير، كرياضة البهائم وتأديبها, والكلام في هذا مبين في الأصول4.
وأما الثاني:
فكالحيض والنفاس، وهو رافع لأصل الطلب وإن أمكن حصوله معه، لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به5 البتة؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ومس المصحف، وما أشبه ذلك، وأما ما يطلب به6 بعد رفع المانع؛ فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور، لا حاجة بنا7 إلى ذكره هنا، والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان8 كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بلا تخالف فيها بين العلماء. "ماء".
2 في الأصل: "التزامه".
3 أي: بسبب عمل صدر من غير العاقل؛ كإتلاف البهيمة مال الغير، وكالصبي يقتل غيره مثلا، فضمان المتلف وغيره من الأحكام لا يتعلق بالبهيمة والصبي، وإنما يتعلق بربها وبولي الصبي. "د".
4 وهي مسألة الفهم شرط التكليف، راجع ابن الحاجب. "د".
5 يعني: اتفاقا. "د". وفي "ط": "مثل هذا أصل الطلب...".
6 كقضاء الصوم على الحائض؛ فهل هو بأمر جديد ولم تكن مأمورة به وقت الحيض؟
وهو المعتمد، راجع مسألة الأداء والقضاء في ابن الحاجب. "د".
7 في النسخ المطبوعة: "لنا"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".
8 الدليلان الأولان عامان في رفع أصل الطلب لما لا يطلب بعد وما يطلب، بخلاف الثالث؛ فخاص بما لا يطلب. "د".(3/110)
ص -443-…لاجتمع الضدان؛ لأن الحائض ممنوعة من الصلاة، والنفساء كذلك، فلو كانت مأمورة بها أيضا1؛ لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شيء واحد2، وهو محال، وأيضا إذا كانت مأمورة أن تفعل, وقد نهيت أن تفعل؛ لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا، وهو محال، وأيضا؛ فلا فائدة في الأمر بشيء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ولا بعد ارتفاعه؛ لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق.
وأما الثالث:
فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد، فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع مع انحتام هذه العبادات، الجارية في الدين مجرى التحسين3 والتزيين؛ لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "أيضا بها".
2 وهو الصلاة, أي: ومن جهة واحدة؛ فليست كالصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلهذا صحت الاستحالة. "د".
3 جعل الجهاد من النوع الثالث التحسيني، ولم يجعله من المقاصد الضرورية ولا الحاجية، وقد عده هو في تحرير الأصول من الضروري وقال: "محل كونه كذلك إذا كانوا حربا علينا لا لكفرهم؛ ولذا لم تقتل المرأة والصبي والراهب وقبلت الجزية؛ فالدين لا يحفظ مع كونهم حربا علينا لأنه مفضٍ إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". ا. هـ. فيبقى الكلام فيما إذا لم يكونوا حربا بل كانوا لا يتعرضون لنا وهم في بلاد بعيدة عن بلاد المسلمين، وليس هناك عهد بيننا وبينهم؛ فهل يكون قتالهم في هذه الحالة من الضروري أم من التحسيني؟ الظاهر هذا، ويكون الجهاد منه ما لا يتم حفظ الدين إلا به، ومنه ما لا يكون كذلك؛ فيكون تحسينيا من باب الأخذ بالأحوط، ليحمل كلامه هنا وهناك على هذا التفصيل. "د".(3/111)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق المصنف الجهاد هنا مساق التحسينات، وسيصرح في كتاب المقاصد بأنه من قبيل الضروريات وهو الصواب؛ إذ لا يستقيم الدين ولا يحفظ العرض إلا بإقامته على وجه صحيح، بل دلت التجارب الطويلة على أن في إضاعته إتلافا للأموال، وسقوطا في هاوية الفقر، وإلقاء بالأنفس المسلمة في قبضة من لا يرى سفك دمها الطاهر جناية تستحق عقابا، بل يسوقها إلى حروب لا تنال منها إلا موتة خاسرة وخزيا لا ينمحي".(3/112)
ص -444-…بحكم التبع، فإن تمكنوا منها؛ جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها، وهم الأحرار الذكور، وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها، وأما مع عدم القدرة عليها؛ فالحكم مثل1 الذي قبل هذا.
وأما الرابع:
فكأسباب الرخص، هي موانع من الانحتام، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة؛ كقصر المسافر، وفطره، وتركه2 للجمعة، وما أشبه ذلك.
المسألة الثانية:3
الموانع ليست بمقصودة للشارع، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها، وذلك أنها على ضربين:
ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف -مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه- وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة؛ كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجود إخراج الزكاة، وإن وجد النصاب؛ فهو متوقف على فقد المانع، وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما4، ومن الاعتداد بما طلق في حال كفره، إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر، وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من رفع أصل الطلب، وهل يندرج فيه أيضا؟ بحيث يقال: إنه وجد مانع شرعي من توجه الطلب؛ لأن امتثال أمر السيد بأعمال أخرى في وقت هذه العبادات يعد مانعا شرعا، وحينئذ؛ فينتقل هذا النوع الثالث إلى النوع الثاني. "د".
2 في "د": "تركه" بدون الواو.
3 يحاذى بها وبما بعدها المباحث المتقدمة في المسألتين السادسة والسابعة في الشروط. "د".
4 أي: على الخلاف بين الجمهور والحنفية في تكليف الكفار بالفروع. "د".(3/113)
ص -445-…بحقها؛ فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة.
والضرب الثاني هو المقصود، وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك؛ فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع، ولا في عدم تحصيله؛ فإن المِدْيَان ليس بمخاطب برفع الدَّيْن إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه؛ لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب.
والدليل على ذلك أن وضع السبب مكمل الشروط، يقتضي قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه، وإلا، فلو لم يكن كذلك؛ لم يكن موضوعا على أنه سبب، وقد فرض كذلك، هذا خلف، وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب؛ ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب، وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب، هذا خلف، فإن القصدين متضادان، ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه؛ لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك؛ لم يثبت في الشرع مانعا.
وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع؛ لم يثبت حصوله معتبرا شرعا، وإذا لم يعتبر؛ لم يكن مانعا من جريان حكم السبب، وقد فرض كذلك، وهو عين التناقض.
فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه؛ ففي ذلك تفصيل، وهي:(3/114)
ص -446-…المسألة الثالثة:
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف؛ مأمورا به، أو منهيا عنه، أو مخيرا فيه، أو لا.
فإن كان الأول؛ فظاهر؛ كالرجل يكون بيده1 له نصاب، لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك، وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع.
وإن كان الثاني، وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا، قصدا لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه؛ فهو عمل غير صحيح.
والدليل على ذلك من النقل أمور، من ذلك قوله, جل وعلا: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} الآية [القلم: 17]؛ فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين، بتحريهم المانع من إتيانهم وهو وقت الصبح الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة2، والعقاب إنما يكون لفعل محرم.
وقوله [تعالى]3: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، نزلت بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا4،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة "بيده" ليست في "م" و"خ".
2 يعني: فالمانع عادي، وليس بشرعي حتى ينطبق عليه تعريف المانع الذي هو موضوع هذه المباحث، وهو ما اقتضى حكمة تنافي حكمة السبب، وعليه فما وجه ذكره هنا؟ إلا أن يقال: إن العقاب على تحصيل المانع العادي يفيد أن تحصيل المانع الشرعي قصدا مثله؛ فإن القصد في كل الوصول إلى موجب الحرمان. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 هذا إنما يظهر حسبما كان عليه الأمر قبل نزول آية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}؛ فقد كانوا يطلقون ويرتجعون لا إلى حد، يضارون الزوجات بذلك، فلا يضمنها الرجل إليه ولا يدعها تتزوج طول حياتها. "د".(3/115)
ص -447-…وأن1 لا تنقضي عدتها إلا بعد طول؛ فكان الارتجاع بذلك القصد إذ هو مانع من حلها للأزواج.
وفي الحديث: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها2 فباعوها"، وفي بعض الروايات: "وأكلوا أثمانها"3.
وقال عليه الصلاة والسلام4: "ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "أو".
2 قال "ماء": "فجملوها؛ بالجيم، والميم المشددة؛ أي: أذابوها".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 20/ رقم 4296" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور، "وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581"، وأحمد في "المسند" "3/ 324، 326"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 279/ رقم 3486"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخنزير، 7/ 309"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في بيوع جلود الميتة والأصنام، 3/ 591/ رقم 1297"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه، 2/ 732/ رقم 2167" مطولا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه اللفظ المذكور.
4 في "م": "عليه السلام".
5 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب الخمر يسمونها بغير اسمها، 2/ 1123/ رقم 3385"، وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" "رقم 8" عن بلال بن يحيى العبسي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة مرفوعا بلفظ: "... باسم يسمونها إياه".
وإسناده جيد، رجاله رجال الشيخين؛ غير بلال بن يحيى، قال ابن معين: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان.(3/116)
وتابعه شعبة، ولكنه أبهم الصحابي، وذلك لا يضر، وأسقط "ثابت بن السمط"، ولفظه لفظ المصنف.
أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 237" بإسناد صحيح.
وللحديث شواهد من حديث أبي مالك الأشعري وسيأتي تخريجه "3/ 113"، وعائشة، وأبي أمامة الباهلي، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم, رضي الله عنهم.(3/117)
ص -448-…وفي رواية: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف"1 الحديث.
وفي بعض الحديث: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالبيع"2. فكأن المستحل هنا رأى أن المانع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، 10/ 51/ رقم 5590"؛ فقال: وقال هشام بن عمار عن صدقة بن خالد عن ابن جابر عن عطية بن قيس عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري به.
وقد وصله جماعة؛ منهم: ابن حبان في "الصحيح" "15/ 154/ رقم 6754- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3417"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 272 و10/ 221"، وابن حجر في "تغليق التعليق" "5/ 17-19"، وهو حديث صحيح. وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 91".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "الحر: هذا اللفظ مضبوط في معظم الروايات من "صحيح البخاري" بالحاء المهملة والراء الخفيفة، قال ابن العربي: روايته بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين، وهو الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى".
قلت: وهو في الأصل المخطوط و"ماء" بالمعجمتين؛ فاقتضى التنويه.
2 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" ثنا عبد العزيز بن محمد المسكي نا ابن الجنيد نا سويد عن ابن المبارك عن الأوزاعي رفعه.
وإسناده ضعيف؛ لأنه معضل، الأوزاعي ثقة من أتباع التابعين, رحمه الله تعالى.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "استحلال القتل باسم الإرهاب هو ما يرتكبه السلطان الجائر في طمس أعلام العدالة، وإطفاء نور الحرية, من اضطهاد بغاة الإصلاح والدعاة إلى الحق ورفعهم على أعواد المشانق، أو ضرب السيوف على أعناقهم بدعوى حماية الملك والذود عن "حرم" السياسة"!!(3/118)
ص -449-…ثهو الاسم؛ فنقل المحرم إلى اسم آخر، حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له.
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]؛ فاستثنى الإضرار، فإذا أقر في مرضه بدين لوارث، أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه؛ كان مضارا، والإضرار ممنوع باتفاق.
وقال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية [النحل: 91].
قال أحمد بن حنبل: عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان، يبطلون الأيمان بالحيل، [وقال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]]1.
وفي الحديث: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ2"3.
وفيه: "إذا سمعتم به -يعني: الوباء- بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فرارا منه"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 في الأرض المباحة بئر للشخص، وفي الأرض كلأ مباح يريد أن يمنع الناس منه بإيجاده مانعا لهم من رعيه، وهو بخله بسقيهم من فضل ماء بئره، فنهي عن ذلك. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، 5/ 31/ رقم 2253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء، 3/ 1198/ رقم 1566" عن أبي هريرة, رضي الله عنه.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 178 =(3/119)
ص -450-…والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح, رضي الله تعالى عنهم.
وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جارٍ معناه في الموانع، ومن هنالك يفهم حكمها، وهل يكون العمل باطلا أم لا؛ فينقسم إلى الضربين؛ فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع، أو لا؛ فإن كان كذلك؛ فالحكم متوجه، كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به، وإن لم يكن كذلك، بل كان المانع واقعا شرعا؛ كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه؛ فهو محل نظر -على وزان ما تقدم في الشروط- ولا فائدة في التكرار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -179/ رقم 5728"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 3/ 1737/ رقم 2218" من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو أشهر ما ورد في الباب، وفيه عن سعد بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة وجد عكرمة بن خالد وأم أيمن -رضي الله عنهم- وأخرج ذلك بتفصيل حسن شيخ المحدثين ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" "ص250 وما بعدها".
قال: "د": "وهذا الحجر الصحي الذي يتبجح باختراعه خدمة للإنسانية أهل هذا العصر فيه في كلتا جهتيه قصد إلى المانع لكونه مانعا؛ فقدومهم على أرضه رفع للمانع من إصابتهم عادة؛ فنهوا عنه، وخروجهم من أرضه تحصيل للمانع من إصابتهم وهو بعدهم عنه، وحكمة الأول ظاهرة، وحكمة الثاني من الوجهة الدينية الصرفة الفرار من قدر الله والركون إلى محض الأسباب، وإن كان عمر قال في مثله: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"، ومن الوجهة الشرعية الصحية: خشية تلويث الجهات الأخرى بالجراثيم التي ربما تكون علقت بهم أو بأمتعتهم".(3/120)
ص -451-…النوع الرابع: في الصحة والبطلان1
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في معنى الصحة، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين:
أحدهما:
أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة، ومبرئة للذمة، ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء، وما أشبه ذلك2 من العبارات المنبئة عن هذه المعاني، وكما نقول في العادات3: إنها صحيحة، بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك, واستباحة4 الأبضاع، وجواز الانتفاع، وما يرجع5 إلى ذلك.
والثاني:
أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة، كترتب الثواب؛ فيقال: هذا عمل صحيح، بمعنى أنه يرجى6 به الثواب في الآخرة؛ ففي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الصحة والبطلان ليسا على التحقيق من الأحكام الوضعية في شيء، بل من الأمور العقلية؛ لأنه بعد ورود أمر الشارع بالفعل ومعرفة شرائطه وموانعه لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف بمجرد العقل صحته أو بطلانه، ولذا أسقطهما كثير من الأصوليين؛ فلم يعدوهما في الأحكام. "د".
2 كموافقة أمر الشرع كما قالوه. "د".
3 المعاملات. "ماء".
4 ولا يقال: حصول الانتفاع وحصول التوالد والتناسل؛ لأنها قد تترتب على الباطل، وقد تتخلف عن الصحيح. "د".
5 كصحة تصرفاته الشرعية فيما ابتاعه بيعا صحيحا مثلا. "د".
6 لم يقل: يحصل الثواب في الآخرة تفاديا مما اعترض به عليه من أن الثواب قد لا يترتب على الصحة الصحيحة كما سيأتي. "د".(3/121)
ص -452-…العبادات ظاهر، وفي العادات1 يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع، وقصد به مقتضى الأمر والنهي، وكذلك في المخير إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره، لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع، غافلا عن أصل التشريع؛ فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه؛ فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك2.
المسألة الثانية:
في معنى البطلان، وهو ما يقابل معنى الصحة؛ فله معنيان:
أحدهما:
أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها غير مجزئة، ولا مبرئة للذمة، ولا مسقطة للقضاء؛ فكذلك نقول: إنها باطلة بذلك المعنى، غير أن هنا نظرا؛ فإن كون العبادة باطلة إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها، حسبما هو مبين في موضعه، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة3؛ فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا؛ كالصلاة من غير نية، أو ناقصة ركعة أو سجدة، أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم له في النكاح أنه مندوب بالجزء وهو عادي؛ فلا ثواب إلا بهذه النية، وكما سيأتي في الواجب العادي كأداء الديون والنفقة على الأولاد ورد الودائع. "د".
2 "إحياء علوم الدين" "4/ 370 وما بعد"، أثناء "بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية"، ثم انظر في "الإخلاص" "حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب عليه, 4/ 384".
3 كخلل في بعض شروطها أو أركانها. "د".(3/122)
ص -453-…متصفة به؛ كالصلاة1 في الدار المغصوبة مثلا؛ فيقع الاجتهاد:
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف.
أو في اعتبار الاتصاف؛ فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة2 من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك، وهكذا سائر ما كان في معناها.
ونقول أيضا في العادات: إنها باطلة، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا؛ من حصول أملاك، واستباحة فروج، وانتفاع بالمطلوب، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا؛ كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين:
أحدهما: من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا.
والثاني: من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد.
فأما الأول؛ فاعتبره قوم بإطلاق، وأهملوا النظر في جهة المصالح، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق؛ كالعبادات المحضة سواء، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد -وسيأتي في كتاب "المقاصد" بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا- وإذا كان كذلك؛ فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة، وغير المشروع باطل؛ فهذا كذلك، كما لم تصح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكصوم الأيام المنهية. "د".
2 والبطلان والفساد مترادفان عند غير الحنفية، أما عندهم؛ فيقولون في مثله فاسد لا باطل، وبنوا على الفرق إمكان تصحيح الفاسد لا الباطل كما يأتي "ص455" من هذا الجزء.(3/123)
ص -454-…العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع.
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا على اعتبار المصلحة، بمعنى أن المعنى أن الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه: فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل، بحيث1 لا يمكن التلافي فيه؛ بطل العمل من أصله، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه؛ لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي؛ فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام وإن ظنها العامل، وإن لم يحصل ولا2 كان في حكم الحاصل لكن أمكن تلافيه، لم يحكم بإبطال ذلك العمل؛ كما يقول مالك3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كبيع الملاقيح، فإن المعنى الذي بطل البيع من أجله حاصل مستديم؛ لأن بيع ما في بطون الأمهات منعدم فيه ركن البيع، ولا يتأتى تلافي تصحيحه. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "يحصل مدة كان"، وكتب "د": "لعل الأصل: "وإن كان حاصلا مدة أو في حكم الحاصل" يعني: مدة أيضا؛ فيكون مقابلا للقسم قبله، وتنطبق عليه التفاريع الآتية، فإن المفوت غالبا للعتق وهو البيع في حكم الحاصل، ولكن أثره لم يدم، بل ارتفع بالعتق، وأمكن تلافي مفوت العتق بسبب عتق المشتري، وإنما قلنا: "في حكم الحاصل"؛ لأن التفويت إنما يظهر أثره بعد موت السيد، فهناك كان يغلب عتقه، أعني إذا لم يوجد مانع، كبعض الصور التي يسترق فيها المدبر ولا ينفذ عتقه، أما الكتابة الفاسدة لفقد شرط مثلا؛ فالمعنى الذي لأجله بطلت حاصل بالفعل، لكن لمدة، وهي ما قبل خروجه حرا بسببها, وأمكن التلافي بسبب الحرية؛ فجعل الأمر في المثال وما قبله منزلا على المصلحة، وهي تشوف الشارع للحرية مع إمكان التلافي بإهدار بقاء الموجب للبطلان، ومثالا الغصب والبيع والسلف مما فيه حصول المعنى الموجب للبطلان فعلا، ولكنه لمدة وهي ما قبل الإجازة، وإسقاط الشرطين اللذين أمكن بهما إهدار الموجب للبطلان".(3/124)
قلت: وانظر نحو ما ذكره المصنف في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 283 و29/ 281-292 و32/ 87-88".
قلت: وفي حاشية الأصل: "هنا تحريف في لفظ مرة".
3 انظر: "الموطأ" "2/ 423- رواية أبي مصعب".(3/125)
ص -455-…في بيع المدبر: إنه يرد إلا أن يعتقه المشتري فلا يرد؛ فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق، أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير؛ فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق؛ فلم يرد لذلك، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب, وكذلك بيع الغاصب للمغصوب، موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده؛ لأن المنع إنما كان لحقه، فإذا أجازه جاز، ومثله البيع والسلف منهي عنه، فإذا1 أسقط مشترط السلف شرطه؛ جاز ما عقداه، ومضى على بعض الأقوال، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا2، كما في حديث بريرة3، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة4؛ كنكاح الشغار، والدرهم بالدرهمين، ونحوهما، إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه؛ فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي؛ فصار العقد موافقا لقصد الشارع؛ إما على حكم الانعطاف5 إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول، أو غير حكم الانعطاف إن قلنا: إن تصحيحه وقع الآن لا قبل, وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد.
والثاني من الإطلاقين: أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذا".
2 ما قبله كان بإسقاط مشترط السلف، أما هذا؛ فإن أهل بريرة لم يسقطوه، بل بقوا متمسكين به، ولكن أسقطه الشارع كما في الحديث. "د".
3 مضى تخريجه "ص340".
4 الباطل عندهم هو ما يكون غير مشروع ألبتة؛ كبيع الملاقيح، لا ما كان النهي باعتبار وصف عارض؛ فإنه يسمى فاسدا، والثاني يمكن تصحيحه بإهدار الوصف الموجب للفساد، كإسقاط الزيادة في الربا، ولا يحتاج لعقد جديد؛ كالأمثلة التي ذكرها. "د".
5 وانسحاب آثار العقد الأول على ما تم بعد زوال الوصف. "د".(3/126)
ص -456-…الآخرة، وهو الثواب، ويتصور ذلك في العبادات والعادات.
فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول؛ فلا يترتب عليها جزاء؛ لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا.
فالأول: كالمتعبد رئاء الناس؛ فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب.
والثاني: كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}1 الآية [البقرة: 264].
وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}2 [الزمر: 65].
وفي الحديث: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قضت الآية بأنها كالعدم في الآخرة؛ لأنها كتراب على حجر صلد نزل عليه وابل فلم يترك له أثرا، وظاهر أن هذا باعتبار الآخرة. "د".
2 فالعبادة التي حصل فيها الإشراك مع الله باطلة بالمعنيين؛ أي: في الدنيا والآخرة. "د".
3 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" "4/ 16"- والدارقطني في "السنن" "3/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 320-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته "أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها؛ فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية؛ فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منها بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؛ فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب".(3/127)
ص -457-…على تأويل من جعل الإبطال حقيقة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي رواية البيهقي: إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أيفع؛ كما عند الدارقطني.
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما".
وأعله الشافعي في "الأم" "3/ 33-ط الشعب"، وابن حزم في "المحلى" "9/ 60" بجهالة العالية.
وأم محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية؛ فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق" كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 216"، وقال: "وهذا حديث فيه شعبة، وإذا وجد شعبة في حديث؛ فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله؛ فقد استوثق لدينه"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260".
قال "د": "ولا يتجه جواب بعضهم هنا عن الشافعية بأن إنكار عائشة راجع إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين".
1 يعني: ويكون من الإطلاق الثاني. "د".(3/128)
وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل هذا الحديث أن امرأة ذكرت لعائشة -رضي الله عنها- شيئا باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ذلك؛ فقالت عائشة: بئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم... إلخ" الحديث.
وحيث كانت صورة العقد المشتمل عليها الحديث جائزة عند الشافعية؛ أجابوا عنه بوجوه، أحدها: القدح في سنده بجهالة الراوي، ثانيها: القدح في متنه بأن الأعمال الصالحة لا يحبطها إلا الردة، ومحال أن تلزم عائشة زيدا برأيها وتكفره باجتهاده، ثالثها: أن إنكار عائشة على فرض صحة الحديث عائد إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين، رابعها: أن الحديث يتضمن اختلاف صحابيين في حكم، وإذا اختلف الصحابة في شيء؛ أخذنا بقول الذي يعضده القياس، وهو قول زيد".(3/129)
ص -458-…وتكون أعمال العادات باطلة أيضا بمعنى عدم ترتب الثواب عليها، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا؛ فالأول كالعقود المفسوخة شرعا، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة، من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها؛ كالأكل والشرب والنوم وأشباهها، والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق، لا بالقصد إلى ذلك؛ فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن، لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا؛ فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه, وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة؛ فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا؛ لأن الأعمال بالنيات.
والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل، فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20].
وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر، أو فيه إشارة إلى هذا المعنى؛ فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة. وانظر في "الإحياء"1 وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظره "4/ 374" أثناء "بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار".(3/130)
ص -459-…المسألة الثالثة:
ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي؛ إذ لا يخلو الفعل العادي -إذا خلا عن قصد التعبد- أن يفعل بقصد أو بغير قصد، والمفعول بقصد إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل، أو في المخالفة فيترك؛ إما اختيارا، وإما اضطرار؛ فهذه أربعة أقسام:
أحدها:
أن يفعل من غير قصد؛ كالغافل والنائم؛ فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير، فليس فيه ثواب ولا عقاب؛ لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف، فما لا يتعلق به خطاب تكليف؛ لا يترتب عليه ثمرته.
والثاني:
أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا؛ فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك, كالأول، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا؛ كأداء الديون، ورد الودائع والأمانات، والإنفاق على الأولاد، وأشباه ذلك، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع؛ لأن الأعمال بالنيات، وقد قال في الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"1، ومعنى الحديث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/131)
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها: "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 9/ رقم 1", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله, صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، 4/ 179/ رقم 1647"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات، 2/ 651/ رقم 2201"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، 1/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية، 2/ 1413/ رقم 4227"، وأحمد في "المسند" "1/ 25، 43" من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يصح إلا من حديثه.(3/132)
ص -460-…متفق عليه ومقطوع به في الشريعة.
فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني.
والثالث:
أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا؛ كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها؛ عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد؛ فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني؛ لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول، ومثل ذلك الزكاة1 المأخوذة كرها؛ فإنها صحيحة على الإطلاق الأول, إذ كانت مسقطة للقضاء [أ]2 ومبرئة للذمة، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا، أو استحياء من الناس، أو ما أشبه هذا، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط3؛ فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: "ومثل ذلك" لأنه أتى به لمجرد الفائدة المناسبة، وإلا؛ فهذا ليس من موضوع المسألة؛ لأن الزكاة من العبادات. "د".
2 زيادة من الأصل.
3 إقامة الحدود من خطاب التكليف المسبب عن خطاب الوضع بفعل المحدود عليه، وهذا بالنسبة للإمام، أما بالنسبة لمن أقيمت عليه؛ فلا خطاب يتوجه عليه فيها، فلا ينتظر أن تكون له نية؛ لأن إقامة الحد ليس من فعله؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما إذا طلبها كماعز -رضي الله عنه- والغامدية والجهنية, طلبوا إقامة الحد للطهر من الزنى؛ فتم الرجم، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد حين سب الماعزية*: "مهلا يا خالد؛ فقد تابت توبة لو قالها صاحب مَكْس لغفر له"، ولما صلى =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخالدية".(3/133)
ص -461-…حال، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات.
والرابع:
أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا؛ كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله؛ فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال، أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا؛ فهو من الصحيح بالاعتبارين, كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة؛ فهو من الباطل بالاعتبارين، فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير، فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه؛ فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه:
أحدها:
أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول، باطلا بالاعتبار الثاني، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
والثاني:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا، بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه، دون ما لم يؤذن له فيه، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة، وقولهم: أيقضي شهوته ثم يؤجر؟ فقال: "أرأيتم لو وضعها في حرام!"1، وهذا مبسوط في كتاب "المقاصد" من هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على الجهنية؛ قال له عمر, رضي الله عنه: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال له عليه الصلاة والسلام: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله, عز وجل"، والظاهر أنه يترتب عليه المغفرة لا غير؛ لأنه الذي ورد في الحديث في هؤلاء الذين جادوا بأنفسهم لله، وقد يقال: إن الطلب غير إقامة الحد الذي هو من فعل الغير؛ فليس فيه إلا التكفير، أما الطلب من المحدود كما حصل من هؤلاء؛ فعمل آخر مستقل له فضله ونيته، كما يدل على قوله: "أن جادت بنفسها لله"، وهذا عمل ديني خطير؛ فلا يحرم ثوابه. "د".(3/134)
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697/ رقم 1006". =(3/135)
ص -462-…والثالث:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا, في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني, في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح، والأول بالنظر إليه في نفسه.
فصل:
وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني؛ فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة، فإن كان عبادة؛ فلا تقسيم فيه على الجملة، وإن كان عادة؛ فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ، أو لا، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما لا يصحبه حظ؛ فلا إشكال في صحته.
والثاني:1
كذلك لأن الغالب هو الذي له الحكم، وما سواه في حكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل الحديث في "صحيح مسلم": "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام: أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"".
ثبت عليه الصلاة والسلام الأجر لوضع الشهوة في حلال مقارنا له على وجه التمثيل بثبوت الوزر بوضعها في حرام، وهذا ما يسميه الأصوليون قياس العكس، وهو الاستدلال بنقيض العلة على الحكم، والتحقيق أنه بطريق أضعف من قياس الشبه؛ فلا يستقل بتفصيل الحكم، والحديث خبر آحاد، وهو لا يكفي في تقرير الأصول الواجب إقامتها على أدلة تفيد القطع، ومن الجائز أن يكون ثبوت الأجر لوضع الشهوة في الحلال متلقى من طريق الوحي، وتكون مقارنته بوضعها في حرام واردة لغرض آخر كتقريب المعنى إلى فهم المخاطب، لا للتنبيه على دخول هذا النوع في المقاييس المعتد بها في أصول الأحكام".
1 وهو ما يكون قصد الحظ فيه مغلوبا؛ فالنشر على عكس اللف. "د".(3/136)
ص -463-…المطرح.
والثالث:
محتمل لأمرين: أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا؛ إعمالا للجانب المغلوب، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني؛ إعمالا لحكم الغلبة، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب، والحمد لله.(3/137)
ص -464-…النوع الخامس في العزائم والرخص:1
والنظر فيه في مسائل:
المسألة الأولى:
العزيمة2 ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.
ومعنى كونها "كلية" أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض؛ كالصلاة مثلا؛ فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، وكذلك الصوم، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر شعائر الإسلام الكلية، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل؛ كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين, من البيع، والإجارة، وسائر عقود المعاوضات، وكذلك أحكام الجنايات، والقصاص، والضمان، وبالجملة جميع كليات الشريعة.
ومعنى "شرعيتها ابتداء" أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جرى المصنف في جعل الرخصة من خطاب الوضع على طريقة بعض الأصوليين كالآمدي, وعدها آخرون من قبيل الحكم الشرعي وهو الذي يقتضيه صنيع من قسمها إلى واجب ومندوب ومباح، وخلاف الأولى كما فعل تاج الدين ابن السبكي في "جمع الجوامع" [1/ 162- مع "حاشية العطار"]. "خ".
2 المحققون على أنه لا تطلق العزيمة إلا فيما كانت فيه الرخصة مقابلة لها, أما ما لا رخصة فيه بحال؛ فلا يطلق عليه عزيمة, وإن كان حكما ابتدائيا كليا؛ فالتعريف للعزيمة شامل لها، وذلك خلاف رأي المحققين. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم على الرخصة والعزيمة في "المدارج" "2/ 57-59، 282"، و"الزاد" "3/ 88"، و"روضة المحبين" "ص163-165"، و"الوابل الصيب" "ص9، 17".(3/138)
ص -465-…التكليفية1 على العباد من أول الأمر؛ فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير؛ كان2 هذا الأخير كالحكم الابتدائي، تمهيدا للمصالح الكلية العامة.
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب؛ فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك, فإذا وجد اقتضت أحكاما؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108].
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 187].
وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
وما كان مثل ذلك؛ فإنه تمهيد لأحكام وردت [شيئا]3 بعد شيء بحسب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا ينافي هذا وما يأتي له في المسألة الثانية من أن حكم الرخصة الإباحة جعله العزيمة والرخصة أحكاما وضعية؛ فإن الصوم والصلاة مثلا يتعلق بهما حكم تكليفي هو الوجوب مثلا، وحكم وضعي هو كونهما عزيمة أو رخصة، قال في "التحرير": "للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبا أو ندبا أو أباحة، وهي من أحكام التكليف، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسبه تخفيف الحكم مع قيام الدليل على الأصل، وهو من أحكام الوضع؛ فإيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من وجه، ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنى"، وعليه مشى الأبهري. "د".
2 في "ط": "كان منسوخا... وكان هذا...".
3 سقط من الأصل.(3/139)
ص -466-…الحاجة إلى ذلك؛ فكل هذا يشمله اسم العزيمة، فإنه شرع ابتدائي حكما1، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا؛ كقوله [تعالى]2: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
وقوله تعالى3: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان4، هذا وما أشبهه من العزائم؛ لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية.
وأما الرخصة؛ فما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع5، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فكونه "مشروعا لعذر" هو الخاصة التي6 ذكرها علماء الأصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل أصل العبارة: "فإنه حكم كلي شرع ابتداء"، ولا داعي للفظ "حكما"؛ لأن الابتداء حقيقي في جميع هذه الأمثلة، إلا في آية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ}؛ فإنها من قبيل الناسخ، وهو ابتدائي حكما كما تقدم له. "د".
2 سقط من الأصل.
3 كلمة "تعالى" ليست في "م" و"خ" و"ط" و"ج".
4 أخرجه البخار في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان والنساء في الحرب، 6/ 148/ رقم 3014، 3015"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، 3/ 1364/ رقم 1744" من حديث عبد الله بن عمرو.
وورد عن جماعة من الصحابة حتى عده بعضه متواترا، وتفصيل ذلك يطول, ولا يتسع المقام له، والله الموفق.
5 في قول كل العلماء. "ماء".(3/140)
6 ظاهر صنيعه أنه يريد الاستدراك على الأصوليين بأن تعريفهم غير مانع، وأنه لولا زيادته كلمة "شاقة"؛ لاختل التعريف، ودخل في الرخصة القراض وما معه، ولكن الواقع أنهم لم يقتصروا على هذه الخاصة، بل قالوا: "ما شرع لعذر مع قيام الدليل المحرم لولا العذر"، ولا يخفى أن هذه الخاصة التي ذكروها لا تبقي شيئا من القراض وما معه داخلا في الرخصة؛ لأن معنى قيام الدليل المحرم بقاؤه معمول به لولا العذر، ولا شيء من ذلك في القراض وما معه. "د".(3/141)
ص -467-…وكونه "شاقا"؛ فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة، من غير مشقة موجودة؛ فلا يسمى ذلك رخصة؛ كشرعية القراض مثلا، فإنه لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة، والقرض، والسلَم؛ فلا يسمى هذا كله رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة، وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي، فلا يسمى رخصة أيضا، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما، أو يقدر بمشقة؛ فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة، لكن بسبب المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام؛ فهذا رخصة محققة، فإن كان هذا المترخص إماما؛ فقد جاء في الحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به -ثم قال:- وإن صلى جالسا؛ فصلوا جلوسا أجمعون"1؛ فصلاتهم جلوسا وقع لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، بل لطلب الموافقة2 للإمام وعدم المخالفة عليه؛ فلا يسمى مثل هذا رخصة، وإن كان مستثنى لعذر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 688، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 2/ 584/ رقم 1113، وكتاب السهو، باب الإشارة في الصلاة، 3/ 108/ رقم 1236"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 309/ رقم 412" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
2 هذا هو الأصل التكميلي؛ فصلاة الإمام جالسا رخصة، وموافقتهم له ليس برخصة. "د".(3/142)
ص -468-…وكون هذا المشروع لعذر "مستثنى من أصل كلي" يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء؛ فلذلك لم تكن كليات في الحكم، وإن عرض لها ذلك؛ فبالعرض، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر والفطر؛ فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم، هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة؛ فإن الاستثناء ثانٍ عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة، وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الآية [البقرة: 173].
وكونه "مقتصرا به على موضع الحاجة" خاصة من خواص الرخص أيضا لا بد منه1، وهو الفاصل بين ما شُرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص؛ فإن شرعية الرخص جزئية يُقتصر فيها على موضع الحاجة، فإن المصلي إذا انقطع سفره؛ وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصلِّ قاعدا، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم، وكذلك سائر الرخص، بخلاف القرض، والقراض، والمساقاة، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة؛ فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح؛ لأنه مشروع أيضا وإن زال العذر، فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار، وكذلك ما أشبهه.
فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي، والرخصة راجعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/143)
1 يلوح أنه حكم مفرع على الرخصة لازم لها، ولا يتوقف تعريفها عليه؛ لأنه تم بالقيود قبله، بدليل أنه أخرج به القرض وما معه وهو نفس ما أخرجه بقيد المشقة؛ فإن كان مراده أنه لا بد منه في التعريف؛ فغير ظاهر، وإن كان مراده أنه وصف ملازم وحكم ثابت للرخصة؛ فظاهر، وهو مفهوم من تعريفها بما شرع لعذر شاق؛ لأن موضع الحاجة هو العذر الشاق؛ فعند زوال هذا العذر لا يوجد محل الرخصة؛ فلا يتأتى الترخص حينئذ. "د".(3/144)
ص -469-…إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي.
فصل:
وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيه القرض، والقراض، والمساقاة، ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العريَّة بخرصها تمرا، وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك، وعليه يدل قوله: "نهى عن بيع ما ليس عندك"1،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أحمد في "المسند" "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/ رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/ رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/ رقم 2188"، والدارمي في "السنن" "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع".(3/145)
وكتب "خ" ما نصه: "أبقى أكثر أهل العلم هذا الحديث وهو قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" على ما يقتضيه لفظه من العموم، وجعلوا السلم مستثنى منه بالأدلة الدالة على جوازه، وذهب ابن القيم في "إعلام الموقعين" إلى أن المراد من الحديث النهي عن بيع العين المعينة وهي لم تزل في ملك الغير، أو بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وصرح بأن جعل السلم داخلا في الحديث من قبيل التوهم، والفرق بين طريقة الجمهور وهذه الطريقة أن ابن القيم يجعل الحديث من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، والجمهور يجعلونه من العام المخصوص، ويقولون مع هذا: إن بين السلم وبين بقية الصور الممنوعة وجها من الفرق يستدعي الاختلاف في الحكم؛ فكلام ابن القيم إنما يطعن في قول من صرح بأن السلم مخالف للقياس، ونفي أن يكون هناك فارق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين المضمون في الذمة المقدور على تسليمه".(3/146)
ص -470-…"وأرخَصَ في السلم"1، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات؛ فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل، فيجري عليها حكمها في التسمية، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات2 لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، 4/ 429/ رقم 2240، 2241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب السلم، 3/ 1226-1227/ رقم 1604"، وأحمد في "المسند" "1/ 282"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في السلف في الطعام والتمر، 3/ 602-603/ رقم 1311"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب السلف في الثمار، 7/ 290"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والتجارات، باب في السلف, 3/ 741-742/ رقم 3463", وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات, باب السلف في كيل معلوم، 2/ 765/ رقم 2280"، والدارمي في "السنن" "2/ 260"، وابن الجارود في "المنتقى" "614، 615"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 18" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وعند الدارقطني في "السنن" "3/ 3": "وهم يسلمون" بدل "يسلفون".
2 أي: التكميلات للتحسينيات؛ فإن الجماعة على العموم من أصل التحسينيات، وموافقة الإمام في الجلوس مكمل لها، كما أن قسمة الجيش إلى فرقتين تؤديان الصلاة مع الإمام تكميل لها أيضا، وليس في المسألتين خاصة المشقة حتى يندرجا في سلك الرخصة بالمعنى الأول. "د". وفي "ط": "التكميليات".(3/147)
ص -471-…من أصل الحاجيات؛ فيطلق عليها لفظ1 الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات، كالمصلي لا يقدر على القيام؛ فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه، لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه، وهذا كله ظاهر.
فصل:
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
وقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث: "أنه -عليه الصلاة والسلام- صنع شيئا ترخص فيه"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بغير الإطلاق الأول؛ لأن مثل هذا لا يتعلق به حكم آخر يسمى عزيمة، بل إن صلاته جالسا هي العزيمة؛ فالرخصة بالإطلاق الأول إنما تكون في أصل الحاجيات لا غير، فما كان من التحسينيات أو الضروريات لا تطلق عليه الرخصة بالمعنى الأول، وإن أطلقت عليه بالمعنى الذي في هذا الفصل. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، 10/ 513/ رقم 6101، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 276/ رقم 7301" من حديث عائشة قالت: صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا ترخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؛ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية".(3/148)
ص -472-…ويمكن أن يرجع إليه معنى1 الحديث الآخر: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"2، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله3؛ فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة، بالنسبة إلى ما حملته4 الأمم السالفة من العزائم الشاقة.
فصل:
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا5، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم؛ فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ} [الذاريات: 56].
وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الآية [طه: 132].
وما كان نحو ذلك مما دل على أن العباد ملك الله6 على الجملة والتفصيل؛ فحق عليهم التوجه إليه، وبذل المجهود في عبادته؛ لأنهم عباده وليس لهم حق لديه، ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه؛ فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية.
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا، والنواهي كراهة أو تحريا، وترك7 كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمعنى".
2 سيأتي تخريجه في "ص480".
3 انظر: "ص506-507".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "حمله".
5 عن القيود والاعتبارات التي لوحظت في الإطلاقات الثلاثة السابقة؛ فهو أوسع الإطلاقات الأربعة، ولكنه على ما ترى منظور فيه إلى الخاصة من أرباب الأحوال. "د".
6 في "ط": "ملك لله".
7 هو محل الفرق بين هذا الإطلاق وغيره. "د".(3/149)
ص -473-…ما يشغل عن ذلك من المباحات، فضلا عن غيرها؛ لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة؛ فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله؛ فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا معا توسعة1 على العبد، ورفع حرج عنه، وإثباتا لحظه، وتصير المباحات -عند هذا النظر- تتعارض مع المندوبات على الأوقات؛ فيؤثر حظه2 في الأخرى على حظه في الدنيا، أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه؛ فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا، أو آخذا له حقا لربه؛ فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله، وحق الله هو المقدم المقصود؛ فإن [على]3 العبد بذل المجهود، والرب يحكم ما يريد.
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقي عن الأحوال، وعليه يربون التلاميذ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة، حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شامل للرخصة بالمعنى المعروف، وبالمعنى الذي أريد هنا، وقوله: "ورفع حرج عنه" خاص بمحل الرخص المعروف، وقوله: "وإثباتا لحظه" هذا ما زاده هنا على ما سبق، وهو تلك المباحات التي تشغل عن مقام العبودية. "د".(3/150)
2 أي: فتارة يقدم المندوب على المباح؛ فيؤثر حظه في الآخرة على حظه في الدنيا، وفي هذه الحالة يصح أن يقال أيضا: إنه آثر حق ربه المطلوب بفعل هذا المندوب على حظ نفسه وهو المباح، وتارة يقدم المباح على المندوب، لكن بقصد أن من حق الله عليه ألا يعرض عن رخصته وتفضله عليه بالتوسعة بهذا المباح، وحينئذ يكون آخذا للمباح لا من جهة حظ نفسه بل من جهة أنه حق لربه وإن كان في ضمنه حصل حظ نفسه بالمباح؛ إلا أنه تابع؛ فعلى التقدير الأول يكون رفع المباح وباعده عن عمله رأسا، وعلى الثاني يكون فعل المباح لكن على أنه حق لربه لا لحظ نفسه. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(3/151)
ص -474-…الحاجيات كلها أو جلها من الرخص، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها1، حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع, إن شاء الله تعالى.
فصل:
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة؛ ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس، وما هو عام للناس كلهم، فأما العام للناس كلهم؛ فذلك الإطلاق الأول، وعليه يقع التفريع في هذا النوع، وأما الإطلاق الثاني؛ فلا كلام عليه هنا؛ إذا لا تفريع يترتب عليه، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي، وكذلك الثالث، وأما الرابع، فلما كان خاصا بقوم؛ لم يتعرض له على الخصوص، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه؛ فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى.
المسألة الثانية:
حكم الرخصة الإباحة مطلقا1 من حيث هي رخصة، والدليل على ذلك أمور:
أحدها:
موارد النصوص عليها؛ كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما ما يرجع إلى حق الله منها؛ فليس من الرخص كما أشرنا إليه. "د".
2 أي: من غير تفصيل حتى فيما يتوهم فيه الوجوب أو الندب. "د".(3/152)
ص -475-…[النساء: 101].
وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] الآية إلى آخرها1.
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم والمؤاخذة، على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل؛ كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ2 عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا3 فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح، وبجواز الإقدام خاصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشتمل على عقوبة من كفر وهو الغضب والعذاب العظيم، وقد استثنى منه من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يعني: فلا غضب ولا عذاب، أي: فلا إثم عليه؛ فالترخيص للمؤمن بالقول في هذه الحالة إنما رفع عنه فيه الحرج والإثم، وهو معنى الإباحة على أحد المعنيين السابقين في الكلام على المباح. "د".
2 أي: لا تبعة مهر؛ فلا تطالبون به إلا بالمس ولو بدون فرض للمهر، أو بفرض له ولو مع عدم المس, وهذا المعنى هو الظاهر، وقيل: لا وزر، فكأنه لما كثر ذم الطلاق؛ فهموا أنه لا يجوز، فقال: لا جناح، ولكن هذا المعنى كما ترى إذا نظر فيه إلى بقية الكلام، وكلام المؤلف مبني على المعنى الثاني. "د".(3/153)
3 لما تحرجوا عن التجارة في موسم الحج؛ لأنها تستدعي جدالا وقد نهوا عن الجدال، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت الآية. "د". "استدراك3".(3/154)
ص -476-…وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ1} [البقرة: 185].
وفي الحديث: "كنا نسافر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنا المقصر2, ومنا المتم، ولا يعيب3، بعضنا على بعض"4.
والشواهد على ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن فطر فعليه عدة، لكنه لم يأتِ فيه بما يقتضي جواز الإقدام عليه، وظاهر أن الاستدلال بهذا المقدار من الآية ضعيف، لكن ما بعدها وهو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} معناه: أنه لا يريد حرجكم؛ فهو يرفع عنكم إثم الإفطار في المرض والسفر، وبهذا يظهر ما يستدل عليه المؤلف، أما مجرد عدم ذكر حكم الإفطار من وجوب أو حرمة؛ فلا يفيد المطلوب، وتأمل. "د".
2 من أقصر على لغة فيه. "د".
3 وذلك يدل على الإباحة. "د".
4 أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 189"، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 141"، وابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 1161- مع التنقيح" عن عائشة بلفظ: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" بإسناد فيه سعيد بن محمد بن ثواب، وهو مجهول الحال، وقد استنكر هذا الحديث الإمام أحمد؛ كما قاله ابنه عبد الله في "العلل" "3/ 29".
والذي صح من فعلها -رضي الله عنها- في "الصحيحين" وغيرهما، ولذا قال البيهقي: "والصحيح عن عائشة أنها كانت تتم موقوفا".
قلت: ويتأيد ذلك أن عروة لما ذكر إتمامها؛ قال: "تأولت ما تأول عثمان"، فلو كان عندها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية؛ لم يقل عروة: إنها تأولت.
واللفظ المذكور عند المصنف أخرجه أبو بكر الأثرم من حديث أنس؛ غير أنه لا يصح، تفرد به زيد العمي وليس بشيء، وإنما الحديث المعروف: "فمنا الصائم ومنا المفطر"، كذا في "تنقيح التحقيق" "2/ 1164".
وانظر تفصيل ذلك في: "نصب الراية" "2/ 192"، و"الإرواء" "رقم 563".(3/155)
ص -477-…والثاني:
أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه؛ حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار، بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ بالرخصة، وهذا أصله الإباحة؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}1 [الأعراف: 32].
{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33].
بعد تقرير نعم كثيرة.
وأصل الرخصة2 السهولة، ومادة "ر خ ص" للسهولة واللين؛ كقولهم: شيء رخص3: بيّن الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه، فمال هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة4.
والثالث:
أنه لو كانت5 الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا؛ كانت عزائم لا رخصا، والحال بضد ذلك؛ فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل زيادة "و".
2 أي: وقد ورد إطلاق الشارع هذه المادة بهذا المعنى؛ كما في الحديث: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وكثيرا ما يرجعون في بيان المعاني الشرعية إلى معرفة المعاني اللغوية، لكن ما هنا حكم شرعي، وكون الأحكام الشرعية من إباحة أو غيرها يرجع فيها إلى مناسبات ومعانٍ لغوية هو كما ترى يشبه أن يكون استئناسا لا دليلا في مسألة أصولية، والمؤلف وإن كان من عادته أن يجمع على مدعاه ما يتيسر له من أدلته قوية وغيرها؛ إلا أنه في العادة يجعل هذه بعد تلك ويظهر على أسلوبه أن غرضه منها الاستئناس، لا أنها من صلب الأدلة كظاهر صنيعه هنا. "د".
3 في "ط": "يرخص".
4 انظر: "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس.
5 في "م": "كان".(3/156)
ص -478-…والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر؛ ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل، من حيث هي مأمور بها، فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة.
فإن قيل: هذا معترض؛ من وجهين:
أحدهما:
أن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة؛ إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا، فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا، أما أولا؛ فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وهما مما يجب الطواف بينهما، وقال تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ1 فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، والتأخر مطلوب طلب الندب، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى.
ولا يقال: إن هذه المواضع نزلت على أسباب حيث توهموا الجناح، كما ثبت في حديث عائشة2؛ لأنا نقول: مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ فإنه كما جاء في "روح المعاني" رد على الجاهلية حيث كان بعضهم يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".(3/157)
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله، 3/ 497-498/ رقم 1643" بسنده إلى عروة؛ قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت "لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كان يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية".(3/158)
ص -479-…وهي توهم الجناح، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}1 [البقرة: 198].
وقوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا2 مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى آخرها3.
وقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. "استدراك4".
{وَلا جُنَاحَ4 عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج، وإذا استوى الموضوعان5؛ لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قدمناه: "ص475- الاستدراك".
2 كان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعام فيقول: إني لأجنح أن آكل منه "والجنح: الحرج"، ويقول: المسكين أحق به مني؛ فنزلت الآية. ا. هـ. تيسير "د".
3 في "م": "آخره". وانظر: "أسباب النزول" "ص223-224" للواحدي.
4 لم أرَ في كتب التفسير والحديث وأسباب النزول ذكرًا لسبب نزول هذه الآية أو ما يفيد أنهم توهموا الحرج؛ فلذا قال: "هذا وما كان مثله متوهم فيه الحرج"، وهو يشمل ما حصل فيه التوهم بالفعل، ونزلت الآيات لنفي ذلك التوهم، وما كان شأنه ذلك وإن لم يحصل فيه توهم بالفعل حتى كان سببا للنزول، فيكون ذكر هذه الآية وجيها، لكنه لا يناسب قوله في الدخول على هذه الآيات: "مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب وهي توهم الجناح؛ كقوله تعالى... إلخ"؛ فعله يريد التوهم ولو شأنا وإن لم يكن سببا للنزول. "د".
5 في الأصل و"ط": "الموضعان".(3/159)
ص -480-…والثاني:
أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها؛ فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية1 ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة، وأنه سنة، وقيل في قصر المسافر: إنه فرض أو سنة أو مستحب، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه2"3، وقال ربنا تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلى كثير من ذلك؛ فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل.
فالجواب عن الأول: أنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة، فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص؛ فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب؛ فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما، بناء على استقرار عادة تقدمت، أو رأي عرض، كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب، وفي بعض المأكولات، حتى نزل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "العادية".
2 أي: والمباح الصرف لا تتعلق به محبة الله تعالى، وأيضا إرادته تعالى لنا اليسر ومحبته لذلك تقتضي أن الرخص محبوبة له تعالى، وأقل ذلك أن تكون مطلوبة طلب المندوب. "د".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم.(3/160)
وأخرجه أيضا من حديث ابن عمر, ابن حبان في "صحيحه" "914- موارد"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 73"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 140"، وابن منده في "التوحيد" "3/ 223-224/ رقم 716، 717"، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع، انظرها في "الإرواء" "رقم 564".(3/161)
ص -481-…والأمهات وسائر من ذكر في الآية، وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك؛ فكذلك قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، يعطي معنى الإذن، وأما كونه واجبا1؛ فمأخوذ من قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أو من دليل آخر؛ فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام، مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه.
ولنا أن نحمله2 على خصوص السبب، ويكون قوله في مثل الآية3: {مِنْ شَعَائِرِ} [البقرة: 158] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع، أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح؛ فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن، ولا إشكال فيه، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى4، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والجواب عن الثاني: أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويكون مثاله أن يجاب سائل فاتته صلاة العصر مثلا وظن أنه لا يجوز قضاؤها عند الغروب؛ فيقال له: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فالغرض إجابته بمقدار ما يدفع شبهته، لا بيان أصل وجوب العصر عليه. "د".
2 أي: فيكون المراد منه الطلب والوجوب، ولوحظ في هذا التعبير السبب وهو كراهة المسلمين الطواف؛ لمكان إساف ونائلة "الصنمين اللذين كانا يتمسح بهما أهل الجاهلية فوق الصفا والمروة" فنزلت الآية بطلب السعي، ولوحظ في التعبير تحرج المسلمين وكراهتهم، ويكون قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} صارفا للفظ {لَا جُنَاحَ} عن أصل وضعه من رفع الإثم فقط. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "ويكون مثل قوله في الآية", وما أثبتناه من الأصل و"ط".
4 إلا أنه لا يوجد فيها قرينة لفظية لصرف اللفظ عن ظاهره إذا اعتبرنا السبب وجعلناها للطلب، نعم فيها قرينة حالية وهي نفس السبب، وهو أن بعضهم كان يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".(3/162)
ص -482-…متنافيين؛ فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية1، لا إلى الرخصة بعينها، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة؛ قصدا لرفع الحرج عنه وردا2 لنفسه من ألم الجوع فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها؛ كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه؛ فلا شك أن3 الزوال عنه مطلوب، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع، ومثل هذا لا يسمى رخصة؛ لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه؛ فلا يسمى رخصة من هذا الوجه وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه.
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة، وهذا فرد من أفراده، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج، وهذا فرد من أفرادها؛ فلم تتحد الجهتان، وإذا تعددت الجهات؛ زال التدافع، وذهب التنافي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: أكل الميتة حال الاضطرار وإن كان عزيمة من حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من الخبث المحرم، وواضح من كلامه أنه رخصة من جهة وعزيمة من جهة أخرى، ولكن كلاهما حالة الاضطرار, وكلام المؤلف يخالفه؛ إذ جعله رخصة في غير الاضطرار، وهو وقت الحرج والمشقة الزائدة بألم الجوع الذي لا يصل إلى التلف، وعزيمة إذا وصلت المسألة لتلف النفس لرجوعها لأصل كلي وهو وجوب المحافظة على النفس، هذا ما يقتضيه بيانه الأول، لكنه قال آخرا: "وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه" فكأنه في حالة خوف التلف يصح أن يكون عزيمة ورخصة من جهتين، وحينئذ يرجع إلى كلام الآمدي، ويوضحه الحاصل بعده؛ إلا أنه لا يبقى لقوله أولا: "وذلك أن المضطر إلى قوله: فإن خاف" فائدة في هذا المقام. "د".(3/163)
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ردا" من غير واو.
3 مكررة في "د".(3/164)
ص -483-…وأمكن الجمع1.
وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه؛ فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة، بل هو عزيمة متعبد بها عنده، ويدل عليه حديث عائشة -رضي الله عنها- في القصر: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"2 الحديث، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة؛ إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة3 على هذا الاصطلاح العام، وإلا؛ فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة، أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة؛ لأنها شرعت في السماء خمسين, ويكون القرض، والمساقاة، والقراض، وضرب الدية على العاقلة رخصة، وذلك لا يكون كما تقدم؛ فكل ما خرج4 عن مجرد الإباحة فليس برخصة.
وأما قوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه"5؛ فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تردد ابن دقيق العيد كإمام الحرمين في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة؟ والحق ما أشار إليه المصنف، من أن وصف العمل بالوجوب والرخصة معا لا يصح إلا مع اختلاف الجهة؛ فإساغة الغصة بالخمر كتناول الميتة للمضطر هو من حيث الدليل المانع رخصة، ومن حيث الوجوب عزيمة. "خ".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب تقصير الصلاة إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090", ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 685" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
3 أي: بل لا بد فيه من قيد "مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع" كما سبق له، وإذا كان الذي فرض أولًا هو الركعتين فقط؛ فيكون هو الأصل فلا رخصة. "د".
4 أي: وهذا هو مدعاه في رأس المسألة؛ فثبت. "د".
5 مضى تخريجه في "ص480".(3/165)
ص -484-…وأيضا؛ فالمباحات منها ما هو محبوب1، ومنها ما هو مبغض؛ كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية؛ فلا تنافي.
وأما قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]2} [البقرة: 185]، وما كان نحوه فكذلك أيضا؛ لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج، وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة:
إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها:
أن سبب الرخصة المشقة3، والمشاق تختلف بالقوة والضعف و4 بحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال؛ فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن الشتاء، وقصر الأيام؛ كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر، وكذلك الصبر5 على شدائد السفر ومشقاته يختلف؛ فرُبَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يلزم من كونه محبوبا ألا يكون مباحا، وأن يكون مطلوبا كما هو مبنى الاعتراض. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أسباب التخفيف في الشريعة حسبما دل عليه الاستقراء سبعة، وهي: المرض، والسفر، والنسيان، والإكراه، والجهل، والحرج، وعموم البلوى، والضعف المعنوي؛ كالأنوثة، والرقية، وجميعها تدور حول المشقة. "خ".
4 لو حذفت الواو وجعل ما بعدها من الحيثيات أسبابا للقوة والضعف في المشقة؛ لكان أوجه. "د".
5 ما قبله بيان لاختلاف المشقة قوة وضعفا باختلاف الأزمان والأحوال الخارجة عن صفات الشخص، وهذا بيان لاختلاف العزائم، ويصح أن يكون راجعا لاختلاف الأحوال بقطع النظر عن قوة الإرادة وضعفها، ويكون مرجعه التعود وعدمه ولا دخل لقوة العزيمة فيه. "د".(3/166)
ص -485-…رجل جلد ضَرِيَ على قطع المهامه1 حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ولا يتألم بسببها، يقوى على عباداته، وعلى أدائها على كمالها وفي أوقاتها، ورب رجل بخلاف ذلك، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك؛ فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة؛ فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، أي: إن كان قصر أو فطر؛ ففي السفر، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر؛ فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مِرْيَةَ فيه، فإذًا؛ ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي، ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع، ولا تختل حاله بسببه، كما كانت العرب، وكما ذكر عن الأولياء؛ فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك2، هذا وجه.
والثاني:
أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضري: تعود.
والمهامه: جمع مهمه: المفازة البعيدة. انظر: "لسان العرب" "ض ر ا"، "م هـ م".
2 أي: فمن تختل حاله يجب عليه الترخص، ومن لا تختل وتلحقه المشقة فقط يكون مخيرا، هذا مراده؛ فلذا لم يقل: "فلا يترخص في أكلها" بعد وصفه بالمضطر. "د".(3/167)
ص -486-…الشدائد، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم، حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم؛ فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات.
والثالث:
ما يدل على هذا من الشرع؛ كالذي جاء في وصال الصيام، وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله1 من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم؛ ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم، ولا يقطهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته2، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة3 على نوع من أنواعها، وهو غير منتهض إلا أن يجعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي "ص526".
2 ما قرره المصنف من التفصيل في حكم الوصال منقول عن عبد الله بن الزبير وجماعة من التابعين، وقال جمهور أهل العلم بمنعه على وجه التحريم لحديث ابن عمر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، وحديث أبي هريرة: "إياكم والوصال"، وقوله, عليه الصلاة والسلام: "إني لست كهيئتكم أو لست مثلكم" صريح في أن الوصال من خصائصه. "خ".(3/168)
3 لأن المشقة هنا نوع آخر غير السابق؛ فالمشقة فيما تقدم تقتضي الترخص، وهنا المشقة تمنع مفارقة الحكم الأصلي وهو النهي عن الوصال، وعدم المشقة يجعلهم يترخصون بفعل المنهي عنه، وهو أيضا ليس حكما سهلا انتقل إليه من حكم صعب، فليست من مواضع الرخصة؛ إلا أنه على كل حال وُجد فيه نوع من المشقة ينبني عليه حكم في اجتهادهم، فالاستدلال به على أن المشقة في النوع الأول تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص يكون استدلالا بجنس المشقة لا بنفس نوع المشقة؛ فيكون من الاستدلال بالمطلق على المقيد من حيث هو مقيد، أو بالعام على الخاص من حيث هو خاص، وذلك لا يصح كما يأتي، إلا أن يجعل منضما إلى ما قبله؛ فيفيد مجرد أن المشقة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وإن كان لا يفيد أن ذلك في موضوع الرخصة المعروفة؛ فتنبه. "د".(3/169)
ص -487-…منضما إلى ما قبله؛ فالاستدلال بالمجموع صحيح, حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة.
فإن قيل1: الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة؛ إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة، أو لا يمكن2 له ذلك على حسب ما أمر به، أو يكون غير مؤثر، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه، فإن كان الأول؛ فظاهر أنه محل الرخصة، إلا أن يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا3 أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه، وإذا كانت مأمورا بها4؛ فلا تكون رخصة كما تقدم، بل عزيمة، وإن كان الثاني؛ فلا حرج5 في العمل ولا مشقة، إلا [ما]6 في الأعمال المعتادة، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما؛ ارتفعت الرخصة من أصلها، والاتفاق على وجودها معلوم، هذا خلف؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا السؤال وإن كان واردا على أصل وجود الرخصة، وكان يناسبه أول الباب، لكن لمناسبة الكلام في المشقة؛ صح أن يذكر هنا. "د".
2 في "ط": "يكمل".
3 أي: فيما يعجز فيه عن أصل العبادة والعادة، وقوله: "أو ندبا"؛ أي: إذا كان لا يعجز ولكنه لا يكون كاملا على حسب ما أمر به. "د".
4 في الأصل: "به".
5 فرض فيه أنه مغلوب صبره ومهزوم عزمه؛ فكيف مع هذا يقال: لا مشقة إلا ما في الأعمال المعتادة؟ وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة؛ فوضع السؤال هكذا غير وجيه؛ فتأمل. "د".
6 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.(3/170)
ص -488-…فما انبنى عليه مثله.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر؛ لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا، إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جارٍ فيها, فإذا كان مشترك الإلزام؛ لم ينتهض دليلا1، ولم يعتبر في الإلزامات.
والثاني:
أنه إن سلم؛ فلا يلزم السؤال لأمرين:
أحدهما:
أن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه؛ لإمكان قسم ثالث بينهما، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل، ولا يكون المكلف رخي البال عنده2، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم، مع أنه لا يقطعه عن سفره، ولا يخل به في مرضه، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص، جارٍ فيه هذا التقسيم، والثالث هو محل الإباحة؛ إذ لا جاذب [له]3 يجذبه لأحد الطرفين.
والآخر:
أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه4 ليس من جهة كونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يقال للسائل: الاعتراض مشترك، فما هو جوابكم هو جوابنا، يعني ومثله لا يذكر في طريق الإلزام. "د".
2 هو الذي قال فيه: "مغلوب صبره، مهزوم عزمه". "د".
قلت: وفي الأصل: "البال عنه".
3 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وليست في "د".
4 راجع لقوله: "وإذا كانت مأمورا بها؛ فلا تكون رخصة"؛ فالجواب الأول: يراعى أن هناك محلا للرخصة التي الكلام فيها وهي المباحة؛ لوجود قسم ثالث لم يذكره في السؤال، على ما فيه مما أشرنا إليه، والجواب الثاني: ترق على هذا يقول: الرخصة موجودة حتى في المأمور به، =(3/171)
ص -489-…رخصة، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها، أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا؛ فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام، ومع مدافعة الأخبثين1، ونحو ذلك2؛ فالرخصة3 باقية على أصل الإباحة من حيث هي رخصة، فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولكن الطلب من جهة غير جهة كونه رخصة؛ فجهة العزيمة ظاهرة من نفس الطلب وجهة الرخصة أنه حكم سهل انتقل إليه من حكم صعب مع بقاء دليل الصعب معمولا به في الجملة، وإنما قلنا في الجملة؛ لأنه ليس معمولا به في حق الشخص الذي طولب بالرخصة، ولا يخفى عليك أنهم اشترطوا بقاء العمل به في حق الشخص نفسه، وإلا لخرج عن كونه رخصة إلى كونه عزيمة، قال الأبهري: "إن المكلف إذا لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم تثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام التكليفية، والتكليف شرط لها فلا يكون عدم تحريم إجراء كلمة الكفر على لسان المكره رخصة؛ لأن الإكراه يمنع التكليف، ومثله يقال في الإكراه على إفطار رمضان، وإتلاف مال الغير عدم تحريمه ليس رخصة، يعني لأن الدليل القائم على التحريم ليس باقيا بالنسبة لهذا الشخص، فلا رخصة إلا حيث يبقى دليل الصعب معمولا به بالنسبة للشخص نفسه، وبهذا تعلم ما في هذا الجواب الثاني، هذا ولا يذهب عنك أنه عرف الرخصة بما ينطبق على هذا فقال: "ما شرع من الأحكام لعذر شاق استثناء عن حكم كلي"؛ فلا يرد عليه ما تقدم. "د".(3/172)
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، 1/ 393/ رقم 560"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، 1/ 22/ رقم 89"، وأحمد في "المسند" "6/ 43، 54، 73" من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان".
2 كالصلاة في الأرض المغصوبة، يعني: فهناك جهتان تسلط على إحداهما الطلب والعزيمة، وعلى الأخرى الرخصة، كما توجه النهي والطلب في الصلاة في هذه المسائل على جهتين مختلفتين، ولامانع من ذلك ما دامت الجهة لم تتحد؛ فالغرض تقريب الجواب بذكر شبيه بالمقام. "د".
3 هذا التفريع ظاهر على الجواب الأول، أما الثاني؛ فلم يبين فيه إلا أن الترخيص له جهة غير جهة الطلب، أما كونه مباحا في هذه الحالة؛ فإنه لم يبينه هنا اعتمادا على ما سبق، ولذا قال: "وقد مر بيان... إلخ". "د".(3/173)
ص -490-…المسألة الرابعة:
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة؛ هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟
فالذي يظهر من نصوص الرخص أنه بمعنى رفع الحرج، لا بالمعنى الآخر، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله في الآية الأخرى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]؛ فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم.
وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولم يقل: فله الفطر، ولا فليفطر1، ولا يجوز له2، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر؛ فعدة من أيام أخر.
وكذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] على القول3 بأن المراد القصر من عدد الركعات، ولم يقل: فلكم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ليس ظاهرا؛ لأن الكلام في أنه لم يذكر لفظا يدل على التخيير بين الفعل والترك؛ فلا يتوهم أن يؤتى هنا بلفظ الأمر أو النهي، وهو أيضا خلاف صنيعه السابق واللاحق. "د".
2 في "خ" و"ط": "لك", ومكانها في الأصل بياض.
3 نسب إلى طاوس والضحاك أن القصر يرجع لأحوال الصلاة من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه شاء، وحينئذ يبقى الشرط في الآية على ظاهره {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} إلا أنه على هذا أيضا تكون رخصة؛ فلماذا قيد بقوله: "على القول... إلخ"؟ "د".(3/174)
ص -491-…تقصروا، أو: فإن شئتم فاقصروا1.
وقال [تعالى]2 في المكره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ...} الآية إلى قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]؛ فالتقدير أن من أكره؛ فلا غضب عليه، ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم يقل: فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق.
وفي الحديث: أكذب امرأتي؟ قال له: "لا خير في الكذب". قال له: أفأعدها وأقول لها؟ قال: "لا جناح عليك3"4، ولم يقل له نعم، ولا افعل إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"م": "أن تقصروا".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 يقتضي أن الوعد وهو عارف أنه لا يقدر على الوفاء، رخصة للزوج بالنسبة لامرأته. "د".
4 أخرجه الحميدي في "مسنده" "رقم 329"، ثنا سفيان ثنا صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار؛ قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: هل علي جناح أن أكذب أهلي؟ قال: "لا؛ فلا يحب الله الكذب"، قال: يا رسول الله! أستصلحها وأستطيب نفسها. قال: "لا جناح عليك".
هكذا وقع فيه عن عطاء بن يسار مرسلا، وهو قد أورده تحت "أحاديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط, رضي الله عنها"؛ فلا أدري أسقط اسمها من السند أو الناسخ، أم الرواية عند الحميدي هكذا مرسلا؟ والسند صحيح إلى عطاء بن يسار، قاله شيخنا في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498".
قلت: وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" من رواية صفوان بن سليم عن عطاء مرسلا، وهو في "الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء، قاله الزبيدي في "شرح الإحياء" "7/ 524".
إلا أن الحديث صحيح وله شواهد عديدة، انظرها في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545".(3/175)
ص -492-…شئت1.
والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور؛ أن الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر؛ فكذلك غيره2 من المواضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الكذب لا يجوز في شيء، وحملوا الكذب الذي وردت الرخصة به في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لزوجته على معنى التورية والتعريض، ومن شهد رجلا يحرك لسانه بالكذب الصريح ولو ليتخذه وسيلة إلى قضاء مصلحة؛ فإنه يحس كيف أخذ مقام ذلك الرجل ينحط في نفسه، وكيف ابتدأت الثقة به تتداعى إلى انحلال، وهذا ما ينبهك على أن الشريعة لا تأذن بالكذب؛ إلا أن تضيق على الرجل دائرة المعاريض، ويضطر إليه في مثل تخليص النفس البريئة من ظالم يريد إتلافها، ولعل السياسي يرى أنه أحرى بهذه الرخصة حيث يضطر إليها في إحياء أمة أو إنقاذها من قارعة الاستعمار، والمخلص من الكذب في حديث الزوجة أن يعدها بالعطية في قوة العازم وينوي في ضميره التعليق على تقدير الله ومشيئته. "خ".
2 تقدم له في مباح المباح أن الصبر على عدم ذكر الكلمة مندوب، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "فكذلك غيره" الذي يقتضي أن الجمهور أو الكل قائلون بأن ترك الرخصة أفضل، مع أن أبا حنيفة يقول بوجوب القصر والفطر، وتسمى رخصة إسقاط بحيث لا يصح منه الإتمام والصيام، والشافعي يقول: إذا زادت المسافة عن مرحلتين؛ كانا أفضل من الصيام والإتمام، قال عياض في "الإكمال": "كون القصر سنة هو المشهور من مذهب مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف"، ونص المالكية على أن رخصة الجمع بين الظهرين والعشاءين للمسافر رخصة جائزة والجائز بمعنى التخيير؛ فانظر هذا مع ما قاله المؤلف. "د".(3/176)
قلت: وقد صرح بعض المالكية أن الجمع بين الظهرين والعشاءين سنة، فقال ابن العربي في "القبس" "1/ 326-327": "لا يطمئن إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنة النفوس بالسنة، كما لا يكع -أي: يبتعد وينحي- عنه إلا أهل الجفاء والبداوة".
انظر: "التاج والإكليل" "2/ 156"، و"الفواكه الدواني" "1/ 271"، و"أسهل المدارك" "1/ 237"، وكتابي "الجمع بين الصلاتين في الحضر" "ص117".(3/177)
ص -493-…المذكورة وسواها.
وأما الإباحة التي بمعنى التخيير؛ ففي قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يريد: كيف شئتم: مقبلة، ومدبرة، وعلى جنب؛ فهذا تخيير واضح، وكذلك قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وما أشبه ذلك، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين.
فإن قيل: ما الذي ينبني على الفرق بينهما؟
قيل: ينبني عليه فوائد كثيرة، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا: [إن]1 الرخصة مخير فيها حقيقة؛ لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب؟ وإذا كان كذلك؛ تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا، فإذا عمل بها؛ لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة:
الترخص المشروع ضربان:
أحدهما:
أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا؛ كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا، أو عن الصوم لفوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "م" و"خ" و"ط".(3/178)
ص -494-…النفس.
أو شرعا؛ كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة، أو على إتمام أركانها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها، وأمثلته ظاهرة.
فأما الأول؛ فهو راجع إلى حق الله؛ فالترخص فيه مطلوب، ومن هنا جاء: "ليس من البر الصيام في السفر"1، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو: "وهو يدافعه الأخبثان"2، و: "إذا حضر3 العشاء وأقيمت الصلاة؛ فابدءوا بالعشاء"4 إلى ما كان نحو ذلك؛ فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل5، ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وإن من لم يفعل ذلك فمات؛ دخل النار.
وأما الثاني؛ فراجع إلى حظوظ العباد، لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ؛ إلا أنه على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في "ص517".
2 مضى تخريجه "ص489"، والحديث صحيح.
3 في الأصل و"ط": "حضرت".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، 2/ 159/ رقم 671، وكتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء؛ فلا يعجل عن عشائه، 9/ 584/ رقم 5465".
5 فهو راجع إلى حق الله؛ لأنه لا يتأتى الحضور في الصلاة والإتيان بها على كمالها مع هذه الأمور. "د".(3/179)
ص -495-…أحدهما:
أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها؛ كالجمع بعرفة والمزدلفة؛ فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم، حتى عده الناس سنة لا مباحا، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة؛ إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة؛ كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر، فإذًا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم.
والثاني:
أن لا يختص بالطلب، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج؛ فهو على أصل الإباحة، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة.
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة؛ فلا حاجة إلى إيرادها، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك؛ فنقول:
أما الأول، فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي؛ لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة، إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها1، فالإتيان بما قدر عليها2 منها -وهو مقتضى الرخصة- هو المطلوب، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عدم تحصيلها، هذا فيما كان العجز* فيه بالطبع، أما ما كان العجز فيه شرعا كأمثلته المتقدمة؛ فيكون رفعا للكمال لا للأصل، وتأمله؛ فإن الحضور في الصلاة ليس ركنا لقوله: "إتمام أركانها"؛ إن كان معناه هو معنى استيفاء أركانها السابق له؛ فظاهر، وإن كان معناه الإكمال الزائد على أصل الركن؛ فلا يتأتى فيه ظاهر دليله. "د".
2 في الأصل: "عليه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعجز".(3/180)
ص -496-…وأما الثاني، فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب [العمل بها على الخصوص؛ خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها، كما ثبت عند مالك]1 [الدليل على]2 طلب الجمع بعرفة والمزدلفة؛ فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة، ولا كلام فيه.
وأما الثالث؛ فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن3 في الرخصة، أو في رفع الإثم عن فاعلها.
المسألة السادسة:
حيث قيل4 بالتخيير5 بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة؛ فللترجيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
3 ما تقدم له من الأدلة واضح في رفع الإثم لا في الإذن، غايته أنه في آخر المسألة الرابعة بنى على كل من الوجهين فائدته؛ فراجعها. "د".
4 وأما إذا قيل برفع الإثم عن فاعلها؛ فالظاهر أن الرجحان أخذًَا للعزيمة مما تقدم له في آخر المسألة الرابعة من مسائل المباح، حيث قال: "وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم؛ لأنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة" غير أن رجحان العزيمة يحتاج إلى تقييد بما إذا لم تصر الرخصة مطلوبة شرعا؛ كالجمع بمزدلفة مثل. "د".(3/181)
5 مع كونه لم يرتض هذا، وأقام الدليل على أن الإباحة في الرخصة بمعنى رفع الحرج، ولم يقم على هذا التخيير دليلا فرع عليه ما أطال به في المسألتين السادسة والسابعة، ويبقى الكلام في المراد بالترجيح بعد فرض التخيير: هل المراد به أنه هو الأحب والمثاب عليه في نظر الشارع؟ ويدل على هذا ما يأتي له في أدلة ترجيح الأخذ بالعزيمة المفيد أنهم لما أخذوا بها مدحهم الله، وأن الأمر بالمعروف مستحب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال... إلخ، وإذا كان كذلك؛ فكيف يتأتى أن يكون هنا تخيير؟ وقد تقدم له في المسألة الأولى في المباح بمعنى المخير فيه سبعة أدلة على أنه لا فرق بين الفعل والترك في نظر الشارع بالنسبة للمباح المخير فيه، وما عورضت به الأدلة دفعه كله، وحقق أنه لا فرق بين الفعل والترك؛ فلم يبق إلا أن يكون غرضه بالترجيح هنا أمرا آخر =(3/182)
ص -497-…بينهما مجال رحب، وهو محل نظر، فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من الأدلة.
فأما الأخذ بالعزيمة؛ فقد يقال: إنه أولى لأمور:
أحدها:
أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به، وورود الرخصة عليه وإن كان مقطوعا به أيضا؛ فلا بد أن يكون سببها مقطوعا به في الوقوع، وهذا المقدار بالنسبة إلى كل مترخص غير متحقق إلا في القسم المتقدم1، وما سواه لا تحقق فيه، وهو موضع اجتهاد؛ فإن مقدار المشقة المباح من أجلها الترخص غير منضبط، ألا ترى أن السفر قد اعتبر في مسافته ثلاثة أميال فأكثر، كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن، وعلة القصر المشقة، وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم المشقة، واعتبر في المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الاسم؛ فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه، كما كان منهم من قصر في ثلاثة أميال، واعتبر آخرون ما فوق ذلك، وكل مجال الظنون لا موضع فيه للقطع، وتتعارض فيه الظنون، وهو محل الترجح2 والاحتياط؛ فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة مع بقاء احتمال في السبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غير كونه محبوبا للشارع ومطلوبا ومثابا عليه؛ فلينظر ما هو معنى كونه أولى وأرجح في نظر الشارع غير هذه المعاني؛ حتى لا يتنافى كلامه هنا مع كلامه في المباح فيا سبق؛ فقد يقال: إن مراده بالترجح الأخذ بما هو أحوط فقط وإن لم يكن بالغا مبلغ الاستحباب والثواب عليه؛ كما يشير إليه قوله: "وهو محل الترجح والاحتياط"، ولكن يبقى الكلام في الأدلة الآتية، وسيأتي له في آخر المسألة السابعة قبل الفصل الأول أن الأحروية في الأخذ بالعزيمة تارة تكون بمعنى الندب وتارة تكون بمعنى الوجوب؛ فتنبه للتوفيق بين كلامه في هذه المواضع؛ فإنه يحتاج إلى فطنة وقوة ذاكرة للجمع بين أطراف الكلام في هذا المقام الذي طالت جولته فيه. "د".
1 وهو ما ألحق بالعزائم بقسميه، وقوله: "وما سواه" هو القسم الثالث. "د".(3/183)
2 في "ماء": "الترجيح".(3/184)
ص -498-…والثاني:
أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي؛ لأنه مطلق عام على الأصالة في جميع المكلفين، والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأحوال وبعض الأوقات في أهل الأعذار، لا في كل حالة ولا في كل وقت، ولا لكل أحد؛ فهو كالعارض الطارئ على الكلي، والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي؛ فالكلي مقدم؛ لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية؛ فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها، فمسألتنا كذلك؛ إذ قد علم أن العزيمة بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه، والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب، وما فرضنا الكلام فيه1 لا يتحقق في كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي ينازعه؛ فلا ينجي من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى الكلي، وهو العزيمة.
والثالث:
ما جاء في الشريعة من الأمر2 بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتهض موجب الرخصة، وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر، من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]؛ فهذا مظنة التخفيف، فأقدموا3 على الصبر والرجوع إلى الله؛ فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو القسم الثالث. "د".
2 وهل مع الأمر يكون مجرد احتياط، أم يقتضي هذا الأمر أن يكون أفضل مثابا عليه؟
وكيف يبنى هذا على التخيير؟ "د".
3 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فأقاموا".(3/185)
4 ومنه: {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}، وأي ثواب أجزل من رضوان الله؟ وفي الآية بعدها: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}؛ فكلتا الآيتين فيهما الجزاء والثواب، ولا يكون مع التخيير، وبالجملة لو ترك الأدلة التي فيها طلب الأخذ بالعزيمة والثواب عليها؛ لكان موافقا لأصل الموضوع من بناء المسألة على التخيير. "د".(3/186)
ص -499-…وقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ...} إلى آخر القصة حيث قال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 10-23]؛ فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر1 وقد عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر؛ فأبوا من ذلك، وتعززوا بالله وبالإسلام2؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم.
وارتدت العرب عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان الرأي من الصحابة, رضي الله تعالى عنهم -أو من بعضهم غير أبي بكر- استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم؛ حتى يستقيم أمر الأمة، ثم يكون ما يكون؛ فأبى أبو بكر -رضي الله عنه-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع حنجور بالضم؛ أي: الحلقوم. "ماء".(3/187)
2 أخرج البزار في "مسنده" "رقم 1803- زوائده"، والطبراني بإسناد فيه محمد بن عمرو -وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "6/ 132"- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! شاطرنا تمر المدينة. فقال صلى الله عليه وسلم: "حتى أستأمر السعود". فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة؛ فقال: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث سألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في أمركم بعد". فقالوا: يا رسول الله! أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا نتبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا؛ فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "هو ذا تسمعون ما يقولون". قالوا: غدرت يا محمد، فرد عليهم حسان بن ثابت بأبيات من الشعر.
وانظر: "شرح الزرقاني على المواهب" "3/ 131".(3/188)
ص -500-…فقال: "والله لأقاتلنهم1 حتى تنفرد سالفتي"، والقصة مشهورة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لأقاتلهن".
2 انظر تفصيل ذلك عند البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 3/ 262/ رقم 1399، 1400، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، 12/ 275/ رقم 6924، 6925" مع كلام الشارح ابن حجر في الموطن الثاني، والتعليل المذكور في عدم قتال مانعي الزكاة اجتهاد من المصنف، والمذكور في الروايات والشرح خلافه؛ فراجعه، والله الموفق والهادي.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لا يظهر في هذه القضية معنى الرخصة والعزيمة بعد قول أبي بكر -رضي الله عنه- في محاجة عمر: "إن الزكاة حق المال"، وقول عمر, رضي الله عنه: "ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر فعرف أنه الحق"، وإذا كان رأي أبي بكر الصديق هو الحق، ورأي غيره خطأ؛ كان العمل على الرأي الخطأ بعد أن انكشف أمره باطلا شرعا، والباطل لا يدخل في معنى الرخصة بحال".(3/189)
وكتب "د" ما نصه: "ولا يخفى على المطلع على أخبار هذه الردة أنه لم يبق مذعن لأحكام الإسلام من قبائل العرب إلا قريش وثقيف والأنصار، واضطرمت نار الفتنة في سائر الجزيرة، فتجمع القبائل قرب المدينة، وأرسلوا وفودهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤدوا الزكاة؛ لأنهم اعتبروها كإتاوة لا تتفق مع عزة نفوس العرب، وقام متنبئون من العرب ذكورا وإناثا، فارتد معهم كثير ممن لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم وهكذا أصبح أكثر القبائل بين باغ ومرتد، بل شاع تسمية الكل مرتدين "ردة عامة أو خاصة"، وكان جيش المسلمين إذ ذاك مع أسامة بالشام؛ فكاد يجمع الصحابة على أنه ليس من المصلحة حرب جزيرة العرب كلها، وأن الضرورة تقضي باستئلاف مانعي الزكاة بعدم طلبها منهم؛ فأرادوا أن يأخذوا إذ ذاك بالرخصة في عدم حرب هؤلاء البغاة حتى لا يتعرض الإسلام لطعنة نجلاء تقضي عليه في مهده، وأن يتربصوا حتى يقوى أمر المسلمين بانطفاء هذه الفتن، ثم يكون الرجوع للجهاد لإعلاء كلمة الله الذي هو واجب ضروري من أقوى العزائم؛ فأبى أبو بكر وتشدد وأقسم، وحاجهم؛ فحجهم، ورجعوا إلى رأيه، وقال عمر كلمته المشهورة؛ فمعنى الحق في كلام عمر أنه الأوفق بالمصلحة، وهذا لا ينافي أنه اجتهد ورأى المصلحة في الحرب، واجتهدوا بقبول الرخصة خوفا على الإسلام؛ فحل الخلاف الترجيح بين الأخذ بالعزيمة كما هو رأيه أو الأخذ بالرخصة المتحقق سببها كما هو رأي غيره، ومعلوم أن أسباب الرخص ظنية، والظنون تتعارض كما قال المؤلف، ثم انشرح صدرهم لموافقته؛ فكان رأيه الأوفق؛ فأذعن البغاة، وشرد المتنبئون، وسكنت الجزيرة، وسار الإسلام في طريقه.
وبهذا تبين أن هذا المثال كسابقه من الأمثلة التي يستدل بها على ترجيح الأخذ بالعزيمة مع انتهاض موجب الرخصة؛ فلم يكن رأي الصحابة خطأ في وجود سبب الرخصة، حتى يقال: إنه لا يظهر في هذه القصة معنى الرخصة والعزيمة كما اعترض به بعضهم".(3/190)
ص -501-…وأيضا قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل: 106]؛ فأباح التكلم بكلمة الكفر، مع أن ترك ذلك أفضل عند جميع الأمة، أو عند الجمهور1، وهذا جارٍ في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أن الأمر مستحب، والأصل مستتب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس، لكن يزول الانحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك.
ومن الأدلة قوله، عليه الصلاة والسلام: "إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا"2؛ فحمله الصحابة -رضي الله عنهم- على عمومه، ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة، ولم يأخذوه إلا على عمومه حتى اقتدى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جمهورها".
2 أخرج أبو يعلى في "المسند" "1/ 156/ رقم 167" -ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 181-182/ رقم 89"- وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 42" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: قلت: يا رسول الله! أليس قد قلت لي: إن خيرا أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا؟. قال: "إنما ذاك أن تسأل، وما أتاك الله من غير مسألة؛ فإنما هو رزق رزقكه الله".
قال الهيثمي في "المجمع": "هو في "الصحيح" باختصار، ورواه أبو يعلى، ورجاله موثقون".
قلت: ليس في "الصحيح" ما أورده المصنف، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1473، 7193، 7164"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1045"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 105"، والحميدي في "المسند" "رقم 21"، وأحمد في "المسند" "1/ 21"، والدارمي في "السنن" "1/ 388"، وغيرهم كثير.(3/191)
ص -502-…بهم الأولياء، منهم أبو حمزة الخراساني؛ فاتفق له ما ذكره القشيري1 وغيره من وقوعه في البئر، وقد كان هذا النمط مما يناسب استثناؤه2 من ذلك الأصل.
وقصة الثلاثة الذين خلفوا3 حتى أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقوه، ولم يعتذروا له في موطن كان مظنة للاعتذار، فمدحوا لذلك، وأنزل الله توبتهم ومدحهم في القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ففتح لهم باب القبول، وسماهم صادقين لأخذهم بالعزيمة دون الترخص4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "رسالته" المشهورة "ص80"، وستأتي في "2/ 497".
2 فيكون رخصة، ولكنهم لم يأخذوا بها، وما ذاك إلا لأولوية العزيمة. "د".
3 أخرج قصتهم بتفصيل البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418، وكتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وأحمد في "المسند" "3/ 454، 456-459"، وغيرهم.(3/192)
4 كان من السهل التمسك بالأعذار العامة في حق الثلاثة؛ إذ كان الوقت قيظا والسفر بعيدا، وكان أوان جني الثمار، ولا داعي لأعذار خاصة، وقد قال كعب: إنه أوتي جدلا لم يؤته غيره، فكان يتأتى له أن يحسن الاعتذار مع لزوم الصدق، وهلال بن أمية كان شيخا مسنا؛ فعذره الخاص مقبول أيضا، وقد اعتذر بضعة وثمانون؛ فقبل منهم عليه الصلاة والسلام واستغفر لهم، ولم يثبت أن هؤلاء جميعا منافقون وإن كانت عبارة كعب في رواية القصة ربما يؤخذ منها أن أكثرهم كانوا كذلك؛ فالثلاثة لم يرتضوا المواربة بالأعذار العامة أو الأعذار الخاصة الضعيفة، وتحملوا مشاق الصدق وأثره؛ فمكثوا في البلاء خمسين يوما يبكون وينتحبون، وكان لهم منجى منه بعذر عام أو خاص صادق ولو ضعيفا، فكان يقبل منهم ويستغفر لهم، فتركوا الرخصة لهذه العزيمة؛ كما قال المؤلف. "د".
وكتب "خ" ما نصه: "لا يظهر في هذه الواقعة وجه للرخصة حتى يعقد بينها وبين اعترافهم بالذنب موازنة، ويقال: إن أولئك الثلاثة رجحوا جانب العزيمة؛ إذ ليس لهم أعذار صادقة يقدمونها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أنهم لفقوا أعذارا ابتدعوها؛ لكانوا قد أضافوا إلى ذنب التخلف عن الغزو ذنب الكذب المذموم، واعتذارات كاعتذارات المنافقين وإن كانت نافعة لهم في الدنيا لا تدخل في قبل الرخصة؛ إذ الرخصة رفع الحرج الذي لا يلحقه العقاب عاجلا وآجلا".(3/193)
ص -503-…وقصة عثمان بن مظعون1 وغيره2 ممن كان في أول الإسلام لا يقدر على دخول مكة إلا بجوار، ثم تركوا الجوار رضى بجوار الله، مع ما نالهم من المكروه، ولكن هانت عليهم أنفسهم في الله؛ فصبروا إيمانا بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وقال لنبيه عليه [الصلاة و] 3 السلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
ثم قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
ولما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284]؛ شق ذلك على الصحابة، فقيل لهم: قولوا: سمعنا وأطعنا, فقالوها؛ فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فنزلت: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أنه -رضي الله عنه- بعد رجوعه من الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثم رد جواره ورضاه بما عليه النبي, صلى الله عليه وسلم. انظر: "الإصابة" "2/ 464".
2 كقصة أبي بكر لما قبل من ابن الدغنة ترك جواره وبقي مستعلنا بشعائر الإسلام اعتمادا على جوار الله، مع تألب الكفار عليه ألا يستعلن القرآن خشية على من كان يسمعه من نسائهم وشبانهم أن يميلوا إلى الإسلام. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".(3/194)
ص -504-…أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية [البقرة: 285]1.
وجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة في جيش إلى الشام قبيل موته2، فتوقف خروجه بمرضه -عليه السلام- ثم جاء موته؛ فقال الناس لأبي بكر: احبس أسامة بجيشه تستعين به على من حاربك من المجاورين لك3. فقال: لو لعبت4 الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة؛ ما رددت جيشا أنفذه رسول الله, صلى الله عليه وسلم. ولكن سأل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أين الرخصة هنا متى كانت آية {آمَنَ الرَّسُولُ} ناسخة؟ وكذا لو قيل: إنها محكمة على معنى "إن تبدوا ما استقر في أنفسكم من الأخلاق الذميمة؛ كالكبر، والحسد، وكتمان الشهادة، أو تخفوه؛ يحاسبكم به الله" فلا رخصة أيضا، إنما يكون موضع رخصة إذا بقي الحكم الصعب معمولا به ورفع الحرج في فعله عند المشقة، وأين هذا؟ فإذا كان مناط دليله ما ذكره بقوله: "فشق عليهم فقيل لهم قولوا: سمعنا فقالوها... إلخ" يعني: فليس كلامه فيما بين الآيتين بل في الآية مع بقية القصة التي ذكرها، قلنا أيضا: نعم، يكون تكليفا شاقا، ولكن أين الرخصة التي كان يمكنهم الأخذ بها في مقابلته فتركوها؛ لأنه أفضل من الترخص؟ "د".
قلت: ومضى تخريج "سبب النزول" "ص93"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 130، 131".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، 7/ 510/ رقم 4261"، من حديث عبد الله بن عمر, رضي الله عنهما.
وانظر: "مسند الحب ابن الحب" "رقم 1، 2" لابن المرزبان، و"طبقات ابن سعد" "4/ 67"، و"مسند أحمد" "5/ 205، 206، 209"، و"سنن أبي داود" "رقم 2616"، و"مسند الطيالسي" "رقم 526"، و"سنن ابن ماجه" "رقم 2843".(3/195)
3 قامت القبائل المرتدة بمحاربة المسلمين حول المدينة واشتد الأمر عليهم جدا، وفي الوقت نفسه لا يترخص باستبقاء جيش أسامة وفيه وجوه الصحابة وأعيانهم وأقوى المقاتلة من المؤمنين، لا شك أن هذا كان محل الرخصة في بقاء الجيش، ولكنه أخذ بالعزيمة والعزم؛ فكان خيرا رضي الله عنه، قال ابن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أن من الله علينا بأبي بكر، حتى أجمعنا على ألا نقاتل على بنت مخاض؛ فعزم الله لأبي بكر على قتالهم". "د".
4 المثبت من "ط"، وفي غيره: "لعب".(3/196)
ص -505-…أسامة أن يترك له عمر؛ ففعل، وخرج فبلغ الشام ونكى1 في العدو بها؛ فقالت الروم: إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم، وصارت تلك الحالة هيبة في قلوبهم لهم2.
وأمثال هذا كثيرة مما يقتضي الوقوف مع العزائم وترك الترخص؛ لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون، وهو:
الوجه الرابع:
وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق؛ هي مما يقصدها الشارع3 في أصل التشريع، أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جارٍ على توسط مجاري العادات، وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودا له؛ لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية، وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي، ولذلك لم يعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره؛ كالصنائع الشاقة في الحضر، مع وجود المشقة التي هي العلة في مشروعية الرخصة، فإذًا؛ لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم؛ لأن ذلك جارٍ أيضا في العوائد الدنيوية، ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية؛ فصار عارض المشقة -إذا لم يكن كثيرا أو دائما- مع أصل عدم المشقة، كالأمر المعتاد أيضا؛ فلا يخرج عن ذلك الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قتل فيهم وجرح. انظر: "لسان العرب" "ن ك ا".
2 انظر: "البداية والنهاية" "6/ 308-309".
3 ولا ينافيه ما يأتي في كتاب "المقاصد" من أن الشارع لم يقصد من التكليف بالشاق الإعنات فيه، بل ما يأتي في المسألتين السادسة والسابعة من النوع الثاني من المقاصد يوضح هذا المقام. "د".(3/197)
ص -506-…لا يقال: كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة؛ كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]1} الآية [البقرة: 184].
و"إن الله يحب أن تؤتى رخصه"2.
إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه.
لأنا نقول: حالة الاضطرار قد تبين أنه الذي يخاف معه فوت الروح3، وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات، وهو في نفسه عذر أيضا، وما سوى ذلك؛ فمحمول على تحقق المشقة4 التي يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية، بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق، وهو منتفٍ سمعا، وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل على دخوله تحت تلك النصوص، وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدم؛ فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه، وسبب ذلك -وهو روح هذا الدليل- هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاء واختبارا لإيمان المؤمنين، وتردد المترددين، حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة، ممن هو في شك، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت؛ لانخرمت الكليات كما تقدم، ولم يظهر لنا شيء من ذلك، ولم يتميز الخبيث من الطيب؛ فالابتلاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة.
2 مضى تخريجه في "ص480".
3 أي: أو العضو. "د".
4 تقدم أن ذلك فيما لم يحد فيها حد شرعي، كالسفر مثلا وجمع العشاءين بمزدلفة. "د".(3/198)
ص -507-…التكاليف واقع، ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة؛ فيبتلى المرء على قدر دينه، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [العنكبوت: 1-3].
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ثم قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] إلى آخرها.
فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها، ولم يخرجوا بها عن أصل ما حملوه إلى غيره، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة: 155] يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال، كما تقدم في أحوال التكليف، فإذا كان المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الاصطبار عليها، والتثبت فيها، حتى يجري التكليف على مجراه الأصلي؛ كان الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر.
والخامس:
أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق؛ كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة؛ كان حريا1 بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "حرى".(3/199)
ص -508-…بيان الأول أن "الخير عادة، والشر لجاجة"1، وهذا مشاهد محسوس، لا يحتاج إلى إقامة دليل، والمتعود لأمر يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره؛ كان خفيفا في نفسه أو شديدا، فإذا اعتاد الترخص؛ صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك؛ لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هذا المتوقع في أصول كلية، وفروع جزئية، كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز، وغير ذلك مما نبه عليه في أثناء الكتاب أو لم ينبه عليه.
وبيان الثاني ظاهر أيضا مما تقدم؛ فإنه ضده.
وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها؛ فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد، وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل, وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك؛ فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة، وليست كذلك إلا بمحض التوهم؛ ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوص أو سباع، إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالك، لأنه عده مقصرا؛ لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذي لا دليل عليه، بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء؛ فلا إعادة هنا، ولا يعد هذا مقصرا، ولو تتبع الإنسان الوهم؛ لرمى به في مهاوٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البقاء عليه والعودة إليه تمادٍ من صاحبه لأنه ممقوت بخلاف الخير، انظر: "لسان العرب" "ل ج ج"، وسيأتي "2/ 150" على أنه حديث، وهو في "مجمع الأمثال" للميداني "1/ 247/ رقم 1325" على أنه مثل.
وفي حاشية الأصل: "في القاموس: اللجاجة: الخصومة"، ثم ذكر آخر المادة أنه يقال في مواده لجاجة؛ أي: خفقا من الجوع.(3/200)
ص -509-…بعيدة، ولأبطل عليه أعمالا كثيرة، وهذا مطرد في العادات والعبادات1 وسائر التصرفات.
وقد تكون شديدة، ولكن الإنسان مطلوب بالصبر في ذات الله والعمل على مرضاته، وفي "الصحيح": "من يصبر يصبره الله"2، وجاء في آية الأنفال في وقوف الواحد للاثنين بعدما نسخ وقوفه للعشرة: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، قال بعض الصحابة لما نزلت: "نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد"3، هذا بمعنى الخبر، وهو موافق للحديث والآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل من يهاب المصاعب وتساور فكره الأوهام لا يرتفع شأنه في عمل الخير ولا يبعد شأوه في مجال الصلاح والتقوى، وكم من إنسان يقضي حياته الطويلة دون أن يقوم فيها بعمل ذي بال, ولا علة لوقوعه في هذا الخسران سوى تغلب الوهم وانحلال العزم عند ما يلاقي مشقة أو تتمثل أمامه المخاوف، وكذلك الجماعات لا تقع في خزي وخمول أو يضيع من يدها استقلالها إلا أن تلقى أمرها إلى رأي من أسلمه فساد النشأة وقلة التجارب إلى خور العزيمة، والانقياد إلى الأوهام. "خ".
2 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469، وكتاب الرقائق، باب الصبر عن محارم الله، 13/ 303/ رقم 6470"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: "ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "ومن يتصبر".(3/201)
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، 8/ 312/ رقم 4653"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف/ رقم 2646"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 1049"، وابن المبارك في "الجهاد" "237"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 76"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 40"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص157" عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}؛ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة؛ نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم".
لفظ البخاري.(3/202)
ص -510-…والسادس:
أن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه؛ كما تقرر في كتاب المقاصد من هذا الكتاب، وكثيرا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى، واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة؛ فالمتبع لهواه يشق عليه كل شيء، سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن؛ لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده، فإذا كان المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه، وتوجه إلى العمل بما كلف به؛ خف عليه، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه، ويحلو له مره، حتى يصير ضده ثقيلا عليه، بعدما كان الأمر بخلاف ذلك؛ فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض المكلف؛ فرب صعب يسهل لموافقة الغرض، وسهل يصعب لمخالفته.
فالشاق على الإطلاق في هذا المقام إنما هو1 ما لا يطيقه من حيث هو مكلف2؛ كان مطيقا له بحكم البشرية، أم لا، هذا لا كلام فيه, إنما الكلام في غيره مما هو إضافي، لا يقال فيه: [إنه]3 مشقة على الإطلاق، ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق، وإذا كان دائرا بين الأمرين، وأصل العزيمة حقيقي ثابت؛ فالرجوع إلى أصل العزيمة حق، والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه بحسب كل شخص، وبحسب كل عارض، فإذا لم يكن في ذلك بيان قطعي، وكان أعلى ذلك الظن الذي لا يخلو عن معارض؛ كان الوجه الرجوع إلى الأصل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "المقام وهو"، وفي "م": "المقام هو".
2 وهو الذي أشار إليه أول المسألة الخامسة بقوله: "أو شرعا كالصوم..." إلخ. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل و"ط".(3/203)
ص -511-…حتى يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق، ولا تكون حقا على الإطلاق؛ حتى تكون بحيث لا يستطيعها، فتلحق حينئذ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه، هذا إذا لم يأتِ دليل من خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا؛ كفطره عليه [الصلاة و] السلام1 في السفر2 حين أبى الناس من الفطر وقد شق الصوم عليهم؛ فهذا ونحوه أمر آخر يرجع إلى ما تقدم من الأقسام، وإنما الكلام في غيره.
فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى، والأخذ بها في محال الترخص أحرى.
فإن قيل: فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق3، أم ثَمَّ انقسام؟
فالجواب: أن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات؛ وهي:
المسألة السابعة:
فالمشقات4 التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين:
أحدهما:
أن تكون حقيقية، وهي5 معظم ما وقع فيه الترخص؛ كوجود المشقة المرضية والسفرية، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع.
والثاني:
أن تكون توهمية مجردة، بحيث لم يوجد السبب المرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 سيأتي نصه في التعليق على "ص523" وتخريجه هناك.
3 بقطع النظر عن قوله قبله: "وإنما الكلام في غيره؛ فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى"؛ فهو سؤال من يريد التثبت من الموضوع بأكمله، بالجواب المبني على التفصيلات التي يذكرها بعد ما ذكر تفاصيل كثيرة لم تنضبط بضابط مملوك باليد؛ فغرضه التمهيد لإعضاء هذا الضابط. "د".
4 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "في المشقات".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهو".(3/204)
ص -512-…لأجله، ولا وجدت حكمته1, وهي المشقة، وإن وجد منها شيء، لكن غير خارج عن مجاري العادات.
فأما الضرب الأول:
فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما، أو لا، فإن كان الأول؛ فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه؛ لأن الرخصة هنا حق لله، وإن كان الثاني -وهو أن يكون مظنونا- فالظنون تختلف، والأصل البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة، ومتى ضعف الظن قوي؛ كالظان2 أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه، ولكن؛ إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين، وهو أنه دخل في الصوم مثلا فلم يطق الإتمام، أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول إذ ليس عليه ما لا3 يقدر عليه، وإما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا لم يوجد السبب؛ فلا توجد حكمته، فما فائدة ذكره؟ وهو لم يدرج في التوهمية صورة وجوب السبب فعلا مع عدم وجود حكمته، أو وجودها غير خارجة عن مجاري العادات، بل قصرها على ما لم يتحقق فيه السبب، وهذا متعين، وإلا كل مثل السفر مع الترفه مما لا يصح فيه القصر والفطر أو مما يختلف فيه، وليس كذلك. "د".
2 المثال لقوة الظن وضعفه باعتبار الفرضين، وقوله: "دخل في الصوم مثلا، فلم يطق الإتمام، فلم يقدر؛ فقعد"، أي: إنه جرب نفسه في هذا المرض قبل هذا اليوم في الصوم، أو قبل هذه الصلاة في صلاة سابقة؛ فلم يطق, فصار لذلك عنده ظن قوي في الصلاة الحاضرة أو اليوم الحاضر بأنه لا يقدر، وليس الغرض أنه فعل ذلك في نفس هذا اليوم للصوم أو نفس هذه الصلاة فعجز؛ لأنه حينئذ يكون العجز محققا لا مظنونا؛ فيختل نظم كلامه، وهو ظاهر، فقوله: "فهذا هو الأول"؛ أي: حكمه حكمه، وقول: "إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه"؛ أي: ولو بظن قوي كمثاله. "د".(3/205)
3 سقطت من ناسخ الأصل، واستظهرها ثم قال: "وبه يستقيم الكلام"، وفي "ط": "عليه غير ما يقدر".(3/206)
ص -513-…أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ1 من الكثرة والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر، ومثله لا يقدر معه على الصيام ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة، من غير أن يجرب نفسه في شيء من ذلك؛ فهذا قد يلحق بما قبله، ولا يقوى قوته، أما لحوقه به؛ فمن جهة وجود السبب، وأما مفارقته له؛ فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد2 عنده؛ لأنه إنما يظهر عند التلبس بالعبادة، وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة، حتى يتبين له قدرته عليها أو3 عدم قدرته؛ فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة، إلى أن يظهر بعد ما يبتنى عليه.
وأما الضرب الثاني:
وهو أن تكون توهمية، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة؛ فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا، فإن كان الأول؛ فلا يخلو أن يوجد أو لا، فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها؛ ففيه خلاف، أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا في جواز الإقدام ابتداء؛ إذ لا يصح4 أن يبنى حكم على سبب لم يوجد بعد، بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه وإن وجد السبب وهو المقتضى للحكم؛ فكيف إذا لم يوجد نفس السبب؟ وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها؛ فيفطر قبل مجيئها، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم، وهذا كله أمر ضعيف جدا، وقد استدل بعض العلماء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مأخوذ أثره وما يترتب عليه من كثرة التجارب في هذا السبب الحاصل بالفعل، وتكون التجارب من غيره، أو من نفسه في زمن بعيد لا يقاس عليه، حتى يغاير ما قبله. "د".
2 أي: بمقتضى ظن قوي جاء له من تجربة في نفسه، وإنما عنده ظن بسبب كثرة التجارب في غيره، أو في نفسه لكن في زمن مضى بعيدا بحيث يحتمل تغير الحال. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "وعدم"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: فلا يجوز الإقدام عليه. "د".(3/207)
ص -514-…صحة هذا الاعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]؛ فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم1 بأن الغنائم ستباح لهم وهذا غير ما نحن فيه؛ لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية، وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي، بل هو أمر إلهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه، من قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة؛ فلا إشكال هنا.
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات، وهي مختلفة، وكذلك أهواء النفوس؛ فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها؛ فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة، فإن الصبر2 أولى ما لم يؤدِّ ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر؛ لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه، فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال، فإذًا ليست المشقة بحقيقية، والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة، فإذا لم توجد؛ كان الحكم غير لازم، إلا إذا قامت المظنة -وهي السبب3- مقام الحكمة؛ فحينئذ يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على أحد التفاسير في الآية، وعده في "روح المعاني" [10/ 34] تكلفا فراجعه. "د".
2 حتى مع المخلة الفادحة، هذا غير واضح، وسيأتي له في الفصل التالي أن الرخص المحبوبة ما ثبت الطلب فيه وهو ما فيه المشقة القادحة التي ينزل عليها مثل قوله, عليه الصلاة والسلام: "وليس من البر الصيام في السفر"؛ فكيف تكون مطلوبة والصبر على العزيمة أولى؟ "د".
3 أي: الذي وضعه الشارع كالسفر. "د".(3/208)
ص -515-…السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم؛ لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التي هي العلة على كمالها؛ فالأحرى البقاء مع الأصل، وأيضا؛ فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية, والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد، فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا.
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا؛ فإنها ضد الأولى؛ إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص؟ كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية [التوبة: 49]؛ لأن الجد بن قيس قال: ائذن لي في التخلف عن الغزو، ولا تفتني ببنات الأصفر؛ فإني لا أقدر على الصبر عنهن1، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الآية [التوبة: 81]، ثم بين العذر الصحيح في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات؛ فبين أهل الأعذار هنا، وهم الذين لا يطيقون الجهاد، وهم الزَّمْنى، والصبيان، والشيوخ، والمجانين، والعميان، ونحوهم، وكذلك من لم يجد نفقة أصلا, ولا وجد من يحمله وقال فيه: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}؟ [التوبة: 41] وقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية [التوبة: 39]؛ فما ظنك بمن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/209)
1 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 308" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "14/ 287-288" عن يزيد بن رومان والزهري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر وغيرهم به.
وهذه مقاطيع لا تثبت.(3/210)
ص -516-…عذره هوى نفسه؟!
نعم، وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم، على وجه لا يفضي إلى مفسدة، ولا يحصل بها المكلف على مشقة، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له؛ فلذلك شرع له ابتداء رخصة السَّلَم، والقِرَاض، والمساقاة، وغير ذلك مما هو توسعة عليه، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى1، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا وإليه سبيلا فلم يأته من بابه؛ كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانكفاف2 عنه؛ كالمولع بمعصية من المعاصي، فلا رخصة له ألبتة؛ لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة، فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها.
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، وإذا لم يوجد شرطها؛ فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة، إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب، وتارة تكون من باب الوجوب، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مبني على ما يقوله بعض الفقهاء من أن الأصل في هذه الأبواب المنع؛ ظنا منهم أن القرض والمساقاة من نوع الإجارة، وقد اختل منهما شرط صحتهما الذي هو العلم بالعوض والمعوض، وأن السلم من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده, الوارد في حقه النهي، وقد حقق ابن القيم نقلا عن أستاذه ابن تيمية أن القرض والمساقاة ليسا من الإجارة في شيء؛ إذ الإجارة ما يقصد منها العمل المعلوم المقدور على تسليمه, وأما القرض والمساقاة؛ فإنهما من قبيل المشاركة؛ هذا بماله، وهذا ببدنه، وكذلك السلم غير داخل في حديث نهي الإنسان عن بيع ما ليس عنده؛ إذ المراد من الحديث النهي عن بيع العين أو ما في الذمة مما لا يقدر على تسليمه. "خ".(3/211)