قطرات الندى
معالم الطريق إلى فقه الشعر
كتبه محمود توفيق محمد سعد أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف شبين الكوم الطبعة الأولى
1422
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحقوق محفوظة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فهذه " قطرات الندى " فى الطريق إلى حسن تذوق شعر العربية الماجد ، وقراءته قراءة عربية اللسان والقلب معا ، لا قراءة أعجمية.
هى قطرات جمعتها تبصرة لطائفة من طلاب علم العربية فى جامعة الأزهر الشريف فى قاعة البحث البلاغى وإغراء لهم إلى المسابقة بل المسارعة إلى ما هو أعلى وأجدى من بسيط القول ومدققه فى هذا الباب المجيد من أبواب العلم الشريف النافع علمه الضار جهله فى الدارين
وليس حسن قراءة شعر العربية إلا إحسانا فى الولوج إلى إحسان الإيمان بالله عز وجل. ذلك أن الإحسان فى قراءة شعر العربية إنما هو المهيع إلى حسن تدبر القرآن الكريم الذى هو مفتاح العلم بخطاب الله عز وجل عباده وحيا إلى خاتم أنبيائه وسيد رسله وخلقه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإنه لا يكون البتة حسن إيمان علما والتزاما إلا من حسن علم وفقه بيان القرآن ، ولن يكون حسن علم وفقه بيان القرآن الكريم إلا من حسن قراءة الشعر العربى قراءة عربية ماجدة لا قراءة أعجمية.
أنت لا تجد فقيها عالما عاملا بكتاب الله عز وجل إلا كان فقيها فى بيان القرآن الكريم والسنة النبوية من حسن قراءته شعر العربية الماجد.(1/1)
شعر العربية هو علمهم الذي ليس لهم قبل الإسلام علم أصح منه كما كان يقول " أمير المؤمنين : عمر بن الخطاب " رضي الله عنه ، وهو ديوان أمجادهم وحصن مناقبهم ، وهو مفتاح من مفاتح فقه بيان الوحي قرآنا وسنة ، وأنت غير واجد ـ وإن جهدت ـ عالمًا بكتاب الله عز وجلَّ وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم غير فقيه ببيان شعر العربية ومذاهبهم في الإبانة عن معانيهم
كان الشافعي راوية شعر وعالم بيان من قبل أن يكون فقيه الأمة ، ومؤسس أنجب وأكرم علومها : علم أصول فقه بيان الوحي ولولا أنه كان البحر في رواية الشعر وتذوقه وفقهه ما كان فيما أرى بالمقتدر على أن يؤسس لنا منهاجًا ملحَّبًا إلى إتقان فقه معانى الكتاب والسنة
فلا يكُ أمرك من الشعر ورعا أعجميا ، بل اعتناء به من أنه الباب الرئيس إلى أنْ تضع قدمك على فاتحة السبيل إلى فقه بيان الوحي : كتابا وسنة الذي جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية على إرادة الله عز وجل الخير بمن علمه :" من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين" ولو أنك مبصر حال حبر الأمة سيدنا " عبد الله بن عباس" رضي الله عنهما الداعى له المستجابُ الدعاء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بقوله :( اللهم فقه في الدين ) لرأيت أن من خزائن علمه علم شعر العربية رواية ودراية ومن مفاتح خزائن فقه الدين عنده مفتاح فقه مذاهب الشعراء في الإبانة عن معانيهم
وما انا بالذي مفضٍ بك ههنا إلى شيء مما كان من فقه ابن عباس" رضي الله عنهما للشعر فإن الأمر لغيرذاك ، ولكنى مشير إلى آمر آخر جليلٍ مثله : شأن أم المؤمنين : عائشة" الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما :
روى الترمزي عن " موسى بن طلحة " قال:
ما رأينا أحدًا أفصح من عائشة {ح: 3884}(1/2)
وروى أيضًا بسنده عن " أبي موسى الأشعري قال: ما أشكلَ علينأ ـ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ حديثٌ قطُّ ، فسألْنا عائشةَ إلا وجدْنا عندَها منه علمًا {ح: 3883}
كانت الصديقة راوية الشعر مثلما كانت راوية سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت علاقتها بالشعر علاقة رواية ودراية ، فالقلب الذي وعى السنة المطهرة وعى شيئا من شعر العربيةغير قليل ، واللسان الذي اذَّن ببيان النبوة هو الذي تَغَنَّى بغناء المجد:شعرالعربية المجيد،ولما بلغها أن"أباهريرة رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال:
(لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا ودَمًا خيرٌ له مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شعرًا )
استدركت عليه وقال : لم يحفظ " أبوهريرة" ، إنما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ : لآنْ يمتَلِئَ جوفُ أحدكم قيحا ودمًا خير له من أن يمتلئ شعرًا هجيت به
فدلت بذلك على أن مناط النهى والتقبيح والتنفير إنما هو الشعر الذي هجي به النبي ـ صللى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، وليس كل شعر ، ومن البين أن قيد الامتلاء في قوله : أن يمتلئ شعرًا هجيت به" قيدٌ ليس له مفهوم مخالفة ، فإن أدنى شطر من ذلك الشعر لايحل لمسلم ، ومن البين أيضًا أن قوله " خير" هنا ليس دالا على مفاضلة بين أمرين مشتركين في الخيرية ، بل هو كمثله في قوله تعالى :" " ولعبد مؤمن خير من مشرك" {النساء}
ليست مفاضلة بين خيرين أحدهما أفضل من الآخر في بابهما ،فعائشة ـ رضي الله عنها ـ ترى في الشعر علمًا لايليق بمسلم الزهد فيه ، وتراه كغيره من أقوال البشر حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وقد جاء هذامرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، في كتاب الأدب المفرد للبخارى 0(1/3)
وفي الكتاب والباب نفسه يروي البخارى بسنه عن عروة عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول : الشعر منه حسن ومنه قبيح ، خذ الحسن ودع القبيح ، ولقد رويت من شعركعب بن مالك أشعارًا منها القصيدة فيها الأربعون بيتًا ودون ذلك
فهذا كله هاد إلى ما لفقه الشعر من منزلة في فقه بيان الكتاب والسنة، وأن العلم به من العلم بالإسلام ، ولايرغب عنه إلا أعجمىٌّ ، فليكن لطالب العلم أخذٌ كريم من شذارت الذهب من معدن بيان الوحي كتابا وسنة ،ومعدن بيان الشعر الماجد
وقد جمعت هذه القطرات فى وعاءين:
الأول: جمعت فيه شيئا من الإبانة عن جوهر الشعر الذى نسعى إلى فقهه0
وشيئا من المنهج المصطفى لفقه الشعر وقراءته وتذوقه وشيئا من الإبانة عن آلات وأدوات ذلك الفقه ، وقد عمدت إلى شئ من البسطة فى هذا حتى يكون طالب العلم على بصيرة من أمره فى سعيه إلى فقه شعر العربية.
الآخر: جمعت فيه شيئا من المراحل التى يرتحل إليها ومنها إلى ما هو فوقها فى سعيه إلى جوهر الشعر
وقد جعلت هذا خاصا بقراءة المعنى الشعرى فى سياق القصيدة إيمانا بأن حسن فقه بناء القصيدة العربية بأبعاده الثلاثة البعد التركيبى والبعد التصويرى والبعد التنغيمى. إنما هو الطريق القويم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله سيدنا ومعلمنا "محمد بن عبد الله " وعلى آله وصحبه ومن والاه وتبرأ ممن عاداه وعادى الداعين إلى هديه القويم .والحمد لله رب العالمين
وكتبه محمود توفيق محمد سعد الأستاذ في جامعة الأزهر الشريف
القاهرة - حدائق الزيتون 7/7/1422 هـ ... ... ...
الوعاء الأول
جوهر الشعر
منهج فقه الشعر
أدوات فقه الشعر
جوهر الشعر
كل أمة ساعية إلى ما تخلد به آثارها وأمجادها من نحو بناء قصور وجسور ومعابد ، كمثل ما فعلت الأعاجم قديما وما يقتدى بهم أحفادهم فيه حديثا.
أما العرب فقد اتخذت الشعر ديوان مجد وحصن مناقب فيه تحفظ مجدها وتخلده ، وكانت فى هذا كالملهمة(1/4)
تهدمت القصور والجسور وبقى الشعر.
ولكن ما ذلك الشعر المخلد مآثر الأجداد؟ أكل قول ذى معنى موزون مقفى يكون شعرا؟
ابن سلام الجمحى "(139 – 231هـ) فى كتابه طبقات فحول الشعراء" أبى أن يكون كل كلام مؤلف معقود بقوافى شعرا.(1)
وكذلك كان على هذا السنن "أبو عثمان: عمرو بن بحر الجاحظ" (150 - 255 هـ) وزاد عليه كشفه عن جوهر الشعر.
لقد أبى "الجاحظ" أن يجعل قول القائل:
لا تَحْسَبنَّ الموت مَوت البلَى ... فإنَّما المَوتُ سُؤالُ الرّجَال
كلاهُما مَوتٌ ولكنَّ ذا ... أفظَعُ منْ ذاك لذُلّ السُّؤال
من الشعر وأن يكون قائلهما شاعراً.
يقول: "رأيت أبا عمرو الشيبانى" وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن فى المسجد يوم الجمعة أن كلف رجلا حتى أحضر دواة وقرطاسا حتى كتبها له.
وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبداً......" 1هـ(2)
نفى الجاحظ عن هذين البيتين صفة الشعر بل وعن قائلهما أن يكون فيه طَبْعُ الشعر ، وأنت ترى البيتين كلاما موزونا مقفَّى ذا معنى عقلىّ صحيح.
فلمَ عاب "الجاحظ" على "أبى عمرو التيبانى" إستجادتهما وتدوينهما إذن ؟
قد نعى الجاحظ عليه استجادتهما فى المسجد يوم الجمعة على مشهد من الناس لما فيها من معنى عقلى صحيح ساذج غفل من صنعة الشعر وروحه
والمعانى العقلية الصحيحة الغفل من التصوير والصنعة مطروحة فى الطريق - كما يقول الجاحظ – يعرفها العجمى والعربى والبدوى والقروى والمدنى.
وماكان لأبي عمرو أن يفعل ذلك على مشهد من العامة في مسجد عامّ وفي يوم احتشاد : يوم الجمعة ، فيظن الدهماء أن الشعر الذي هو الشعر الجدير بالقراءة والتذوق هو من باب ما استجاده " أبو عمرو" فيكون الاقتداء المقيت .
... والشعر لا يستجاد لمثل ما استجاد "أبو عمرو" البيتين لهما .الشعرلايستجاد إلا لما لا يكون في غيره من ضروب البيان ، وكلُّ ما أنت الواجده فى غيره لا يكون حسنا استجادة الشعر من أجله.(1/5)
فالشعر يستجاد لغير ما هو مطروح خارجه وإن كان هذا المطروح خارجه فى الطريق هو فى نفسه صحيحا محموداً.
جوهر الشعر - عند الجاحظ وكافة أهل الذوق والفراسة البيانية - إنما هو فى شئ آخر غير المعانى العقلية والصحيحة والحكم الأخلاقية غير المصورة الغفل من الصياغة والصنعة وعبقرية النسج والتحبير.
... يقول "أبو عثمان الجاحظ":
"ولم أر غاية "النحويين" إلا كل شعر فيه إعراب":
ولم أر غاية "رواة الأشعار" إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى استخراج.
ولم أر غاية "رواة الأخبار" إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل. ورأيت عامتهم-فقد طالت مشاهدتى لهم لا يقفون... على الألفاظ المتخيرة ، والمعانى المنتخبة وعلى الألفاظ العذبة ، والمخارج السهلة ، والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد ، وعلى كل كلام له ماء ورونق ،
وعلى المعانى التى إذا صارت فى الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم ، وفتحت للسان باب البلاغة ، ودلت الأقلام على مدافن(1) الألفاظ وأشارت إلى حسان المعانى.
ورأيت البصر بهذا الجوهر فى الكلام فى رواة الكُتَّاب أعَمُّ وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر"
ذلك مَعدن الشعر وجوهره عند "أبى عثمان الجاحظ " فالباحث عن جوهر الشعر الذى لا يكون إلا فيه إنما يبحث عنه فى معدنه
ومن استحسن شعرا لإعراب نحوى أو غريب لغوى ومعنى عقلى دقيق أو شاهد ومثل ، فإنه مستحسن الشعر لغير ما يستحسن الشعر له. وما ذاك إلا لافتقاره فى استحسانه إلى ذائقة نافذة وعلم بجوهر الشعر وروحه
هذا الذى بسط بيانه "أبو عثمان الجاحظ" لا يكاد يخرج على أصله من جاء من بعده من اهل الفراسة البيانية كمثل "الآمدى" و"القاضى الجرحانى" وابن رشيق "وعبد القاهر" وإن تصرفت مقالاتهم فهى بنات عَلاتٍ : أبوهن واحد وأمهاتهن شتى.
__________
(1) * كذا فى الأصل: ولعلها (معادن) جمع معدن ، أو (معارض) جمع معرض(1/6)
أما فى زمانا هذا فقد كاد الشعر العربى اللسان والمنهاج والرسالة يلقى فيه من الطَّغام من عين ما يلقى الاسلام الحق من ضيم على يدى المنتسبين إليه تقليدا وميراثا وما كان كثير منهم ليأسى لو أنه لم يولد مسلما ، فهو لا يكاد يجد مَزّية له بالإسلام منهاجا والعربية بيانا على أحد ، ومن ثم فكل من ليس بمسلم إنما هو أخ له ، لا يرى له عليه من فضل فى الدارين ، ويتناعقون بأن هذا التقدُّم الحضاريّ ،وأنَّ ماعدا هذا إنما هومن ظلامية القرون البائدة.
فى زماننا هذا لم يبق الشعر أو ما يسمى شعرا عربى اللسان آدمى الرسالة ، بل هو الآن سمادير تتقاذفها ألسنة المخمورين المهووسين الغارقين فى دواخين المنكر ثم يلقون به فى وجوهنا فى منشوراتهم الصفراء والحمراء سعيًا إلى إفساد ذائقة الأمة ،وقطعًا لها عن ميراث أجدادها ، فإذا ماقرأ الشبيبة شيءًا من تغنّى الأجداد بعزتهم نفرت آذانهم وأذهانهم وأذواقهم ،زأقبلوا على ما ليس بالعربي لسانا وقلبا وهمَّا.
وفى ضجيج تلك الناعقات يسطع نور الحقيقة ، ويصدح بالكلمة الحق فارسهاالذي لا يألو جهدا ولا يخشى تسفيها وتعييرا برجعية وظلامية.
فى ثيج كل ذلك يأتى فارس العربية "أبو فهر: محمود محمد شاكر" (1327-1418هـ) صاحب "القوس العذراء" التى أطلق سهامها فى صدور ذوى الأباطيل والسمادير فترك كثيرا منهم صرعى كأعجاز نخل خاوية ، وما تنفسوا الصعداء إلا برحيله إلى ربه.
جاء "أبو فهر" وليس من وكده وقصده إلا الدفاع عن أمة الإسلام. يقول عن غرضه "هو الدفاع عن أمة برمتها ، هى أمتى العربية الإسلامية ، وجعلت طريقى أن أهتك الأستار المسدلة التى عمل من ورائها رجال فيما خلا من الزمان ورجال آخرون قد ورثوهم فى زماننا.(1/7)
وهمهم جميعا كان أن يحققوا للثقافة الغربية الوثنية كل الغلبة على عقولنا وعلى مجتمعنا وعلى حياتنا وعلى ثقافتنا ، وبهذه الغلبة يتم انهيار الكيان العظيم الذى بناه آباؤنا فى قرون متطاولة وصححوا به فساد الحياة البشرية فى تواجهاتها الإنسانية والأدبية والأخلاقية والعملية والعلمية والفكرية وردُّوها إلى طريق مستقيم.
علم ذلك من علم وجهله من جهله"(3)
أقام نفسه على ثغر من ثغور العربية والاسلام يزود عنهما معا لأنهما لن يفترقا أبدا فالعربية جسد روحه الاسلام ، فلا وجود للاسلام بغير العربية ولا قيمة للعربية بغير الاسلام.
وكان الثغر الذى أخذ فيه عدته ورابط هو شعر العربية ، وقد كان حريصا على أن يكشف عن حقيقة الشعر الذى رابط للدفاع عنه من أن الدفاع عنه إنما هو دفاع عن القرآن الكريم وعن الاسلام ، عن الأمة فى وجودها الماجد.
يقول رحمه الله عز وجل:
"ولفظ الشعر فى لسان العرب موضوع للدلالة على كلام شريف المعنى ، نبيل المبنى ، محكم اللفظ ، يضبطه إيقاع متناسب الأجزاء وينظمه نغم ظاهر للسمع مفرط الإحكام والدقة فى تنزيل الألفاظ وجرس حروفها فى مواضعها منه ، لينبعث من جميعها لحن تتجاوب أصداؤه فى ظاهر لفظه ومن باطن معانيه.
وهذا اللحن المتكامل هو الذى نسميه "القصيدة"
وهذا اللحن المتكامل مقسم-أيضا- تقسيما متعانق الأطراف متناظر الأوصال تحدده قواف متشابهة البناء والألوان متناسبة المواقع متساوية الأزمان.
هذا هو الشعر . " اهـ (4)
ذلك بيان "أبى فهر" جوهر الشعر الذى عاش به وله ، وهو بيان جامع دقائق الحقائق التى لا يجد طالب علم ناصح لنفسه ولأمته مندوحة فى أن يتشاغل عنها بما هو من دونها.
أبان "أبو فهر" عن أن جوهر شعر العربية من أربعة يقوم فيها روح مهيمن هذه الأربعة ،أو الخمسة إن شئت:
المعنى الشريف ، والمبنى النبيل ، واللفظ المحكم ، والإيقاع المتناسب الأجزاء.(1/8)
وينظمها روح مهيمن هو: نغم ظاهر للسمع مفرط الإحكام والدقة فى تنزيل الألفاظ وجرس حروفها فى مواضعها منه.
جعل "أبو فهر" رأس هذه الأركان: المعنى الشريف "فما شَّرف المعنى؟"
الشَّرفُ فى كل شئ بلوغه ذروة صفات كماله فى النوع الذى هو جنس فيه ، وكل جنس ذو أنواع ، ولكل جنس صفات كمال ، فما يبلغ ذروة الاتصاف بصفات الكمال منه هو الشريف.
فالشَّرف ليس لجنس دون جنس بل هو مقرون ببلوغ ذروة الاتصاف بنعوت الكمال.
والمعنى الشعرى نوع من أنواع المعانى التى هى نتاج العقل والقلب والنفس ، وهى:أي "العقل والقلب والنفس " قوى متداخلة فى الإنسان لا يتأتى الفصل بينها.
وهذا النوع من المعانى: "المعنى الشعرى" له صفات ، و تقتضيه أحوال وملابسات عديدة ، وينحدر من روافد بسيطة مديدة ، أعظمها ما كان معينه الإنسان مبينا عن الكون والحياة فى نفسه.
فإذا ما بلغ ذلك المعنى ذروة الاتصاف بصفات الكمال قيل إنه معنى شريف.
ومن أوسع وأعمق وأطول روافد شرف المعنى الشعرى صدق الإحساس ونبل العاطفة ،
وقوة التخيل وطلاقته ونفاذ البصيرة.
والانعتاق من قيد الحس الإنسانى إلى رحابة الحدس والفراسة الآدمية.
ثم إحاطة العقل ونفاذه وإحكام النظر فيما يعمل فيه.
ووعى وشائج القربى بين مكونات الحياة محسوسها ومعقولها
واتقاد ذكاء القلب اتقادا ينضج أوارُه الفكرَ.
تم طبع أتىٌّ كريم لا يخذل صاحبه فيما يُقدمُ إليه.
تلك - فيما أقدر - هى الروافد التى تغذُو المعنى الشعرى بالشَّرف حتى وإن كان مجاله أصغر حدث من أحداث الحياة ، كمثل الذى أتت ناظره فى وصف "عنترة"ذبابًا قد خلا المكان له ،فأمنَ ،يحك ذراعه بذراعه.
وَخَلا الذُّبابُ بها ، فليس ببارح ... غَردًا كفعْل الشَّارب المُترَنّم
هَزجًا يَحُكُّ ذراعَه بذراعه ... قدْحَ المُكبّ علَى الزّناد الأجذم
فإنه قد بلغ فى تصويره هذا الحدث مبلغا قال عنه "أبو عثمان الجاحظ"
"لو أن امرئ القيس عرض فى هذا المعنى لعنترة لافتضح"(5)(1/9)
"أبو عثمان" القائل ذلك فى بيتى "عنترة" هو الذى قال ما قال فى البيتين اللذين استحسنهما "أبو عمرو الشييانى" ولو أنك قارنت بين المعنى العقلى فى هذين وهذين بعقلك لقضى بالفوق لبيتى الشيبانى على بيتى "عنترة" من أنهما حكمة نافعة
وكذلك لقضيت لبيتين قالهماالراعى النميرى لعبد الملك بن مروان:
أخَليفة الرَّحمَن إنَّا معشَرٌ ... حُنفاءُ نسْجدُ بُكْرةً وأصيلا
عَرَبٌ نَرَى لله فى أموالنا ... حَقَّ الزَّكاة مُنزَّلاً تنزيلا
فإن معناهما العقلى حميد مجيد ،ولكن " عبد الملك بن مروان" لم يرهما من الشعر في شيءٍ فقال له :
"ليس هذا شعرا ، هذا شرح إسلام وقراءة أية"(6)
ذلك أنه لم ير فيهما ما يحب كل قارئ متذوق الشعر أن يراه ،فليس فيهما من المعنى الشعري المنبثق من الصياغة والنسج والتحبير شيءٌ ألبتة ، فما يقضي به العقل المجرد في هذا غير ما يقضي به الذوق المثقف .
ومن بعد شرف المعنى نبل المبنى وكمال نجابته.
وإذا ما كان مبنى كل كلام من إحكام العلائق بين عناصره ، فإن تلك العلائق لينبثق فضل إحكامها من حال المعنى وصورته فى صدر صاحبه متى كان صاحب المعنى والمبنى محيطا بأنماط التعلق والاعتلاق فى السنة البيانية فى لسان العرب
نُبْلُ المبنى إنما هو فضل فى إحكام الصنعة وحذقها مما يتولد منه نجابة التركيب ، ولذا تقول العرب :فلان نابلٌ فى كذا .أى حاذق فى صنعته ،فالنبيل : الحاذق ،النجيب ،النبيه ،الرفيع القدر.
ونُبْلُ مبنى الشعر ليس لك حيث تسمع بأذنك بل حيث تبصر بقلبك وتستعين بفكرك وتعمل رويَّتك وتراجع عقلك وتستنجد فى الجملة فهمك.
وإذا ما كان نبل المبنى قائما من إحكام نسجه الذى أكد أهميته علماء بيان العربية : "الجاحظ "وقومه ، فقد كان لعبد القاهر فضل عظيم فى تبيان مقومات إحكام نسيج البيان.(1/10)
أما إحكام اللفظ فإنما هو إحكام اصطفائه على وفق مقتضى السياق والمقام حتى لا يكون غيره أحق بما هو فيه منه ، وحتى لا يكون حاله ووصفه الذى عليه أولى به منه.
وهذا إنما يأتى من حسن بصر الشاعر بالكلام وما يستحقه من عناصر الإبانة ومقوماته وما لكل عنصر من خصائص الإبانة المحسوسة والمعقولة وهذا يكتسبه الشاعر من ثقافته وخبرته بمسالك ما فى تلك العناصر من طاقات الإبانة الشاعرة.
وقد هدى الإمام :"عبد القاهر "فى فاتحة "الرسالة الشافعية فى الإعجاز" إلى "أن لكل نوع من المعانى نوعا من اللفظ هو: به أخص وأولى وضروباً من العبارة هو بتأديته أقوم ، وهو فيه أجلى..."(7)
وليس ذلك مقصورا على الألفاظ مفردة بل هو شامل التراكيب والمبانى ، فليس هناك ترادف دلالى بين المفردات مثلما ليس هناك ترادف بين المبانى والتراكيب.
وهو فى "دلائل الإعجاز" قد جعل أحد جانبى الطريق القويم إلى تحقيق مقومات بلاغة الخطاب أن يختار للمعنى اللفظ الذى هو أخص به وأكشف عنه وأتَم له وأحرَى بأن يكسبه نُبلا ويظهر فيه مزية"(8)
أما الإيقاع المنتظم الأجزاء ، فضابط المعنى الشريف والمبنى النبيل واللفظ المحكم.
هذا الإيقاع المتناسب الأجزاء يحتمل أن يراد به إيقاع التفعيلات التى تشكل نغم "البحر" الذى جعله من بعد نغما ظاهرا للسمع ينتظم المقومات الأربعة السابقة.
ويحتمل أن يراد به نغم الحروف والحركات وصيغ الكلمات وبناء الجمل ومناهج الإنشاد والتغنى الذى هو رئيس من شعر العربية.
وهذا عندى هو الأقرب ، ليبقى لحن أوزان البحر الشعرى الذى هو من لوازم شعر العربية المتجاوب مع قطراتها .(1/11)
والتنغيم والتغنى من مكونات الثقافة العامة ، ولكل أمة تعتز بوجودها ثقافتها النابتة معها فى بيئتها ووطنها وعاداتها ورسومها الاجتماعية وشريعتها الدينية ولن تكون ثقافة أمة ما هى ثقافة أخرى إلا إذا كانت إحداها قد باعت وجودها وفرطت فى شخصيتها. ومن ثم يكون لكل أمة إيقاعها وشدوها وتغنينها ، ولا تهتزُّ أمة لأنغام أخرى إلا إذا استخزت فى نفسها وتملكها هوان النفس.
لشعر العربية نغمه وإيقاعه ، ولن يكون أبدا عربيا إن أستهتر فى مفارقة النغم الموروث فيما عرف بأنغام بحور الشعر العربى.
ولعلى أمد القول فى هذا بعض الشىء فى هذه الأوراق فى موطن قادم.
المهم أن لشعر العربية ضربين من النغم:
الأول نغم آتيها من أصوات حروفها وحركاتها وتكونات ألفاظها ومناهج تركيبها وتصويرها وإنشادها ، وقد درج ناشئة الطلاب على تسميته بالنغم الداخلى. وهذا النغم تتجلى فيه الذاتية التوقيعية للشاعر ، وهى لا تتكر أبدا فى قصيدة أخرى وهو نغم مرتبط بالمعانى الشعرية المتولدة من نسيج الشعر وصيغته ومرتبط بالمغازى والمقاصد.
والآخر نغم البحور الشعرية ، وهو ظاهر للسمع مفرط الإحكام والدقة فى تنزيل الألفاظ وجرس حروفها فى مواضعها.
من هذه الخمسة الأركان: المعنى الشريف والمبنى النبيل واللفظ المحكم والإيقاع المتناسب الأجزاء والنغم الوزنى (العروضى) - من هذه الخمسة ينبعث لحن تتجاوب أصداؤه.
هذا اللحن المتكامل المنبعث من الأركان الخمسة هو الذى يسمى قصيدة ، ويمتاز هذا اللحن فى شعر العربية بأنه يقوم على التعادل بين قسمين فإذا هو متعانق الأطراف متناظر الأوصال تحدده قواف متشابهة البناء والألوان متناسبة المواقع متساوية الأزمان.(1/12)
بان لنا جوهر الشعر العربى الذى نتخذ حسن قراءته وتذوقه طريقا إلى أن يكون لنا وجودنا الآدمى العربى المسلم فى هذه الحياة نرود الناس ونسوقهم إلى ما يريده الله عز وجل منهم إيماناً بأن حسن قراءة الشعر العربى وتذوقه هو مفتاح حسن فقه الكتاب والسنة.
وإذا ما كنا نقول الشعر العربى فإنا لا نعنى به العربى فى حروفه ومفرداته وبعض تراكيبه وإن كان أعجمى المعانى والمغازى كمثل ما تنعق به البوم فى أخربة وسائل الإعلام/الإعلان على اختلاف ضروبها العديدة إنما أعنى به الشعر العربى اللسان والقلب والرسالة ، هَمُّه العظيم أن يغرى الأمة كلَّها بالمجد ؛ليكون يوما ديوانه كما كان ديوان المجد فى الزمن المجيد :زمن الأجداد الفرسان.
الهوامش
(1) طبقات فحول الشعراء لابن سلام تحقيق محمود شاكر ج 1 ص 8
(2) الحيوان للجاحظ تحقيق هارون ج 3 ص 131 ، ومعه البيان والتبين للجاحظ (ت هارون) ج 4 ص 24
(3) أباطيل وأسمار ص 9-10 لمحمود شاكر (ط2 سنة 1972)
(4) قضية الشعر الجاهلى فى كتاب ابن سلام لمحمود شاكر ص 37 (ط/ المدنى)
(5) الحيوان ج 3 ص 127
(6) الموشح للمرزبانى ص 142
(7) الرسالة الشافية لعبد القاهر ص (575) ملحقة بالدلائل تحقيق شاكر
(8) دلائل الإعجاز لعبد القاهر ص 43 (ت شاكر)
منهج فقه الشعر وتذوقه
فقه الشعر وتذوقه ونقده ليس فعلا إنسانيا تمارسه الدهماء بل هو عمل آدمى يعالجه الصفوة. وإذا ما كان عملا لا فعلا فهو قائم على علم وقصد واحتشاد ، حتى يستحيل بالخبرة والدرية وطول المراس صناعة.
وهو لا يستحيل من كونه فعلا إلى كونه عملا ثم صناعة إلا إذا كان هنالك منهاج ينتهج يضبط الحركة ، ويرصد الغاية.
وهو إذ يضبط إنما يضبط ضبطا متآخيا مع واقع ما ينتهج فيه وإليه ، فلا يتعبد برسومه ، ولكن يسترشد بمعالمه. ومن ثم لا تكون إقامة معالمه للتطبيق ، بل للاستهداء به فى التحليل.(1/13)
من هنا كان ما يعرف بالمنهج التطبيقى أو الدراسات التطبيقية فى دراسة الشعر دراسات تكاد لا تتمخض عن طريف لطيف وعن حقيقة قائمة فيما هو مناط الدرس. التطبيق أساسه وضع قواعد ورسوم سابقة على ما يراد درسه وهذا إن صح فى شئ ما فإنه لا يصح البتة فى دراسة البيان سواء كان بيان وحى كتابا وسنة أو بيان إبداع شعرا أو نثرا.
الدراسات التطبيقية لا تتواءم مع حقيقة البيان وطبيعته ومن ثم فإن المنهج التطبيقى لا أراه صالحا لقراءة الشعر وتذوقه ونقده.
المنهج التحليلى هو سبيل الرشاد إلى ذلك ولن نستجدى البتة بيانه من مقولات أعجمية ، فقد أسدى إلينا بيانه أسلافنا،ونحن بهم أغنياء عن فتات موائد الأعاجم.
يقول الإمام "عبد القاهرالجرجاني":
"لا يكفى فى علم الفصاحة أن تنصب لها قياسا ، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا ، بل لا تكون من معرفتها فى شئ [كذا] حتى تفصل القول وتحصل،
ونضع اليد على الخصائص التى تعرض فى نظم الكلم وتعدُّها واحدة واحدة وتسميها شيئا فشيئا.
وتكون معرفتك معرفة الصَّنع الحاذق الذى يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذى فى الدّيباج ، وكل قطعة من القطع المنجورة فى الباب المُقطَّع ، وكل أجُرة من الآجُرّ الذى فى البناء البديع"(1)
ذلك الذى قاله الإمام "عبد القاهر" فى منهاج بلاغة الخطاب أيا كان نوع ذلك الخطاب شعرا أو نثرا إنما هو بيّنٌ لا يتوقف بصير فى أنه قائم على تحليل مكونات بناء البيان على اختلاف أنواعها واختلاف أقدارها ، فالتفصيل ووضع اليد على الأشياء والعدُّ لإتقان معرفة الأشياء وعلائقها ووظائفها وأثارها وما يتولد عن ذلك كله. هو المنهاج الواضح الذي لايحيد عنه قارئٌ للشعر وغيره.
وإذا كان هذا البيان من "عبد القاهر" كافيا بل مغنيا لمن أبصر وأصغى فإن الإمام لايتكك حتَّى يزيده توضيحا وتأكيدا فى موطن آخر من كتابه قائلا:(1/14)
"وأعلم أنك لا تشفى الغلة ، ولا تنتهى إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشئ مجملا إلى العلم به مفصلا ، وحتى لا يقنعك إلا النظر فى زواياه ، والتغلغل فى مكامنه ، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه ، وانتهى فى البحث عن جوهر العود الذى يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ، ومجرى عروق الشجر الذى هو منه"(2)
ذلك بيان حقيقة المنهاج الواضح إلى قراءة الشعر: منهاج التحليل والتفصيل والتتبع لكل شئ. ورفض الإجمال والإبهام
وهو لا يرتضى من القارئ المفصّل أن يُعنى بشىء ، من دون شئ ، بل يوجب أن تكون معرفته بمكوّنات البيان ومكنوناته معرفة الصَّنع الحاذق الذى يعلم كل خيط من الإبريسم الذى فى الديباج (نعم, كلَّ خيط في اللُّحمة والسُّداه )، فلا بد من النظر فى الزوايا ، والتغلغل فى المكامن وتتبع الماء حتى منابعه.
هذه ليست كلمات عبارة من الإمام" عبد القاهر" يلقيها بين يديك ،وإنما هو أصول كلية ،لايمكن لأحد ناصح لنفسه وأمته أن يتغافل عنها أو يتشاغل بغيرها وهويريد حسن قراءة بيان أمته ومن قبل هذا بيان الوحي من ربه عزَّ وجلَّ إلى عبده ونبيه سيدنا "محمد " صلى الله عليه وسلم .
وهنا يبين "عبد القاهر" أن هذا المنهاج التحليلى الشامل يحتاج من القائم له صبرا ومثابرة. كيْما يقوم به ، يقول:
"وإذا نظرت إلى الفصاحة(1) هذا النظر وطلبتها هذا الطلب احتجت إلى صبر على التأمل ، ومواظبة على التدبر ، والى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام ، وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية. ومتى جشمت ذلك وأبيت إلا أن تكون هنالك فقد أممت إلى غرض كريم ، وتعرضت لأمر جسيم ، وآثرت التى هى أتم لدينك وفضلك وأقبل عند ذوى العقول الراجحة لك ، وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذى هو أَضْوَأُ لها وأَنْوَهُ لها"(3)
__________
(1) * يريد بالفصاحة العلم ببلاغة البيان ، بحسن تدبر سمات ومقومات بلاغته من حسن دلالة وتمامها وتبرجها فى صورة بهية معجبة.(1/15)
هذا الصبر فى التحليل والتدبر وبلوغ الغاية فى قراءة بلاغة البيان ولا سيما بلاغة بيان شعر العربية فيه من المسعى إلى إتمام الدين: التدين القائم على حسن فقه بيان الوحى: كتابا وسنة ، وذلك لا يكون إلا بالفوق فى تحليل بلاغة الشعر وتذوقه.
وإذا ماكانت الغاية المجيدة للإحسان في قراءة شعر العربيةهي الإحسان فيفقه بيان الوحي ،فإن ذلك عائد بالحسنى على قراءة الشعر ونقده
(موضوعية التأويل والتعليل)
وهو حين يجعل القراءة البيانية للشعر قراءة تحليلية فاحصة كل مكوناته ومكنوناته واقفة على ما هو الحسن العلى وما هو من دون ذلك لا يرتضى من القارئ المحلل والمتذوق المفصل أن تكون دعامته فى الاستحسان والاستقباح من غير تبيان بواعث الاستحسان والاستقباح ، وهذا لن يكون إذا كان موقفه قائما من الإحساس الذاتى غير الموضوعى.
يجعل "عبد القاهر" الموضوعية فى التأويل والتعليل دعامة رئيسة من دعائم القراءة التحليلية للشعر. يقول:
"وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لابد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة
وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل ، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل"(4)
فالاستحسان والاستقباح فى قراءة الشعر وتذوقه لابد أن يكون له مرجع قائم فى البيان المستحسن أو المستقبح وأن تكون علة ذلك قائمة فى قلب القارئ عاقلا له قادرا على تعيينها.
وهذا لا يكفى بل لابد أن يكون القارئ المحلل المتذوق قادرا على أن يعبر عن استحسانه واستقباحه ومرجعها فى البيان وعن العلة الموضوعية التى أدت إلى ذلك ، وأن يكون بيانه وتعليله بما يعبر ويبين ، فتكون لغته بيانا لا إبهاما وإلباسا ، فهو داع إلى جلاء لغة النقد وتطهرها من التعمية والإلباس.
(كم ترك الأول للآخر)(1/16)
وإذا ما كان البحث عن العلة فيما ينتهى إليه القارئ المحلل المتذوق فريضة لازمة ، وكذلك حسن البيان عنها ، فإن الإمام لا يغفل عن أنه ليس كل قارئ متذوق بالقدير على أن يقف على علة كل شىء فيما يقرأ ويتذوق ، فغير قليل قد يخفى على كثير من القراء ، وحينذاك لا يؤدى جهل القليل أو الكثير إلى ترك التعليل والتأويل جملة ، بل لابد من البيان عما أمكن البيان عنه ، يقول:
"إن من الآفة.. من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة فى قليل ما تعرف المزية فيه وكثيره. وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير ، أو هذا العطف ، أو هذا الفصل حسن ، وأن له موقعا من النفس ، وحظاً من القبول ، فأما أن تعلم لم كان كذلك ؟ وما السبب؟ فيما لا سبيل اليه ، ولا مطمع فى الاطلاع عليه، فهو بتوانيه والكسل فيه فى حكم من قال ذلك.
وأعلم أنه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل وجب ترك النظر فى الكل وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه ، وإن قل فتجعله شاهدا فيما لم تعرف أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك ، وتأخذها عن الفهم والتفهم ، وتعودها الكسل والهوينا.
قال الجاحظ: "وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس ، وله مضرَّة شديدة وثمرة مرة ، فمن أضر ذلك قولهم : "لم يدع الأول للآخر شيئا"
قال: "فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة فى أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا".
وأعلم أن العلم إنما هو معدن ، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وقرقد أخرجت من معدن تبر أن تطلب فيه ، وأن تأخذ ما تجد ولو قدر "تومة" كذلك ينبغى أن يكون رأيك فى طلب العلم"(5)(1/17)
هذا الذى أسداه إلينا عبد القاهر جليل القدر فى باب قراءة الشعر وتذوقه ، بل فى كل باب من أبواب العلم والحياة. وما نقله عن "الجاحظ" قول ثقيل – حرصت على نقله عنه كاملا لما له من عظيم النفع ، فلو أنا لم نستخز ولم نبع عقولنا وقلوبنا لغيرنا ولو أنا لم نعشق الترديد والتقليد والنسخ لكان لنا شأن عظيم. ومن عجائب أمرنا المدهشة أنا رغبنا عن الاتباع والاقتداء والالتزام حين كان ذلك طوق النجاة وسبيل الرشاد: العقيدة الإسلامية وشريعة الكتاب الصحيحة. رغبنا عن ذلك وفررنا من الاتباع إلى هاوية الابتداع. وفى غيرها من شئون الحياة عشقنا التقليد والاتباع وخشينا الابتداع واتخذنا مقالة الخزى والهوان "لم يدع الأول للآخر شيئا" وتجاهلنا "كم ترك الأول للآخر" وهدى النبوة الجليل يصدح فيها "لا يكن أحدكم إمَّعة"
كل هذا مؤذن فينا أن لن نكون على الجادة وعلى سبيل الرشاد وطريق السداد إلا إذا عشنا فى الأشياء بأنفسنا بعقولنا وقلوبنا نحن وإلا إذا قرأنا الحياة كلها قراءة تحليلية تأويلية تعليلية.
هذه القراءة هى الآدمية المثمرة عز الدنيا وسعادةالاخرة0
المنهج الأمثل والأشرف ثلاثى الأبعاد : تحليلى تأويلى تعليلى
وكل هذا لابد أن يكون بلسان وعقل وقلب وهم عربى فمن شاء غير ذلك فقد أضل0
مناط التحليل والتأويل والتعليل:
إذا ما كان المنهج الذى أرتضيه وأدعو إليه هو المنهج التحليلى التأويلى التعليلى" لما هو مجال القراءة والتذوق من ضروب البيان ولاسيما بيان شعر العربية الذى الإحسان فى قراءته مفتاح من مفاتح الإحسان فى قراءة وتدبر بيان الوحى: كتابا وسنة ، إذا ما كان هذا فإن مناط التحليل ... من ذلك البيان شامل كل مكوناته الصوتية والمعنوية ومكنوناته فيه وشامل أيضا السياق الخارجى (المقامى) وملابساته بمقدار ما يعين على حسن القراءة تحليلا وتأويلا وتعليلا.(1/18)
بناء القصيدة العربية التى هى مرمى قصدنا هنا إنما هو قائم من أبعاد ثلاثة : التركيب والتصوير والتنغيم وهى غير متفاصلة متحاجزة أو متجاورة ، بل هى متمازجة فى وجودها البيانى فى القصيدة0
التركيب مفض إلى صورة ، والصورة من تركيب وتنغيم والتنغيم لا يكون إلا من تركيب والتركيب فى نفسه مستويات. تركيب كلم من حروف وحركات وتركيب جمله نحوية من كلم وتركيب جملة شعرية من جمل نحوية وتركيب معقد من جمل شعرية وتركيب النص كله من معاقد ، فهذه خمسة مستويات للتركيب.
وكل هذه المكونات الخاضعة للتركيب الذى هو علاقة بين الأشياء المركبة منها تشكل الصورة صورة المعنى وهو ما يسمى بالصورة العامة أو الصورة الفنية أو الشعرية وصورة الدلالة التى هى المعروفة عند البلاغيين بالصورة البيانية التشبيه والمجاز والكناية فلدينا ضربان من الصور: صورة مدلول وصورة دلالة أما الدال فهو مادة الصورة
كل هذا يكون مناط تحليل وتأويل وتعليل.
وكذلك التنغيم فى الشعر إنما يتولد من التركيب ، وهو أيضا ضربان:
الضرب الأول: إيقاع نعم الحركات والأحرف فى الكلمة وإيقاع أنغام الكلم فى الجملة... الخ وهو ما يعرف عند المحدثين بالنغم الداخلى وذلك نغم عام يكون فى الشعر وغيره. وهو الذى حثنا النبى صلى الله عليه وسلم على الإحسان فى أدائه ونحن نتلو القرآن الكريم وهو الذى ذكر أبا موسى الأشعرى بإنعام الله عز وجل به عليه إذ قال له:
أوتيت مزمارا من مزامير داود"
وقال لنا: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"
هذا التغنى إنما مجاله هذا النغم.
والضرب الآخر فى التنغيم فى الشعر هو إيقاع النغم الآتى من الوزن والقافية والرّوىّ.
كل ذلك يكون مناط القراءة التحليلية التأويلية التعليلية وغير حفى أن القارئ لن يكون فى تحليله وتأويله وتعليله على درجة سواء فى هذه الأشياء جميعها فيعدل فى قسم قراءته عليها.(1/19)
فى القراءة من يعنى بالتراكيب وليس فى كل مواطن التركيب ومنهم من يعنى بالتصوير وشئ من التركيب والتنغيم وقليل من عنى فى قراءة الشعر العربى بتحليل النغم وتأويله وتعليله.
المهم أن تكون على ذكر أن القصيدة العربية بمكوناتها ومكنوناتها هى مناط القصد الرئيسى بالتحليل وأنا نستعين بتحليل السياقات الخارجية والقرائن والمقامات والبواعث والتجارب على الإحسان فى قراءة بناء القصيدة قراءة تحليلية تأويلية تعليلية وأن تكون على ذكر من أن هذه القراءة والإحسان فيها إنما هى مفتاح من مفاتح الإحسان فى تدبر بيان الوحى وهذا فرق رئيس عظيم بين القراءة العربية للشعر باعثا وغاية والقراءة الأعجمية له باعثا وغاية.
(عبد القاهر والتحليل)
وإذا ما نظرنا فى صنيع "عبد القاهر" محللا ومؤولا ومعللا. فإنا نجده قد اتخذ فى هذا موقفين :
(الموقف الأول) كان يشير فيه وبينه على مكان الخبيئ ليطلب والآخر كان يمارس هو بنفسه طلب ذلك الخبئ واستخراجه.
وأنت إذا رجعت إليه فى موقفه من صنيع السابقين عليه سمعته قائلا :
"ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء فى معنى "الفصاحة" "والبلاغة" "والبيان" و"والبراعة" وفى بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة فى خفاء وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه ، فيخرج ، كما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه ، وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها.
ووجدت المعول عليه أن ههنا
نظما وترتيبا وتأليفا وتركيبا
وصياغة وتصويرا ونسجا وتحبيرا.
وإن سبيل هذه المعانى فى الكلام الذى هى مجاز فيه سبيلها فى الأشياء التى هى حقيقة فيه ، وأنه كما يفضل هناك النظم ... ... كذلك يفضل بعض الكلام بعضا.......(6)
ذلك حال السابقين عليه: وصف إجمالى وإشارة ورمز وإغراء بالطلب وحث على الاستخراج.(1/20)
ولكنه لا يرتضى هذا لأنه لا يعدو أن يكون قياس حال الكلام على حال صياغة الذهب ، ونسيج الديباج ، وهذا غير كاف عنده "ولكن بقى أن تعلمونا مكان المزية" فى الكلام وتصفوها لنا وتذكروها ذكرا كما ينص الشىء ويعين ويكشف عن وجهه ويبين.
ولا يكفى أن تقولوا :"إنه خصوصية فى كيفية النظم وطريقة مخصوصة فى نسق الكلم بعضها على بعض ، حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبينوها وتذكروا لها أمثلة وتقولوا "مثل كيت وكيت" كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه دقة الصنعة ، أو يعمله بين يديك حتى ترى عيانا كيف تذهب تلك الخيوط وتجئ وماذا يذهب منها طولا وماذا يذهب منها عرضا؟ وبم يبدأ وبم يتثنى وبم يثلث؟ وتبصر من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرف اليد ما تعلم معه مكان الحذق وموضع الأستاذية.(7)
عرض لك موقف بعض السابقين وموقفه من صنيعهم فأعلمك الداء وموطنه وعلته ، وقد نقلته على طوله ، حتى أقيمك أمامه ، فتعلم أن مثل هذا غير كاف فضلا عن أن يكون مغنيا فى بابه.
وإذا كان عبد القاهر قد رأى من سلفه ما لم يعد التنبه على مكان الخبئ ليطلب دون ممارسة الطلب والاستخراج فإنك واجده قد فعل شيئا من ذلك فى كتابه "الدلائل" حين أراد أن يبين لنا أن النماذج العلية من الشعر الفائزة بالاستحسان من أهل العلم بالشعر لا ترى سببا فى حسن نظمها إلا ما كلن راجعاً إلى توخى معانى النحو فيما بين معانى كلمها.
يقول من بعد أن يبن أنك "لا ترى كلاما قد وصف بصحة النظم أو فساده ، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك بالفساد ، وتلك المزية وذلك الفضل إلى معانى النحو وإحكامه ووجدته يدخل فى أصل من أصوله ، ويتصل بباب من أبوابه = من بعد هذا يعرض ما ساء نظمه ثم لما جاد ويقول:(1/21)
وإذ قد عرفت ذلك ، فأعمد إلى ما تواصفوه بالحسن ، وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل فى النظم(1) وتأمله ، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت انظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟ عند ماذا أظهرت؟ فإنك ترى عيانا ان الذى قلت لك كما قلت.............(8)
يقول لك "عبد القاهر" ذلك من قبل أن يلج باب الدلالة على مكان الخبئ لتطلبه أنت بنفسك ، ليثيرك ويغريك: "اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن...." هو ما يملى عليك بل بنصفك ، ويقيمك أمام ما قام أمام الأئمة فاستحسنوا ، ثم هو يصف لك ما أنت نازل فيه ، يصف لك أنك ترى نفسك فى منازل الدهشة التى ولدها الحسن فى صدرك ، فيطالبك بالعودة إلى نفسك لتبحث فيها عن أسباب الحسن المدهش. كل هذا يفعله "الإمام" من قبل أن يشير إلى مكامن الحسن الذى يغريك ويحضك ويحرضك على أن تتطلبه بنفسك. ثم يعرض عليك الصورة الشعرية قائلا: "اعمد إلى قول البحترى:
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما أن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكاورأيا صليبا
تنقل فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ، ووجدت لها اهتزاز فى نفسك ، فعد فانظر فى السبب واستقص فى النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم ، وآخر ، وعرف ، ونكر ، وحذف ، وأضمر ، وأعاد ، وكرر ، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التى يقتضيها "علم النحو" فأصاب فى ذلك كله ، ثم لطف موضع صوابه ، وأتى مأتى يوجب الفضيلة".
__________
(1) * هذا لا يدخل فى النظم ولكن النظم يدخل فيه فليس كل شئ داخلا فى النظم ولكن النظم داخل فى كل مكونات البناء الشعرى.(1/22)
قدم لك ما تظاهرت الأئمة على استعلائه وبين لك مزية الاستعلاء ، وأنها جميعا عائدة إلى معانى النحو ، ثم بين موطن كل فرق ووجه من وجوه النظم فى هذه الصورة الشعرية قائلا: "أفلا ترى أن أول شىء يروقك منها قوله: "هو المرء أبدت له الحادثات" ، ثم قوله: "تنقل فى خلقى سؤدد" بتنكير "سؤدد" ، وإضافة "الخلقين" اليه ، ثم قوله "فكالسيف" ، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محال فهو كالسيف.
ثم تكريره "الكاف" فى قوله "وكالبحر"
ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين جوابه فيه
ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله "صارخا" هناك و "مستثيبا" ههنا
لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو فى حكم ما عددت ، فاعرف ذلك "(9)
ماذا رأيت من الإمام؟
دلّك على الفروق والوجوه ومواطنها فى هذه الصورة الشعرية ، لكنه لم يكشف لك عن المزية فيها.
وضع اليد على معدن الحسن وتركه ، فلم يستخرجه ، كيما تستمتع أنت باستخراجه ، وفتح الطريق لك لتسير فيه أنت على قدميك ، فإنك إن فعلت ، فقد فتحت على قلبك فيوض الأريحية.
ولاتظنَّن أن "عبد القاهر" عاجز عن أن بستخرج لك الدُّر،بل أراد لك أن تذوق بنفسك ،وأن يدفعك إلىشرف المتعة .(*)
ـــــــــــــــ
*) قدمت قراءة لهذه الصورة الشعرية في كتاب هو قيد الطبع رصدته لنظرية القراءة والتلقي : دراسة عربية
وأنت إذا أبصرت صنيعه وجدته غير مستقص تحليل البناء التركيبى للصورة. رأيته قد تجاوز التركيب والتصوير والتنغيم فى البيت الأول:
بلونا ضرائب من قد نرى ... ... إلخ
ما أشار إلى اسناد الفعل إلى (نا) المتكلمين ولا إلى إقامة (قد) فى صدر جملة الصلة (نرى) ولا إلى المضارع من دون الماضى (رأينا) ولا إلى إقامة (إن) من قبل الماضى رأينا.(1/23)
هناك جاءت (قد) قبل فعل الرؤية المضارع المثبت ، وهنا جاءت (إن) قبل فعل الرؤية الماضى المنفى ، وما بين دلالة (قد) هناك ودلالة (إن) هنا ولا إلى تقديم الجار والمجرور (لفتح) على متعلقه (ضريبا) وكذلك لم يشر إلى ما بين (ضرائب) و(ضريبا) من علائق صوتية وموقعية إلى غير ذلك.
كما أنه لم يوقفك عند اصطفاء الضمير "هو" وتعريف المسند "المرء" باللام وجعل المسند كلمة "المرء" دون غيرها ، ثم هذه "اللام" فى "له" دون منه ، ثم إسناد الفعل (أبدت) إلى (الحادثات) ثم تقديم العزم على الرأى ، ووصف العزم بقوله (وشيكا) والرأى بقوله (صليبا) ، وهذا التوقيع فى (عزما وشيكا) و(رأيا صليبا) وفى كل هذا وجوه وفروق من معانى النحو فيما بين الكلم.
ولم يقف بك عند الإجمال فى (خلقى سؤدد) والتفصيل من بعدهما ، والترتيب بين مكونات التفصيل ، ولم يقف عند العلاقة بين الترتيب بين (سماحا مرجى وبأسا مهيبا) و(عزما وشيكا ورأيا صليبا) أهى من قبيل علاقة التناظر: الأول هنا يناظر الأول هنالك والثانى هنا يناظر الثانى هنالك أم هى من قبيل رد الثانى هنا إلى الأول هناك ... الخ.
ولم يقف بك عند تقديم التشبيه بالسيف على التشبيه بالبحر ولا علىعلاقة ذلك بتقديم قوله(سماحا مرجى) وتأخيرقوله (بأسا مهيبا) وغيرخفيٍّ أنَّ علاقة "السيف" بـ"البأس" ظاهرة مثلما علاقة "البحر" بالسماح المرجى أيضا ظاهرة ، وهذا من جنس النظم الذى عُنى به الامام. ولكنه لم يستوفه هنا.
وكذلك لم يقف بك الإمام عند اصطفاء (ان) الشرطية فيهما معا (إن جئته صارخا) (إن جئته مستثيبا) دون غيرها من أدوات الشرط.(1/24)
وما وقف بك أيضا عند تقديم جواب الشرط فى كل على جملة الشرط ، ولا عند البيان بقوله (صارخا) دون قوله (مستصرخا) ليتعادل فى الظاهر مع (مستثيبا) ولم يقف بك عند اصطفاء الفعل (جئته) من دون (أتيته) وكل ذلك ذو أثر فى الحسن الذى استعلى النقاد هذه الصورة الشعرية من أجله. "وعبد القاهر" نفسه فى صدر الفصل الذى عقده لتحقيق القول فى الفصاحة والبلاغة قرر أن الطريق إلى تحقيق سمات بلاغة الخطاب أن يختار المتكلم اللفظ الذى هو أخص بالمعنى وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية.(10)
ومثل هذا الموقف الإرشادى إلى مكان الخبئ لتطلبه بنفسك ما تراه فى صنيع الامام مع أبيات "إبراهيم بن العباس" "أبو اسحق الصولى الجرجانى ت 243هـ. التى يقول فيها:
فلو إذ نبا دهر ، وأنكر صاحب ... وسلط أعداء وغاب نصير
تكون عن الأهواز دارى بنجوة ... ولكن مقادير جرت وأمور
وإنى لأرجو بعد هذا محمدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
يقول "إنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن الحلاوة ، ثم تتفقد السبب فى ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذى هو (إذ نبا) على عامله الذى هو (تكون) وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز دارى بنجوة إذ نبا دهر"
ثم أن قال (تكون) ولم يقل (كان)
ثم أن نكر (الدهر) ولم يقل (فلو إذ نبا الدهر)
ثم ان ساق هذا التنكير فى جميع ما أتى به من بعد
ثم أن قال: (وأنكر صاحب) ولم يقل (أنكرت صاحبا)
لا ترى فى البيتين الأولين شيئا غير الذى عددته لك تجعله حسنا فى النظم وكله فى معانى النحو كما ترى.
وهكذا السبيل أبدا فى كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى "النظم" وفضل وشرف أحيل فيهما عليه"(11)
هو فى هذا – أيضا – يضع يدك على مكمن الحسن ومعدن الفضل ولا يستخرجهما ، لتطلبهما بنفسك ، مثلما وضع يدك على المنهج فى البحث عن معادن الحسن. فأول الطريق معرفة مناط البحث عن المزية ومعدن الفضل.(1/25)
وهو فى تحليله مناط الفضل كان نافذا يقارن بين ما جاءت به الصورة الشعرية وما كان يملك الشاعر أن يقوله ، فاصطفى غيره عليه وهذا من إيمانه أنه لا تكون فضيلة حتى يكون اختيار ، وأنه لا تكون مزية للشاعر ، فيما قال إذا لم يكن له مندوحة عن أن يقول غير الذى قال وإن كان الذى جاء به فى نفسه حسنا ، فإن ذلك الحسن مرجعه إلى منهاج اللغة نفسها سواء كانت فى لسان الشاعر أو غيره. فهو من محاسن اللغة لا من محاسن الشاعر.
يقول "واعلم أنه إذا كان بيِّناً فى الشىء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذى هو عليه حتى لا يشكل ، وحتى لا يحتاج فى العلم بأن ذلك حقه وأنه الصوابٌ إلى فكر ورويّة فلا مزية.
وإنما تكون المزية ويجب الفضل إذا احتمل فى ظاهر الحال غير الوجه الذى جاء عليه وجها آخر ، ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر ، ورأيت للذى عليه حسنا وقبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثانى)(12)
لهذا كان الإمام يفتح بصيرتك على ما عليه البيان الشعرى ، وما هو محتمل أن يكون فانصرف الشاعر عنه ، وهو ما انصرف عنه وعدل إلى غيره إلا وهو يحاول به وجها ، فانظر منهاج الإمام فى قوله عن الشاعر: قال كذا ولم يقل كذا ، هذا التفاعل بين الكائن شعرا والممكن نحوا هو الذى يطلع البصيرة على معدن الفضل ، ويمنح المرتقب الدربة ، فيتخذ ذلك منهاجا واضحا وسبيلا راشدا.
وهذا الذى يغريك به الإمام لتتخذه منهاج قراءة وتذوق هو جد كثير مثلما هو جد لطيف دفين يتسرب من بين قبضة القوى المتين ، يقول لك الإمام:
"وأعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا تزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعانى التى تقع فيها دقائق وخفايا لا إلى حد ونهاية ، وأنها تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبه لأكثرها ولا يعلم أنها هى ، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السهو فيه ، وحتَّى إنه ليقصد إلى الصواب ، فيقع فى أثناء كلامه ما يؤهم الخطأ. كل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض"(13)(1/26)
ويؤكد الإمام لك أن الفروق والوجوه التى يحتاج القارئ المحلل المتذوق إلى التوقف عندها قد تكون من اللطف الذى يتعذر على كثير من الخاصة العلم به لأعلى التفصيل ، بل على الجملة ولا يدرونها وإن كان هذا ممن يشار إليه فى ضرب ما من ضروب المعرفان كمثل الذى كان بين "المبرد" و"الكندى"
يقول الإمام: "واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن ههنا فروقا خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة ، ليس أنهم يجهلونها فى موضع ويعرفونها فى أخر ، بل لا يدرون أنها هى ، ولا يعلمونها فى جملة ولا تفصيل.
روى عن "أبن الأنبارى" أنه قال :
ركب "الكندى" المتفلسف إلى "أبى العبَّاس" [أى المبرد] وقال له:
إنى لأجد فى كلام العرب حشوا.
فقال له أبو العباس: فى أى موضع وجدته ذلك؟
فقال: أجد العرب يقولون: "عبد الله قائم" ثم يقولون "إن عبد الله قائم"
ثم يقولون: "إن عبد الله لقائم" فالألفاظ متكررة ، والمعنى واحد.
فقال أبو العباس: بل المعانى مختلفة لاختلاف الألفاظ(1)
فقولهم: "عبد الله قائم" إخبار عن قيامه.
وقولهم: "إن عبد الله قائم" جواب عن سؤال سائل
وقوله: "إن عبد الله لقائم" جواب عن إنكار منكر قيامه
فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعانى
قال: فما أحار المتفلسف جوابا
وإذا كان "الكندى" يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض ، فما ظنك بالعامة ومن هو فى عداد العامَّة ممن لا يخطر شبه هذا بباله"(14)
__________
(1) * لعل هذا من أصول ما ذهب إليه الامام من أنه (إذا تغير النظم فلابد حينئذ من أن يتغير المعنى، على ما مضى من البيان ... ... أعنى قولك (إن زيدا كالأسد) و (كأن زيدا أسد) ذاك ، لأنه لم يتغير من اللفظ شئ ، وإنما تغير النظم فقط ، وأما فتحك (إن) عند تقديم "الكاف" وكانت مكسورة، فلا اعتداد بها ، لأن معنى الكسر [أى التأكيد] باق بحالة (دلائل الإعجاز ص 265)(1/27)
دلك "عبد القاهر" بهذا على أن الفروق بين صور المعانى هى معدن البحث والتأمل وأن مثل هذا جدير بالتلبث عنده والسكون لاقتناصه ، ففيه من اللطف والخفاء ما قد يتوارى عن ناظر من يكون من أهل البصر بالأشياء. ومن ثم حثك على أن تعلم أن الدقائق التى هى الجديرة بالبحث عنها يحتاج المرء معها إلى استقراء وتدبر. يقول هاديا لا آمرا ، ومتلطفا مغريا محرضا لا مستعليا:
"وأعلم أن ههنا دقائق لو أن "الكندى" استقرى وتصفح وتتبع مواقع (إن) ثم ألطف النظر وأكثر التدبر ، لعلم علم الضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل"(15)
* * *
(الموقف الآخر)
إذا ما كان الذى مضى هو الموقف الأول ، فإن الآخر كان فيه "عبد القاهر" لا يكتفى بالدلالة على معدن الحسن بل يمارس هو بنفسه استخراج ذلك الحسن وتحليل البيان وتذوقه.
وهذا كثير فى كتابيه : "الدلائل والأسرار" يجد المرء نفسه جدَّ مفتقر إلى أن يقيم معتكفًاعلى استبصار منهاجه فيهما .
ولعل الذى هو العلم فى هذا موقفه من أبيات "ابن الطثرية"المشهورة :
ولمَّا قضَينا منْ منًى كُلَّ حَاجَة
ومسَّح بالأرْكان مَن هُو ماسحُ
وشدَّت على دُهْم المَهارَى رحالُنا
ولَم ينظرالغَادي الَّذي هُو رائحُ
أخَذنا بأطْراف الأحاديث بينَنا
وسالت بأعناق المُطيّ الأباطحُ
قد كان موقفه التحليلى التأويلى التعليلى لهذه الأبيات مناط استحسان ممن جاء بعده ، لما بدا منه ولم يكن من غيره خلا "أبى الفتح عثمان بن جنى"
وعبد القاهر كانت عنايته بهذه الصورة الشعرية فى كتابة "الأسرار" حيث ذكر الأبيات الثلاثة غير منسوبة ، وفى الدلائل ذكر شطرا واحدا: (وسالت بأعناق المطى الأباطح) فى مواطن أربعة غير منسوب(16)(1/28)
تجده فى الأسرار يوطئ للأبيات بتخليص القول فيما قاله أهل العلم بالشعر فى منازلها العالية ، ثم يشير من بعد ذكرها إلى معالم الحسن فيها ثم لا يكتفى بهذا كما فعل فى الموقف الأول مع أبيات "البحترى" مع "الفتح ابن خاقان" وأبيات أبى أسحق الصولى: "إبراهيم ابن العباس" مع "الزيات" بل يعتمد من بعد ذلك إلى استقرار الحسن بنفسه ، ويوقفك على دقائق ولطائف
وإذا نظرت إلى صنيع الأمام هنا والذى مهد به لتحليله وتذوقه ألفيت أنه قد جعل معدن الاستحسان والثناء فى الأبيات أمورا هى:
1) استعارة وقعت موقعها.
2) وحسن ترتيب تكامل معه البيان.
3) وسلامة من حشو وفضل.
4) وسلامة من التقصير
تلك هى معادن الاستحسان التى أشار إليها ودلنا علينا. ثم عمدا إلى التدبر والتذوق :
وقف عند الإيجاز فى قوله (ولما قضينا من منى كل حاجة) والكناية والإيماء فى (ومسح بالأركان من هو ماسح)
ثم نظر فى جواب الشرط(لما)متجاوزا النظرفىالبيت الثانى:
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادى الذى هو رائح
وهو من تمام جملة الشرط الممتدة.
ونظره فى الجواب عُنى فيه بدلالة كلمة (الأطراف) على الصفة التى يختص بها الرفاق فى السفر واستجلى بعضا من دلائلها على الواقع النفسى الذى يكون لهم.
وأشار إلى منزلة الاستعارة فى (سالت بأعناق المطى الأباطح) وكان تذوقه وتحليله لها نموذجا عَليًّا يهتدى به ، ويرشد إلى ما للناقد المتذوق من إعانة للمتلقين على استبصار لطائف ودقائق فى معدن الشعر وأن الدلالة عليها والإرشاد إليها عمل نقدى جليل ، وهو يعنى بهذه الاستعارة فى كتابة "الدلائل" "والأسرار" من وجوه عدة استجماعها إلى بعضها يوفى الصورة الاستعارية بعض حقها.
وكانت له مناظرة بين (بأعناق المطى) وقولنا (بالمطى) تبصرنا الوجه الذى حاوله الشاعر بالعدول عما هو المألوف .(1/29)
وقد كانت قراءته لهذه الصورة الشعرية من القراءات الماجدة لها وقد توافدت عليها القراءات من قبله ومن بعده فكان هو وابن جنى العليين فى ذلك.
وغير خفى أن تحليل "عبد القاهر" هذه الصورة الشعرية لم يكن مستقصيا كل مكوناتها ولم يكن مستخرجا كل مكنوناتها:
يكون بملكك أن تضيف إليه النظرفى اصطفاء(قضينا)على (فرغنا)وفي تقديم(من منى) على المفعول (كل حاجة) وفيما بين (من) و(منى)من إيقاع النغم والنظرفي اصطفاء (منى) من كل منازل ومشاعرالرحلةالقدسة وبملكك أن تضيف إليه النظر في تشديد الفعل(مسَّح) ودلالته ،وزيادة (الباء) في (بالأركان) وعلاقتها بقول الله تعالى (وامسحوا برءوسكم) ،وكذلك النظر في التعريف بالموصولية في ( من هو ماسح) وفى تقديم (من منى) على المفعول (كل حاجة) وفيما بين (من)و(ومنى) من إيقاع النغم والنظر فى اصطفاء (منى) من كل منازل ومشاعر الرحلة المقدسة
ويملكك أن نضيف إليه النظر فى تشديد الفعل (مسح) ودلالته ، وزيادة "الباء" فى (بالأركان) وعلاقتها بقوله تعالى (امسحوا برؤوسكم) وكذلك النظر فى التعريف بالموصوليه (من هو ماسح)
وإذا كانت قراءة ”عبد القاهر" البيت الثانى عجلى تشير إلى أنه وصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ، فإنك إن نظرت فى هذا البيت رأيت فيه مشهدا يرسم الصورة النفسية والحركية للركبان ، وهو ذو منزلة عليا فى هذا جديرة بالاستشراف إلى تذوقها
ويزيده أن تبصر صيغة الفعل (شدت) وبناءه لغير الفاعل وتقديم الجار (على دهم المهارى) على المفعول (رحالنا) واصطفاء كلمة (رحالنا) وكلمة (دهم) وإضافة الصفة (دهم) إلى الموصوف (المهارى)
وأن تبصر دلالة قوله (ولم ينظر الغادى الذى هو رائح) على عظيم انشغالهم ومن وراء ذلك دلائل نفسيه عليه. واختيار كلمة الغادى والرائح والتعريف هنا بأل وهناك بالصلة(1/30)
وكذلك النظر فى جمع الشاعر هذه الجمل الأربع (قضيا / مسح / شدت / لم ينطر) وعطفها "بالواو" خاصة ليجعلها جملة الشرط ثمَّ تأتى حملة الجواب فى البيت الثالث.
ولك أن تنظر فى اصطفاء الفعل (أخذ) ومقاربته بالفعل "قضينا" فى جملة الشرط ، وفى هذه (الياء) فى (بأطراف) والفعل مما يعدى بنفسه أيضا فما الوجه الذى يحاول الشاعر بالعدول إلى هذه (الباء) وقد جعل لها نظيرا فى (مسح بالأركان) ؟ وهل الأخذ بأطراف الأحاديث فى رحلة الإياب يعادل التمسيح بالأركان فى القيام بحق العبادة؟ هل هما من بابة واحدة؟ وأن تنظر فى دلالة اصطفاء قوله (الأحاديث) وقد عنى بذلك "إبن جنى" ولم يوفها "عبد القاهر" حقها ولعله اكتفى بمقالة "ابن جنى" فيها.
وأن تنظر فى عطف جملة (سالت) على (أخذنا) بالواو من دون(الفاء) وظاهرالنظرأن الثانية يمكن أن تكون مفرعة من الأولى.
وأن تنظر فى طى الشاعر الأحداث طيًّا حين جعل جملة (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) جوابا ، وهذا الحدث لا يكون بمجرد الرحيل ، بل حين يأخذ القوم كل مأخذ فيه ، هذا الطى للأحداث ذو دلالة لطيفة على الواقع النفسى للركبان فى رواحهم إلى أهليهم من بعد الوفاء ببعض حق العبادة.
بملكك أن تقول مع الأمام "عبد القاهر" فى هذه الصورة الشعرية وقد أجاد وأحسن إحسانا ولكنه ليس الذى لم يترك لك ما يمكن أن تقوله بل كم ترك الإمام لنا أن نقول ، وقد أغرانا بأن نقول وحضنا على أن نسافر فى مجاهل تلك الصورة الفنية.
وعبد القاهر فى كتابيه "الدلائل " و "الأسرار" كثيرة جليلة مواقفُه التحليليةُ التأويليةُ التعليليةُ لآيات الحسن والإحسان. ولا سيما فى الكلمة الشاعرة. ومن شاء أن يتعلم منها منهاج القراءة التحليلية ومسالك التأويل البيانى ومسارب التعليل الموضوعى المستمد من ذات البيان ، فإنه الواجد ما يتقاطر عليه نداه أولا ، فإن أحسن التلقى وأستشرف الأفق الأعلى وسعى تهاطلت عليه الفيوض السخية.(1/31)
وطالب علم بيان العربية فى الكتاب والسنة ، وفى الكلمة الشاعرة تكون عنايته باستبصار مناهج العلماء فى القراءة تحليلا وتأويلا وتعليلا وكيفيتهم فى هذا لا تقل عن عنايته بما قالوا ، فيعقله ويفقهه إن لم تكن عنايته باستبصار المناهج أعلى.
حفظ مقالات أهل العلم مهم ولكنه لايكفى فضلاعن أن يغنى ، فيجعلك جودا لأن ما يحفظ قد ينسى،والأهم فقه مناهج العلماءفى استخراج مقالاتهم من معادنه ، وطرائقهم فى القراءة تحليلا وتأويلا وتعليلا. وكل العلماء الذين يبعثهم الله عز وجل على رأس كل قرن يجددون للأمة دينها (أى فقه دينها وتدينها) إنما هم أولئك الذين لا يقفون عند حفظ ما قال السابقون والعصريون وفقهه بل هم أولئك الذين أضافواإلى الحفظ والفقه استبصارمناهج أسلافهم فىاستخراج المعرفة من معادنهاوصقلهاوصياغتها،فتستشرف القلوب الحية إليها.
ومن ثم فإن الإحسان إلى طلبة العلم أن يكون فريضة عليهم السعى إلى استبصار مناهج العلماء فى التفكير واستخراج المعرفة وتحقيقها وتحريرها. وكل أمة تريد لنفسها التقدم والرفعة والريادة تجعل دراسة مناهج التفكير فى كل فرع من فروع العلم والمعرفة دراسة رئيسة. لإيجاز طالب علم ولايشهد له إلا بالفوق فيها ، ولا يكون هذا إلا إذا غلب على سبر ملكاتهم وامتحانهم واختبارهم فى مناهج القراءة والتفكير فلا يقال: ما رأى فلان فى كذا؟ بل كيف أخرج فلان كذا من كذا؟ وقد أحسن إلينا شيخنا "أبو موسى" أعزه الله فى الدارين إحسانا فوق إحسانه إذ قدم إلينا -طلاب علم البيان العربى- كتابة "المدخل إلى كتابى عبد القاهر"
وإذا كانت أسفاره فياضة بالجود فإن كتابه (المدخل) انفعها لى بل لكل طالب علم بيان العربية .(1/32)
وإذا كانت هذه الأسطر أخطها فى باب منهج فقه شعر العربية فإنى موقن أن منهج القراءة العربية للشعر العربى لسانا وعقلا وقلبا وهما إنما هو على لا حب الطريق وجادة السبيل القويم إلى فقه بيان الوحى كتابا وسنة ، ذلك الفقه الذى لن يصلح عملنا: قولا وفعلا إلا بحسن تحقيقه وتحريره.
وقد قرن الله عز وجل عزنا فى الدنيا وسعادتنا فى الآخرة بصلاح أعمالنا وشطر صلاحها من حسن فقه بيان الكتاب والسنة ، فحسن فقه بيان العربية شعرا ونثرا هو من علوم الدين وليس من علوم الدنيا التى لا يضر فى الآخرة جهلها ، كما هو الشأن فى علم غيرنا بيان لسانهم ، فإن لساننا العربى من ديننا الإسلامى ، ولا تجد أمة غيرنا لسانها من دينها. ...
الهوامش
1- دلائل الإعجاز ... ... ص37
2- السابق ... ... ... ص260
3- السابق ... ... ... ص37
4- السابق ... ... ... ص41
5- السابق ... ... ... ص291-292
6- السابق ... ... ... ص34-35
7- السابق ... ... ... ص35-36
8- السابق ... ... ... ص84
9- السابق ... ... ... ص85-86
10- السابق ... ... ... ص43
11- السابق ... ... ... ص86
12- السابق ... ... ... ص286
13- السابق ... ... ... ص285
14- السابق ... ... ... ص315
15- الموضع السابق ... ...
16- أسرار البلاغة ص 21 ، ودلائل الإعجاز ص74 ، 75 ، 294 ، 296
أداة فقه الشعر
"قال قائل لخلف الأحمر( ت 180 هـ)
إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه ، فما أبالى ما قلت أنت فيه وأصحابك
قال: إذا أخذت درهما فاستحسنته ، فقال لك الصراف: إنه ردئ ، فهل ينفعك استحسانك إياه"(1)
فقه الشعر صنعة واحتراف ولكل حرفة أداة ، بها يتوصل إلى بلوغ الطّلبة منها. وفقه الشعر لا نهاية له ، وقد قيل: "شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال"(2)
فكيف إذا ما كانا: البيان والجمال ممتزجين فى شئ؟
وإذا كان الشعر بيانا لا نهاية لجماله فإن لفقه ذلك الشعر غير المتناهى جماله أدوات وآلات لا يتحقق شئ منه إلا باجتماعها وتكاملها. والنقص فى شئ من تلك الآلات والأدوات أو فى تكاملها هو نقص فى فقه الجمال الذى لا يتناهى.(1/33)
والحديث المفصل فى آلات وأدوات فقه الشعر جد وسيع غير أنك بملكك أن تجمله فى اثنتين: الطبع والمعرفة
وذلك ما جاء عن الامام عبد القاهر:
"وأعلم أنه لا يصادف القول فى هذا الباب موقعا من السامع ، ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة"(3)
وبين الامام أن الشعر وما قاربه من البيان العلى ذو مزايا و"أمور خفية ، ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث له علما بها حتى يكون مهيئا لادراكها ، وتكون فيه طبيعة قابلة لها ، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما فى نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شئ منها وشئ ... "(4)
فهذا دال دلالة ظاهرة على أن آله فقه الشعر إنما جماعها: ذوق وعرفان. وهو لا ينى يصرف القول فى توضيح ذلك وتأكيده فى القلب ، شأنه فى كل أمر جليل.
يقول فى بيان أنه لن يكون بملكك أن تفهم أحداً شيئا من الحسن وهو المفتقر إلى أداة الإحساس به وفقهه:
" لست تملك إذن من امرك شيئًاحتَّىتظفرَبمَن له طبعٌ إذَا قدحْتَه وَرَى وقلبٍ إذا رَأَيته رَأَى ،فأمَّا صاحبك من لايرى ماتُريه ،ولا يهتدى للذي تهتديه ،فأنت رامٍ في غيرمَرْمَى ،ومُعَنٍ نفسَك قي غيرجدوى،وكما لاتقيم الشعرفي نفس ما لاذوق له كذلك لاتفهم هذا الشأن من لم يُؤتَ الآلة التي بها يفهم إلاَّ أنَّه إنَّما يكون البلاءُ إذا ظنَّ العادمُ لها أنَّه أوتيها ،وأنه ممن يكمل للحكم،ويصح منه القضاء،فجعل يقول القول لويعلم غيَّه لاستحيي منه ، فأمَّا الذي يحسُّ بالنقص من نفسه ،ويعلم أنَّه قد عدم علمًا قد أوتيه من سواه ،فأنت منه في راحة ،وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدُو طوره ،وأن يتكلف ما ليس بأهل له " (5)
بسطت النقل عنه اضطرارا لأقيمك أمام أمرين.(1/34)
الأول: أنه لن يكون لأحدقدرفى فقه الشعرالذى جماله لا يتناهى إلا إذا كان مليكا لأداة هذا الفقه: الذوق والمعرفة ، على ما سأبينه من بعد.
الآخر: أن الإحسان إلى النفس وإلى الآخرين أن يعرف المرء ما قد أهَّله الله عزَّ وجلَّ له، فلا يسعى إلى أمراشتهته نفسه وهوالمفتقر إلى آلته ، فتلك خيانة تثمر ندامة ، بل على المرء أن يسعى إلى ما هو مالك آلة الفَوق فيه ، والتميز فى صنعته وأن يروض نفسه العصية على اشتهاء ما يستطيع وقد أجاد القائل:
إذَا لَمْ تسْتطعْ شيْئًا فَدَعْه * وَجَاوزْه إلى ماتسْتطيعُ
ولو فعل كل عاقل ذلك لخرست ألسنة ملأت الدنيا بالنقيق والضجيج المؤرق الموحش. ولوجد الناس ما يمكنهم أن يصغوا إليه حين لا يتكلم فى الشئ إلا فقيه خبير.
المهم أن أدوات فقه الشعر وآلاته جماعها الذوق والمعرفة وهذه المعرفة ضربان: معرفة مكتسبة من خارج المرء "معرفة نظرية" ومعرفة مكتسبة من فعله هى "معرفة الممارسة"
ومن ثم يمكن أن أقول إن أدوات فقه الشعر ثلاثة على التفصيل الذوق (الطبع/ الطبيعة) ثم المعرفة (أو الدراية) ثم الدربة (أو الممارسة والخبرة)
وإذا كان عبد القاهر قد جعل الآلات اثنتين: (ذوق ومعرفة) تفصل إلى (ذوق ومعرفة ودربة) فإن "ابن سلام الجمحى" (ت 231 هـ) قد جمع هذه الثلاث فى واحدة هى الصناعة.
يقول: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم ، كسائر أصناف العلم والصناعات ... "(6)
بكلمة (صناعة) دل "ابن سلام" دلالة لطيفة على أن الطبع وحده غير كاف بل هو مفتقر إلى معرفة نظرية مكتسبة وإلى دربة ، وهما: المعرفة والدربة لا يغنيان عن الطبع (الذوق)
وجه الدلالة على هذا آت من كلمة (صناعة) صيغة ومادة:(1/35)
الصيغة (فعالة) دالة فى لسان العربية على الاحتراف والدربة والإجادة والتمرس والمادة (ص ن ع) دالة على أداء فعل قائم على أمرين: علم ودربة أو (مدارسة وممارسة) فكل حدث يقع من المرء غير قائم على علم فهو "فعل" فإن مازج الفعل علم كان عملا ، فإن مازج الفعل علم ودربة صار صنعا. فهذه أفعال ثلاثة متصاعدة:( فعل ، عمل ، صنع)
ذلك ما هو قائم من فروق دلالية بين هذه الأحداث تقوم فى لسان العربية وإن تداخلت وتبادلت وتقارضت فى ألسنة الناطقين إلا أنها فى بيان الذكر الحكيم متباينة لا يقام أحدها مكان الآخر ، بل كل فى موطنه الآنس به. وأهل العلم بالسنة البيانية لله عز وجل فى قرآنه المجيد يفقهون ذلك.
.
"ابن سلام الجمحى" اصطفى كلمة (صناعة) والشأن فى مثله أن يُحْسَنَ الظَّنُ بفقهه واستعماله للألفاظ ولا سيما فى صدور الفصول ، فهى محل اعتناء.
جاء بهذه الكلمة (صناعة) فجمع الآلات الثلاث: الطبع والمعرفة والدربة أما الثقافة فهى ليست قسيما للصناعة ولا قسما منها بل هى موقف منها هو موقف التثقيف لما منه تكون الصناعة.
أى تثقيف الطبع تهذيبا وتقويما وكذلك المعرفة والدربة ، فكل شئ إذا لم يقوم منآده وعوجه لن يصيب ما كان له ، فإصابة الشىء وسداده من استقامته التى هى من ثقافته فالثقافة موقف من الصناعة .
وإذا نظرت فى مقال "ابن سلام" بعدها ألفيته قائلا: "منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان"
ثم ضرب أمثله لمجال كل.
فيظن القارئ أن العين والأذن واليد واللسان أدوات تثقيف أو تقويم عوج ، ولو دقق فى مجالات كل ثقافة منها علم أن معنى قوله "منها ما تثقفه العين" ليس معناه ما تقوم عوجه العين. فذلك لا يكون ، بل معناه ومنها ما تعلم ثقافته العينُ أى تعلم العيْنُ صنعه صنعا مثقفا ،فالعين هنا وما شاكلها أداة علم بالتثقيف وليست أداة تثقيف.(1/36)
التثقيف نعت للصنعة التى نعلمها العين ولهذا تجد "ابن سلام" يختم كلامه بقوله: "ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناءإنه لندى الحلق
طل الصوت ، طويل النفس ، مصيب اللحن ، ويوصف الآخر بهذه الصفة وبينهما بون بعيد .
يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له ، بلا صفة ينتهى إليها ولا علم يوقف عليه.
وإن كثرة المدارسة لتعدى على العلم به فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به(7)
فهذا دال منه دلالة قوية على أن العلم بالشعر وفقهه قائم على ذوق وممارسة ومدارسة والأولان: الذوق والممارسةمعالا يوقف عليه، فيعلم ويمنح ، فالأول(الذوق) منحة والآخر(الممارسة) اجتهاد ذاتى.
وبين لنا "حازم القرطاجنى ت 684هـ" أن الطبع (الذوق) "هو استكمال للنفس فى فهم أسرار الكلام ، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التى من شأن الكلام الشعرى أن ينحى به نحوها"(8)
وإذا ما كان "حازم" غير كاشف لنا عن جوهر الذوق ولا عن تكونه فإن "ابن خلدون" (808 هـ) ذاهب إلى أن اسم "الذوق" الذى اصطلح عليه أهل صناعة البيان "إنما هو موضوع لإدراك الطعوم ، لكن لما كان محل هذه الملكة فى اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير له اسمه ، وأيضا ، فهو وجدانى اللسان كما أن الطعوم محسوسة له ، فقيل له ذوق"
وبين لنا أن "الذوق" الذى هو (حصول ملكة البلاغة للسان) التى هى مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب فى إفادة ذلك إنما تكون من مخالطة كلام العرب والاستماع إليه وممارسته وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه ، فإذا حصلت هذه الملكة واستقرت ورسخت فى محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلّة لذلك المحل
وحينذاك إذا ما سمع كلاما على غير ما هو سنن العرب فى كلامهم مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر ، بل وبغير فكر إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة(1/37)
وقد يمج ما حاد عن السنن ويعجز عن الاحتجاج لذلك بينما يصنع أهل القوانين النحوية والبيانية ما يحتاجون به ، وهذا منهم استدلال بما حصل من القوانين المستفادة بالاستقراء. أما "الذوق" فأمر وجدانى حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. وليس يحصل لمعرفة القوانين العلمية فى ذلك التى استنبطها أهل صناعة اللسان ، فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل فى محلها.
ذلك محصل قوله(9)
وكأنى به ذاهب إلى أن الذوق مما تظهره المعايشة والممارسة والمخالطة ، وكثرة الإصغاء إلى بديع القول وبليغه ، فإن كان هذا فلا أتوقف فى أن مثل هذا مظهر ما هو موهوب فليس كل من سمع من بديع القول بليغه وحفظه ودرسه بفائز بتلك الملكة ، لأن كثرة الاستماع لا تخلق الذوق ولكن تظهره وتصقله.
فقوله (وهذه الملكة ... إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية...) إن أراد بالحصول الوجود المكتسب فهذا مما يتوقف فيه ، إذ الذوق فى أصل وجوده هبة ومنحة ربانية(1/38)
وإن أراد بكلمة (تحصل) أصل دلالتها فى لغة العرب فإن مقالته غير مدفوعة عندى. ذلك أن مادة (حصل) تفيد معنى الاستخراج والجمع ولا تفيد معنى الإنشاء والإيجاد ، فتكون الممارسة والإصغاء والتفطن لخواص تراكيب الكلام مما يحصل الملكة ويستخرجها من معدنها فيكون الذوق كالذهب والممارسة والإصغاء والتفطن أداة استخراج الذهب (الذوق) من معدنه وهذا هو الأقرب. فيبقى الذوق فى أصل وجوده فى المتذوق هبة ومنحة ربانية قد يفتقر كثير إليها ، وقد يقتلها صاحبها فى مقرها بإدمانه فاسد القول ومغسولة ، وهذا ما عليه حال كثير من أبناء اللسان العربى الذى بات فيه التحدث بلسان الفصحى تخلفاً ورجعية وصار الجهل به فخرا وغدا أهل اللسان: لسان بيان الوحى مما يتفكه منهم وبهم ، وهذا من الاستخزاء النفسى الذى غرقت فيه الأمة ، فوهنت من داخلها ، وما يكون لغيرها من الأمم أن تظهر عليها بغير هذا الاستخزاء المفضى إلى الإعراض عن بيان الوحى.
مجمل القول أن الذوق (الطبع / الطبيعة) هبه لا يكتسب أصل وجودها ، وهى كطبع إبداع الشعر لا يتأتى لك أن تمنح إنسانا ما عريا عنه اقتدارا على أن يقول ما ينمى إلى الشعر ، وإن كانت بملكك بالمدارسة وكثرة التعهد أن ينظم قولا موزونا معقودا بقواف غير انه عن الشعر الذى هو علم العرب وديوان مجدهم إنما هو جد زنيم.
هذا الذوق فى طوره الأول الموهوب الذى فطر صاحبه عليه ليس بملكه أن يعيش فضلا عن أن يثمر وحيدا غير ممزوج بأشياء أخر.(1/39)
حياته وأثماره من أمرين المدارسة والممارسة ، هما رافد البقاء والنمو والإثمار أما المعرفة والعلم والمدارسة فذلك إنما يكون أولا بمخادنة الشعر العلىّ والإصغاء إليه ، وطول النظر فى نتاج الفحول من الشعراء ، ثم تحصيل العرفان بأصول علم اللسان العربى لغة ونحوا وبيانا ، وأن يحصل من كل فنون المعرفة على اتساعها وتعددها وتنوعها. فليس هنالك ضرب من ضروب المعرفة يحصله قارئ الشعر ومتذوقه إلا إذا كان ذا أثر فى تذوقه وفقهه ، فاتساع المعرفة وحسن تحصيلها (استخراجها وجمعها) معين على النفاذ فى مغاليق الشعر ومساربه ، وعلى استبصار لطائفه ودقائقه.
واقتصار المتفقه المتذوق على معارف اللسان ومذاهب الشعراء فى البيان والاعراض عما تتداول العقول من المعارف الإنسانية على اختلاف الإعصار والأمصار ولا سيما عصر الشعر المتذوق ومصره ، إنما هو آفة كثير ممن قام لفقه الشعر وتذوقه.
وما هذا إلا لأن الشعر هو الوجود البيانى للشاعر ، وهذا الوجود هو خلاصة ما اجتمع فيه من حصائد مدركاته الحسية والمعنوية والنافذة فى الأغوار الشاعرة بما لا يشعر به غيره.
يستجمع كل ذلك فى نفسه فيقرضه شعرا قائماً فى قصيدة. فلا يتأتى للمتفقه تلك لقصيدة المتذوقها أن يوفى بعض الحق لها إلا بأن يحصل ما يتخذه أداة إلى استبصار ما تخلق منه القصيدة فى نفس قائلها.
"ضياء الدين بن الأثير" (ت 637 هـ) يذهب إلى أن من ركب الله عز وجل فيه طبعاً قابلاً لإبداع البيان ولا سيما الشعر فانه يفتقر مع هذا الطبع والذوق إلى ثمانية أنواع من الآلات التى هى علوم ومعارف ، والحق أن هذه الآلات (المعارف والعلوم) أقرب إلى الثمانين وليس الثمانية التى ذكرها ابن الأثير(10)
غلب على ما ذكره علوم اللسان ، وثم علوم لا يقل افتقار الشاعر إليها عن افتقاره إلى تلك العلوم التى ذكرها. فاتساع معارف الشاعر المطبوع يعلى من قدره ويجعله سالكا مسالك غير مألوفة فى الإبداع فيدهش. وكذلك كان أبو تمام.(1/40)
وقد دل النبى – صلى الله عليه وسلم – شاعره "حسان بن ثابت" على "الصديق" ليقتبس منه علم الأنساب ، ليكون أعون له على الإبداع المدهش من جهة والنافذ إلى الغاية من أخرى.
وإذا كان اتساع المعرفة جليلا أثره فى امتلاك الشاعر اقتدارا على الإدهاش بشعره ، فإن رأس تلك المعارف هى الرواية. وقد جعلت الرواية معدن الفحولة "قال رؤبة: "الفحولة هم الرواة"(11)
ولعل هذا من أن للفحل مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاف ، كما يقول الأصمعى(12) وكأن فيه العظيم الجليل من القوة والطاقة الإبداعية التى حصلها واستجمعها من رواية شعر أسالفه ، وإذا ما كان فى كل شاعر فحل ألف شاعر هو جماعهم ، فإن الأمر كمثله فى متذوق الشعر لا يكفى طبعه وذوقه فلابد من اتساع المعرفة وتنوعها ، ولا يتأتى حسن فقه شعر هو نتاج شاعر فحل مستجمع فيه ألف شعر الا إذا كان المتفقه المتذوق على قدر فى هذا يعادل قدر الشاعر الفحل الذى يتذوق شعره
وعبد القاهر يرى تلازما بين الشاعر ومتذوق شعره هذا فى آلات إبداعه وذاك فى آلات تذوقه ، فإذا كان الشاعر عظيم الآلة جليل الأداة طبعا ومعرفة ودراية فمتذوق شعره لا يتأتى أن يكون من دونه فى ذلك(13) فإذا كان قارئ الشعر ومتذوقه على قدر مبدعه فى طبعه ومعرفته فإنه الجدير بأن يصغى إليه وأن يسلم له. يقول "الآمدى":
"فمن سبيل من عرف بكثرة النظر فى الشعر والارتياض به وطول الملابسة له أن يقضى له بالعلم بالشعر والمعرفة بأغراضه ، وأن يسلم له الحكم فيه ويقبل منه ما يقوله ، ويعمل على ما يمثله ، ولا ينازع فى شئ من ذلك ، إذ كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم ، ولا يخاصمهم فيها ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم نظيرا فى الخبرة وطول الدربة والملابسة"(14)
وقد اقتضى "حازم القرطاجنى" أثر الآمدى فى هذا(15)(1/41)
وإذا ما كان الطبع (الذوق) الممزوج به المعرفة والمدارسة لهما تلك المنزلة فى فقه الشعر وتذوقه فإن الممارسة والرياضة والدربة والمران فى قراءة الشعر وتذوقه وتحليله ليعلى شأنهما ، فلو أن صاحب الطبع والذوق الممزوج بمعرفة وتحصيل العلوم والثقافات اكتفى بهذا المستوى النظرى وعاش بهما مثرثرا لا يخادن الشعر نظرا وتذوقا وتحليلا فإنه لن يعدو أن يكون مستنسخاً مقالات سابقيه على نحو ما تراه فى نتاج كثير من المتأخرين من علماء البلاغة والنقد. لا تكاد ترى عند كثير منهم إلا تكريرا لما كان فى أسفار سابقيهم.
وهل فاق "عبد القاهر" أقرانه وكثيرا من أسلافه إلا من أنه جامع بين الأدوات بشأن الممارسة والدربة وفلى دواوين الشعر المنقب فيها عن الدقائق واللطائف؟
فإدمان الرياضة لقراءة الشعر مع صحة الطبع لهما أثر عظيم فى النفاذ إلى جوهر الشعر.
وبذلك يتأتى لفقيه الشعر ومتذوقه أن يقف على معالم وملامح كل شاعر فحل فى بيانه وصنعته ، وإن دس فى شعره ما ليس منه أو دس فى شعر غيره ما هو من شعره وأن يكون القدير على أن يبصر فرق ما بين السمتين والهيئتين والطابعين فى الصنعة ومن هذا ما كان من الفرزدق حين سمع من ذى الرمة هجاءه هشام المرئى بقصيدته التى منها:
نبت عيناك عن طلل بحذوى ... عفته الريح وامتنح القطارا
فلما سمع قوله:
يعد الناسبون بنى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل تيم ... وسعدا ثم حنظلة الخيارا
ويذهب بينها "المرئى" لغوا ... كما ألغيت فى الدية الحوارا
صاح "الفرزدق" بذى الرمة: كذبت وأيم الله ، ما هذا لك ، لقد قال هذا من هو أشد لحيين منك. ما قالها إلا ابن الأنان يعنى جريرا.
وكان جرير لما سمع قصيدة ذى الرمة ، فرأى أنها لا تنفذ إلى مقتل قال لذى الرمة: ما صنعت شيئا ، أفأرفدك؟ قال ذو الرمة: نعم قال جرير قل: بعد الناسبون ... الأبيات(1/42)
فالفرزدق قد أدرك فرق ما بين الشعرين بطبعه: ذوقه وممارسته لشعر جرير ووقوفه على مذهبه ، ومثابرته على فلى قصيده ، وهما المتلاحيان ، وما كان لشعر جرير أن يغيب عن ذائقة الفرزدق ولو دس فى أى شعر آخر دساً.
وظنى أن جريرا بما فعل من إرفاد "ذى الرمة" قد أراد أن يطعن كلا من "ذى الرمة" و"هشام المرئى" بطعنة واحدة:
هذه الأبيات قاتلة "هشاما المرئى" لا محالة ، ولذا يروى أن "هشاما" لما سمع ذا الرمة ينشدها أخذ يلطم ويصيح: قتلنى جرير قتله الله.
أدركها "هشام" بطبعه كمثل ما أدركها الفرزدق. فكانت طعنة من "جرير" لهشام المرئى" ، وهى أيضا طعنة لذى الرمة إذ قدمته للشعراء الشاعر الواهن الذى لا يملك أن ينفذ إلى مقائل الآخرين وأن جريرا هو الذى آزره بشعره ، فكان استعداء للشعراء عليه ، واستخزاء لذى الرمة من أن يرفع رأسا وجرير فى الناس قائم. وتلك ماكرة من "جرير"
المهم أن الطبع والمدارسة والممارسة مما يقتدر لها على إدراك جوهر الشعر وسمات كل شاعر.
والرياضة فى فقه الشعر لا تكون بالتفتيش فيه عن شاهد لغوى أو بيانى أو نحوى أو عن خبر غريب أو نادرة كما كان لدى بعض أهل العلم ، وقد نعى الجاحظ ذلك
"ولم أر غاية "النحويين" الا كل شعر فيه إعراب ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب ، أو معنى صعب يحتاج إلى استخراج ، ولم أر غاية "رواة الأخبار" إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل"
وقد رأيت عامتهم فقد طالت مشاهدتى لهم – لا يقفون ... على الألفاظ المتخيرة ، والمعانى المنتخبة ، وعلى الألفاظ العذبة ، والمخارج السهلة والديباجة الكريمة ، وعلى الطبع المتمكن ، وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق وعلى المعانى إذا صارت فى الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم وفتحت للسان باب البلاغة ودلت الأقلام على مدافن (معادن) الألفاظ ، وأشارت إلى حسان المعانى.(1/43)
ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام فى رواة الكتاب أعم ، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر.
ولقد رأيت "أبا عمرو الشيبانى" يكتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها فى باب التحفظ والتذاكر.
وربما خيل إلى أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا لمكان أعراقهم من أولئك الآباء.
ولولا أن أكون عيابا ثم للعلماء خاصة لصورت لك فى هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبى عبيدة" ومن هو أبعد فى وهمك من أبى عبيدة"(16)
نقلت لك هذا عن الجاحظ على طوله ، وقد سبق أن ذكرته فى موطن مضى لما له من أهمية هنا ، فهو يصور حالنا مع الشعر ، فكثير منا لا يقرأ الشعر إلا بحثا فيه عن شاهد لقضية وقاعدة ، وكأننا ما كنا ولا سيما فى دراساتنا العليا إلا قائمين بالاستشهاد لما جاء عن السكاكى والسعد وغيرهما من قواعد بلاغية ، فلا ترى الباحثين إلا منزلين شعر شاعر ما على قواعد البلاغة فى كتاب ما.
أما قراءة الشعر تحليلا وتأويلا وتعليلا قراءة متحررة من سطوة وطاغوت التعبد بمختصرات ومطولات الأسفار البلاغية فلا تكاد تجد إلا نزيرا. على الرغم من أن هذه الأسفار البلاغية إنما جعلت هادية وتذكرة واسترشادا ، وما جعلت فينا الامام المعصوم المقتدى به المتعبد باتباعه حذو الفذة بالقذة كما يقال.
لسنا إلى التغافل عن تلك الأسفار والاستهانة بها والاستهتار فى نبذها والإعراض عنها ، فإنك لا تكاد تقترب من حمى العرفان بأصول علم بلاغة العربية إلا عن طريقها درسا وفقها ، لكنا لا نؤمن بأنها دساتير هذا العلم ، ومصادره التى لا يكون إلا التعبد بالتقيد بملفوظها.
ما فى هذه الأسفار قواعد يبنى عليها ، لا قوانين لا يتحرك إلا فى دوائرها.(1/44)
كررت النقل وبسطت التعليق لشدة ما هو آخذ بخناقنا فأضحى الأمر جد خطير ، وقد تفاخر عندى وأنا أكتب لك هذه الأوراق طالب علم فى بلاغة العربية أنه ليس فى خزانة كتبه ديوان شعر واحد ، وأنه لا يقرأ ولا يقتنى إلا كتب تفسير القرآن الكريم وشروح السنة النبوية
بمثل هذا يتفاخر طلاب علم بلاغة العربية التى لن يكون لطالب أثارة من علم حقيقى ماجد ببلاغة العربية إلا من حسن قراءة شعرنا العربى لسانا وعقلا وقلبا وهما قراءة تحليلية تأويلية تعليلية ، ولذا فإن بى شغفا يشعر "أبى تمام" على الرغم من أنى أوقن أن البحترى أكرم امتاعا بشعره منه ، لكن شعر أبى تمام هو الذى يمنح قارءه اقتدارا على المصابرة والمثابرة أمام صنعته القائمة على العدول عما ألفت الآذان استماعه والقلوب تذوقه والقائمة على استخراج ما فى العربية من طاقات الإبانة والتصوير الشعرى. وهذا مأم جليل و مقصد جد نبيل من ابي تمام الذي نفذت فراسته في اللغة حين رآها القديرة علي أن تحمل معانى القرآن وتبين عنها وتصورها ، فاللغة القادرة على أن تطيق البيان عن الذى وصفه الله الجليل العليم الخبير بأنه ثقيل (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) " المزمل " لا يمكن أن يكون عطاؤها الشعرى محصوراً فى ما الفت الآذان استماعه مما جاءها من الشعر ، وكأنه يومى إلى أن الشعراء لم يستثمروا طاقات العربية ، ولم يسبروا أغوارها ، ولم يمتحنوا طاقاتها تلك التى حملت القرآن الكريم المعجز،فأدهشت طاقاتها البيانية بجانب إعجاز القرآن الكريم بها دهاقينها واحبارها وفرسانها.
فابو تمام والفرزدق ممارسة قراءة شعرهما تحليلا وتأويلا هى التى تمنح صاحبها الاقتدار على استبصار طاقات العربية البيانية، على الرغم من ان جريرا و البحترى شعرهما امتع وارق واقوى على ادخال البهجة ونشر الاريحية.(1/45)
الفرزدق وابو تمام كان يحاولان بصنيعيهما وجها جليلا من العربية و ما يكون لنحوى او بلاغى مقتد متعبد بمقولات الاسلاف صداح لسان حاله:"انا وجدنا ابائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف /33) ان يرى فى وجهيهما بنقدانه العائبة خروجهما على الفت القلوب الواهنة.
وكأنى بالفرزدق حين رمى بها فى وجه النحاه (علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا) إنما يهدى إلى ان الشاعر عليه أن يضرب فى مجاهل البيان يفتتح مغاليقها ويستخرج مكنوناتها وعلينا قراء الشعر ان نتأول ، أن نرجع إلى أصول هذا الذى جاء به الشاعر من الغيب السحيق الذى أسدلت أستار الألفة بيننا وبينه.
كلمة (وعليكم أن تتأولوا) كلمة علية ماجدة. ففى العربية مساحات بكر لما تطأها قدم على الشعراء أن يسافروا اليها وعلينا نحن قراء الشعراء أن نكف عن تمزيق أعراض الشعراء الفحول حين يرتحلون إليها.
كان لبشار بن برد موقف جليل مع سلم بن قتيبة دهش له رجلان من علماء العربية ، حرص الامام عبد القاهر على أن يسجل هذا الموقف الجليل:
"روى عن الأصمعى أنه قال : كنت أشدو من أبى عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، وكانا يتأتيان "بشارا" فيسلمان عليه بغاية الإعظام ، ثم يقولان: يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ، ويسألانه ، ويكتبان عنه متواضعين له ، حتى يأتى وقت الزوال ، ثم ينصرفان.
وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التى أحدثتها فى "سلم بن قتيبة"؟
قال: هى التى بلغتكم؟
قالوا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب.
قال: نعم ، بلغنى أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف.
قالوا: فأنشدناها ، يا أبا معاذ. فأنشدهما
بكرا صاحبى قبل الهجير ... إن ذاك النجاح فى التبكير
حتى فرغ منها.
فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ ، مكان (إن ذاك النجاح فى التبكير) "بكرا فالنجاح فى التبكير" كان أحسن.
فقال بشار: انما بنيتها أعرابية وحشية.(1/46)
فقلت: إن ذاك النجاح فى التبكير ، كما يقول الأعراب البدويون.
ولو قلت: "بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين ، ولا يشبه ذاك الكلام ، ولا يدخل فى معنى القصيدة (كذا ورب!)
قال: فقام خلف فقبل بين عينيه"(17)
إذا نظرت فى هذا المشهد وجدت بشارا قد بلغه أن "سلم بن قتيبة" يتباصر بالغريب. ما ذلك الغريب المتباصر به سلم"؟ غريب اللغة؟ولكن بشارا الشاعر أراد أن يعلم "سلما" ضربا آخر من الغريب هو أليق بالشعر وأحق بأن يفتش عنه فيه
أراد أن يعلمه أن الغريب ضربان: غريب لغة ، وما ذاك بالذى يكون له الشعر ، بل هو مطروح فى المعاجم والبوادى.
وغريب صنعة وتصوير. وذلك هو الذى لا يعرفه "سلم" وأمثاله ، هو غريب على مثله لم تألفه أذنه ، فقال هذه القصيدة. وهى ليست بمجمع غرائب مفردات الألفاظ كما فى أراجيز رؤية والعجاج مثلا.
هى ذات غائب شعرية فى الصنعة والتصوير والبناء.
لتبصر قول بشار: "انما بنينها أعرابية وحشية" والأعرابية والوحشية ليست أعرابية مكونات لفظية إنما أعرابية بناء ووحشة صنعة ، ولذا بين لخلف أن "الفاء" فى موقع (إن) تحيل القصيدة مولَّدة ، ولا تجعل القصيدة أعرابية البناء وحشية الصنع.
ولكن (إن) فى موقعها الذى لا يقر فيه "الفاء" هى التى تدخل فى معنى القصيدة.
معنى القصيدة عند بشار إذن ليس ذلك المعنى العقلى الساذج غير المصور معناها هو من بنائها وصنعتها وتركيبها وتصويرها.
معنى هذه القصيدة عنده من بنائها الأعرابى الوحشى ، والفاء هنا لا تأنس بهذا المعنى المتولد فى البناء الأعرابى الموحش.
أرأيت إلى هذا البناء الموحش الذى افتقدته الألفة بأبنية المولدين؟
أدهش هذا العدول عما ألف الآخرون من البناء "خلفا "فقام وقبل بين عينى بشار، وما عينا بشار الأعمى الأكمه الجاحظ العينين اللتين قد نغشَّاهما لحم احمر ، فضرب بقبحهما المثل وكانا مثار هجاء ، كما تراه فى هجاء "مخلد بن على السلامى" ابراهيم بن المدير:(1/47)
ارانى الله وجهك جاحظيا ... وعينك عين بشار بن برد
ولكن الدهشة التى فجرها فى قلب "خلف الأحمر" العدول فى بناء القصيدة عما الفت الآذان والأذهان تلقيه هى التى أنست "خلفا" كل هذا القبح ، فلم يبال به فقبل بين عينى بشار.
وقد كان ابو تمام أيضا من اكثر الشعراء جرأة على ان يصدم السامع بما لم يألف مما يحاول به وجها من وجوه الإبداع فى اكتشاف طاقات العربية الشاعرة ، مثلما فجر القران الكريم طاقات العربية المبينة الهادية المتسنمة بك معارج القبول.
وكأنى بابى تمام وقد كان عالما قد سكنت فيه كلمات قالها "سيبويه" شيخ علماء نحو العربية فى الإبانة ومنهاجها فى الدلالة على المقاصد القريبة و البعيدة.
يفتتح "سيبويه" بابا فى كتابه يرقم على أعلاه هذه العبارة (باب ما يحتمل الشعر) قد تنظرها عين نحوى من حفدة أصحاب المختصرات والمطولات، فلا يقلبها فيها وهى الكلمة الماجدة.(18)
هذه الكلمة فى اعلى الباب تهدى فيما تهدى اليه ان الشعر يحمل من تكاليف الإقدام على سلوك فجاج من ارض البيان العربى لم تطرق من قبل يحتمل الشعر السعى اليها بل والسعى فيها. فالشعر يحتمل تلك التكاليف و يقوم لها مصايرا ويقوم بها موفيا.
... وسيبويه لا يجعل هذا من باب التوسعة على الشاعر من عجز يلم به ، بل هو من ضرورة فرضتها عليه فريضة الغزو إلى مضايق لم تقترب منها الالسنة ، وفريضة اقتحام المجاهل التى لم تعمر سهولها ودرويها مقالات القوم.
ما يسمى "ضرورة شعرية" حين تكون من فحل كالفرزدق وابى تمام لا تكون من عجز ، بل تكون ثمرة اقتحام وتجريب لطاقات اللغة وارتياد لسهولها المجهولة ، ودروبها المخوفة ، يقتحمها الفحل ، وهو البصير بمدبات السابقين عليه ،لأنهم ساكنون فيه، يحمل أشعارهم وأغانيهم ومعزوفاتهم فى رحمه الشعرى.
واذا كان سيبويه قد رقم هذه العبارة فى أعلى الباب (باب ما يحتمل الشعر) فإنه قد افتتح كلامه فيه بعبارة واختتمها بأخرى كل منهما ماجدة:(1/48)
جعل فى مفتتحه: (اعلم أنه يجوز فى الشعر ما لا يجوز فى الكلام) وجعل فى خاتمته قوله: (وليس شئ يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها)
افتتاحه بقوله (اعلم) دال على أن ما هو آت من بعد جد عظيم وجليل ، وقد كان من عادة أسلافنا إثارة القارئ وهدايته إلى أن ما هو ذاكره له لا يليق به إلا أن يجعله من معلومه الراسخ ، ولذا جعله مطلوبه بهذا الأمر الإرشادى (اعلم) وكان بملكه ألا يٌصدِّر هذا الأمر كلامه وهو العليم بأن النفس الإنسانية نافرة من أن تكون المأمورة ولو بما هو ذو نفع عظيم لها: وهذا من بقايا استكبارها ولكنه يتجاوز هذا الآخذ بخناق تلك النفس الإنسانية لا يسترضيه ولا يداريه بل يواجهه بقوله (اعلم) وقد كان "عبد القاهر" أيضا كثير القذف بهذه الكلمة فى صدر ما هو عنده جد جليل يبنى عليه غيره.
المهم أن "سيبويه" افتتح بهذه الحقيقة البيانية المجيدة (انه يجوز فى الشعر ما لا يجوز فى الكلام) وكأنه يؤذن فينا – نحن قراء شعر العربية – أن للشعر نظاما فى بناء الكلام ليس لغيره ، له نحو ومنهاج يخصه ، لا يكون لغيره ، ليس هو نحوا مسجونا فى إدراك العلاقات الإعرابية الخاوية من ملاحظة معانى الشعر.
هو نحو منبثق من وعى المعنى الشعرى المعتلج فى صدر الشاعر المائج فى ذاته يحاول أن ينطلق ، وليس المعنى المتلمس فى علامات الإعراب وعلاقات الإسناد والتضايف والتقييد المألوفة للقلوب المخلدة إلى سكون الألفة المفترسة بهجة المتعة المدهشة بالشعر الساحر.
وهذا الجواز الذى تراه فى عبارة سيبويه المفتاح "إنه يجوز فى الشعر ما لا يجوز فى الكلام" ليس هو الجواز الفقهى المقابل للمنع ، بل هو الاجتياز والعبور والاقتحام.
الشعر بما له من خصائص وهبية وكسبية قائمة فى الشاعر تجعله قديرا على أن يقتحم وأن يجوز وأن يعبر إلى ما يعجز غيره فى ضروب البيانات الأخرى أن يحوزه وأن يعبره.(1/49)
فإذا قيل هذا جائز فى الشعر فإن معناه العلى أن صاحب الشعر مقتدر على أن يجوز إليه وأن يعبر وأن يقتحم بما يفعم قلبه ويعتلج فى صدره من المعانى الشعرية التى تقذف به فى وجه المألوف يحاول أن يفترع وجها من وجوه البيان بالعربية المدهشة باقتدارها على حمل كلمة الله عز وجل إلى عباده فى خطابه القرآنى المجيد.
وتأتى العبارة الخاتمة: وليس شئ يضطرون اليه إلا وهم يحاولون به وجها) وقد بناها بناء محكما بالتخصيص (ليس ... إلا) وكأنه ينتزع من قلوبنا مظنة أن الشاعر حين يضطر إلى اقتحام سبيل مخوف من سبل الإبانة فى العربية إنما يقوم به غير رام إلى تحقيق فتح مبين بل هو فى كل هذا يحاول وجها من وجوه الإبانة التى غفل عنها ذوو البيان من غير الشعراء ، فيكشف لهم بهذا الاقتحام الستار عن ذلك الوجه فيشرق نوره للأبصار.
وعلينا أن نتأول صنعه أن نبحث عن الوجه الذى يحاول اكتشافه لا أن نسارع إلى اتهامه حتى نزيح عن أنفسنا ألم الإحساس بالعجز عن أن نشعر بما يشعر به ، وأن نسافر معه فى تلك المجاهل المخوفة. فالذين يسارعون إلى معابة الفحول من الشعراء انما يحاولون ستر عجزهم ودفع الاحساس بألم العجز الآخذ بخناقهم فيلقون التبعة عليهم لتسكن نفوسهم اللوامة.
كأنى بسيبويه ينادينا أن نقرأ نحو الشعر على غير ما نقرأ به غيره من سائر الكلمة الإنسان. وألا يكون موقفك قارئا جملة شعرية نسجها فحل فى قصيدته هو موقفك من جملة من الكلم قذف بها لسان ما فريدة عن سياق بيانى.
أنى لنا أن نقف مما تناسج من الإبريسم فى ديباج ، كما يقول عبد القاهر موقفنا من خيط مفرد ملقى؟ أعدل يرتضى أم جور يقترف؟
فمن حق شعر العربية أن يكون له اختصاص بمنهاج يتواءم معه فى قراءة نحوه فإن الشاعر ليس من همه استرضاء القارئ بل هو-إن كان فحلا- اقرب إلى استنفاره وإلى اقامته أمام نفسه الساكنة إلى التقاليد والأعراف الموروثة ، فيستحيى من العجز ، ويستشرف العليات من المنازل.(1/50)
ولهذا لما أراد أبو سعيد الضرير أن يدمغ أبا تمام لما سمع منه ما لم يألف فقال له أبو سعيد: لم تقول ما لا يفهم؟ قذفه بها أبو تمام (ولم لا تفهم ما يقال؟) فدمغه.
وكأنى بأبى تمام لما قال أبو سعيد قولته الناكرة فهمها أبو تمام على هذا النحو (لم لا تقول ما يؤلف ويعرف) فجعل توحدا بين الإلف والفهم وكأن الناس لا يفهمون إلا ما يألفون ، فكان توحد بينهما: الإلف والفهم حضورا وغيبة فكانت الدامغة (ولم لا تفهم ما يقال؟) أعلمه أن الشاعر لا يقول ما تألف يألف الآخر وإلا لما كان لنا بالشاعر حاجة فكل الناس غيره يقولون مألوفا معروفا فما قيمته فيهم ، وبأى شئ يكون أمير بيان؟
الشاعر لا يفر من شئ فراره من الأسد كمثل فراره مما ألف فقتل لذة الأرق المعرفى فى السامعين.
عليه أن يقول غير مألوف وعلى الآخر أن يقرأ ما لم تكن له به ألفة ، ومن تلك القراءة تتولد اللذة والمتعة.
وكأنى بأبى تمام وكل شاعر فحل أراد أن يضئ لنا عبارة سيبويه (وليس شئ يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها) وهى الساكنة فيه ، المؤرقة ليله المهيجة نهاره ولم يكن سيبويه فيما ذهب إليه مبدعا فقد ارتشفه من كأس الخليل بن أحمد: (الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا ، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم)(19)
وهى مقالة فقيه يعلم أن آفاق العربية فسيحة وسيعة لا تحيط بها مذاهب النحاة ، وقد قالها من قبله الإمام الشافعى:
"ولسان العرب أوسع الالسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا ، ولا نعلمه يحيط علمه إنسان غير نبى ، ولكنه لا يذهب منه شئ على عامتها ، حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه.
والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شئ.
فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشىء منها ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره)(20)(1/51)
فانظر قوله (اوسع مذهبا) ثم (اكثرها الفاظا) فهو لم يقصر غناها على مفرداتها والفاظها بل جعل مذاهب الإبانة ذات اتساع لا تضيق بما يحاوله الشعراء ولا يملأها مختارات علماء البصرة والكوفة وأشباههم من النحاة والبلاغيين والنقاد هى أوسع من مذاهبهم، فلا يحاط بها الا من نبى لا يكتسب علمه بل يوحى اليه وقوله (لا يذهب منه شئ على عامتها) لا يريد بالعامة الدهماء بل جمهور علماء العربية ، فكلمة (العامة) فى لسان الشافعى ليست هى العامة فى لسانك ولسان أخدانك وأقرانك
وانظر قرنه علم العربية بعلم السنة وكيف أنهما من السعة التى لا يحيط بها عالم ، فأنى له أن يقيم من نفسه معيار صحة ومثابة إجازة ؟
وإذا كان هذا حال لسان العربية فى نفسه فكيف به حين يكون فى أفق الشعر ؟
يقول ابن جنى (ت 392هـ)
"فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه ، وإن دل من وجه على جوره وتعسفه فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمّطه وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ولا قصوره عن اختياره والوجه الناطق بفصاحته، بل مثله فى ذلك عندى مثل مجرى الجموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام.
فهو وإن كان ملوما فى عنفه وتهالكه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته.
ألا تراه يجهل أن لو تكفر فى سلاحه أو أعصم بلجام جواده ، لكان أقرب إلى النجاة ، وأبعد عن الملحاة ، لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالا بقوه طبعه ، ودلالة على شهامة نفسه.
ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال:
أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم ، لكنا نرى أن فى الشفاء بإنفاقها عوضا من حفظها بإمساكها ... ... ...(1/52)
فاعرف بما ذكرناه حال ما يرد فى معناه ، وأن الشاعر إذا أورد منه شيئا فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعبا ولا جشم إلا أمما وافق بذلك قابلا له ، أو صادف غير آنس به إلا أنه هو قد استرسل واثقا ، وبنى الأمر على أنه ليس متلبسا ... ... "(21)
فهذا فيه الغناء لك ، فتعلم أن للشعر بيانا ليس كمثله بيان الكلام من غير الشعراء وما كان كذلك فإن ممارسة فقهه لا تكون من بابه فقه غيره.
وإذا كنت قد بسطت لك المقالة فى أن للشعر طريقا وبابا ونحوا ليس كمثله نحو غيره فلست بالدافع بك إلى أن كل شاعر لا يخطئ ، بل الهاديك إلى إلا تتسارع إلى الزعم بأن الشاعر قد حاد عن السنن من أنك علمت وجها فظننت أنك المحيط وأن الشاعر الغافل.
فريضة عليك لازبة – إن كنت المحسن إلى نفسك – أن تكون المخادن القصيدة التى تقرأ والتى ترغب أن يكشف لك عن حسنها ودلها فإن القصيدة العربية حرة كريمة النجار لا تكون إلا لمن أمهرها ما هو صالح أن يكون صداقها: قراءة تفرس وتلصص حينا وتودد حينا آخر.
وتحصيل كريم لمذاهب العرب فى الإبانة عن مقاصدها ، ومعايشة حميدة لديوان العرب ، وغير ذلك مما هو معين على حسن فقه بيان الشاعر عن نفسه فى قصيدته.
وتخليص القول فى هذا أن أداة فقه الشعر وقراءته تحليلا وتأويلا وتعليلا انما هو ذوق مازجته مدارسة وممارسة. وأن الذوق وحده وإن كان جليلا عاجز عن أن يعيش فضلا أن يقتدر على النفاذ فى مسارب المعنى الشعرى فى القصيدة مثلما المعرفة والمدارسة والممارسة والدربة وحدهما بغير ذوق لا يكون منهما إلا غثاء.
فالذوق والدراية والدربة هى آلات فقه الشعر وأدوات قراءته.
الهوامش
1) طبقات فحول الشعراء ... ... ح 1 ص 7
2) المثل الساتر ... ... ... ج 1 ص 40 (ت: أحمد الحوفى وطياته)
3) دلائل الإعجاز ... ... ... ص 291
4) السابق ... ... ... ص 457
5) السابق ... ... ... ص 549
6) طبقات فحول الشعراء ... ... ج 1 ص 5
7) السابق ... ... ... ج 1 ص 6 – 7
8) منهاج البلغاء ... ... ... ص 199(1/53)
9) مقدمة بن خلدون ... ... ص 515 (ت: محمد الاسكندرانى/ط 1417هـ بيروت)
10) المثل السائر ... ... ... ج 1 ص 40
11) البيان والبنيان ... ... ... ج 2 ص 9
12) فحولة الشعراء ... ... ص 9 (ت: ش. تودى– دار الكتاب الجديد/1389هـ)
13) أسرار البلاغة ... ... ... ص 145
14) الموازنة ... ... ... ج 1 ص 414
15) منهاج البلغاء ... ... ... ص 144
16) البيان والبنيان ... ... ... ج 4 ص 23 – 24
17) دلائل الإعجاز ... ... ص 272 – 273
18) الكتاب ... ... ... ج 1 ص 8 (ت هارون)
19) منهاج البلغاء ... ... ... ص 143
20) الرسالة ... ... ... ص 42 – 43 (ت أحمد محمد شاكر)
21) الخصائص ... ... ... ج 1 ص 394 (ت: محمد على النجار)
الوعاء الثانى
أولا : إعداد القصيدة للفقه والتحليل
ثانيا : الإبحار فى قاموس القصيدة
إعداد القصيدة للتحليل
...
كل قراءة تحليلية لقصيدة ما تستوجب أعمالا علمية تعد القصيد لتحليلها وتعين القارئ المتذوق على حسن التبصر فى بنائها: تركيبا وتصويرا وتنغيما.
... فالقارئ من قبل أن يرحل فى القصيدة ويبحر فيها يحمل به الوفاء بحق ما يعد القصيدة.
... وليست كل قصيدة يفتقر متذوقها إلى جميع الخطوات الإعدادية ، فإن بعضا من القصائد لا يحتاج إلى بعض تلك الخطوات من نحو القصائد التى لم تعتمد على التدوين الشفاهى فى تسجيلها ، بل قام مبدعها بكتابتها بنفسه وإشرافه على إذاعتها فى الناس مكتوبة ومسموعة ، على أن من القراء والنقدة من يرغب فى التفرس فى المسودات التى كانت من قبل النشر يقارن بها الصورة الأخيرة ، ويتابع تسجيلات إلقاء الشاعر قصيدته فى المحافل إن كان ذلك ويقارنها بما هو منشور فى الديوان أو يقارن بين الطبعات المتعددة للقصيدة إن تعددت.
كل ذلك هو من قبيل النقد التوثيقى الذى يعد القصيدة للقراءة. ولما كان الغالب على القصيدة العربية فى عصر النبوة والخلافة الراشدة وما قبله الرواية الشفهية ، وكانت عنايتنا هنا بقراءة القصيدة العربية التى لم يخالطها عجمة لسان أو عجمة عقل أو قلب أو هم فإنا نوجز القول فى الخطوات الإعدادية للقصيدة العربية.(1/54)
1- توثيق نسبة القصيدة: لا ريب فى أن معرفة نسب القصيدة إلى صاحبها ضرورة بالغة لفهمها وتذوقها ، فإن كل قصيدة آخذه من صاحبها فكرا وشعورا.
وقد سمت العرب قول الشعر فرضا وسمت الشعر قريضا ، فهو مقترض مقتطع من ذات صاحبه ، ومستخرج من نفسه
يخرج من فيه للندى ، كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه
ومن دلالات تسمية الشعر قصيدة أنها مقصودة أى قصدت من ذات صاحبها ، فالقصد من معانيه القطع.
المهم أن الشعر من ذات صاحبه ، وأن مكنوناتها القائمة فى مكوناتها الصوتية والمعنوية إنما هى من مكنونات قائلها الشاعر القائمة فى ذاته: فكرا وشعورا. فليست القصيدة إلا شاعرها فى صورة مسموعة وهو القصيدة فى صورة منظورة.
معرفة المبدع وسنته فى إبداعه وما يمتاز به عن غيره من موقف شعرى من الحياة كونا وإنسانا مفتاح من مفاتح أبواب فهم النص وتذوقه.
إن تلمس معالم الموقف الشعرى للشاعر من الحياة ذو أهمية بالغة فى الإيغال فى مكنونات قصائده.
وإذا ما كان كل امرئ معتزا بانتسابه إلى أبى البشر آدم - عليه السلام - متخذا موقفا من الحياة يقوم هذا الموقف الآدمى من وعيه واعتزازه بأنه المجعول خليفة فى الأرض. وانه المسخر له الكون كله: ما فى السموات وما فى الأرض وإن هذا الاستخلاف المؤيد بالتسخير الكونى إنما هو لاستعمار هذه الأرض ، فإذا اتخذ موقفا من أمر ما من أمور الحياة كونا وإنسانا كان هذا الموقف الآدمى قائما من علاقته بالحياة ورسالته فيها استخلافا وتسخيرا واستعمارا ذلك هو الشأن العام للموقف الآدمى لكل من سعى أن يتنسم شرف الانتساب إلى آدم عليه السلام ، وجاهد فى أن يتطهر من الاخلاد إلى درك الإنسانية ، فإن طائفة جمعت إلى هذا الموقف الآدمى النبيل ما يمنحها التفرد فى منهاج حركتها وعلاقتها بالحياة ، تلك هى طائفة الشعراء الذين يشعرون بما لا يشعر به غيرهم من شئون الحياة من حولهم كونا وإنسانا.(1/55)
تكون رؤيتهم للأشياء أنفذ إلى ما هو مستور عن غيرهم فتتخذ منها موقفا شعريا أنفذ وألطف وأصوب ، فرؤية الشاعر للحياة حين تصدق تكون أعون على الإقبال عليها. ولكل شاعر موقف ليس هو بموقف الآخر.
لذا كان فريضة ذوقية الاعتناء بشأن انتساب القصيدة إلى مبدعها ، وهو أول مراحل العلم والفقه والتذوق النافذ.
ذلك نهج عربى ، ليس لنا -البتة- أن نرغب عنه من أن أعجميا تنادى بأن القصيدة حين تخرج من مبدعها تقطعت وشائج القربى ، وغدت القصيدة ملك القارئ لا علقة لها بمبدعها فتنادوا بمقولة موت المؤلف التى هى مستمدة من مقولة أوغل فى الإلحاد ورفض كل ما هو غيب: مقولة موت الإله. والفرار من سلطان كل ما هو غيب ذلك شأنهم ومهوى قلوبهم ولكنه الذى يتعاند ويتناقض مع إسلامنا المعلن إن أول صفة من صفات المتقين الذين جاء القرآن الكريم هدى لهم إنما هو الإيمان بالغيب كما فى مفتتح سورة البقرة. فالقول القاطع النظر فى قراءة القصيدة عن قائلها هو من باب القول بموت المؤلف الذى هو من القول بموت الإله الذى هو رفض للإيمان بالغيب. وكل هذا لا يكون عربيا فمناهج قراءة الشعر أو الفن ذات أصول عقائدية فلا يغتر مسلم بما تنعق به مذاهب النقد الأعجمى من نظريات نقدية فإن عليه أن يقف أولا على أصولها الفلسفية وموقف الإسلام: قرآنا وسنة منها ، ثم مدى توافقها - من بعد ذلك مع منهاج الإبانة فى لساننا العربى المبين.
وتوثيق نسبة القصيدة إلى صاحبها قد يكون يسيرا لا يكلف القارئ قليلا من جهد ولكن بعضها قد يحمله ما لا تطيق الجبال ، ولا سيما القصائد التى أصابها داء الانتحال: قالها شاعر فحل فنسبت خطأ أو عمداً إلى فحل أخر.
أما تلك التى صنعت من غير شاعر ووضعت على شاعر فحل فالأمر عند أهل العلم بالشعر سهل بيانه
يقول: أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحى (139-231هـ):(1/56)
"وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم ، فيشكل ذلك بعض الأشكال"(1) غير أن "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات"(2)
فالعلماء بالشعر لهم اقتدار على معرفة المصنوع الموضوع على من نسبت أليه وهو منه زنيم. ولكن شيئاً من العضل يكون مع الانتحال حين تنسب قصيدة شاعر فحل إلى آخر فحل مثله ، فيضيق الأمر ويصعب أو يشكل بعض الأشكال ، غير أن كثرة المدارسة لتعدى على العلم بالشىء كما يقول ابن سلام ولكثرة المدارسة الكاشفة عن صحيح الأنساب صور منها.
1- الاستقراء والتتبع لمصادر الرواية
لا يكون تحقيق نسبة النص لصاحبه من قيامها فى مصدر ما من مصادر رواية الشعر ، بل لابد من استقراء تلك المصادر وتتبعها حتى يتمكن من فحص روايات الإسناد والنسبة وهذا أمر وسيع مجاله فسيح ميدانه يستوجب إطلاعا وتنقيبا وصبرا على الإحاطة والجمع
2- ترتيب المصادر تاريخيا إذا ما تحقق للقارئ قدر عظيم من المصادر اقتضى هذا ترتيبها تاريخيا وهذا الترتيب ذو أهمية فى تحقيق وتحرير نسبة القصيدة لصاحبها من جهة ولتحقيق منهاج بنائها من جهة أخرى.
يقول "أبو فهر: محمود محمد شاكر":
(ومن اعم الشروط التى يسرع الدارس إلى إغفالهافرحا بكثرة ما جمع وحشد هو"الترتيب التاريخي"للكتب التي استخرج منها هذه الروايات ،ثم غفلته بعد عن الترتيب التاريخي لما يتيسر له من نسخ كل كتاب ،ثم ترك التفطن لما يمك أن يكون دخل على أصول هذه الكتب في نسخها المختلفة من زيادة أو نقص أو اختلاف )(3)(1/57)
3- تزييف الإسناد إذا ما فرغ الدارس من ترتيب مصادره تاريخيا على النحو الذى هدى إليه "أبو فهر" تصورا وتطبيقا فى كتابة "نمط صعب" فإن الدارس قائم من بعد بفحص إسناد القصيدة إلى شاعر فى كل مصدر من مصادر الرواية. وبهذا يمكن معرفة ما إذا كان إسناد النص إلى رواية صحيحا. أم زائفا ، فقد تدلس الرواية بذكر سند من أعلام ثقات إلا أنهم ما كانت منهم رواية لذلك النص ، فلا تكون المعابة فيمن نسب إليه رواية النص ولكن المعابة فى نسبة الرواية إلى أولئك الأعلام الثقات "إلا أن الاقتصار عليه - كما يقول "أبو فهر" لا يكاد يضمن حل المشكلات التى تعرض فى هذا الاختلاف المتفاقم فى النسبة بين الجاهلية والإسلام"(4)
فكان ضرورة أن تكون هنالك أصول أخرى تضمن حل المشكلات تضاف إلى ذلك ومن هذا.
4_ جرح الرواة وتعديلهم :
إذاما صحت نسبة رواية الى الاوي ايًّا كان فانَّ ذلك الراوي لبد من غخضاعة لأمر آخر ن هو جرحه وتعديله في روايته ن فما كلُّ راوٍ بأهل لأن تقبل روايته .
وهذا أمر يوجبه علو مقام الشعر في علومنا وثقافتنا ن فالشعر عندنا هو لسان الأمة وديوان مجدها ،وهذه الأمة العربية المسلمة قد جعل اللَّه عزَّ وجلَّ أرواحها فيألسنتها ،كما يقول "الرَّافعيُّ " فلمَّا أراد اللَّهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يقودها إلى جنته ورضوانه قادها من لسانها،لأن فيلسانها روحهالإالشاعر لايشقشق بألفاظ خواء
من حياته ووجوده ومسيره ومصيره هوفى قصيدته نافث روحه وعقله. فنحن إنما نقرأ أرواحا وعقولا وقلوبا لا نقرأ أصواتا حملها الهواء من صدور خواء.
من هنا كانت الحيطة فى التوثق من حال الراوى ، لأنه حامل إلينا أرواح أجدادنا وعقولهم ومسيرهم ومصيرهم ، ومن كان كذلك لابد من أن تطمئن القلوب إليه حين يحمل إلينا مجدنا "فلا نفارق الاحتياط والشك وسوء الظن حتى يتجلى لنا أمر المخبر: أهو للثقة أهل أم هو الظنين المتهم"(5)(1/58)
وهذا ليس منهجا أعجميا كما زعم زاعم حين ادعى أنه فى درسه الشعر الجاهلى سيأخذ بمذهب "ديكارت" قائلا: "إنى سأسلك فى هذا النحو مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع فى الأدب هذا المنهج الفلسفى الذى استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء فى أول هذا العصر الحديث.
والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هى أن يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل ، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوا تاما ، والناس جميعا (هكذا) يعلمون أن هذا المنهج الذى سخط عليه أنصار القديم فى الدين والفلسفة يوم ظهر قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا ، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا ، وأنه قد غير مذاهب الأدباء فى أدبهم والفنانين فى فنونهم ، وأنه هو الطابع الذى يمتاز به هذا العصر الحديث(1)
إن منهج العلم فى ثقافتنا الإسلامية قائم على الاحتياط فى أمر كل مخبر لنا بخبر لا نعلم علم اليقين ثقته وأمانته فنسبر خبره حتى يتجلى لنا أمر ذلك المخبر أهو للثقة أهل أم هو الظنين المتهم - كما يقول أبو فهر.
__________
(1) * فى كلام الدكتور طه الذى ذكره أولا فى كتابه (فى الشعر الجاهلى) وأعاده في (فى الأدب الجاهلى) مغالطات لا يخفى نقضها العلماء. فدعواه أن "ديكارت" استحدث مذهب الشك ليصل إلى اليقين نقضها الإمام الخضر حسين فى كتابه (نقض كتاب فى الشعر الجاهلى) مثبتا أن الغزالى وابن خلدون وغيرهما فعلوا ذلك (ص 26-27) ومن قبلهما الجاحظ ودعواه ضرورة التجرد من كل شئ ناقضها الدكتور طه نفسه بقوله بعد ذلك بأسطر فى أن الاعتداد بالدين والقومية طبيعة فى الانسان لا يتخلى عنها فكيف تخلى الدكتور طه عنها؟فتجرد من قوميته ودينه ليدرس الشعر الجاهلى؟ ودعواه أن مذهب "ديكارت" يسلم إلى اليقين نقضها الإمام الخضر حسين ص25(1/59)
وعلومنا الإسلامية قائمة على تلقى طالب العلم عن شيخ يعلم خبرة وقدرة ومنزلته ومنزلة من روى هو عنهم كابرا عن كابر فى باب العدالة والثقة. ولهذا قامت سلسلة سند رواية الكتب والأخبار.
وهذا الذى جعله "أبو فهر" اقتداء بالسلف: أصلا قويما قد أخذ به فى سبر الراوى وسبر المروى من النصوص(1)
وهو يرى أن "أضر شئ ان يتعجل الدَّارس. فلا ينزل كل كتاب منزلته الصحيحة بالتحرى فى أمر مؤلفيها ودرجتهم من الإتقان والتجويد ، ثم درجتهم من الثقة بما نقلوا من رواية الشعر"(6) وذلك فيما يتعلق بنقد الرواة وتبين واقعهم من الثقة والتهمة. ويضاف إلى النظر فى أمر الرواة وأخبارهم ومواقعهم من الثقة وغيرها النظر فى شأن ما جاءنا عنهم من شعر وغيره.
فهو لا يكتفى فى رد الشعر المروى عن غير ثقة باليقين أو الرجحان فى عدم ثقته بل يضيف إليه أمراً آخر هو دراسة الشعر المروى نفسه ونقله.
يقول الامام: "هل ترانى أنصفت القوم حين جعلت ما يقدح فى خلائقهم قادحا فى الشعر نفسه ، فأخرجه بالشك فى خلائقهم من أن يكون (جاهليا) [أى الشعر] إلى ان يكون مصنوعا فى الاسلام؟ لا أظننى أنصفت ولا أظننى أصبت طريق الشك"(7)
فما السبيل إذا إنه سبيل المقارنة ودراسة الشعر ونقده. أى علينا أن ندرس هذا الشعر الذى وصلنا وشككنا فى نسبه ، نسبر أغواره وطرائقه ، ونستبين خصائصه ومذاهب القول فيه ، ثم نقارنه بشعر من رواة لنتبين إن كان الدربان من معدن واحد أو من معدنين
__________
(1) * نقل الامام أبو فهر نصا للجاحظ من كتابه الحيوان ج6 ص34 وما بعدها ، بين فيه أقوال العلماء فى الشك وطبقاته وضرورته لبلوغ اليقين فى مسائل العلم وأن العامة أقل شكوكا من الخواص فالعامة إما مصدقون أو مكذبون (وألغو الحالة الثالثة من حالة الشك التى تشتمل على طبقات الشك وذلك على قدر سوء الظن وحسن الظن بأسباب ذلك وعلى مقادير الأغلب)(1/60)
يقول "علينا أن ندرس شعر كل واحد من هؤلاء الشعراء على حدة ، ثم ندرس الشعر المختلف فى نسبته مثل هذه الدراسة ، وعندئذ يتاح لنا أن نقارن بين هذا الشعر وبين أشعارهم ، وعسى أن يصل المرء إلى حكم فاصل أو حكم مقارب للسداد ، وكذلك الأمر إذا كان الشعر إسلاميا ، وكان الشعراء كلهم إسلاميين"(8)
تلك هى المرحلة الأولى التى يقوم فيها الناقد المتذوق بما يوجبه تحقيق نسبة القصيدة لصاحبها ، وهذا لن يعنى به الناقد إلا إذا ما كان موقنا بالقيمة العلمية لتحقيق تلك النسبة وتحريرها. أما إذا كان أعجمى العقل والقلب مؤمنا بدعوى موت المؤلف أو "تحييده" وإبطال علاقته أو أثر علاقته بنصه فلن يكون المفتقر إلى هذه الخطوة التوثيقيه الكاشفة عن علاقة القصيدة بصاحبها.
من بعد تلك تأتى مرحلتان ممهدتان لقراءة القصيدة وتذوقها:
الاولى "الإلمام بالمبدع وملابسات الإبداع"
كان العربى قديما حين يقدم عليه من لا يعرف يسأله: ممن الرجل؟ من قبل أن يسأله عن حاجته
إنه سؤال يحوى فى رحمه الاستشراف إلى امتلاك مفتاح الوعى بمكونات ذلك القادم الموروثة ومشخصاته الفطرية ليبنى على ذلك الوعى منهج اللقاء وخطة الممارسة
وذلك إيمان من العربى فطرة وخبرة أن فى كل إنسان من قومه مقومات مشخصة هى الطبع الغالب الذى لا فكاك منه ، وفى كل إنسان من منبت قومه ومناخهم ما يشده إليه ، وإن غاب عنه جسدا فلن تجمد جذوة العشق والتطلع إليه فكل مولود منوط بالرحم الذى فيه نبت.
كذلك اعتلاق الشعر بالشاعر والأدب عامة بصاحبه ، فالقصيدة ذوب نفسه وترجمان كيانه ، فما بينهما لا تنفصم عراه ، وفى كل قصيدة من ربها ومبدعها ما يحفظ صورة نفسه للناس من بعده فهى الذكر الذى لا يموت بل هى اللوح المحفوظ فيه فارقات ربها عما عداه ، وفى وقت نفسه فى حياة كل مبدع ما يفتح مغاليق إبداعه ويستخرج مكنون كنوزه(1/61)
ولو أنا ألفينا قصيدة كالتى يقول فيها أبو تمام ،يمدح "أحمد بن أبي دؤاد"(ق: 37/ ج1 ص 384):
49 –خذهَا مُثَقَّةَ القَوافِي ربُّهأ
لسوابِغِ النَّعمَاءِ غير كَنُودِ
50 – حذَّاءُ تمْلأُ كُلَّ أُذنٍ حكْمَةً
وبلاغةً ،وتُدِرُّ كُلَّ وَرِيدِ
51 - كألطَّعنَةِ النَّجلاءِ من يدِ ثائرٍ
بأخيهِ أو كالضَّرْبَةِ الأُخدُودِ
52 - كالدُّرِ والمُرْجَانِ أُلِّفَ نظمُهُ
بالشَّذْرِ فِي عُنُقِ الفتَاةِ الرُّودِ
53 - كشقِقَةِ البُرْدِ المُنَمْنَمِ وَشْيُهُ
في أرضِ مَهْرَة أوبِلادِ تزِِيدِ
54 - يُعطِي بها البُشْرَى الكَريمُ ،ويَحْتَبِي
برِدَائها في المَحْفَلِ المَشْهودِ
55 - بُشْرَى الغَنِيِّ أبِي البَناتِ تتابعتْ
بُشَرَاؤه بالفارسِ المَوْلَودِ
56 - كَرُقَى الأَسَاوِدِ والأراقِمِ طَالَما
نزَعَتْ حُمَات سَخائمٍ وحقُودِ
و أنا ألفينا قصيدة من نمط ما وصف دون أن نعلم ربها وما قيلت فيه لما تأتى لنا أن نختار أسوارها وأن نمرى أخلافها وكل ما سوف تشقشق به حينئذ وهم لا قرار له ولا ظل
فقهاء الشعر قديما وحديثا لا يتغافلون عن الإلمام بالمبدع وملابسات إبداع النص إلماما لا يتجاوزون به القدر الذى يعينهم على القيام بحق ما قاموا له وعمدوا إليه.
الباحث البيانى والناقد الأدبى لا يتخذ القصيدة وثيقة نفسية يحللها أو وثيقة تاريخية أو اجتماعية يرصد بها حركة الحياة فى زمن ميلادها.
ذلك هم علماء النفس والمؤرخين والاجتماعيين أما الباحث البيانى والناقد الأدبى فالقصيدة عنده نص أدبى يعلم ويثقف من المتعة والدهشة. فهما يبحثان عن ما فيه من معدن الجمال والدهشة ، ومن خلال هذين يأتى العلم والثقافة.
لا يستطيع شاعر البتة ان يجرد قصيدة مما يبدع من كل ما يعتلق به إنسانا وما يعتلق به مبدعا. وما ذلك التجريد أو التطهير إلا وهم تأباه طبيعة الإبداع مثلما تأباه طبيعة الإنسان ذى البيان(1/62)
إن الإلمام بشىء من سيرة المبدع ومناخات الإبداع التى تشكلت فيها القصيدة ضرورة تذوقية تحليلية.
ولقانة الباحث البيانى فى أن يصطفى من تلك السيرة والمناخات ما يكون قادرا على استخراج المكنون أو قادرا على أن يهدى إلى الطرائق المؤدية إلى فض مغاليق النص ، فإن حشد كل ما بلغه ، كان عمله ترجمة للمبدع ، فذلك اشتغال بالشاعر عن الشعر ، لا يكاد يعرف الفكر البلاغى والنقدى فى العربية من تغافل أو دعا إلى التغافل عن الشاعر وقراءة النص وتذوقه بعيدا عن صاحبه.(1)
إن موضوعية النص لا تعنى القطيعة المعرفية بالذات المبدعة ومناخات الابداع ، وإنما تعنى عدم استحالت قراءة النص وتذوقه إلى حشد أخبار وثائقية عن المبدع وبيئته ، فليس النص -أيضا- وثيقة تاريخية ونفسية.
موضوعية النص تعنى أنه الصياغة الأدبية للانفعالات والتصورات الذاتية للمبدع ، وهذه الصياغة إنما هى التجسيد الفنى لرؤية المبدع للكون وانفعاله به فكرا وشعورا وهذا يتطلب أن يكون الإلمام بالمبدع وبيئة الإبداع خطوة إلى العناية بقراءة النص وتذوقه تذوقا منهجيا منظما.
__________
(1) * ما تذهب إليه من ضرورة الإلمام بالسياق المقامى للنص فى قراءته وتذوقه لا نصدر فيه عن أى مذهب غير عربى مما يعرف بالنقد السياقى فى النقد الأعجمى: ينظر: النقد الفنى: داسة جمالية وفلسفية تأليف جيروم ستوليتز ، ترجمة د. فؤاد زكريا ص 680-718 ، نظرية الأدب لأوستن وارين ، ورينية وليك ترجمة محيى الدين صبحى ص 93 ، وما بعدها ، إننا نصدر من ثقافة ومنهج عربى إسلامى ورثناه كابرا عن كابر ، من علمائنا ودراسة العلماء أثر أسباب النزول للقرآن وأسباب الورود للحديث فى فقه بيان الوحى وتدبره خير شاهد على ذلك. يرجع فى هذا إلى كتابى "سبل الاستنباط من الكتاب والسنة" وكتابى "فقه بيان النبوة" وكتابى "تغييب الإسلام الحق"(1/63)
ومجمل الأمر ان فى بعض سيرة الأديب مفتاح فنه لمن أحسن واستبصر جمع روايات القصيدة من مظانها ومقارناتها
غلب على شعر العربية فى العهود الأولى أنه شفاهى تتداوله الألسنة وتعيه القلوب ، ولم يكن من هم الشاعر أن يستجمع قصيدة فى ديوان بخطه أو يمليه ، وإنما ينشده ، فتلقفه الرواة ، وتسير به الركبان ، فكان لا محالة أن يعترى القصيدة فى مسيرها ورحلتها فى القلوب وعلى الألسنة بعض من التغيير من نحو استبدال كلمة بأخرى سهوا أو عمدا أو سقوط بيت أو أكثر أو تقديم بيت أو أكثر(1)
لا محالة أن يكون ذلك ، فذلك طابع التوارث الشفاهى للأدب ، فكان حق القصيد الاجتهاد فى تحقيق روايات القصيدة الواحدة وتحريرها حتى تقوم بين يدى الناقد الرشيد الحصيف ما يطمئن به أنها هى التى تمخضت عنها قريحة الشاعر.
والاجتهاد فى مثل هذا فريضة لازمة من قبل الشروع فى قراءة القصيدة وتذوقها ، وكل جهد يبذل فيه مثمر ومؤثر أثرا بالغا فى ضروب القراءة والتذوق ومراحلهما.
إن فحص الروايات وسبرها من بعد استقصاء رواياتها فى مظانها كلها التقصير فيه مؤد إلى خلل بالغ فى نصح فهم الشعر وتذوقه تذوقا منهجيا منظما.
والاجتهاد فى جمع روايات القصيدة من مظانها ومقارناتها تحقيقا وتحريرا هو ادعى إلى الوثاقة فى عمود من أعمدة بناء القصيدة العربية التى أكده ورسخه نقادنا وعلماؤنا الأقدمون وهو ما يعرف بتلاحم أجزاء القصيدة.
يقول الجاحظ: "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا ، فهو يجرى على اللسان كما يجرى الدهان"(10)
__________
(1) * بل قد يفعل ذلك الشاعر نفسه لتغير الملابسات من حوله ، كما فعل رؤية بن العجاج فى مدحه سلم بن قتيبة الباهلى - راجع طبقات فحول الشعراء وتعليقات أبى فهر محمود شاكر عليه ج2 ص 762-764 ، فإنه مهم جدا(1/64)
وهذا معين للناقد الأدبى والباحث البيانى على استبصار حركة المعنى الشعرى ونموه فى القصيدة على نحو خاص بكل قصيدة قد لا يتراءى لظاهر العقل وواهن البصيرة.
الهوامش
(1) طبقات فحول الشعراء ج1 ص46-47
(2) السابق ج1 ص5
(3) نمط صعب ونمط مخيف. محمود شاكر ص45
(4) السابق ص332
(5) السابق ص353
(6) الموضع السابق
(7) السابق ص359
(8) السابق من 345
(9) ديوان أبى تمام (ق 37) ج1 ص384 (ت: عزام - دار المعارف)
(10) البيان والتبين ج1 ص67 (ت:هارون)
الإبحار فى قاموس القصيدة
الذى مضى كان إعدادا للقصيدة كيما تقرأ قراءة عربية تحلل بناءها تركيبا وتصويرا وتنغيما.
ومن البين أن بناء القصيدة هو الوجود البيانى الموضوعى لمبدعها فهى وعاء بيانى للشاعر ، وهو لا يكون شاعرا إلا بموقفه الآدمى الشعرى من الحياة كونا وإنسانا وإخراج هذا الموقف فى كائن بيانى نسميه قصيدة.
هذا الكائن البيانى / القصيدة / الشاعر موقفا هو مناط الفقه والتذوق والتحليل..
والبناء البيانى للموقف الآدمى الشعرى من الحياة كونا وإنسانا له ثلاثة مستويات متداخلة تداخل الجزئى فى الكلى.
هذه المستويات الثلاثة: مستوى التركيب ومستوى التصوير ومستوى التنغيم (الإيقاع النغمى) ليست دوائر متقاطعة ولكن المستوى التركيبى هو أعمها يندرج فيه التصويرى ويمتزج فيه التنغيمى. كل تركيب يولد صورة ويصحب كل تركيب تنغيم ، وهذا التداخل فى الواقع الإبداعى لا يتأتى لنا أن نحققه فى الواقع التحليلى لبناء القصيدة، وان كان قارئ القصيدة ومتذوقها فى مرحلة التحليل والتذوق والممارسة التأملية يستصحب مع التركيب التصوير والتنغيم ولكن عند الإخراج العلمى للقراءة والتذوق والتحليل لا مندوحة لنا عن فصل هذه المستويات عن بعضها ، على أنا نبدأ بتحليل البناء التركيبى ، جاعلين التركيب حلقات:
حلقة بناء الجملة الشعرية وحلقة بناء المعقد من جمل شعرية وحلقة بناء القصيدة من معاقد.(1/65)
ويأتى من بعد تحليل البناء التركيبى تحليل النغم والتصوير: تحليل التصوير ضربان: تصوير بمعناه العام وهو يعادل البناء وتصوير بيانى معنى ببيان منهج الدلالة على المعنى ودرجاتها خفاء وجلاء. وذلك هو مناط عنايتنا هنا وهو ما يسمى بالتصوير البلاغى: التشبيه والمجاز والكناية. وتحليل النغم له رافدان: الوزن والقافية ، والنغم الداخلى للقصيدة...
وهذا التحليل لبناء القصيدة تركيبا وتصويرا وتنغيما يقتضى سبقه بحسن قراءة القصيدة وضبط مكوناتها الصوتية وتقسيمها الى معاقد وتقسيم المعقد الى جمل شعرية قد تكون مكونة من عدة جمل نحوية ويقتضى من بعد هذا تفرس المعجم الشعرى للقصيدة والنظر فى مقومات الفصاحة الذاتية للمفردات للوقوف على مدى استصحاب مقومات الفصاحة السياقية لها لتلك الفصاحة الذاتية التى كانت عناية النقاد بها غير خفى فى أسفار قراءتهم الشعر
تلك هى الخطوات التى نسلكها فى تحليل بناء القصيدة العربية. ويبقى أمر آخر:
تحليل المكوناتت الشعرية فى القصيدة العربية ، وهى مكنونات قائمة فى المكونات هى منها الروح من الجسد.
تحليل ما يعرف بالمضمون الفكرى والشعورى الذى أسكنه الشاعر بناء القصيدة أو بعبارة أدق وأصدق: الذى ينتج من بناء القصيدة ، ذلك المكنون الشعرى ليس شيئا من خارج المكون ذلك البناء يسكبه الشاعر فيه ، بل هو موقف آدمى شعرى من الحياة يخرجه الشاعر فى بناء ذلك الكائن البيانى المسمى قصيدة.
تحليل هذا المضمون يتناول جوانب عديدة: منها عربية هذا المضمون وإسلاميته ، ولا أقول انسانيته فتلك معابة قرآنية يعيب بها بعض أهل الضلالة ، ولكنى أقول آدميته ، فتلك مدحة قرآنية ، فالقرآن الكريم لا يذكر كلمة "إنسان" إلا فى مقام مذمة وتلك قد فقهها بعض أسلافنا.
المهم تحليل هذه السمات لمضمون بناء القصيدة مهم أيضا ، وكذلك تحليل جدة هذا المضمون وخفائه ووضوحه وعمقه وسطحيته... الخ تلك السمات التى يكون عليها.(1/66)
كل ذلك فريضة على قارئ القصيدة العربية أن يوفيه حقه أو بعض حقه ولكنه يكون من بعد تحليل بناء القصيدة تركيبا وتصويرا وتنغيما فإن من هذه يستكشف المضمون. ولعلى أسعى إلى أن أقوم بشئ من ذلك فإن لم يكن فى الوقت والجهد متسع فإلى الله المشتكى والمرتجى.
ومن قبل فقه البناء التركيبى لجمل القصيدة ومعاقدها ، تكون وفقة عجلى للنظر فى أمرين هما وطاء النظر فيما بعدهما:
(1)
حسن قراءة القصيدة وضبطها وتقسيمها
إذا ما تم للباحث الناقد جمع روايات القصيدة الموثقة ومقارنتها ليخرج من ذلك بنص محقق محرر يستيقن به أن صورته هذه هى التى خرجت من الذات الشاعرة فأهدتها للأمة ، فإنه يقتضيه ما انتهى إليه أن يعمد إلى الاجتهاد فى النصح للقصيدة ضبطا وتقسيما: فيقرؤها قراءة مفصلة تهدى السامع إلى حسن الفهم عنه وحسن تذوق ما يسمع.
والشعر العربى ذو خصوصية بالغة فى علاقته بالتغنى والإنشاد فهو شعر اعتمد فى سيرورته على الراوية المنشد المتغنى بما يروى. وقد قالها حسان بن ثابت (رضى الله عنه) المؤيد بروح القدس:
تغن فى كل شعر أنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
يميز مكفأة عنه ، ويعر له ... كما تميز خبيث الفضة النار
قراءة الشعر وانشاده والتغنى به تعتمد على حسن فهم معانيه ومقاصده وخصائصه التصويرية والايقاعية ، فيجعل القارئ تلك القراءة الهادى إلى فهم ذلك كله وتذوقه ، فهو يعرف حدود الجمل وعلائقها ومواقع الفصل والوصل والوقوف الحسنة...إلخ
وقد كان شيخ العربية فينا: أبو فهر يذهب إلى أن لقراءة الشعر طريقة خاصة كاشفة عن معانيه مثلما هى مصورة لتوقيعاته ، وقد كان شيخه سيد المرصفى(1)
__________
(1) * هو الشيخ سيد بن على المرصفى (ت 1931م) من علماء الأزهر له: رغبة الآمل من كتاب الكامل فى ثمانية أجزاء ، وله أسرار الحماسة لأبى تمام
لمزيد من الوقوف على حياته وآثاره ينظر: شيخ أدباء مصر سيد بن على المرصفى تأليف سيف النصر - مطبعة السعادة سنة 1984(1/67)
"حسن التقسيم للشعر حين يقرأه ، فيقف حيث ينبغى الوقوف ، ويمضى حين تتصل المعانى ، فإذا سمعت الشعر وهو يقرأه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض ، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج فيه إلى شرح أو توقف"(1)
لا ريب فى أن "الانشاد عنصر من عناصر الجمال فى الشعر العربى لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه"(2)
"هناك أمر هام لابد من مراعاته فى الانشاد الجيد وهو السكتات والوقفات القصيرة التى قد يلجا إليها المنشد ، يريد بها اظهار جمال لفظ من الألفاظ أو ايضاح معنى دقيق لكلمة من كلمات البيت"(3)
وإذا ما كان هذا أثر الانشاد فى الأداء الشفاهى للقصيدة ، فإنها مكتوبة لتعتمد على -حسن الضبط والترقيم والتقسيم بحيث تبين معالم المعانى من حسن التقسيم والترقيم.
وهذا يقتضى من الباحث البيانى والناقد الأدبى أن يعنى بإثبات نص القصيدة كما حققها وحررها بالمقارنة بين الروايات الموثقة التى استجمعها ، فيضبط كلمها ، ويرقم جملها ، ويفصلها.
ولو أنك قارنت بين قراءة الشيخ محمود شاكر لقصيدة ابن أخت نابط شرا (إن بالشعب الذى دون سلع) المشار إليها آنفا ، وضبطه كلماتها ، وحسن ترقيمها وتفصيلها ويبين ما جاءت به فى مظانها الأخرى من ديوان الحماسة وغيره لرأيت فرقا بالغا بين العملين. ولأدركت عظيم خدمة الشيخ للنص وقارئه ، وأنه يحسن ضبطه وترقيمه وتفصيله كأنه قد شرح لك المعنى وقذفه فى قلبك من قبل أن يحدثك عنه ، فكيف إذا ما حدثك؟(1/68)
وهذا الضبط والترقيم والتفصيل إلى معاقد كلية إنما يكون ثمرة مجاهدة فى تفرس النص وتدبره وطول صحبته لنتبين للباحث والناقد معاقد المعانى ومعالمها وملامحها كلية كانت أو جزئية. ولا يكون البتة ثمرة معالجة واحدة عجلى أو ضربة واحدة يفرغ منها الباحث إلى غيرها وان_ن ضبط وترقيم وتقسيم حتى تسلك السبيل سلوك المتبين لوجهته وتقطعه قطع الواثق بالنجح فى طيته فترد الشريعة زرقاء والروضة غناء ، فتنال الرى وتقطف الزهر الجنى. فإذا المعنى أسبق إلى القلب من اللفظ إلى السمع فلا يؤتى الشاعر من سوء قراءة النص ، كما لا يؤتى القارئ من سوء ضبط وترقيم وتفصيل النص.
وهذا وجه مما جعل شيخ العربية أبا فهر يجعل أعماله التحقيقية قراءة ، كالذى تراه فى صنيعه مع "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" و"طبقات فحول الشعراء"
(2) تحليل معجم المفردات فى النص
كل نص أدبى إنما هو من مفردات اصطفاها الأديب وأقام بينها على هدى من فكرة وشعوره علائق شكلت البناء اللغوى والصورة الشعرية للنص.
والكلمات التى يبنى منها النص الشعرى لها وجود خارج النص وداخله هى خارج النص ذات معنى مجرد غير مصور تشير إليه الكلمة إشارة قائمة على قدرة المتلقى على تحصيل المواضعة الإشارية بين الملفوظ اللسانى والمقصود به. وبذلك قد يتساوى فى ذلك التحصيل غير قليل ، فالعنصر الذاتى للمتلقى فى ذلك التحصيل الذى به لا يتلاقى مع الآخر غير قائم فى هذا.
والنظر فى المعنى المعجمى المجرد للمفردات قائم على أن كثيرا من كلمات اللغة يعترى ذلك المعنى فيها تغيير ، وهى فى تغييرها أو تطورها لا تتخلى تماما عما كان لها من قبل ، بل تحمل من ماضيها وتراثها عبقا وسمتا ولا يليق بنا أن نتغافل أو نتشاغل عنه ، فإن كثيرا من المبدعين ليحملون فى جوانبهم عشق البعث من الماضى السحيق لبعض مفرداتهم ويضمخون أردان المعنى بعبق الماضى الذى سكنته تلك الكلمات.(1/69)
فالشاعر المبدع منقب عن المكنون من المعانى فى رحم المفردات ينفخ فيها من روحه ، فيبعثها بعثا مدهشا يفجر فى المتلقى اللقن ينابيع متعة التواصل الحضارى بين طوره الشاخص فيه ، والأطوار الغابرة السحيقة.
وهذا يقتضى العناية بأصل الاشتقاق وأصل المعنى الذى يدل عليه اللفظ بذاته أولا ، ثم الذى يدل عليه بما اكتسبه من حياته فى ألسنة المبدعين حتى أضحى مكونا من مكوناته المعجمية والتى قل من يتنبه إلى الفارق بين الموروث ذاتا والمكتسب استعمالا.
والكلمة فى داخل النص عنصر فاعل منفعل متميز فى الوقت نفسه بالحفاظ على مشخصاته الدلالية الذاتية الموروثة ، وعلى ما اكتسبه من رحلته التواصلية على سياق الاستخدام الوظيفى ، ومتميز- أيضا - فى قابليته اكتسابا دلاليا جديدا فى كل مقام ومساق يقوم فيه ، فينفعل بكل تكوين اجتماعى لعناصر الأداء البيانى بما يجعل له وجودا فاعلا يحقق له اقتدارا على أداء رسالته على لسان مبدع.
وهذا يجعل المفردات فى وجودها النصى فى استحقاقها الاستبصار والتدبر ، سواء ما كان سهلا ميسورا خارج النص وما كان خارجه ، فإن ما يظن أنه سهل ميسور لا يقتضى توقفا ففى فقه وتذوق دلالته البيانية السياقية الوظيفية قد يكون من أشد عناصر النص حاجة لتلك المعالجة ، فالعناية بالكلمات السهلة لا تقل عن الكلمات الصعبة (لأن زلة صغيرة فى فهم لفظة واحدة قد تفسد القصيدة كلها)(4)(1/70)
فنحن فى طور المعالجة والتذوق نتوقف عند كل مفردة نسبر أغوارها فى ذاتها وفى وجودها البيانى السياقى سواء ما كان سهلا وما كان صعبا ، فما ألفيناه ثرا معطاء أثرناه بالقول فيه وإبراز فاعليته الدلالية فى النص وما كان غير ذلك لم يحظ منا بذلك الإبراز فى طور الإخراج التواصلى بين الباحث والناقد من جهة والقارئ المتلقى من جهة أخرى ، فليست كل الكلمات فى القصيدة على درجة سواء فى قيمتها الوظيفية وقدرتها على العطاء الثر ومن حسب أن كل مفردة فى النص مفردة شعرية فقد وهم ، فالكلمة فى عالم الإبداع كالفرد فى عالم الإنسان ، وليس كل واحد منه يقف التاريخ عنده يسجل حركته وفاعليته فى الحياة ، وإن كان كل فرد منا له فى نفسه قيمة قد تكون منطوية فى قيمة غيره أو متعلقة بها أيما اعتلاق ، كذلك بعض الكلم فى عالم النص.
والباحث البيانى فى معالجة مفردات القصيدة عليه العناية بما يجعل لتلك المفردة خصوصية دلالية فى لسان ذلك المبدع لا تتكرر فى لسان غيره بل لا تكاد تتكرر هى هى فى لسان ذلك المبدع نفسه فى قصيدة أخرى ، فإن جزء من تلك الخصوصية إنما هى من ذوب نفس الشاعر وهى فى مساق تلك القصيدة ، وذلك لا يتكرر أبدا كما لا يخفى.
العناية بما هو خاص فى الكلمة فى وجودها داخل النص كمثل العناية بما هو باق معها خارج النص وداخله ، والمتشكل من أصل الاشتقاق وأصل المعنى ومما اكتسبه اكتسابا أضحى لازما لها غير مفارق
والباحث البيانى فى دراسته معانى مفردات القصيدة عليه ألا يتعبد بما جاء عن الأقدمين من شراح الشعر فى معانى تلك المفردات أو بما جاء فى معاجم اللغة فإنه قد تكون لبعض مفردات القصيدة معان لم يذكرها الأقدمون فى شرحهم الشعر أو فى معاجم اللغة ، فإن المعاجم لم تحط بكل مفردات اللغة فضلا عن تحيط بكل دلالات كل مفردة ذكرتها.(1/71)
وقد كان للإمام أبى فهر القدح المعلّى فى فقه ما لم تذكر المعاجم من الدلالات أو ما لم يذكره الأقدمون فى شروحهم على صوابه القائم بمعنى الشعر وروحه ، ترى ذلك مجموعا بعضه فى فهرس تحقيقه أو قراءته كتاب طبقات فحول الشعراء: لمحمد بن سلام الجمحى (ت 231 هـ) فهرس: (ألفاظ من اللغة أخلت بها المعاجم أو قصرت فى بيانها)
ودونك شئ من ذلك:
يقول رؤبة بن العجاج فى مدحه سلم بن قتيبة الباهلى:
قد علم العالم والقسيس ... أن امرءا حاربكم ممسوس
بئس الخليط الجرب المدسوس ... بكم يداوى الفقم الشخيس
فقال: أبو فهر فى تعليقه على البيت الأول:
"القسيس: من قولهم: قس الشئ قسا ، تتبعه وطلبه ، وقالوا: القسس "بضمتين" العقلاء الذين يعلمون خبايا أمر الناس ، فأخذ منه رؤبة "القسيس" مبالغة فى العقل والمعرفة ، وهذا مما لم تثبته كتب اللغة"(5)
ومن ذلك أيضا قول حريث بن محفظ المأذنى:
ونحن طردنا الحى بكر بن وائل ... إلى سنة مثل السنان ونار
ففسر أبو على القالى السنة بالسواد فقال: أراد اسكناهم السواد وهو بلد وباء. وقد نقل هذا التفسير عبد السلام هارون فى هامش "الحيوان" ولم يعلق على شئ من هذا التفسير(6)
ولكن شيخ العربية أبا فهر قال عن تفسير القالى: "وهذا معنى لا يستقيم ، والذى قاله ابو على شرح للبيت الثانى(1) كما هو شرح ابن سلام. أما "السنة" فهى الجدب شبهها فى شدتها ولذعها بالسنان والنار التى تأكل كل شئ.(7)
فانظر كيف كانت بصيرة الشيخ نافذة إلى ما لم ينفذ إليه قديم وعصرى ومن هذا أيضا ما قاله فى تفسير كلمة (الجد فى قول المثقب العبدى المشهور فى ناقته:
تقول إذا درأت لها وضينى ... أهذا دينه ابدا ودينى
أكل الدهر حلا وارتحالا ... أما يبقى على ولا يقينى
فابقى باطلى والجد منها ... كدكان الدرابنة المطين
__________
(1) * يقصد قول الشاعر بعده:
وموم وطاعون وحصبة قاتل ... وذى لبد يغشى المهجهج ضارى(1/72)
الأقدمون كابن الانبارى والضبى جعلوا (الجد) للناقة أى جدها فى السير وكذلك قال البطليموسى فى (الاقتضاب فى شرح أدب الكتاب) لكن الشيخ ابا فهر جعل (الـ) فى (الجد) عوضا عن المضاف إليه (ياء المتكلم) كالذى فى (باطلى) أى (باطلى) و(جدى) يقول:
باطله: ركوبها فى طلب الشراب والصيد واللهو والغزل ، وجده: ركوبها فى الغارات وطلب المعالى والسعى فى دركها - يذكر قنوته فى باطله وجده....
وذهب ابن الانبارى وسائر الشراح إلى أن الجد هنا جد الناقة فى سيرها وهو هنا رأى فاسد ، مفسد لتمام الشعر ، ومن قرأ الشعر عرف فساده إنما أراد لأن يتمدح بلهوه وجده معا.(8)
ومن هذا أيضا تفسير ابى فهر كلمة (على) بمعنى (مع) مخالفا بل ناقدا تفسير المرزوقى لها بمعنى اللزوم والوجوب وذلك فى قول الفرزدق حين طلق زوجة النوار ابنه عمه.
ولو ضنت يداى بها ، ونفسى ... لكان على للقدر الخيار
فقال المرزوقى فى الأزمنة: "المعنى لو ملكت أمرى لكان على أن أختار للقدر ، ولم يكن على القدر أن يختار لى"
لم يحسن المرزوقى فى هذا "وذلك أنه جعل (على) بمعنى اللزوم والوجوب ، وهو كلام مختل فى سباق الندامة ، بل فى الشعر قلب وأصله "لكان لى ، على القدر ، الخيار" و "على" للمصاحبة بمعنى "مع" والخيار الاسم من الاختيار ، وهو اصطفاء خير الأمور يقول: لو صدقت فى ضنى بها وحرصى عليها وحبى لها ، لاخترت خير الأمرين ، وهو إمساكها ، مع ما لا يعلم أحد مما خبأ الله من قدره الغالب على كل شئ. هذا معناه"(9)
ومثل هذا جد كثير عرضت لك منه ضروبا مختلفة وبسطت بسطا مغنيا من أن الاجتهاد فى تحقيق وتحرير دلاله الكلمات الذاتية ودلالتها البيانية الوظيفية السياقية إنما هو دعامة رئيسة فى حسن قراءة وتذوق الشعر ، ومن قصر فى ذلك ضل فى كل ما يأتى منه فى تلك القراءة.(1/73)
وبقيت فى القلب التفاته إلى ما عرف عن البلاغيين بفصاحة الكلمة المفردة والتى درجوا على النظر فيها فى مقدمة كتبهم وتنادوا بوجوب فصاحة الكلمة المفردة وأن فصاحتها قائمة فى ثلاثة: صوتها وصيغتها ودلالتها. وتظاهروا على أن تلك الفصاحة إنما تكون لها إذا ما برئت من عيوب ثلاثة: عيب فى صوتها وأدائها وعيب فى صيغتها وصورتها وعيب فى دلالتها.
... العيب الذى فى صوتها وأدائها هو تنافر حروفها الذى يفقدها فضيلة "التلاؤم الصوتى" الذى هو عنصر رئيس من عناصر اقتدار الكلمة البليغة على ايصال المعنى إلى القلب ونفوذه فيه. والعيب الذى فى صورتها هو "مخالفة قياس تصوير الكلمات وصياغتها فى عرف العربية ، هذا العيب يفقدها تناسب الصورة وتآلفها فى اعراف اللغة فى بناء مفرداتها.
والعيب الذى فى دلالتها: هو الغرابة وهذا يفقدها فضيلة الأنس النفسى والعقلى فلا يتعرف السامع على مراد المتكلم
هذه العيوب الثلاثة فى الكلمة تحرمها من فصاحتها الذاتية
وحرص البلاغيين والنقاد على أن تتحقق للكلمة فصاحتها الذاتية القائمة فيها من قبل أن تجرى فى سياق الكلام هو إعلاء لشأن البيان وتقدير لفريضة اعتناء المتكلم ببيانه ، فيصطفى له من الكلم ما تطهر من كل معابة حتى إذا ما جاء الكلم فصيحا فى ذاته من قبل أن ينسج فى سياقه البيانى كان جديرا بأن يكتسب إلى هذه الفصاحة الذاتية فصاحة سياقية فيكون مليكا لفصاحتين: فصاحة ذاتية قائمة فى الكلمة من قبل إجرائها فى بناء الكلام
وفصاحة سياقية تقوم فيها من اجتماعها وتآخيها مع الأخريات على لا حب سياق الكلام.
وإذا ما كانت الفصاحتان ضروريتين فى البيان العالى البليغ فإن الفصاحة السياقية أعلى قدرا ومنزلة وأولى بالرعاية والعناية إذا لم يكن اقتدار بيانى للمتكلم على ان يحقق الفصاحتين معا.(1/74)
السياق والمقام قد يوجبان اصطفاء كلمة لم يتحقق لها كمال فصاحتها الذاتية كأن يكون فى حروفها تنافر أو فى صيغتها مخالفة لا تثمر إلباسا أو فى دلالتها غموض فحينئذ لا معابة فى تلك الكلمة.
فقارئ الشعر لا يتسارع الى وصم كلمة فى قصيدة بأنها غير فصيحة الا من بعد أن يدقق فى اقتضاء السياق والمقام لها أو رغبتهما عنها. وفى شعرنا العربى غير قليل من الكلمات التى يعطى ظاهر النظر فيها أنها معيبة بعيب من عيوب فصاحة الكلم ، ولكن التبصر والفراسة البيانية تهدى الى اقتضاء السياق ودعوة المقام لها كلمة (هعخع) فى مقالة الأعرابى الشهيرة ظاهر أمرها تنافر حروفها وغرابة معناه ولكن النظر فى السياق المقامى والمغزى الذى يرمى اليه الإعرابى يهدى الى أن هذه الكلمة فى سياقها لا يغنى عنها غيرها.
المهم أن علينا أن ندقق ونتبصر حركة الشاعر ومنهجه فى اصطفاء كلماته أكان خاضعا للسياق والمقام والمغزى فإن كان فقد أدى فريضة لازمة هى أن "يختار اللفظ الذى هو أخص بمعناه ومغزاه واكشف عنه وأتم له وأحرى أن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية ، كما يقول الإمام عبد القاهر فى "دلائل الإعجاز"
اتسعت رسوم العربية لتطواف وصولات الفحول من لدن امرئ القيس إلى شوقى ومحمود حسن اسماعيل فكيف تضيق بحبو حفنة من المتشاعرين لا يكاد الواحد منهم يحتضن فى وعيه ديوان شاعر واحد من الفحول.
ولن يكون الشاعر فحلا حتى يكتنز فى رحمه الشعرى تجارب وثمار ألف شاعر، فالشاعر الفحل هو الراوية الذى روى: (قرأ وتذوق ووعى صدره وتغنى لسانه بدواوين الفحول من قبله)
من كان كذلك نفذت بصيرته واتسعت حركته فى بناء جمله ومعاقد قصائده من غير أن يكسر رسما أو يحطم أصلا.
ما مضى من (حسن قراءة القصيدة وضبطها وتقسيمها) ومن (تحليل معجم المفردات فى النص) كان كالمهاد والتوطئة الى تحليل بناء القصيدة تركيبا وتصويرا وتنغيما.
وذلك ما تتسع الأوراق القادمة لبعض القول فيه
تحليل البناء التركيبى(1/75)
أولا: بناء الجملة الشعرية
من البين الذى لا يعتريه خفاء البتة أن "الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض ، فيعرف فيما بينها من فوائد "(10)
وهذا الضم للمفردات لا يكون كيف اتفق بل يكون وفق أصول ورسوم تعارف عليها أبناء تلك اللغة وتلك الرسوم أقيم لها علم "النحو" وهى كلمة ماجدة يراد بها العلم الكاشف لنا منهاج العرب ونحوهم وطريقهم فى بناء كلامهم من ألفاظهم للإبانة عن مقاصدهم وللبلوغ إلى غاياتهم ومغازيهم.
ولو ان متكلما نثر ألفاظه على غير منهاج متعارف بين الناطقين بتلك الألفاظ لما كان متكلما بل كان هازيا ، فالذى يحيل ألفاظه من درك الهذيان إلى شرف البيان هو إقامتها على منهاج ورسوم ونحو معين تعارف عليه الناطقون بتلك الألفاظ.
هذا المنهاج الكاشف عن مقاصد المتكلمين هو ما يعرف بنظم المفردات كوحدات كلامية تقوم فى العربية جميعها على علاقة بين ركنين رئيسيين الأول "المسند" والآخر "المسند إليه" سواء كان المسند اسما أو فعلا ثم تتعلق بهذين مفردات أخرى لا تقل أهمية فى بناء الوحدة الكلامية التى سماها علماء العربية جملة ، وإن كان عملها فى الإبانة مبنيا على الركنين الرئيسيين: المسند والمسند إليه
وقد سمى علماؤنا الركنين بالعمدة وما تعلق بهما بالفضلة وقد فهمت تلك التسمية من بعض الناشئة فى طلب العلم فهما مريضا فتنادوا بأنه ليس فى الكلام ما هو عمدة وما هو فضلة ظنا منهم أن كلمة فضلة تعنى ما يمكن طرحه ولفظه مع بقاء المعنى على حاله فهو مستغنى عنه.
ولكن الأمر على غير ما فهموا:
العمدة هو ما عمد المتكلم إليه ليبنى عليه كلامه ويؤسس عليه بيانه ، فكل ما هو آت مبنى عليه.(1/76)
والفضلة هو ما زاد فى فضل البيان ، فليس فى معنى الفضلة هامشية وتطفل دلالى بل فيه زيادة بيان وإحسان ، وكثيرا ما يكون مرمى البيان ومغزاه من المتكلم إلى ما سماه العلماء بالفضلة فأنت إذ تقول جاء الغلام مسرعا لا يكون المغزى الرئيسى إلى الإخبار عن مجىء الغلام وأن الإخبار بسرعته فى المجىء زيادة منك ونافلة ، بل المغزى إلى الإخبار بسرعة فى المجىء
ومن ذلك يتبين لنا ان البناء التركيبى للمفردات يتمثل فى وحدات تركيبية تتفاوت مساحاتها فقد تكون مساحتها لا تعدو كلمتين هما "المسند" و "المسند إليه" وهذه جملة صغرى: تحمل رسالة بيانيه أى إعلاما بخبر أو إعلاما بطلب أو إعلاما بموقف نفسى من شئ ما
وقد يبنى على هذين الركنين ما تتسع به هذه الوحدة الكلامية اتساعا بعيدا وذلك كالذى تراه فى قول الشاعر: المرقش الأصغر:
وما قهوة صهباء كالمسك ريحها ... تعلى على الناجود طورا وتقدح
ثوت فى سباء الدن عشرين حجة ... يطان عليها قرمد ويتروح
سباها رجال من يهود تباعدوا ... لجيلان يدنيها من السوق مربح
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا ... من الليل ، بل فوها ألذ وأنصح(11)
فأنت ترى المسند إليه (قهوة) فى البيت الأول وتمامه بالمسند قوله (بأطيب من فيها) فى البيت الرابع.
فهذه الأبيات الأربعة جملة نحوية واحدة يسبح فى رحمها جمل عديدة ذات مكانة رئيسة فى بناء المعنى وتشكيله
ليس هذا فحسب بل تمتد الجملة إلى أبعد من ذلك كالذى تراه فى قول الأعشى(12)
فما مخدر ورد كأن جبينه ... يطلى بروس أو يطان بمسجد
فإنه من بعد هذا بسبعة أبيات يحكى فيها حال المخدل الورد نفى أن يكون أصدق بأسا من الممدوح فى البيت التاسع:
بأصدق بأسا منك يوما ونجدة ... إذا خافت الأبطال فى كل مشهد
فالجملة كما ترى ممتدة على سياق تسعة أبيات
وهذا يقتضى من قارئ الشعر ومتذوقه أن يبصر حدود الجملة ، فلا يقع فريسة الوهم بأن الجملة لا تمتد عدة أبيات(1/77)
فتحرير مجال الجملة ذو أهمية بالغة فى تذوق المعنى المتناسب من ثنايا التراكيب الناسجة هذه الجملة المديدة.
فإذا ما تأتى للقارئ استبصار معالم بناء الجملة وأبصر ما بنى عليه المعنى فإن بملكه أ ن يسعى إلى تبصر حركة المعنى من ثنايا علاقات مكونات هذه الجملة ببعضها وما تمخضت عنه تلك العلائق من مكنونات لطيفة لا وجود لها إلا من خلال تلك العلائق بين المكونات الحاضرة والغائبة فى نسيج تلك الجملة.
وهذه العلاقات التى يقوم عليها بناء الجملة ذات لطف وخفاء طريق العلم بها الروية والفكر ، فإنه لا يكفى فى تذوق الشعر واستبصار العلائق الروحية بين مكونات جملة فضلا عن معاقده أن تجمل النظر والبيان. بل لابد من التحليل والتفصيل "وتضع اليد على الخصائص التى تعرض فى نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة وتسميها شيئا فشيئا وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذى يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذى فى الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة فى الباب المقطع وكل آجرة من الآجر الذى فى البناء البديع"(13)
هذا النهج فى التحليل والتفصيل هو الذى يهدى إلى مكنونات الشعر التى لا يطلع عليها إلا من كان أهلا لذلك.
وكل ذلك لا يكون بملكك الإبحار فيه قراءة وتذوقا إلا إذا كان ميراثك من النظر فى أسفار التفكير البلاغى فى أطواره المختلفة ميراثا لا يحقق لك الكفاية فحسب بل يحقق لك الاستغناء والإغناء وإلا كنت كقاذف نفسه فى قاموس محيط وهو لم يمارس السبح فى لجة يوما
وعلماء البيان فيما قبل عبد القاهر وما بعده علاوة عليه قد أهدوا إلينا أسفارا ماجدة فى مناهج تحليل العلاقات القائمة بين مكونات البيان الصوتية والمعنوية.(1/78)
وليس حميدا أن يدلف الناشئة فى باب قراءة الشعر وتذوقه إلى الأخذ من كتابى الإمام عبد القاهر: الدلائل والأسرار ، دون أن يمارس السبح فى أسفار مدرسة "المفتاح" للسكاكى فإنها كانت ذات فضل جليل فى تهذيب وترتيب القول فى علاقات مكونات بناء البيان وغيرها.
فإذا ما كان له أن يجيد السبح فى تلك الأسفار تهيأ له ان يطوف حول الحمى حتى يقع فيه: حمى التفكير البيانى عند الإمام عبد القاهر.
وهو إذا ما اقترب وتلطف ترامى إلى سمعه قول الإمام: "وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لابد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعله معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل"
وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جمة ومعان شريفة ، ورأيت له أثرا فى الدين عظيما وفائدة جسيمة"(14)
حملك الامام حملا عظيما وأغراك به لتقيم نفسك فى مقام النفرة من التقليد والترديد والاستنساخ وأن ترضى بمطعوم لاكته الأضراس من قبلك وأنت إذا ما أقبلت تستبصر العلائق بين مكونات البيان رأيت الفروق والوجوه فى تلك العلاقات كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها وهذه الفروق ليست هى فى ذاتها معدن الفضيلة بل إن الإمام ليهديك إلى أن مرجع المزية البيانية فى تلك الفروق إلى ثلاثة يبينها لك قائلا:
1- المعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام
2- موقع بعض الوجوه من بعض
3- استعمال بعض الوجوه مع بعض
وهذا الذى جعله الإمام مرجع المزية البيانية فى الفروق والوجوه الكثيرة فى علاقات مكونات البيان الصوتية والمعنوية لم يلق عناية تليق بقدره.
الربط بين بلاغة التقديم أو الذكر أو التعريف بالمعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام ضرورة بالغة لا يوفى البيان حقه قراءة وتذوقا إذا لم يكن مناط عناية ورعاية.(1/79)
وكذلك مراعاة موقع التقديم مثلا من التعريف أو النفى أو التوكيد ، ثم مراعاة استعمال بعض الوجوه مع بعض فى معنى وغرض. فأنت إذا ما نظرت فى قوله تعالى: "وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون" (النور) كان من عدل القراءة والتدبر ألا ينظر إلى الأمر بعيدا عن تقديمه على النداء الذى كان من سنة البيان القرآنى تقديم النداء عليه ، كما فى قوله (يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) (التحريم)
وغلى تقييد الأمر بقوله (جميعا) وإلى حذف ياء النداء من (أيه المؤمنون) وإلى جعل المنادى معرفاً بالوصف (المؤمنون) من دون اسم الموصول (الذين آمنوا) كما هو من سنة البيان القرآنى النداء عليهم باسم الموصول فأنت لا تجد فى القرآن نداء المؤمنين بالوصف إلا فى هذه وسائر المواطن كان النداء باسم الموصول ، وكان حرف النداء مذكورا.
فمن التدبر الجميل أن نلحظ علاقة هذه الوجوه بعضها ببعض موقعا واستعمالا ثم علاقتها بالغرض الذى وضع له الكلام ثم علاقتها بسورة النور.
وإذا ما كان هذا من الإمام مفتاحا فإن لنا أن نمد القول إلى ما هو ابعد من المعنى والغرض القريب الذى يوضع له الكلام فى مجال جملة أو جمع من الجمل إلى المعنى والغرض الأعظم المنصوب له القصيدة كلها أو السورة القرآنية كلها. وحينئذ يكون تذوق بناء الجملة فى سياق الوحدة البيانية كلها المسماة نصا.
إن وجوه العلاقات بين مكونات الجملة عديدة لا تحصى ولا تكاد تجد سفرا بلاغيا محيطا بها ولا تكاد تجد قراءة وتذوقا لقصيدة تستولى عليها كلها.(1/80)
وعبد القاهر نفسه حين عرض لقراءة أبيات كمثل أبيات (ابن الطثرية) التى يقول فيها: "ولما قضى من منى كل حاجة..... الأبيات لم يستوعب الإمام النظر فى جميع الفروق والوجوه فى علاقات مكونات بناء الجملة والأبيات ، وهذا ما لا يبرأ منه قارئ ومتذوق. المهم أن يستفرغ القارئ جهده فى تحليل وتذوق العلاقات ولا سيما العلاقات التى يكون أثرها فى بناء الكلام أجلى وأظهر.
ولعل هذا ما جعل الإمام عبد القاهر يفرد فى كتابه الدلائل فصولا لبعض العلاقات كمثل التقديم والتأخير والحذف والفصل والوصل وفروق فى الخبر ويجعل كلامه فيها متلاحقا.
وكأن فى هذا إشارة منه إلى أن هذه العلائق أظهر من غيرها فى بناء البيان وأنه لا يكاد يخلو منها كلام. فهى أوسع الوجوه والفروق وإظهارها وكأنه يلمح من طرف خفى إلى أن مواقع هذه الوجوه والفروق من غيرها موقع الأساس الذى يبنى عليه كثير من الوجوه والفروق فى غالب الأمر.
وهذا يهدى إلى مزيد اعتناء بتلك الفروق وعلاقتهما بما يستعمل معها من وجوه وفروق أخرى ومواقعها من تلك الوجوه والفروق فى علاقات مكونات بناء البيان الصوتية والمعنوية كل ذلك مشدودا إلى المرجع الرئيس "المعنى والعرض الذى يوضع له الكلام وإذا كنا نغرى المتذوق بملاحظة المعنى والعرض والسياق المنصوب له البيان فى القصيدة الواحدة فإن شيخنا أبا موسى - أعزه الله - يغرى بما هو أعظم
على قدر أهل العزم تأتى العزائم ... وتأتى على قدر الكرام المكارم
وتعظم فى عيون الصغير صغارها ... وتصغر فى عين العظيم العظائم
يقول شيخنا رفع الله ذكره فى الدارين:
"وإنما تقوم الدراسة المعتبرة فى هذا المجال على شعر الشاعر كله ، تحدد طرائقه، وتستقصى فنونه وما غلب عليه من وسائل الصياغة ونحت الكلام.(1/81)
والقصيدة وإن كانت صورة لمذهبه إلا أنها محصورة فى إطار غرض وسياق نفسى وشعرى ألقى عليها ظلاله ، ولذلك تبقى قاصرة عن أن تكون ممثلة لتنوع المذهب الشعرى فى الأجواء الروحية المتنوعة وهذه الأجواء الروحية هى التى تشكل الصياغة الشعرية صورة كاملة فى إطار مذهب الشاعر وإمكاناته ووسائله"(16)
وإذا ما كنا نغرى القارئ المتذوق بتفرس العلاقات بين مكونات بناء البيان فإنا نؤكد إغراءه بتفرس درجات التآخى أو التعالق بين المكونات لينفذ إلى منهج الشاعر فى اختيار درجة التعالق: أيفجرها من رحم الأشياء فيجعله تناسبا روحيا وتناسلا رحميا، أم يستعين على ذلك التعالق بدروب من الترابط اللسانى من نحو ما يعرف بأدوات الربط اللفظية؟
وأن يتفرس البواعث التى تبعثه على أن يجعل طرائق الاختلاف بين المكونات داخلية منبعثة من رحم تلك المكونات وأن يجعلها حيناً قادمة إليه من عناصر ملفوظة. وأن يتفرس مليا البواعث التى تدفعه إلى أن يقيم بعض المكونات شاهدة حاضرة فى لسانه يتغنى بأجراسها ويجعلها فى مقام آخر من القصيدة نفسها غائبة بجرسها حاضرة بروحها لا يستقيم الفهم بغير استحضارها فى الفؤاد.
وإنا لنؤكد إغراء القارئ المتذوق بتفرس منهاج الشاعر فى العدول عما ألفت العقول تلقيه فى سنن البناء والاعتلاق إلى نهج فى إبراز وشائج القربى بين مكونات البناء على اختلاف أقدارها وأنواعها ، فقد يكون عدولا فى بناء كلمة أو فى موقعها أو التغنى بها أو فى سلها من رحم كلمة أخرى أو فى إقامتها مناظرة أو معادلة كلمة أخرى أو مكرّسة حصاد كلمات عديدة مديدة أو وضعها مهاداً لفيض من المكونات المبنية عليها إلى آخر تلك المشارب فى العدول عن المألوف إلى رونق الجدة المشروعة.(1/82)
وليس فى هذا إلاحة أو إشارة إلى أن البناء العلى للشاعر قائم على النفرة من أنهاج التعلق الموروثة والتمرد عليها ، فليس بشاعر من يتمرد على رسوم البيان فى قومه مثلما ليس لشاعر من لا يبصر اتساع الشرائع المنصوبة فضلا عن الطرائق الملحبة.
كسر الرسوم وتحطيم الأصول إنما يكون من غشاوة على البصيرة فيحسب جهالة الأفق الرحيب حجر ضب ، وما ضاقت إلا معرفته وما كلت إلا بصيرته
المهم أنه لا يعين متذوق الشعر على استبصار براعة الشاعر فى كسر الألفة المزهقة روح الدهشة فى القراء كمثل مقارنته بين ما جاء به الشاعر مدهشا من التراكيب الشعرية وبين الاحتمالات التركيبية التى تتسع لها رسوم النحو فى بناء العبارة عن المعنى الذى يرمى إليه.
وليس يخفى أن القارئ سيجد بين يديه فى تذوق كل جملة عديدا من الإمكانات التركيبية التى يتسع لها نحو العربية ، لتبقى له الدهشة فى اكتشاف البواعث الروحية التى هدت أو حملت الشاعر أو أغرته باصطفاء ذلك النمط التركيبى الذى نسجه فى معزوفته المدهشة ولن يكون القارئ المتذوق قادرا على ممارسة ذلك إلا إذا كان مليكا ثقافة ومعرفة بكثير من دقائق ولطائف الإمكانات التركيبية فى نحو العربية غير آسر وعيه فى مختارات مذهبية يتعبد بها بعض النحاة ويرون الخروج عنها علاوة على الخروج عليها جريرة تقارب أو تجاوز الخروج عن المذاهب الفقهية ، بل تتاخم الخروج عن المذهب العقدى.
فالاختيار لدى الشاعر أجل من أن يخضع لمنهج مذهبى عند نحاة البصرة أو الكوفة أو بغداد ، لأن العبقرية التى يصدر عنها الشاعر المقتدر المالك مقومات الفحولة: الموهبة (الطبع والذكاء) والمعرفة (الرواية والدربة) أوسع وأعمق وأبصر بالحقائق من كل ما يمتلكه نحوى متمذهب.
يقول الخليل بن احمد الفراهيدى:(1/83)
"الشعراء أمراء الكلام ، يصرفونه أنى شاءوا ، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ، ومن تصريف اللفظ وتعقيده ، ومد المقصور وقصر الممدود ، والجمع بين لغاته ، والتفريق بين صفاته ، واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته ، والأذهان عن فهمه وإيضاحه ، فيقربون البعيد ، ويبعدون القريب ، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل فى صورة الحق والحق فى صورة الباطل"
ويعلق "أبو الحسن حازم بن محمد بن الحسن القرطاجنى (608 - 684هـ) على مقاله "الخليل" الماجد قائلا:
"فلأجل ما أشار إليه "الخليل" - رحمه الله - من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم فى معرفة الكلام ، واتساع مجالهم فى جميع ذلك ، يحتاج أن يحتال فى تخريج كلامهم على وجوه من الصحة ، فإنه قل ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم ، فليسوا يقولون شيئا إلا وله وجه ، فلذلك يجب تأول كلامهم على الصحة والتوقف فى تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه.
وليس ينبغى أن يعترض عليهم فى أقاويلهم إلا من تزاحم رتبته فى حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتهم ، فإنما يكون مقدار فضل التأليف على قدر فضل الطبع والمعرفة بالكلام.
وليس كل من يدعى المعرفة باللسان عارفا به فى الحقيقة ، فإن العارف بالأعراض اللاحقة للكلام التى ليست مقصودة فيه من حيث يحتاج إلى تحسين مسموعه أو مفهومه ليس له معرفة بالكلام على الحقيقة البتة ، وإنما يعرفه العلماء بكل ما هو مقصود فيه من جهة لفظ أو معنى.
وهؤلاء هم البلغاء الذين لا معرج لأرباب البصائر فى إدراك حقائق الكلام
إلا على ما أصلوه فمن جعل ذلك دليله هدى سبيله ومن اعتمد أحمده(17)
وهذا من حازم جلى على الرغم من دقته ولطفه(1/84)
وقد مضى شئ من فقه عبد القاهر بناء الجملة الشعرية وتحليله لها وتذوقه ما هو قائم فيها من فروق ووجوه ، ووضعت لك يدك على معالم منهجه التحليلى ، وأغريتك بأن ترمى ببصيرتك إلى ما تركه لك عن غير عجز منه ولكن إغراء لك كيما تذوق فتعرف ثم تغرف.
وإذا ما أحسنت السير على المنهاج فى فقه بناء الجملة الشعرية وتحليله وتذوقه كان بملكك أن تمد السعى إلى فقه بناء ما هو أرحب مدى وأعمق غورا وألطف عطاء ، وأجزل نوالا.
ثانيا: بناء المعقد: علاقات الجمل الشعرية
إذا ما كانت الجملة الشعرية أو البيانية أفسح مجالا من الجملة النحوية من أن العلائق بين مكونات الجملة النحوية علائق إعرابية يكون لكل مكون من مكوناتها مفردا أو ما فى قوة المفرد وظيفة إعرابية فإن مكونات الجملة البيانية عموما والشعرية خصوصا ليست بمقصورة علائقها ببعضها على التعلق الإعرابى المهموم بدراسته علماء "النحو" بل هى ممتدة إلى التعلق المعنوى أو ما يمكن أن يسمى تمام الإفادة البيانية.
فإذا ما كان النحاة يقولون عن الجملة: ما دل على معنى يحسن السكوت عليه. فإن المعنى المسكوت عليه قد يكون جزءا من معنى أتم وتكون هذه الجملة وان امتدت وتكاثرت مكوناتها لا تحقق كمال الإفادة بالمعنى فتفتقر إلى جمل تقترن بها تكمل بها إفادتها وحينذاك يكون مجموع تلك الجمل المحقق تمام الإفادة البيانية بالمعنى هو ما أسميه الجملة البيانية.(1/85)
يتبين لك الأمر إذا نظرت إلى قوله تعالى فى أول سيدة آى القرآن الكريم آية الكرسى: "الله لا إله إلا هو الحى القيوم" تجد أنها جملة نحوية دلت على إفادة يمكن السكوت عليها. ولكنك حين تبصر فى معنى الآية تجد أن معنى هذه الجملة جزء من تمام المعنى القرآنى لآية الكرسى وإنا مفتقرون إلى ما بعدها من الجمل ليتم فهمنا للمعنى الذى نزلت الآية هادية إليه. ولذلك كانت العلائق بين الجمل التسع فى آية الكرسى بمثابة العلاقة بين مفردات تسع فى جملة نحوية غير أن العلاقة بين المفردات التسع فى الجملة النحوية علاقة إعرابية. بينما العلائق بين الجمل النحوية التسع فى آية الكرسى التى هى جميعها جملة بيانية علائق معنوية محققة للغرض الكلى الذى نزلت له الآية الكريمة.
فكما أن الجملة النحوية قد تتمدد فتتكاثر مفرداتها. كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن الجملة البيانية تمتد إلى عديد من الجمل النحوية الصغرى والمديدة.
ولا يقف الأمر عند ذلك فإن هذه الجمل البيانية تتعالق فيما بينها لتشكل معاقد كلية تقوم بتمام الدلالة على أغراض يقوم منها النص/ القصيدة.
ومن سنن القصيدة العربية أنها ذات معاقد وأن كل معقد – غالبا – قائم من جمل بيانية عديدة مديدة. وكل معقد قائم بالابانة عن غرض جزئى من أغراض القصيدة المتناسل بعضها من بعض كالوقوف على طلل أو نسيب أو وصف رحلة...الخ والقارئ المتذوق للشعر العربى وإن كان ذا عناية كريمة بتحليل الجملة الشعرية ومنهج بنائها وتأليف مكوناتها الصوتية والمعنوية فليس بالملقى رحالة عندها المقيم فيها لا يبرحها ، بل تمتد رحلة تذوقه وتحليله إلى تعالق هذه الجمل وتعاونها على بناء معقد قائم بغرض شعرى من أغراض القصيدة ، فيمنح علاقات الجمل البيانية وأثرها فى بناء المعقد مثل ما منح علائق مكونات الجملة النحوية ثم البيانية من عنايته النافذة الكاشفة.(1/86)
وأسلافنا من علماء بيان العربية كانت عنايتهم بتلاحم أجزاء النظم فى البيت ثم فى بناء المعقد ظاهرة لمن وقف على تراثهم وتذوقهم.
يقول أبو عثمان الجاحظ: "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا وسبك سبكا واحدا فهو يجرى على اللسان كما يجرى الدهان"(18)
فهذا من أبى عثمان هاديك إلى أنك إنما تفوز من الشعر بفيض العطاء حين يكون ذلك الشعر متلاحم الأجزاء قد أفرغ إفراغا واحدا وسبك سبكا واحدا ، وأن هذا الشعر المتلاحم هو الجدير بالعناية قراءة وتذوقا لما يفيض به من وجوه العطاء وجيده.
وعبد القاهر الجرحانى يؤكد أن الجمل التى تصنع كل واحدة ويحكم نظمها ثم لا يكون بينها رباط روحى يجمع مثتورها إنما هى من قبيل النظم النازل المفتقر إلى ما يحقق له شرف البيان.
يقول: "واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم ، بل نرى سبيله فى ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها فى سلك ، لا يبغى أكثر من أن يمنعها التفرق ، وكمن نضد أشياء بعضها على البعض ، لا يريد فى نضده ذلك أن تجئ له منه هيئة او صورة ، بل ليس إلا أن تكون مجموعة فى رأى العين وذلك إذا كان معناك معنى لا تحتاج أن تصنع فيه غير أن تعطف لفظا على مثله.
كقول الجاحظ:
"جنبك الله الشبهة ، وعصمك من الحيرة ، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا ، وبين الصدق سببا ، وحبب إليك التثبت ، وزين فى عينيك الإنصاف ، وأذاقك حلاوة التقوى ، واشعر قلبك عز الحق ، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما فى الباطل من الذلة ، وما فى الجهل من القلة" 1هـ
أنت إذا ما قرأت كل جملة على حيالها رأيت فيها نظما وتصويرا وتحبيرا فهى غير عاطلة ، ولكن الإمام عبد القاهر ينفى عنها أن تكون ذات فضل فى النظم العلى يقول:
"فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه دون نظمه وتأليفه.(1/87)
وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى فى الأمر مصنعا ، وحتى تجد إلى التخير سبيلا ، وحتى تكون قد استدركت صوابا"(19)
فالإمام لم ير فى النظم القائم فى كل جملة على حيالها وإن كان ذا منزلة ما يحقق لهذا البيان الفضل ، وهذا إبلاغ منه فى فريضة تلاحم أجزاء النظم وانه لا يكفى أن تكون كل جملة على حيالها منظومة مفرداتها نظما محكما ، لأن هذا المستوى من البناء والتركيب وإن كان عاليا إلا أن الذى هو العلى نظم هذه الجمل فيما بينها ليجئ منها هيئة أو صورة – كما يقول:
وكأنى بالإمام إبلاغا منه فى فريضة التلاحم والسبك الكلى قد جعل نظم المفردات فى بناء الجملة بمنزلة نظم الحروف فى بناء الكلمة وأنّه لا يرى الفكر والصنعة فى بناء الجملة جليلا كالذى يكون فى نظم المعقد والفصل والصورة من جمل عديدة مديدة متلاحمة كأنما أفرع المعقد المصاغ منها إفراغا واحدا.
وذلك أن الإمام إنما يرى أن مناط الفضل والمزية فى البناء والتركيب والتصوير ثلاثة أشياء:
1- أن يكون هنالك تخير دقيق لطيف بين البدائل
2- أن يكون هنالك مصنع واعتمال واجتهاد وفكر وروية
3- أن يكون قد استدركت بهذا الفكر وهذا الاختيار صوابا ليس من بابه تقويم اللسان والتحرز من اللحن وزيع الإعراب بل استدركت صوابا فيما من شأنه ان يدرك بالفكر اللطيفة ويوصل إليها بثاقب الفهم.
والناظر فيما نقله "عبد القاهر" من كلام أبى عثمان الجاحظ واجد أن كل جملة على حيالها منظومة ولكن إذا ما نظر فيما بين هذه الجمل من علائق وجد أنها بمثابة حبات لؤلؤ جليلة القدر كل واحدة منها ذات شرف ، غير أنه ليس لضمها فى سلكها أساس روحى أو شكلى أقيم عليه. ولم يقم هذا الضم فى سلكها على فكر وروية واختيار ومقايسة وتفرس.(1/88)
أنت تستطيع أن تقيم الجملة الثانية مقام الأولى أو الثالثة أو الرابعة ولا ضير ، فلن يكون فى صورة المعنى وهيئته شئ غير حميد فالعلاقات بين هذه الجمل فى مقالة "الجاحظ" لا تقوم على التواصل الروحى بينها ولا تمنح كل جملة اختصاصا بموقعها الذى وقعت فيه ذلك ما يظهر لظاهر النظر. ولكنى أكاد أرى علاقة روحية بين جمله وتصاعداً فى المعنى يضيق المقام عن كشفه.
الاعتداد عند الإمام بقيمة النظم لا يقف عند الإحسان فى نظم الجملة على حيالها ، بل الاعتداد عنده بما هو أبعد من ذلك حين تنتظم الجمل ، فتكون الجملة كالكلمة والكلمة كالحرف ، فالروح العلية هى الروح السارية فيما بين الجمل ليجئ منها هيئة أو صورة وقد عقد الإمام فصلا "فى النظم يتحد فى الوضع ويتم فيه الصنع أعلمنا فيه "ان مما هو أصل فى أن يدق النظر ويغمض المسلك فى توخى المعانى... أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها فى بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول وان تحتاج فى الجملة إلى أن تضعها فى النفس وضعا واحدا ، وأن يكون حالك فيها حال البانى يضع بيمينه ههنا فى حال ما يضع بيساره هناك نعم، وفى حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين.
وليس لما شأنه أن يجئ على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به ، فإنه ليجئ على وجوه شتى وأنحاء مختلفة"(20)
فالقارئ المتذوق شعر العربية يمنح نفسه مزيدا من العناية بتفرس أنساب الجمل وأنواع العلائق القائمة بينها واثر المعانى الجزئية للجمل البيانية فى اصطفاء ضرب من ضروب التناسب أو التعلق بينها ، وأثر هذه الضروب فى تشكيل المعنى الكلى للمعقد وتلاحمه ، وكلمة التلاحم كلمة دالة دلالة عميقة لطيفة على ان العلائق بين المتلاحمات من ذاتها لا من خارج عنها وتلاحم كل شئ – ولو كان ماديا – من جنسه ، فكيف إذا ما كان معنويا ، فكيف إذا كان ذلك المعنوى من روح الإنسان: كلمته الشاعرة.(1/89)
وقد يظن عجل أن علماء بيان العربية: البلاغيين فى قراءتهم شعر العربية وتذوقهم لم تكن لهم عناية بالعلاقات بين الجمل إلا بضرب واحد هو ما عرف عندهم بالفصل والوصل ، ومن الفصل والوصل بنوع واحد هو ما كان بالواو خاصة وبما كان بين جمل ليست فى منزلة المفرد إعرابيا
قد يكون ذلك ظاهر أمر البلاغيين ولا سيما المتأخرون أحفاد السكاكى ولكنك إذا ما اتسعت بصيرتك وتفرست تراث القوم ومنهم المتأخرون ألفيت أن القوم قد عنوا بضروب العلائق بين الجمل فى غير باب الفصل والوصل ولا سيما علم البديع الذى لقى من سوء فهم بعض الناشئة فى طلب العلم ما كان جديرا بهم أن يتطهروا منه. ويبصروا الأمر على حقيقته فى ضربيه ما عرف بالمحسنات المعنوية والمحسنات اللفظية ، فغير قليل من فنون البديع فيه أصول لعلائق الجمل ببعضها ، ولو أنا لم نتعبد بإنزال رحالنا حيث أنزل الأسلاف فى رحلة التذوق وامتد بنا المسير على لا حب طريقهم دونما توقف أو تخوف مسترشدين بمناهجهم لا متعبدين بقدر خطاهم على الطريق ، لو أنا فعلنا لكان لنا أن نبصر غير قليل من علائق الجمل فى بناء المعقد.
وقد كان جديرا بنا أن نهتدى بمنهاج القرآن الكريم فى هذا فإن فيه معالم هادية ومغرية بالإقبال على تجاوز منازل الأسلاف إلى ما هو أبعد مدى.
تقريبا للأمر لو أنك قارنت صنيع المتأخرين فيما عرف بالطباق والمقابلة بصنيعهم فى التشبيه المفرد والمتعدد والمركب بنوعيه لأمكن أن نفسح مجال المقابلة أو التقابل حتى يكون بين مجموع أبيات أو جمل بيانية ومجموع أبيات وجمل بيانية: بين المعنى الكلى هنا والمعنى الكلى هنا وليس بين مفردة أو مفردات هنا ومفردة ومفردات هناك ولرأيت مجال الجمل البيانية وسيعا بل ومجال المعقد قائما من جملتين بيانيتين متقابلتين أو متناظرتين مع اتساع مجال المعقد ومثل هذا يمكن الأخذ به فى ما يعرف بمراعاة النظير وحسن التقسيم والتفريق.. الخ(1/90)
المهم فى هذا أن يتخذ القارئ المتذوق شعر العربية صنيع الأسلاف من علماء بيان العربية ومنهاجهم قاعدة ينطلق منها فى رحلة التذوق وليس قانونا يتعبد باتباعه والوقوف عند ما وقفوا.
وإذا ما كان النبى صلى الله عليه وسلم قد حث على التجديد فى الدين أى التدين وممارسة الفقه الصحيح للوحى ، فإن الأمر على منواله يكون حميدا التجديد فى ممارسة القراءة والتذوق على هدى منهاج الأسلاف.
والقارئ المتذوق شعر العربية لا يحجزنه عن السعى إلى استبصار علائق الجمل البيانية المديدة فيما بينها مشكلة هينة وصورة نسميها "معقدا" أو يسميها غيرنا "فصلا" من أنه رأى فى مقالات بعض أسلافنا من علماء العربية إعلاء لأن يكون كل بيت من ابيات القصيدة تاما فى معناه غير ذى حاجة إلى ما قبله وما بعده. كما قد يراه فى قول "إبن رشيق":
"ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيا بعضه على بعض ، وأنا استحسن ان يكون كل بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده ، وما سوى ذلك فهو عندى تقصير إلا فى مواضع معروفة مثل الحكايات وما شاكلها فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد.
ولم أستحسن الأول على أن فيه بعدا ولا تنافرا ، إلا أنه إن كان كذلك فهو الذى كرهت من التثبيج" (21)
فهذا قول قد يفهم من ظاهره استحسان "ابن رشيق" أن تكون أبيات القصيدة متفاصلة لا متعاقدة متناسلة وذلك إذا لم نحرر مناط استحسان ابن رشيق ومناط استحسان من خالفهم.
ما أبصره أن ابن رشيق لا يستحسن أن تكون البنية اللفظية للبيت مبنية على بنية لفظية لبيت سابق أو لاحق فيكون تراكب إعرابى على نحو ما يعرف بالتضمين العروضى أو قريبا منه ، أما بناء معنى الثانى على معنى الأول مع إفادة الأول معنى تاما يزداد نموا بالمعنى فى البيت الثانى فإن ذلك لا يرده "ابن رشيق" ، وهو الذى اتخذ قول الحاتمى:(1/91)
"... القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان فى اتصال بعض أعضائها ببعض ، فمتى انفصل واحد عن الآخر ، وباينة فى صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه ، وتعفى معالم جماله ، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون من مثل هذه الحال احتراسا يحميهم من شوائب النقصان ويقف بهم على محجة الإحسان"(22)
ويجمل بالقارئ المتذوق بشعر العربية أن ينطلق فى هذه القضية من واقع الحياة العربية التى يعيشها الشاعر العربى القح لسانا وعقلا وقلبا وهما يحمله فى حياته كلها ، ولا ينطلق من مقولات ونظريات نقدية مستمدة من ثقافات أعجمية أخذت من خارج الأرض العربية وتغرى غيرنا بما هو أقرب إلى ثقافتهم.
الذى أذهب إليه فى قراءة شعر العربية وتذوقه أن الوحدة فى شعرنا العربى تبدأ بأن يكون كل بيت فى القصيدة ذا معنى جزئى مترابط فى نفسه متكامل يمكن أن يؤخذ هذا البيت من سياقه فلا يتجرد من قيمته النغمية والتصويرية والتأثريّة تمام التجرد بحيث يفقد انتسابه إلى عالم الكلام ويتساقط فى هوة الهزيان ، ولكنه يبقى له من العطاء الشعرى نصيب غير قليل وهو مأخوذ عن أقرانه وشقائقه وسياقه غير أن ذلك العطاء الشعرى يبلغ ذروة كماله حين لا يعتدى على أنسه بأقرانه ويقر فى سياقة التصوير الشعرى الكامل فى القصيدة.
وهذا قد يكون فى غير القصيدة العربية غائبا لكنه القائم فى كل قصيدة عربية تقريبا لأن القصيدة العربية هى فى عالم البيان كمثل القبيلة فى المجتمع العربى حين كانت الحياة فيه عربية لم تخالطها العجمة لسانا وعقلا وقلبا وهما فتتخلى العروبة عن وجودها لتلك العجمة ، كما هو حالنا اليوم
الحياة العربية الطاهرة من العجمة قائمة على النظام الاجتماعى القبلى ، وهو نظام يمثل ذروة التماسك الداخلى والتوحد الهمى ، لا تكاد تجده فى اى نظام اجتماعى آخر:(1/92)
"يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات)
النظام القبلى (وهو من اقبال أفراده بعضهم على بعض تراحما وتناصرا) يجمع بين أمرين فى علاقة الفرد والجماعة.
تحفظ القبيلة لفرد فيها قيمته الذاتية ويحترم الفرد سلطة الجماعة وأعرافها ورسومها ويحمل همومها ويسارع فى نصرتها فهو ذو رباط روحى عميق بقبيلته وإن كان له وجوده الذاتى الذى لا يذوب فىالجماعة أو يفتقر إليه افتقارا مبيدا والقبيلة العربية ليست افرادا متراصة بل هى ذات حلقات يحيط بعضها ببعض وغير متقاطعة فالقبيلة من بطون والبطون من أفخاد والفخد جماعة الرجل الذين هم أقرب عشيرته إليه
وكذلك القصيدة العربية تشكل أبياتها جملا بيانية وجملها معقدا ومن هذه المعاقد (الفصول) تكون القصيدة
وكما أن كل فرد فى القبيلة خاضع ولاؤه لشيخ القبيلة وإن كان أظهر وأقرب ولاء لشيخ فخده ، كذلك الأمر عند التبصر فى القصيدة العربية تجتمع الأبيات فى مقعد ذى غرض شعرى موصول الرحم بغرض آخر يسبقه أو يتلوه.(1/93)
والقارئ المتذوق شعر العربية لا يتهافت على دعاوى ما يعرف عند بعض الناظرين فيما يسمى شعرا بالوحدة العضوية فذلك أمر إن أغرت به شقشقته الألسنة فى نظريات نقدية ذات أرومة أعجمية فإن الواقع الإبداعى للشعر العربى القديم لا يغرى به فالقصيدة العربية ذات أبيات لكل بيت أو جماعة بيانية منها قيمة نغمية وتصويرية وتأثيرية يمكن أن يستمتع بها القارئ المتذوق وان كانت خارج سياقها الكلى المديد لكن هذه الأبيات أو الجمل البيانية المشكلة منها حين تمنح نعمة صلة الرحم القريب فى إطار ما أسميه معقدا فإن ذلك العطاء الشعرى لهذا المعقد يكون كريما وفيرا وذلك شأن العربى عامة والمسلم خاصة هو ذو قيمة فى نفسه وإن كان فى الأرض وحيدا أو فى مناصرة الحق فريدا لكن قيمته وعطاءه ونتاجه يكون عظيما إذا ما اجتمع إلى أقرانه وإخوانه. وقد حضنا الإسلام على العمل الجماعى فى شئون ديننا ودنيانا.
ثالثا: بناء القصيدة: علاقة المعاقد ببعضها
لا أدفع قول أبى عمرو بن العلاء الذى يقول فيه "يونس بن حبيب"(23)
"لو كان أحد ينبغى أن يؤخذ بقوله كله فى شئ واحد، كان ينبغى لقول أبى عمرو بن العلاء فى العربية أن يؤخذ كله، ولكن ليس أحد إلا وأنت أخذ من قوله وتارك"
لا أدفع قول أبى عمرو "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير"(24)
وهذا دال على أن شعر العربية قد عدت عليه العوادى فى العصور الأولى فذهبت بقصائد أو ببعضها أو أحدثت فى بنائها فتساقطت أبيات وتقدمت أبيات، إذ كان الغالب على شعر العربية الرواية التى كانت تتخذ من عقل القلوب ما تسمع أداة حفظ ونشر تفوق التدوين الكتابى فى عصر النبوة والخلافة الراشدة وعصر ما قبل الإسلام.(1/94)
فكان هذا معيناً على أن يحدث فى القصيدة العربية ما قد يصيب بناءها وكمال ترتيب أبياتها، مما جعل فريضة على القارئ المتذوق شعر العربية ولا سيما بناء القصيدة أن يستفرغ جهده فى الوفاء بحق تحقيق بناء القصيدة بمقابلة رواياتها وحسن البصر بمنازل الرواة.
وأهل العلم بالشعر قد حملوا كثيراً من ذلك التحقيق والتحرير فى شأن بناء القصيدة العربية لا يكاد يقل عن ما كان منهم فى شأن بناء البيت.
وإذا ما كان من سمات بناء القصيدة العربية أنها ذات أبيات يمثل كل بيت فيها وحدة نغمية قائمة بذاتها مكونة من وحدات نغمية صغرى (الأسباب والأوتاد والتفاعيل) وكان كل بيت ذا شطرين كل شطر وحدة نغمية مستقلة عن أخرى، فإن ذلك لا يعنى أن القصيدة العربية قائم بناؤها من أبيات متوالية لا تراحم بينها بل إن سمات القصيدة العربية أن جمعاً من أبياتها يتلاقى حول غرض شعرى جزئى تشكل أبياته معقداً، فإذا القصيدة العربية الغالب عليها أنها ذات أغراض وموضوعات متعددة، وذات معاقد مترابطة.
قد حكى "أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276) عن بعض أهل الأدب ما هو غالب على القصيدة العربية عامة والقصيدة المادحة منها خاصة فى صدر كتابة "الشعر والشعراء" قائلاً:
"وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كانت نازلة العمد فى الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان.
ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق؛ لأن التشبيب قريب من النفوس..... فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل فى شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير.(1/95)
فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره فى المسير بدأ فى المديح، فبعثه على المكافأة وهزه للسماح، وفضله عن الأشباه وصغر فى قدره الجزيل(25)
ذلك حكاية "ابن قتيبة" ما سمعه من بعض أهل الأدب فيما هو المنهاج الغالب على بناء قصيدة المدح العربية وهو كما ترى وصف لما هو قائم فى القصيدة ممزوجاً به البواعث النفسية التى أغرت الشاعر أن يبنى قصيدته المادحة على هذا النحو من تقديم ديباجة يوطئ بها إلى الغرض الرئيسى من قصيدته فمن قبل الغرض وطاء تناسلت معاقده ومراحله.
كان من قبله معقد ومرحل الوقوف بالديار والارتحال منه إلى معقد ومرحل آخر متناسل منه: ذكر أهلها الظاعنين عنها وما كان له فيهم من مربع روح ومهوى فؤاد مؤجج فيه الحب الطهور فيكون فى هذا المقعد والمرحل ما يسبى به قلوب متلقى القصيدة، فإذا هى المصغية إليه الملقية بأزمتها وأعنتها إليه يتصرف فيها كيفما يشاء فيقودها إلى أن تتلقى مدحته من هو أهل مدحه، فيرحل بهذه الأفئدة أفئدة المتلقين فى شعره على نافته فى الهجير حتى يحيط بهم فى عراص الممدوح ورياضه.
والشاعر وهو يعقد تلك المعاقد ويرتحل من تلك المراحل إلى الغاية المحجوج إليها إنما يمزج قصده الرئيس بكل معقد ومرحل فإذا كان من هذه المعاقد لذكر الديار فإنه ذكر ممزوج بالقصد الرئيس وكذلك ذكر الساكنين الظاعنين وما تلاه من معاقد ومراحل إلى المحل الرغيب.
فالقصيدة العربية قائم بناؤها من معاقد ومراحل لا تتفاصل ولكنها تتلاحم. فهو بناء قائم على ما يوحد بين مكوناته ومكنوناته ليس هو الذى يقال به فى نظريات النقد للأدب الأعجمّى أو ما استنسخ منها فيما يسمى "الوحدة العضوية" أو "الموضوعية"... الخ
بناء القصيدة العربية قائم على دعامتين رئيستين:
الأولى: ممثله فى التلاحم المنطقى بين المعاقد والمراحل المبنية من أبيات تلاحمت معنوياً فيما بينها.(1/96)
والأخرى ممثلة فى الموقف الشعرى الموحد الذى يتخذه الشاعر من أمر ما من أمور الحياة كوناً وإنساناً يبعثه على القول الشعرى المهدى إلينا فى القصيدة العربية.
وموقف الشاعر من هاتين الدعامتين موقف جاعل الدعامة الثانية "الموقف الشعرى" مآلاً للدعامة الأولى، فإذا ما تحقق له أن يوفى التلاحم المنطقى بين المعاقد والمراحل حقه مع كمال الوفاء بحق موقفه الشعرى الموحد من أمر ما من الحياة: كوناً وإنساناً فإنه يكون القائم بالوفاءين.
فإذا ما كان لتحقيق التلاحم المنطقى بين المعاقد أثر ما على نقص الوفاء بحق "الموقف الشعرى للشاعر" فإنه لا يتوانى عن استعلاء حق الوفاء بما للموقف الشعرى من حقوق"
ولذا فإن بعض القصائد العربية قد يتوارى فى بنائها التلاحم المنطقى بين معاقدها ومراحلها فيظن أن الأعلى إعادة بناء القصيدة على نحو أخر يقدم فيه معقد على آخر. ولو أنه لوحظت عناية الشاعر بوحدة الموقف الشعرى الذى اتخذه إزاء حدث ما من الحياة بعثه على القول الشعرى على هذا النحو الذى انتحى فى بناء قصيدته لكان هذا هو العلى ولست بهذا زاعماً أن كل قصيدة عربية بدا فيها غياب التلاحم المنطقى بين معاقدها أو التلاحم المعنوى بين أبيات معاقدها أن الشاعر هذا كان حكيماً خاضعاً لسلطان توحد الموقف الشعرى وأنه هو العلى الأحكم. كلا ، ولكنى أغرى القارئ المتذوق بالريث الكريم، فلا يفض سوء ظنه بالشاعر، فيعتدى من قبل أن يستفرغ الجهد فى التفرس البيانى فى القصيدة مناط القراءة والتذوق.
أما أن اتخذ العدة واستفرغ الجهد فليس عليه أن يقول الذى آمن به وأبصره.(1/97)
وإذا ما كان بناء القصيدة العربية قائماً على التلاحم المنطقى بين معاقدها وتوحد الموقف الشعرى عما بعث الشاعر على القول من أمور الحياة: كوناً إنساناً، وكان هذا التوحد هو مناط العناية العلية من الشاعر، لا يعلى عليه التلاحم المنطقى. فإن موقف نقادنا ظاهر فى غلبة عنايتهم بأمر التلاحم المنطقى أكثر من العناية بأمر توحد الموقف الشعرى للشاعر.
ومن ثم رأيناهم يجعلون بناء القصيدة من ثلاثة: فاتحة وخاتمة وموضوع، فكان لهم مزيد قول فيما عرف ببراعة الاستهلال أو حسن الابتداء، وما عرف بحسن الختام وحسن التخلص من الفاتحة إلى الموضوع.
أما ما يتعلق بمعاقد الموضوع ومراحلة فقد كانت لهم عناية بحسن المطالع والمقاطع وهى مطالع المعاقد أى مبتدأ كل معقد من معاقد القصيدة، وقطعه إلى آخره.
فلدينا أمران: حسن ابتداء (براعة الاستهلال) وحسن مطلع.
حسن الابتداء/الاستهلال هو مفتتح القصيدة أى مطلع المعقد الأول منها، وحسن المطلع هو مبتدأ كل معقد من معاقد القصيدة، ولدينا أمران: حسن ختام وحسن مقطع.
وحسن الختام هو آخر القصيدة كلها ولذلك ليس لها إلا ختام واحد مثلما ليس لها إلا ابتداء واحد/استهلال واحد وحسن المقطع هو حسن آخر كل معقد، فلدينا مقاطع عدة فى القصيدة.
وإذا كان الغالب على النقاد استعلاء ما يعرف بالتصريع فى البيت الأول من القصيدة "وإنما يروقك بيت الشعر حين يصرع" كما يقول أبو تمام، فإنهم يستعلونه فى مطالع المعاقد أى حين يرحل الشاعر من قصة إلى قصة.
يقول "ابن رشيق" فى "العمدة": "وربما صرع الشاعر فى غير الابتداء، وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شئ إلى وصف شئ أخر، فيأتى حينئذ بالتصريع إخباراً بذلك وتنبيهاً عليه.(27)(1/98)
وإذا ما كان حسن التخلص قد استعلاه نقاد شعر العربية فيما بين المقصود وما مهد به إليه فإن حسن التخلص يكون حميداً فيما بين المعاقد والمراحل كلها وليس هذا خاصاً بالتخلص إلى المقصد الرئيسى من القول بل ذلك أحسن ما يعتنى به.
يقول "صاحب الجامع الكبير"(28) فى بيان حقيقة التخليص وقيمته البلاغية:
"أن يأخذ المؤلف فى معنى من المعانى، فبينما هو فيه إذ أخذ فى معنى آخر وجعل الأول سبباً إليه ، فيكون بعضه أخذاً برقاب بعض من غير أن ينقطع المؤلف كلامه، ويستأنف كلاماً آخر، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغاً ، وذلك مما يدل على حذق الشاعر وقوة تصرفه ، وطول باعه واتساع قدرته ، من أجل أن الشاعر يضيق عليه نطاق الكلام، ويكون متبعاً للوزن والقافية ، فلا تواتيه الألفاظ على حسب إرادته ولا تتزن له".(29)
ومن قبل قال "أبو على الحاتمى ، محمد بن الحسن المظفر ت 388هـ
"من حكم النسيب الذى يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممتزجاً بما يعده من مدح أو ذم أو غيرهما ، غير منفصل منه. فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان فى اتصال بعض أجزائه ببعض ، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه فى صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون مما سنه وتعفى معالم جماله.... (30)
وهذه من "الحاثمى" ماجدة دالة على بصر نافذ بما يكون عليه بناء القصيدة العربية ، وإن كانت هذه الماجدة غير مرضية أحفاد "كولردج" وشيعته من أن "الحاثمى" وقومه لم ينطقوا بما ينطق به ذلك الأعجمى ولا اتخذ ما اتخذه من قصيدة قومه الأعجمية.
وإذا ما كان هذا من الحاثمى فإن "أبا الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا العلوى الأصبهانى ت 322" قد سبقه قائلاً:(1/99)
"وينبغى للشاعر أن يتأمل تأليف شعره وتنسيق أبياته. ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها، لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه أو بين تمامه فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه ، فينسى السامع المعنى الذى يسوق القول إليه كما أنه يحترز من ذلك فى كل بيت ، فلا يباعد كلمة عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها ، وينتقد كل مصراع: هل يشاكل ما قبله؟.......
وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً ينسق به أوله مع أخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل، كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقض تأليفها فإن الشعر إذا أسس تأسيس فصول الرسائل القائمة بأنفسها ، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها والأفعال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه ، بل يجب أن تكون القصيدة كلها كالكلمة الواحدة فى اشتباه أولها بآخرها نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف ، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعانى خروجاً لطيفاً... حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً...... لا تناقض فى معانيها ، ولا وهى فى مبانيها ، ولا تكلف فى نسجها تقتضى كل كلمة ما بعدها ، ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها.
فإن كان الشعر على هذا المثيل سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهى إليها رواية". هذا الذى جاء به "ابن طباطبا" لا نقول بأنه عرف وحدة القصيدة كما يعرفها النقاد المحدثون من الأعاجم وشيعتهم من أبناء جلدتنا من قول بوحدة عضوية أو موضوعية.... ولكن نقول إن ابن طباطبا عرف منهج بناء القصيدة العربية ودعا إليه ولا ضير عليه من بعد هذا أن يتآلف قوله من قول غيره من الأعاجم أو يتخالف.(1/100)
وجملة الأمر – كما يقول "عبد القاهر": أنه لا يكون ترتيب فى شئ حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدم فيه ما قدم ولم يؤخر ما أخر، وبدئ بالذى ثنى به، أو ثنى بالذى ثلث به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة.(32)
فكل ترتيب يكون منه معنى ، ولكل معنى عبارة عنه وترتيب يخصه ، ليس هذا بمحصور فى المعانى والمبانى الجزئية بل هو مطلق يتسع للمعانى الكلية معانى المعاقد والقصائد.
وإذا ما كان حسن التخلص من غرض إلى غرض وقصة إلى قصة وثيق الاعتلاق ببناء القصيدة العربية فإن حسن الخاتمة من ذلك أيضاً، لا لأنه آخر ما يبقى من القصيدة فوجب الاعتناء به فحسب ، بل لأن حسن الختام آتيه من وثيق اعتلاقه بتلاحم معاقد القصيدة فإذا كان ابتداؤها استهلالاً بمغزاها بحيث يتأتى للقارئ المتذوق أن يتبصر معزى القصيدة من فاتحتها تجمع معانيها وتكرسها فتكون القصيدة بأقسامها الثلاثة: الفاتحة والخاتمة وما بينها قد أبانت عن مغزى القصيدة بوجوه مختلفة من الإبانة والدلالة ففى الاستهلاك إلاحة وإشارة.
وفى الخاتمة إيجاز وتكريس
وفيما بينهما تفصيل.
ولذا نجد "ابن رشيق" يقول: إذا كان أول الشعر مفتاحاً له، وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه" (33)
فخاتمة القصيدة قاعدتها الجامعة خلاصتها وزبدها.
وهذا الذى أشرنا إليه فى بناء القصيدة العربية إنما هو وصف لواقعها وليس تشريعاً ، فالقارئ المتذوق والناقد المحلل شأنه أن يعمل فيما أبدع الشعراء الذين هم أمراء الكلام ، لا سلطان لأحد عليهم، بل هم ذوو السلطان هم يقولون وعلينا أن نتأول مقالاتهم. وما كان نقد الشعر ليشرع بل هو ليحلل ويتذوق ويعقد أواصر القربى بين القصيدة والقارئ.
فإذا لم يستطع النقد التحليلى للقصيدة أن يفسرها من داخلها للقارئ فإن النقد يكون عقيماً ولو اتخذ الف منهج، ولو اتخذ أحدث ما جاءت به المذاهب فالاعتداد بمقدار ما يغرى القارئ بمخادنة القصيدة وتذوقها.(1/101)
وهذا الذى أشرنا إليه – أيضاً – فى بناء القصيدة العربية ليس لازما فى كل قصيدة بل هو الغالب عليها. وتبقى بين كل قصيدة وأخرى فروق تخص كل واحدة. ومن ثم لا يكون هناك إلزام منهجى فى القراءة والتذوق والتحليل والتفسير يتعبد بالتزامه، بل هنالك معالم على الطريق إلى تذوق القصيدة تذوقاً أعجمياً ، وذلك ما كان السعى إلى الوفاء ببعض حقه.
ما مضى إنما هو نزير من كثير يمكن رقمه وبرقنه فى تحليل البناء التركيبى للقصيدة جملة ومعقدا ونصا سوف يتلوه نزير فى تحليل البناء النغمى للقصيدة. التنغيم وليد التركيب ، فتراحما بينهما ووفاء بحق صلة الرحم أردفته به ، فكانت الصحائف القادمة حاملة شيئا من فقه النغم.
الهوامش
1. مجلة الرسالة المجلد (14) ص 413 س 1946.
2. موسيقى الشعر لإبراهيم أنيس ص 164 (الأنجلو، 1978)
3. السابق : 172.
4. فنون الأدب: لتشارلتن ص 29 (ت : زكى نجيب : ط/1364هـ)
5. طبقات فحول الشعراء لابن سلام ج 2 ص 764 هامش رقم (1).
6. الحيوان للجاحظ ج 3 ص 78 – هامش رقم (4)
7. طبقات فحول الشعراء ج1 ص 193 – هامش (1)
8. السابق 1/273 – 274 – هامش (7) وانظر معه ديوان شعر المثقب العبدى ص 200 هامش (2) (ت: الصيرفى والاقتضاب فى شرح أدب الكتاب للبطليوسى ج 3 ص 327 (ط 1983).
9. طبقات فحول الشعراء ج 2 ص 318 – هامش (2).
10. دلائل الإعجاز ص 539 (ت: شاكر)
11. المفضليات للضبى ص 242 (ت: أحمد شاكر)
12. ديوان الأعشى ص 241 (ت: محمد حسين).
13. دلائل الإعجاز ص 37.
14. السابق ص 41
15. السابق ص 78
16. دراسة فى البلاغة والشعر لشيخنا أبى موسى ص 183.
17. مناهج البلغاء لحازم ص 143-144 – دار الغرب الإسلامى.
18. البيان والتبيين ج 1 ص 67
19. دلائل الإعجاز ص 96 – 98
20. السابق ص 93
21. العمدة لابن رشيق ج 1 ص 261 – 262 (ت: محيى الدين)
22. السابق ص 93.
23. طبقات فحول الشعراء 1 / 16.
24. السابق 1 / 25
25. الشعر والشعراء ج 1 ص.(1/102)
26. الوساطة للجرجانى ص 48.
27. العمدة ج 1 ص 174.
28. نسبه محققاً "الجامع الكبير" إلى ضياء بن الأثير صاحب كتاب المثل السائر "وليس فى المصادر ما يدل على أن الضياء ألف الجامع وقد حقق شيخنا "العمارى" رحمه الله الأمر وانتهى إلى أن الجامع ليس للضياء وإنما لأخيه "العز" وانظر كتابى "قراءة فى المثل السائر" ص 7 (ط: 1418هـ).
29. الجامع الكبير ص 181، وأنظر معه "المثل السائر ج 3 ص 121 فقد نقله عنه دون إشارة.
30. حلية المحاضرة د 1 ص 215.
31. عيار الشعر ص 124 – 127.
32. دلائل الإعجاز ص 463.
33. العمدة لابن رشيق 1/239.
فقه النغم:
الشعر نغم حامل أصداء الموقف الشعري للشاعر من الحياة ، نغم نفس تعتلج بمزيج الشعور والفكر المكنون فيها.
ومادة الشعر هى الكلمة الشاعر أى الكلمة التى هى المعادل الصوتي للوجود الشعرى لقائلها ، تجمع فى رحمها الولود الودود فكره وشعوره وخياله وطموحه ، وآماله وآلامه وأشواقه ، ورحلة مسيره إلى مصيره الذى يتطلع شوقا إلى اكتشافه.
تلك الكلمة الشاعر هى فى وجودها الحى أنغام تآلفت أرواحها وتتاغت جروسها ، فكان الشعر غناء كما يقول حامل لواء الشعراء الفحول إلى الجنة إن شاء الله: حسان بن ثابت عليه الرضوان:
تغن فى كل شعر أنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
يميز مكفأه عنه ، ويعزله ... كما تميز خبيث الفضة النار
وأنغام شعر كل أمة من ذاتها ، من تاريخها وثقافتها ، ولا تكون أمة معتزة بوجودها مستوحية أنغام شعرها من غيرها إلا أمة باعت وجودها.
ولن تكون الأمة العربية أبدا كذلك يوما.
ما يعزفه الشاعر وينفث سحره في صدورنا لا يرمى به أن يقيم فينا صوره الذِّهنية التى تشكلت فيه من الحياة: هو يرمى إلى أن يطلعنا بنفثه نغم السحر على حالته النفسية ، على عالمه الجواني المتشكل من موقفه الشعرى إزاء الحياة.(1/103)
وهو لا يطلعني عليها ليجعلني أستعيرها منه ، لأن أكون نسخه مكرورة منه. كلا الشاعر الفحل الذي يعلم أنه جاء ليغير حركة الحياة أجل من أن يسعى إلى أن يجعل الآخرين نسخة مكرورة منه ، لأمرين جليلين.
الأول: أن كل شاعر فحل يرى نفسه فريد عصره ومصره بل وجنسه في قومه ، فلن يكون له مثل. هو أشد الناس شعورا بنفسه ، لا يرى أن لأحد من الناس له عليه فضلا أو يعلو مقامه ، حتى وإن مدح أعظم الملوك والسلاطين ، فإنه الموقن في داخله بأنه المتفضل الوهاب مالا يضيع ولا يبلى.
والآخر: أنه يحب الحياة ويحب الآخر الذى ينفث في العقد ليسحره عما هو غارق فيه من غشاوة البصيرة ، وبلادة الإحساس بالكون وحبه هذا حاجر له عن أن يسعى ليجعل غيره نسخه مكرورة قد يختلط الأصل بتلك النسخ المكرورة في بعض الأعين الكليلة.
الشاعر يريدنى أن أطلع على عالمه الجوانى لأقف من الأشياء حولى موقفا شعريا تتجاوز فيه البصيرة حدود البصر ، تنفذ إلى الجوهر ، ترى الأشياء ، ولا تنظرها.
الرؤية اجتياز وعبور ، والنظر احتجاز وقصور. عين رأسك تنظر فتصدها ظواهر الأشياء من أن تعبر إلى الباطن ، فتنكص. وعين قلبك الرائية تقتحم سدود الظاهر، تنفذ فيها. فتقيم في باطن الأشياء.
الشاعر يريدنى بنغمة الشاعر الساحر أن أكون ذا موقف من الحياة ، أن أمتلك القدرة على أن أقوم في الأشياء أجوسها فأقهرها ، ثم أقيمها هى فىّ ، أحتويها ، أشكلها كما أهوى ، وإذا ما قمت فيها ثم أقمتها فلن أرى في الأشياء قبيح الأثر الإنسانى فيها بتصرفاته المفسدة ولكنى أرى فيها جمال الإبداع الإلهى الربانى لها.
الشاعر يريد ذلك. ولا يبلغ الحمى إلا على صهوة النغم الشاعر الساحر فالنغم هو الحامل إلينا ذوب نفسه الشاعرة النافذة في حقائق الأشياء ، في جوهرها. وأشد الأشياء عسر فهم فى القصيدة نغمها على الرغم من أنه أظهرها وأقواها أثرا لكنه وهو الظاهر القوى جد مستعص على أن تقتحم مصاريع أبوابه الفولاذية.(1/104)
الإحساس العام بالنغم لا يستطيع الاقتراب من فقه نغم الشعر فضلا على أن يلج وأن يحلل وأن يعلل. هو إحساس مبهم غير قادر على الحركة ليصل إلى الجوهر والباعث ، ومن ثم يلجأ حين يعجز عن البيان والتفسير إلى الملاذ:
"هذا مما تدركه النفوس ولا تطيقه الألسنة" ونحو هذا:
ومرد هذا إلى أن حقيقة النغم الشاعر الساحر ليس شيئا عقليا تمكن الإحاطة به والنفاذ فيه ، النغم إحساس نفسي في إبداعه وتلقيه ، والنفس الإنسانية في حقيقتها وعملها وسائر أحوالها جد غامضة ، ومن ثم كانت الأشياء المرتبطة بها وجودا أو إدراكا أو تقديرا لآثارها ومنازلها جد غامضة أيضا. وقد أدرك أسلافنا النقاد ذلك:
يقول القاضى الجرحانى:
".... هو باب يضيق مجال الحجة فيه ، ويصعب وصول البرهان إليه وإنما مداره على استشهاد القرائح الصافية والطبائع السليمة التى طالت ممارستها للشعر ، فحذقت نقده ، وأثبتت عياره ، وقويت على تمييزه ، وعرفت خلاصه".
وإنما نقابل دعواك بإنكار خصمك ، ونعارض حجتك بإلزام مخالفك إذا صرنا إلى جملة من باب الغلط واللحن ، ونسبته إلى الإحالة والمناقضة.(1)
فأما وأنت تقول: هذا غث مستبرد ، وهذا متكلف متعسف ، فإنما تخبر عن نبو النفس عنه ، وقلة ارتياح القلب إليه.
والشعر لا يجب إلى النفوس بالنظر والمحاجة ، ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقابسة ، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة ، وبقربه منها الرونق والحلاوة ، وقد يكون الشئ متقنا محكما ، ولا يكون حلوا مقبولا ، ويكون جيدا وثيقا ، وإن لم يكون لطيقا رشيقا.
وقد يجد الصورة الحسنة والخلقة التامة مقلية ممقوته ، وأخرى دونها مستحلاة موموقة.
ولكل صناعة أهل يرجع إليهم في خصائصها ، ويستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها.(1)
__________
(1) * وذلك أنها من معدجن العقل والعلم ، وما كان كذلك كان موضوعيا تمكن معايرته ، أما ما كان معدنه النفس والذوق فلا سبيل إلى المحاجة والمعارضة فيه(1/105)
هذا من "القاضي الجرحانى" هاد إلى أنَّ كثيرا من معالم جمال الشعر وملامحه إنما معدنها النفس والذوق وأعلى ذلك نغم الشعر تدركه الطياع وكثيرا ما تعجز الألسنة عن البيان.
"حكى إسحاق الموصلى قال: قال لى المعتصم:
"أخبرني عن معرفة النغم وبينها لى.
فقلت: إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ، ولا تؤديها الصفة" (2) فهذا النغم حين يجرى في الشعر ويتسرب فيه يكون عجز العقل واللسان عن البيان والتحليل قريبا من أن يكون شركة بين كثير من قراء الشعر ومتذوقيه.
وإذا كان ما لا يدرك كله لا يترك كله ، كما دلنا الإمام عبد القاهر(3) فإن لنا أن تنظر في شئ من أنغام الشعر العربي لعلنا نقرب الأمر فنزداد قربا من فقهه ، وأن يكن الطبع مقبلا عليه ، ملتذا به ، مصغيا إليه.
للنغم في شعر العربية رافدان: رافد عام يتلاقى على شطانه شعراء العربية ، يغرفون من أنماط نغمه ما يتجاوب مع أصداء أنفسهم الشاعرة. وذلك ما يعرف بأنغام البحور (الوزن الشعري) وكلمة (وزن) في نفسها كلمة ماجدة الدلالة على أن أنغام هذه البحور أنغام تأذن لنا بضبطها ومعايرتها من جهة ، وعلى أنها هى نفسها تضبط حركة النغم فهى لأنغام النفس الشاعرة المائجة فيها عقلها الذي يضبط ويزن.
ولهذا يقوم هذا الوزن على التناسب الإيقاعى ، والتناسب دعامة من دعائم الجمال في الأشياء حسيها ومعنويها.
ورافد خاص بكل شاعر ، بل خاص بكل موقف شعرى للشاعر نفسه فهو لا يتكرر أبدا هو دائم التجدد. دفقات النغم فيه هى كموج البحر لا تتكرر ، كل موجة تأتى مرة واحدة ، ثم تتوحد في الأخرى ، لا تعود أبدا.
ذلك مجمل القول:
وشئ من تفصيله قد يكون معينا على فقه أنغام القصيدة وتحليل ما يتأتى تحليله وتعليله:
الرافد الأول: أنغام البحور(1/106)
اتخذ شعر العربية أنماطا من النغم تركَّبَ كل نمط منها من وحدات إيقاعية تعتمد على الحركة والسكون وتكررها ، فكانت أصغر الوحدات ما تركب من حركة فسكون ، وهو ما عرف بالسبب الخفيف ، وكان أكبرها الفاصلة الكبرى المكونة من أربع حركات متواليات فسكون.
ومن هذه الوحدات الوزنية للإيقاع تشكلت وحدات عرفت بالتفاعيل تتكرر في كل شطر من البيت على وجه معين ، فعامل التكرار عامل رئيس في تشكيل إيقاع الوزن في البيت الشعري ثم في بناء النغم في القصيدة كلها.
وهذا التكرار على مستوى الشطر من البيت أو الأبيات من القصيدة ليس تكرارا صلدا بل هو إلى التصريف الإيقاعى أقرب منه إلى التكرير إذا ما قلنا إن التكرير هو إعادة عين الوحدة المكررة دونما أدنى تغيير فيها سواء كان هذا في المستوى التركيبي (تكرار جمله ما) في القصيدة أوفى المستوى الإيقاعى مثل تكرار تفعيلة لا يحدث فيها أدنى تفسير نغمى ، أما إن كان ثم تغير كما في تفعيلة (متفاعلين) بتحريك التاء مرة وإسكانها في أخرى كما في قول عنترة:
هل غادر الشعراء من مترنم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
فإن هذا التكرار لتفعيلة (متفاعلين) فيه قد حدث تغير فى بعض مواقعه ، فكان حين ذاك تصريفا نغميا.
ومن ثم فإن ما يعرف بالزحاف والعلل فى أنغام الوزن الشعري هو في حقيقته ضرب من التصريف الإيقاعى في النغم يعادل التصريف البيانى في التراكيب ، وهو ما يعرف عند البلاغيين بمشتبه النظم.
المهم أن التفاعيل في الوزن الشعرى تشكل منها في العربية خمسة عشر أو ستة عشر نمطا كليا سمى كل نمط (بحرا) وهى تسمية نبيلة الدلالة ، كما كانت كلمة (وزن) نبيلة الدلالة:(1/107)
كلمة (بحر) من دلالتها اتساع مساحات النغم وعمقها وتجددها ، وأنها وإن بدت فى صورتها التجريدية (أى في الوجود الذهنى للبحر) كأنها جامدة صلدة معيارية حازمة ، فهى في صورتها الشعرية (أى في الوجود الإبداعى للقصيدة) قابلة لكثير من صور التصريف الإيقاعى المتجاوب مع حركة النفس الشاعرة.
ونحن إذ نحلل أنماط النغم وصوره فى الوزن الشعري (البحر) من خلال القصيدة التى هى مناط الفقه: التحليل والتأويل والتعليق لا نكون مهمومين كثيرا بمقايسة النغم فيها للمعايير التجريدية للبحر الذي تجرى أمواج النغم للقصيدة في مجراه وبين شاطئيه ، ولكنا نلاحظ مقدار التناسب بين الأصول الكلية للصورة التجريدية والتصريفات الإيقاعية التى تقع فيه وحركة النفس الشاعرة وما يموج فيها من المعانى والأفكار والمشاعر المنسابة من وجوه وفروق التراكيب وأنماط التصوير.
وتعدد ما عرف بالبحور والأوزان الإيقاعية للشعر لم يكن تشقيقا عبثيا ، كما قد يبدو من النظر فيما يعرف بالدوائر ، ولم يكن ترفا عقليا رياضيا يعشق الجمع والتقسيم... بل هو فى حقيقته قراءة تحليلية لمواقع إيقاعات النغم في الشعر العربي الذي وصلنا والذي وسع حركة النفس العربية الشاعرة ، وهى نفس لا تعرف السكون والكمون ، بل هى نفس فاعلة فواره جوابة بقطع أودية المعانى والأفكار والأخيلة في كل واد تهيم.
وإذا نظرت إلى واقع الدوائر العروضية التى تولدت منها البحور العروضية ألفيت أن أنماطا من الإيقاع في هذه الدوائر لم يتشكل منها بحر ولو كان الأمر توليدا عقليا لما كان هنالك مهمل فيها.
تعدد بحور الوزن الشعرى إذن ثمرة واقع الإيقاع الصادح من النفس العربية الشاعرة.(1/108)
وهو بلا شك متسق مع طبيعة تلك النفس في أسمى أطوارها: طور التغنى بأنغام الشعر أيا كان نوع ذلك النغم وطابعه ، والخروج على أنغام تلك النفس العربية الشاعرة هو في حقيقته خروج النفس عن عروبتها وانسلاخها من قوميتها وإذا ما تعالت الأصوات بالاعتزاز بالولاء القومى: عقيدة وعرقا في وجه الترويج الإعلامى العالمى لما سمى "بالعولمة" الساعية إلى إذابة القوميات الصغرى في بوتقة أو قبعة "العم سام" فإن من أصول الولاء للقومية ولاسيما القومية الممزوجة بالدين كالعروبة والإسلام أن نغرى الناس بالاستمساك بكل ما هو من ذوب نفوسهم العربية المسلمة ، وفى صدر هذه الأشياء أنغام شعرنا العربى ، وأنماط إيقاعه.
أرى أن الحفاظ على أصول هذا الإيقاع أنماطه وصوره هو فى حقيقته من الحفاظ على هوية هذه الأمة العربية ، وهى إذا ما فرطت فى شئ من عروبتها أو شئ منسل من عروبتها فإنها المفرطة في أشياء من دينها ، لأن عروبتنا لسانا وعقلا وقلبا وهمسا هى من ديننا من إسلامنا ، لأن أرواحنا وقلوبنا التى ندين بها لله عز وجل – نحن العرب – فتخضع جوارحنا وتلين له إنما هى من ألسنتنا ، وقد علم الله عز وجل – ذلك منا فقادنا إلى دينه الإسلام ، إلى جنته ومرضاته من ألسنتنا التى سكنتها قلوبنا وأرواحنا.
الحفاظ على أصول إيقاع أنغام شعرنا العربى الماجد هو من عروبتنا التى هى مزيج ديننا وعقيدتنا ، وفى فقه إيقاع تلك الأنغام عون على أن نشفى من فتنه الاستخزاء النفسى والانبهار بثقافة الآخر ، ذلك الأعجمى المتربص بنا على الشاطئ الغربى المفعم غيظا وحنقا على حضارة الإسلام.
ومحاولة فقه أنغام الوزن الشعرى للقصيدة تجمع بين أمرين رئيسين:(1/109)
الأول: استبصار تكوينات المجموعات النغمية (التفعيلات) في مساحة البيت ، والوقوف على أنماط هذه التفعيلات: أمتوحدة كما بحر "الوافر" "والكامل" "والبسيط" "والرمل" "والرجر" "والمتقارب" "والهزج" "والمتدارك" أم متنوعة كما في "الطويل" الجامع بين تفعيلة "المتقارب" (فعولن) وتفعيلة "الهزج" (مفاعيلن) وكما في "المديد الجامع بين تفعيلة "الرمل" (فاعلاتن) وتفعيله "المتدارك" (فاعلن)... الخ.
هذا التوحد في التفعيلة المتكررة أو المتصرفة لا يكون كمثله التعدد فى طبيعة الحركة النفسية المتجاوب معها النغم فى كل.
الوقوف على تغير أعداد الحركات والسكنات ومواقعها وصور هيئتها يعين على التبصر ببعض ملامح حركة النفس الشاعرة المتغنية بما يموج فيها من دقائق ولطائف المعانى والمشاعر وامتداد الأخليه واقترابها.
والأمر الآخر: استبصار ما يحدث في تلك المجموعات النغمية (التفعيلات) من تصرف نغمى بالحذف أو الزيادة في بعض مواقع تدفق النغم وارتباط هذه التصرفات بحركة النفس الشاعرة المائجة بفيض المعانى والمشاعر والأخيلة فهذه الزخافات والعلل وقاية لحركة أنغام الوزن من داء المعيارية الصليب الذى يفتك بطاقات النفس الشاعرة.
وهذه التصرفات النغمية في التفعيلات المكونة أنغام وزن البيت الشعرى فى القصيدة هى فى واقعها لبست ضرورة يقع الشاعر فيها وإنما هى "أصل في تنوع النغم يعطيه شيئا جديدا ، ويكسبه معانى جمة لا تكاد تحصر..." (4)
وهذا يقضى بأن دعائم فقه أنغام (التفعيلات) وما يحدث من تصرفات نغمية فيها في المساحة الزمنية – أن صحت العبارة – للبيت من جهة وما يقوم في نفس الشاعر من شريف المعانى ولطيف المشاعر وطليق الأخيلة ، فهذه العلاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة الآنفة دعامة رئيسية من دعائم وحدة القصيدة أو تلاحم أجزائها كما يقول أسلافنا.
وتبقى إشارة عجلى إلى قضية ذات رحم بما تحن فيه الآن: العلاقة بين بحور الشعر العربي وأغراضه ومعاينه.(1/110)
تلك القضية كان النقاد قديما وحديثا إزاءها طائفتين:
طائفة ترى أن الأغراض والمعانى لا تستوجب أنواعا متعينة من بحور الشعر العربى ، فالغرض الواحد من الشاعر يأتى في عدة بحور ، وقد لا تكون هذه البحور متقاربة في تفعيلاتها أو امتداد النغم فيها أو قوته أو غير ذلك.
وكذلك البحر الواحد تجد الشاعر يجرى فيه أغراضا عديدة قد تكون مختلفة في طبيعتها والنظر في ديوان من دواوين شعرائنا مصدق ذلك.
ولم يلغ نظرى قولا من السلف يؤذن بالتصريح بالرفض للعلاقة التلازمية بين الغرض والبحر ، وأن لكل غرض بحره الذي لا يتهادى إلا على أنغامه ، وأن لكل بحر غرضه الذى لا ينساب نغمه إلا فيه.
وكان هذا الرفض مصرحا به في مقالات بعض المحدثين:
يقول "غنيمى هلال": "والحق أن القد ماء من العرب لم يتخذوا لكل موضوع من هذه الموضوعات وزنا خاصا ، أو بحرا خاصا من بحور الشعر القديمة فقد كانوا يمدحون وتفاخرون ويتغازلون في كل بحور الشعر ، وتكاد تتفق المعلقات فى موضوعاتها ، وقد نظمت من "الطويل" "والبسيط" "والخفيف" "والوافر" "والكامل" ، ومراثيهم في "المفضليات" جاءت من "الكامل" "والطويل" "والبسيط" والسريع والخفيف. والأمر بعد ذلك للشاعر" (5)
فهذا دال على أنه لا علاقة بين الوزن الشعرى والأغراض التى تعرض لها القصائد ويؤكد هذا "شوقى ضيف" قائلا:
"ولابد أن أشير هنا إلى أننا لا نؤمن بما ذهب إليه بعض المعاصرين من محاولة الربط بين موضوع القصيدة والوزن الذي تنظم فيه ، فحقائق شعرنا تنقض ذلك نقضا تاما ، إذ القصيدة تشتمل على موضوعات عدة ، ولم يحاول الشعراء أن يخصصوا الموضوعات بأوزان لها لا تنظم إلا فيها ، فكل موضوع نظم في أوزان مختلفة ، وكل وزن نظمت فيه موضوعات مختلفة.(6)
ويدور كثير من النقاد على هذا مؤكدين ذلك المذهب.(7)(1/111)
وتأتى طائفة أخرى ترى علاقة حميمة عند الشعراء الفحول بين الأغراض والأوزان ولعل هذا المذهب تبدو ملامحه في نقدنا القديم فيما قاله "ابن طباطبا" "وابن العميد" "والعسكرى"
ونجد هذا عند الطائفة التى اغترقت مما ترجم عن النقد اليونانى من أمثال ابن سينا وابن رشد والغارابي ثم حازم القرطاجنى.
ومن المحدثين نرى "سليمان البستانى" في مقدمة ترجمة "الإلياذة" إلى العربية شعرا ، وأحمد أمين وعبد الله الطيب المجذوب و"أحمد الشايب".
يقول "ابن طباطبا العلوى" (ت 322 هـ):
فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه فى فكرة نثرا ، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التى تطابقه والقوافى التى توافقه ، والوزن الذى يسلس له القول عليه ... "(8)
ما قاله "ابن طباطبا" في هذا بعيد عن الواقع الإبداعى للقصيدة ، فإعداد المكونات الصوتية والمعنوية للقصيدة قبل إبداعها لا يكون من شاعر يقرض الشعر من نفسه المفعمة بما يعتلج فيها من الموقف الشعرى له إزاء حدث ما من أحداث الحياة. الشاعر على ما زعم "ابن طباطبا" يكون حاله حال عالم أو باحث فى ضرب من ضروب العرفان أريد منه أن يلقى بحثا أو محاضرة في الناس ، ولا أحسب أبدا أن أحدا يقول إن حال الشاعر فى قرض القصيدة من ذوب نفسه الشاعرة بما لا يشعر به غيره وحال العالم في إعداد بحثه سواء. لا يقولها أحد يعتد بقوله.
و"ابن العميد" (ت 360 هـ) يحكى "الصاحب بن عباد" (ت 385) عنه قائلا ، " وسمعته – أيده الله – يقول: إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر ، ويبتدأ النسج ، لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذى قصده والمعنى الذى اعتمده وينظر فى أى الأوزان يكون أحسن استمرارا ، ومع أى القوافى يحصل أحمد اطرادا ، فيركب مركبا لا يخشى انقطاعه به ، والتياثه عليه ... "(9)(1/112)
وهذا أيضا لا يكون إلا فى الشعر الذى لا يقرض من النفس الشاعرة ولكنه يكون فى نظم أريد من الشاعر ليس له باعث من نفسه ولكن له طالب من خارجه ، والشاعر فيه نازل على أقدار الأغيار ، فما يكون باعثه من داخله قرض له الشعر من نفسه وقده من ذاته ، وما يكون طالبه من خارجه لم يقرض له شعرا وإنما نظم له قولا مؤلفا معقودا بقواف.
ولسنا فى شأن ما ينظم وإنما فى شأن ما يقرض.
"وإبو الهلال العسكرى" لم يعد أن يكون ملفوظه فى هذا من معدن ما قال "ابن طباطبا" و"ابن العميد" وهذا شأن العسكرى فى كثير من كتابه "الصناعتين" يقول: "وإذا أردت أن تعمل شعرا ، فأحضر المعانى التى تريد نظمها فكرك ، وأخطرها على قلبك ، واطلب لها وزنا يتأتى فيه إيرادها وقافيه يحتملها ، فمن المعانى ما تتمكن من نظمه فى قافية ولا تتمكن منه فى أخرى ، أو تكون فى هذه أقرب طريقا وأيسر كلفة منه فى تلك ... ."(10)
ويأتى "أبو الحسن حازم بن محمد بن الحسن القرطاجنى" (ت 684 هـ) فيبسط القول فى هذا على نحو آخر قائلا:
"ولما كانت أغراض الشعر شتى ، وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الصغار والتحقير وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس.
فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة البهية الرصينة ، وإذا قصد فى موضوع هزليا أو استخفافيا وقصد تحقير شى أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء وكذلك فى كل مقصد.
و كانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزنا يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره. وهذا الذى ذكرته من تخييل الأغراض بالأوزان قد نبه عليه "ابن سينا" فى غير موضع من كتبه ... ." 1هـ(11)
ثم راح يبسط القول فى سمات كل بحر ووزن معلنا أن (من تتبع كلام الشعراء فى جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان ، ووجد الافتتان فى بعضها أعم من بعض ... الخ.(1/113)
فالعروض الطويل نجد فيه أبدا بهاء وقوة ، ونجد للبسيط سباطه وطلاوة ونجد للكامل جزالة وحسن اطراد وللخفيف جزالة ورشاقة ... الخ.
وكلامه فى هذا مديد قد يستأنس بروحه وفحواه لا بحروفه ودعواه فليس الذى قاله بالمطرد ، فما كان من ذوب النفوس لا قبل للمعايير والمقاييس بضبطه وعقله.
وفي الحديث يأتينا الشاعر اللبنانى "سليمان البستاني" (ت 1925م) فى مقدمة ترجمته "الياذة" "هوميروس" إلى العربية شعرا فيجدد القول فى هذا ويسعى إلى تطبيقه فى ترجمته ، يقول:
"رأيت أن أذكر فى ما يلى ما تيسر لى استخراجه من شعر العرب بالنظر إلى ترابط بحور الشعر بمواضيعه وأبوابه ، فقد راعيت هذا الترابط فى بعض الأناشيد ، فأدت المراعاة إلى فائدة يحسن التعويل عليها فى بعض الأحوال
ولاشك أن العروضيين نظروا إلى أبحر الشعر من هذه الوجهة ،ولكنهم لم يزيدوا علىتسميتها بأسماء تنطبق على مسميات مواضيع القصائد المنظومة عليها ،فقالوا :هذا "طويل" ،وذاك "بسيط" ،وذلك "خفيف" أو"سريع" وهلم جرا ووقفوا عند هذا الحد،ولكنه يستفاد من هذه التسمية أن لكل بحر ساحلا يقف عنده ويرشد اسمه إليه ،فإذا قلنا هذا بحر " طويل" علمنا أنه لايسوغ أن ننظم عليه الأهازيج والموشحات والأغانى ،وإذا قلنا هذا بحر مقتضب أو مجتث علمنا أنهما لايصلحان للمنظومات على إطلاقها ،ولايصح فيهما تدوين الروايات والتواريخ ...)(12)
ويأتى عبد الله الطيب متوسعا فى الدعوى وبياتها وتطبيقها أو استخراجها من شعر العربية ، يقول:
"مرادى أن أحاول بقدر المستطاع تبيين أنواع الشعر التى تناسب البحور المختلفة.. فاختلاف أوزان البحور نفسه معناه أن أغراضا مختلفة دعت إلى ذلك ، وإلا فقد كان أغنى بحر واحد ووزن واحد ، وهل يتصور فى المعقول أن يصلح بحر الطويل الأول للشعر المعبر عن الرقص ، والنقزان والخفة ، أو يظن من الممكن أن تصاغ كلمة "الأخطل".
خف القطين فراحوا منك أو بكروا ... وأعجبتهم نوى فى صرفها غير(1/114)
فى بحر الرجز ، المجزوء المخبون ، الذى منه قول "شوقى"
فما اجتماعنا هنا ... يا عضر فوت ، ما الخبر ؟
لا أدر تلك ضجة ... حضرتها فيمن حضر
ومن كابر فى مثل هذا ، إنما يغالط نفسه فى الحقائق ، ويسومها طلب المحال.(13)
ثم بسط القول فى طبيعة إيقاع كل بحر من بحور عروض الشعر على اختلاف أعاريضها وضروبها وفى بيان ما يتناغى معها من المعانى والأغراض والموضوعات وطال نفسه فى هذا جدا وكان شغوفا بالتمثيل والتحليل ، فهو جدير بأن يعتنى بصنيعه ودراسته وتقويمه فى دراسة خاصة يقوم بها عليم بضروب النغم فى شعر العربية ، مرهف الحس بأجراسها وإيقاعها.
والذى هو إلى واقع القصيدة العربية أن القول بأنه ليس هنالك أى علاقة بين الوزن الشعرى ومكونات القصيدة فكرا وشعورا وأخيلة وأن هذه المكونات يمكن أن تجرى فى أى بحر من بحور الشعر العربى ، وكذلك القول بأن هنالك علاقة تلازمية بين الأغراض والأوزان كل منهما قول مطعون مضرج.
واقع القصيدة العربية دال على أن الحالة النفسية للشاعر والموقف الشعرى من الحياة وما يتولد منه فكرا وشعورا هو الذى يصطفى الوزن الشعرى دون تدخل قسرى من الشاعر ، فإن الموقف الشعرى هو الخالق فى الشاعر المعانى والأفكار والأخيلة والمشاعر والعواطف والأنغام برافديها.
وما يقوله "ابن طباطبا" و"ابن العميد" و"العسكرى" هو مما لا سبيل إلى استساغته ، فهو إلى التصور التجريدى أقرب منه إلى الواقع الإبداعى للقصيدة العربية.
العلاقة الروحية قائمة بين الأوزان والعواطف والمواقف الشعرية ، وليست قائمة بين الأغراض والموضوعات والمعانى المغسولة من التصوير الشعرى.
وهذا الذى استعليته واسترضيته قال به كثير من النقاد وأهل العلم بالشعر وٍإيقاع أنغامه.
بقول "إبراهيم أنيس":
"نستطيع ونحن مطمئنون أن نقدر أن الشاعر فى حالة اليأس والجزع يتخير عادة وزنا طويلا كثير المقاطع يصب فيه من أشجانه ما ينفس عن حزنه وجزعه.(1/115)
فإذا قيل الشعر وقت المصيبة والهلع تأثر بالانفعال النفسى وتطلب بحرا قصيرا يتلاءم وسرعة التنفس وازدياد النبضات القلبية
ومثل هذا الرثاء الذي قد ينظم ساعة الهلع والفزع لايكون عادة إلا في صورةمقطوعة قصيرة لاتكاد تزيد أبياتها على عشرة أماتلك المراثي الطويلة فأغلب الظن أنها نظمت بعد أن هدأت ثورة الفزع واستكانت النفوس باليأس واهم المستمر 0
ثم يقول :"ويحسن بعد كل هذا الا نفرض قواعد معينة يلتزمها الشاعر في تخير وزن من الأوزان تحت تأثير عاطفة خاصة ،وعلى ناقد الأدب أن يبجث هذا بحثا مستقلا في كل قصيدة ،ليرى من معانيها وموضوعها ما إذا كان الشاعر قد وفق في تخير الوزن أو لم يحسن الاختيار 000"(14)
فهو ناظر إلى العلاقة بين طبيعة الإيقاع وصورته وبين طبيعة الانفعال النفسي المعتلج فى صدر الشاعر.
و"محمد النويهى" يبسط قوله فى مثل هذا فى دراسته قصائد من الشعر الجاهلى.
فى دراسته قصيدة "الجميح بن الطماح الأسدى" التى مطلعها:
يا جار "نضلة" قد أنى لك أن ... تسعى بجارك فى بنى هدم
وهى مروية فى المفضليات برقم (109) ص (366) من ثلاثة عشر بيتا ، بقول "النويهى"
"أول ما نلاحظه هو هذا الوزن الذى اختاره "الجميع" لقصيدته فهو ينظمها على بحر "الكامل" وقد ذكرنا فيما مر كثرة حركات هذا البحر وسرعة تواليها ، لكنه لا يستعمل الكامل التام ، بل يستعمل "الكامل الأحذ" أى الذى دخله "الحذذ": وهو حذف الوتد المجموع الأخير من التفعيلة الأخيرة فى كل شطر فالصورة التامة للكامل (وهى التى استعملها الحاردة لعينيته) تحتوى على ثلاث تفاعيل تامة فى كل شكر هى: "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" لكن "الجميح" يستعمل الصورة "الحذاء" وفيها تحذف (علن) من التفعيلة الثالثة فى كل شطر ، فيصير (متفاعلن متفاعلن متفا) أو (متفاعلن متفاعلن فعلن).(1/116)
ولهذا "الحذ" وقع شديد على الأذن وإثارة عنيفة للنفس ، بما يحدث من البتر المفاجئ فى آخر كل شطر ، تشعر بهذا الوقع إذا نطقت بالصورة التامة بضع مرات "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" ثم نطقت بالصورة الحذاء "متفاعلن متفاعلن متفا" فسمعت ما لهذا البتر من مفاجأة وعنف ، وأدركت أن الصوت يرتفع فى "متفا" الأخيرة فى كل شكر بصرخة طويلة حادة.
وهذا ينسجم انسجاما قويا مع ما يغلى فى نفس الشاعر من الغضب المزمجر والحقد المتلظى.
فإذا تذكرت سرعة حركات "الكامل" فى ذاته ، ثم أضفت إليها هذا البتر المفاجئ العنيف الذى يدخلها رأيت أن القصيدة بمجرد إيقاعها العام جيدة التصوير لهذا البدوى فى أشد غيظه يجيش صدره كالمرجل ويزلزل الغضب كل عصبة من جسمه ، وينتقل على هذا الإيقاع المجلجل فى الموجات الثلاث المتتابعة التى تتكون منها هذه القصيدة القصيرة من سخرية مرة وهجاء أليم إلى توعد مخيف بالانتقام الماحق إلى صرخة مجروحة على صديقه الذى قتل غدرا تم إذا تأملت فى الضرب ، وهو الجزء الأخير من الشطر الثاني فى كل بيت ، وجدته قد دخله الإضمار ، وهو تسكين الحرف الثانى بدلا من تحريكه ، وهو "التاء" فى "متفا" ، وبهذا تتوالى فى آخر كل بيت ثلاثة مقاطع عظيمة الحدة ، كل منها ينتهى بالتسكين: "لن ، مت ، فا" تطعن السمع والقلب طعنات متوالية كطعنات المدية فتضاعف من إضرابنا بسخط الشاعر وتوعده وصرخته ... " (15)
بسطت لك النقل فى هذا لتقف على شئ من مذهب الرجل فى استشعاره العلاقة الحميمة بين إيقاع النغم فى القصيدة وإيقاع النفس الشاعرة الفياضة.
وهو ذو شغف بمثل هذا فى كتابه القيم: الشعر الجاهلى: منهج فى دراسته وتقويمه" وهو كتاب جدير بالدراسة النافدة ما فيه.(1/117)
وإذا ما كان "شوقى ضيف" قد نفى أن تكون علاقة بين الأغراض والأوزان – كما سيقت الإشارة إليه – فإنه فى معرض تقده موقف الشعراء المحدثين من أوزان الشعر العربى ودعوتهم إلى التحرر من الأخذ بها فى إبداع القصيدة الحديثة ، نعى عليهم إعراضهم وموفقهم من أوزان الشعر العربى الموروثة والمستخرجة من واقع القصيدة العربية الذى هو فى حقيقته واقع النفس العربية – هذه الأوزان الوسيعة التى "قد وجد فيها شاعر القصيدة المقفاة الأبيات قديما وحديثا مادة خصبة لينوع فى إيقاعات أشعاره وأنغامها وليتخذ من هذه الأنغام والإيقاعات ما يتلاءم وواقعة النفسى.
فهو مثلا إذا صور موقعة حربية اختار لها وزن "الطويل"الفخم ، وقد يختار وزن "البسيط" للينه ، وإذا صور عاطفة مرحة اختار لها وزنا قصيرا كالمغتصب والمجتث.
وناهيك بتجزئات الأوزان وما تحمل من إيقاعات وأنغام تتيح للشاعر تصرفا واسعا فى التعبير عن مختلف أحاسيسه وانفعالاته.
وكل ذلك واضح الدلالة على أن موسيقى القصيدة الموروثة زاخرة بإيقاعات وأنغام لا تكاد تحصى ، وأن كل ما فى الأمر أنها تحتاج إلى عازفين مهرة ، يجيدون العزف على أوتارها عزفا تفيض فيه أنغامها بنفس مسافات الزمن وذبذبات الصوت ورناته التى طالما راعتنا عند شعرائنا المشهورين فى القديم والحديث.
ويظن من يقف عند ظاهرها أنها موسيقى مكررة معادة (1)
ولا يوجد فى موسيقى الشعر ما يكرر ، ويعاد ، بل كل موسيقى لشاعر هى موسيقى خاصة به.
وهل موسيقى "البحترى" كموسيقى "ابن الرومى" ، أو موسيقى "أبى تمام" كموسيقى "المتنبى" أو موسيقى البارودى" كموسيقى "شوقى" ؟
إنهم يعزفون على أوتار قيثارة واحدة هى قيثارة القصيدة ، مع ذلك لكل منهم موسيقاه وكأنما ولدت معه ، وإذا تتجلى عند كل منهم فى معرض نغمى جديد.(16)
__________
(1) * ينظر فى هذا الذى ينقده "شوقى ضيف" ما قاله "عز الدين إسماعيل" فى كتاب "التفسير النفسى للأدب" ص 70-71 (ط4– غريب)(1/118)
فالعلاقة بين إيقاع الوزن الشعرى وإيقاع النفس الشاعرة جد وثيقة ، فأنغام الشعر إنما هى أنغام نفس شاعرة منفعلة بحدث ما من أحداث الحياة وقارئ الشعر المتذوق نغمه ليست له متدوحة عن أن يستهتر فى التشاغل عن الاختلاف بين الوزن الشعرى للقصيدة ومكوناتها ، وليس نغم الوزن إلا مكونا فى مكونات المعنى الشعرى فى القصيدة ، ولابد أن نفقة علائق المكونات بعضها ببعض.
والفقه التحليلى للقصيدة من غاياته الماجدة تحليل الواقع الإبداعى لهذه القصيدة وكشف حقيقة العلاقة بين الوزن الشعرى وسائر المكونات الصوتية والمعنوية ونوع تلك العلاقة ودرجتها ، فالوزن الشعرى رافد من روافد نغم القصيدة وسائر المكونات الأخرى رافد آخر من روافد هذا النغم ولابد أن يكون إيقاع الرافدين متجاوبا متتاغيا واكتشاف درجة التجاوب والتناغم هم عظيم من هموم القارئ المتذوق القصيدة تحليلا وتأويلا وتعليلا.
*****
الرافد الآخر: أنغام البيان:
ما مضى فى أنغام بحور الشعر وأوزانها التى يمثل كل بحر منها وترا من أوتار قيثارة الشعر العربى لكل وتر (بحر) أنغامه ، ومع تلك الأنغام أنغام أخرى تتجاوب معها وتتناغى تنبعث من سائر مكونات القصيدة الأخرى: من أصوات حروفها وحركاتها وتراكيبها فى ألفاظها وحمله وصورها وأخيلتها وعواطفها ، كل ذلك يعزف نغما ، يسميه بعض نقده الشعر الموسيقى الخفية أو الداخلية أو موسيقى التعبير أو موسيقى الحشو. بينما يسمى النغم الأول (نغم البحور) الموسيقى الظاهرة أو الخارجية أو موسيقى التركيب أو موسيقى الإطار.
وإذا ما كانت أنغام البحور فى الشعر العربي صادرة من أوتار القيثارة العربية ذات الستة عشر وترا كل وتر يسمى بحرا فإن أنغام البيان تصدر من العزف على أوتار جد عديدة ومتنوعة ، وأنغامها خاضعة لمهارة العازف خضوعا عظيما وغير قليل من درجات إيقاع نغمها معزوف من المبدع والمتلقى معا وأنغام البيان (الموسيقى الداخلية ... ) يجمعها ضربان كليان:(1/119)
الأول: حسن اختيار الكلمات وتنسيقها.
الآخر: علاقة الأصوات بالمعانى الإفرادية والتركيبة.
أنغام البيان مرجعها إلى واحد منها أو إليهما معا وهذا مغر كل قارئ يتذوق أنغام القصيدة: تحليلا وتأويلا وتعليلا أن يدمن التفرس فى هذين الضربين.
ومن قدم قال عبد القاهر من بعد أن بين سمات بلاغة الخطاب وهدى إلى أنها حسن دلالته وتمامها وتبرحها فى صورة بهية معجبة قال:
"ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتى المعنى من الجهة التى هى أصح لتأديته".
وتختار له اللفظ الذى هو أخص به وأكشف عنه ، وأتم له ، وأحرى بأن يكسبه نبلا ، ويظهر فيه مزية.(17)
فانظر كيف أنه جعل الطريق إلى تلك الخصال إتيان المعنى من جهته ، وأوجز عبارته فى هذا وهو إيجاز موح بمنزلة ما يبين عنه فى هذا ، ثم بسط العبارة فى الحديث عن اللفظ ، ووصفه بصفات خمس كل وصف منها له قدره وله دلالته.
(هو أخص بالمعنى.
وأكشف عنه.
وأتم له.
وأحرى بأن يكسبه نبلا.
ويظهر فيه مزية)
وهذه البسطة فى الوصف دالة على منزلة الموصوف (اللفظ) ، وهذا مشاكل لصنيعه فى بيان خصال صورة الدلالة: "تم تبرحها (أى الدلالة) فى صورة هى أبهى وأزين وأنق وأعجب وأحق بأن تستولى على هوى النفس ، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب ، وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رغم الحاسد".
فانظر كيف نعت صورة الدلالة بهذه النعوت الثمانية ، فدل ذلك على مقدار هذه الخصلة ومنزلتها وأنها مجلى الخصلتين السابقتين:
حسن الدلالة وتمامها.
فعبد القاهر قد أكد ضرورة الإحسان فى اختيار الكلمات وتنسيقها وهذه الكلمات هى فى حقيقتها وحدات صوتية تحمل فى سياقها الشعرى إيقاع أنغام النفس الشاعرة.
فعلى قارى الشعر ومتذوقه أن يعنى بتحليل الوحدات النغمية وسياقاتها فى الشعر ، وأن يبين علائق التناسق والانسجام والتآلف وما تولد من تلك العلائق من معان شعرية هى من مكنون النفس الشاعرة المتغنية بتلك الوحدات الصوتية.(1/120)
والكلمة فى سياقها الشعرى ذات أبعاد صوتية عديدة تقوم من نظام التكرار والتماثل والتوازن والتقابل ... .الخ وهى فى حقيقتها تمثل الوجوه والفروق النغمية بين الكلمات وما تكون منها.
وإذا ما كان "عبد القاهر" قد انطلق فى تأمل جمال البيان وبلاغته من الوعى بفروق ووجوه العلائق الروحية بين معانى الكلام فى مستوى بناء الجملة ، وتقريره "أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها.
ثم أعلم أن ليست المزية بواجبة لها فى نفسها ومن حيث هى على الإطلاق ولكن تعرض بسبب المعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام ثم يحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض"(18)
فهذه ثلاثة ترجع إليها مزية الفروق والوجوه فى علاقات معانى الكلام بعضها ببعض – إذا ما كان عبد القاهر ذلك منطلقه فإن هنالك مرحلة سابقة على هذه ، وهى كالوطاء لها من جهة ، وكالمؤكد لها من أخرى هى مرحلة الوعى بفروق ووجوه العلائق النغمية بين أصوات الحروف والحركات فى بناء الكلمة والجملة.
كان البلاغيون فى جعلهم مقدمة علم البلاغة مشتملا على ما يعرف بعيوب فصاحة الكلمة والكلام على وعى طيب بقيمة العناية بالفروق والوجوه النغمية بين أصوات الحروف والحركات فى بناء الكلمة ، واشترطوا خلو الكلمة بما يعرف بتنافر الحروف (الأصوات)
وكلمة (تنافر) وصف جيد لما لا تطيقه الأذن من سوء العلاقة بين أصوات الحروف والحركات ، لأن حسن العلاقة بينهما يولد التناسق والانسجام والتآلف الذى هو الدعامة الرئيسة من دعائم الجمال فى شتى الأشياء الحسية والمعنوية.
وقد بالغوا فى التدقيق فى هذا.
يحكى "الصاحب بن عياد" عن موقف له مع أستاذه "ابن العميد" قائلا:
"أنشدت يوما بحضرته كلمة أبى تمام التى أولها:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدى ... ومحت كما محت وشائع من برد
إلى قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معى ، وإذا ما لمته لمته وحدى
فقال: هل تعرف فى هذا البيت عيبا ؟(1/121)
فقلت: بلى ، قابل المدح باللوم ، فلم يوف التطبيق حقه ، لأن حق المدح أن يقابل بالهجو أو الذم ، على أنه قد روى: ومتى ذمته ذمته وحدى.
فقال: – أيده الله – غير هذا أردت
قلت: ما أعرف !!
فقال: أجل ما يحتاج إليه فى الشعر سلامة حروف اللفظ من الثقل.
وهذا التكرير فى "أمدحه أمدحه" مع الجمع بين "الحاء" و"الهاء" مرتين ، وهما من حروف الحلق خارج عن حد الاعتدال ، نافر كل النفار.
فقلت: هذا ما لا يدركه ، ولا يعلمه إلا من انقادت إليه وجوه العلم ، وأنهضه إلى ذراها طبعه"(19)
و"عبد القاهر" نفسه يؤكد أهمية التناسق الصوتى فى بلاغة الكلام ولكنه يأبى أن يجعل ذلك كل شئ فى البيان أو هو الأصل والعمدة يقول:
"وأعلم أنا لا تأبى أن تكون مذاقه الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفصيلة ، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز ، وإنما الذى تنكره ونقيل رأى من يذهب إليه أن يجعله [أى القرآن الكريمٍ] معجزا به وحده ، ويجعله الأصل والعمدة"(20)
وهو بهذا يؤكد ما سبق أن قرره من أن التلاؤم اللفظى وتعديل مزاج الحروف أحد ما يتفاضل به الكلام ووجه من الوجوه التى تقتضى تقديم كلام على كلام وأن ذلك وأن كان كذلك قدره إلا أنه لا يرتضى أن يكون ذلك العمود فى بلاغه الخطاب(21)
وهذا الذى ارتضاه والذى أباه "الإمام" هو الذى لا يكون غيره ممن لهم فى فقه البيان منزلة عليه.(1/122)
المهم أن البلاغين والنقاد كان لهم فضل عناية باستبصار العلاقات النغمية بين مكونات الألفاظ والجمل ، وكأتى بهم وهم يبالغون فى اشتراط النقاء النغمي للكلمات وتعديل مزاج الحروف والحركات خارج وجودها الشعري فإنما يدلون بهذا على اشتراط ذلك حين تكون الكلمة فى سياقها الشعرى ، فهم لا يهتمون بشرائط الفصاحة الذاتية للمفردات قبل وجودها الشعرى على حساب فصاحتها السياقية. وأن كان حالهم فى الأولى إلى التصريح وفى الأخرى إلى التلويح ، ولو أنهم منحوا الفصاحة السياقية مزيدا من النيابة والتصريح لكان ذلك الأعلى.
الشاعر ذو عناية بليغة باستثمار الطاقات النغمية لكلماته وجمله ، لأنه يرى فى هذه الطاقات اقتدارا على الإيحاء بما يعتلج فى صدره ، ومن شأن الدلالة الإيحائية أن تكون متسعة الأرجاء تمنح المتلقى أبعادا تتجاوب مع طاقاته فى التلقى ، وقد أوما البلاغيون إلى مزية الدلالة الإيحائية فى فتح مجالات التأويل واستنباط المعانى ، وذلك فى بيانهم أن من أغراض حذف بعض عناصر البيان أن تذهب النفس فيه كل مذهب.
فدلالة "الحذف" على المعانى دلالة إيحائية عظيمة القدر والأثر ، وهذا وجه من وجوه قول "عبد القاهر" عن الحذف فى صدر الفصل الذى عقده له:
"هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"(22)
تأمل قوله: دقيق المسلك لطيف المأخذ ، عجيب الأمر شبيه بالسحر.
وتأمل تركه العطف بين هذه النعوت ، فادرج على سبيل التعديد من وجه والتناسل من وجه آخر.
وتأمل قوله (ترك الذكر أفصح من الذكر... وما بعده يدلك على عظيم إبانة الإيحاء ، وأنه يفجر من الخفاء جلاء ومن الغيبة حسا الحضور والشهود شعورا.(1/123)
وتأمل من بعد ومن قبل صنيع "عبد القاهر" فى بيانه عن هذا: كيف استثمر التنعيم فى تصوير ما أراد إيصاله إليك من عظيم شأن الحذف ، وكأنه يوحى إليك بصنيعه اليبانى أن فى الإلمام والتآلف الصوتى اقتدارا على حمل ما لا يطيقه إلا فيض من البيان المبسوط الممدود:
تأمل هذا الإيقاع النغمى بين (دقيق المسلك ، لطيف المآخذ) وبين (عجيب الأمر ، شبيه بالسحر) وبين (ترى – ترك) (الذكر – الذكر) وما تراه فى بقية العبارة من التناغم الصوتى والتقابل الدلالى.
كل هذا دال على أن البنية النغمية فى وعى البلاغيين وإمامهم "عبد القاهر" ذات اقتدار عظيم على تصوير ما تعجز عنه بنية التراكيب. والذى يقرن ما صرح به "عبد القاهر" فيما يعرف عند البلاغيين بالتحسين اللفظي أو البنية النغمية للبيان بما هو قائم فى بيانه هو عن مراداته أو بعبارة أجلى: يقارن بين بيان عبد القاهر عن معانيه وآرائه وتبيينه الآراء والمذاهب وبيان الآخرين سيجد أن للبديع النغمي (المحسنات اللفظية) بل والمعتوية غلية على بيانه ، وأن لم يمنح هذا البديع مزيدا من دراسته وتحليله ، لأنه كان المهموم بالوفاء بحق تحليل عمود بلاغة الخطاب (النظم) وكأتى بعبد القاهر أراد لنا أن يستخرج موقفه الحقيقي من البديع ومن التنغيم ومما يعرف بموسيقى البيان أو الحشو أو الموسيقى الداخلية من خلال بيانه هو عبارته عن معانيه.(1/124)
نجده فى دلائل الأعجاز وأسرار البلاغة ذا عناية بليغة بالتنعيم واستثماره فى الإيحاء بعظيم المعانى وجليلها. ولو جمعت هنا ما افتتح به كلامه فى التقديم والتأخير والفصل والوصل لرأيته معتنيا بإيقاع أنغام البيان على نحو جد بديع(1)
حسن اختيار الكلمات وتنسيقها ، وعلاقة الألفاظ بالمعانى هما معدن أنغام البيان (الموسيقى الداخلية) كما أشرت من قبل. ومعالم هذين فى فقه النغم عند البلاغين والنقاد جد عديدة.
ومن أظهر المعالم "التكرار" سواء تكرار أصوات الحروف والحركات فى بناء الكلمة أو تكرار الكلمات فى بناء الكلام ، ومن التكرار يتولد كثير من الأساليب ، ولا سيما ما كان من قبيل ما يعرف بالمحسنات اللفظية عند البلاغين وتكاد أساليب التحسين اللفظى عندهم تكون روافد دافقة بنغم البيان (الموسيقى الداخلية) وعناية القارئ المتذوق بتحليل صور تلك الأساليب تحليلا يكشف عن علاقات التناغم والتغنى هى من باب العناية بفقه النغم ، وهو فى هذا منوط به أن يتجاوز القناعة بتعديد صور الأساليب إلى الاستشراف إلى فقه بواعث التشقيق ومغازيه ، فلا يكون همه إحصاء الفروق النغمية بين صور الجناس مثلا من دون أن يقف متأملا متذوقا بواعث تكثير تلك الصور ودلالاتها ومغازيها ، ليس بكاف أن يقف عند صورة الجناس "المرفو" و"المفروق" و"المحرف و"المضارع" ... ألخ بل فريضة أن يتذوق علاقات النغم ودرجاتها فى هذه الصورة.
__________
(1) * شاع عند بعض الناظرين فى صنيع عبد القاهر فى كتابيه أنه لم يعن بما يعرف بالقيم الصوتية. وعلينا أن نكون على وعى بالفرق بين أمرين : الأول : أنه لم ير قيمة للعلاقات النغمية بين مكونات البيان . والآخر : أنه لم يمنح هذه القيم الصوتية ما تستحقه من عنايته ، فاستهتر فى تحليل ما هو عنده عمود بلاغة البيان (النظم) لا ريب فى أن عناية عبد القاهر كانت إلى عمود بلاغة البيان (النظم)(1/125)
البلاغيون فى تقسيماتهم تلك لم يكونوا دعاة إلى الإخلاد إلى تعديد الصور وتشقيقها وتكثيرها دون السعى إلى محاولة استكشاف ما تدل عليه تلك الصور وأنماط التغنى ودرجاته لتتجاوب مع إيقاع النفس الشاعرة المتنوعة صوره ودرجاته ، وإذا ما كان الغالب على كثير منهم فى أسفارهم التشاغل عن تلك الغاية بما هو دونها فذلك مما يجدر بنا السفر إليه وعدم الاقتداء ببعضهم فى الإخلاد إلى التشفيق والرغبة عن التحليل وإذا ما أردنا الإشارة إلى الأساليب البلاغية التى تشكل أنماط التنغيم والتغنى فى القصيدة العربية فإن فيضا منها يدفق بين يديك من نحو ما تراه فى "التسجيع" الآتى بعض صوره فى الشعر: التصريع والترصيع والتشطير والازدواج والتوازى والتماثل... الخ.
ففي كل هذا صور من التوقيع النغمى الذى يمنح نغم القصيدة خصوصية من جهة واقتدارا على النفاذ فى قلب المتلقى وعلى حمل كثير من المكنون فى نفس الشاعر من المعانى والعواطف والأخيلة من جهة أخرى.
ومن ذلك ما تراه من صور رد الأعجاز على الصدور وعكسه ، وإن كان البلاغيون لم يمنحوا عكسه مزيدا من العناية وهو جدير بالعناية تحليلا وتأويلا.
ومن أساليب البلاغة: المشاكلة والتسهيم والتبديل ولزوم ما لا يلزم. ومن قبل هذا التجنيس والتكرير على تكاثر صورهما وقد كان لأبى تمام غرام بتنغيم الجناس.
وثم ضرب من التكرير لم يحظ بالعناية عند كثير من البلاغين: تكرير أوزان الكلمات وصيغها وتكرير الحروف فى القصيدة ، فقد يعمد الشاعر إلى أن يشبع فى قصيدته أو مقطع من مقاطعها صوت حرف ما ، وما ذاك إلا نهج من أنهاج التصوير النغمى لما يعتلج فى صدره.(1/126)
فهذا الشاعر الجاهلى "عبيد من الأبرص الأسدى" صاحب إحدى المعلقات السبع:"أقفر من أهله ملحوب" نجده فى إحدى قصائده يجعل رويها "الصاد" المكسور. وهى القصيدة الفريدة التى جاء رويها "الصاد" فى ديوانه(1) ، وهى من أربعة وعشرين بيتا ، وهى على ثلاثة معاقد: الأول (1 – 7) فى وصف عاصفة ، والثالث (17 - 24) ففى الفخر بنفسه والتعريض بخصمه أما المعقد الثاني (8 – 16) فقد عقده لبيان مهارته فى قرض الشعر من ذوب نفسه الشاعرة ، فشبه نفسه فى اقتداره بحوث عظيم فى بحر يلتهم ما حوله وقد جعل لحرف "الصاد" منازل عديدة فى هذا المعقد على نحو جد طريف.
يقول فى هذا المقطع:
8- سل الشعراء هل سبحوا كسبحي ... بحور الشعر أو غاصوا مغاصى
9- لساني بالنثير ويالقوا فى ... وبالأسجاع أمهر فى الغياص
10- من الحوت الذى فى لج بحر ... يجيد السبح فى لجج المعاص
11- إذا ما باص لاح بصفحتيه ... وبيص فى المكر وفى المحاص
12- تلاوص فى المداص ملاوصات ... له ملصى دواجن بالملاص
13- نبات الماء ليس لها حياة ... إذا أخرجتهن من المداص
14- إذا قبضت عليه الكف حينا ... تناعص تحتها أى انتعاص
15- وباص ولاص من ملصى ملاص ... وحوت البحر أسود ذو ملاص
16- كلون الماء أسود ذو قشور ... نسجن تلاحم السرد الدلاص
[
__________
(1) * غلب على الشعراء الإعراض عن اتخاذ "الصاد" رويا ، فلم أجد عند "لبيد" و"الحادرة" و"اوس بن حجر" و"النابغة الذيياتى" و"يزيد بن مفرغ الحميرى" و"جميل بنثينه" و"الشماخ" و"مروان بن حفصة" و"المتنبى" و"بن زيدون" و"شوقى" قافية واحدة رويها "الصاد" ووجدت واحدة عند امرئ القيس (ق 31 ص 177) وهى بن خمسة وعشرين بيتا ، ويندر اتيان "الصاد" فى حشوها ، ووجدت عند أبى تمام مقطوعتين عدد أبيتان (أربعة أبيات) (ق 2798 – 280 / ج 4 ص 228 – 229) وعند البحترى قصيدة عددها (ثلاثون بيتا) (ق 479) ومقطوعة عددها (خمسة أبيات) (ق 480) ص 187/ 1991 ج 2.(1/127)
باص: أسرع ، وبيص: بريق ، المحاص: الرجوع ، وتلاوص: تلفت ، المداص: الماء الذى تسبح فيه الأسماك ، ملاوصات: جمع لواص مصدر لاوص أى تلفت ، ملصى جمع مليص وهو الناقص فى ميلاده: الخداج ، الملاص: الموضع الذى ولدت فى الحيتان أولادها ، تناعص: تحرك ليفلت من اليد ، الدلاص: اللين ذو البريق]
هذا المعقد كما ترى قد نثر فيه أو نظم حرف (الصاد) فطغى صوته على سائر أصوات الحروف الأخرى ، فأحدث ضربا من الصليل ، جمع إلى صوت "الصاد" صوت السين" ولاسيما فى الأبيات الأولى التى "قل فيها حرف الصاد: (سل – سبحوا – سبحى – الأسجاع السبح) وفي الحرفين (السين والصاد) صغير نافذ فى الأذن والشاعر فى هذا المقعد" يفتخر بأنه الفريد فى باب الإبداع الشعرى والنثرى سبحا وغوصا وأن الشعراء مقرون له بأنهم لا يفعلون فعله وأنه فى سبحه وغوصه فى بحور الشعر المتلاطمة أمواج أنغامها أمهر من الحوت الماهر فى السبح والغوص فى بحر لجى إذا ما أسرع ذلك الحوت ، وأشرق فى صفحتيه بريق من عظيم إسراعه كرا وفرا ، ناظرا متلفتا إلى صغاره الخدج ، فمن شاء قبضه تفلت من بين يديه ، فهو القوى المنقلت المحصن.
كذلك يشبه الشاعر حاله مع إبداع الشعر ومع الشعراء بحال ذلك الحوت فى سبحه وإفلاته ممن يحاول الإمساك به.
وهى صورة غربية ومن نوادر التشبهات زادها غرابة بهذه الأصوات الراسمة بصليلها وصغيرها طبيعة المعانى التى يريد تصويرها ، فكان اختياره الكلمات وتنسيقها وتوظيف أصواتها فى تصوير المعنى مما يجعلها صورة طريفة تقف النفس فى تذوقها وتحليلها وفقة متأنية مستمتعة بالغوص فى محيطها.(1/128)
وقارئ نغم الشعر ومتذوقه جدير بأن تكون له درية بتحسس النغم ، وذلك من خلال إدمان الاستماع إلى صور صوتية عالية التنسيق والانسجام مشتملة على مظاهر عديدة من التكرار والتوازن والتقابل والتوازى ... الخ وبهذه الدربة والكمون القانص دقائق التصويت يحصل المتذوق بعضا من الوعى بتفاصيل وفروق فى البنية النغمية للقصيدة.
وهو إذا ما حصل شيئا من ذلك وسعى إلى تكثيره وتعميقه ، فإنه يملك شيئا من القدرة على وصف تلك الفروق وصفا علميا فإذا أدرك شيئا من ذلك أمكنه من بعد تصنيف هذه الوحدات النغمية والوقوف على معادن التمايز ومواطن السحر.
والتفقه بقراءة الصور النغمية وتوظيفها دلاليا عند "أبى تمام" سيبل إلى الإحساس بلطائف النغم ، وهو فى ما أذهب إليه سبيل إلى التمتع بغناء "البحترى" تمتعا مؤسسا على وعى نافذ فى طبيعة العلاقات النغمية فى إبداع "البحترى".
من عمد إلى "البحترى" بتذوق نغمة من قبل أن يثقف ذوقه بالتفرس فى غرائب التنغيم عند "أبى تمام" سيبقى تذوقه نغم "البحترى" تذوقا ساذجا فطريا لم يؤسس على عرفان نافذ.
علاقات التنغيم عند "أبى تمام" مخوفة تحتاج إلى مصابرة ومدارسة وممارسة استبصار وإطاقة علية على النفوذ ، فهو مقتحم حصون النغم لا يرتضى ما يأتيه منها طوعها وأن كان مليحا ، يأبى إلا أن يكون امتلاكه الأشياء أسرا وقسرا لا إهداء وتوالا. يرى فى الاقتحام لذه ، لأنه مغامر جواب آفاق. والصبر على صنيعه يجعل الاستمتاع بأنغام تلميذه "البحترى" جليلا جميلا.
أنغام شعر "البحترى" لا تعدلها أنغام شعر أبى تمام متعة روح ، ولكن أنغام البحترى لا تقارب أنغام حبيب إقدارا على العرفان بعلاقات التنعيم وطاقات الشعر فى التغنى.
أنغام "البحترى" ملجأ النفس حين تفتقر إلى الدعة والسكينة وإلى الإغراء بالتمتع بالحياة.
وأنغام "أبى تمام" ملجأ العقل حين يشتاق المغالبة والممارسة.(1/129)
إذا ما كنت قد سمعت "ابن الأبرص" متحدثا عن نفسه شاعرا مغالبا ، فإن "أبا تمام" كثيرا ما يتغنى بصنعته ويلتذ بهذا الغناء ، فهو الذى يميزه عمن سواه ، يقول فى مدحه لأبى الحسين: محمد بن الهيثم بن شبانة (ق 50) (ج:2 ص 68 – 79) التى مطلعها.
قفوا جددوا من عهدكم بالمعاهد ... وإن هى لم تسمع لتشدان ناشد
يقول فى مقطعها:
43- سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه ... وأن كان لى طوعا ، ولست يجاهد
44- فإن أنا لن يحمدك عنى صاغرا ... عدوك ، فأعلم أننى غير حامد
45- بسياحة تنساق من غير سائق ... وتنقاد فى الآفاق من غير قائد
46- جلامد تخطوها الليالى وإن بدت ... لها موضحات فى رءوس الجلامد
47- إذا شردت سلت سخيمة شانئ ... وردت عزوبا من قلوب شوارد
48- أفادت صديقا من عدو وغادرت ... أقارب دنيا من رجال أباعد
49- محبببة ما أن تزال ترى لها ... إلى كل أفق وافد غير وافد
50- ومحلفة لما ترد أذن سامع ... فتصدر إلا عن يمين وشاهد
تريك هذا الأبيات الثمانية التى جعلها ذروة معنى قصيدته وختامه المسك لطف الصنعة ومذهبه فى العزف على أوتار التحسين البديعى ، جاعلا تاج النغم فى الأبيات (القافية) ذات علائق نغمية ودلالية وثقى.
يكثف فيها فنونا من إيقاع النغم وإيقاع الدلالة أيضا ، فهو الحريص على أن يجمع أو يمزج "التصدير" ، "رد الأعجاز" ، بالجناس والطباق والاستعارة ، لتنظر مثلا القافية فى البيت السادس والأربعين (جلامد) كيف ردَّها على مطلع البيت ، وجعل بينهما جناسا ، وجعل فى الصدر استعارة يصور بها قصيدته مثلما جعل ذلك فى القافية.(1/130)
وهكذا تجد "أبا تمام" حريصاً على ألا يجعل إيقاع النغم عنده ساذجا من الصنعة فى الدلالة ، ولا تكاد تجد تنغيمه عاريا من صنعة التركيب والتصوير ، فهو لا يجتلب قوافيه ، لإكمال النغم فى البيت بل هى عنده عنصر رئيس من عناصر بناء المعنى فيه ذات علائق صوتية ودلالية كثيرة بسائر مكونات البيت الصوتية والمعنوية ، والقوافى عند "أبى تمام" كثيرة قضاياها البلاغية والنقدية ، وهى من أهم المواقع فى النسيج الشعرى للبيت عنده.
وقارئ أنغام شعر العربية متطلعة بصيرته إلى إيقاع نغم القافية فى أبيات القصيدة ، فإيقاعها جامع بين رافدى النغم الشعرى: نغم البحر ونغم البيان. موسيقى الوزن فى تفعيلة القافية إذ هى عند الخليل ابن أحمد والجرمى وجماعة ، من أخر حرف من البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذى قبل الساكن.
وهى قد تكون كلمة أو بعضها أو أكثر من كلمة ، مثل كلمتى (من عل) في قول امرئ القيس
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل (من عل)
ومثل كلمة (محملى) فى قول امرئ القيس:
ففاضت دموع العين منى صبابة ... على النحر حتى بل دمعى (محملى)
القافية فى كل إيقاعها فى الحركة والسكون من إيقاع وزن البحر (الإطار) وهى فى الوقت نفسه بما يحمله الوزن التجريدى للتفعيلة من أنغام الحروف والحركات من قبيل إيقاع نعم البيان (الحشو)
وقد كان لعلماء نغم الشعر وموسيقاه عناية بالوزن والقافية مما ، فهى تاجه من جهة وقفله من أخرى ، وكان للإيقاع فيها قضايا خاصة وقد لقيت القافية فى الشعر العربي قبل الوزن محاولات التجاوز عما هو الموروث فيها عن الأسلاف. ولقيت دعاوى متلاحقه بأنها قيد حركة الإبداع ، والانطلاق فى التصوير الشعرى.(1/131)
وإذا ما كانت القافية على يدى أبى العلاء المعرى قد لقيت مزيدا من الالتزام والمبالغة فى إفساح مساحة الالتزام بالتوافق الإيقاعى والنغمى على يده ، فإنها أيضا لقيت على يد بعض المحدثين مزيدا من التحرر من الموروث فى مساحة الالتزام الإيقاعى والنغمى.
وقارئ الشعر العربى مشغول بفقه نغم القافية وما يتولد منه من قضايا بلاغية ونقدية عديدة فى أسفار البلاغين والنقاد.
وعناية قارئ الشعر ومتذوقه لا تكون بتلك القضايا إلا بمقدار ما هو عائد على تذوقه وتحليله بناء القصيدة العربية تركيبا وتنغيما وتصويرا وقضايا القافية والروى البلاغية والنقدية والنغمية فى شعر أبى تمام جد عديدة وشائكة جديرة بالمدارسة المستوعبة النافذة فى الأغوار السحيقة والآماد البعيدة.
وهو الذى زعم "ابن رشيق" أنه: أى – أبا تمام – ينصب القافية للبيت ليعلق الأعجاز بالصدور ،وذلك هو التصدير فى الشعر ، ولا يأتى به كثيرا إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرانه(23)
أى أن أبا تمام يجعل للقافية سلطانا على بنية البيت وهذا من اقتداره والظن أن "أبا تمام" لما كان اقتداره على أن يقيم فى نفسه بنية أبيات قصيده على ما تناخى وتتناغى مكوناته مع القافية يظن الناظر فى شعره أنه بنى البيت على القافية ، ولم يبن القافية على البيت ، فكان كمن يعدو على قفاه ثقة بنفسه وحملا عليها ، فكانت تنقطع به حينا.
والذى هو جدير بالنظر إليه فى تحليل القافية نغما ألا يغفل عن الاتتلاف النغمى والدلالى القائم بينها وبين بقية مكونات البيت من جهة وبقية قوافي القصيدة من جهة أخرى ، كذلك ملاحظة علاقة "الروى" فى القافية صوتا وموقعا فى بقية القصيدة ، فإن بعض الشعراء يكون لصوت الروى وما جانسه أو قاربه أو قابله حضور فى البنية النغمية للقصيدة كلها.(1/132)
وربما لاحظ الشعراء فيما بعد البعثة النبوية أن السور القرآنية التى تبدأ ببعض الحروف مثل (ص) و(ق) يظهر صوت هذا الحرف فى السورة التى تصدر بيانها الكريم ، فهل اتخذ الشعراء من علاقة حرف الافتتاح فى السورة القرآنية بما غلب على الأصوات فيها منهاجا يسترشدون به فى بناء بعض قصائدهم فيكون لحرف الروى فى خاتمة أنغام أبيات القصيدة علاقة وثقى بأنغام القصيدة كلها تقاربا وتقابلا.
وروى القصيدة عند الشاعر الفحل إنما يكون اختياره من واقع ما يعتلج فى صدره من دقائق الفكر ورقائق الشعور. هو وليد تلك المكنونات يوحى بها نغما يتردد فى ختام كل بيت وكأنه ينادى بأن هذا النغم القائم فى ذروة كل بيت إنما هو نغم حامل من مكنون النفس الشاعرة فيضا يسرى فيها مسرى الروح فى الجسد فيجعلها منغومة نفس ومعزوفة قلب.
الهوامش
(1) ... الوساطة للجرحانى ص 99 – 100
(2) ... الموازنة للآمدى ج 1 ص 414
(3) ... دلائل الأعجاز لعبد القاهر ص 292
نمط صعب لمحمود شاكر ص 278
(4) ... النقد الأدبي الحديث لغنيمى هلال ص 441
(5) ... فى النقد الأدبي لشوقى ضيف ص 152
(6) ... موسيقى الشعر لأبراهيم أنيس ص 177 ، والأدب وفنونه لمندور ص 57 ، والأسس الجمالية لعز الدين اسماعيل ص 375 الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية لإبراهيم عبد الرحمن ص 362
(7) ... عيار الشعر لابن طباطبا ص 5
(8) ... الكشف عن مساوى المتنبي للصاحب ص 245
(9) ... الصناعتين للعسكري ص 157
(10) ... مناهج البلغاء لحازم القرطاجى ص 266
(11) ... مقدمة تعريب الألياذه لسليمان البستاني ص 90
(12) ... المرشد إلى فهم أشعار العرب لعبد الله الطيب 1/75
(13) ... موسيقى الشعر لإبراهيم أنيس ص 177
(14) ... الشعر الجاهلى منهج فى دراسته وتقويمه ج 2 ص 532
(15) ... فصول فى الشعر ونقده لشوقي ضيف ص 52
(16) ... دلائل الأعجاز ص 43
(17) ... السابق ص 87
(18) ... الكشف عن مساوى المتنبي ص 246
(19) ... دلائل الإعجاز ص 522
(20) ... السابق ص 58
(21) ... السابق ص 146
((1/133)
22) ... العمدة لابن رشيق ج 1 ص 209
فقه الصورة
الصورة كلمة قرآنية جاءت فى قول الله تعالى: "وصوركم فأحسن صوركم" (غافر: 64 ، والتغابن:3) وفي قوله تعالى: "فى أى صورة ما شاء ركبك" (الانفطار:8) ومن أسمائه تعالى "المصور" (الحشر:24).
وصورة كل شئ حقيقته وهيئته وصفته.
وهذا غير خاص بما هو محسوس فإن للمعانى والمعقولات صورا من جنسها ومدركها البصيرة لا البصر.
ومن ظن أن الصورة إنما هى من مدركات الأبصار ، وليس من مدركات البصائر فقد غفل عن حقيقة الإدراك الحسى والمعنوى فى البشر ، ولم يفرق بينهم وبين الدواب.
كل معقول له صورة ذهنية تدركها البصائر ، وهو إدراك نافذ فى حقيقة الصورة وصفتها ، وإدراك هذه الصورة الذهنية هو ما يختص به الإنسان عن غيره، وهو ما يقع فيه التفاوت بين الناس تفاوتا بليغا يفوق تفاوتهم فى إدراك الصور الحسية فإذا كان من الناس ما لا تبصر عين رأسه شيئا من صور المحسوسات ، ومنهم من يكون ناظره محيطا بدقيق الملامح لبعيد الصور الحسية ، فإن الأمر كمثله وأعظم منه فى إدراك الصور الذهنية صور المدركات المعنوية.
ويزداد الأمر حين تكون الصور صور معان شعرية ساحرة ، فإنها صور ما يعتلج فى صدر شاعر نافذة بصيرته فيما لا يشعر به كثير من الناس من حوله. نافذة فى حقائق الأشياء وجوهرها ، فتكون الصورة التى يرسمها لسانه هى صورة الأشياء فى داخله هو.
ومن هنا ندرك أن قراءة صور المعنويات عامة وصور معانى الشعر العلى خاصة وفقه هذه الصور وتحليلها يحتاج إلى لقانية وفراسة بيانية عالية من المتلقى تتجاوب مع لقانة وفراسة الشاعر المبدع نفسه.
الإحساس بالصور المعنوية لدى أسلافنا لا تغيم سماؤه عند ذى معرفة بعطاء السلف. وأن كنا بحاجة ألا تقرأ إحاسسهم وفقههم للصورة ولاسيما الصورة فى الشعر فى ضوء ما جاءنا عن غيرنا من الأعاجم قديما وحديثا. وهذا يغرى بالوقوف عند بعض مما أزحاه فأهداه إلينا أجدادنا:(1/134)
يقول أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ):
"إنما الشعر صناعة (صياغة) وضرب من النسج وجنس من التصوير"(1)
ويقول "أبو بكر الباقلاني" (ت 403 هـ):
"وقد شبهوا النطق بالخط ، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة وملاحة ولطف ، حتى يجوز الفضيلة ويجمع الكمال.
شبهوا الخط والنطق بالتصوير ، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك ، والباكي الحزين ، والضاحك المتباكي ، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد فى تصوير هذه الأمثلة فكذلك يحتاج إلى لطف فى اللسان والطبع فى تصوير ما فى النفس للغير.(2)
ويقول "عبد القاهر الجرحانى" (ت 471 هـ)
" من شأن المعانى أن تختلف عليها الصور ، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون ، وإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل ، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب فى صنعة خاتم ، وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلى ... ... ... ... .
ويقول: "لا يتصور أن تكون صورة المعنى فى أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته فى الآخر البتة ... ... ... ...
وبقول: "وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرها من أصناف الحلى بأنفسهما. ولكن بما حدث فيهما من الصورة ، كذلك لا تكون الكلم المفردة التى هى أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذى حقيقته توحى معانى النحو وأحكامه ... ... ... ... ...
ثم يقول: "وقد أردت أن أكتب جمله من الشعر الذى أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا فى معنى واحد ، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا ، وترى الآخر قد أخرجه فى صورة تروق وتعجب.(1/135)
وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع فى المعنى وصور ... ... ويقول: "وأعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذى نراه بأبصارنا ، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة ، فكان تبين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون فى صورة هذا لا تكون فى صورة ذاك ، وكذلك كان الأمر فى المصنوعات ، فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى فى أحد البيتين وبينه فى الآخر بينونه فى عقولنا فرقا عبرنا عن ذلك الفرق وتلك الينونة بأن قلنا: "للمعنى فى هذا صورة غير صورته فى ذلك".
وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه ، فينكره منكر ، بل هو مستعمل مشهور فى كلام العلماء ، ويكفيك قول "الجاحظ": "وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير"(3)
من الذى أطلت لك نقله عن الثلاثة الأئمة: الجاحظ والباقلاني وعبد القاهر لأقيمه بين عينك وفي بصيرتك تدرك أن الصورة التى يتحدثون عنها إنما هى بمفهومها العام الذى يعنى أن التصوير الشعري إنما هو منهج الشاعر فى إقامة الأشياء أمام بصائر الآخرين كما هى فى نفسه ، فيجمع فيك أمرين:
هيئة الأشياء فى عالمها المشهود الذى يشارك الشاعر فيه كل ذى إدراك شهودى.
هيئة الأشياء نفسها فى عالم الشاعر الجوانى.
وهذه الهيئة الثانية وأن تكن من معدن الهيئة الأولى الشهودية البرانية إلا أن ذوب النفس الشاعرة أحالتها إلى شئ آخر ليس هو الذى كان خارجها ، وليس هو المقطوع الرحم منها.
التصوير فى الشعر إعادة خلق الأشياء ، والشاعر خالق لا من عدم ولكنه خالق للأشياء من وجودها داخله ، فإذا لم تدخل الأشياء داخله وتمتزج به فكرا وشعورا وخيالا ، فإنه لن يستطيع أن يصورها تصويرا شعريا ، لأنها ما تزال فى خارجه.(1/136)
والأشياء (الكون والإنسان) إذا دخلت عالم الشاعر: فكره وشعوره وخياله ، وتمازحت به ، فإنها تستحيل شيئا آخر غير الذى كانت عليه خارجه ، فإذا رسمها الشاعر وصورها فإنما يصور ما هو فى داخله هو ، والذي لن يكون له نظير عند غيره أبدا.
فالصورة الشعرية فى مفهومها العام هى هيئة الأشياء كونا وإنسانا فى داخل الشاعر ، وهو حين يقدمها إلينا نغما لسانيا فإنما يقرض هذه الصورة من نفسه ويقصدها أى يقطعها من ذاته.
الصورة الشعرية فى معناها العام هى المعادل البيانى لهيئة الأشياء فى داخل الشاعر.
وهذا المعادل البيانى إنما هو من كل ما ينغم به لسان الشاعر بدءا من صوت الحرف والحركة إلى البناء الكلى للقصيدة وأدائها والتغنى بها ، فكل ذلك مكون من مكونات الصورة العامة.
كل عنصر من عناصر لغة الشاعر فى قصيدته هو فى حقيقته عنصر من عناصر الصورة الشعرية ، فليس الشعر شيئا غير الصورة المرسومة باللغة على نحو ما هى قائمة فى نفس الشاعر.
من قرأ صورة شئ من الحياة فى قصيدة فإنما قرأ نفس الشاعر ، أما الشئ نفسه خارج تلك النفس الشاعرة فإنما هو مطروح فى الطريق شركة بين الناس.
والشاعر أجل من أن يقريك ما هو مطروح فى الطريق. أنت المتلقى شعره أعز عليه وأكرم من أن يفعل بك ذلك. هو يقريك ما لن تجده إلا عند هو وحده ، ولو جبت أقطار الأرض.
وقد قالها "أبو تمام" للخليفة العباسى الواثق:
39-جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
40-حديث حذاء الحضرمية أرهفت ... وأجادها التخصير والتلسين
41-إنسية وحشية كثرت بها ... حركات أهل الأرض وهى سكون
42-ينبوعها خضل وحلى قريضها ... حلى الهدى ، ونسجها موضون
43-أما المعانى فهى أبكار إذا ... نصت ، ولكن القوافي عون
44-أحذاكها صنع اللسان يمده ... جفر إذا نضب الكلام معين
45-ويسئ بالإحسان ظنا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون(1/137)
فالشاعر لا يقرى سامعيه إلا من صور الحياة فى نفسه الشاعرة بما لا يشعر به غيرها. بفرض لهم تلك الصور من ذوب نفسه.
كل مكونات القصيدة هى مكونات الصورة الشعرية. وهى ذات مستويات ولكن كل مستوى منها يشكل لبنة فى بناء الصورة الكلية التى يقدمها الشاعر فى قصيدته ، فالقصيدة أشبه بصورة جدارية لمشهد فسيح وسيع من الطبيعة تتلاقى وتتقابل وتتدابر الأشياء ولكنها جميعا فى إطار مشهد واحد ، أو لمشهد علوى لملحمة قتالية تجتمع فيه أشياء عديدة من المشاهد الصغرى ولكن يجمعها إطار الملحمة الكلى.
هذه الصورة الشعرية العامة فى القصيدة على اختلاف مستوياتها تحتضن فيما تحتضن صورا جزئية يطلق عليها البلاغيون الصور البيانية ويخصون بهاما يعرف بالتشبيه والاستعارة والمجاز والكتابة.
هذه الأنماط التصويرية يخصها البلاغيون بمصطلح خاص يميزها عن سائر مكونات الصورة الشعرية الأخرى.
فالصورة الشعرية أو الأدبية أو التعبيرية سمها ما شئت الآن إنما هى أعم مما سماه البلاغيون "الصورة البيانية" فبين الصورتين عموم وخصوص. فهما يشتركان فى أشياء وتختص الصورة البيانية بأمر لا يكون فى غيرها من سائر الصور الأخرى المشكلة منها الصورة الأدبية العامة.
وهذا يجعل إفراد الصورة البيانية بمبحث خاص يفرض أن تكون مجالات البحث فيها ليست هى مجالات الفقه والتحليل للصورة الأدبية العامة ، وإلا لم يك ما يدعو إلى تخصيص تلك الصورة الجزئية بمصطلح خاص نعتها بالبيانية ، ثم إدراج هذه الأساليب: التشبيه والاستعارة والمجاز والكتابة فى علم سمىّ علم البيان كل ذلك حامل على أن نتبصر هذه الخصوصية: معدنها ومبعثها.
كلمة "بيان" ليس معناها الرئيس الوضوح والظهور. هذا المعنى هو لازم معناها الرئيسى ، وليس هو.(1/138)
المعنى الرئيسى هو الفصل والتمييز ، ويلزم من الفصل والتمييز. غالبا الظهور. وتبين الكلام ليس إظهار معانية ووضوحها ولكن تفصيله بحيث لا يعجن بعضها ببعض ، فلا تتداخل ، وهنا وجه من وجوه معنى قولهم البلاعة الفصل والوصل أى أن تفصل المعانى وتميزها ولا تجعلها معجونا بعضها ببعض ووصلها أى جعلها متلاحمة الأجزاء ، كذلك أفهم قولهم. وان كان بعض أهل العلم يدل كلامه على أن الفصل والوصل هنا إنما هو العطف بعاطف وتركه ، وهذا عندى داخل فى معنى رئيس أعم من ذلك ، وقد بينته لك.
المهم أن خفاء الأشياء ليس نقيض بيانها ، بل هو قد يكون داخلا فيه إذا كان مع الخفاء تفصيل ، ألا ترى أن جميع آيات القرآن بين أحكام وتفصل:
"كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (هود)
"كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" (فصلت)
وقد قال الله عز وجل عنه: "بلسان عربي مبين" (الشعراء)
وفي آيات القرآن الكريم ما هو خفى ومن المتشابه.
وعلماء الأصول: أصول الفقه يجعلون "البيان" نوعين:
بيان ظاهر له مستويات أربعة: الظاهر والنص والمفسر والمحكم.
وبيان خفي له مستويات أربعة: الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه.
وهذه الأقسام الثمانية قائمة فى القرآن الكريم الذى قال عنه الحق عز وجل: "تلك آيات الكتاب المبين" (يوسف) ، "إن هو إلا ذكر وقرآن مبين" (يس) ، "حم والكتاب المبين ، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" (الزخرف)
فدل هذا على أن البيان لا يعنى الظهور والوضوح والجلاء وإنما يعنى التفصيل والتمييز وعدم الخلط والبعد عن المعاظلة والتعقيد ولذلك فإن علماء البلاغة جعلوا علم البيان إنما هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه".
هذه الطرق المختلفة فى الوضوح بعضها أوضح من بعض ، فالوضوح درجات أدناها خفاء لا يدخل فى التعمية والإلباس ، ولذا يقول "السعد التفنازانى" فى المطول:(1/139)
"علم البيان ملكة أو أصول يقتدر بها على إيراد كل معنى واحد يدخل فى قصد المتكلم وإرادته بتراكيب يكون بعضها أوضح دلالة عليه من بعض"(4)
تأمل قوله (بعضها أوضح دلالة عليه من بعض) فإنّه صريح فى أن هذا الوضوح درجات ، ولهذا يؤكد "السعد" أنه (لا حاجة إلى أن يقال فى وضوح الدلالة وخفائها ، لأن كل واضح هو خفى بالنسبة إلى ما هو أوضح منه ، ومعنى اختلافها فى الوضوح أن بعضها واضح الدلالة وبعضها أوضح فلا حاجة إلى ذكر الخفاء"(5)
تبين لك أن الخفاء درجة من درجات الوضوح وأنه داخل فى البيان الذى هو التمييز والفصل وعدم الخلط.
فالبلاغيون حين جعلوا أسلوب "التشبيه والمجاز والكتابة" هو علم البيان ، وهو بعض الصورة الأدبية للكلام ، فإنما إرادوا أنهم ينظرون إليها من جهة الدلالة على المعنى وأحوال هذه الدلالة حسنا وقبحا وظهورا وخفاء وإجمالا وتفصيلا. فالإبانة صفة من صفات الدلالة وليست من صفات الدال (اللفظ) أو المدلول (المعنى) فعلم البيان علم باحث فى الدلالة أحوالها ودرجاتها ، وقد جعل عبد القاهر الدلالة وأحوالها رأس خصال بلاغة الكلام حين قرر أن بلاغة الكلام ليس إلا وصفه بحسن الدلالة وتمامها ثم بتبرج الدلالة فى صورة بهية معجية.
ولهذا فإنى أذهب إلى أن البلاغة عندنا علمان: علم المعانى وعلم البيان وأن علم البديع هو تاج علم المعانى وشرفه والمقام لا يتسع للتفصيل فى هذه.
المهم أن علم المعانى هو علم الصور الدالة على المعانى ، ونحن نبحث فيه عن علاقات مكونات الصورة العامة للكلام: علاقات معانى النحو فيما بين معانى الكلم التى سماها "عبد القاهر" النظم. ويدخل فى هذا ما يعرف بالمحسنات المعنوية فى علم البديع وعلاقات أنغام الكلم ويدخل فى هذا المحسنات اللفظية فى علم البديع.(1/140)
وعلم البيان إنما مناط العناية فيه هو الدلالة وليس الدال: صورة المعنى. الدلالة من حيث ظهورها وخفاؤها وحسنا وقبحها ... الخ. ولذلك فإن علماء البلاغة يؤكدون أن علم البيان هو العلم الذى يحترز به عن التعقيد المعنوى(6) وهذا التعقيد إنما هو داء يصيب الدلالة وليس الدال (اللفظ) وليس المدلول (المعنى).
لعله استبان لك أن الصورة البيانية حين خصت بالتشبيه والجاز والكتابة التى هى أركان علم البيان فإن الشأن أن يكون النظر إليها هنا ليس من حيث تركيبها ونظمها لأن هذا يستوفى شأنه فى علم المعانى يشقيه عندى: علاقات معانى الكلم وعلاقات مغانى الكلم وأنغامه. وإنما يكون النظر إليها هنا من حيث أحوال الدلالة على المعنى.
وكل أسلوب نظرت فيه من جهة تركيبه ومكوناته ومكنوناته وعلاقات ذلك كله ببعضه فأتت ناظر فى صورته ، وأنت حينذاك باحث فى علم المعانى حتما وأن كنت تدرس التشبيه أو الاستعارة ... الخ.
وكل أسلوب نظرت فيه من جهة دلالته على معناه أى دلالة صورته العامة (الأدبية) على مدلوله من حيث الحسن والقبح ، والظهور والخفاء والتمام والنقصان، فأنت دارس باحث فى علم البيان حتى وأن كنت تدرس أسلوب الفصل والوصل أو الحذف أو التقديم أو التعريف.
ليس الاعتداد عندى بنوع الأسلوب الذى تدرس ليكون هذا من علم المعانى أو من الصورة الأدبية أن شئت أن تقولها ، أو ليكون من علم البيان أو الصورة البيانية الاعتداد عندى بوجه الدارسة ونوعها أيا كان الأسلوب. إن كان المأم والمقصد والمحجوج إليه بالدرس هو الصورة من حيث تركيبها وعلائق المعانى والمغانى ببعضها فأتت عندى سابح فى علم المعانى والمغانى (البديع).
وإن كان حجك وشرعتك فى الصورة من حيث دلالتها على المكنون (المعنى) فأتت سابح فى علم البيان وإن كنت تدرس التقديم والتأخير وليس التشبيه والاستعارة.
أعود بك مرة أخرى إلى ما صدر به "عبد القاهر" القول فى الحذف فى كتابه "دلائل الإعجاز" يقول الإمام:(1/141)
"هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسحر".
فإنك ترى به ترك الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذ لم تبن.
وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر ... (7)
تفرس قوله "أفصح من الذكر" ألا ترى أن من معانيه أنَّ دلالة الحذف على المكنون تكون حينا أفصح وانقى من دلالة الذكر ؟ وتفرس قوله "أزيد للإفادة" ألا ترى أن من معانيه أن دلالة الصمت على المكنون تكون أغنى وأعون على أن يسبح القلب فى قماميس المعانى أو كما يقول أجدادنا الفرسان: تذهب النفس فيه كل مذهب" هى كلمة ذهبية ماجدة دثرتها الألفة بغبار الغفلة فلفظتها الألسنة وغفلت عنها العقول.
وتفرس قوله (وتجدك أنطق ما تكون) فمن معناه: أقوى وأكمل فى النطق الذى رسالته الدلالة ، فهو كمال دلالة على المراد وأعظم إحاطة بها. ففى النطق معنى الإحاطة(1)
وتفرس قوله: وأتم ما تكون بيانا" تجد أنه تمام دلالة على المراد وتفصيل له عن بعضه وتخليص لمشتجره.
كل هذا كما ترى عندى من باب الدلالة
ويزيدك جلاء التفرس فى قول أولا (دقيق المسلك) أى أنه يسلك الحدف بك إلى المكنون مسلكا دقيقا. وهذا من باب الدلالة أيضا ، وقوله (لطيف المأخذ) اللطف خفاء وهو خفاء دلالة على المراد ، أى خفى فى أخذه المعنى من صدر المتكلم. فقوله (المأخذ) مصدر أى لطيف الأخذ ، وفي الأخذ معنى القوة والتمكن والعناية والقصد ، ذلك بعض ما تدل عليه مادة (أ خ ذ) فى لسان العربية ، وتدبرها فى كتاب ربك المجيد تجد مصادق ما قلت.
__________
(1) * الأفعال: نطق وتكلم وتحدث تتقارب معانيها ولكن من بينها فروق. فى النطق معنى الإحاطة فنطق بكذا أحاط به ومنه النطاق وتكلم فيه معنى التأثير فكلمه أى أثر فيه ومنه الكلم أى الجرح وتحدث بكذا أو أوجد وأحدث ما لم يكن ، ومنه هذه أحدوثه(1/142)
وقوله: (عجيب الأمر شبيه بالسحر) ظاهر الدلالة على أن هذه نعوت منهج دلالة الحذف على المعانى المكنونة فهو فى دلالته يسلك بك مسالك عجيبة لا تكاد تستشعر أسبابها فتوقعك فى العجب ، وهو فى دلالته يتسلل إليك كما يتسلل السحر ، فيأخذ بأقطار نفسك ولا تستطيع فكاكا.
عبد القاهر كما قلت لك يسوق يصيرتك إلى التفرس فى منهاج الحذف فى الدلالة على المعانى ليريك أن الفضيلة فى بيان العربية ليس إلى تكثير ملفوظ الألسنة وحصائدها ولكن الفضيلة فى منهاح بلوغ الملفوظ ولو كان قليلا إلى المكنون وأن دلالة المسكوت عنه تعدل أو تفضل بلاغة – أى بلوغ دلالة المسكوب من أسلة الألسنة.
وقد كان جليلا من "أبى الحسن على بن عيسى الرمانى" (ت 386 هـ) أن جعل حقيقة البلاغة "إيصال المعنى إلى القلب من أحسن صورة من اللفظ"(8)
قوله "إيصال المعنى ... " دال على أن رأس البلاغة الدلالة ، وأن عناية البليغ بمنهاج دلالته على معانيه ينبغى أن تكون معدن عنايته بصورة ملفوظه وأن يكون الإحسان فى صورة الملفوظ اللسانى من أجل الإحسان فى الدلالة على المكنون النفسي ولعل هذا ما هدى "عبد القاهر" إلى أن يجعل رأس خصال بلاغة الكلام "حسن الدلالة وتمامها" (9)
قدم حسن الدلالة وتمامها على الإحسان فى الصورة الدالة وكلمة (بلاغة) التى جعلت عنوان هذا العلم هى أصل معناها الوصول ، وهو لا يكون إلا باقتدار الموصل على النفاذ ، وهذا من حسن الدلالة وتمامها وقوتها ...
مجمل الأمر فى هذا أن علم البيان هو العلم الدارس منهج دلالة صور المعانى عليها. فلو أنك درست دلالة حذف النون من فعل الكون فى قوله تعالى: "ولم أك بغيا" (مريم) على عظيم طهر ونقاء وحصانة السيدة مريم فإن هذا يكون من علم البيان.
كذلك دراستك دلالة فك الادغام فى الفعل (يرتدد) من قوله تعالى: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ... " (البقرة) على تحقيق الارتداد وظهوره وقوته فإن ذلك من علم البيان.(1/143)
علم البيان علم ذو اختصاص بدرس وجه دلالة صورة المعنى عليه وعلم المعانى علم ذو اختصاص بدرس منهج تركيب وتأليف مكونات صورة المعنى وهى مكونات عديدة مديدة.
والبلاغيون حين جعلوا علم البيان والصورة البيانية قائمة ومبنية من التشبيه والمجاز والكتابة. فهذا على مناهج بنى الإسلام على خمس ، ولا يقول أحد أن الإسلام إنما هو الخمس ليس إلا. ولكن لم كان التشبيه والمجاز والكتابة هى المختصة بالذكر والعناية ؟
قبل الإجابة عن هذا نشير إلى ما ينطوى تحت كلمة (مجاز) ما هو؟ وهل جميعه سواء فى منهج الدلالة ؟
يجعل جمع من أهل العلم كلا من "الاستعارة" و "المجاز المرسل" و"المجاز العقلي" من المجاز.
ومنهم من يطلق المجاز على المجاز المرسل ، فيقول الاستعارة والمجاز.
الذى أذهب إليه أن يكون التفصيل على أساس منهج الدلالة على المعانى وهذا يجعلنى أخرج الاستعارة من المجاز وأخصها بذكر وأن تكون تالية للتشبيه ، وكذلك الكتابة ، ليبقى المجاز خاصا بالمجاز المرسل ، فيكون الأمر على النحو التالى:
التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل ، والكتابة "التشبيه" وجه الدلالة فيه على المعنى هو المقايسة ، "عبد القاهر" نفسه قد ذكر ذلك.
الدلالة فيه قياسية تعتمد على قرن الأشياء ببعضها وترديد النظر فيما بينها، فتتوصل بهذه المقايسة والمقايلة بين الأشياء إلى فهم المعنى المراد.
ومن هنا عنى العلماء فى درس التشبيه بأهمية التفصيل والإجمال فى طرفي التشبيه وأهمية النظر فى منازع المشابهة والمقايسة لأن هذه المنازع هى التى يترتب عليها لطف الدلالة على المعانى.
يقول "عبد القاهر"
"ولن يبلغ المدى فى ذلك ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين الأشياء المختلفة ، فإن الأشياء المشتركة فى الجنس المتفقة فى النوع تستغنى بثبوت الشبه بينهما وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل فى إيجاب ذلك لها وتثبيته فيها.(1/144)
وإنما الصنعة والحذق والنظر الذى يلطف ويدق فى أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات فى ربقة. وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكه.
وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما ويحتكمان على من زاولها والطالب لهما من هذا المعنى ما لا يحتكم ما عداهما ولا يقتضيان ذلك من جهة إيجاد الائتلاف فى المختلفات"(10)
فدارس الصورة البيانية فى التشبيه بنظر إلى علاقة التقابل والتناظر بين المختلفات فى أجناسها فإن هذه العلاقة حين تتعاظم تلطف الدلالة على المعنى وتكمل.
انظر الصورة البيانية فى قول ابن الرومى التى ذكرها عبد القاهر فى "الأسرار"
بذل الوعد للإخلاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء
إذا ما نظرت إليه صورة شعرية من حيث مكوناته ومنهج التكوين والتأليف بين هذه المكونات ، وعلاقات معانى الكلم بعضها ببعض وعلاقات أنغام الكلام والوزن فأنت هنا لا تدرس الصورة البيانية فى البيتين: أنت تدرس الصورة الشعرية فى مفهومها العام. فى هذا تدرس البيان بالفعل (بذل) وجعله ماضيا لا مضارعا وتقديم المتعلق (المجرور: للإخلاء) ، وكان ظاهر الأمر أن يقول بذل الوعد سمحا للإخلاء ، وتنظر فى اصطفاء كلمة "أخلاء" ، وتنظر فى اختيار كلمة (أبى) على الانتقاء دون قوله: "لم يبذل بعد ذلك العطاء" فعدل عن النفي بأداته إلى تقريره بفعله ، وما فى الإباء من معنى التصميم والإصرار على ترك الفعل.
وتنظر فى تقديم المتعلق الظرفى على المفعول (بذل) فى مقابل تقديم المتعلق (المجرور) على قوله سمحا فى الشطر الأول.(1/145)
وتنظر فى إخلاء الطرف (بعد) من الجار ، فلم يقل (من بعد) واختياره اسم الإشارة (ذاك) وكان بملكه أن يقول (من بعده) فعدل عن ذلك وكيف قابل بين بذل الوعد فى صدر البيت وبذل العطاء فى آخره ولم يجعل انتفاء بذل العطاء فى صدر البيت بل آخره عن إثبات "بذل الوعد" وكيف أنه رد صدر البيت على ما قبل عجز البيت (بذل / بذل) وكيف أنه أخلى الشطر الثاني من ذكر المتعلق (المجرور) فلم يقل (لهم) ليعادل (للإخلاء) ، وكيف عنى بتوزيع حرف (الباء) و(الذال) و(اللام).
وكيف أنه عنى بالتنغيم ، فهذه (العين) الموقعة فى (الوعد – بعد – العطاء) وانتشار حروف الحلق (العين والهمزة والخاء والحاء) قد كانت ظاهرة التنغيم ولاسيما العين والهمزة. وكل هذا داخل فى فقه النغم وهذا المد الصوتى فى (الإخلاء – أبى – ذاك – العطاء).
وإذا أنت فعلت مثل هذا فى البيت الثاني فإنما أنت تدرس الصورة الشعرية بمعناها العام. أنت تحلل البناء التركيبي ولا تتدبر وجه دلالة هذه الصورة على المعنى.
أما إذا وقفت على وجه دلالة مشابهة حالة حال شجرة الخلاف وعلى دلالة الصورة الصوتية فى (الخلاف) و(الإخلاء) وطعمه فى (الخلاف) وكيف وظف هذه المفارقة فى الدلالة على المعنى ، فأنت فى علم الدلالة: علم البيان.
وإذا وقفت على دلالة الفعل (غدا) على عظيم هجوه وذمه وسلخه من المكارم وجعله يغدو إلى ما فيه هلاك ذكره ، إذ غدا إلى قميتة خلف الوعد فكان كالخلاف. إذا نظرت إلى طبيعة هذه الدلالة ودرجتها فأنت فى درس الصورة البيانية.
إذا وقفت عند دلالة (الكاف) فى كالخلاف. وكيف جمعها بين حال ذلك العادى إلى مهالك ذكره وسيرته وبين حال تلك الشجرة عظيمة المنظر حفيرة المخبر حيث لا عطاء. وكيف أنه حصل المشابهة من عير جنس المشبه ، فكان لطيف الدلالة على معناه ، فأنت دارس الصورة البيانية لأنك ناظر فى دلالة الصورة وليس فى تركيب مكوناتها.(1/146)
وإذا وقفت عند دلالة قوله (يروق للعين) على حال المهجو المذموم المدحور وكذلك قوله (ويأبى الإثمار ... ) وكيف أنه جعل مقايسة المعنى وهو حال من يذمه ويسلح عليه بما هو حسى مشهود لا يخفي أمره على مدرك ، وكيف دلّ قوله (ويأبى الإثمار) فى حال شجر الخلاف على قمىء حال المهجو ، فإن إباء ذلك الشجر الإثمار وهو لن يكلفه من أمره شيئا شبيه به إباء بذل العطاء من ذلك المدحور عن كل مكرمة. وفى هذا تمام الدلالة على غلوه فى الفرار من حميد الذكرى. وزاد الدلالة على هذا حسنا وتماما فى لطف بقوله (كل الأباء) فى مقابل (يورق للعين) وهى استعارة عظيمة الدلالة على الإمعان فى المخادعة وإيقاع النفس فى ألم مفارقة ما تجد من إباء الذل وإباء الإثمار من بعد ما وجدت من لذيد الوعد والإيراق للعين – إذا وقفت عند مثل هذا فأنت ناظر فى دلالة صورة المعنى عليه. وإذا وقفت ناظرا فى دلالة قوله (أبى بذل العطاء) فى صحبة (ويأبى الإثمار) وما دلت عليه الاستعارة فى (يأتى) ومصاحبتها بدلاله (أبى) أولا دلالة حقيقية فأنت ناظر فى دلالة صورة المعنى عليه.
المهم أن التشبيه دلالته وجهها المقايسة وتكون فيه الأشياء على حقائقها يجمعها الاقتران وأنت فى هذا تعطى المشبه به مزيدا من العناية بالتبصر من أنك تستمد من اقتران حال المشبه بحال المشبه به ، فالعناية بمزيد النظر فى المشبه به معين على فقه حال الدلالة على المراد.
ومما يعنى به البلاغيون فى دراسة التشبيه ما فى بعض ضروبه من التفصيل القائم على استقصاء البصيرة النافذة في جوهر الأشياء والوقوف على دقائقها وهو لا يتحقق إلا بمراجعة النظر ، وكل الدلالة وإحاطتها ولطفها وتدرجها فى الوضوح والخفاء الذى هو عمود علم البيان.(1/147)
المهم هنا – ونحن لسنا بصدد تحليل أنماط التشبيه – أن التشبيه يدرس من جانبين الجانب الأول من حيث هو عنصر كغيره من عناصر بناء الصورة الشعرية / الأدبية / البلاغية شأنه شأن التقديم والتعريف. تدرس فيه علاقات معانى الكلم ببعضها وعلاقات النغم فى بناء الصورة وتشكيلها. والجانب الآخر من حيث دلالته على المعنى ودرجات هذه الدلالة حسنا وقبحا تماما ونقصانا ، وجلاء وخفاء.... الخ.
جانبان: البناء والوظيفة متلازمان وجودا ، ولا يدرك الجانب الثانى إلا من خلال حسن فقه الجانب الأول ، والعناية بالجانب الأول بناء الصورة ينبغى ألا يطغى أو لا ينسينا الجانب الآخر وجه الدلالة على المعنى وأحوالها ودرجاتها ، ولا سيما فى باب علم البيان.
أما الاستعارة فإن وجه الدلالة فيها على المعنى غير وجه دلالة التشبيه عليه.(1/148)
الاستعارة لا تعتمد على حذف أحد طرفى التشبيه فحسب ، لأن فى الحذف استحضارا، فقد يكون الشئ حاضرا فى الذهن بحذفه أكثر من حضوره بذكره (تجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق) ولذلك أكد البلاغيون ضرورة تناسى التشبيه فى الاستعارة وإدخال المشبه فى جنس المشبه به ، وأن المشبه إذا ذكر لا على أنه مشبه كان الكلام استعارة. هذا كله يظهر لنا أن الاستعارة قائمة على تناسى التشبيه وإدخال المشبه فى جنس المشبه به ، وأن المشبه إذا ذكر لا على أنه مشبه كان الكلام استعارة. هذا كله يظهر لنا أن الاستعارة قائمة على تناسى التشبيه وإدخال المشبه فى جنس المشبه به ، وهذا الإدخال لا يعنى ألبته تخلى المشبه عن كل سماته وخصائصه ولا يعنى أيضا الاحتفاظ بكل سماته وخصائصه ، وإنما يبقى من المشبه ما يتلاءم مع المشبه به ، فتخلق الاستعارة عالما جديدا ليس له نظير يشبه به ، وليس له وجود من قبل ، ولا وجود له خارج هذه الصورة الاستعارية التى هى فى حقيقتها صورة الشىء فى نفس المتكلم واستمع مقالة شيخنا فإنها جد كاشفة عن حقيقية المفارقة بين التشبيه والاستعارة فى الدلالة على المعنى. يقول شيخنا أعزه الله عز وجل
".... الحس بالشىء ورؤيته فى التشبيه غير الحس به ورؤيته فى الاستعارة ، وكأن بين أيدينا سلما تتعاقب درجاته ويرتقى فيه الخيال درجة درجة أو سلسلة تتواصل حلقاتها ويمضى فيها الخيال واحدة بعد واحدة وتبدأ مع بداية الحس بالمشابهة بين شيئين مختلفين ، وتنتهى عند توهج الإحساس بصيرورتهما شيئا واحداً.
وكان البلاغيون شديدى التنبه والوعى بما تؤديه التراكيب فى هذا الباب من وصف كاشف لحس صائغها ، حين ذكروا أنك نقول: "هو كالأسد فى شجاعته" فتفيد ضرباً من الشعور بجرأته ، وأنه بلغ فيها مبلغا يصح أن يلحق بالأسد وأنه يشبه به.(1/149)
فإذا قلت: "هو كالأسد" وحذفت وجه الشبه أفاد ذلك ضربا من القوة والشعور بجرأته لا تجده. فى الأول وذلك لأنك لما لم تنص على الجهة التى ألحقته بالأسد فيها تركت الخيال بتوهم الشجاعة وما يمكن أن يحيط بها من فرط القوة والهيبة وغير ذلك مما توحى به هيئة الأسد.
ثم تقول: "هو الأسد" فتفيد حسا أقوى من سابقه ، وكأنك ترتقى بالتعبير درجة أعلى من حيث حذفت الأداة وحملت الأسد عليه ، كما تقول: "هو صاحبك" و "هو أخوك" فتفيد أن الخبر هو المبتدأ وأنه لا فرق بينهما ، ولهذا قالوا إن هذه الصورة توشك أن تقتحم باب الاستعارة لولا ما قالوه من ضرورة تقدير الأداة لصحة الحمل.
فإذا قلت: "كلمت أسدا" أو "ليث بعثر يصطاد الرجال" كما قال "زهير" تكون قد أدمجت الأول فى الثانى ، وأفدت أن معك شيئا واحداً لا شيئين ، وهذا غير قولك: "هو أسد" وإن كان أفاد أنه لا فرق بينهما ، لأنك فيه تذكر شيئين ولكنك هنا تذكر شيئاً واحداً"(11)
هذا من شيخنا – أعزه الله – هاديك إلى وجه دلالة كل صورة من صور التشبيه على المعنى وإلى الفرق بين دلالة "التشبيه" ودلالة "الاستعارة" ، فالاستعارة تقوم على أساس خلق عالم جديد ، ليس على جمع بين أمرين ولو فى شىء واحد ، بل على أن تخلق من هذين الشيئين شيئا جديداً لم يكن من قبل.
الاستعارة أداة خلق ، وعلى المتفقه فى صورتها أن يتفرس وجه دلالة هذه الصورة على خلق عالم جديد ليس طريقه التناظر والمشابهة وليس طريق الدلالة عليه اللزوم.
طريق دلالة الصورة الاستعارية على المعنى هو التخيل: أن تحمل الصورة المتلقى على أن يتخيل ذلك الخلق الجديد الذى ليس له نظير ولا مصاحب يصحبه ومرادف يلزمه يحضر فى العقل حين يحضر ردفه.
الصورة الاستعارية تقيم المتلقى أمامها تقذفه فى عالم التخيل يسبح فيه فيدرك ذلك الخلق البديع الجديد.(1/150)
وأجدادنا كانوا على وعى بحقيقة الاستعارة حين جعلوها رأس البديع ترى هذا عند ابن المعتز فى كتابه "البديع" فهى مبدعه ما لم يكن له من قبلها وجود فى الواقع المشهود ولا فى خيال متخيل من قبل. فى الاستعارة "نتصرف فى المعانى والمدلولات ونحيلها عن طبائعها ، فنرى أن ما نحن بصدده من مستعار قد خرج عن جنسه المألوف واستحال إلى جنس آخر.
فالذى يقول: "رأيت معانقى قمر" لم ينقل فى الحقيقة لفظ "القمر" من معناه ، وإنما نقل معانقه من محيط الناس إلى جنس القمر وصار عنده قمر.
"والمتبنى" حين يقول:
ولم أر قبلى من مشى البدر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
لم ينقل "البدر" إلى صاحبه الذى مشى نحوه ، وإنما رأى صاحبه بدراً. هذه طبيعة الدلالة فى "الاستعارة" والتى يظهر فيها معنى المبالغة ، كما يتكرر على ألسنة الدارسين....
فالمسألة فى حقيقتها نوع من الإدراك للأشياء تتحول فيه عن طبائعها المألوفة وتأخذ صوراً جديدة وحقائق جديدة....
الاستعارة إذن تشكل الأشياء تشكيلا آخر وتمحو طبائعها وتعطيها صفات وأحوالا أخرى يفرغها الشاعر والأديب عليها وفقا لحسه وضروب انفعالاته وتصوراته...
الاستعارة تنفض عن الأشياء أوصافها الأليفة وتفرغ عليه أوصافا وجدانية"(12)
هذه اللطيفة فى الدلالة على حقيقة الأشياء فى صدور المتكلم الشاعر هى أبر الطرائق رحماً بالشعر الذى هو أنغام مصورة حقائق الأشياء فى صدر عازف تلك الأنغام بلسانه: الشاعر الساحر ، فسر الشعر قائم على روح الاستعارة ، وكل شىء تحقق فيه تلك الروح كان شعريا. روحها ليس فى أن توضح وتقرب الأشياء التى هى خارجك إليك وليس فى أن تستحضر لك الملزوم عند ذكرك لازمه أو المردوف عند رديفه... الخ
روحها فى أن تخلق لك من الكون والإنسان المشهود القائم خارجك عالما جديداً لست بالواجده البتة خارج الاستعارة.
ومن هنا افتقرت كل الأساليب البلاغية إلى روحها لتكون أساليب شعرية يقول الإمام "عبد القاهر":(1/151)
"إذا تأملت أقسام الصنعة التى بها يكون الكلام فى حد البلاغة ومعها يستحق وصف البراعة ، وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها ، وتقتصر عن أن تنازعها مداها ، وصادفتها نجوما هى بدرها ، وروضاً هى زهرها ، وعرائس لم تعرها حليها فهى عواطل ، وكواعب ما لم تحسنها ، فليس لها فى الحسن حظ كامل.
فإنك لترى بها الجماد حيا ناطقا ، والأعجم فصيحا والأجسام الخرس مبينه ، والمعانى الخفية بادية جلية....
إن شئت أرتك المعانى اللطيفة التى هى من خبايا العقل " كأنها قد جسمت حتى تراها العيون.
إن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون"(13)
كشف لك الإمام منزلة الاستعارة فى تحول الأشياء عن حقائقها إلى عالم جديد قد يكون تفيض ما كانت عليه ، فأين هذا مما يصنعه التشبيه؟
التشبيه يقرب إليك الأشياء يقيم النظائر بين عينك ، ولكن الاستعارة لا تبقى الأشياء فى وهمك بل تخرج لك منها تفيض ما هى عليه تخرج لك من العجمة فصاحة ومن الموت حياة.
ولذا كانت "كل استعارة حسنه فهى توجب بلاغة بيان لا تنوب منابة الحقيقة وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة كانت أولى به ولم تجز الاستعارة"(14)
فلن يكون الذى تدلك عليه الصورة الاستعارية شبيها بشىء فى خارج المتكلم بها هى تقيمك أو تبعث فيك طاقة التخيل لما لم يكن لك بعلمه شىء من قبل لأنه لم يكن له وجود ألبته حقيقة وهيئة من قبل أن يبدعه المتكلم بالاستعارة.
"فالاستعارة إذن ليست حركة فى ألفاظ فارغة من معانيها ، ولا تلاعبا بكلمات. وإنما هى إحساس وجدانى عميق ورؤية قلبية لهذه المشبهات التى تشكلت فى الكلمات المستعارة.... (15)
"وقد لخص المتأخرون هذه النظرة الرحبة حين قالوا فى إجراء الاستعارة إنها مبنية على دعوى الاتحاد بين الطرفين ، أى دخول المشبه فى المشبه به ، وصيرورته فرداً من أفراده.(1/152)
وهذا تفسير جليل وموجز لطبيعة دلالة الاستعارة ، إلا أننا مع طول الألف له لم تحاول اكتناهه وسبره وإخراج مضمونه الذى يعنى أن تتخلع الأشياء فى وجدان الشاعر والأديب المحس بها من صفاتها وتتصور فى صورة أخرى.
وليست المسألة مسألة كسوة ظاهرة ينهض بها اللفظ ، وإنما هى فى حقيقتها ضرب من الإدراك الروحى والرؤية القلبية لهذه الأشياء.
وهذا هو مناط الفرق بينهما وبين التشبيه.... لأن التشبيه يظل فيه المشبه بصورته وحقيقته ، وإنما تتركز العين الشاعرة به على جانب من جوانبه وتتألق شعاعها على هذا الجانب ، فتكشف فيه رابطة مدفونة تجمع بينه وبين المشبه به ، وتصبيرهما معا فى قرن واحد"(16)
ومن هنا تتبين الفريضة التى يجدر بالمتفقه المحلل الصورة الاستعارية أن يوفيها حقها إنما هى العرفان بكيفيّة دلالة هذه الاستعارة على معناها ووجه تلك الدلالة ، وذلك هو عمود علم البيان
فى دراسة الصورة الاستعارية تكون العناية بكيفية الدلالة على المعنى الشعرى من خلال أمور عدة منها التفرس فى الألفاظ التى استخدمت وعلاقاتها بالدلالة على المعنى الشعرى المكنون فى صدر الشاعر وكذلك علاقاتها بسياقها الذى أقيمت فيه، وفى الوقت نفسه علاقاتها بالمكونات الأخرى للصورة الشعرية وموقعها منها ، فإن فى تلك المكونات عونا لهذه الاستعارة على دلالتها على معناها الشعرى.
فى بيتى "ابن الرومى" السابق ذكرهما: (بذل الوعد.... الخ) لا يتأتى لنا فهم المعنى الشعرى للبذل هنا ودلالته عليه – وان فهمنا المعنى العقلى له – إلا إذا ما كان ذلك فى صحية قوله (للإخلاء سمحا) فلو أنه قال غير هاتين الكلمتين لكانت الاستعارة فى (بذل الوعد) غير قادرة على الدلالة على المعنى الشعرى لها الذى يريد الشاعر تصديره فى هذا السباق.(1/153)
ماذا لو قال: بذل الوعد للناس كثيرا مثلا؟ أتراه قائما بعون الاستعارة فى بذل الوعد على الدلالة على المعنى الشعرى له ذلك المعنى الذى تسامى إلى شرف الهجو والتثريب والتعنيف على نحو يرفضه كل شريف النفس. البذل السمع للإخلاء وعدا لا يكون إلا من رجلين: ما جد الأورمة سخى النفس يرى لمن وعده عليه فضلا بقبول وعده ، ومنافق خريت يستعذب ذلّ الإخلاف ، لأنه لا يخلف الوعد لخله ألا من كان من ذلك الضرب ، وكذلك يعين هذه الاستعارة (بذل الوعد) على الدلالة على المعنى الشعرى لها النظر فى قوله: (يأبى...) هذا الأباء الدال على عظيم الإصرار والتصميم فى مقابل هذا السماح ببذل الوعد ، يهديك إلى تصاعد هذه الاستعارة فى تصوير استيلائها على شرف الهجو المبير.
وهذه "الفاء" أيضا تزجى نوالها إلى تلك الاستعارة فى الدلالة على ذلك المعنى الشعرى المتبلح فى نفس ابن الرومى الناقم المستوحش ممن حوله. هذه الفاء الدافعة إلى صدورنا أن ذلك المستعذب ذل الإخلاف كأنه الساعى فغدوه وهو وقت السعى إلى ما به ينتفع به – غدوه إلى أن يكون كشجر الخلاف يورق للعين ثم يأبى الأثمار... كل هذا لا بد من ملاحظته فى دراسة دلالة الاستعارة على المعنى الشعرى فهى لا تكون من كلمة وأن كان محور الاستعارة كلمة وإنما يستجمع المعنى الشعرى من روافد عديدة.
لو ظن ظان أن المعنى الشعرى للاستعارة مجموع فى التحول الدلالى فى الفعل (بذل) وهو ذو القربى فى الدلالة العقلية من الفعل (بذر) مثلما هو ذو قربى نغمية منه – لو ظن ظان أن المعنى فى التحول فى الفعل (بذل) واقعا على الوعد ، وكفى لما كان البتة فيه أدنى أثارة من علم أو شعور بالمعنى الشعرى.(1/154)
وإذا ما كان الخيال الطليق ذا عون للشاعر على أن يخلق المعنى الشعرى وأن يتغنى بصورته بمعونة السياق والقرائن والمكونات فإن الطاقة التخيلية لدى الفقيه البيانى المتذوق لابد أن تكون أعلى وأغلب من استحضاره المعانى الذهنية لمكونات الصورة الاستعارية.
المعانى الذهنية قد تكون قيود أوابد التخييل الطليق الذى لا يليق أن يتوارى عن ركاب الخيال الطليق لدى الشاعر. وكثيرا ما يكون الوهن من بعض النقدة فى تذوق غرائب الاستعارات عند مبديعها مرده إلى التعلق بأستار المعانى الذهنية لمكونات الصورة الاستعارية والتطواف حولها والهروب من اغراءات التخيل.
وإذا كان بعض البلاغيين على أن كل استعارة لها حقيقة عقلية يتنقل منها ، فإن كان مرادهم فى هذا أن يظل المتفقه البيانى المتذوق مقيدا بتلك الحقيقة العقلية متمسكا بعراها ، لا يطيف إلا فى مجراتها ، فإنه المتباعد عن واقع التذوق الأدبى للاستعارة.
هو أقرب إلى التأويل العقلى منه إلى التذوق الأدبى للصورة الشعرية ملاحظة الحقيقة العقلية لا ينبغى أن تعدو طورها فإن الشاعر حين يخلق بالاستعارة معناه لا يلقى بالا إلى تلك الحقيقة ، لا يستشيرها ، لا يراعى لها ودا.
ومن ثم فلا يلقى بالا إلى تلك الحقيقة ، لا يستشيرها ، لا يراعى لها ودا.
ومن ثم فإن الفقيه البيانى المتذوق لا يتسارع بوصم صور استعارية بالقبح أو البعد عن الشعرية – على نحو ما نراه عند "الآمدى" مع استعارات أبى تمام بمجرد أن يلحظ التفاسح بين الحقيقة العقلية والمعنى الاستعارى فى الصورة فيتنادى بالتقبيح والتأثيم والتثريب ، ولو أنه تبصر لكان بملكه أن يكون أقرب إلى حمى الواقع الشعرى الذى لا يلقى بعنانة فى الشعر الماجد إلى الحقيقة العقلية المغرمة باحتواء جمهرة الدهماء تحت قسطاطها.(1/155)
وقد يعترى الوهن بعض النقدة فى تذوقهم الشعر حين يتشبثون بظاهر مقولة وحدة الشعور النفسى فى مكونات الصورة الشعرية فيسرعون إلى الرغبة عن بعض الصور الشعرية ظنا منهم أنها قد منيت بالتنافر الشعورى.
إذا نظرنا فى قصيدة "سيفية" للمتنبى مطلعها
على قدر أهل العزم تأتى العزائم ... وتأتى على قد الكرام المكارم
نجد فيها صورة شعرية ماجدة تقول:
29- نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
قد يتنادى عجل أين التوافق الشعورى الذى يكون لنا حين ننظر فى هذه الصورة؟
أين نثر الأشلاء على قنن الجبال من نثر الدراهم فوق العروس؟
أليس الأول فياضا بالانقباض والوحشة والآخر فياضا بالبهجة؟
قد يكون هذا قريبا فى ناظرى عجل لا يتدبر
العلى الجليل أن هذه الصورة حين نغفل عن فقه المعنى الشعرى لقوله (نثرتهم)... إلخ ونقيم سدا يحجزنا عن الفيض الشعرى النابع من أول شطر من القصيدة ، وقد عمدت رقنة هنا لتسحضره: (على قدر أهل العزم تأتى العزائم) بهذا التقديم للمتعلق على الفعل نكون بذلك قد قطعنا رحم الصورة الاستعارية فى (نثرتهم) ونفيناها عن نسبها. فليس حميدا أن ننسى استفتاحه بأهل العزم الكرام وأن ننسى علاقة الشاعر بالممدوح وأن نتغافل عن صورة الممدوح فى نفس الشاعر.
إذا لم نتحاجز عن ذلك الفيض الدافق من السياق والموقف الشعرى من المتنبى إزاء الحدث والمحدث (الممدوح) فإننا نستطيع أن نبصر حقيقة المعنى الشعرى فى تلك الاستعارة وتآخيه وتناغيه مع المعنى الشعرى فى الشطر الثانى من البيت (كما نثرت فوق العروس الدراهم)
لتنظر فيما علق به "أبو العلاء المعرى" على هذه الصورة يقول:
"الأحيدب: موضع ، وقيل: اسم الجبل الذى عليه مدينة الحدث"
يقول: إنك قتلتهم فى كل موضع من هذا الجبل ، ونثرتهم عليه كما تنثر الدراهم فوق العروس
شبه الأحيدب بالعروس ، لأنه قد اختضب بالدم كالعروس فى المصبوغات والمجاسد [أى الصبغ شديد الحمرة](1/156)
وشبه القتلى بالدراهم ، لبياض جثثهم حولها.
ونثرهم بنثرهم الدراهم فوق العروس"(17)
ويقول العكبرى:
"يقول: فرقتهم على هذا الجبل مقتولين ونثرتهم نثر الدراهم على العروس فتفرقت مصارعهم على هذا الجبل ، كما تتفرق مواقع الدراهم إذا نثرت.
وهذا من محاسن أبى الطيب ، وقد أشار إلى أن "سيف الدولة" تحكم فى الروم قتلا وأسرا ونثر جيشهم فوق هذا الجبل نثرا"(18)
هذان فهمان لتلك الصورة متقاربان بعض الشئ ولكنهما لم يصرحا بالتوافق الجوهرى بين النثر هنا والنثر هناك ، ولا سيما المعرى وهو الفيلسوف.
المهم أن نكون على ذكر من أن الصورة الاستعارية فى دلالتها على المعنى الشعرى لها مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياقها وبالموقف الشعورى للشاعر.
هذان الكليان تعين ملاحظتهما فى فقه الاستعارة على استبصار دلالتها على المعنى الشعرى فيها ، وعلى الانعتاق من قبضة التردى فى الخضوع للمعانى العقلية للصورة ، فإن تلك المعانى لا بعين التعلق بأستارها على استشعار عمود الاستعارة وروحها: الخلق الأدبى لعالم جديد لا يخضع لسطوة المعانى الوضعية لمفردات الصورة قبل بنائها وتشكلها
لم يكن المتنبى وهو يمدح سيف الدولة القائد العربى الماجد المالئ قلب المتنبى بالدهشة – لم يكن المتنبى يرمى إلى أن أشلاء الروم قد فرقها سيف الدولة أو بعثرها على ذلك الأحيدب ولا إلى تقريب هذا التفريق الذى لم نره إلينا بتفريق الدراهم فوق العروس.
لا يكون هذا هما شعريا يقلق المتنبى وهو من هو.
لن يكون هذا المعنى العقلى هو المعنى الشعرى فى الاستعارة (نثرتهم فوق الأحيدب نثرة)
القصيدة نجلها الغرام بعروبة سيف الدولة وسلها الاعتزاز بهذا الفارس الماجد المستجمع الولاء العربى الاسلامى فى دمائه وأفعاله
الموقف الشعرى من سيد الشعراء متجاوب مع الموقف البطولى من الهمام العربى سيف الدولة.
اعتزاز بالشاعرية هنا واعتزاز بالفروسية العربية هناك: صنوان جليلان(1/157)
أيستحضر نثر أشلاء أعداء الإسلام على قمم الجبال فى قلب المسلم انقباضا؟! كلا. أنه المفجر فى تلك القلوب فيوض البشر والعزة.
كم هى السعادة والحبور الذى يفيض فى صدرك ناظرا أشلاء بنى صهيون على أرض المعراج حين يفعلها فتى محمدى الشرعة قرآنى النهج؟
كم هى السعادة والحبور الذى فاض من الصدور مستمتعا بذلك الهلع الآخذ من أفئدة أولئك الطواغيت يوم الثلاثاء الأسعد الأمجد الذى أدخل رأس الطغيان الصليبى الزنيم حجر ضب خرب ، هنالك على الشاطئ الغربى البغيض.
أى غبطة وسرور يكون المسلم فيه حين يندحر الطغيان وتنتشر أشلاء الطاغوت كذلك الحبور فى صدر المتنبى يهدر فيه حين نثر العربى المسلم الماجد سيف الدولة أشلاء الروم والروس على ذلك الأحيدب.
هذه الاستعارة فى (نثرتهم فوق الأحيدب نثرة) تفيض بالبشرى حين قرن بها ذلك التشبيه (كما نثرت فوق العروس الدراهم)
لم يأت هذا (الكاف) فى (كما...) ليبين لنا مقدار النثر ، كلا ، جاءت هذه الكاف لتبرز المعنى الشعرى فى الاستعارة تجعله ظاهرا قاهرا. جاء "الكاف" ليقول إن فيض البشرى والحبور الغامر قلب الشاعر من صنيع سيف الدولة هو من جنس ذلك الفيض الغامر قلب الأهلين حين ينثرون على عروسهم تلك الدراهم.
نثر الدراهم من حيث هو لا قيمة له إلا عند من يرى فى الدراهم بغيته ، فيتشاغل بجمعها عما نثرت عليه. هم الذين ينشغلون بمنظر العروس والدراهم تمطرها وتتساقط تحت أقدامها الدراهم تنحنى جبهاهم تحت الإقدام.
أما اهل العروس فما لهذه الدراهم عندهم قدر ، البشرى عندهم فى نثرها على عروسهم. ذلك النثر هو الفياض بالحبور والعزة.
كذلك نثر أشلاء الروم والروس على الأحيدب مفجر أنهار الفخار فى قلب الشاعر. وحالته الشعورية فى نثر الأشلاء. أقوى فيضا بالعزة والبهجة من حالة أهل العروس منثورا عليها الدراهم.(1/158)
نرى أن الاستعارة فى نثرتهم فوق الاحيدب لم يكن فقه المعنى الشعرى فيها إلا من روافد عدة أقربها ذلك التشبيه الذى أردفها به الشاعر ، فكيف إذا ما استجمع الفقيه البيانى المتذوق سياق القصيدة كلها وارتحل على لاحب مسيرها؟!
إذا ما كان هذا شئ من الهمهمة فى شأن الاستعارة فإن شيئا دونه نلقيه إليك فى شأن المجاز
غير قليل من البلاغيين والنقاد يدرجون الاستعارة فى المجاز ، ومنهم من يجعل المجاز ضَرْبَيْنِ نظراً لمحله: مجاز اسناد (المجاز العقلى) ومجاز لغة وهو عنده صنفان نظرا للعلاقة بين طرفى المجاز: الاستعارة وعلاقتها المشابهة والمجاز المرسل وهو ما عداها من المجاز فى اللغة.
الذى إليه أذهب أن الاستعارة تكون منزلتها من المجاز منزلتها من التشبيه. هى ذات رحم بالتشبيه من حيث علاقتها وهى ذات رحم بالمجاز من حيث استعمال لفظها فى المعنى فكما أنا ميزنا الاستعارة عن التشبيه ، فأنا إلى تميز الاستعارة عن المجاز وإن تكن بينهما رحم ولا سيما خارج السياق الشعرى ، فإن تلك الرحم تبرق ملامحها أكثر.
يكون معنا التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
والمجاز عندى ضرب واحد ، فإذا قلنا (المجاز) فإنما هو المجاز المرسل ، ولست إلى تقسيمه إلى عقلى ولغوى (مرسل) ذلك أن المجاز العقلى هو فى الواقع من عالم الاستعارة الوسيع ، والشاعرية فى تذوقه على منهاج الاستعارة تراها أعلى وأقوى. ولسنا إلى الرغبة فى تكثير الأقاسيم.
لدينا مجاز مرسل له قربى بالاستعارة من جهة وقربى بالكناية من جهة أخرى علاقته بالكناية من علاقة الاستعارة بالتشبيه ، وعلاقته بالاستعارة من جهة استعمال اللفظ فى معناه المحول إليه.
المجاز المرسل طريق الدلالة فيه على المعنى الشعرى إنما هو اللزوم وهو هنا أقرب إلى اللزوم الذهنى هذا ، التلازم الذهنى تجده كثير الحضور فى التأويل العقلى للغة ،ـ وهو تأويل الغالب عليه أنه مضعف طاقة التذوق للمعنى الشعرى.(1/159)
إذا ما نظرت فى صورة ما من صور المجاز المرسل فإنك تدرك حين تٌقِيمٌها فى باب التأويل العقلى أنك تتنقل من مرحلة إلى أخرى أى أنك قائم فى سبيل التدرج الإدراكى الذى لا يبعث فى النفس الدهشة والبهجة ، بل يقيم النفس فى إدراكها المعنى تمام الإقناع الذى هو أساس الإعلام بأمر ما وليس الإدهاش والإبهاج الذى هو روح الاستعارة بما تقدمه من خلق عالم جديد لم يكن له من قبل وجود.
إذا ما نظرت فى قول الشاعر: معود الحكماء معاوية بن مالك فى قصيدته التى اصطفاها "المفضل الضبى" فى المفضليات (ق105)
21- وكنت إذا العظيمة أفظعتهم ... نهضت ، ولا أدب لها دبابا
22- بحمد الله ، ثم بعطاء قوم ... يفكون الغنائم والرقابا
23- إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه ، وإن كانوا غضابا
فإنك لا تجد فى قوله (السماء) بدلا من المطر إدهاشا كالذى أنت واجده فى الاستعارة الخالقة.
أنت هنا واجد ما هو أقرب إلى الإقناع العقلى الذى لا يصمد أمام من يدفع دعوى التجوز فى البيت ويدعى أن العرب إنما تطلق على المطر السماء توسعا لا تجوزا.
ليس المهم هنا العلاقة اللزومية بين السماء والمطر ، ولا سيما فى فقه الشعر. المهم هنا استشعار المعنى الشعرى الذى من وراء البيان عن المطر بالسماء.
فى استخدام السماء عن المطر استحضار لطهره ونقائه وعذوبته وأنه ليس لهم ولا لأحد من الخلائق يد فيه ، فهو فيض إلهى والعرب قد كانت على توحيد الربوبية ، والقرآن الكريم قد أقر لهم بذلك بتوحيد الربوبية ، ولكنهم أشركوا فى توحيد الألوهية.
المهم أنهم هنا كأنهم يشيرون إلى ذلك الطهر وإلى ذلك الفيض الإلهى وأن فى استخدام السماء معنى الإبلاغ فى كثرة المطر ، وكأن السماء على اتساعها نازلة بالأرض.(1/160)
وإذا أردت أن توغل شيئا فى البعد عن التأويل العقلى والتلازم الذهنى بين استخدام السماء وارادة المطر ، فإن من وراء ذلك الاستخدام ما قد يشعر معه الإيماء إلى التقاء السماء بالأرض وما بينهما من التواصل على الرغم من التقابل بينهما علوا وسفلا. قد يكون شئ من ذلك وراء البيان عن المطر بالسماء حين ينسج هذا البيان فى صورة شعرية والمتفقه المتذوق طليته وبغيته التى إليها يسعى إنما هى فى مثل هذا.
لا تظن أننى دافع أن يكون فى المجاز المرسل ما يكون له أثر فى بناء الصورة الشعرية. كلا ولكنى دافع أن يكون همنا فيه هو استقصاء العلاقات والقرائن كما هو الغالب على كثير من صنائع الناظرين فى المجاز المرسل.
الصورة الشعرية فى بيت "معود الحكماء" ليس العمدة فى بنائها أو نسجها هو المجاز المرسل. إنما هو خيط مهم من خيوط الإيريسم فى نسج هذا الديباج ، وهو لا يتمزق لو قال إذا نزل الغيث بأرض قوم ... .. سوف تبقى الصورة ولكن بعضا من جمالة يزوى.
المعنى الشعرى فى هذه الصورة تشكل من عدة روافد : تراه من قوله (إذا) هذه الحاملة إلى القلب فيض الوثوق بحدوث ما هى داخلة عليه وأنه ليس قصير الأمد أو قريب الأجل ، بل قد يكون بعيدا ميلاده لكته الوثيق الباعث الأمل وذلك ما يأتيك من هذا النغم المديد فى آخرها (إذا) وتراه فى اصطفاء هذا الفعل (نزل) من دون (كان) ففى النزول استحضار هذا المشهد المبهج الشارح الصدر الباعث فى النفس إقبالا على الحياة ، المفعم الفؤاد أن العلى من شأنه الامداد حين يعجز الدنى وإن كان غير ذى أهل لذلك الإمداد.
فى معنى النزول فيض من التثقيف للنفس الإنسانية حين تقيم أمام هذا المشهد الذى تعجز عن استحضاره أو استدفاعه.
ويزيد هذا المعنى تدفقا إلى قلبك حين لا تنسى ما عمره وقاض به البيتان السابقان على هذا البيت (رقم 21 ، 22)(1/161)
تأمل قوله (إذا العظيمة أفظعتهم نهضت) ثم البيت التالى له تجد أن فى قوله (نزل) معنى النجدة العَلِيَّة التى تستوجب أن يكون هذا الفيض العلى غير مختص بقوم ، لا يحتكر ، وإن من غضب لهذه المشاركة فى نوال ما نزل من السماء لم يكن ممن ينهض للعظيمة حين تفظع ولم يكن فكَّاك الغنائم والرقابا ومثل هذا أجدر به ألا يترك لما تسول له نفسه وتدفعه إليه.
فى قوله (نزل) امتدادا لخيوط معقودة بعديد من المعانى السابقة عليها واللاحقة بها.
وترى فى قوله (السماء) و (الأرض) تقابلا لا يدل على تعاند بقدر ما يدل على التراحم الذى ينبغى أن يكون بين العلى الفياض الملئ ، والدنى المعوز المحتاج.
استشعر هنا فى التقابل هنا بين السماء النازل منها فيض الحياة وبين الأرض القابلة عوث السماء تصويرا لما هو الجدير أن يكون منهاج حياة بنى آدم علبه السلام.
كأنك قائل أليس ذلك كالإسقاط ، أيكون مثل هذا قائما فى صدر ذلك الجاهلى العداء على الحرمات النهاب ما ملكت أيدى الآخر الغافل أو العاجز.
كأنك قائل ذلك. ولكن هل لك أن تزكى بالسفر فى القصيدة: قصيدة معود الحكماء ، بل هل لك أن تسأل نفسك: ما معود الحكماء.
أومئ إليك إن أحببت المقام فى روض هذه القصيدة والالتذاذ بنشيدها أومئ إلى أن تقف عند قوله:
12- رأيت الصدع من كعب فأودى ... وكان الصدع لا يَعِدٌ ارتئابا
وما بعده
وأن تقف عند قوله:
15- أعود مثلها الحكماء بعدى ... إذا ما الحَقٌّ فى الإشباع نابا
فإنك إن تأملت مثل هذا علمت أنك سليل قوم أماجد سليل عرب ظلموا من أحفادهم حين ظنوا بهم السوأى ظنوا بهم أنهم خواء من كل فضيلة ، ولو كانوا كما ظننتم لما كان منهم سيد الخلائق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ولما كانوا أهلا لأن ينزل الله عز وجل عليهم الغيث العميم الفخيم:
القرآن الكريم.(1/162)
المهم أن المعنى الشعرى فى هذه الصورة لا يأتيك من المجاز المرسل فيها وحدها هو آتيك من روافد عديدة ، مما ذكرته لك ومما يمكنك أن تبصره فى قوله (قوم) وقوله (رعيناه) من دون أخذناه ومن قوله (كانوا غضابا) من دون قوله (وان غضبوا) ... إلخ
المعنى الشعرى تشكل من ذلك كله وليس من المجاز المرسل ، فما هو إلا خيط دقيق فى هذا الديباج الثمين.
ولو أنا تخلقنا بما فى هذا المعنى الشعرى القائم فى هذه الصورة لكنا أهل مجد.
لو أنا جعلنا كل ما هو من فيض العطاء الإلهى على قوم غير مدفوع عنه من كان فى حوج إليه من إخواننا العرب والمسلمين لو فعلنا هذا فى نيلنا وأزهرنا هنا فى الكنانة وفعل الأشقاء فى السودان فى أرضهم الخصيبة وفعل إخواننا فى الجزيرة فى نفطهم لكنا أهل مجد ولما كنا غارقين فى بحر لجى من المذلة والمعرة التى لا نستطيع اليوم الخروج منها بل ولا نكاد نعرف كيف الخروج ، وقد لا أبالغ إن قلت لا تستشرف نفوسنا ولا سيما نفوس الطواغيث فينا وهم اليوم كثر – إلى أن نفكر فى مخرج منها ، وكأنها المستعذبة المستمتعة بتجرع ردغة الخبال.
مجمل الأمر هنا أنى أغرى المتفقه البيانى المتذوق المعنى الشعرى فى القصيدة العربية عامة وفى أسلوب المجاز المرسل خاصة ألا يتشاغل بعد أنواع العلاقات اللزومية فى المجاز المرسل وتصنيفها وتكثير شواهدها وغرائبها. فإن هذه العلاقات على تعدادها وتنوعها إنما هى دائرة فى علاقة كلية واحدة هى اللزوم ، والغالب عليه اللزوم الذهنى الذى قد يطغى عليه الإلف ، فيستحيل المجاز حقيقة عرفية ، لا يكاد ينبه إلى ما كانت عليه من قبل. وهذا ما جعل "ابن جنى" ذاهبا إلى أن اللغة كلها مجاز عند التدقيق والتأمل العقلى ، فإن من يقول: ضربت فلانا ، هو فى الحقيقة والتأويل العقلى ما ضَرَبَ إلا بعضا منه ، فما عمَّ الضرَّب كل فلان هذا ظاهرا وباطنا ، فعبر بالكل عن الجزء ، فهل يقال أن هنا مجازا مرسلا كالذى فى قوله تعالى:(1/163)
"يجعلون أصابعهم فى آذانهم ... (البقرة)
هل المتكلم بمثل: ضربت فلانا مستحضر هذه العلاقة؟! لا يكون ، ولو أنك قلت لقائل هذا إنك صانع مجازا مرسلا لفغر فاه.
ليس المهم هنا أن يكون هنالك علاقة نوعها كذا وكذا ، كل ذلك عقيم إذا لم ندخل من شاطئه إلى نبج قاموس المعنى الشعرى فى الصورة التى نحن نقوم لها تذوقا.
الشاعر فى المجاز المرسل ينفث فيه ما يجدد به الحياة ، يبعث فيها أرواحها التى فارقتها بالألفة المزهقة روح البهجة ، ولكنه لا يخلق لك عالما جديدا يدهشك به قائما فى بصيرتك كما يفعل فى الاستعارة
المتفقة فى الشعر المتذوق معانيه الساحرة همه فى المجاز المرسل أن يشتغل بصنعة الشاعر فى نفخ الروح فى الأجساد فبعثها من أجداثها. فتلك فريضة لا يليق به الانشغال عن الوفاء بحقها بالاستهتار فى تعديد العلاقات ، فإن الشاعر ما يقيم صوره أو المجاز المرسل فيها ليجدد فى العلاقات وينوع فى القرائن كلا. الأمر أجل من ذلك الأمر أمر نفخ فى الصور ليجدد الحياة الخالدة بهذا النفخ المجيد الحميد.
ذاك الذى همهمت به فى المجاز المرسل وحاجزته عن الاستعارة من أنهما متفاصلان فى طبيعة الدلالة وفى منهاج التصوير يدفعنى إلى أن تكون وفقة عجلى مع الكناية وفى اسمها عنوان على طبيعة الدلالة فيها.
فاصل مادتها (ك ن و) دال – كما يقول ابن فارس "على تورية عن اسم بغيره. يقال: كنيت عن كذا ، إذا تكلمت بغيره مما يستدل به عليه وكنوت أيضا ، ومما يوضح هذا قول القائل:
وإنى لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانا بها فأصارح
ألا تراه جعل الكناية مقابلة للمصارحة ولذلك تسمى الكنية كنية كأنها تورية عن اسمه ... "
أطلت لك النقل عن ابن فارس فى (معجم مقاييس اللغة) لتبصر حقيقة الدلالة وطبيعتها فى هذا الأسلوب من عنوانه(1/164)
الكناية نهج فى التصوير له علاقة بنهج "الحذف" فى الدلالة: فى الحذف تراك أعرب ما تكون وأنطق إذا لم تنطق ، وهنا تراك ابلغ ما تكون إلى مرادك وأنفذ به فى قلب صاحبك إذا لم تصرح به ، وترك التصريح بالشئ كأنه منجول منسول من معدن ترك الذكر ، إلا أنك فى الحذف لا تقيم ما يشغلك عما حذفت فتواريه تحت بجاده أو دثاره أو شعاره ولكنك فى الكناية مقيم ستارا بتوارى فيه المحجوج إليه وكأنه العروب الحصان من الحور الحسان.
فى الكناية لا يفتح لك الشاعر الباب إلى معناه ولا يقيم بينك وبينه سدا. كلا، هو ينزل على أبوابه الأستار. يغريك لعلك تقدم فتمد يدك حتى تمد بصيرتك.
... وكثير من أساليب الشعر تمزج فى روحها روح الكناية تجد هذا الروح فى التشبيه وفى الاستعارة ، وكأنى بالكناية لا تمثل فى حقيقتها ومنهاج دلالتها قسيما للتشبيه والاستعارة بل هى قائمة فيهما بل وفى كثير غيرهما. أنت واجد روحها فى بعض صور التقديم والحذف والتعريف.
... أنت إذا استحضرت روح الكناية وأنت تتذوق صورة من التقديم ستجد فى هذه الصورة ما يتوارى خلف الستار من المعانى. ستجد فى المعانى القائمة من هذا التقديم دلالة على معان أخرى متوارية خلف الأستار ، وتلك روح الكناية.
أكاد أقول لك إن تكن الاستعارة معدن الشعرية فى القصيدة ، فإن الكناية هى الطابع الذى يكون عليه كل ما هو شعر.
هذا فى الروح العام للكناية ولكن البلاغيين حين يتحدثون عن الكناية فى أسفارهم فإنما يرمون إلى ضرب من الدلالة الخفية على المعانى اصطلحوا عليه وجعلوا له عيارا من الاستعمال.
... ذلك هو اللفظ المراد لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى الملفوظ بصورته(19)
أو كما يقول"عبد القاهر" أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى فلا يذكره بلفظه الموضوع له فى اللغة ولكن يجئ إلى معنى هو تاليه وردفه فى الوجود ، فيومئ له إليه ويجعله دليلا عليه ... "(20)
فهذا الشاعر الضليل امرؤ القيس يقول فى معلقته عن صاحبته(1/165)
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
هو لا يلقى فى سمعك نعت صاحبته أنها ذات نعيم مقيم ، ولكنه يقيمها فى بصيرتك رافلة فى آثار هذا النعيم التليد ، فلا يدع فيك أثَارَة من توقف فيما ذهب إليه فضلا عن منازعة فيه.
وقوله (نؤوم الضحى) لم يقم وحده بما أراد "امرؤ القيس" أن يقيمه أو أن يغرسه فى قلبك من أنها ذات نعيم تليد ، وإنما البيت كله قائم بذلك دال عليه بهذه الصورة البديعة.
لو أنك أغمضت عينيك وكنت طليق التخيل دقيق المرسم ورددت البيت فى صدرك ماذا أنت راء ؟
أيكون المترادف على قلبك من البيت ، وقد سبحت معه فى قماميس الخيال الطليق هو الذى يصب فى أذنك إذا ما قيل لك أنها ذات نعيم مقيم تليد؟!
ألا ترى إلى قوله (تضحى) كيف استحضر "الضحى" وقد عجت الأرض بالحركة والمسعى جيئة وذهابا ، وهى التى لم تزل فى فراشها
وهذا الفتيت المنثور فوق فراشها ما باله لم تفن حباته وإن بقيت آثار أريجه؟ أى كثرة تلك التى انتثرت على ذلك المخدع تضمح بها ما نضمخ وبقى غير قليل من ذلك الفتيت فوق فراشها ، وانظر كيف قال (فراشها) ولم يقل "سريرها" يستحضر فى صدرك تلك الفرش والنمارق تتقلب عليها وقد انتشر عليها من حولها ذلك الفتيت.
ومن وجوه المعنى فى قوله (فتيت المسك فوق فراشها) أنه كناية عن أن فراشها فيه المسك من طيب جسدها ، لا أن أحدا قد فت لها فيه مسكا وذلك من أنها ربيبة نعمة ، ومن كانت كذلك لم تك بحاجة إلى أن يفت فوق فراشها المسك بل هى طيب فراشها ، وقد قال المتنبى من بعد:
الطيب أتت ، إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الناس(1/166)
وهذا فيه مزيد إبلاغ فى إثبات المعنى الذى يرمى إليه الشاعر من أنها مترفة ذات نعيم تليد متجدد. يزيده توكيدا وإنماء بقوله (نؤوم الضحى) هو يؤكد معنى فى (تضحى) ويؤسس معنى آخر هو أن نومها الضحى ليس فلتة من فلتات حياتها إنَّها النؤوم الضحى ، فيحجز بهذا عنك ما قد يحوم من حولك من قوله (تضحى) مومئا الى قوله (تضحى..) غير دال على أنها نائمة على فراشها إلى الضحى ، فلعلها لم تنم عليه ، أو لعلها غادرته مع إشراقه الفجر فى مهنة أهلها فجاء قوله (نؤوم الضحى) مؤكدا معنى لاح من قوله (تضحى..)
وهو قد دفع الى سمعك أولا قوله (نضحى ... الخ) حيث يعابث الوهم صدرك فيكر عليه قوله (نؤوم الضحى) فيصرعه.
وانظر هذا الاستغراق الآتيك من إخلاء حرف الجر ، فما قال لك: نؤوم فى الضحى كما قد تراه فى لسان آخر ، فالنوم غير واقع على الضحى بل واقع فيه وفى هذا إيماء لطيف الى استغراقه كله بل واستغراق كل ضحى ، وكأن "اللام" فى الضحى تتآخى مع حذف الجار "فى" فى الإيماء الى ذلك الاستغراق المومئ إلى عظيم النعيم التليد.
ويأتيك قوله (لم تنتطق عن تفضل) كناية عن معنى الترف والنعمة أيضا ، ووجه دلالة هذا على ذلك المعنى المرمى إليه يحتمل غير قول:
يمكن أن يكون معنى (لم تنتطق عن تفضّل) انها لم تنتطق بعد تفضل ، كما يقال استغنى فلان عن فقره أى بعد فقره ، فيكون هذا من الدلالة على أنها لم تقع منها انتطاق من بعد لبس ثوب واحد هو الفضلة الذى يكون للخدمة(21)
فإن كان الانتطاق أى لبس النطاق إنما يكون فى وقت الراحة فإنه يثبت لها أنها لابسة النطاق دائما ولم تكن من قبله لابسة الفضلة ، فهى دائما فى راحة ونعيم.
وإن كان لبس النطاق انما يكون لذى مهنة فالمعنى أنه ينفى عنها أن تكون ذات نطاق ويكون هذا مما يعرف عند البلاغيين بعكس الظاهر أى ينفى الشئ مقيَّداً إيهاما بأن النفى للقيد وهو فى حقيقته للمقيد لا للقيد على نحو ما تراه فى نحو قوله:(1/167)
على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطىّ جرجرا
فالمعنى على أنه ليس فيه علم ولا منار فيهتدى به ، وليس المعنى على أن له منارا ولكن لا يهتدى به.
ومن وجوه المعنى أنها لم تنتطق فتعمل وتطوف ولكنها تتفضل ولا تنتطق كما قال أبو عبيدة(22) فهو ناف عنها الانتطاق مثبت لها التفضل أى أنها لم يقع منها انتطاق من أنها ذات فضل ونعيم.
أيا كان وجه المعنى فإن المرمى به إليه أنَّها غير خادمة نفسها فهى ذات خدم وحشم.
كذلك ترى جملا ثلاثا (تضحى فتيت المسك فوق فراشها) (نؤوم الضحى) (لم تنتطق عن تفضل) قد تواردت على معنى يرمى الشاعر إليه، وقد ترادفت وتناسلت وتعالقت ؛ فلم تحتج إلى ناسب لها من خارجها: لم يعطفها بواو أو فاء أو ثم.
تواردت هذه لكتابات فى هذا البيت لأنها ترسم معنى هو معدن كل نعت من نعوت النعمة التى تحفظ للفتاة أنوثتها. وكأن فى امتهان الأنثى عدوانا على أنوثتها التى هى معدن خصوبتها وحنانها الذى منه السكينة والمودة.
المهم هنا أن الصورة البيانية فى الكناية لا تقوم على منهاج خلق عالم جديد مدهش كما فى الاستعارة، ولا على منهاج المقايسة والمناظرة كما فى التشبيه.
الكناية تقوم على منهاج رسم الأشياء بين عينيك تبصرها ، لتقوم فيها وتتذوقها وليتوارد إلى بصيرتك ما يرمى الشاعر إليه.
هو يقيمك بالكناية فى الحقيقة تتأملها ولا تنشغل عنها بالذى يرمى إليه، بل ليسوق إليك منها مهواه ومغزاه. من ثم فأنت فى بيت امرئ القيس لا تتجاوز الصورة وتتشاغل عنها بل لابد أن تعيشها وكأنها قائمة بين يديك أعطها حقها من التذوق ودعها تعمل فيك فتحذوك ما يرمى بها إليه دون جهد منك أو طلب.
أنت إذا تجاوزت المذكور فى الكناية إلى المعنى المراد مباشرة دون أن تقدم وتقيم متذوقا المذكور فإنك قاتل روح الشعر فى أسلوب الكناية.(1/168)
إن معايشة الحقيقة وتنسم أرجها فى أسلوب الكناية أعون للمتذوق على فقه المعنى من القفز منها أو الفرار إلى المعنى المراد. هذا لا يكون فى فقه الشعر وتذوقه وإن كان من غيرك متذوقا شعرا ، أو منك غير متذوق.
دونك "المتنبي " مادحًا "سيف الدَّولة" وقد أخذ "بني كلاب" أخذ مقتدر في قصيدة فاتحتها :
بغيرك راعيًا عبث الذّئاب * وغيرك صارمًا ثلم الضّراب
فقال مصورًا حال بني كلب معه :
ومن في كفّه منهم قناة * كمن في كفّه منهم خضاب
هذه الصورة البديعة انظر كيف طوى بهجتها العكبرى قائلا:"يريد أنهم لهيبته خذلوا ، حتى صار الرجل منهم كالمرأة ، وهذا حسن جدا"(23)
انتقل مباشرة إلى المراد فقتل المعنى الشعرى فى الكنايتين ، فكان انتقاله اليه وهو مغسول من المعنى الشعرى الذى له تقرأ الشعر وتتذوقه.
... إنك إن قرأت هذه الكناية (فمن فى كفه منهم قناة) وأقمت صورتها فى نفسك ورأيت ببصيرتك رجالا أشداء تقبض أكفهم على القنا ، ولاحظت تمكن القناة فى الكف منهم إذ قال لك فى كفهم جاعلا القناة فى كفهم متمكنين منها لا تهتز. ثم نظرت فى الجانب الآخر ورأيت تلك الناعمات المائسات وقد سرى الخطاب فى أكفهن فإنهن ربائب نعيم محصنات عن الامتهان والخدمة ، فالخادم لا تختضب. إنك إن فعلت ذلك مستحضرا هاتين الصورتين فإنك تدرك عظيم المعنى الذى يرمى إليه الشاعر.
... يريد الشاعر أن يقيم فى صدرك أنهما فى حقيقة الأمر أمام بأس الممدوح سواء ، لا تنفع القناة القابض عليها الملتفة كفه بها من بأس الممدوح إلا كما ينفع الغادة خضابها فى كفها.
هل رأيت خضابا فى كف غانية واقيا لها من بأس شديد، كذلك القناة فى كف أولئك الأشاوس لن تكون البتة وقاء لهم من ذلك الفارس المجيد.
... استحضار الصورة المنتقل منها إلى المراد فيه عون على الإحساس بالمعنى الشعرى لأن تجريد الصور الحسية فى الشعر والفرار منها إلى المعنى المراد قاتل ما له تكون قراءة الشعر وتذوقه.(1/169)
مجمل الأمر أن دراسة الصورة البيانية فى القصيدة بنظر إليها من جانبين:
جانب وقوعها فى نسيج صورة شعرية عامة تكون فيها خيطا من الإبريسم فى نسيج الديباج شأنها فى هذا شأن غيرها من سائر الخيوط الناسجة..
وجانب دلالتها على المعنى الشعرى فيها ، وذلك يفتقر المتفقه فيه إلى الوعى بطبيعة الدلالة لكل ضرب من ضروب التصوير البيانى. فليس التشبيه فى هذا كالاستعارة وليست الاستعارة كالكناية ...
يقول شيخنا – أعزه الله: "الذى يتعرض لتحليل الأساليب لا يكتفى منه بالقول بأن هذا التركيب يفيد كذا ، وإنما عليه أن يبين كيف أفاد ، وما وجه دلالته عليه ...
"ليس الأمر فى التحليل هو إدراك المعنى من العبارة الأدبية ، وإنما تأملها وبيان وجه دلالتها ، بل إن التأمل وإدراك تلك الكيفية هو ما ينبغى أن يعتد به فى فهم الشعر"(24)
ذلك ما أنت إلى القيام بحقه
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وورثته من أهل العلم وأمته في كل لمحة نفس عدد خلقه ورضاء نفسه ومداد كلماته والحمد لله رب العالمين 0 ...
الهوامش
(1) الحيوان للجاحظ ج3 ص 131-132 ، ودلائل الإعجاز ص256
(2) إعجاز القرآن للباقلانى ت: السيد صقر ص119 (دار المعارف)
(3) دلائل الإعجاز (ت: شاكر) ص 481 ، 487 ، 488 ، 508
(4) المطول للسعد ص 300
(5) السابق ص 301
(6) السابق ص 33 ، وبغية الإيضاح 1/32
(7) دلائل الإعجاز ص 146
(8) النكت فى إعجاز القرآن للرمانى ص 43 (ضمن ثلاث رسائل فى الإعجاز)
(9) دلائل الإعجاز ص 43
(10) أسرار البلاغة (ت: شاكر 148)
(11) التصوير البيانى د: محمد أبو موسى ص 176 – 177
(12) السابق ص 182
(13) أسرار البلاغة ص 43
(14) النكت للرمانى ص 86
(15) التصوير البيانى د: محمد أبو موسى ص 184
(16) السابق ص 185
(17) شرح ديوان أبى الطبيب المتنبى (معجز أحمد) للمعرى ج3ص431 (ت: عبد المجيد دياب)
(18) شرح ديوان المتنبي للعكبري ج3ص388
(19) المطول ص403
((1/170)
20) دلائل الإعجاز ص66
(21) شرح القصائد السبع الطول لأبن الأنباري ص65 (ت:هارون – دار المعارف)
(22) السابق ص66
(23) شرح ديوان المتنبي للعكبرى ج1 ص58
(24) التصوير البيانى د:محمد ابو موسى ص532،732 ... ) 0
ثبت أهم المصادر والمراجع
1- أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى ت: شاكر- دار المدنى
2- البيان والتبين للجاحظ/ ت: هارون ط: الخابجى
3- التصوير البيانى. د/ محمد أبو موسى - مكتبة وهبة (ط2 سنة 1400)
4- الحيوان للجاحظ/ ت: هارون - ط الحلبى
5- دراسة في البلاغة والشعر. د/ محمد ابو موسى - مكتبة وهبة - ط (1) 1411
6- دلائل الإعجاز. لعبد القاهر الجرحانى (ت: شاكر. ط/ المدنى
7- الشعر الجاهلى. منهج في دراسته وتقويمه. د/ محمد النويهى ط/ الدار القومية للطباعة والنشر
8- طبقات فحول الشعراء. لابن سلام الجمحى (ت: شاكر - ط/ المدنى)
9- العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده ، لابن رشيق القيروانى (ت: محى الدين عبد الحميد - دار الجيل)
10- عيار الشعر لابن طباطبا - ت: الحاجرى وسلام. ط: التجارية 1956. القاهرة.
11- قضية الشعر الجاهلى فى كتاب ابن سلام. لمحمود شاكر - ط: المدنى 1418.
12- الكشف عن مساوئ المتنبى للصاحب بن عباد. ت: ابراهيم الدسوقى (دار المعارف) ذيلا للإبانة عن سرقات المتنبى للعميدى.
13- المثل السائر لابن الاثير. ت: الحوفى وطبانة - ط: نهضة مصر.
14- منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجنى ت الحبيب الخوجة - دار الغرب الإسلامى - بيروت.
15- الموازنة بين شعر أبى تمام والبحترى للآمدى. ت السيد صقر - دار المعارف.
16- النكت فى إعجاز القرآن لأبى الحسن الرمانى (ضمن: ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن) - ت محمد خلف الله وزغلول سلام - دار المعارف.
17- نمط صعب ونمط مخيف لمحمود شاكر - ط: المدنى
18- الوساطة بين المتنبى وخصومه. (ت أبو الفضل والبجاوى) ط: (عيسى الحلبى)(1/171)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
##############
قوله تعالى :
( الذين يأكلون الربا
القول في تأويل قوله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
يعني بذلك جل ثناؤه الذين يربون والإرباء الزيادة على الشيء يقال منه أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء والزيادة هي الربا ورباالشيء إذا زاد على ما كان عليه فعظم فهو يربو ربوا
وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على مااستوى من الأرض مما حولها من قولهم ربا يربو ومن ذلك قيل فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم
فأصل الربا الإنافة والزيادة ثم يقال أربى فلان أي أناف صيره زائدا وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه
ولذلك قال جل ثناؤه يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك 0000عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه
00000
عن قتادة أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه فقال جل ثناؤه للذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يعني بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي يتخبطه فيصرعه من المس يعني من الجنون(1/172)
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك 0000
عن مجاهد في قول الله عز وجل الذين يأكلون الربالا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا
0000 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال ذلك حين يبعث من قبره
000 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال ذلك حين يبعث من قبره
000عن سعيد بن جبير الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآية قال يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق
000عن قتادة قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون الآية وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة بعثوا بهم خبل من الشيطان 000
عن قتادة في قوله لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون
عن الربيع في قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان وهي في بعض القراءة لا يقومون يوم القيامة
عن الضحاك في قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا كالذي يتخبطه الشيطان من المس
عن السدي الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يعني من الجنون(1/173)
قال ابن زيد في قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال هذا مثلهم يوم القيامة لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة كأنه خنق كأنه مجنون ومعنى قوله يتخبطه الشيطان من المس يتخبله من مسه إياه يقال من قد مس الرجل وألق فهو ممسوس ومألوق كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن
ومنه قول الله عز وجل إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا
ومنه قول الأعشى
وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق
فإن قال لنا قائل أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله أيستحق هذا الوعيد من الله
قيل نعم وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم
وفي قوله جل ثناؤه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله الآية ما ينبىء عن صحة ما قلنا في ذلك وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا وأن سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه إذا علموا به
القول في تأويل قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا(1/174)
يعني بذلك جل ثناؤه ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق زدني في الأجل وأزيدك في مالك فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك هذا ربا لا يحل فإذا قيل لهما ذلك قالا سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال فكذبهم الله في قيلهم فقال وأحل الله البيع
القول في تأويل قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
يعني جل ثناؤه وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرم الربا يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه يقول عز وجل وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللت الأخرى منهما وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها فقال الله عز وجل ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا لأني أحللت البيع وحرمت الربا والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم ما أشاء وأستعبدهم بما أريد ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ولا أن يخالف أمري وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي
ثم قال جل ثناؤه فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى يعني بالموعظة التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوفهم به في آي القرآن وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب(1/175)
يقول جل ثناؤه فمن جاءه ذلك فانتهى عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه فله ما سلف يعني ما أكل وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك وأمره إلى الله يعني وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم وبعد انتهاء آكله عن أكله إلى الله في عصمته وتوفيقه إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه وإن شاء خذله عن ذلك
ومن عاد يقول ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله إنما البيع مثل الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار يعني نار جهنم فيها خالدون وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك 000 عن السدي فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله أما الموعظة فالقرآن وأما ما سلف فله ما أكل من الربا
القول في تأويل قوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم يعني عز وجل بقوله يمحق الله الربا ينقص الله الربا فيذهبه كما حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس يمحق الله الربا قال ينقص وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الربا وإن كثر فإلى قل وأما قوله ويربى الصدقات فإنه جل ثناؤه يعني أنه يضاعف أجرها لربها وينميها له وقد بينا معنى الربا قبل والإرباء وما أصله بما فيه الكفاية من إعادته فإن قال لنا قائل وكيف إرباء الله الصدقات قيل إضعافه الأجر لربها كما قال جل ثناؤه مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة وكما قال من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه(1/176)
له أضعافا كثيرة وكما حدثنا أبو كريب قال ثنا وكيع قال ثنا عباد بن منصور عن القاسم أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات و يمحق الله الربا ويربي الصدقات حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال ثنا ابن المبارك عن سفيان عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال إن الله عز وجل يقبل الصدقة ولا يقبل إلا الطيب حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي قال ثنا ريحان بن سعيد قال ثنا عباد عن القاسم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل يمحق الله الربا ويربي الصدقات حدثني محمد بن عبد الملك قال ثنا عبد الرزاق قال ثنا معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله عز وجل حتى تكون مثل أحد فتصدقوا حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت يونس عن صاحب له عن القاسم بن محمد قال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه ولا يقبل منها إلا ما كان طيبا والله يربي لأحدكم لقمته كما يربي أحدكم مهره وفصيله حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد وأما قوله والله لا يحب كل كفار أثيم فإنه يعني به والله لا يحب كل مصر على كفر بربه مقيم عليه مستحل أكل الربا وإطعامه(1/177)
أثيم متماد في الإثم فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه
القول في تأويل قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به من عند ربهم من تحريم الربا وأكله وغير ذلك من سائر شرائع دينه وعملوا الصالحات التي أمرهم الله عز وجل بها والتي ندبهم إليها وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأدوها بسننها وآتوا الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم بعد الذي سلف منهم من أكل الربا قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم لهم أجرهم يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم عند ربهم يوم حاجتهم إليه في معادهم ولا خوف عليهم يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم من أكل ما كانوا أكلوا من الربا بما كان من إنابتهم وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة ربهم وتصديقهم بوعد الله ووعيده ولا هم يحزنون على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه القول في تأويل قوله تعالى يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين يعني جل ثناؤه بذلك يا أيها الذين آمنوا صدقوا بالله وبرسوله اتقوا الله يقول خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه وذروا يعني ودعوا ما بقي من الربا يقول اتركوا طلب ما بقي لكم من فضل على رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها إن كنتم مؤمنين يقول إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم وذكر أن(1/178)
هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم فكانوا قد قبضوا بعضه منهم وبقي بعض فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إلى ولا تظلمون قال نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من(1/179)
الربا حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين قال كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وماكان للناس عليهم من ربا فهو موضوع فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله إلى ولا تظلمون فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب قال ابن جريج عن عكرمة قوله اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا قال كانوا يأخذون الربا على بني المغيرة يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير فهم الذين كان لهم الربا على بني المغيرة فأسلم عبد ياليل وحبيب وربيعة وهلال ومسعود حدثني يحيى بن أبي طالب قال ثنا يزيد قال ثنا جويبر عن الضحاك في قوله اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين قال كان ربا يتبايعون به في الجاهلية فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم القول في تأويل قوله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون يعني جل ثناؤه بقوله فإن لم تفعلوا فإن لم تذروا ما بقي من الربا واختلف القراء في قراءة قوله فأذنوا بحرب من الله ورسوله فقرأته عامة قراء أهل المدينة فأذنوا بقصر الألف من فأذنوا وفتح ذالها بمعنى وكونوا على علم وإذن وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قراء الكوفيين فآذنوا بمد الألف من قوله فآذنوا(1/180)
وكسر ذالها بمعنى فآذنوا غيركم أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ فأذنوا بقصر ألفها وفتح ذالها بمعنى اعلموا ذلك واستيقنوه وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك وإنما اخترنا ذلك لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقر على المقام عليه وأن يقتل المرتد عن(1/181)
الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام أذنه المشركون بأنهم على حربه أولم يأذنوه فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون كان مشركا مقيما على شركه الذي لا يقر عليه أو يكون كان مسلما فارتد وأذن بحرب فأي الأمرين كان فإنما نبذ إليه بحرب لا أنه أمر بالإيذان بها إن عزم على ذلك لأن الأمر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب لم يلزمهم حربه وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل ذكر من قال ذلك حدثني المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إلى قوله فأذنوا بحرب من الله ورسوله فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه حدثني المثنى قال ثنا مسلم بن إبراهيم قال ثنا ربيعة بن كلثوم قال ثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب حدثني المثنى قال ثنا الحجاج قال ثنا ربيعة بن كلثوم قال ثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مثله حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أوعد لآكل الربا بالقتل حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس قوله فأذنوا بحرب من الله ورسوله فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله وهذه الأخبار كلها تنبىء عن أن قوله فأذنوا بحرب من الله إيذان من الله عز وجل(1/182)
لهم بالحرب والقتل لا أمر لهم بإيذان غيرهم القول في تأويل قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم يعني جل ثناؤه بذلك إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم(1/183)
المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا حدثني المثنى قال ثنا عمرو بن عون قال ثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال وضع الله الربا وجعل لهم رءوس أموالهم حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم قال ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ولا يزدادوا عليه شيئا حدثني موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم الذي أسلفتم وسقط الربا حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أبتدىء به ربا العباس بن عبد المطلب حدثنا المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته إن كل ربا موضوع وأول ربا يوضع ربا العباس القول في تأويل قوله لا تظلمون ولا تظلمون يعني بقوله لا تظلمون بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه أو لم يكن لكم قبل ولا تظلمون يقول ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل ذكر من قال ذلك حدثني المثنى قال ثنا أبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون فتربون ولا تظلمون فتنقصون وحدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قال لا تنقصون من(1/184)
أموالكم ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم القول في تأويل قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون يعني جل ثناؤه بذلك وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوس أموالكم ذو عسرة يعني معسرا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء فأنظروهم إلى ميسرتهم وقوله ذو عسرة مرفوع بكان فالخبر متروك وهو ما ذكرنا وإنما صلح(1/185)
ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المتكفي بنفسه التام لكان وجها صحيحا ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر فيكون تأويل الكلام عند ذلك وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم فنظرة إلى ميسرة وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب وإن كان ذا عسرة بمعنى وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا بخلافه خطوط مصاحف المسلمين وأما قوله فنظرة إلى ميسرة فإنه يعني فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة كما قال فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل فأغنى عن تكريره والميسرة المفعلة من اليسر مثل المرحمة والمشأمة ومعنى الكلام وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم فيصير من أهل اليسر به وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال نزلت في الربا حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال ثنا هشام عن ابن سيرين أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال فقضى عليه وأمر بحبسه قال فقال رجل عند شريح إنه معسر والله يقول في كتابه وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال فقال شريح إنما ذلك في الربا وإن الله قال في كتابه إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال ذلك في الربا حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن الحسن أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول أي فلان إن كنت موسرا فأد وإن كنت معسرا فإلى ميسرة(1/186)
حدثنا يعقوب قال ثنا ابن علية عن أيوب عن محمد قال جاء رجل إلى شريح فكلمه فجعل يقول إنه معسر إنه معسر قال فظننت أنه يكلمه في محبوس فقال شريح إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار فأنزل الله عز وجل وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وقال الله عز وجل إن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه أدوا الأمانات إلى أهلها حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال فنظرة إلى ميسرة برأس ماله حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر وليست النظرة في الأمانة ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها حدثني موسى قال ثنا عمرو بن حماد قال ثنا أسباط عن السدي وإن كان ذو عسرة فنظرة برأس المال إلى ميسرة يقول إلى غنى حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة هذا في شأن الربا حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد بن سلمان قال سمعت الضحاك في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة هذا في شأن الربا وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون فلما أسلم من أسلم منهم أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم حدثني المثنى قال ثنا عبد الله قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة يعني المطلوب حدثني ابن وكيع قال ثنا أبي عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال الموت حدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد قال ثنا إسرائيل عن جابر عن محمد بن علي مثله حدثني المثنى قال ثنا قبيصة بن عقبة قال ثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال هذا في الربا حدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد قال ثنا شريك عن منصور عن إبراهيم في(1/187)
الرجل يتزوج إلى الميسرة قال إلى الموت أو إلى فرقة حدثنا أحمد قال ثنا أبو أحمد قال ثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم فنظرة إلى ميسرة قال ذلك في الربا حدثنا أحمد قال ثنا أبو أحمد قال ثنا مندل عن ليث عن مجاهد فنظرة
إلى ميسرة قال يؤخره ولا يزد عليه وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره وحدثنا أحمد بن حازم قال ثنا أبو نعيم قال ثنا مندل عن ليث عن مجاهد وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال يؤخره ولا يزد عليه وقال آخرون هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا ذكر من قال ذلك حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم قال وكذلك كل دين على مسلم فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك حدثني علي بن حرب قال ثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال نزلت في الدين والصواب من القول في قوله وإن كان دو عسرة فنظرة إلى ميسرة أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا وبقبض رؤوس أموالهم ممن كان منهم من غرمائهم موسرا وإنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن(1/188)
ذكرنا وإياهم عنى بها فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون في رقبة غريمه أو في ذمته يقضيه من ماله أو في مال له بعينه فإن يكن في مال له بعينه فمتى بطل ذلك المال وعدم فقد بطل دين رب المال وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه فقد بطل دين رب الدين وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك وذلك أيضا لا يقوله أحد فقد تبين إذا كان ذلك كذلك أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حق صاحبه لو كان موجودا وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل فيعاقب بظلمه إياه بالحبس
القول في تأويل قوله تعالى وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون(1/189)
يعني جل وعز بذلك وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر إن كنتم تعلمون موضع الفضل في الصدقة وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم معنى ذلك وأن تصدقوا برؤوس أموالك على الغني والفقير منهم خير لكم ذكر من قال ذلك حدثني بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا وأن تصدقوا خير لكم يقول وإن تصدقوا بأصل المال خير لكم حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة وأن تصدقوا أي برأس المال فهو خير لكم وحدثنا ابن بشار قال ثنا عبد الرحمن قال ثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم وأن تصدقوا خير لكم قال من رؤوس أموالكم حدثنا ابن بشار قال ثنا يحيى عن سفيان عن المغيرة عن إبراهيم بمثله حدثني المثنى قال ثنا قبيصة بن عقبة قال ثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم وأن تصدقوا خير لكم قال أن تصدقوا برءوس أموالكم وقال آخرون معنى ذلك وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم نحو ما قلنا في ذلك ذكر من قال ذلك حدثني موسى قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي وأن تصدقوا خير لكم قال وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم فتصدق به العباس حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم يقول وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك في قوله وأن تصدقوا خير لكم يعني على المعسر فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ(1/190)
منه رأس المال والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل حدثني المثنى قال ثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هشيم عن جويبر عن الضحاك وأن تصدقوا برؤوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم قال من النظرة إن كنتم تعلمون حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم والنظرة واجبة وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة والصدقة لكل معسر فأما الموسر فلا وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال معناه وأن تصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا ابن أبي عدي عن سعيد وحدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها فدعوا الربا والريبة حدثنا حميد بن مسعدة قال ثنا بشر بن المفضل قال ثنا داود عن عامر أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلا آيات الربا فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال ثنا قبيصة قال ثنا سفيان الثوري عن عاصم عن الأحول عن الشعبي عن ابن عباس قال آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس القول في تأويل(1/191)
قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقيل هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد قال ثنا أبو تميلة قال ثنا الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم واتقوا(1/192)
يوما ترجعون فيه إلى الله حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية فهي آخر آية من الكتاب أنزلت حدثني محمد بن عمارة قال ثنا إسماعيل بن سهل بن عامر قال ثنا مالك بن مغول عن عطية قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن إسماعيل بن أبي خالد عن السدي قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنا أبو تميلة عن عبيد بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس وحجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس آخر آية نزلت من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون قال ابن جريج يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال وبدا يوم السبت ومات يوم الاثنين حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال ثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين يعني بذلك جل ثناؤه واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تردوا عليه بسيئات تهلككم أو بمخزيات تخزيكم أو بفضيحات تفضحكم فتهتك أستاركم أو بموبقات توبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به وإنه يوم مجازاة الأعمال لا يوم استعتاب ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيىء وصالح لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت فتوفى جزاءها بالعدل من ربها وهم لا يظلمون وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها وبالحسنة عشر أمثالها كلا بل عدل عليك أيها المسيء وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم عليه يومه وهو من الأوزار ظهره ثقيل ومن صالحات الأعمال خفيف فإنه عز وجل حذر فأعذر ووعظ فأبلغ(1/193)
0)(الطبريج3ص101-115 )
الآيات الثلاثة تضمنت أحكام الربا وجواز عقود المبايعات والوعيد لمن استحل الربا وأصر على فعله وفي ذلك ثمان وثلاثون مسألة الأولى قوله تعالى الذين يأكلون الربا يأكلون يأخذون فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل والربا في اللغة الزيادة مطلقا يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ومنه الحديث فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة خرج الحديث مسلم رحمه الله وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوله وقد كتبوه في القرآن بالواو ثم أن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده فمرة أطلقه على كسب الحرام كما قال الله تعالى في اليهود وأخذهم الربا وقد نهو عنه ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام كما قال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت يعني به المال الحرام من الرشا وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا ليس علينا في الأميين سبيل وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه أكتسب والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان تحريم النساء والتفاضل في العقود وفي المطعومات على مانبينه وغالبه ما كانت العرب تفعله ومن قولها للغريم أتقضي أم تربي فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه وهذا كله محرم باتفاق الأمة الثانية أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه ومن البيوع ماليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة فإن قيل لفاعلها آكل الربا فتجوز وتشبيه الثالثة روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء(1/194)
وفي حديث عبادة بن الصامت فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد وروى أبو داؤد عن عباد بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدى بمدى والشعير بالشعير مدى بمدى والتمر بالتمر والملح بالملح مدى بمدى فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا فلا يجوز منهما إثنان بواحد وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام وأضاف مالك إليهما السلت وقال الليث السلت والدخن والذرة صنف واحد وقاله ابن وهب قلت وإذا ثبتت السنة فلا قول معها وقال عليه السلام فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد وقوله البر بالبر والشعير بالشعير دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر ولأن صفاتهما مختلفة واسماؤهما مختلفة ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع بل فصل وبين وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأصحاب الحديث الرابعة كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لافي التبر من الذهب والفضة بالمضروب ولا في المصوغ بالمضروب وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره قال غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في اعطيات الناس(1/195)
فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد اربى فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال ألا مابال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث وقد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية أو قال وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده في ليلة سوداء قال حماد هذا أو نحوه قال ابن عبد البر وقد روي ان هذه القصة إنما كانت لأبي الدرداء مع معاوية ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز وغير نكير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم وقد خفي على أبي بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم فمعاوية أحرى ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس فقد كان وهو بحر في العلم لايرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر قال قبيصة بن ذؤيب إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة فقال له عمر ما أقدمك فأخبره فقال ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك وكتب إلى معاوية لا أمارة لك عليه الخامسة روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لافضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء قال العلماء فقوله(1/196)
عليه السلام الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لافضل بينهما إشارة إلى جنس الأصل المضروب بدليل قوله الفضة بالفضة والذهب بالذهب الحديث والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لايجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل سواء بسواء على كل حال على هذا جماعة أهل العلم على مابينا واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فالحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء ومنع الحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد السادسة لا اعتبار بما قد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضراب خذ فضتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه أن ذلك جائز للضرورة وأنه قد عمل به بعض الناس وحكاه ابن العربي في قبسه عن مالك في غير التاجر وأن مالكا خفف في ذلك فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له إضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأجرة فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرتها فالذي فعل مالك أولا هو الذي يكون آخرا ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال وإياه سائر الفقهاء قال ابن العربي والحجة فيه لمالك بينة قال أبو عمر رحمه الله وهذا هو عين الربا الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من زاد فقد أربى وقد رد ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق وليس الربا إلا على من أراد أن يربي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه ونسي الأبهري أصله في قطع الذرائع وقوله(1/197)
فيمن باع ثوبا بنسيئة وهو لانية له في شرائه ثم يجده في السوق يباع إنه لايجوز له ابتياعه منه بدون ماباعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه ومثله كثير ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء وقد قال عمر لايتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا وهذا بين لمن رزق الإنصاف وألهم رشده قلت وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهم كالمتحقق فمنع دينارا ودرهما بدينار ودرهم سدا للذريعة وحسما للتوهمات إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع فإنه يلزم من ذهب وفضة بذهب وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنوي وذلك أنه منع دينارا من الذهب العالي ودينارا من الذهب الدون في مقابلة العالي وألغى الدون وهذا من دقيق نظره رحمه الله فدل أن تلك الرواية عنه منكرة ولا تصح والله اعلم السابعة قال الخطابي التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير واحدتها تبرة والعين المضروب من الدراهم أو الدنانير وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها وذلك معنى قوله تبرها وعينها سواء ط الثامنة أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مثلا بمثل واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين والحبة الواحدة من القمح بحبتين فمنعه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وهو قياس قول مالك وهو الصحيح لأن ماجرى الربا فيه التفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا ونظرا احتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لاتجب عليه القيمة قال لأنه لامكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل التاسعة أعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا فقال أبو حنيفة(1/198)
علة ذلك كونه مكيلا أو موزونا جنسا فكل مايدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد فإن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئا لايجوز فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا لأنه يدخله الكيل وأجاز الخبز قرصا بقرصين لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه وقال الشافعي العلة كونه مطعوما جنسا وهذا قوله في الجديد فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلا ولا نسيئا وسواء كان الخبز خميرا أو فطيرا ولا يجوز بيضة ببيضتين ولا رمانة برمانتين ولا بطيخة ببطيختين لايدا بيد ولا نسيئة لأن ذلك كله طعام مأكول وقال في القديم كونه مكيلا أو موزونا واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليهما وما في معناه كالأرز والذرة والدخن والسمسم والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت والثمار كالعنب والزبيب والزيتون واختلف في التين ويلحق بها العسل والسكر فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء وجائر فيه التفاضل لقوله عليه السلام إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ولا ربا في رطب الفواكه التي لاتبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضراوات قال مالك لايجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا لأنه مما يدخر ويجوز عنده مثلا بمثل وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم جائز بيضة ببيضتين وأكثر لأنه مما لايدخر وهو قول الأوزاعي العاشرة اختلف النحاة في لفظ الربا فقال البصريون هو من ذوات الواو لأنك تقول في تثنيته ربوان قاله سيبويه وقال الكوفيون يكتب بالياء وتثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله قال الزجاج ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لايكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون وما آتيتم من ربا(1/199)
ليربوا في أموال الناس قال محمد بن يزيد كتب الربا في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا وكان الربا أولى منه بالواو لأنه من ربا يربو
الحادية عشرة قوله تعالى لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الجملة خبر الإبتداء وهو الذين والمعنى من قبورهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد وقال بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع أهل المحشر ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود لايقومون يوم القيامة إلا كما يقوم قال ابن عطية وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره قد جن هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق وقال آخر لعمرك بي من حب أسماء أولق لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل و يتخبطه يتفعله من خبط يخبط تملكه وتعبده فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون ويقال أنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم وقال بعض العلماء إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك كما أن الغال يجيء بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك وقال تعالى يأكلون والمراد يكسبون الربا ويفعلونه وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص يقال رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون قاله في المجمل فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال(1/200)
داخل في قوله الذين يأكلون
الثانية عشرة في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لايسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد مضى الرد عليهم فيما تقدم من هذا الكتاب وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا وروي من حديث محمد بن المثنى حدثنا ابو داؤد حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام والمس الجنون يقال مس الرجل وألس فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا وذلك علامة الربا في الآخرة وروي في حديث الإسراء فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة يتخبطون الحجارة والشجر لايسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لاتقم الساعة أبدا فإن الله تعالى يقول ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والمس الجنون وكذلك الأولق والألس والرود الثالثة عشرة قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مث الربا معناه عند جميع المتأولين في الكفار ولهم قيل فله ماسلف ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه(1/201)
ويرد فعله وإن كان جاهلا فلذلك قال صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية الرابعة عشرة قوله تعالى إنما البيع مثل الربا أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد وذلك أن العرب كانت لاتعرف ربا إلا ذلك فكانت إذا حل دينها قالت للغريم إما أن تقضي وإما أن تربي أي تزيد في الدين فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق وأحل الله البيع وحرم الربا وأوضح أن ألأجل إذا حل ولم يكن عنده مايؤدي أنظر إلى الميسرة وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال ألا إن كل ربا موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس الخامسة عشرة قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا هذا من عموم القرآن والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر ثم استثنى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه كالخمر والميتة وحبل الحبلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه ونظيره اقتلوا المشركين وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل وهذا فرق بين العموم والمجمل(1/202)
فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل مالم يخص بدليل والمجمل لايدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان والأول أصح والله أعلم السادسة عشرة البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا أي دفع عوضا وأخذ معوضا وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلة الثمن وعلى هذا فأركان البيع أربعة البائع والمبتاع والثمن والمثمن ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعا وإن كان في مقابلة منفعة ففإن كانت منفعة بضع سمي نكاحا وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف وإن كان بدين مؤجل فهو السلم وسيأتي بيانه في آية الدين وقد مضى حكم الصرف وسيأتي حكم الإجارة في القصص وحكم المهر في النكاح في النساء كل في موضعه إن شاء الله تعالى السابعة عشرة البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك فسواء قال بعتك هذه السلعة بعشرة فقال اشتريتها أو قال المشتري اشتريتها وقال البيع بعتكها أو قال البائع أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري أنا أشتري أو قد اشتريت وكذلك لو قال خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك وهما يريدان البيع فذلك كله بيع لازم ولو قال البائع بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها وقد قال ذلك له لأن العقد لم يتم عليه ولو قال البائع كنت لاعبا فقد اختلفت الرواية عنه فقال مرة يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله وقال مرة ينظر إلى قيمة السلعة(1/203)
فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار علم أنه لم يرد البيع وإنما كان هازلا فلم يلزمه الثامنة عشرة قوله تعالى وحرم الربا الألف واللام هنا للعهد وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما معناه من البيوع المنهي عنها التاسعة عشرة عقد الربا مفسوخ لايجوز بحال لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين هذا فقال بلال من تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أوه عين الربا لاتفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به وفي رواية هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا قال علماؤنا فقوله أوه عين الربا أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه وقوله فردوه يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لاتصح بوجه وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة حيث يقول إن بيع الربا جائز بأصله من هو بيع ممنوع بوصفه من حيث هو ربا فيسقط الربا ويصح البيع ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابل الصاع الموفية عشرين كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له قيمة وذلك كالعقار والعروض والحيوان والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض قال مالك يرد الحرام البين فات أو لم يفت وما كان مما كره اس رد إلا أن يفوت فيترك(1/204)
الحادية والعشرين قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله حرم الله الربا ليتقارض الناس وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قرض مرتين يعدل صدقة مرة أخرجه البزار وقد تقدم هذا المعنى مستوفي وقال بعض الناس حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى فمن جاءه لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ وقرأ الحسن فمن جاءته بإثبات العلامة هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها فقالت لنا ممن أنتن قلنا من أهل الكوفة قالت فكأنها أعرضت عنا فقالت لها أم محبة يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها من بستمائة درهم نقدا قالت فأقبلت علينا فقالت بئسما شريت ومااشتريت فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب فقالت لها أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي قالت فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف العالية هي زوج أبي اسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي اسحاق وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال فإن كان منها مايؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعا جائزا وخالف مالكا في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون ودليلنا القول بسد الذرائع فإن سلم وإلا استدللنا على صحته وقد تقدم وهذا الحديث نص ولا تقول عائشة أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب إلا بتوقيف إذ مثله لايقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لايتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين والحرام بين(1/205)
وبينهما أمور مشتبهات لايعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعىالن حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة وقال صلى الله عليه وسلم إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا وكيف يشتم الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذ أكلوا ثمن ما نهوا عن أكلهوقال أبو بكر في كتابه لايجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لايسكر وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنينا وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع لأنها ذرائع المحرمات والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر بئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات وذلك لايقوله أحد وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته وهي في معنى هذا الباب والله الموفق الثانية والعشرون روى أبو داؤد عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني ليس بمشهور وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها بأقل من الثمن الذي باعها به قال فإن إشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر ثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها(1/206)
المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن
فهذه أيضا عينة وهي أهون من الأولى وهو جائر عند بعضهم وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة وذلك أن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه منفوره الثالثة والعشرون قال علماؤنا فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن بخس من جنس الثمن الذي باعها به فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه أو إلى أبعد منه بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر فهذه ثلاث مسائل وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز ولا يجوز بمقتضى حديث عائشة لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو وهذا هو الربا بعينه وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل فإن كان إشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه ولا يجوز بأكثر فإن إشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لابمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة ومداها على ماذكرناه فأعلم الرابعة والعشرون قوله تعالى فله ماسلف أي من أمر الربا لاتباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك وسلف معناه تقدم في الزمن وانقضى الخامسة والعشرون قوله تعالى وأمره إلى الله فيه أربع تأويلات أحدهما أن الضمير عائد إلى الربا بمعنى وأمر الربا إلى الله في امرار تحريمه أو غير ذلك والآخر أن يكون الضمير عائدا على ماسلف أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في يثبته على الإنتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا واختار هذا القول النحاس قال وهذا قول حسن بين أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير(1/207)
كم تقول وأمره إلى طاعة وخير وكما تقول وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته
السادسة والعشرون قوله تعالى ومن عاد يعني إلى فعل الربا حتى يموت قاله سفيان وقال غيره من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر قال ابن عطية إن قدرنا الآية في كافر فالخلود تأبيد حقيقي وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة كما تقول العرب ملك خالد عبارة عن دوام ما لايبقى على التأييد الحقيقي السابعة والعشرون قوله تعالى يمحق الله الربا يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيرا روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل وقيل يمحق الله الربا يعني في الآخرة وعن ابن عباس في قوله تعالى يمحق الله الربا قال لايقبل منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة والمحق النقص والذهاب ومنه محاق القمر وهو انتقاصه ويربي الصدقات أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة وفي صحيح مسلم إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد وقرأ ابن الزبير يمحق بضم الياء وكسر الحاء مشددة يربي بفتح الراء وتشديد الباء ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الثامنة والعشرون قوله تعالى والله لايحب كل كافر أثيم ووصف كفار بأثيم مبالغة من حيث اختلف اللفظان وقيل لإزالة الإشتراك في كفار إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض قاله ابن فورك وقد تقدم القول في قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن والزكاة في أعمال المال التاسعة والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ظاهره أنه أبطل من الربا مالم يكن(1/208)
مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول آية التحريم ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا وقد قيل إن الآية نزلت بسبب ثقيف وكانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف وكانت على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لانعطي شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت هذا سبب الآية على إختصار مجموع ماروى ابن اسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم والمعنى إجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه الموفية ثلاثون قوله تعالى إن كنتم مؤمنين شرط محض في ثقيف على بابه لأنه كان في أول دخولهم الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة كما تقول لمن تريد إقامة نفسه إن كنت رجلا فافعل كذا وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال إن إن في هذ الآية بمعنى إذ قال ابن عطية وهذا مردود لايعرف في اللغة وقال ابن فورك يحتمل أن يريد يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ لاينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية الحادية والثلاثون قوله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله هذا وعيد إن لم يذروا الربا والحرب داعية القتل وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقد قال ابن عباس أيضا من كان مقيما على الربا لاينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقال قتادة أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا وقيل المعنى إن لم(1/209)
تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله أي الربا مالم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل
أعداء وقال ابن خويزمنداد ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا إستحلالا كانوا مرتدين والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة وإن لم يكن ذلك منهم إستحلالا جاز للإمام محاربتهم ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال فأذنوا بحرب من الله ورسوله وقرأ أبو بكر عن عاصم فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم الثانية والثلاثون ذكر بان بكير قال جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال يا أبا عبد الله إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر فقال ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له امرأتك طالق إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب الثالثة والثلاثون دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك على مانبينه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يأتي على الناس زمان لايبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره وروى الدارقطني عن عبد الله ابن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ستة وثلاثين زنية في الخطيئة وروي عنه عليه السلام أنه قال الربا تسعة وتسعون باب أدناها كإتيان الرجل بأمه يعني الزنا بإمه وقال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وروى البخاري عن أبي جحيفة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/210)
قال إجتنبوا السبع الموبقات وفيها وآكل الربا وفي مصنف أبي داؤد عن ابن مسعود قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده الرابعة والثلاثون قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم الآية روى أبو داؤد عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لاتظلمون ولا تظلمون وذكر الحديث فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم لاتظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم ويحتمل أن يكون لاتظلمون في مطل لأن مطل الغني ظلم فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا وهكذا سنة الصلح وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر قم فاقضه فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات وسيأتي في النساء بيان الصلح وما يجوز منه ومالايجوز إن شاء الله تعالى الخامسة والثلاثون قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم تأكيد الإبطال مالم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لاربا فيه فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ماطرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد كما إذا إشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد كما أبطل الله تعالى مالم يقبض لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض ولو كان مقبوضا لم يؤثر هذا مذهب أبي حنيفة وهو قول لأصحاب الشافعي ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف ويروى هذا الخلاف عن أحمد وهذا إنما يتمشى على قول من يقول إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا وإنما بطل بالإسلام الطاريء قبل(1/211)
القبض وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا وذلك أن الربا كان محرما في الأديان والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين وأن اقبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب فلا يتعرض له فعلى هذا لايصح الاستشهاد على ماذكروه من المسائل واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى كما حكي عن اليهود في قوله تعالى وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وذكر في قصة شعيب أنه قومه أنكروا عليه وقالوا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا مانشاء فعلى هذا لايستقيم الإستدلال به نعم يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لايعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة فساد السادسة والثلاثون ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام قال ابن العربي وهذا غلو في الدين فإن كل مالم يتميز فالمقصود منه ماليته لاعينه ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه كما إن الإتلاف إهلاك لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى والله أعلم قلت قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من ألأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضرا فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر ظلمه فإن إلتبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر مابيده مما يجب عليه رده حتى لايشك أن مايبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال على يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لايطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى(1/212)
ما فيه
صلاح المسلمين حتى يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو مايستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه وقوت يومه لأنه الذي يجب له أن يأخذ من مال غيره إذا اضطر إليه وإن كره ذلك من يأخذه منه وفارق ههنا المفلس في قول أكثر العلماء لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه فيترك له مايواريه وما هو هيئة لباسه وأبو عبيد وغيره يرى بترك المفلس من اللباس إلا أقل مايجزئه في الصلاة وهو مايواريه من سرته إلى ركبته ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه السابعة والثلاثون هذا الوعيد الذي وعد الله به الربا من المحاربة قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في المخابرة وروى أبو داؤد قال أخبرنا يحيى بن معين قال أخبرنا ابن رجاء قال ابن خثيم حدثني أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله وهذا دليل على منع المخابرة وهي أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع ويسمى المزارعة وأجمع أصحاب مالك كلهم والشافعي وأبو حنيفة وأتباعهم وداؤد على أنه لايجوز دفع الأرض على الثلث والربع ولا على جزء مما تخرج لأنه مجهول إلا أن الشافعي وأصحابه وأبا حنيفة قالوا بجواز كراء الأرض بالطعام إذا كان معلوما لقوله عليه السلام فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به خرجه مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا نهانا أن نحاقل بالأرض فنكتريها على الثلث والربع والطعام المسمى وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزارعها وكره كراءها وما سوى ذلك قالوا(1/213)
فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام مأكولا كان أو مشروبا على حال لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئا وكذلك لايجوز عندهم كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولا ولا مشروبا سوى الخشب والقصب والحطب لأنه عندهم في معنى المزابنة وهذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول لاتكري الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت ولا بأس بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لايؤكل خرج منها أو لم يخرج وبه قال يحيى بن يحيى وقال إنه من قول مالك قال وكان ابن نافع يقول لابأس أن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره خرج منها أو لم يخرج ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة المنهي عنها وقال مالك في الموطأ فأما الذي يعطي أرضه البيضاء بالثلث والربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغرر لأن الزرع يقل مرة ويكثر أخرى وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما وإنما مثل ذلك مثل رجل إستأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم ثم قال الذي استأجر للأجير هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري هذا إجارة لك فهذا لايحل ولا ينبغي قال مالك ولا ينبغي لرجل أن يؤاجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته ولا دابته إلا بشيء معلوم لايزول وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وقال أحمد بن حنبل والليث والثوري والأوزاعي والحسن بن مما تخرجه نحو الثلث والربع وهو قول ابن عمر وطاوس واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم وثمارهم قال أحمد حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ولا يصح والقول بقصة خيبر أولى وهو حديث صحيح وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطى الرجل سفينته ودابته كما يعطي أرضه بجزء من يرزقه الله في العلاج بها وجعلوا أصلهم في ذلك القراض المجمع عليه هلى ما يأتي بيانه في المزمل إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من(1/214)
فضل الله وقال الشافعي في قول ابن عمر كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها قال وفي ذلك نسخ لسنة خيبر قلت ومما يصحح قول الشافعي في النسخ مارواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا إلا أن تعلم صحيح وروى أبو داؤد عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قلت وما المخابرة قال أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع الثامنة والثلاثون في القراءات قرأ الجمهور مابقي بتحريك الياء وسكنها الحسن ومثله قول جرير هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف وقال عمر بن أبي ربيعة كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم يا أشبه الناس كل الناس بالقمر إني لأجذل أن أمسي مقابله حبا لرؤية من أشبهت في الصور حي وأبو يوسف ومحمد لابأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء(1/215)
مما تخرجه نحو الثلث والربع وهو قول ابن عمر وطاوس واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم وثمارهم قال أحمد حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ولا يصح والقول بقصة خيبر أولى وهو حديث صحيح وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطى الرجل سفينته ودابته كما يعطي أرضه بجزء من يرزقه الله في العلاج بها وجعلوا أصلهم في ذلك القراض المجمع عليه هلى ما يأتي بيانه في المزمل إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقال الشافعي في قول ابن عمر كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها قال وفي ذلك نسخ لسنة خيبر قلت ومما يصحح قول الشافعي في النسخ مارواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا إلا أن تعلم صحيح وروى أبو داؤد عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قلت وما المخابرة قال أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع الثامنة والثلاثون في القراءات قرأ الجمهور مابقي بتحريك الياء وسكنها الحسن ومثله قول جرير هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف وقال عمر بن أبي ربيعة كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم يا أشبه الناس كل الناس بالقمر إني لأجذل أن أمسي مقابله حبا لرؤية من أشبهت في الصور(1/216)
أصله مارضي و ما أمسي فأسكنها وهو في الشعر كثير ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لاتصل الحركة للألف فكذلك لاتصل هنا إلى الياء ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك وأشتهي أن أفضيك بإسكان الواو والياء وقرأ الحسن ما بقي بالألف وهي لغة طي يقولون للجارية جاراة وللناصية ناصاة وقال الشاعر لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي على الأرض قيسي يسوق الأباعر وقرأ أبو السمال من بين جميع القراء من الربو بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو وقال أبو الفتح عثمان بن جني شذ هذا الحرف من أمرين أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم وقال المهدوي وجهها أنه فخم الألف فانتحى بها نحو الواو التي ألالف منها ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه إذ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة وأمال الكسائي وحمزة الربا لمكان الكسرة في الراء الباقون بالتفخيم لفتحة الباء وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فآذنوا على معنى فآذنوا غيركم فحذف المفعول وقرأ الباقون فأذنوا أي كونوا على إذن من قولك إني على علم حكاه أبو عبيد عن الاصمعي وحكى أهل اللغة أنه يقال أذنت به أذنا أي علمت به وقال ابن عباس وغيره من المفسرين معنى فأذنوا فاستيقنوا الحرب من الله تعالى وهو بمعنى الأذن ورجح أبو علي وغيره قراءة المد قال لأنهم إذا أمروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علموا هم لامحالة قال ففي إعلامهم علمهم وليس في علمهم إعلامهم ورجح الطبري قراءة القصر لأنها تختص بهم وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم وقرأ جميع القراء لاتظلمون بفتح التاء ولاتظلمون بضمها وروى المفضل عن عاصم لاتظلمون ولا تظلمون بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية على العكس وقال أبو علي تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله وإن تبتم في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء تظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله(1/217)
فيه تسع مسائل الأولى قوله تعالى وإن كان ذو عسرة لما حكم جل وعز لأرباب الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا ليس لنا شيء وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم فنزلت هذه الآية وإن كان ذو عسرة الثانية قوله تعالى وإن كان ذو عسرة مع قوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما فإن الله تعالى يقول فلكم رءوس أموالكم فجعل له المطالبة برأس ماله فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لامحالة وجوب قضائه الثالثة قال المهدوي وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام قال ابن عطية فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ قال الطحاوي كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال كان لرجل علي مال او قال دين فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالا فباعني منه أو باعني له أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه ومسلم ابن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لايحتج بهما وقال جماعة من اهل العلم(1/218)
قوله تعالى فنظرة إلى ميسرة عامة على جميع الناس فكل من أعسر أنظر وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء قال النحاس وأحسن ماقيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم قال هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله فهذا قول يجمع الأقوال لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه ولأن القراءة بالرفع بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة وقال ابن عباس وشريح ذلك في الربا خاصة فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه وهو قول إبراهيم واحتجوا بقول الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية قال ابن عطية فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة الرابعة من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته روى ابن نافع عن مالك أنه لايترك له إلا ما يواريه والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة مالم يكن فيها فضل ولا ينزع منه رداؤه إن إن كان ذلك مزريا به وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة مالم تقل قيمتها وعند هذا يحرم حبسه والأصل في هذا قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار إبتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ماوجدتم وليس لكم إلا ذلك وفي مصنف أبو داؤد فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله وهذا نص فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل وهو معاذ بن جبل كما قال شريح ولا بملازمته خلافا لأبي حنيفة فإنه قال يلازم لإمكان أن يظهر(1/219)
له مال ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا وبالله توفيقنا
الخامسة ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم ولم يتبين لدده وكذلك لايحبس إن صح عسره على ماذكرنا السادسة فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع فعلى المفلس ضمانه ودين الغرماء ثابت في ذمته فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له كان عليهم ضمانه وقد بريء المفلس منه وقال محمد بن عبد الحكم ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء السابعة العسرة ضيق الحال ممن جهة عدم المال ومنه جيش العسرة والنظرة التأخير والميسرة مصدر بمعنى اليسر وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما وأنشد سيبويه فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ويجوز النصب وفي مصحف أبي كعب وإن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة وقرأ الأعمش وإن كان معسرا فنظرة قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبي بن كعب قال النحاس ومكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين وقد تقدم وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان فإن كان بالفاء ذو عسرة وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان وإن كان ذا عسرة ذكره النحاس وقراءة الجماعة نظر بكسر الظاء وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن فنظرة بسكون الظاء وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون في كرم زيد بمعنى كرم زيد ويقولون كبد في كبد وقرأ نافع(1/220)
وحده ميسرة بضم السين والجمهور بفتحها وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء فناظرة على الأمر إلى ميسر هي بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج وقريء فناظرة قال أبو حاتم لايجوز فناظرة إنما ذلك في النمل لأنها إمرأة تكلمت بهذا لنفسها من نظرت تنظر فهي ناظرة وما في البقرة فمن التأخير من قولك أنظرتك بالدين أي أخرتك به ومنه قوله فأنظرني إلى يوم يبعثون وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال هي من أسماء المصادر كقوله تعالى ليس لوقعتها كاذبة وكقوله تعالى تظن أن يفعل بها فاقرة وك خائنة الأعين وغيره الثامنة قوله تعالى وأن تصدقوا إبتداء وخبره خير ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره قاله السدي وابن زيد والضحاك وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم والصحيح الأول وليس في الآية مدخل للغني التاسعة روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة ثم قلت بكل يوم مثله صدقة قال فقال بكل يوم صدقة مالم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة وروى مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال إني معسر فقال آلله قال ألله قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه وفي حديث أبي اليسر الطويل واسمه(1/221)
كعب بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل قيل إن هذه الآيات نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء قاله ابن جريج وقال ابن جبير ومقاتل بسبع ليال وروي بثلاث ليال وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات وانه عليه السلام قال اجعلوها بين آية الربا وآية الدين وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال إجعلها على رأس مائتين وثمانين آية قلت وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآية والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال آخر ما نزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة ذكره أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما على مايأتي بيانه في آخر سورة إذا جاء نصر الله والفتح إن شاء الله تعالى والآية وعظ لجميع(1/222)
الناس وأمر يخص كل إنسان و يوما منصوب على المفعول لاعلى الظرف و ترجعون فيه إلى الله من نعته وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم مثل إن إلينا إيابهم واعتبارا بقراءة أبي يوما تصيرون فيه الى الله والباقون بضم التاء وفتح الجيم مثل ثم ردوا إلى الله ولئن رددت إلى ربي واعتبارا بقراءة عبد الله يوما تردون فيه إلى الله وقرأ الحسن يرجعون بالياء على معنى يرجع جميع الناس قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم واتقوا يوما ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية وقال قوم هو يوم الموت قال ابن عطية والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية وفي قوله إلى الله مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه وهم رد على معنى كل لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن يرجعون فقوله وهم رد على ضمير الجماعة في يرجعون وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال وهو رد على الجبرية وقد تقدم
(القرطبي:3:348-376)
%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%
[ تفسير السيوطي: الدر المنثور:ج2ص103>>>>>>>>>(1/223)
أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وكذبوا على الله و أحل الله البيع وحرم الربا ومن عاد لأكل الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وفي قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا البقرة الآية الآية قال بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بنو المغيرة يربون لثقيف فلما أظهر الله رسوله على مكة ووضع يومئذ الربا كله وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم وما كان عليهم من ربا فهو موضوع وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صحيفتهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين أن لا يأكلوا الربا ولا يؤكلوه فأتى بنو عمرو بن عمير ببني المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة ما جعلنا أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا فقال بنو عمرو بن عمير صولحنا على أن لنا ربانا فكتب عتاب بن أسيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمفنزلت هذه الآية فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب البقرة الآية وأخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه ثم قرأ لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس لا يقومون الآية قال ذلك حين يبعث من قبره وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه فقال إن الرجل يصيب درهما من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من(1/224)
ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن سلام قال الربا اثنتان وسبعون حوبا أصغرها حوبا كمن أتى أمه في الإسلام ودرهم في الربا أشد من بضع وثلاثين زنية قال ويؤذن للناس يوم القيامة البر والفاجر في القيام إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وأخرج البيهقي عن عبد الله بن سلام قال الربا سبعون حوبا أدناها فجرة مثل أن يضطجع الرجل مع أمه وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم بغير حق وأخرج عبد الرزاق وأحمد والبيهقي عن كعب قال لأن أزني ثلاثة وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهما ربا يعلم الله أني أكلته ربا وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال درهم ربا أشد على الله من ستة وثلاثين زنية وقال من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الربا سبعون بابا أدناها مثل ما يقع الرجل على أمه وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغيبة والبيهقي عن أنس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه فقال إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم وأخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والذنوب التي لا تغفر الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ثم قرأ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي(1/225)
يتخبطه الشيطان من المس
وأخرج أبو عبيد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه كان يقرأ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطن من المس يوم القيامة واخرج ابن جرير عن الربيع في الآية قال يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان وهي في بعض القراءة لا يقومون يوم القيامة وأخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وابن المنذر عن عائشة قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر وأخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت لما نزلت سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن جابر قال لما نزلت الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطن من المس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يترك المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله وأخرج أحمد وابن ماجه وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن عمر أنه قال من آخر ما أنزل آية الربا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال إن من آخر القرآن نزولا آية الربا والريبة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال إن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وأخرج البخاري وأبو عبيد وابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق الشعبي عن ابن عباس قال آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب آخر ما أنزل الله آية الربا وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه قال كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه(1/226)
وأخرج ابن جرير عن قتادة أن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل
مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله الذين يأكلون الربا يعني استحلالا لأكله لا يقومون يعني يوم القيامة ذلك يعني الذي نزل بهم بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه يقول المطلوب للطالب زدني في الأجل وأزيدك على مالك فإذا فعل ذلك قيل لهم هذا ربا قالوا سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل المال فهما سواء فأكذبهم الله فقال وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا فانتهى عنه فله ما سلف يعني فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم و أمره إلى الله يعني بعد التحريم وبعد تركه إن شاء عصمه منه وإن شاء لم يفعل ومن عاد يعني في الربا بعد التحريم فاستحله لقولهم إنما البيع مثل الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يعني لا يموتون وأخرج أحمد والبزار عن رافع بن خديج قال قيل يا رسول الله أي الكسب أطيب قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور وأخرج مسلم والبيهقي عن أبي سعيد قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فقال ما هذا من تمرنا فقال الرجل يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الربا ردوه ثم بيعوه تمرنا ثم اشتروا لنا من هذا وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عائشة أن امرأة قالت لها إني بعت زيد بن أرقم عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب قلت أفرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة فقالت نعم من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد أنه سئل لم حرم الله الربا قال لئلا يتمانع(1/227)
الناس المعروف آية
أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس يمحق الله الربا قال ينقص الربا ويربي الصدقات قال يزيد فيها وأخرج أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل وأخرج الشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات التوبة الآية و يمحق الله الربا ويربي الصدقات وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله يمحق الله الربا ويربي الصدقات وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن يتصدق بالتمرة أو بعدلها من الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله حتى تكون مثل التل العظيم ثم قرأ يمحق الله الربا ويربي الصدقات(1/228)
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في الآية قال أما يمحق الله الربا فإن الربا يزيد في الدنيا ويكثر ويمحقه الله في الآخرة ولا يبقى منه لأهله شيء وأما قوله ويربي
الصدقات فإن الله يأخذها من المتصدق قبل أن تصل إلى المتصدق عليه فما يزال الله يربيها حتى يلقى صاحبها ربه فيعطيها إياه وتكون الصدقة التمرة أو نحوها فما يزال الله يربيها حتى تكون مثل الجبل العظيم وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد الآيات أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا الآية قال نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني ضمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله وذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله الآية قال كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إلى قوله ولا تظلمون فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في قوله اتقوا الله وذروا ما بقي(1/229)
من الربا قال كان ربا يتعاملون به في الجاهلية فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم وأخرج آدم وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا قال كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه وأخرج مالك والبيهقي في سننه عن زيد بن أسلم قال كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه وزاده الآخر في الأجل وأخرج أبو نعيم في المعرفة بسند واه عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا قال نزلت في نفر من ثقيف منهم مسعود وربيعة وحبيب وعبد ياليل وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وفي بني المغيرة من قريش وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو وربيعة بن عمرو وحبيب بن عمير وكلهم أخوة وهم الطالبون والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل ويقال عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بني ابن عمرو وعمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن اعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله ورسوله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله فأذنوا بحرب قال من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن(1/230)
يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وفي قوله لا تظلمون فتربون ولا تظلمون فتنقصون وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله فأذنوا بحرب قال استيقنوا بحرب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله فأذنوا بحرب قال أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله فقال ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم الآية وأخرج مسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال هم سواء وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في شعب الإيمان عن علي قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة ومانع الصدقة والحال والمحلل له وأخرج البيهقي عن أم الدرداء قالت قال موسى بن عمران عليه السلام يا رب من يسكن غدا في حظيرة القدس ويستظل بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك قال يا موسى أولئك الذين لا تنظر أعينهم في الزنا ولا يبتغون في أموالهم الربا ولا يأخذون على أحكامهم الرشا طوبى لهم وحسن مآب وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والبيهقي عن ابن مسعود قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة و آكل الربا وموكله ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين وأخرج أحمد وأبو يعلى(1/231)
وابن خزيمة وابن حبان عن ابن مسعود قال آكل الربا وموكله و شاهده وكاتباه إذا علموا والواشمة والمستوشمة للحسن ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق و العاق لوالديه وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام وأخرج أحمد والطبراني عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا اثنان و سبعون بابا أدناها مثل أن يأتي الرجل أمه وأن أربى الربا استطالة الرجل في عرض عرض الرجل وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشتري الثمرة حتى تطعم و قال إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله وأخرج أحمد عن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب واخرج الطبراني عن القاسم بن عبد الواحد الوراق قال رأيت عبد الله بن أبي أوفى في السوق فقال يا معشر الصيارفة أبشروا قالوا بشرك الله بالجنة بم تبشرنا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصيارفة أبشروا بالنار وأخرج أبو داود وابن ماجة والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على الناس(1/232)
زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن مالك بن أوس بن الحدثان قال صرفت من طلحة بن عبيد الله ورقا بذهب فقال انظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة فسمعها عمر بن الخطاب فقال لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفك فإني(1/233)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر ربا إلا هاء وهاء واخرج عبد بن حميد ومسلم والنسائي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب مثل بمثل يد بيد والفضة بالفضة مثل بمثل يد بيد والتمر بالتمر مثل بمثل يد بيد والبر بالبر مثل بمثل يد بيد والشعير بالشعير مثل بمثل يد بيد والملح بالملح مثل بمثل يد بيد من زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا بناجز وأخرج الشافعي ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر والتمر بالملح والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم من زاد أو ازداد فقد أربى واخرج مالك ومسلم والبيهقي عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين وأخرج مالك ومسلم والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينار بالدينار لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما وأخرج مسلم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم وزن بوزن لا فضل بينهما ولا يباع عاجل بآجل وأخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن أبي(1/234)
المنهال قال سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال ما كان منه يدا بيد فلا بأس وما كان منه نسيئة فلا
وأخرج مالك والشافعي وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن سعد بن وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم فنهى عن ذلك واخرج البزار عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل الزائد والمستزيد في النار وأخرج البزار عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصرف قبل موته بشهرين آية أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال نزلت في الربا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة قال انما أمر في الربا أن ينظر المعسر وليست النظرة في الأمانة ولكن تؤدى الأمانة إلى أهلها وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة هذا في شأن الربا وأن تصدقوا بها للمعسر فتتركوها له وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنحاس في ناسخه وابن جرير عن ابن سيرين أن رجلين اختصما إلى شريح في حق فقضى عليه شريح وأمر بحبسه فقال رجل عنده إنه معسر والله تعالى يقول وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال إنما ذلك في الربا إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار فأنزل الله وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة وقال إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها النساء الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وإن كان ذو عسرة يعني المطلوب(1/235)
وأخرج ابن جرير عن السدي وإن كان ذو عسرة فنظرة برأس المال إلى ميسرة يقول إلى غنى وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم فتصدق به العباس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة وكذلك كل دين على المسلم فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه وأن تصدقوا برؤوس أموالكم يعني على المعسر خير لكم من نظرة إلى ميسرة فاختار الله الصدقة على النظارة وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأن تصدقوا خير لكم يعني من تصدق بدين له على معدم فهو أعظم لأجره ومن لم يتصدق عليه لم يأثم ومن حبس معسرا في السجن فهو آثم لقوله فنظرة إلى ميسرة ومن كان عنده ما يستطيع أن يؤدي عن دينه فلم يفعل كتب ظالما وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده ومسلم وابن ماجة عن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله واخرج أحمد والبخاري ومسلم عن حذيفة أن رجلا أتى به الله عز وجل فقال ماذا عملت في الدنيا فقال له الرجل ما عملت مثقال ذرة من خير فقال له ثلاثا وقال في الثالثة إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس فكنت أيسرعلى الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى أنا أولى بذلك منك تجاوزا عن عبدي فغفر له وأخرج أحمد عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب اصطناع المعروف عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته(1/236)
وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا كان له بكل يوم مثله صدقة قال ثم سمعته يقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة فقلت يا رسول الله إني سمعتك تقول فله بكل يوم مثله صدقة وقلت الآن فله بكل يوم مثليه صدقة فقال إنه ما لم يحل الدين فله بكل يوم مثله صدقة وإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة وأخرج أبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطستي في الترغيب وابن لال في مكارم الأخلاق عن أبي بكر الصديق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يسمع الله دعوته ويفرج كربته في الآخرة فلينظر معسرا أو ليدع له ومن سره أن يظله الله من فور جهنم يوم القيامة ويجعله في ظله فلا يكونن على المؤمنين غليظا وليكن بهم رحيما وأخرج مسلم عن أبي قتادة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه وأخرج أحمد والدرامي والبيهقي في الشعب عن أبي قتادة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة وأخرج الترمذي وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن عثمان بن عفان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أظل الله عبدا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم وأخرج الطبراني في الأوسط عن شداد بن أوس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو تصدق عليه أظله الله في ظله يوم القيامة وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي قتادة وجابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت عرشه فلينظر(1/237)
معسرا وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم القيامة
وأخرج الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا أو يسر عليه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم القيامة وأخرج الطبراني عن أسعد بن زرارة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه وأخرج الطبراني عن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أول الناس يستظل في ظل الله يوم القيامة لرجل أنظر معسرا حتى يجد شيئا أو تصدق عليه بما يطلبه يقول ما لي عليك صدقة ابتغاء وجه الله ويخرق صحيفته وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب اصطناع المعروف عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم وأخرج عبد الرزاق ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس وكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه وأخرج مسلم والترمذي عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا وكان يأمر غلمانه أن(1/238)
يتجاوزوا عن المعسر قال الله نحن أحق بذلك تجاوزا عنه آية
وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي وعطية العوفي مثله وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح وسعيد بن جبير مثله وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله نزلت بمنى وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوما وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال آخر ما نزل من القرآن كله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ثم توفى كل نفس ما كسبت يعني ما عملت من خير أو شر وهم لا يظلمون يعني من أعمالهم لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم آية
أخرج ابن جرير بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين
( تفسير السيوطى :ج2ص103 –
تفسير ابن كثسر ج1:327 >>>>>>>>)(1/239)
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات تعبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا وقال ابن عباس آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق رواه ابن أبي حاتم قال وروى عن عوف ابن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك وحكى عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يعني لا يقومون يوم القيامة وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك حين يقوم من قبره وفي حديث أبي سعيد في الإسراء كما هو مذكور في سورة سبحان أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل هؤلاء أكلة الربا رواه البيهقي مطولا وقال ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى(1/240)
الله عليه وسلم أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحياة تجري من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء ياجبريل قال هؤلاء أكلة الربا ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد ابن سلمة به وفي إسناده ضعف وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيغفر له فاه فيلقمه حجرا وذكر في تفسيره أنه آكل الربا(1/241)
وقوله ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا إنما الربا مثل البيع وإنما قوله إنما البيع مثل الربا أي هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا وقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما وهو العليم الحكيم الذي لامعقب لحكمه ولايسئل عما يفعل وهم يسئلون وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله عفا الله عما سلف وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى فله ما سلف وأمره إلى الله قال سعيد بن جبير والسدي فله ما سلف فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم وقال ابن أبي حاتم قرأ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أبقع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم بحنة أو ولد زيد بن أرقم يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فاني بعته عبد إلى العطاء بثمانمئة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بست مئة فقالت بئس مااشتريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد(1/242)
أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إن لم يتب قالت فقلت أرأيت إن تركت المئتين وأخذت الست مئة قالت نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى ومن عاد أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهى الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ولهذا قال فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقد قال أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال لما نزلت الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ولهذا قال الفقهاء الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة اليه وتفاوت نظرهم بحسب ماوهب الله لكل منهم من العلم وقد قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي اليه الجد وأبواب من أبواب الربا م يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة اليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما(1/243)
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد ثبت في الصحيحين م عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه وفي السنن س عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الحديث الآخر الاثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس وفي رواية استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك(1/244)
وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا رواه البخاري عن قبيصة عنه وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قال من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة وقال رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وقد قال ابن أبي عدي بالاسناد موقوفا فذكره ورد الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجه حدثنا عمرو بن علي الصيرفي حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الربا ثلاثة وسبعون بابا ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله وزاد أيسرها أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن ماجه حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا سبعون حويا أيسرها أن ينكح الرجل أمه وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا قال قيل له الناس كلهم قال من لم يأكله منهم ناله من غباره وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات(1/245)
الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي م د س كبرى تحفة جه من طرق عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي اليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه م لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسيره قوله حتى تنكح زوجا غيره قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه قالوا وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا فالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات وفي الصحيح إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه الآيات يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث وقال تعالى ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم وقال وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلايربو عند الله الآية وقال ابن جرير في قوله يمحق الله الربا وهذا(1/246)
نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الربا وإن كثر فإلى قل وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن
الربا وإن كثر فان عاقبته تصير إلى قل وقد رواه ابن ماجه عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن أبي زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال ماهذا الطعام فقالوا طعام جلب إلينا قال بارك الله فيه وفيمن جلبه قيل يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال من احتكره قالوا فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر فأرسل إليهما فقال ما حملكما على احتكار طعام المسلمين قالا يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع فقال عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالافلاس أو بجذام فقال فروخ عند ذلك أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا وأما مولى عمر فقال إنما نشتري بأموالنا ونبيع قال أبو يحيى فلقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالافلاس والجذام وقوله ويربى الصدقات قريء بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي كثره ورعاه ينميه وقريء يربى بالضم والتشديد من التربية قال البخاري حدثنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول(1/247)
الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فان الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل كذا رواه في كتاب الزكاة وقال في كتاب التوحيد وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار فذكر بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد بن مخلد فذكره قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به والله أعلم قال البخاري وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس الدوري عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فان الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعيد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقد روى عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال سمعت أبا هريرة يقول قال(1/248)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينها فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله يمحق الله الربا ويربي الصدقات وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع به وقال حسن صحيح وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبد الواحد بن صبرة وعباد بن منصور كلاهما عن القاسم به وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم(1/249)
بن محمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى يكون مثل أحد فتصدقوا وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب والمحفوظ ما تقدم وروى عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه أو قال فصيله ثم قال لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس وقوله والله لا يحب كل كفار أثيم أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين امره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنوا فقال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون الآيات يقول تعالى آمرا عباده(1/250)
المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال يا أيها الذين آمنوا اتقو الله أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون وذروا ما بقي من الربا أي اتركوا مالكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الانذار إن كنتم مؤمنين أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا وقالت بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله فقالوا نتوب إلى الله ونذر مابقى من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الأنذار قال ابن جريج قال ابن عباس فأذنوا بحرب أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب ثم قرأ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فان نزع وإلا ضرب عنقه وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد(1/251)
بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح وقال قتادة أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة رواه ابن أبي حاتم وقال الربيع بن أنس أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأنه ضد قوله فأذنوا بحرب من الله ورسوله قال وهذا المعنى ذكره كثير قال ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف ثم قال تعالى وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أي بأخذ الزيادة ولا تظلمون أي بوضع رءوس الأموال أيضا بل لكم مابذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسين بن اشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة البارقي عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله كذا وجده سليمان بن الاحوص وقد قال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي عن عمرو وهو ابن خارجة فذكره وقوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن(1/252)
كنتم تعلمون يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين إما ان تقضي وإما أن تربى ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فالحديث الأول عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال الطبراني حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم حدثنا محمد بن بكر البرساني حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثني عاصم بن عبيد الله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يظله الله يوم لاظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه حديث آخر عن بريدة قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة قال ثم سمعته يقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة قلت سمعتك يا رسول الله تقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ثم سمعتك تقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة قال له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة حديث آخر عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال أحمد حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو جعفر الخطمي عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبيء منه فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال نعم هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال يافلان اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه فقال ما يغيبك عني فقال إني معسر وليس عندي شيء قال آلله إنك معسر قال نعم فبكى أبو قتادة ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نفس عن(1/253)
غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ورواه مسلم في صحيحه حديث آخر عن حذيفة بن اليمان قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال ماذا عملت لي في الدنيا(1/254)
فقال ما عملت لك يارب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها قالها ثلاث مرات قال العبد عند آخرها يارب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر قال فيقول الله عز وجل أنا أحق من ييسر ادخل الجنة وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة زاد مسلم وعقبة بن عمرو أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ولفظ البخاري حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه حديث آخر عن سهل بن حنيف قال الحاكم في مستدركه حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا عمرو بن ثابت حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سهل ابن حنيف أن سهلا حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لاظل إلا ظله ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه حديث آخر عن عبد الله بن عمر قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد عن يوسف بن صهيب عن زيد العمي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر انفرد به أحمد حديث آخر عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن رجلا أتى به الله عز وجل فقال ماذا عملت في الدنيا فقال له الرجل ما عملت مثقال ذرة من خير فقال له ثلاثا وقال في الثالثة إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس أيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى نحن أولى بذلك منك(1/255)
تجاوزوا عن عبدي فغفر له قال أبو مسعود هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به حديث آخر عن عمران بن حصين قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي داود عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه حديث آخر عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال حدثنا أبو اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله عز وجل في ظله يوم لاظل إلا ظله وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلي أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي ياعم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال فأتيت أهله فسلمت فقلت أثم هو قالوا لا فخرج على ابن له جفر فقلت أين أبوك فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن أختبات مني قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسرا قال قلت آلله قال الله قلت الله الله ثم قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل فأشهد أبصر عيناي هاتان ووضع اصبعيه على عينيه وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي وأشار إلى نياط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله وذكر تمام الحديث حديث آخر عن أمير المؤمنين(1/256)
عثمان بن عفان قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني
أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم حدثنا الحسن بن بشر بن سلم الكوفي حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن هشام بن زياد القرشي عن أبيه عن محجن مولى عثمان عن عثمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أظل الله عينا في ظله يوم لاظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم حديث آخر عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا وأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثا ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا تفرد به أحمد طريق آخر قال الطبراني حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديثة من ديار ربيعة حدثنا الحسين بن علي الصدائي حدثنا الحكم بن الجارود حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء مافيها من الأموال وغيرها وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(1/257)
وقد روي ان هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم فقال ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال آخر ما نزل من القرآن كله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الأثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول رواه ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال آخر شيء نزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس وروى الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فكان بين نزولها وموت النبي صلى الله عليه وسلم واحد وثلاثون يوما وقال ابن جريج قال ابن عباس آخر إية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية قال ابن جريج يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال وبديء يوم السبت ومات يوم الاثنين رواه ابن جرير ورواه عطية عن أبي سعيد قال آخر آية نزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون الآيات
( ابن كثير 1/327-533)
إعراب الذين يأكلون الربا
الذين : اسم موصول مبتدأ مبنى على على الفتح في محل رفع ، يأكلون : يأكل فعل مضارع مرفوع من الأفعال اخمسة علامة رفعه ثبوت النون ، وواوا لجماعة فاعل مبنى على السكون في محل رفع ، الربا مفعول به منصوب بالفعل : ياكل" وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر 0(1/258)
وجملة ياكلون الربا لامحل لها من الا عراب صلة الموصول ، وخهذه الجملة لم يكن لها محل المعراب لأنها لاتقدر بمفرد ، وكل جملة لاتقدر بمفرد لايكون لها محل من الإعراب ، ذلك أنصلة المصول لايصلح أن تكون مفردًا أو جملة مقدرة بمفرد 0
لايقومون: لا : نافية مبنى لامحل له من الإعراف ، وهو حلرف غير عامل في مدخوله ، يقومنو إعرابه إعراب يأكلون ، إلا أداة استنثناء لامحل لها من الإعراب ، وهي غير عاملة في المستثنى ، لأن الستثانء مفرغ ( غيرتام : لم يذكر فيه المستثنى منه ) كما يقوم /الكاف جر يفيد النشبيه ، وما مصدرية ، يقوم مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة الذي اسم موصول فاعل الفعل : " يقوم" يتخبطه الشيطان : يتخبط : مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهره ، والهاء مفعول به مبنى في محل نصب ، والشيطان فاعل يتخبط ، مرفوع وعلامة رفعه ضمة ظاهرة ، وجملة يتخبطه الشيكان لامحل لها من الإعراب صلة الموصول 0 من المس ، جار ومجرور متعلق بالفعل يتخبط،
******************************************************
منهج البحث البياني
عن المعنى القرآني في سياق السورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ،والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى ورثته من أهل العلم وعلى أمته أجمعين في كل لمحة ونفس عدد خلق الله ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .(1/259)
أما بعد فإنه إذا ماكان الله عزوعلا قد نزَّل القرآن الكريم ليكون آية على صحة نبوة عبده ورسوله محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى صدق دعوته ،وليكون تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ،فإنه جل جلاله قد حثَّ عباده على تدبره مقررا اتساقه قائلا : " أَفَلا يَتَدَ بَّرُونَ القُرْءَان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا " (النساء/82) فجعل اتساقه آية على أنه من عنده تعالى ،وفي الوقت نفسه يوقن المؤمنون به أن سبب اتساقه عندهم أنه من عند الله رب العالمين،فإذا القرآن كله من أوله إلى آخره سياق ممتد لكل سوره وآياته وجمله حتى استحلت فيه الآية في السورة كالحرف في الكلمة والسورة فيه كالكلمة في الجملة ، فكان من ثمرة هذا أنه إذا ما كان لايتأتى لأحد تمام فهم المعنى من عناصر الجملة إلا بتركيب عناصرها ونظمها والنظر فيها جميعا ،فإنه لايتأتى لأحد تمام فهم المعنى القرآني على النحو الذي يليق بجلال القرآن إلا بالنظر في السياق القرآني كله ، وكلما ضاقت دائرة السياق كان أثره في النظم البياني أولا وفي فقهه ثانيا أكثر جلاء وكان إدراكه أيسر ،ومن ثمَّ خَفَّتْ مُؤْنَة فقهه على كثير ، فرأينا مزيد عنايتهم في هذا المجال ،وكلما كانت دائرة السياق أوسع كان أثره في النظم أعمق ،وكان فقهه أخفى وإدراكه أعسر ،فثقل على كواهل كثير ،فقلَّت الدراسات التي تُعنى بسياق السورة وسياق القرآن الكريم كله .(1/260)
والنظر البلاغي في البيان القرآني ليس مجاله الدائرة الصغرىمن دوائر السياق،ومن فعل فقد غبن ـ بل رسالته الفريضة أن يمد نظره إلى سياق السورة كلها وسياق القرآن الكريم كله ذلك أنه يستشرف إلى ما يؤدي تمام المعنى القرآني في دقائقه ورقائقه ولطائقه ،وذلك لايتحقق إلافي سياق السورة ثم في سياق القرآن كله ،وأهل العلم يدركون قيمة البناء البياني للسورة ،إذ هي وحدة التحدي الصغرى الذي جاء به القرآن الكريم ،ولولا أنَّ في هذا البناء الكليِّ للسورة ما ليس فيما دونه مما له أثر جد عظيم في المعنى القرآني لما كان التحدي متوقفا عند بناء السورة وجعله أدنى ما تحدى به .(1/261)
فريضة ـ إذن ـ على البحث البياني في القرآن الكريم أن يبحث عن المعنى القرآني في تمامه ،وهولايكون بغير سياق السورة كلها ، لهذا عمدت إلى محاولة رسم معالم منهج للبحث البياني عن المعنى القرآني في سياق السورة . وهذا الذي أقدمه هنا ليس بقواعد وقوانين ومعايير تطبق على أبنية لغوية ،بل لا يعدو أن يكون محاولة لرسم منهج يحتاج للتجريب أعظم من حاجته إلى التطبيق ،فإنى أقدِّرُ أن في التطبيق ما يُفسده وفي التجريب ما يحييه وينميه ، إذ إنَّ في التطبيق تقديسا يتحاشى المناقدة ،وفي التجريب تقويما وتزكية يعتمد المناقدة اصلا قد ينتهي انجازها إلى مناقضة ، فكل تجريب لمنهج إنما يضيف له ما يحقق له التخلص مما هو ضار واكتساب ماهو ضروري ، ولا يقوم بالتجريب فيما أقدر إلا متمكن من اسكناه المنهج واستبصار ابعاده وآماده ،فهو يسيطر علىالمنهج ولايخضع له ، أما التطبيق فقد يقوم به من لايملك تحصنا ممايأتلق من ذلك المنهج فلا يسطيع أن يجوس خلاله ،فيستكشف عواره،فإذا هو بتطبيقه يلقي على ذلك المنهج بِجادَ التمجيد ودثار التقديس ، فيزعمه حقيقة معيارية على الرغم مما قد يكون في رحمه جرثومة ضلال مكين ، فالمنهج فيما يسمى بالدراسات الانسانية لايعدو أن يكون رؤية معرفية لمن اصطنع ذلك المنهج ،ومثل هذا أنفع له التجريب من التطبيق . ومن ثمَّ أقدِّرُ أنَّ في إنجاز التجريب لأي منهج من غير مصطنعه ما هو أكرم وأقوم من إنجازه ممن اصطنعه ،من أنَّ مصطنعه وثيق الاعتلاق به إذ هو وليد نفسه ،فقد يغفل عن أن يُفتشَ عمَّا فيه من خلَلٍ ،وذلك غير حميدٍ .
وما أقدمه هنا من منهج للبحث البياني عن المعنى القرآني في سياق السورة جعلته قائما على أربعة مقومات رئيسة أجملت القول في كل مقوم ،وجعلته فصلا ومهدت لذلك بتمهيد ،فإذا العمل كله تمهيد وأربعة فصول :
التمهيد في بيان معنى المعنى القرآني(1/262)
والفصل الأول في المقوم الأول من المنهج : فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني والفصل الثاني في المقوم الثاني من المنهج : فقه وحدة سياق السورة
والفصل الثالث في المقوم الثالث من المنهج : تقسيم السورة إلى فصول ومعاقد
والفصل الأخير في المقوم الرابع من المنهج : التحليل البياني للسورة .
والله رب العالمين استجدي الهدى والتقى والسداد والقبول ،وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وورثته من أهل العلم وأمته اجمعين
والحمد لله رب العلمين ,
حدائق الزيتون ـ القاهرة
2 ـ 6 ـ1418هـ / 4ـ 10 ـ 1997 م
محمود توفيق محمد سعد
الأستاذ في جامعة الأزهر الشريف
التمهيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنى المعنى القرآني
تدل مادة (عنى) اليائية اللام على القصد والاهتمام والإظهار ،وعلى المقاساة والتجشم تقول العرب :عنيت كذا :قصدته ،وعنت القربة: أظهرت ماءها ،وعنت الأرض : أنبتت نبتا حسنا ،وتقول :عانيت الأمر: قاسيته ،وتعناه : تجشمه،وعناه الأمر : أهمه .
أما المعنى الاصطلاحي لكلمة "معنى" فقد لقي اختلافا بالغًا بين العلوم المختلفة ذات العلاقة باللغة ،ومرد اختلافهم في تحرير المعنى الاصطلاحي لكلمة"كعنى" هو اختلافهم حول وظيفة اللغة (1)
وهذه الدراسة لاترمي إلى النظر في معنى "المعنى الللغوي"على إطلاقه ،بل هي رامية إلى دراسة "المعنى القرآني" وحده ،ولذلك لن تبحر في قاموس الاختلاف بين أهل العلم في بيان معنى المعنى ،وإنما ستعمد إلى تبيان مرادنا من معنى "المعنى القرآني"(1/263)
وغير خفي أنَّ الحديث عن معنى "المعنى القرآني" لايقصد إلى معاني كلمات القرآن الكريم في حقلها المعجمي ذلك "أنَّ الألْفَاظ المُفْرَدَةَ التِي هِيَ أَوْضَاعُ اللُّغَةِ لَمْ تُوضَعْ لِتُعْرَفَ مَعَانِيهَا فِي أنْفُسِها ،وَلَكِنْ لأَنْ يُضَمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ،فَيُعْرَفَ فِيما بَيْنَها مِنْ فَوَائدَ "(2)
ومن ثمَّ فإنه ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل من حيث هي مفردات ،وإنما من حيث علاقتهابالأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب والبناء ،وهذه الأحكام وتلك المعاني هي التي كان بها الهدى ،وكان بها المنهج الذي عليه تقوم الأمة المسلمة .
وفي سعيينا إلى تبيان معنى "المعنى القرآني" علينا أن نتذكر أنَّ الدلالة المعجمية لكلمة "عنى" تجمع معنى القصد والاهتمام والظهور ،والذي يرجع من معاني كلمة"معنى" إلى الكتكلم إنما هو القصد والاهتمام ،أما الظهور ،فإنما يرجع إلى الكلام نفسه من وجه وإلى المخاطب من وجه آخر .(1/264)
ما يرجع إلى الحق ـعزَّ وعلا ـ :" القصد" ليس لنا أن نزعم أن بملكنا القطع بتحريره وتحقيقه من بيانه القرآني ، فإ،َّ ما تفهمه الأمةُ من كلامه جلَّ جلاله ليس هو عين مراده من كلامه الموحي إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أنَّ القطعَ بأنَّ ذلك المعنى من هذه الآية مثلا هو عين مراده عزَّ وعلا منها إنما يكون بطرلايق توقيفي بسند صحيح ،ولايسطيع متلق بيان القرآن الكريم الزعم بتطابق إدراكه مع مراد الله جل جلاله ؛لأنَّ القول بهذا فيه جرأة على الله عزوعلا ،وقد كان من الصحابة من يتورع عن القول في معاني القرآن مما لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم (3) على الرغم من أنهم عربٌ أقحاح ذوو علم بالغ بالدلالات الإفرادية والتركيبة للايات ،وبكثير من ملابساتها وقرائنها ومساقاتها ،وذلك مخافة أن يقولوا قولا يشتط عن المراد ،وينأى عن القصد ،وهم لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ،ومخافة أن ينقل ذلك عنهم فيحسِبَ حاسبٌ أنَّ ذلك منهم مرفوع موصول ،وقد كان "الحاكم النيسابوري" يذهب إلى أنَّ تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع (4)إيمانا منه بحال الصحابة . وقد كان كبار علماء اللغة ونقاد أدبها يفسرون الكلمات والعبارات إذاماكانت في سياق أدبي إبداعي حتى إذاماكانت فيالبيان القرآني أحجمعن التفسير ،وقال ذلك في القرآن ولم يفسره ،بل إنَّ "أبا سعيد الأصمعي"(ت218هـ) ليمتنع عن تفسير كلمة "السقب" في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الجار أحقُّ بسقبه" فسئل الأصمعي :"ماقوله أحق بسقبه؟" فقال:"أنا لاأفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكن العرب تقول :"السقب :اللزيق" (5)(1/265)
ليس هذا من "الأصمعي" جمود أو فرارمن القيام بحق العلم ،بل ذلك إيمان منه بأن الكلمة في السياق القرآني وفي سياق البيان النبوي قد يعتريها من التحول الدلالي الذي تكون عليه خارج هذا السياق كما في السياق الشعري والنثري ما يظن أنَّ عبارته تعجز عن استبانته ،وأدنى صور هذا التحول الذي يعتري الكلمة القرآنية تلك الومضة الروحية الدافقة ، ألا ترى أنَّ أحرف الكلمات والجمل في غير السياق القرآني لاتمنح ماتكتب فيه من القراطيس أيَّ قداسة بينا الحروف نفسها حين تجمعها الكلمات القرآنية فترقم في قرطاس يضفي رقمها على ذلك القرطاس من القداسة ما يحرم على المسلم مسه على غير طهارة،ذلك أدنى ما يعتري الكلمات في السياق القرآني من التحول . ذلك شئ وشئ آخر :الأصمعيُّ عالمُ لغةٍ وشعرٍ ومن حوله علماءٌ أفذاذٌ هم اعلى منه في حَمْلِ البيان القرآني والنبوي لايليق بمثله أن يلقي بنفسه على مَدْرَجَتِهم في هذا الباب فهُمْ أحكمُ علمًا منه في هذا ،وهم قائمون بحق ذلك العلم غير ناكِسُونَ ،فمن الأدب العالى الذي لايعرفه إلا الأئمة أن نَدَعَ لكل إمامٍ في علمٍ أن يتكلم فيه ويتلقى عنه .
ذلك ماكان من"الأصمعي" وامثاله في العصور الخوالى ،اما نحن الطَّغَام اليوم فلا نكاد نتقحم شيئا كمثل تقحمنا القول في المعنى القرآني ،وكأننا تلقيناه شفاهة عمن أوحي إليه ـ صلى الله عليه وسلم ،بل اننا ليسبق جوابنا السؤال ،ولو علمنا هول مانحن فيه لما تكلم إلا إمام .
المهم أ، المعنى القرآني ضربان :
الأول: المعنى القصدي ،وهذاهو عين مراد الله تعالى ،وهومعنى توقيفي ليس لنا معه إلا الاجتهاد في فهمه حين يبلغنا بسند صحيح عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
والآخر:المعنى الإدراكي ،وهو كل ما يدركهأهل العلم والتدجبر من النصِّ القرآني وفقا لأصول الإدراك والتدبر وضوابطهما ،وهذا الضرب :"المعنىالإدراكي" هو مناط دراستنا ، ويمكن ان نعرفه بأنه :(1/266)
" الصورة القلبية التي يدركها ويستنبطها أهل العلم من النصِّ في سياق السورة وفقاًلُصولِ وَضَوابِطِ الفَهْمِ والاسْتِنْبَاطِ .
قلت :"في سياق السورة" لأن تمام المعنى لايدرك في سياقه الجزئي ،وإنما يدرك في سياق السورة كلها التي هي وحدة التحدي ،وكل درس لآيةٍ خارج سياق سورتها هو درس خِدَاجٌ عاجِزٌ عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآني التي تغذو الروح والقلب بلطائف المعاني الإحسانية التي أشار إليها القرآن في صدر سورة "لقمان"إذ يقول:
"أَلم * تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ "
انظر إلى قوله في سورة "لقمان" الذي آتاه الله الحكمة ،ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيراً ،وقوله في سورة "البقرة":
"ألم * ذَلِكَ الكِتَبُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ"
تعلم أنَّ في المعنى القرآني ما هو هى للمتقين ومن دونهم من الناس ومن المسلمين والمؤمنين ،وفيه ما هو هدى ورحمة للمحسنين الذين يعبدون اللهكأنهم يرونه .
فالمعنى القصدي هومراد الله وهوتوقيفي لاتفاوت بين أهل العلم فيه بعد تحصيله بالطريق المسند إلا تفاوتا في الفهم ، والمعنى الإدراكي معنى اجتهادي يتفاوت أهل العلم فيه تفاوتا غير محدود ،بل لاتكد تجدهبصورته نفسها عند عالمين إلا إذا كان احدهما ناقلا عن الآخر غير معبلر عما اعتلج في قلبه من النصِّ القرآني ، وهذا المعنى الإدراكي هو من المعنى القصد حين يحسن العالم الاجتهاد في الفهم ولبتدجبر ،وقد يقترب الإدراكي من القصدي اقترابا وقد يشتط عنه حين لا يحسن صاحبه الاجتهاد في فهمه وتدبره .
والمعنى الإدراكي هو المراد فيدراستنا هذه ،أمَّا القصدي فليس مناط النظر في هذه الدراسة .
الهوامش
(1) راجع في هذا: التعريفات للسيد الشريف :"معاني" ص122 ،معجم النقد العربي القديم لمطلوب ج2 ص3310،326
ومعجم المصطلحات العربية لمجدي وهبة ص 374 ومفهوم المعنى لعزمي اسلامص24 ،واللغة مبناها ومعناها(1/267)
لتمامحسان ص 24،وعلم النفس اللغوي لنوال طية ص20،42، 45 ، وسيكلوجية اللغة لجمعة يوسف ص 125 ،
و دور الكلمة في اللغةلستيفان أولمان ترجمة كمال بشر ص 61
(2) دلائل الإعجاز لعبد القغاهر ص 539 ، ت/ شاكر
(3) تفسير الطبري "المقدمة" ج1ص18"ط:دارالغدالعربي" وتفسيرالمحررالوجيز لابن عطية ج1ص18 "ط:المغرب"
(4) تدريبل الراوي للسيوطي ج1 ص192 ـ 193
(5) المنتقى من أخبار الأصمعي لأبي عبد الله الربعي ص120،125 "ت: محمد مطيع الحافظ ، البرهان في علوم القرآن لزركشي ج1ص295
مقومات البحث البياني عن المعنى القرآني
[توطئة] جمهور أهل العلم بالقرآن الكريم على أنَّ أقل قدر وقع به التحدي في القرآن هو السورة،أيًّا كان مقدارعدد آياتها ،فسورة "الإخلاص" كسورة "البقرة" في التحدجي من أنه تعالى قال : فَأتُوا بِسُورةٍ مِنْ مثْلِه "{البقرة/23} وقال:" قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ" {يونس/38} فقد جاءت في الآيتين كلمة "سورة" نكرة ،وفي هذا التنكير دلالة على العموم ،أي سورة طويلة أو قصيرة ،ولكن أهل العلم يذهبون إلى أنَّ ماكان كالسورة في مقدار عدد آيات اقصر صورة "ثلاث آيات " فأكثر يقع به التحدي (1)
ِ ويؤخذ من هذا أنه إن كان جزء من آية يعدل مقدار السورة في عدد كلماتها لايقع به التحدي ،بل لابد أن يكون ذلك معادلا ثلاث آيات طوال أو قصار فأكثر، فأية المداينة في سورة البقرة على الرغم من أنها تفوق كثيرا من فصار السور فى مقدار جملها وكلماتها وحروفها لايقع بها التحدي ؛لأنها آية واحده ، فهي جزء من سورة وعنصر من عناصر بناء معنى تلك السورة ، بينما نجد سورة كالإخلاص قد وقع بها التحدي .
كأني بهم يشيرون إلى أن في سورة الإخلاص" وما شاكلها معنى ليس في آية المداينة وماشاكلها ،وهذا المعني القائم في سورة "الإخلاص" وغير قائم في آية"المداينة" إنما هو أس رئيس لتحقيق التحدي .(1/268)
يبدو لي أ، آية "المداينة " وإن كانت قائمة على النظم التركيبي في بناء جملها ،وفيها شئ من النظم الترتيبي بين الجمل التي شكلت الآية إلا أن النظم الترتيبي القائم بين الآية في سورة "الإخلاص" غير قائم فيآية "المداينة " فأفترقا ،وهذا النظم الترتيبي بين الآيات هو من أعلى ضروب النظم البيان التي تحقق وحدة بناء السورة .
ذلك ما يمكن أن يفهم من موقف بعض أهل العلم وهوفهم بالغ في ملاحظة عدد الآيات في تبيان المقدار .
ومن المحتمل أن يفهم الكلام على نحو آخر لايبالغ في ملاحظة عدد الآيات ،ولكن في مقدارها التركيبي ، فلو أن آية بلغت في تركيبها ونظمها ما بلغته ثلاث آيات ،أومابلغته آيات "الإخلاص"أو "الكوثرولوكانت جملة واحدة ،فإنها تكون بمقدار ثلاث آيات فيقع بهاالتحدي الذي هو آية على صدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
إلى مثل هذا يذهب "أبو فهر: محمود شاكر" يقول من بعد أن أبان عن أن النبي صلى الله عليه وسلم من بعدأن نزل عليه الوحي طالب قومه بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه ،ويقروا له بصدق نبوته بدليل واحد هو هذا الذي نزل من قرآن يقرؤه ،كان هذا القرآن ينزل عليه منجمًا ،وكان الذي نزل عليه يومئذٍ قليلا ،كماتعلم ،فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته ،وإذن ،فقليل ما أُحىَ إليه من الآيات يومئذٍ ،وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تنامت ،وتجمعت في القرآن جملة ،كما نقرؤه اليوم منطوٍ على دليلٍ مستبين قاهريحكم له بأنه ليس من كلام البشر ،وبذلك يكون دليلا على أنَّ تاليه عليهم ،وهو بشر مثلهم نبي من عند الله مرسل ،فإذا صحَّ هذت ـ وهو صحيح ،لاريب فيه ـ ثبت ... أنَّ الآيات القليلة من القرآن ،ثمَّ الآيات الكثيرة ،ثمَّ القرآن كله ،أيّ ذلك كان في تلاوته على سامعه من العرب الدليل الذي يطالبه بأن يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر ،وذلك من وجه واحد، وهووجه البيان والنظم (2)(1/269)
وإذا مانظرنا في دلالة كلمة "سورة" التي وقف التحدي عندها ألفينا أنَّ دلالتها في لسان العرب راجعة إلى معان عدة راجعة إلى السؤر بمعنى البقية ،أو التسور ،والتصاعد والمرتبة وسور المدينة إلى غير ذلك
وأنَّ دلالتها في البيان القرآني دلالة اصطلاحية إنما هي" قطعة من القرآن معينة بمبدأٍ ونهايةٍ لايتغيران ،مسماة باسم مخصوص تشتمل على ثلاث آيات ،فأكثر في غرض تامٍّ ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة ناشئ عن أسباب النزول ،او عن مقتضيات ما تشمل عليه من المعاني المتناسبة"(3)
وقد يأتي البيان القرآني مطلقا كلمة" سورة" على جملة من الآيات ، يقول الحق عز وعلا:" وإذا أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجهدوا مع رسوله استئذنك أُولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القعدين " {التوبة: 86} 9 مثلما جاء إطلاق كلمة "قرآن" على بعضه ،يقول اللَّهُ جَلَّ جلالُه :" فإذا قَرَأتَ القُرءانَ فاسْتَعِذْ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـــنِ الرَّجيمِ" {النحل : 98}
فثمَّ احتمالان في دلالة كلمة"سورة" في آية التحدى "{البقرة: 23}و{ يونس: 38} أن يكون المراد المعنى الاصطلاحي ،كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد ابن المعلَّى :"لأُعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد... الحديث" رواه البخري فيكتاب التفسير . وأن يكون المراد المعنى اللغوي :اي القطعة ، فيكون التحدي بجملة تامة المعنى من الآيات ،كالآيات الخمس من سورة "العلق" التي هى أول ما نزل .
هذان احتمان قائمان ، والذي أذهب إليه أنَّ التحدي غير مقفصور على السورة بمعناها الاصطلاحي ،بل يكون بما كان فيه من الآيات بعض الخصائص من تمام المعنى ،ومن الاختصاص بمعنى كللاى وغرض تام كما تراه في آية "المداية" أو "الكرسي" وغيرهما ،فإن مثل هذا من القرآن فيه من الإعجاز ما يقع به التحدي ،فالخلق أجمعون عاجزون عجزا مطلقا عن الإتيان بمثل آية الكرسي .(1/270)
وغيرخفي أنه إذالا ماتحقق الإعجاز الذي هو البرهان القاطع على صحة النبوة بسورة أوما دونها من الآيات ذوات الغرض الخاص والمعنى التام فإن الإعجاز مراتب بعضها فوق بعض من حيث مقتضياته الكامنة والشاخصة في بيانه ونظمه ،فإن خصائص البيان والنظم المعجزة في آية المدجاينة مثلا من سورة البقرة ليستعلى قدرها في السورة كلها :البقرة أو الإخلاص ،وليست على قدرها فيالقران الكريم كله .إنالإعجاز ليس خاصا بالسورة بمعناها الاصطلاحي ،ولكن السورة بمعناها الاصطلاحي ذات خصائص بيانية نظمية لاتكون فيما دون السورة بهذا المعنى الاصطلاحي ،فلو أننا استقصينا آيات في موضوع ما كالجهاد أوغيره وبلغت عشرات الآيات ،فإن هذا القدر منالآيات وإن كان معجزا يقع به البرهان القاطع على صحة النبوة ،فإنَّ الإعجاز فيها لن يكون على قدرالإعجاز في اقصر سوةرة منسور القرآن ؛لما اشتملت عليه هذه السورة القصيسرة من خصائص بيانية ونظمية لن تتحقق في مجمع آيات موضوع واحد من سور عدجيدة ؛لذا ازعم أنَّ البحث البياني عهن المعنى القرآني في سياق السورة هو أكرم وأوفر أنماط البحث عنه عطاء .
والبحث البياني في هذا قائم على مقومات عديدة أجمل القول فيها في الفصول القادمة .
الهوامش
(1) يقول الطاهر بن عاشور :"وكونها أي السورة تشتمل على ثلاث آيات مأخوذ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال جاء الحارث بن خذيمة ...بالآيتين من آخر سورة "براءة" فقال :"اشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال"عمر" : وأنا أشهد لقد سمعتهما منه "،ثم قال:" لوكانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدةٍ..." فدل على أن "عمر" ما قال ذلك إلاعنه علم بأن ذلك أقل مقدار سورة "{ التحريروالتنوير 1/84}
(2) تقديم شاكرلكتاب "الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبيً 27ـ28
(3) التحرير والتنوير1/84
((1/271)
4) المفردات للراغب :مادة"س و ر" 248 ، ونظم الدررللبقاعي 1: 162وانظرالكشاف1: 239وتفسير البيضاوي ومعه حاشية
الشهاب 2:32
(5) حاشية السيد على الكشاف 1: 240
الفصل الأول
المقوم الأول : فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني
للقرآن الكريم ثلاثة تنزلات : الأول من الحق عز وعلا إلى اللوح المحفوظ :"بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفوظٍ"{البروج: 21ـ22} وقد نزل القرآن جملة في اللوح المحفوظ الذي أودع الله عزوعلا فيه كل شئ " مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتبِ مِنْ شَئٍ"{الأنعام: 38} ،" حم *والكِتَبِ المُبِينِ* إنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانصأ عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُنَ * وَإِنَّهُ فِي أَ ُمِّ الكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ "{الزخرف: 1ـ 4}
الثاني: من اللوح المحفوظ إلى بيت العرة في السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدرمن شهر رمضان :" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِي÷ِ القُرْءَانُ"{البقرة:185} ، "إِنَّا أَنْزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةٍإِنَّا كُنَّأ مُنْذِرِينَ"{الدخان:3}،" إِنَّا أَنْزَلْنَه فِي لَيْلَةِ الْقدْرِ"{القدر:1}
روى "الحاكم" في" المستدرك"بسندع عن "ابن عباس" رضي الله عنهماأنه قال :" فُصِلَ القرآن من الذكر ،فوضع في بيت العزة منالسماء الدنيا ،فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله غعليه وسلم يرتله ترتيلا" "{المستدرك :ك:التفسير،ح 2881}
وفيه عنه أنه قال:" أنزل القرآنُ جملةً واحدةً في ليلةِ القَدرِ إلى السماءِ الدُّنْيا ،وكان بمَوْقِعِ النُّجُوم ،وكان اللَّهُ يُنْزِلهُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعضه في أثر بعضٍ " {السابق :ح 2879}(1/272)
وإذا ماكان هذا موقوفا على"ابن عباس" عليهما الرضوان ،فإن ماكان موقفا على الصحابي مما لامجال فيه للرأي ؛لأنه من مجمل الغيب ،كمثل هذا ،فإنَّ حكمه عند أهل التحقيق حكم المرفوع ،لأنه لن يقول صحابي في هذا من عند نفسه ،بل لابد أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث: من بيت العزة في السماء الدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة بدأت بليلة القدر :"وإنَّه لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"{ الشعراء: 192ـ 195}
"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْءَانُ جُمْلَةً وَ حِدَةً كَذَ لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَهُ تَرْتِيلاً * وَلايَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا"{الفرقان: 32ـ33}
فالتنزيل الثالث إنما كان منجما على حسب الأحداث والوقائع ،وفيهذا ضرب من ضروب التربية للأمة ومعالجة لأحواها ،فكان للقرآن الكريم سياق تنزيلي تاريخي اقترنت فيه الآيات نزولا بملابسات ووقائع في السياق الاجتماعي للأمة زمن البعثة .
وإذامانظرنا ألفينا النزول الأول والثاني كانا نزولا جمعيا للقرآن الكريم ،وكان النزول الثالث نزولا مفرقا لم ترتب فيه الأيات نزولا على وفق ترتيبهافي النزولين الأول والثاني،بل قدتنزل آيات من سورة ،فتتلوها آيات من سورة أخرى من قبل تمام السورة السابقة ،فقدظلت سورة “البقرة "تتوالى آياتهانزولا وكان جبريل عليه السلام ينزل بالآية وموضعها من السورة على النبي صلى الله عليه وسلم ،فيأمر النبي صلىالله عليه وسلم كتابه بأن توضع الآية فيالموضع الذي حدده جبريل عليه السلام .(1/273)
روى "الحلاكم "في "المستدرك" بسنده عن "ابن عباس"رضي الله عنهما فيما أخبره "عثمان بن عفان"رضي الله عنهأنه قال :"إن رسول الله صلىالله عليه وسلم كان يأتي عليه الزَّمانُ تنزل عليه السورة ذوات عدد ،فكان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من كان يكتبه ،فيقول :"ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ...الحديث " {المستدرك :التفسير ـ ح 2875}
ولما تم نزول القرآن الكريم كانت كل آية فيموضعها المحكم من سورتها ،كما أمر جبريل عليه السلام ،وكذلك كل سورة في موضعها من النسق الكُلِّي للقرآن على النحوالذي هو عليه في اللوح المحفوظ ليس لأحد في ترتيب شئ منه :حرفا أو كلمة أوآية أوسورة شئٌ البتة ،وماكان الله عزوعلا ليدع لأحد منعباده أن يتولى برأيه ونظره شيئا من ذلك الكتاب الذي تحدي بسورة واحدة منه جميع خلقه ،وهوالذي يقول فيه:""وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِ تَبِ لدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ"{الزخرف: 4} فانظر قوله "في أم الكتاب:اللوح المحفوظ" وقوله"لدينا" وقوله "على حكيم” ويزيدك يقينا بهذا أنَّالنبي صلى الله عليه وسلم سمى سورة "الحمد لله رب العالمين “ فاتحة الكتاب .
روى "مسلم"بسنده عن "عبادة بن الصامت" يبلغ به النبي صلىالله عليه وسلم :" لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"{ ك:الصلاة.ح 34/394
"فلولا أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يرتبوا هذا الترتيب عن أمر جبريل عليه السلام عن الله عزوعلا ،لماكان لتسميته هذه السورة "فاتحةالكتاب" معنى ،لإذ قد ثبت بالإجماع أنَّ هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا ،فثبت أنها فاتحته نظما وترتيبا وتكلما"(1)(1/274)
فالعرضتان الأخيرتان للقرآن في شهر رمضان الأخيرمن حياة النبي صلىالله عليه وسلم مطابقتان في ترتيب الآيات والسور لماهو في اللوح المحفوظ فيبيت العزة ،وبذلك تطابقت صورة الترتيب الكلى للقرآن الكريم في أطوارها التنزيلية الثلاثة ،فالذي بين أيدينا بين دفتي المصحف هوهوما في اللوح المحفوظ ،فقدتكفل الله عزوعلاجمعه وقرآنه وحفظه:" "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه"{القيامة:17}،" "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَأ الِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ"{الحجر: 9}وما زعمته بعض الشيعة زورا وبهتانا من التحريف قد قوضه أهل العلم تقويضا لايبقي ولايذر(2)
من الذي مضي يتجلى أنَّ للقرآن الكريم سياقا كليا تقع كل سورة من سوره على مدرجة من مدارج هذا السياق القرآني ،يبدا هذا السياق بأم الكتاب التي تجمع معاني القرآن الكيم كله ،فكانت الجديرة بأن تسمى توقيفا "أم الكتاب" أيضا،كما سميت توقيفا "فاتحة الكتاب"(1/275)
روى "مسلم" بسنده إلى أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ{ ك:الصلاة.ح:395} وأم كل شئ أصله ،فهي أصل القرآن والجامعة معانيه ،ولعله لذلك وجب أن تقرأ هي لاغيرها فيكل ركعة من الصلاة المفروضة والمسنونة والنافلة،فكأنَّ المصلى يقرأ القرآن مجموعا في الفاتحة في كل ركعة ،وقد قسمت "أم القرآن" المتلوة في كل ركعة بين الله عزوعلا والمصلى نصفين لله عزوعلا منها قوله تعالى:" الحمد لله رب العلمين* الرحمن الرحيم* ملك يوم الدين" ولعبده المصلي قول الله تعالى :" اهدنا الصر ط المستقيم* صر ط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" وكان قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" بين الله عزوعلا "إياك نعبد" وعبده "إيالك نستعين" ،فكانت هذه الآية فيما اقدر محور المعنى لأُمِّ القرآن،وهي في الوقت نفسه محور المعنى القرآني كله ،فجميع معاني القرآن منبثقة من هذه الآية ومرتبطة بها ارتباطا وثيقا ،فهي مفتاح المعنى القرآني ،وهي معيار صحة فهمه ،وإذا ماكانت مكة بالنسبة للأرض إنما هي "أم القرى" كما جاء في الذكر الحكيم :{ الأنعام:92}و{الشورى:7} وقد ثبت علميا أن البيت الحرام في "مكة" هو مركز الأرض (2) فإن قوله تعالى"إياك نعبد وإياك نستعين "في أم القرآن هي محور القرآن الكريم،فكل معاني القرآن الكريم مرتبكة بسورة الفاتحة وبمحورها ،ثم تتوالى سور القرآن من بعد ذلك بدأً من سورة "البقرة"وانتهاء بسورة "الناس"(1/276)
لتفصل الإجمال والإحكام للمعني القرآني القائم في سورة الفاتحة ،وهذا يفسر وجها من وجوه المعنى فيقوله تعالى في أول سورة "هود":"الر كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءايَتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ " فلكل سورة موقع على مدرجة سياق المعنى الكملي للقرآن،وهي مدرجة متصاعدة لاتتناهى ،فإذا المعنى القرآني في حركةنماء متكامل ،فكل سورة تتلو أخرى يكون فيها من المعاني الكلية والجزئية ماهو مؤكد لما سبق تأسشيسه في سابقه ،وتأسيس لجديد على مدرجة المعنى القرآني حتى يصل إلى ذروته في سورة "الإخلاص "والمعوذتين"
وقد نصت السنة على أن منزلة سورة "البقرة" من القرآن منزلة السنام :" لكل شئ سنام وإنَّ سنام القرآن سورة البقرة"{الترمزي:فضائل القرآن .ح: 2878}ونصت السنة أيضا أنَّ "يس" قلب القرآ،:" إنَّ لِكلأِّ شئٍ قلبا ،وقلب القرآن يس" {السابق.ح3048} فلكل سورة من سور القرآن موقع على مدرجة القرآن به تتبين منزلة كل معنى كلى أوجزئي من معانيها من التأسيس والتأكيد ،وبه يتمكن المرء من فقه معاني هذهالسورة إذا ماضمَّ كل معنى كلى أوجزئي إلى شكله وقرينه من المعاني السابقة على مدرجة السياق القرآني.(1/277)
وفي تحديد موقع السورة من مدرجة سياق المعنى القرآني لتحديد معانيها الكليةوالجزئية من التأسيس والتأكيد بعض من الصعوبة ،ولاسيما السور التي تكون بعيدة الموقع من سورة الفاتحة" في السياق الترتيلي إلا أنه مما ييسر الأمر أن كل سورة لها نوعان من المعاني : معانٍ كلية هي معاني الفصول والمعاقدالتي يتكون منها البناء الكلى للسورة ،ومعانٍ جزئية هي معاني الجمل والآيات في كل فصل ومعقدمن معاقد معانى السورة ، فيكون رد المعاني الكلية إلى قرائنها فيما سبقها من السور فيه يسر وحين تكون السورة التي هي مناط التدبرقريبة الموقع من سورة"البقرة" فإنه لمن اليسير حينئذ ردُّ المعاني الكلية والجزئية إلى ماترتبط به من معانىالسورة السابقة عليها ،بل من غيرالعسير المعانى الكلية إلى ماترتبط به من سورة "الفاتحة" ،أمَّا السور التي تقارب نهاية السياق الترتيلي من القرآن ،فإنَّ ردّض معاقد المعاني ،وهي المعاني الكلية إلى ما سبقها كافٍ في تبيان موقع السورة على مدرجة المعنى الكلى للقرآن.
وهذا المقوم وإن كان فيه من الصعوبة غير قليل إلا أنَّ له عظيما من الأثر والمنزلة في فقه معنى السورةومنهج بنائها .
هذاعلاوة عليه ما فيه من بيان تناسب سور القرآن بعضها بعضا ،وذلك التناسب ضربٌ من إحكام القرآن لايقل البتة عن منزلة تناسب الآيات في بناء السورة الواحدة ،وهذا مما "اتسع علمه وتغازر،وقل كلام الناس فيه ،وهومن أبواب اللاغة العالية التي تَرُوعُ ،من غير أنْ تكونَ داخلةً تحت مصطلحٍ من مصطلحات مُتُونِ علم البلاغة ،لأنها علاقات معان تتفق ،وتختلف وتتقارب وتتباعد ،ولها في تقاربها ةتباعدها درجات .كل ذلك بتدبير دقيق واعتبارات وسياقات ومقامات منها ظاهر وخفي "(3)
وهذا الذي قلَّ كلام الناس ـ كما يقول شيخي ـ انما هومن معين الغرض الرئيس الذي نصبه الإمام عبد القاهر ليبلغه بكتابه "أسرارالبلاغة" :(1/278)
يقول الإمام:" واعلم أنَّ غرضي في هذا الكلامِ الذي ابتدأته ،والأساس الذي وضعته أن أتوصَّلَ إلى بيان أمرِ المكعاني كيف تختلفُ وتتفقُ ،ومنْ أينَ تجتمعُ وتفْتَرقُ ،وأُفَصِّلَ أجناسها وأنواعها ،وأتتبع خاصها ومُشأعها ،وأبين أحوالَها في كرم مَنْصبها من العهقل ،وتمكنها في نصابه وقرب رحمها منه ،أو بعدها ـ حين تُنسبُ ـ عنه ،وكونها كالحليف الجاري مجرى النَّسبِ أو الزَّنيمِ الملصقِ بالقوم لايقبلونه ،ولا يمْتَعِضُون له ،ولا يَذُبُّون دونه"(4)
فلما شردت بنا نياقنا عن مهيع الإمام توارت عنا الغاية لإاقمنا لأنفسنا غاية وأخرى ،فمن النصح أن نستأنف مسيرنا على جادة الإمام .
إنَّ مدارسةموقع السورة القرآنية على مدرجة السياق الكلى للمعنى القرآني ليتبين بها أمر المعاني وما بينها من علائق التقابل والنتاظر ،فوق ما به يتحقق لعلم البلاغة من إقامة على مفتتح جادة الإمام عبد القاهرإلى الغايى التى نصبها لكتابه الذي سماه "أسرار البلاغة" وهو تسمية نبيلة ماجدة ،وكأن÷ يشير بها إلى أنه مقيم في هذا الكتاب المفاتح الكبرى التى تستفتح بها اسرار بلاغة العربية ،وقد كانت عنايته في هذا الكتاب عناية بالغة بمناهج التحول الدلالى للكلام في العربية ومابين هذه الدلالات في صورها الكلية والجزئية من علاقات الاتفاق والافتراق،والاختلاف والاتفاق ،والعموم والخصوص....
وأهل العلم بالقرآن الكريم وبيانه كانت لهم عناية بالغة بتبيان علائق السور بعضها ببعض على اختلاف مناهجهم ،وكانت جهوده ممتفاوتة تفاوت مواهبهم ومكاسبهخم ،فمنهم منكان يكتفي منالأمر ببيان علاقة ظاهر فاتحة السورة بخاتمة ماقبلها معه شئ من النظر فيما يقع بينهما من التشابه في بعض المفردات والجمل .(1/279)
يقول السيوطي في علاقة سورة "النحل" بسورة"الحجر" :" وجه وضعها بعد سورة "الحجر" :أنَّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه ،فإن قوله في آخر تلك :" واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" الذي هو مفسر بالموت ،ظاهر المناسبة لقوله هنا:" أتى أمر الله"
وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين ،وفى المتأخرة بلفظ الماضي ؛لأن المستقبل سابق على الماضي ،كماتقرر في المعقول والمنقول .
وظهر لى أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم ،وإنما تأخرت عنها لمناسبة الحجر ،في كونها من ذوات "الر"(6)
ظاهرالنظر قد ينتقد ما في مقالة "السيوطي" غيرأن الأمر قد يكون مرميا به من السيوطي ،ومن سبقه بهذا إلى أن في تناسب مطلع السورة بمقطع ما قبلها آيةً على تناسب مقصود كلٍ منهما ؛من أن المطلع إنما هو براعة استهلال للسورة ،وفيه مفاتح معاني سورته، وفي المقطع تخليص مركز لما انتهت إليه معاني السورة عبر رحلتها في آيات السورة وفصولها ،ولذلك يكون اعتلاق مقطع كل سورة بمطلعها أمر رئيس في بناء السورة ،فإذا مااستبصرت معالم العلاقة بين مطلع السورة ومقطع ما قبلها فكأنه استبصرت معالم العلاقة بين مقصود كل منالسورتين ، كذلك يتراءى لى صنيع "السيوطي" وأمثاله ،فإن صح الذي قلت ،فذلك من اللطافة بمكان شريف .(1/280)
وما ذهب إليه من أن سورة"النحل"شديدةالاعتلاق بسورة"إبراهيم" إلا أنه فصل بينهما بسورة "الحجر"من أن "الحجر" من ذوات "الر"كمثل سورة"إبراهيم" قد يبدو في ظاهره أنه نظرساذج غير نافذ في أغوار المعاني ،لكن التذوق قد يهدي إلى أنه قد يكون راميا إلى أن في تشابه السور في الاستفتاح بما سمي بالحروف المقطعة آية على ما بين هذه السور من وشائج القربى ،وبهذا تكون سورة" النحل "معتلقة بسورة "ابراهيم" من وجه وبسورة "الحجر" من وجه آخر وأقيمت "الحجر" بين سو رة "إبراهيم" وسورة"النحل" لظهور اعتلاق أولها بأول" ابراهيم" وظهور اعتلاق آخرها بأول"النحل"،فأذا تجاوز المستبصر ما ظهر إلىما بطن تبين له وثيق اعتلاق "النحل" بكل من إبراهيم"و"الحجر"
وإذا كان صنيع "السيوطي" قد يفهمه العَجِلُ على غير الوجه الذي يمكن أن يكون مبنيا عليه إن صح الذي ذهبت إليه في فهمه ، فإنَّ لشيخنا "أبو موسى" مقالا في هذايهدي إلى التي هي أقوم ، يقول :
"لاشك أننا إذادرسنا ترتيب "الطواسيم" وعلاقة المعاني التي في هذه السور الثلاثة:(الشعراء،النمل، القصص) فإننا واجدون لامحالة بابا من أبواب البلاغة الغائبة،حاول أن تستخلص قصة"موسى" ـ عليه السلام ـ في السور الثلاثة ،وكيف تكاملت تكاملا يمتد للخلف ،فبدأت القصة في "الشعراء " ـ وهي أول السور الثلاثة ترتيباـ بتكليف "موسى" بالرسالة ،وأن يأتي القوم الظالمين ،بينما بدأت في سورة "النمل" ـ وهي السورة الثانية ـ بقصة "موسى" مع أهله وأنه آنس من جانب الطور نارا ،وأنه سيأتيهم منها بخبر،ثم كان لقاؤه بربه ،وإعداده للنبوة ،وإظهارالمعجحزة له ،وسماعه نداءربه:إني أنأالله،وألقىعصاه ورآها تهتز،وأخرج يده...إلىآخره ،(1/281)
وهذا الجزءسابق للجزءالذىجاءفي"الشعراء"لأنه قبل الأمربالذهاب إلىفرعون،ثم جاءت"القصص"ـوهىالسورة الثالثة والأخيرة في"الطواسيم"وتبدأ بقصة"موسى"مع طفولته:"وأوحينا إلى أم موسىأن أرضعيه" وكأننامع ترؤتيب تنازلي،يتقدم في السورةإلىالأ/ام ،وفي القصة إلىالخلف،وهكذاإذاحلَّلت بقية المعانى وجدت من خبرهامالاتعرف،ومايحتاج إلىتحليل،وتدبر،حتى تستطيع شرح المذهب الذي بنيت عليه القصة في السور الثلاثة ، وقد ذكرت قصة "موسى" ـ عليه السلام ـ لأن القصة أظهر في الذي أريده ، وفي المعاني والأحكام والمواعظ والعقائد وغيرذلك من المقاصد ما في القصة ،ويجري على هذه المعانى فى تنوعها ،وترتيبها وتكاملها ،مايجرى على القصة ، وقل مثل ذلك في "الحواميم"(7)
غير خفي إذن أنَّ ترتيب القصص في القرآن الكريم لايخضع إلى نسقه التاريخيفي تسلسل الأحداث في مجموع ما يذكر من قصص ،فيبدأ بقصة"آدم" ـ عليه السلام ـ وينتهي بقصة"عيسى" ـ عليه السلام ـ أو في أحداث القصة الواحدة ،فيبدأ بحياة النبي ،وينتهي بانتصار رسالته واحقاق الحق وإزهاق الباطل ،بل هو ناظر إلى علاقة الحدث بالعبرة التي يرمي إليها المقصد الكلى من السورة ،فتسطفي كل سورة من القصة الواحدةما يتأخى ويتناغى مع العبرة منها والمقصد الكلى الذي تشير إليه .
ويدلك شيخنا على ذلك بأنك إذامانظرت في قصة"موسى" عليهالسلام في ثلاث سورمتوالية استفتحت استفتاحا متشابها أطلق عليها به اسم"الطواسيم" ألفيت أن أحداث القصةلاتأخذ في نهج التسلسل التاريخي الصاعد من الميلاد حتى الانتصار وزهق الباطل من أن القرآن ليس كتابا لتسجيل أورواية الوقائع التاريخية ،إنماهوهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ،ومن ثمَّ يتخذ فيه بناء القصص نهج تسلسل المعنى والعظة والعبرة لاالتسلسل التاريخي للحدث .(1/282)
سورة"الشعراء" فيها مع التسليةللنبي صلىالله عليه وسلم والتقوية لهولجنده،وبيان سنة الله ـ عزوعلاـ في نصرالحق وزهق الباطل،إظهار البطش والنقمة لمن خالف أمرالله تعالى ،فالغالب علىالسورة الإنذار والعقاب لمن كذب؛ليكون ذلك فى وجه تكذيب "قريش"وأعوانها،واستهزائهم بالقرآن "ومَايَأتِيهِم مِّن ذِكرٍمِّنَ الرَّ حمَنِ مُحْدَثٍ إلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فقد كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَؤُاما كانُوا بهِ يَسْتَهْزِءونَ "
وقد جعل من لوازم معاقد المعاني الكلية في السورة قوله:" إنَّ في ذلكَ لأَيَةً وَمَاكَانَ أكْثَرُهُم مُّؤمِنِينَ * وإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ"
وقد تكرر ذلك ثماني مرات عقب كل معقد :"عقب قصة موسى (ي:10ـ66) و"إبراهيم"(ي: 123 ـ139)و"صالح"(ي:141ـ158)و"لوط"(ي160ـ173)و"شعيب"(ي:176ـ189) ثم جاء التعقيب بقصة مكذبي قريش ومناصريهم وموقفهم من القرآن .
وقدتكرر اسمه"العزيز" في هذه السورة تسع مرات ولم يكن كذلك في غيرها ، وجاء في هذه التسع مقرونا باسمه " الرحيم" ولم يقترن به في السور السابقة عليها في ترتيب التلاوة ،فقد كان الغالب على هذه السور القترانه باسمه "الحكيم" ،وجاء من بعد سورة "الشعراء" مقترنا باسمه"الرحيم"فىأربعة مواضع:("الروم/5،و"السجدة"/6,،و"يس"/5 ،و"الدخان"/42 )
ومن البين أن اسمه "العزيز" يتناغى مع الإنذار والتهديد للمعاندين ،وفيه تأنيس للنبي ـ صلىالله عليه وسلم ـ وصحبه ، وفوى ذلك التأنيس " ذكراسمه"رب" مضافا إليه ضمير خطاب النبي ـ صلىالله عليه وسلم ـ "ربك" واقتران اسمه"الرحيم" به في المواضع التسعة ،وهذا الاسم يتناغى مع غاية الإنذار والتهديد .(1/283)
في هذا السياق جاءت قصة"موسى"ـ عليه السلام ـ مستهلة بالحديث عن تكليف "موسى" ـ عليه السلام ـ الأتين إلى القوم الظالمين ،وفي اصطفاء قوله "القوم الظالمين" إيماء إلى أن الأقوام الذين أرسلت إليهم الأنبياء هم كذلك ،وليس هذا خاصا بقوم النبي "محمد " ـ صلىالله عليه وسلم ـ ،وانظر تكرير كلمة"أخاف" من "موسى" وقول الله ـ عزوعلاـ " كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون" وأخذت السورة تصور موقف المواجهة العالية بين "موسى" ـ عليه السلام ـ و"فرعون" ـ عليه اللعنة ـ وما كان عليه "فرعون" من المكر والقوة والمناصرة من قومه الظالمين،وماكان من المصير المبير لهم ،والنصر المبين لموسى ـ عليه السلام ـ وجنده :" وأزلفنا ثمَّ الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين" فاكتفت سورة "الشعراء" بأحداث التكليف والمواجهة ومكر فرعون وقومه الظالمين ووعدالله ـ عزوعلاـ بالنصر وتصوير عقبى الفريقين . وهذا ما يتناسب ويتناسج مع المقصد الرئيس الذي ترمي إليه سورة "الشعراء" والسياق الذي تتوالى على لاحبه آياتها البينات .
وسورة "النمل" فيها إظهار وصف العلم والحكمة ،وقدركزت السورة على العلم في آيات كثيرة منها :علم الله تعالى المطلق للظاهر والباطن ، وعلمه بالغيب خاصة ،وآياته الكونية التى يكشفها للناس ،والعلم الذي وهبه لعبده "داود" و"سليمان" ،وتنويهه بذلك ، ومن ثمَّ جاء في مقدمة السورة :"وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم" ويأتى في التعقيب :" قل لايعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادَّرك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون" وقوله:" وإنَّ ربَّك ليعلم ماتكن صدورهم ومايعلنون* ومامن غائبة في السماء والأرض إلافي كتب مبين" وقوله:"إنه خبير بما تفعلون وهذه لم ترد في القرآن إلا في هذه السورة ،والغالب أن يأتي قوله :" خبير بما تعملون" أو" بما تعملون خبيرا" .(1/284)
ويجئ في قصة "سليمان" :" ولقد ءاتينا داود وسليمن علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين* ،وفي قول"سليمان" علمنا منطق الطير" وقول الهدهد"أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإٍ يقين" وقوله:" ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وماتعلنون" ويعرف المستحضر عرش بلقيس بقوله:" قال الذي عنده علم من الكتب "
كذلك تبرز صفة العلم في آيات سورة "النمل" وفي هذا السياق جاءت قصة "موسى" في أولها في غاية من الإيجاز مستفتحة القول بإخباره أهله أنه آنس ناراً وإخبارهم أنه سيأتيهم منها بخبر، ولم يقل "لعلى آتيكم" كما في"طه" و"القصص" ، والإخبار بوحدانية الله وأمره بإلقاء العصا وإدخال يده في جيبه ،وألا يخاف ، وتكليفه بالدعوة مؤيدا بالآيات ، كل ذلك في إيجاز بالغ ،ويطوي موقف فرعون وقومه ،ومصيرهم المبير في قوله تعالى :" فلما جاءتهم ءايتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " وقوله " جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " لم يأت في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع ، وفيه دلالة بالغة على تيقن فرعون وقومه أن الآيات التى جاء بها"موسى" عليه السلام إنما هي من عند الله تعالى ، وما جحدوها إلا ظلما وعلوا .
وسورة "القصص" كان السياق فيها لبيان أن الظلم والطغيان والكفران يحمل فيرحمه ما يدمره ،وأنه يهلك نفسه بنفسه ،فهو وإن بدا للعين أنه قوي ،فهو في حقيقته ضعيف ،وأن الغلبة دائما للقوي الأعظم الذي يملك قوته العظمى في داخله؛ فلا أقوى ممن كان "الله" ـ عزوعلاـ معه، فهوالممكن لمن استضعف .(1/285)
أقام هذه السنة الإلهية في صدر السورة ، ثم جاءت قصة "موسى"ـ عليه السلام ـ مستفتحة القول من بدايتها إلى نهايتها مبرزًا انتصاره على الطواغيت في كل مراحل حياته ،فبدأ بحال "موسى" وليدا وانتصاره بالله على فرعون إذ سخره لتربيته ورعايته ،وهولايعلم سوء عاقبته على يدي "موسى" ،وهوالمدعى أنه الرب الأعلى ،وانتصاره فتيا ،ونبيا ،ففي كل حلقة من حياته كانت آية على انتصار قوة الحق ,زهقها الباطل ،وجاء فيها منذكر الأحداث ما لم يأت في غير سورة "القصص" وقد ختمت بقوله تعالى:" واستكبر هو وجنوده في الأرض بغيرالحق وظنوا أنهم إلينا لايرجعون * فأخذنه وجنوده فنبذنهم في اليم فانظر كيف كان عقبة الظلمين "
فباليم كان هلاك فرعون الطاغية،وباليم كانت نجاة "موسى" الداعية إلى الله عزوعلا . " لقد كانت قصة" موسى" ـ عليه السلام ـ تبدأ غالبا في السورالآخرىلامن حلقةالميلادحيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغى ،ثمَّ ينتصر الإيمان ،وينخذل الطغيان في النهاية ، فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود [الأعظم] إنما المقصود أنَّ الشرَّ حين يتَمَحَّضُ يحمل سبب هلاكِه في ذَاته ،والبَغْي حين يتمردلايحتاج من يدفعه من البشر بل تتدخل...القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ،فتنقذهم ،وتستنقذ عناصر الخيرفيهم وتربيهم وتحعلهم أئمة وتجعلهم الوارثين .
فهذا هو الغرض من سَوْقِ القصة في هذه السورة ،ومن ثَمَّ عرضت من الحلقة التى تؤدي هذا الغرض وتبرزه .
والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد ،فهي أداة تربية للنفوس ووسيلة تقرير لمعانٍ وحقائقَ ومبادئَ ،وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه ،وتتعاون في بناء القلوب ،وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب "(8)(1/286)
ومن البين أن تربية النفوس بالقرآن إنما بسلك منهج التصاعد والتنامي مما يقتضي أن يكون حسن استخراج العبرةثمرة حسن التسلسل في اسلتهام سياق التربية القرآنية ، فالرباني الحق هومن يبدا بتربية الناس بصغار المسائل لا بكبارها ،ويتصاعد بهم في رفق وحكمة ،وكذلك البيان القرآني يتصاعد بمعانيه على السياق القرآني تصاعداً في مدارج القرب الأقدس ، ولا يقفز بهم إلى أعلى ،ثم يهبط بهم ،ولذا كان لكل سورة من سور القرآن مقصدا وغرضا رئيسا يحيط بكل عناصر الإبانة فيها ،ولها مقاما تقام فيه على مدرجة السياق القرآني وفقا لمقصودها وغرضا الكلى الذي ي}كد ما سبقه ويضيف إليه يجديدا يتصاعد به من جهة ويمهد لما يأتي في السورة التي من بعدها على لاحب المساق القرآني كله ، فكان من حسن النصيحة للقرآن الكريم الذي هو فريضة لازبة أن يَعِ يَ المتدبر موقع كل سورة من سور القرآن في سياق المعنى الكلى للقرآن .
وذا ماكنا قد اشرنا إلى أن القصة الواحة في سور متوالية يختلف بناؤها في كل سورة على نحو فيه شئ قد يظن العَجلُ أن الأولى عكس ما جاءت عليه السور الثلاثة من الترتيب ، وكان الأعلى أن ننظر في قصة موسى من أول موضع ذكرت فيه "سورة البقرة" إلى آخر موضع :" سورة النازعات" ،فإن المقام هنا ليس لدرس قصة" موسى" وبنائها في السياق القرآني ،بل لبيان أن للقرآن الكريم كله سياقا كليا ممتدا تتصاعد فيه المعاني ،وأن تصاعدها يستوجب بلاغةً أن يؤحذ من أحداس القصة ما يتاخى ويتناغى أولا مع مقصود السورة ،ثم مع موقعها على مدرجة السياق القرآني الكلي المتصاعد .
وقد يكون ماهو ظاهر من السورة غيرُ بَيِّنِ الاعتلاق بما قبلها وما بعدها مما يجعل إدراك موقعها على مدرجة المعنى الكلى للقرآن ادراكا ضعيفا،ولكن التَّدَبّرَ والتدقيق يذكي طاقات الاستبصار الروحي لمعاقد المعنى في السورة مع ما قبلها وما بعدها ومع ما تتساوق معه من السور على جادة المعنى القرآني .(1/287)
يقول شيخنا "أبوموسى" :" وحين تضع "الأحزاب" بين أختيها:"السجطة"و"سبا" يظهر لك الاختىف الشديد بين هذه السور الثلاثة ،من حيث الموضوع الذي بنيت عليه كل سورة،والمقاصد التي انعقدت عليها ،وأنواع معانيها واستشرافات هذه المعاني ومطالعها ،ترى "السجدة" تقوم على تعظيم أمرالنبوة،ببيان عظمة الذي أنزل الكتاب ،وأنه سبحانه رب العالمين ،وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام،ثم استوى على العرش،وأنه عالم الغيب والشهادة،وأنه أحسن كل شئ خلقه...إلى آخرهذه التجليات التى تتجلى فيها عظمة الخلق ـ جلَّ جلالُه ـ وأنه هوالذي أنزل الكتاب،ومن باب هذه التجليات الإلهية في الخلق تسلسلت المعانى في السورة،ومن هذا التسلسلب ذكرخلقالإنسان من سلالة من طين،وقول أهل الضلالة:"أءِذا ضللنا في الأرضِ أءِنَّا لفِي خَلْقٍ جَدِيد" وذكر أحوال المجرمين، وأحوال الصالحين المهديين، ويدخل في هذا التسلسل ذكر"موسى" ـ عليه السلام ـ لأن اًل الكلام هوذكر النبوة .
وهذا هوالطابع العالم لسورة"السجدة" :تجليات القدرة، وتجليات الرحمة والغضب .
وسورة" ألأحزاب" يشيع فيها التشريع والأنباء ،وشاع فيها :"يأيها النبي" شيوعا لم يتوفر لغيرها ،وهذه رابطة واضحة بين السورتين رغم اختلاف الطابع ؛لأن"الأحزاب" ـ كما قلت ـ تناولت تشريعات لنشوز في المجتمع مثل إلغاء التبني،وما يتصل به من قصة "زينب" ،وعتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأ،"زيد"،وتنظيم علاقات المسلمين ببيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحجاب،وتخيير أمهات المؤمنين ـ رضوان الله عليهن ـ
سورة "الأحزاب" تتخلل الحياة وتُداخلُها ،وتُصحَّحُ أخطاءها ،وتُشرعُ لسدادها،وصوابها.
أما سورة"السجدة"فكأنهاصوت الأُلوهيةفي رحموتها وجبروتها واقتدارهاعلى الخلق والإعادة والثواب والعقاب .(1/288)
وسورة"سبإ" بدأت بحمد الله ،وهومطلع مشعر بجليل النعمة الواردة فيها ،وأبرزُ ماورد فيها تحليل مقالة المخالفين ،وبيان باطلهم ،وضرب الأسانيد الفكرية التي قامت عليها عقائدهم ،كأنَّ النعمة الجليلة في سورة"سبإ" هي مطاردة الفساد في الحياة الفكرية ،وتوفير حياة عقلية نظيفة قائمة على منهج سديد ،وأصول عقلية راجحة وراشدة....
دخلت السورة باب الحوار الفكري الرائع مع عصابات الملاحدة وتحليل مراجعهم الفكرية وإبطال أسانيدهم العقلية ،ثمَّ طرحت أسئلة ليعودوا هم إلى داخل عقولهم ونفوسهم من مثل قوله تعالى :"قل أروني الذين ألحقتم به شركاء "
وبهذا كانت السور الثلاث مذاهب ثلاثة وشخصيات وأبنية بيانية ثلاثة ،وأبنية فكرية ثلاثة ،ومع ذلك تجد التَّرابُطَ والتَّكاملَ في أشياءَ كثيرةٍ :
من ذلك ـ مثلً ـ ما في "الأحزاب" من تشريعات كله داخل في قوله في "السجدة" :"يدبر الأمر" فإلغاء التبني من تدبير الأمر...وهكذا
وقوله في سورة "سبإ" :" وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كلّ مُمَزَّقٍ إنكم لفي خلقٍ جديد " واضح الصلة بقوله في سورة "السجدة": "وقالواأءذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد .
وقوله في سورة"الأحزاب":" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" واضح الصلة بقوله في سورة "السجدة":" إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لايستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاوطمعا" فعباد الرحمن في "السجدة" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يتهجَّدون ،ويدعون،ولكنهم في مضاجعهم،وهم في "الأحزاب"فرسان الحروب ،يؤدون وعد الله بأرواحهم.
وهكذا ترى التكامل في الآيتين ،وبيان أمر المسلم،وأنه يدور أمره بين العبادة والتوجه إلى الله ،وبين مصارعة الباطل،والدخول في لُجَّة الحياة بقلب عامر باتلتهجد .(1/289)
وقوله تعالى في سورة" السجدة" في شأن بني إسرئيل :" وجعلنا منهم أئمة يهدجون بأمرنا لمَّا صبروا" يبينه قوله في سورة"سبإ" :" ولقد ءاتينا داود منافضلا ياجبال أوبى معه" وتأتي "الأحزاب" بينهما لتعرض النوذج الأشهر في بني إسرائيل ،وهم الذين ينقضون العهود ويغدرون ويتآملرون ويُرجفون في المدينة،ويقولون:" يأهل يثرب لامقام لكم" وأن الله أنزلهم من حصونهم وقذف في قلوبهم الرعب،وأورث المسلمين أرضهم وديارهم .وهذه القصة شبيهة بقصة"سبإ" الذين كان لهم في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ،فأعرضوا ،فأرسل الله عليهم سيلَ العَرِمِ" ومزقهم كُلَّ ممزقٍ.
وهذه إشاراتٌ لبعض العلاقات بين"الأحزاب" وأختيها:"السجدة"و"سبإ" وهوباب من أبواب الدرس يوسَّعُ فيتسع" (9)
الهوامش
(1) مقدمتان في علوم القرآن ص 41ـ42
(2) راجع في هذا كتاب :الشيعة والقرآن لإحسان إلهي ظهير
(3)مجلة البحوث الإسلامية ص242 ع6س1402ـ الرياض ، المفردات للراغب مادة"أم "
(4)من اسرار التعبير القرآني لشيخي محمحد ابوموسى ص 24ـ25 ،ط:2/1416 ـ وهبة
(5)اسرار البلاغة ص 26 ـت: شاكر
(6)تناسق الدرر ص 111ـ112
(7) من اسرار التعبير القرأني ص 29(1/290)