شبكة مشكاة الإسلامية
المنتقى من منهاج الاعتدال
الإمام الذهبي
مقدمة : بقلم محب الدين الخطيب
مقدمة الإمام الذهبي
الفصل الأول : في نقل المذاهب في هذه المسألة
الفصل الثاني : في المذهب الواجب الاتباع
الفصل الثالث : في إمامة علي رضي الله عنه
الفصل الرابع : في إمامة باقي الاثنى عشر
الفصل الخامس : تخرصات الشيعة في إمامة الصدّيق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم
الفصل السادس : في الحجج على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
فصل ختامي : الجيل المثالي - بقلم محب الدين الخطيب
مقدمة بقلم محب الدين الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على آلا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوالله إن الله خبير بما تعملون ) المائدة ـ8(1/1)
إن ظهور هذا الدين الإسلامي ـ على فترة من تاريخ الإنسانية ـ كان حدثا من أعظم أحداثها ، بل هو أعظم أحداثها فقد جاء لإقامة الحق : ما كان منه وماسيكون ، فكل حق يواجهه البشر في ائتلافهم واختلافهم ، وفي معاملاتهم وأقضيتهم وأحكامهم ، وفي تفكيرهم وبحوثهم ودراساتهم وأنظمتهم ، وفي تعاونهم على ما فيه خيرهم ومصالحهم : فهو من الإسلام وحسب الإسلام مكانة في تاريخ التشريع أن يسميه الله ( دين الحق ) 1 ، وكل ما وافق العدل والقسط فالإسلام يدعو أهله إلى أن يقوموا به ، وأن يشهد كل واحد منهم بما يعلمه منه ، وأن يعملوا جميعا على بسط سلطان العدل ونشر لوائه في دار الإسلام وفي سائر آفاق الأرض كاملا وافيا بأقصى ما يستطيعونه ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم ، فالحق والعدل وإقامتهما والشهادة بهما عنصر الإسلام الأول وخلقه المقدم والسمة التي يجب أن يتميز بها أهله في طيبة قلب وصفاء فطرة وطهارة نفس وإيثار لما فيه مرضاة الخالق وطمأنينة الخلق . والعدل في نظام الإسلام من التقوى ، والتقوى ميزان التفاضل بين المسلمين ، والله خبير بأهلها وبمن ينحرف عنها ، لا تخفى عليه منهم خافية .(1/2)
وهذه الصورة المشرقة لهذا الإسلام الجميل التي تولى خاتم رسل الله تربية أصحابه عليها ، وإعدادهم ليخلفوه في دعوة الإنسانية إليها ، ولم يودع صلى الله عليه وسلم هذا الدنيا ويغمض بصره وراء سجف بيت عائشة أم المؤمنين المطل على مسجده الشريف ليلتحق بالرفيق الأعلى ، إلا بعد أن أقر الله عينيه الكريمتين باجتماع الصفوة المختارة منهم صفوفا كالبنيان المرصوص ، مسلمين أنفسهم وقلوبهم لله عز وجل في عبادته وطاعته ، خلف خليفته فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال فيه وفي صنوه عمر بن الخطاب أخوهما علي رضي الله وهو يخطب على منبر الكوفة ، خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر . وفي مثل لمح البصر ـ بعد فاجعة الإسلام بفراق أكرم خلق الله على الله ـ لم هؤلاء البررة الأخيار شعثهم في جزيرتهم المباركة ووحدوا صفوفهم العامة للجهاد ، كما وحدوا في أيام احتضار الرسول صلى الله عليه وسلم صفوفهم للصلاة فسارت رايات أبي بكر متوجهة إلى العراق والشام حاملة أمانات الرسالة المحمدية إلى أمم الأرض أدناها فأدناها ، وسرعان ما كافأهم الله على جهادهم الصادق بالنصر الموعود ، فترددت أصداء دعوة ( حي على الفلاح ) في الآفاق التي خفقت فيها رايات قواد الخليفة الأول : أبي عبيدة وخالد وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان ، وكان هؤلاء للشعوب التي اتصلوا بها معلمين ودعاة وأصحاب رسالة من الله ورسوله إلى البلاد التي عرفت أقدارهم ، وفتحت أبوابها وقلوب أهلها لتعليمهم وتوجيههم . وبعد أن قرت عينا أبي بكر بنصر الله في بلاد الرافدين وربوع الشام اختاره الله لمجاورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخرى كما اختاره لصحبته في الدنيا فأخذ دفة القيادة في سفينة الإسلام خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر بشهادة أخيهما أبي الحسن رضي الله عنهم جميعا . ومضت قافلة الإسلام في طريقها ترعاها عين الله التي ، لاتنام ، فواصلت(1/3)
كتائب الدعوة المحمدية سيرها إلى وادي النيل ، ومنها إلى شمال أفريقية ، كما توغلت أخواتها في مملكة كسرى إلى أقصى آفاقها حتى إذا تآمرت على الدم العمري الشريف مكايد اليهودية والمجوسية واختار الله إليه مثال العدالة في الأرض : يسر له مجاورة صاحبيه فارتضى المسلمون للخلافة المحمدية عليهم أطيبهم نفساً وأرحمهم قلباً وأنداهم يداً وأحفظهم للقرآن وأصبرهم على بلاء الزمان : صهر الرسول نبيهم على كريمتيه ولو كان له صلى الله عليه وسلم إبنة ثالثة لآثره بها فكان عثمان لهؤلاء الصفوة البررة من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم أخاً مخلصا ولأبنائهم أباً مشفقا وكانت الأمة مدة خلافته في أرخى عيش وأسعد مجتمع كما شهد بذلك عالمان من كبار التابعين الحسن البصري وصنوه ابن سيرين بينما كانت رايات ذي النورين بأيدي المجاهدين الأبطال من رجاله تخفق في آفاق قفقاسيا وماوراء الباب مما كان قواد الأكاسرة وأبطالهم لا يطمعون في الوصول إليه . وهكذا عرفت أمم المشرق وأمم المغرب هذا الإسلام من سيرة الصحابة وعدلهم ورفقهم وحزمهم واستقامتهم على طريق الحق الذي قامت به السماوات والأرض وبذلك تحقق فيهم قول صاحب الرسالة العضمى صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) رواه الإمام الرباني أحمد بن حنبل الشيباني في مسنده ( 3594) من حديث عبيدة بن عمرو السلماني قاضي أمير المؤمنين علي في الكوفة عن فقيه الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورواه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه ( الكتاب 62 الباب الأول ) من حديث عمران بن حصين حامل راية خزاعة في جيش النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ورواه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة سلام الله عليها وهذا الحديث الشريف من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإسلام لم يرى زمان سعادة وعزة واستقامة على الحق والخير كالذي رآه في(1/4)
زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس الذين تربوا في البيئة الأموية . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( جيم 7 ص 4 ) اتفقوا "أي اتفق أئمة الإسلام " إن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش حدود سنة 220 ثم ظهرت البدع وتغيرت الأحوال تغيرا ً شديدا .
هذا المدة التي تنبأ عنها خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم ونعتها بأنها (خير القرون ) وكان ذلك من أعلام نبوته هي عصور الإسلام الذهبية التي لم يرى الإسلام أعظم منها بركة ولا أعز منها لأهله رفعة وسلطانا ولا أصدق من جهاد قادتها جهاداً ولا أوسع من دعوتها إلى الله في أوسع الآفاق من أرض الله وفيها أنتشر حفظة القرآن في أنحاء المعمورة ورحل شباب التابعين إلى بقعة فيها صحابي يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من سنته السنية ليتلقوها عنه قبل أن تموت بموته ثم رحل تابعوهم إلى بقعة فيها أحد من كبار التابعين يحفظ شيئاً عن الصحابة ليحملوا عنه ما حمله عن شيوخه من الصحابة وهكذا وصلت أمانة السنة إلى رجال التدوين من أمثال مالك وأحمد وشيوخهم ومعاصريهم وتلاميذهم غضة يفوح منها عبق النبوة هدية من الأمناء الحافظين إلى الأمناء الحافظين فكان من ذلك أثمن تراث للمسلمين بعد كتاب الله عزوجل فبهمة هؤلاء حفظ الله لنا هذه الكنوز وبسيوفهم فتح الله للإسلام هذه الممالك وبدعوتهم المباركة نشر الله دعوة الإسلام فكان لنا اليوم هذا العالم الإسلامي بأوطانه وشعوبه وما فيه من علوم وعلماء كانوا في عصور الإسلام الأولى ملح الأرض وزينة الدنيا وبصلاحهم وعودتهم إلى الله في أيامنا والأيام الآتية سيعود إنشاء الله لهذا الإسلام مجده وسلطانه وستحيا بنهضتهم أنظمته وسننه وما ذلك على الله بعزيز.(1/5)
وكما أن أبناء السراة وأهله السعه يرثون عن أبائهم أملاكهم وأموالهم فتكون لهم بذلك العزة والمكانة في الدنيا إلا أن يخدعهم عنها قرناء السوء فيوهموهم أن سعادتهم ومتعتهم في تبديدها والتفريط بها كذلك هذا المجد الإسلامي الذي ورثناه عن الصحابة والتابعين لا نعلم لأمة من أمم الأرض مجداً يضارعه في مواريث الإنسانية وأثمن هذا الميراث وأعظمه قدسية وبركة باهتمام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بجمع القرآن وتوحيد تلاوته وحفظه في المصاحف ولو أن كل مسلم على وجه الأرض دعا لهم بالرحمة والرضى وعظيم المثوبة أناء الليل وأطراف النهار على ما أحسنوا به إلى المسلمين من هذا العلم العظيم لما وفيناهم ما في أعناقنا من منة لهم سيتولى الله عنا حسن مكافأتهم عليها ثم من أعظم كنوز هذا الميراث العظيم عناية كل صحابي بصيانة ما حفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثه وخطبه وسيرته وتصرفاته وتشريعه في أمره ونهيه وإقراره فأدوا رحمهم الله ورضي عنهم هذه الأمانة إلى إخوانهم وأبنائهم و التابعين لهم بإحسان بما لم يعهد مثلهم عن أصحاب نبي غيره من الأنبياء السابقين فكان ذلك من أعظم المواريث الإنسانية كلها في الأخلاق والتشريع وتكوين الأمم الاجتماعي وتقريب في طبقاتهم وأجناسهم وأوطانهم وألوانهم ولا يغمط جيل الصحابة فيما قاموا به للإنسانية من ذلك إلا ظالم يغالط في الحق إن كان من غير المسلم أو زنديق يبطن للإسلام غير الذي يظهره لأهله إن كان من المنتسبين إليه وميراثنا الثالث من المواريث التي صارت إلينا عن الصحابة حسن عرضهم هذا الإسلام على الأمم ممثلنا بأخلاقهم الإسلامية السليمة وأعمالهم الجليلة الرحيمة فحببوه ذلك إلى الناس وعرفوهم بهم من طريق القدوة والأسوة فكان ذلك سبب دخول الأمم في الإسلام إلى أقصى آفاق المعمورة المعروفة في ازمنتهم وهذه الفضيلة قد شارك عمال خلفاء الراشدين فيها من جاهد بعده من الصحابة تحت رايات خلفاء(1/6)
من قريش الذين كان من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا التنويه بهم حديث جابر بن سمرة في الصحيحين ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم في قباء عن جهاد معاوية رضي الله عنه في البحث ورؤياه الثانية يوم إذ عن حملة أبنه في حصار القسطنطينية وهؤلاء الخلفاء من قريش الذين ورد النص عنهم في الصحيحين من حديث جابر ورد هم الذين جاهدوا وجاهد رجالهم تحت كل كوكب وطووا أفاق الأرض يحملون هذه الدعوة إلى أقاصي المعمورة من بلاد آسية وأفريقية وأوربا ومهما تنبض قلوبنا بشكرهم والوفاء لهم والثناء على ما نشروا في الدنيا من ألوية جهادهم فلن نوفيهم عشر معشار ما كان ينبغي لنا أن نفعله وإلا فأين هي الدراسات العلمية الصحيحة التي قمنا بها لتدوين أمجادهم العظمى وبطولتهم الكبرى وأين هي المؤلفات العصرية التي كان ينبغي أن تكون في أيدي الشباب في جميع أقطار الإسلام والتي تجعل القارئ منا كأنه معاصر لتلك الأحداث مرافق لكتائبها وأعلامها مشارك بمشاعره ومداركه وخفقات قلبه في كل نصر أحرزه الإسلام في الدنيا على أيدي الصحابة والتابعين وأتباعهم الذين ألف الجاهل الزنديق إبن المطهر كتابه ( منهاج الكرامة ) ليملأه سباً لهم وذماً لجهادهم وتشويهاً لمحاسنهم وغمطاً لفضائلهم وكريم أخلاقهم وقلباً لحسناتهم بما يخجل محاربوهم من المجوس والروم والترك والديلم أن يزعموا مثله لو أنهم دونوا أعمال أسلافنا عندما كانوا معهم في عداوة الحرب وعداوت الدين ويوم كنا أصحاب السلطان على اسبانيا كان أحبار النصارى من الإسبانيين يحتجون على الإمام ابن حزم بدعوى الراوفض تحريف القرآن فكان يضطر عند رده عليهم أن يقول ما ذكره في كتاب ( الفصل ) ج2 ص78 : (( وأما قولهم بدعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليس من المسلمين وأغلب الظن أن أحبار النصارى كانوا يحتجون بالأكاذيب الواردة في كتاب الكافي للكليني كالذي ورد في ص 54 منه (( طبعه سنة 1278 )) عن جابر [لجعفر(1/7)
] قال : سمعت أبا جعفر يقول : (ما أدعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله إلى علي بن أبي طالب والأئمة من بعده ) . وفي ص 57 عن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبدالله إلى أن قال له أبوعبدالله : ( وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام قلت : وما صحف فاطمة ؟ قال : مصحف فيه مثل قرانكم هذا ثلاث مرات والله مافيه من قرانكم حرف واحد) . وكتاب الكافي للكليني المشحون مثل هذا الكافر المفتري يعتبره الشيعة في احاديثهم بمنزلة صحيح البخاري في أحاديث المسلمين أما ابن المطهر الحلي المردود عليه بهذا الكتاب فيصفه الشيعة في كتباهم روضات الجنات بأنه ( مفخر الجهابذة الأعلام ومركز دائرة آية الله في العالمين ونور الله في ظلمات الأرضين وأستاذ الخلائق في جميع الفضائل باليقين جمال الملة والحق والدين .. إلى الخ ) .(1/8)
وفي رأيي أن كتاب ابن المطهر الحلي ( منهاج الكرامة ) ، وكتاب معاصر شيخ الإسلام ابن تيمية ( منهاج الإعتدال ) أو ( منهاج السنة ) ليس الغرض منهما المناظرة في اختلافات مذهبية يطمع منها ابن المطهر الحلي في أن يجعل المسلمين روافض ، أو يطمع منها شيخ الإسلام ابن تيمية في أن يرد الروافض إلى الإسلام ، فإن هذا وهذا من المستحيلات ، لأن الأسس التي يقوم عليها بنيان الدينين مختلفة من أصولها والعميق العميق من جذورها : فنحن نقول بمشرع واحد ومعصوم واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا معصوم بعده ولا مشرع غيره وهم يقولون باثني عشر معصوماً كلهم مصادر تشريع ، ونحن نقول إن الحادي عشر من معصوميهم مات عقيماً من غير ولد ، وأن أخاه جعفراً صفى تركته على أساس أنه لا ولد له ، وحجز نساءه وإماءه في مدة العدة والاستبراء حتى ثبت له ولنقباء الطالبيين في زمنه وبعده أن الحسن العسكري ولا ولد له وهم يقولون ـ وأنف التاريخ راغم ـ أن للحسن العسكري ولداً اختباء في سرداب بيت أبيه منذ أكثر من أحد عشر قرناً ، وأنه لا يزال حياً ، وأنه هو الحاكم الشرعي في الإسلام ، وأن كل حاكم مسلم على وجه الأرض من ذلك الوقت إلى الآن إنما هو متغلب مفتئت ويدعي الولاية ـ ظلماً وبلا حق ـ على من له الولاية عليهم من المسلمين . بل كل حاكم أو إمام أو خليفة مسلم قبل ذلك منذ توفي النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان متغلباً مفتئتا ظالماً وهو حاكم غير شرعي ، وإن إمامهم الثاني عشر ـ الذي لم يلد ولم يولد ـ سيقوم في وقت ما ويعيد الله له خلق أبي بكر وعمر وكل خلفاء المسلمين وولاتهم فيحاكمون ويصدر عليهم أحكاما صارمة بما ظلموا واغتصبوا وزوروا وأجرموا .(1/9)
وأساس آخر افترق فيه ديننا ودينهم : وهو أن القرآن الذي في أيدي المسلمين منذ بضعة عشر قرنا إنما قام بأمر جمعه في هذه المصاحف وأشرف على ذلك أبوبكر وعمر وعثمان ورجال آخرون من علماء الصحابة ، وأن الأحاديث التي بني عليها التشريع في الإسلام إنما رواها هؤلاء الصحابة وأن علياً كان مع أخوانه الصحابة في ذلك كله ، وحكمنا نحن على أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وسائر إخوانه من الصحابة أنهم ( الجيل المثالي ) الفذ الذي عرفته الإنسانية بكمال الصدق والإستقامة على طريق الحق ، كما سيرى القارئ تفصيل ذلك في ( الفصل الختامي ) لهذا الكتاب ، وقد أوردنا آنفا الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " فالصحابة هم الذين تلقينا عنهم قراننا ، وهم الذين رووا ما صح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اعتمدنا عليها في تقرير شريعتنا ، فإذا كانوا خير امة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث " خير القرون " وإذا كانوا أعظمهم وأجلهم أبا بكر ثم عمر كما كان يقول اخوهما عليّ بن أبي طالب على منبر الكوفة : فيكون اعتقادنا نحن المسلمين في الصحابة موافقا للحديث النبوي وللثناء العلوي ولما تحقق فعلا من أحداث التاريخ ويكون تعدلينا لهم تصحيحا وتأييدا لاعتمادنا على كتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين عرفناهما من طريق هؤلاء البررة الأخيار رضي الله عنهم . أما ابن المطهر وسائر الشيعة الإمامية الذي سماهم الإمام زيد بن علي بن الحسين " رافضة " فإن حكمهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف حكمنا عليهم ، وسترى تفصيل ذلك في مواضعه من هذا الكتاب .(1/10)
ومن الأسس التي يفترق فيها ديننا عن دينهم وشرعنا عن شرعهم أن الأحاديث النبوية التي هي ـ بعد كتاب الله ـ عماد التشريع في الإسلام نتحرى نحن أخذها عن العدول الأمناء الضابطين الذين راقب نقاد هذا الفن سيرتهم وأطوارهم ودقتهم في التلقي والتلقين ، فأسقطوا رواية من يتساهل في روايته ولو كان من كبار العباد المتفردين في التقوى والصلاح ، وميزوا بين من كان يرويه عند سلامة شروط الرواية فيه ، وأسقطوا ما رواه بعد أن اختل فيه بعض تلك الشروط ، أما الشيعة فلا يعبأون ـ في الحديث وروايته ـ بشئ من أمر الأمانة والعدالة والحفظ ، ويروون ـ في الكافي وأمثاله من كتبهم المعتبرة عندهم ـ عن أكذب الناس ، لأن مدار التوثيق عندهم على العصبية والتشيع والحب والبغض ،وقد نقلنا لك آنفاً بعض أحاديث من كتابهم الكافي تضمنت الطعن في صحة القرآن ، وليس بعد هذا محل للمراء والجدل فيما نحن بصدده . ولذلك لم يتردد ابن حزم في أن يقول لأحبار النصارى من الإسبانيين لما احتجوا عليه برأي الروافض في صحة القرآن : "إن الروافض ليسوا من المسلمين " . وأوفق من ذلك ما رواه أحمد بن محمد بن سليمان التستري عن أبي زرعة الرازي أنه قال : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة ".(1/11)
ومما يتفرق به عن المسلمين زعمهم إن الإسلام لا يكفي لتوجيه الإنسانية إلى سعادتي الدنيا والآخرة ، وأن الأمة الإسلامية محكوم عليها بأن تكون في حكم القاصر إلى يوم القيامة ، فتحتاج في حكمها وأحكامها إلى أئمة معصومين بعد النبي صلى الله عليه وسلم تكون لهم الولاية عليها ، أما المسلمون فيرون الدين الإسلامي أسمى من ذلك وأرفع ، وأن النفس الإسلامية أكرم على الله من ذلك وأصلح ، وقد كان آخر ما أنزله الله عزوجل على خاتم أنبيائه وأكمل رسله الآية الثالثة من سورة المائدة : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . فالإسلام ـ بكتابه ، وبالصحيح الثابت من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ـ هو الإمام المتبع الذي لا تحتاج معه الأمة وأئمتها إلى معصوم بعد انتقال نبيها صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى . وتلك هي ( سنة ) الإسلام المعصوم في هذه الأمة الراشدة ، ولذلك عرف جمهور المسلمين في أدوار التاريخ بأنهم ( أهل السنة ) ، أما الذين ذهبوا إلى أن الأمة قاصرة ، وإلى أن الإسلام لا يكفي لتوجيهها ، بل لابد معه من أئمة معصومين تكون لهم الولاية عليه وعلى الناس ، فقد عرفوا في التاريخ باسم ( الإمامية ) ولم يتول الإمامة النافذة عليهم إلا إمام واحد كانوا مشاغبين له ومتمردين عليه ، وإن خطبه ورسائله وتصريحاته مملوءة من شكواه فيهم وتذمره منهم ، وخليفته الإمام الثاني الذي يقولون بعصمته بايع إمام المسلمين في وقته عام الجماعة فخالفوه فيما اختاره إما طعناً منهم في عصمته أو ردة عن ولائه وطاعته واتباعه . ولما انتهت الإمامة الشلاء المعطلة ـ بموت الحادي عشر منهم عقيماً ـ لم يبق لهم إمام ، وصار ينبغي لهم أن لايكونوا إمامية ، فاخترعوا الإمام الذي لم يلد ولم يولد ـ كما سترى قصة ذلك في ص 97 من هذا الكتاب واعتبروه كالآلهة الوهمية في القرون الخالية حياً لا يموت ! وهذا المذهب في الإنكار على الإسلام أن(1/12)
يكون كافياً لحكم هذه الأمة اعتراف فاضح منهم بنقص الإسلام ، وبأن أهله في حكم القاصر . وكتاب ( ابن المطهر الحلي ) يدور حول الدفاع عن هذه النظرية الخبيثة للإسلام وأهله ، كما أن كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية يدور الاحتجاج لكمال الإسلام وأن أهله يستطيعون أن يكونوا أهل الرشد ، فلا يحتاجون هم ولا أئمتهم إلى أئمة معصومين بعد نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، لأن في الإسلام الكفاية والكمال الذي وصفه الله في الآية الثالثة من سورة المائدة ، وأن أئمة المسلمين ـ كسائر المسلمين ـ مأمورون بالعمل بهذا الإسلام الكامل ، وأن على المسلمين لأئمتهم الطاعة بالمعروف ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .(1/13)
ومما يدخل في هذا الفارق بيننا وبين الرافضة إنكارهم على الإسلام أنه ( دين جماعة ) وعلى المسلمين أنهم أهل للإجماع فيما لم يرد فيه نص جليّ من أمور الأئمة ، أما نظامنا التشريعي معشر أهل ( السنة ) و( الجماعة ) فيعترف بأن (إجماع ) أعلام العلماء بالفقه والتشريع يعتبر دليلاً على شرع الله ورسوله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما " لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً " ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال :" يد الله على الجماعة " ، وقال فيما رواه عنه أبوذر : " من خالف جماعة المسلمين شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه " ، وقال : " عليكم بالسواد الأعظم ، ومن شذ شذ في النار" ولأن الله عزوجل قرن " سبيل المؤمنين " بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله عزوجل {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وسآءت مصيراً } (النساء 115) وكان مجرد مشاقة الرسول يوجب هذا الوعيد ن فضم إليه الجنوح إلى غير سبيل المؤمنين ليدل على أنهما متلازمان ، وقال : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } (آل عمران 110 ) فاقتضى ذلك أنهم بمجموعهم وإجماعهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيجب حتماً أن لا يجتمعوا على ضلالة ، وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحرموا ما حرّم الله ورسوله ولا يجوز عليهم إجماع السكوت عن صريح الحق ، ولو فعلوا لكانوا قد أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف ، وهو خلاف صريح النص القرآني بذلك وبما لا يتسع له المقام هنا من الأدلة الكثيرة ، كان الإسلام عندنا ( دين جماعة ) ، ولذلك عرف جمهور المسلمين في أدوار التاريخ بأنهم أهل ( السنة ) و ( الجماعة ) ، بينما الرافضة لا يقولون بإجماع الأمة ، لأن الأمة عندهم قطيع لا نظام له ، ولا ينبغي له أن يحيا إلا بقيادة معصوم غير(1/14)
النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الكاملة .
ونقطة أخيرة من نقط الخلاف بيننا وبينهم أن للمسلمين كعبة واحدة يتوجهون إليها بدعائهم وضراعتهم وعند اتصال قلوبهم بربهم في صلاتهم وعبادتهم ـ أما هؤلاء الشيعة فيشركون مع الكعبة بيتِ الله الحرام كعبات أخرى متعددة منها قبر المغيرة بن شعبة في النجف الذي زعموا ـ بعد دهر طويل من شهادة سيدنا علي ودفنه بين مسجد الكوفة وقصرها ـ أنه مدفون في قبر المغيرة بن شعبة ، وقد اتخذوه كعبة لا يمكن أن يعرف قدرها عندهم إلا من شاهد تهافتهم عليها وما يصنعونه عندها ، ومنها القبر المكذوب على سيدنا الحسين في كربلاء ، ويقول فيه شاعرهم على ما ستراه في ص55 من هذا الكتاب :
هي الطفوف فطف سبعا بمغناها *** فما لمكة معنى مثل معناها
أرض ولكنما السبع الشداد لها *** دانت وطأطأ أعلاها لأدناها
فأين هذا الكفر القاتم السقيم من قول المعصوم صلى الله عليه وسلم في أواخر ما قاله عندما شعر بدنو أجله : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وقوله :"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لأبي الهياج حيّان ابن حصين الأسدي على مارواه الإمام مسلم ( في الكتاب 11 الحديث 93) من صحيحه : "ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ، لا قبر مشرفا إلا سويته " فإن كانوا محمديين فهذا الذي نقلناه من حديث خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم هو من أصح ما صح عنه ، وإن كانوا إماميين فهذا ما كان يصنعه الإمام علىّ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما كان علي يأمر رجاله بأن يصنعوه ، أما إذا كانوا على مذهب اليهود والنصارى فيما يتخذونه لقبور أنبيائهم وعظماء دينهم فهم وشأنهم ، والمرء يضع نفسه …
? ? ?(1/15)
وبعد فإن هذا ( المنتقى ) للحافظ أبي عبدالله محمد بن عثمان الذهبي (673ـ 748 ) هو مختصر الكتاب العظيم ( منهاج الاعتدال ، في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال ) لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية (661ـ 728 ) رحمه الله ورضي عنه ، وهو الكتاب الذي طبع بمطبعة بولاق في أربعة أجزاء سنة 1321ـ 1322 باسم (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ) ، وكان ( المنتقى ) من الكتب المظنون أنها فقدت حتى اكتشفه في العام الماضي العالم الجليل العامل على إحياء تراث السلف عندما كان في رحلة إلى ديار الشام فاطلع عليه في مخطوطات المكتبة العثمانية في حلب التي وقفها في أواسط القرن الثاني عشر الهجري عثمان باشا الدوركي الأصل الحلبي المولد المتوفى بمكة المشرفة سنة 1160 ابن عبدالرحمن باشا الدوركي المتوفى سنة 1107 . وهذه المكتبة قد ضمت أخيراً إلى (دار مكتبات الأوقاف الإسلامية ) في حلب ، ورقم مخطوطة المنتقى في هذه المكتبة 579وهي نسخة قديمة بخط يوسف الشافعي فرغ من كتابتها في سَلْخ جمادى الأولى عام 824 أي بعد وفاة الحافظ الذهبي بست وسبعين سنة ، والنسخة يظهر أنها منقولة عن أصل صحيح ، لكن الذي نقلها عن ذلك الأصل غير متمكن في العربية والعلم ، ولذلك كانت تصدر عنه هفوات عند النقل يدركها القارئ الممارس لأمثال هذه الكتب ، ومع ذلك فقد انتفعنا بمعارضة المنتقى بأصله المطبوع في بولاق ، فجاءت هذه المطبوعة صحيحة ولله الحمد بقد الإمكان ، وكنا عند معارضة المختصر بأصله نجد في الأصل فقرات عظيمة النفع لا يجوز إغفالها ، فكنا نضيفها إلى هذه المطبوعة مميزة بهاتين العلامتين [ ] حرصاً على سلامة المنتقى كما أراده الحافظ الذهبي ، وبذلك استطعنا أن نجمع بين الحسنيين : إفادة القارئ بالزيادات التي رجونا أن تكون منها زيادة فائدة ، وبقاء المختصر مميزاً بحدوده التي كان عليها في مخطوطته التي تفضل حضرة الشيخ محمد(1/16)
نصيف فاستخرج منها صورة بالتصوير الشمسي . ويرى القارئ عقب هذه المقدمة الصفحة الأولى منها ، كما وضعنا تجاه الصفحة الأخيرة منها صورتها الشمسية . وقد علقت على مواضع من ( المنتقى ) بما خطر لي أثناء مباشرة الطبع ، وأرجو أن يكون في بعض ذلك ما ييسر على القارئ الإلمام بهذا الموضوع الخطير ، لأن القوم قد أكثروا في هذه االسنوات من مهاجمة النسة والجماعة بكتبهم ونشراتهم حتى صار من الخذلان للحق السكوت عليها فقمت ـ من ناحيتي ـ بالدفاع عن حقيقة الإسلام في هذه البحوث بما ألهمني الله وأعانني عليه ، والحمدلله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وأصحاب محمد وأزواج محمد وذرية محمد وسلم تسليماً كثيراً . وسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمدلله رب العالمين .
محب الدين الخطيب
في يوم النصف من شعبان سنة 1374
مقدمة للإمام الذهبي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله المنقذ من الضلال ، المرشد إلى الحق ، الهادي من يشاء إلى صراطه المستقيم .
أما بعد فهذه فوائد ونفائس اخترتها من كتاب ( منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتدال )(1) تأليف شيخنا الإمام العالم أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ، فذكر أنه أُحضر إليه كتاب لبعض الرافضة في عصرنا – يعني ابن المطهر(2) – منفقاً لهذه البضاعة ، يدعو بها إلى مذهب الإمامية أهل الجاهلية (3) ممن فلت معرفتهم بالعلم والدين ، فصنفه للملك المعروف الذي سماه فيه " خُدا بَنْدَه " (4) ، فالأدلة إما نقلية ، وإما عقلية ، والقوم من أكذب الناس في النقليات(5) ، وأجهل الناس في العقليات ، ولهذا كانوا عند العلماء أجهل الطوائف ، وقد دخل منهم على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ، والنصيرية والإسماعيلية والباطنية من بابهم دخلوا (6) ، والكفار والمرتدة بطريقهم وصلوا ، فاستولوا على الإسلام ، وسبوا الحريم ، وسفكوا الدم الحرام ,(1/17)
وهذا المصنف (7) سمى كتابه ( منهاج الكرامة ، في معرفة الإمامة ) . والرافضة قد شابهوا اليهود في الخبث والهوى ، وشابهوا النصارى في الغلو والجهل ، وهذا المصنف سلك مسلك سلفه – كابن النعمان المفيد (8) ، والكراجُكي (9) ، وأبي القاسم (10) الموسوي ، والطوسي (11) – فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل خبرة بطريق المناضرة ، ومعرفة الأدلة ، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة ، كما أنهم جهلة بالمنقولات (12) ، وإنما عُمدتهم على تواريخ منقطعة الإسناد (13 ) ، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب ، فيعتمدون على نقل أبي مخنف لوط بن يحيى (14) وهشام بن الكلبي (15) .
قال يونس بن عبد الأعلى (16) قال / أشهب (17) سئل مالك رضي الله عنه عن الرافضة فقال : (( لا تكلمهم ، ولا ترو عنهم ، فإنهم يكذبون )) .
وقال حرملة (18) : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : (( لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة )) .
وقال مؤمل بن إرهاب (19) سمعت يزيد بن هارون (20) يقول (( يكتب عن كل مبتدع – إذا لم يكن داعية – إلا الرافضة ؛ فإنهم يكذبون )) .
وقال محمد بن سعيد الأصفهاني (21) سمعت شريكاً (22) يقول : (( احمل العلم عن كل من لقيته إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً )) .
وقال أبو معاوية (23) سمعت الأعمش (24) يقول : ((أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين )) يعني أصحاب المغيرة بن سعيد (25) . وردّ شهادة من عُرف بالكذب متفق عليه .
ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف . والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس حتى قيل إن حديثهم من أصح الحديث . والرافضة يقرّون بالكذب حيث يقولون : ديننا التقية (26). وهذا هو النفاق ، ثم يزعمون أنهم هم المؤمنون ، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق (27) ، فهم كما قيل (( رمتني بدائها وانسلّت )) .(1/18)
ثم عمدتهم في العقليات اليوم على كتب المعتزلة ، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات ، وما في المعتزلة من يطعن في خلافة الشيخين ، بل جمهورهم يعظونهما ويفضلونهما ، وكان متكلمو الشيعة – كهشام بن الحكم (28) وهشام الجواليقي (29) ويونس بن عبدالرحمن القمي (30) – يبالغون في إثبات الصفات ويجسّمون .
وقال المصنف ابن المطهر : ( أما بعد فهذه رسالة شريفة ، ومقالة لطيفة ، اشتملت على أهم المطالب / في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، وهي مسألة الإمامة ، التي تحصل بسبب الخلود في الجنان ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية )) خدمتُ به خزانة السلطان الأعظم ، ملك ملوك طوائف العرب والعجم ، شاهنشاه غياث الملة والدين خدا بنده … ورتبتها على فصول الأول : في نقل المذاهب في هذه المسألة . الثاني : أن مذهب الإمامية واجب الإتباع . الثالث : في الأدلة على إمامة علي . الرابع : في الأثني عشر . الخامس : في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ) رضي الله عنهم .
فيقال : الكلام على هذا من وجوه :
فقوله : إن مسألة الإمامة (( أهم المطالب )) : كذب بالإجماع ؛ إذ الإيمان أهم ، فمن المعلوم بالضرورة أن الكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أسلموا أجري عليهم أحكام الإسلام ولم تذكر لهم الإمامة بحال ، فكيف تكون أهم المطالب ، أم كيف يكون الإيمان بإمامة محمد بن الحسن المنتظر من أربعمائة ونيف وستين سنة ليخرج من سرداب سامراء أهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ؟!(1/19)
ويقال للرافضة : إن كان ما بأيديكم كافياً في الدين فلا حاجة إلى المنتظر ، وإن لم يكن كافياً فقد أقررتم بالنقص والشقاء حيث كانت سعادتكم موقوفة على أمر آمر لا تعلمون بماذا أمر ، وكان ابن العود الحلي يقول : إذا اختلفت الإمامية على قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله ، فالقول الذي يعرف قائله هو الحق / ؛ لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة ! فانظر إلى هذا الجهل ، فإنه بتقدير وجود المنتظر لا يعلم أنه قال ذلك القول ولم ينقله عنه أحد ، فمن أين يجزم بأنه قوله ؟ فأصل دين هؤلاء مبني على مجهول ومعدوم .
فالمقصود من الإمام طاعة أمره ، ولا سبيل إلى معرفة أمره ، فلا فائدة فيه أصلاً لا بعقل ولا بنقل ، فأوجبوا وجود المنتظر وعصمته ، وقالوا : لأن مصلحة قط ، والذين أنكروه لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا ولله الحمد .
فإن قلتم : إيماننا به كإيمان كثير من الصالحين والزهاد بإلياس والخضر والغوث والقطب ممن لا يعرف وجودهم ولا أمرهم ولا نهيهم (31) ، قلنا : ليس الإيمان بوجودهم واجباً عند أحد من العلماء ، فمن أوجب الإيمان بوجودهم كان قوله مردوداً كقولكم ، وغاية ما يقوله الزهاد في أؤلئك أن المصدّق بوجودهم أكمل وأفضل ممن ينكر وجودهم ، ومعلوم بالاضطرار من الدين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء . فأما من زعم أن القطب أو الغوث هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم . وأن هذه الأمور لا تصل إلى أحد من أهل الأرض إلا بواسطته ، فهذا ضال يشبه قوله قول النصارى في باب ، وهذا كما قال بعض الجهلة في النبي صلى الله عليه وسلم وفي شيوخهم أن علم أحدهم (( ينطبق )) على علم الله وقدرته فيعلم ما يعلمه الله ، ويقدر ما يقدره الله ، ثم الذي عليه المحققون أن الخضر وإلياس ماتا (32) .(1/20)
ولقد خلا بي بعض الإمامية وطلب أن أتكلم معه ، فقررت له قولهم / من أن الله تعالى أمر العباد ونهاهم ، فيجب أن يفعل بهم اللطف ، والإمام لطف ، لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب ويناهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور ، فيجب أن يكون لهم إمام ، ولا بد أن يكون معصوماً ليحصل المقصود به ، ولم تدع العصمة لأحد بعد الرسول عليه السلام إلا لعلي فتعين أن يكون إياه ، للإجماع على أن غيره ليس بمعصوم وعلي قد نص (33) على الحسن ، و [ الحسن على ] الحسين رضي الله عنهم ، إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن الحسن المنتظر . فاعترف بأن هذا تقرير جيد .
قلت : فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى ، وهم يقولون : من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر ! فهل رأيته ، أو رأيت من رآه ، أو سمعت له بخبر ، أو تعرف شيئاً من كلامه ؟ قال : لا . قلت : فأي فائدة في إيماننا بهذا ؟ وأي لطف حصل لنا به ؟ وكيف يكلفنا الله تعالى بطاعة شخص لا نعلم ما يأمر به ولا ما ينهى عنه ، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك أصلاً . وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق ، فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا ؟!
فقال : إثبات هذا منبي على تلك المقدمات (34) . قلت : لكن المقصود منها لنا ما يتعلق بنا نحن ، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر أو نهي ، وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يحصل لنا فائدة ولا لطفاً علم أن الإيمان بالمنتظر من باب الجهل لا من باب اللطف والمصلحة ، والذي عند الإمامية من النقل عن آبائه (35) إن كان حقاً محصلاً للسعادة فلا حاجة إلى المنتظر وإن لم يكن محصلاً للنجاة والسعادة فما نفعهم المنتظر .
ثم مجرد معرفة الإنسان إمام وقته أو رؤيته لا يستحق به الكرامة عن لم يوافق أمره ونهيه ، فما هو بأبلغ من الرسول عليه السلام ، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض ، معتدٍ ، متعدٍّ للحدود !(1/21)
وهم يقولون : حبُّ علي رضي الله عنه حسنة لا يضر معها سيئة (36)! فإن كانت السيئات لا تضر مع حبّ علي فلا حاجة إلى الإمام المعصوم .
وقولك (( إن الإمامة أحد أركان الإيمان )) جهل وبهتان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر (( الإيمان )) وشعبه ، ولم يذكر (( الإمامة )) في أركانه ، نولا جاء ذلك في القرآن ، بل قال تعالى :{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } – إلى قوله :{ أؤلئك هم المؤمنون حقاً } (الأنفال 2-4) . وقال تعالى : { وإنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أؤلئك هم الصادقون } (الحجرات 15) وقال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم } إلى قوله { و أؤلئك هم المتقون }( البقرة 177) إلى غير ذلك من الآيات ، ولم يذكر (( الإمامة )) ولا أنها من أركان الإسلام .(1/22)
وأما قولك في الحديث : (( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية )): فنقول من روى هذا ؟ وأين إسناده ؟ بل والله ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا ، وإنما المعروف ما روى مسلم أن ابن عمر جاء إلى عبدالله بن مطيع (37) حين كان من أمر الحرة ما كان ، فقال (38) : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال (39) : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من خلع يداً من طاعة / لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية )) ، وهذا حديث [ حدّث ] به ابن عمر لما خلعوا أمير وقتهم يزيد – مع ما كان عليه من الظلم (40) – فدل الحديث على أن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمر ، أو خرج عليهم بالسيف ، مات ميتة جاهلية ، وهذا ضد حال الرافضة ، فإنهم أبعد الناس عن طاعة الأمراء إلا كرها [ وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية ، والرافضة رءوس هؤلاء ، ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية ، فإن خرج عن الطاعة ] (41) ثم مات ميتة جاهلية لم يكن كافراً ، وفي صحيح مسلم عن جندب البجلي مرفوعاً (( من قتل تحت راية عميّة يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقلته جاهلية ))، وفي مسلم عن أبي هريرة ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية )) ، فطالما خرجت الرافضة عن الطاعة وفارقت الجماعة . وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من رأى أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية )) .(1/23)
ثم لو صح الحديث الذي أوردته لكان عليكم ، فمن منكم يعرف إمام الزمان أو رآه أو رآى من رآه أو حفظ عنه مسألة ؟ بل تدعون إلى صبي – ابن ثلاث أو خمس سنين – دخل سرداباً من أربعمائة وستين عاماً (42) ولم ير له عين ولا أثر ، ولا سمع له حس ولا خبر ، وإنما أمرنا بطاعة أئمة موجودين معلومين لهم سلطان ، وأن نطيعهم في المعروف دون المنكر ، ولمسلم عن عوف ابن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال : (( خيار الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم / ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنوكم )) ، قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : (( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يداً من طاعة )) ، وفي الباب أحاديث عدَّة تدل على أن الأئمة ليسوا بمعصومين (43) .(1/24)
ثم الإمامية يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع ، أما الأصول فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وهي أهم وأشرف ، وإمام الزمان اعترفوا (44) بأنه ما حصلت به بعد مصلحة أصلاً ، فأي سعي أضلُ من سعي من يتعب التعب الطويل ، ويكثر القال والقيل ، ويفارق جماعة المسلمين ، ويلعن السابقين ، ويعين الكفار والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك أوعر السبل ، ويعتضد بشهود الزور ، ويدلى أتباعه بحبل الغرور (45) ، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام على أحكام الله تعالى ، وما حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة إلا ذهاب نفسه حسرات ، وارتكب الأخطاء ، وطول الأسفار ، وأدمن الانتظار وعادى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لداخل (46) في سرداب ، لا عمل له ولا خطاب ، ولو كان متيقن الوجود لما حصل لهم به منفعة ، فكيف وعقلاء الأمة يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس ، وأن الحسن بن علي العسكري رضي الله عنه لم يعقب كما ذكره محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من النسابين (47).
ثم يقولون : دخل السرداب وله [ إما ] سنتان وإما ثلاث وإما خمس ، وهذا يتيم بنصّ القرآن تجب حضانته وحفظ ماله ، فإذا صار له سبع سنين / أمر بالصلاة ، فمن لا توضأ ولا صلى الله عليه وسلم وهو تحت الحجر – ولو كان موجوداً (48) – فكيف يكون إمام أهل الأرض ، وكيف تضيع مصلحة الإمامة مع طول الدهر ؟ !
------------------------------(1/25)
( 1 ) وهو الذي طبع في سنة 1321هـ بالمطبعة الأميرية الكبرى ببولاق مصر في أربعة أجزاء بعنوان ( منهاج السنة النبوية ، في نقض كلام الشيعة والقدرية ) . وشيخ الإسلام ابن تيمية قلما كان يسمي مؤلفاته ، وإنما كان يؤلفها بسرعة عجيبة ، معتمداً على ذاكرته التي لا نظير لها فيحفظ النصوص من متون السنة ومصادرها وأقوال الأئمة وأحداث التاريخ ، ثم يتلقف العلماء من تلاميذه وغيرهم تلك المؤلفات ، وتنتشر حالاً في الأقطار الإسلامية ، فيسميها الناس بأي اسم يدل على موضوعها ، وقد تتعدد أسماء الكتاب الواحد من مؤلفاته لهذا السبب. ولما كان لأصل هذا الكتاب ( 673 – 748 ) من خواص تلاميذ شيخ الإسلام ، فقد اعتمدنا تسميته لأصل هذا الكتاب ، وإن اشتهر عند الناس باسمه الآخر ( منهاج السنة ) . ومع ذلك فقد أشرنا إلى الاسم الثاني في عنوان الكتاب .
( 2 ) هو الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي ( 648 – 726 ) أحد صناديد التشيع ، تتلمذ لأمثال نصير الكفر ووزير الملاحدة النصير الطوسي ( 597 – 672 ) ، فنشأ على ما شحنوا به قلبه من الغل للصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ناظراً بعين السخط إلى كل ما صدر عنهم من حسنات لم تشهد الإنسانية نظيراً لها غي التاريخ . وسترى الشواهد على هذا الغل فيما سود به ابن المطهر صفحات كتابه الذي فضح شيخ الإسلام عوراته وهتك أستاره وجعله عبرة للأولين والآخرين .
( 3 ) كل ما خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – التي تلقاها عنه أصحابه ( رضوان الله وسلامه عليهم ) ثم حمل عنهم أماناتها أئمة الإسلام التابعون لهم بإحسان – فهو من أمر الجاهلية ؛ لأن أنظمة البشر وأحكامهم وسنتهم كلها تنقسم في كل زمان ومكان إلى قسمين : (( إسلام )) و(( جاهلية )) ، فما تلقيناه عن الصحابة من السنن والأحكام والتوجيهات المحمدية فهو إسلام ، وما خالفها فهو جاهلية ، مهما كان الزمن الذي ابتدع فيه والناس الذين ابتدعوه .(1/26)
( 4 ) خدا ( بالفارسية ) : الله . وبنده : عبد . أي عبد الله . وخدا بنده هو الثامن من ملوك الإيلخانية ، ابن أبغا ( - 681 ) ابن هلاكو ( –663 ) ابن تولى ( - 628 ) ابن السفاح جنكيز ( 549 –624 ) الملقب إيلخان ، وإليه تنسب دولتهم . كان أرغون ( والد خدا بنده ) وقتله في نة 683 واستولى على مملكته ، ثم افترى على وزير أبيه شمس الدين المحمدي فاتهمه بأنه دس السم لأبيه أبغا ، فقتل الوزير وقتل معه أربعة من بنيه ، ثم انصرف لشهواته وترك مقاليد الحكم لطبيبة اليهودي سعد الدولة ، ولما تمادى الطبيب اليهودي إساءة التصرف بالملك والفساد في الأرض ثار عليه رجال الدولة وعمالها فقتلوه ، ومات أرغون مقهوراً في سنة 690 ، وكان له ولدان أحدهما الجايتو وهو خدا بنده هذا ، والآخر غازان ( 670 – 703 ) فرأيا أن من مصلحتهما السياسة الدخول في الإسلام ومحاسنة الشعوب التي يتوليان الحكم في أوطانها ، أما غازان فاختار مذهب أهل السنة ، وذلك في رابع شعبان من شهور سنة 694 ، وكان إسلامه على يد الشيخ إبراهيم بن محمد بن حمويه الجويني ( روضات الجنات ص 49 ) فلما خلفه في الحكم أخوه خدا بنده سنة 703 تسلطت عليه حاشية من دعاة التشيع ، ويقال إنه غضب يوماً من زوجته فطلقها ثلاثاً ، ثم أراد أن يردها إلى عصمته فقال له فقهاء أهل السنة أنه لا سبيل إلى ذلك حتى تنكح زوجاً غيره، وصعب عليه ذلك ، فأشار عليه رجال حاشيته من الشيعة بأن يدعو فقيها منى علماء الحلة هو ابن المطهر هذا الذي ألف سيخ الإيلام في الرد عليه ، وأكدوا للسلطان فيما وقع منه من الطلاق ثلاثاً سأله : هل طلقت بمحضر شاهدين عدلين ؟ قال السلطان : لا ، فأفتى له ابن المطهر بأن الطلاق لم تتحقق شروطه ، ولذلك لم يقع وله أن يعاشر زوجنه كما كان يعاشرها قبل الطلاق ، فسر خدا بنده بهذه الفتوى ، واستخلص ابن المطهر لنفسه وجعله من بطانته ، وبتسويل ابن المطهر كتب خدا بنده إلى عماله في الأمصار بأن(1/27)
يخطب باسم الأئمة الاثني عشر على المنابر ، ونقش أسماءهم على نقوده وأمر بأن تنقش على جدران المساجد ، وهكذا تشيعت الدولة في مملكته فتوى ابن المطهر التي أعفت السلطان من أن تعود إليه زوجته بعد أن تنكح زوجا غيره . هذه هي الخطوة الأولى في التشيع الرسمي للدولة في خراسان وإيران ، ويقال أن ذلك كان سنة 707 . ثم بعد ثلاثمائة سنة كانت الخطوة الأخرى التي دفعت إيران إلى الهاوية بقيام الدولة الصفوية وتشجيعها للآراء والعقائد التي كان الشيعة الأقدمون يسمونها ( غلوا ) وينكرون رواية كل شيعي ينبز بأنه من الغلاة ، فلما استقرت الدولة الصفوية الفاجرة صار الشيعة كلهم من الغلاة والذي كانوا يسمونه من قبل ( غلوا ) صار بعد ذلك من ضروريات مذهبهم كما اعترف بذلك علامتهم الثاني المامقاني ( 1290 – 1351) في مواضع كثيرة من كتابه ( تنقيح المقال ) وهو أكبر كتبهم في الجرح والتعديل .
( 5 ) لأن مدار التوثيق عندهم في المرويات والمنقولات على الحب والبغض ، فالذي يكون أكثر بغضاً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مروياته أوثق من الذي يهتم عندهم بأنه يتهاود في أمر الصحابة ، ولا يعلن أم المؤمنين عائشة وسيدنا معاوية وسائر الصحابة وأئمة التابعين وصفوة المسلمين.
( 6 ) لأن ضروريات مذهبهم قائمة على الأباطيل والأوهام والمستحيلات ، كما سترى في هذا الكتاب ، وأقرب ذلك أنهم يكابرون في أنهم نحلة تعيش بلا إمام ، فيزعمون أنهم إمامية وأن لهم إماما وأن إمامهم حي منذ أكثر من ألف سنة ، ولكنه غائب في سرداب سامراء ، وينتظرون خروجه ويدعون في كتبهم بأن يجعل الله فرجه.
( 7 ) ولو عاش شيخ الإسلام إلى عصرنا لقال إن الشيخية و الكشفية و البهائية من صميمهم خرجوا ، وبسخافاتهم زلوا وضلوا .
( 8 ) أي ابن المطهر .(1/28)
( 9 ) هو محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي ( 336 – 413 ) شيخ مشايخ الحلة ، يقال إن له أكثر من مائتي مصنف بين كتاب ورسالة ومقالة .
( 10 ) محمد بن علي بن عثمان الكراجكي ( المتوفي سنة 449 ) من تلاميذ الشيخ المفيد . وكان في المختصر : ( الكراجلي ) وصححناه من الأصل ( 1 : 13 ) ومن كتب التراجم . و ( كراجك ) قرية على باب واسط .
( 11 ) في المختصر ( ابن قاسم ) وصححناه في الأصل ( 1 : 13 ) ومن كتب التراجم ، وهو أبو القاسم على بن الحسين بن موسى المعروف بالمرتضى ( 355 – 436 ) أخو الرضى محمد بن الحسين الشاعر ( 359 – 406 ) . وهذان الأخوان هما اللذان تطوعا للزيادة على خطب أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب عنها من التعريض بإخوانه الصحابة وهو برئ عند الله عز وجل من كل ذلك وسيبراً إليه من مقترفي هذا الإثم .(1/29)
( 12 ) وهو محمد بن الحسين الخوجة نصير الدين الطوسي ( 597 – 672 ) المسئول مع عدو الله ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد – عن الذبح العام الرهيب الذي ارتكبه الوثني هلاكو في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سنة 655 عند استيلائه على عاصمة الإسلام بغداد بخيانة ابن العلقمي ومستشاره وتحريض هذا الفيلسوف الملحد النصير الطوسي ، وكان الطوسي قبل ذلك من أعوان ملاحدة الإسماعيلية في بلاد الجبل وقلعة الموت وألف كتابه ( الأخلاق الناصرية ) باسم وزيرهم ناصر الدين حاكم بلاد الجبل قوهستان ) وكان ناصر الدين من أخبث رجال علاء الدين محمد بن جلال حسن ملك الإسماعيلية . ومن نفاق الطوسي أن له قصيدة في التزلف إلى الخليفة العباسي المستعصم ( 588 – 656 ) ومع ذلك فإنه هو المحرض لهولاكو على نكبة الإسلام في بغداد ، والشيعة يعدون هذه الخيانة المخزية والوحشية الشنيعة اعظم مفاخر النصير الطوسي ( انظر كتابهم روضات الجنات ص 578 الطبعة الثانية ) ، وهذا الملحد الخائن لإسلام وأهله أعظم خيانة يمكن أن يتصورها البشر قد اكتشف هولاكو خيانة له أيضاً ، وكاد يفتك به لولا حاجته إليه في إتمام الزيج الذي بدأ به ، ومما يدل على أن من لا دين له ولا أخلاق له أن هولاكو لما شتم النصير الطوسي ولوح له بخيانته وهدده بالقتل لولا الحاجة إليه في إتمام الزيج انتهز تلميذه القطب الشيرازي هذه الفرصة اللائحة وقال هولاكو : ( أنا لإتمام أمر الزيج إن كان الرأي المبارك يقتضي شيئاً في حق هذا الرجل ) فتباً لعلم هؤلاء ، إذ لم يعصمهم عن الانحدار في هذه الهوية بلا خجل ولا حياة .
( 13 ) في المختصر : ( بالمعقولات ) . والتصحيح من الأصل ( 1 : 13 ) ومن سياق القول .(1/30)
( 14 ) انقطاع الإسناد : أن يكون في سند الخبر راو أو أكثر مطوياً ، فيروي شخص خبرا عن شخص أقدم من زمنه ، ومعنى هذا أن الراوي كاذب في روايته عن شخص لم يجتمع به ، أو أن بينهما شخصاً كتم ذكره لأنه معروف بالكذب فلم يشأ أن يذكره لئلا يفتضح كذب ذلك الخبر .
( 15 ) هو من أخف رواتهم ، ومع ذلك قال فيه ابن عدي ( شيعي محترق صاحب أخبارهم ) وقال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال ( أخباري تالف لا يثق به ، تركه أبو حاتم وغيره ) . وفي مادة ( خنف ) من القاموس المحيط للفيروزأبادي مثل ذلك . ويقال أن وفاة لوط بن يحيى سنة 157 .
( 16 ) هو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب أخباري نسابة توفي سنة 204 . وأصدق كلمة في وصفه قول الإمام أحمد ( كان صاحب سمر ونسب ، ما ظننت أن أحداً يحدث عنه ) . فهو مرجع في الأخبار والأنساب التي لا صلة لها بالدين ، أما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكام شرعه فالمسلمون أعقل من أن ينخدعوا به . وقال عنه الحافظ بن عساكر : رافضي ليس بثقة .
( 17 ) هو إمام مصر في عصره ومن أعلام الإسلام ، توفي سنة 264 .
( 18 ) أشهب بن عبد العزيز القيسي ( 140 – 204 ) أحد أئمة مصر ، ومن تلاميذ مالك والليث بن سعد .
( 19 ) حرملة بن يحي التجيبي ( المتوفي سنة 243 ) من مفاخر مصر ، تتلمذ على الشافعي وروى عن ابن وهب ( حامل علم مالك إلى مصر ) نحو مائة ألف حديث .
( 20 ) مؤمل بن إهاب الربعي المتوفي سنة 254 ممن يروي عنهم أبو داود و النسائي .
( 21 ) يزيد بن هارون السلمي الواسطي أحد أعلام الحفاظ المشاهير ومن شيوخ الإمام أحمد ، بلغ عدد المجتمعين في مجلس درسه سبعين ألف رجل ، توفي سنة 206 .
( 22 ) من تلاميذ شريك ، وهو أحد الذين يروي عنهم البخاري وطبقته ، توفي سنة 220 .
( 23 ) شريك بن عبد الله النخعي ( 95 – 117 ) قاضي الكوفة وأحد شيوخ الإمام عبدالله بن المبارك وطبقته ومن أقران الثوري وأبي حنيفة .(1/31)
( 24 ) أبو معاوية محمد بن خازم الضرير المتوفي سنة 195 ، كان أحد الأعلام ومن تلاميذ الأعمش .
( 25 ) هو الإمام سليمان بن مهران الكوفي ( 64 – 148 ) أحد الأعلام الحفاظ القراء ، قال سفيان بن عيينة ( كان أقرأهم وأحفظهم وأعلمهم ) وكان يسمى ( المصحف ) لصدقه .
( 26 ) المغيرة بن سعيد الكوفي الرافضي الكذاب المصلوب سنة 119 في إمارة خالد بن عبد الله القسري، كان يفسر آية { إن الله يأمر بالعدل والإحسن وإيتاى ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر } ((( إن الله يأمر بالعدل) عليّ ، ( والإحسان ) فاطمة ، ( وإيتاء ذي القربى ) الحسن والحسين ، ( والفحشاء ) : فلان أفحش الناس ،( والمنكر ) : فلان … )) وكان يقول بإلية عليّ ، وتكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة إلا ن ثبت مع عليّ ، وكان يختلف إلى امرأة يهودية يتعلم منها ، فإذا سئل ماذا يتعلم منها يقول : السحر ، كان أئمة أهل البيت يتبرأون منه ومن كذبه عليهم وإلحاده في دين الإسلام .
( 27 ) أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 4 : 165 ) أن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة : ( والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم ن ثم لا نقبل منكم توبة ) . فقال له رجل : لم لا تقبل منهم توبة ؟ قال ( نحن أعلم بهؤلاء منكم . إن هؤلاء إن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في ( التقية ) . ويلك ! إن التقية هي باب رخصة للمسلم إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله ، وليست باب فضل ،إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق ، وأيم الله ما بلغ من التقية أن يجعل الله بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله ) .(1/32)
( 28 ) كتب السيد إبراهيم الراوي ( من علماء أهل السنة ) إلى محمد مهدي السبزاوري ( من مجتهدي الشيعة ) رسالة تاريخها 14 صفر 1347 يشكو له قول بهاء الدين العامي الشيعي في حاشيته على تفسير البيضاوي عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}: أنها نزلت في أبي بكر وعمر والصحابة . ومما قاله السيد إبراهيم الراوي : ( لو أن أبا بكر وعمر وباقي الصحابة الذين يزيدون عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على مائة ألف كانوا - إلا خمسة أو ستة أو سبعة – كفاراً أو منا فقين أو مرتدين كما ارتدت الأعراب لأعلنوا دين الجاهلية ولم يقاتلوا أهل الردة ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مدة 23 سنة يصحبه أصحاب كفار ، ومدة طويلة أيضاً تصحبه زوجة كافرة لا يعلمهم ! وقد علمه الله علم الأولين والآخرين ؟ ) . فأجابه السبزاوري بجواب تاريخه رابع ربيع الآخر : ( قلتم أدام الله ظلكم : وإذا صدق قول الشيعة في ارتداد الصحابة كلهم الذين يتجاوز عددهم مائة ألف – إلا خمسة أو ستة أو سبعة ( والصواب ثلاثة ) – فلم يقاتل أبو بكر أهل الردة ويردهم إلى الإسلام ؟ وكفره كفر حكمي لا كفر واقعي كعبادة الوثن والصنم ، ولم يعتقد الشيعة كفر الصحابة وعائشة في حياة النبي ، وإنما قالوا إنهم ارتدوا بعد النبي ) . وعلى هذا فالبهاء العاملي كذاب في أن الآية نزلت في أبي بكر وعمر والصحابة ، وإن كان البهاء العاملي والسبزواري متفقين مع أهل ملتهما في أن الصحابة – بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على الأقل – كانوا كفاراً ونحن نسلم بأن الصحابة كانوا كفاراً ولكن بكل ما تخالف به الشيعة رسالة الإسلام التي بعث بها خاتم رسله وآخر المعصومين من عباده . وأنظر تفصل مراسلة الراوي والسبزواري في مجلة ( الفتح ) جزء جمادى الآخرة 1366 .(1/33)
( 29 ) هشام بن الحكم مولى كندة ، نشأ في أحضان أبي شاكر الديصاني الزندقي وكان من غلمانه، ومن بيئة أبي شاكر رضع أفاويق الإلحاد والزندقة والتجسيم ( حتى إذا فرق الدهر بينه وبين أستاذه الأول بحث عن زميل آخر منحرف عن جادة السنة الإسلامية فجمعه الدهر بأحد الجهمية ، على تناقض مذهب هشام في التجسيم ومذهب جهم في نفي الصفات إلا أن الجامع بينهما انحراف كليهما عن الجادة والغلو في البدعة ، وعلم به البرامكة وهم سلالة سدنة بيت النار للمجوس فتألفوه وأشبعوا نهمته واستعملوا ذكاءه في أغراضهم ، ولعلهم هم الذين دفعوه للانتماء إلى حركة التشيع مع غلاتها وليتصيد الأغرار من أحداثها وليستعين برءوسها على أغراض بعيدة للبرامكة ، وكانت بيئة التشيع حافلة بكل عنصر ومعدن ، وفي هذا الدور من شيخوخة هشام بن الحكم استيقظ الخلفية هارون لألاعيب البرامكة والشعوبيين والزنادقة، فكانت نكبة البرامكة ، واستتر في خلالها هشام بن الحكم ثم انقطعت أخباره عن الناس ويقال إنه مات سنة 199 . وانظر لعقيدته مختصر التحفة الأثني عشرية ص 63 وما بعدها .
( 30 ) هو هشام بن سالم الجواليقي العلاف مولى بشر بن مروان ، كان يقول إن لله صورة وإن آدم خلق على مثال الرب ، وإن الله مجوف من الرأس إلى السرة ، ومصمت من السرة إلى القدم . وعلماء الجرح والتعديل من الشيعة يقولون عنه إنه ثقة ثقة ، وهو معاصر لهشام بن الحكم وشيطان الطاق وزمن البرامكة .(1/34)
( 31 ) هو مولى علي بن يقظين ، ولد في زمان هشام بن عبد الملك ، وعاصر موسى الرضا والمأمون وله عقائد فاسدة . يروي الشيعة أن محمد بن داذويه كتب إلى موسى الرضا يسأله عن يونس فكتب إليه : ولعن أصحابه ، بريء الله منه ومن أصحابه . وضرب مرة بالأرض كتاباً ألفه يونس وقال : هذا كتاب ابن لزان وزانية، هذا كتاب زنديق ، ولما ذهب موسى الرضا إلى خراسان إجابة لدعوة المأمون قال عنه يونس : إن دخل في هذا الأمر طائعاً أو مكرهاً فهو طاغوت ، ومع ذلك فإن الشيعة يوثقونه ويعدونه من مفاخرهم ويمارون فيما ثبت من أوزاره .
( 32 ) لسلطان العلماء العز بن عبد السلام السلمي ( 577 – 660 ) رسالة مطبوعة في حلب عن الأبدال والغوث والقطب والنجباء ، وأن هذه الأسماء ليس لها اصل في الدين الإسلامي ، وغير مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ولا ضعيف .
( 33 ) وتلك سنة الله في البشر من أنبياء وغيرهم ، ومن نسب إلى الإسلام نصبا يخالف ذلك فعليه أن يبرزه ، وليس في الحديث الصحيح نص في ذلك .
( 34 ) في المختصر ( قبض ) والتصحيح من الأصل ( 1 : 24 ) . وشيخ الإسلام يقرر للشيعي مذهب الشيعة لتكون المناظرة على أساسه ، أما الواقع علياً لم ينص على الحسن ، روى الإمام أحمد في مسنده ( 1 : 130 رقم 1078 ) عن وكيع عن العمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله ابن سبع قال : ( لا ، ولكن أترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : ( أقول: اللهم تركتني فيهم مابدا لك ثم قبضتني إليك وأنت فيهم فإن شئت أصلحتهم ، وإن شئت أفسدتهم ) ، وروى الإمام أحمد مثله ( 1 : 156 برقم 1339 ) عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن سبع ، والخبران إسناد كل منهما صحيح ، وانظر ( العواصم من القواصم ) ص 199 .
( 35 ) أي المقدمات التي قررها له شيخ الإسلام واعترف الشيعي بأن هذا تقرير جيد .(1/35)
( 36 ) في المختصر ( عن أباية ) والذي في الأصل ( 1 : 24 ) : ( عن الأئمة ) .
( 37 ) انظر مختصر التحفة الاثني عشرية ص 204 .
( 38 ) كان داعية ابن الزبير في المدينة ، وكان يحرض المدنيين على الثورة ، وهو أول من افترى على إمام وقته يزيد بن معاوية بالأكاذيب التي صدقها العوام ونشأت عنها الفتنة ، وقد كذبه محمد ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقال له : أنا كنت عند يزيد وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ، ملازماً للسنة ( البداية والنهاية 8 : 233 ) . وانظر العواصم من القواصم ص 233 .
( 39 ) أي اب مطيع .
( 40 ) أي عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .(1/36)
( 41 ) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 : 185 ) : ( لم يكن من ملوك الإسلام خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ، إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل ) . وفي زمن الدولة العباسية كان بعض الناس يضرب المثل الأعلى للعدل بحكم عمر بن عبد العزيز ، فقال لهم الإمام الحافظ القدوة سليمان بن مهران الأعمش : ( فكيف لو أدركتم معاوية ) ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : ( لا والله ، بل في عدله ) ، وزمن يزيد كان امتداداً لزمن معاوية وقواده قواده ورجاله رجاله ، ولكن الحكومات تتجوز فيما تراه في تقديرها أنه ضرورة ، وافتراء عبد الله بن مطيع الكذب فيما كان يتهم به يزيد – خلافاً لما شهد به محمد بن الحنفية – وتحريضه الناس على الفتنة أدى إلى النتائج التي كان يتخوفها ابن عمر فيما رواه عنه مسلم في صحيحه أنه جاء يحذر ابن مطيع عواقب خلع يده من طاعة إمامه ونقضه ما كان لإمامه في عنقه من بيعة ، وإن ما كان يفعله عبد الله بن مطيع هو الظلم الذي يموت به صاحبه ميتة جاهلية ، والظلم من ابن مطيع أدى إلى ظلم مثله من يزيد ، وتعريف الظلم عند العرب : ( وضع الشيء في غير موضعه ، والميل عن القصد ) ، وهذا ما فعله المحرضون على الشر قبل يوم الحرة ، وهذا ما أدت غليه النتائج المحزنة بعد ذلك .
( 42 ) أكملنا هذه الفقرة من الأصل ( 1 : 27 ) ولا يلتئم الكلام إلا بها .
( 43 ) في الأصل ( 1 : 29 ) : ( أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ) وهذا يدل على أن شيخ الإسلام ألف ( منهاج السنة ) أو ( منهاج الاعتدال ) بعد سنة 710 . والتاريخ الذي في مختصر الحافظ الذهبي يدل على أن اختصاره كان سنة 720 ، أي في حياة شيخ الإسلام وقبل وفاته بثماني سنين ، وكان الحافظ الذهبي في السابعة و الأربعين من حياته المباركة ؛ وذلك لأن الشيعة يزعمون أن دخول من يسنونه آخر أئمتهم في السرداب سنة 360 .(1/37)
( 44 ) بل إن الأئمة الأحد عشر كانوا معترفين بأنهم غير معصومين ، وما منهم إلا من حفظ الناس من أدعيته وتضرعاته ما يستغفر فيه من ذنوبه ، ولو كانوا معصومين لما كانت لهم ذنوب ، أما الثاني عشر فدخل السرداب طفلاً فيما زعموا ولم يحفظ الناس من كلامه ولا من دعائه شيئاً إلى الآن ؛ لأنه لم يره ولم يسمع صوته أحد إلى الآن .
( 45 ) في المختصر ( فاعترفوا ) والفاء لا حاجة إليها هنا ، ولعلها من الناسخ .
( 46 ) هذه السلسة من الاتهامات وما سيتلوها بعدها على كل منها شواهد من التاريخ ومن مؤلفات هذه الطائفة يمكن أن نجمع منها مجلدات حافلة بالحقائق لو كان في الوقت والعمر فسحة .
( 47 ) في المختصر ( الدخل ) والتصحيح من الأصل ( 1 : 29 ) .(1/38)
( 48 ) ذكر ابن جرير الطبري في حوادث سنة 302 أن دعياً احتال حتى توصل إلى الخلفية المقتدر فادعى أنه محمد بن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر ، فأمر الخليفة بإحضار مشايخ آل أبي طالب وعلى رأسهم نقيب الطالبين أحمد بن عبد الصمد المعروف بابن طومار ، فقال له ابن طومار : لم يعقب الحسن ، وضج بنو هاشم وقالوا : يجب أن يشهر هذا بين الناس ويعاقب أشد عقوبة ، فحمل على جمل وشهر في الجانبين يوم التروية ويوم عرفة ، ثم حبس في حبس المصرين بالجانب الغربي . والشاهد من الخبر الذي رواه الطبري قول نقيب الطالبين أن الحسن العسكري لم يعقب ، والقائلون بأن الحسن العسكري لم يعقب أقوى حجة من الذين يدعون أن نرجس مملوكة الحسن وضعت له ولداً في حياته أو بعد موته ، وأقرب الناس إلى الحسن العسكري أخوه جعفر بن على بن موسى ، فإنه بعد وفاة أخيه حاز تركته باعتبار أنه لا وراث له غيره ، وحجز جواريه إلى أن تبين له وللناس أنه ليس بإحداهن حمل ، والتاريخ – بقواعده وتمحيصاته – لا يعرف شخصية لولد ينسب للحسن العسكري ، أما الدعاوى الطائفية والأهواء المذهبية التي تنتهي بهذه الشخصية إلى أنها لا تزال على قيد الحياة إلى الآن فلا يبعد أن نصيب بدايتها من الحقيقة كنصيب هذه النهاية من ذلك ، وسبحان واهب العقول .
الفصل الأول
في نقل المذاهب في هذه المسألة(1/39)
قال المؤلف الرافضي : ( ذهبت الإمامية إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل قبيحاً ولا يظلم ، وأنه رءوف بالعباد يفعل لهم ما هو الأصلح لهم – إلى أن قال – ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة ، فنضب أولياء ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم ، ولئلا يخلي الله العاَلَم من لطفه ورحمته ، وأنه لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم قام بنقل الرسالة ونص على أن الخليفة من بعده علي ، ثم من بعد عليّ ولده الحسن ، ثم على ولده الحسين ، ثم على [ عليّ ] بن الحسين ، ثم على محمد ، ثم على جعفر ، ثم على موسى بن جعفر ، ثم عليّ بن موسى ، ثم على محمد بن عليّ الجواد ، ثم على عليّ بن محمد الهادي ، ثم على الحسن بن عليّ العسكري ، ثم على الحجة محمد بن الحسن ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا عن وصية بالإمامة . وأهل السنة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله : فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى ، وجوَّزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب ، وأنه تعالى لا يفعل لغرض بل أفعاله كلها لا لغرض من الأغراض ، ولا لحكمة ، وأنه يفعل الظلم والعبث ، وأنه لا يفعل الأصلح لعباده بل هو الفساد في الحقيقة كفعل المعاصي وأنواع الكفر ، فجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه ، وأن المطيع لا يستحق ثواباً والعاصي لا يستحق عقاباً ، قد يعذب النبي ويثبت إبليس وفرعون ، وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الأخطاء والفسق والكذب ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة ، بل مات عن غير وصية / ، وان الإمام بعده أبو بكر بمبايعة عمر وبرضا أربعة : أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن حُضير وبشير بن سعد ، ثم من بعده عمر بنص أبي بكر ، ثم عثمان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم ، ثم عليّ بمبايعة الخلق له (2) ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده حسن ، وبعضهم قال معاوية ، ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلى ظهر السفاح ) .(1/40)
قلنا : هذا النقل لمذهب أهل السنة والرافضة فيه من التحريف والكذب ما نذكره :
فمنه أن إدخال القدَر والعدل في هذا الباب باطل من الجانبين ، إذ كل قول منه قد قال به طوائف من السنة والشيعة ، فالشيعة منهم طوائف تثبت القدّر وتنكر التعديل والتجوير ، والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فيهم طوائف تقول بالتعديل والتجوير ، فإن المعتزلة أصل هذا ، وأن شيوخ الرافضة كالمفيد والموسوي والطوسي والكراجكي إنما أخذوا ذلك من المعتزلة ، وإلا فالقدماء من الشيعة لا يوجد في كلامهم شيء من هذا فذكره القدّر في مسائل الإمامة لا مدخل له بوجه ، وما نقله عن الإمامية لم يحَّرره ، فإن من تمام قولهم (( إن الله لم يخلق شيئاً من أفعال الحيوان ، بل تحدث الحوادث بغير قدرته ولا خلقه )) . ومن قولهم : (( إن الله لا يقدر أن يهدي ضالاً ، ولا يقدر أن يضل مهتدياً ، ولا يحتاج أحد من البشر إلى أن يهديه الله ، بل قد هداهم [ هدى ] البيان ، وأما الاهتداء فقد يهتدي بنفسه لا بمعونة الله له )) ومن قولهم : (( إن هدى الله المؤمنين والكفار سواء ، ليس على المؤمنين نعمة في الدين أعظم / من نعمته على الكافرين ، بل قد هدى علياً بما هدى أب اجهل ، بمنزله الأب الذي يعطي أحد أبنيه دراهم ويعطي الآخر مثلها فأنفقها هذا في الطاعة وهذا في المعصية )) . ومن أقوالهم : (( إنه يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء ))، فلا يثبتون لله مشيئة عامة ، ولا قدرة تامة ، ولا خلقاً متناولاً لكل حادث ، وهذا نص قول المعتزلة ، ولهذا كانت الشيعة في هذا على قولين .(1/41)
وقوله : (( إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلي الله العاَلَم من لطفه )) فهم يقولون : إن الأئمة المعصومين مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة ، حتى أنهم يقولون ذلك في عليّ رضي الله عنه منذ مات النبي صلى الله عليه وسلم إلى ان استخلف وفي الأثنى عشر ، ويقرون أن الله ما مكنهم ، ولا ملكهم وقد قال تعالى : { فقد ءاتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكاً عظيماً } ( 4: 54 ) . فإن قيل : المراد بنصبهم أنه أوجب عليهم طاعتهم فإذا أطاعوهم هدوهم ، ولكن الخلق عصوهم ، فيقال : لم يحصل – بمجرد ذلك – في العالم لا لطف ولا رحمة ، بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم . و( المنتظر ) ما انتفع به من أقر به ولا من جحده ، وأما سائر الأثنى عشر – سوى عليّ رضي اله عنه – فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أئمة الدين والعلم ، وأما المنفعة المطلوبة من أولي الأمر فلم تحصل بهم ، فتتبين أن ما ذكره من (( اللطف )) تلبيس وكذب .
وقوله : (( إن أهل السنة لم يثبتوا العدل والحكمة الخ )) نقل باطل عنهم من وجهين : أحدهما : إن كثيراً من أهل النظر الذين ينكرون النص يثبتون العدل والحكمة كالمعتزلة ومن وافقهم ، / ثم سائر أهل السنة ما فيهم من يقول إنه تعالى ليس بحكيم ولا إنه يفعل قبيحاً ، فليس في المسلمين من يتكلم بإطلاق هذا إلا حلَّ دمه .(1/42)
ولكن مسألة القدر فيها نزاع في الجملة : فقول المعتزلة ذهب إليه متأخرو الإمامية وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين وأهل البيت ، فتنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته والظلم الذي يجب تنزيهه عنه ، وفي تعليل أفعاله وأحكامه ، فقالت طائفة : إن الظلم ممتنع عليه وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين ، وأن كان ممكن مقدور فليس هو ظلماً ، وهؤلاء يقولون : إنه لو عذّب المطيعين ونعَّم العصاة لم يكن ظلماً ، وقالوا : الظلم التصرف فيما ليس له والله له كل شيء ، ,هذا قول كثير من أهل الكلام المؤمنين بالقدر ، وقول عدة من الفقهاء ، وقالت طائفة : بل الظلم مقدور ممكن ، والله لا يفعله لعدله ، وبهذا مدح نفسه إذ يقول : { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } ( يونس 44 ) والمدح إنما يكون بترك المقدور ، قالوا : وقد قال { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } ( طه 112 ) وقال تعالى : { وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون } ( الزمر 69 ) وقال : { ومآ أنا بظلام للعبيد } ( ق 29 ) . وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا على المستحيل ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن الله يقول : يا عبادي إني حَرمت الظلمَ على نفسي )) فقد حرم الظلم على نفسه كما { كتب على نفسه الرحمة } ( الأنعام 12 ) ، وفي الصحيح (( إن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : ( إن رحمتي غلبت غضبي ) )) وما متبه على نفسه أو حرَّمه على نفسه فلا يكون إلا مقدوراً له ، فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ولا يحرمه على نفسه ، وهذا قول أكثر أهل السنة [ والمثبتين للقدر ] من أهل الحديث والتفسير / والفقه والكلام والتصوف ، [ و ] على هذا القول فهؤلاء هم القائلون بعدل الله وإحسانه دون من يقول من القدرية إن من فعل كبيرة حبط إيمانه ، فهذا نوع من الظلم الذي نزَّه الله نفسه عنه ، وهو القائل : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال(1/43)
ذرة شراً يره } ( الزلزلة 7-8 ) : فمن اعتقد أن منه على المؤمن بالهداية ون الكافر ظلم فهذا جهل لوجهين : أحدهما : أن هذا تفضيل ، قال { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } ( الحجرات 17 ) : وكما قالت الأنبياء : { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء } ( إبراهيم 11 ) . فهو تعالى لا يضيع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها ، لا يضع العقوبة على محسن أبدا ، ولهذا قيل : كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، ولهذا يخبر أنه يعاقب الناس بذنوبهم ، وأن إنعامه عليهم إحسان منه ، وفي الصحيح (( فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) وقال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله } ( النساء 79 ) . أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك ، وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك . فالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب كما قال : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } ( الأعراف 168 ) . وقال : { إن تصبك حسنة تسؤهم } ( التوبة 50 ) . وقال : { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها } ( آل عمران 120 ) .
وأجمع المسلمون على أنه تعالى موصوف بالحكمة ، فقالت : معناها راجع إلى العلم بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده ، وقال / جمهور السنة : بل هو حكيم في خلقه وأمره : والحكمة هي مطلق المشيئة ، إذ لو كان كذلك لكان كلٌ مريد حكيماً ، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى إرادة محمودة ومذمومة ، بل الحكمة ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة . وأصحاب القول الأول – كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء – يقولون : ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله ، بل ليس فيه إلا لام العاقبة ، وأما الجمهور فيقولون : بل لام التعليل داخلة في أفعاله وأحكامه .(1/44)
وهذه المسألة لا تتعلق بالإمامة أصلاً ، وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل فمن أنكر ذلك احتج بحجتين : إحداهما : أن ذلك يلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضاً حادثة وتفتقر إلى علة ، إن وجب أن يكون لكل حادث علة ، وإن عُقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة . الثانية : أنهم قالوا : من فعل لعلة كان مستكملاً بها ، لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة ، والمستكمل بغيره ناقص بنفسه ، وذلك ممتنع على الله ، وأوردوا على المعتزلة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا : العلة التي فعل لأجلها وعدمها بالنسبة إليه سواء أمتنع أن تكون علة ، وإن كان وجودها أولى فإن كانت عنه منفصلة لزم أنن تستكمل بغيره ، وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلاً للحوادث .
وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون : فالمعتزلة تثبت من التعليل مالا يعقل ، وهو فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها إليه سواء .(1/45)
وأما القائلون بالتعليل فإنهم يقولون : إن الله يحبٌّ ويرضى ، وذلك / أرخصُّ من الإرادة ، وأما المعتزلة وأكثر الأشعرية فيقولون : المحبة والرضا والإرداة سواء ، فجمهور السنة يقولون : لا يحبُّ الكفر ولا يرضاه ، وإن كان داخلاً في مراده كما دخلت سائر المخلوقات ، لما في ذلك من الحكمة ، وهو وإن كان شراً بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شراً بالنسبة إلى الفاعل يكون عديم الحكمة ، بل لله في مخلوقاته حكم قد تخفى ، ويجيبون عن التسلسل بجوابين : أحدهما : أن يقال هذا تسلسل الحوادث في المستقبل ، لا في الحوادث الماضية ، فإنه إذا فعل فعلاً لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل ، فإذا كانت تلك الحكمة يُطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلاً في المستقبل وهو جائز عند جماهير الأمة ، فإن نعيم الجنة و [ عذاب ] النار [ د ]ائمان مع تجدد الحوادث فيهما ، وإنما أنكر ذلك جهنم (3) ، زعم أن الجنة والنار تفنتان ، وأبو الهديل العلاف زعم (4) أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويبقون في سكون دائم ، وذلك أنهم اعتقدوا أن التسلسل في الحوادث ممتنع في الماضي ، ففيه أيضاً قولان لأهل الإسلام : فمنهم من يقول إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فعَّالا ، مع قولهم إن كل ما سواه محدث ، وأنه ليس في العالم شيء قديم مساو لله كما يقول الفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك وأن أبدع علة تامة موجب بذاته ، وهذا ضلال ، إذ العلة تستلزم معلولها ولا يجوز تأخرها عنه ، والحوادث مشهورة في العالم ، فلو كان الصانع موجباً بذاته علة تامة تستلزم لمعلولها / لما حدث شيء من الحوادث في الوجود ، إذ الحادث يمتنع أن يكون صادراً عن على تامة أزلية ، فلو كان العالم قديماً لكان مبدعه علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها ، فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة ، وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم العالم ، لكن لا ينفي أن الله لم(1/46)
يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فعالاً لما يشاء ، وعمدة الفلاسفة في قدم العالم قولهم : يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقديراً ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب أصلا ، وهذا لا يدل على قدم شيء بعينه إنما يدل على أنه لم يزل فعالاً . فإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئاً بعد شيء كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة مع القول بأن كل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن ، قال هؤلاء : فقد أخبر تعالى ( في الأنعام 102 والرعد وغافر والزمر ) بأنه { خلق كل شيء } ولا يكون المخلوق إلا مسبوقاً بالعدم ، فليس شيء من المخلوقات مقارناً لله كما تقول الفلاسفة إن العالم معلول له وهو موجب له مفيض له وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع لا بالزمان.(1/47)
إلى ان قال : الوجه الثاني : لابد أن يكون الفاعل موجوداً عند وجود المفعول ، لا يجوز عدمه عند ذلك ، إذ المعدوم لا يفعل موجوداً ، ونفس إيجابه وفعله واقتضائه وإحداثه لا يكون ثابتاً بالفعل إلا عند وجود المفعول ، فلو قٌدَّر أن فعله اقتضاه فوٌجد بعد عدمه لزم أن يكون فعله وإيجابه عند عدم المفعول / الموجب ، وإذا كان كذلك فالموجب لحدوث الحوادث إذا قٌدّر أنه يفعل الثاني بعد الأول من غير أن تحدث له صفة يكون بها فاعلاً الثاني كان المؤثر التام معدوماً عند وجود الأثر وهذا محال . والواحد من الناس إذ قطع مسافة وكان قطعه للجزء الثاني مشروطاً بالأول فإنه قطع الأول حصل له [ أمور تقوم به – من قدرة وإرادة وغيرهما تقوم بذاته – بها يصير حاصلاً في الجزء الثاني لا [ أنه ] لمجرد عدم الأول صار قاطعاً للثاني ، فإذا شبهوا فعله للحوادث بهذا لزمهم أن تتجدد لله أحوال تقوم به عند إحداث الحوادث ، وإلا إذا كان هو لم يتجدد له حال وإنما وجد عدم الأول فحاله قبلُ وبعدٌ سواءٌ فاختصاص أحد الوقتين بالإحداث لابد له من مخصص ، ونفس صدور الحوادث لابد له من فاعل ، والتقدير أنه على حال واحدة من الأزل إلى الأبد ، فيمتنع مع هذا التقدير اختصاص وقت دون وقت بشيء منها ، وابنٌ سينا وغيره من القائلين بقدوم العالم بهذا الخصوص احتجوا على المعتزلة فقالوا : إذا كان في الأزل لا يفعل ، وهو الآن على حاله ، فهو الأن لا يفعل ، وقد فرض غافلاً ، هذا خُلفٌ ، وإنما لزم ذلك من تقدير ذات معطلة عن الفعل ، فيقال لهم : ذا بعينه حجة عليكم في إثبات ذات بسيطة لا تقوم بها فعل ولا وصف مع صدور الحوادث [ عنها وإن كانت بوسائط لازمة لها ، فالوسط للازم لها قديم بقدومها ، وقد قالوا إنه يمتنع / صدور الحوادث عن قديم هو على حال واحدة كما كان .(1/48)
الوجه الثالث : أنهم قالوا : إن الواجب فياض دائم الفيض ، وإنما يتخصص بعض الأوقات بالحدوث لما يتجدد من حدوث الاستعداد والقبول ، وحدوث الاستعداد والقبول هو سبب حدوث الحركات : فهذا باطل ، إذ هذا إنما تصوَّر إذا كان الفعال الدائم الفيض ليس هو المحدث لاستعداد القبول كما تدعونه في العقل الفعَّال فتقولون إنه دائم الفيض ، ولكن يحدث استعداد القوابل بسبب حدوث الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ، وتلك ليست صادرة عن العقل الفعَّال ، وأما في المبدع الأول فهو المبدع لكل ما سواه ، فعنه يصدر الاستعداد والقبول .(1/49)
إلى أن قال : وإذا كان هو سبحانه الفاعل لذلك كله أمتنع أن يكون علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها ، لأن ذلك يوجب أن يكون معلومة كله أزلياً وكل ما سواه معلول له فيلزم أن يكون ما سواه أزلياً ، وهذه مكابرة للحس ، وفساد هذا معلوم بالضرورة ، وإنما عظمت حجتهم على أهل الكلام المذموم الذين اعتقدوا أن الرب تعالى كان في الأزل يمتنع منه الفعل والكلام بقدرته ومشيئته ، وكان حقيقة قولهم أنه لم يكن قادراً في الأزل على الكلام والفعل بمشيئة وقدرته لكون ذلك ممتنعاً لنفسه والممتنع لا يدخل تحت المقدور ، وأنه صادر قادراً على الفعل والكلام بعد ان لم يكن قادراً عليه ، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الداتي ، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم والشيعة والكرامية ، / وأما الكلام فلا يدخل تحت القدرة والمشيئة ، بل هو شيء واحد لازم لذاته ، وهو قول ابن كُلاَّب (5) والأشعري (6) ، وقالت طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث – ويعزى ذلك إلى السالمية (7) ، وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة - : إنه حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان لا تتعلق بمشيئته وقدرته ، وليس هذا قول جمهور أئمة الحنابلة (8) ، ولكنه قول طائفة منهم ومن المالكية والشافعية وقالوا : دل الدليل على أن دوام الحوادث ممتنع ، وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ ، وأنكروا حوادث لا أول لها ، وقالوا : وجب أن يكون كلُ ما تقارنه الحوادث محدثاً ، فيمتنع أن يكون الباري لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة ، بل امتنع أن يكون لم يزل قادراً على ذلك ، لأن القدرة في الممتنع ممتنعة . قالوا : وبهذا يعلم حدوث الجسم لأنه لا يخلو عن الحوادث ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وما فرقوا بين مالا يخلو عن نوع الحوادث وبين مالا يخلو عن عين الحوادث ، فيقال لهم – الفلاسفة وغيرهم – فهذا الدليل الذي اثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم ، فكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما(1/50)
قصدتموه ، وذلك لأن الحادث لابد أن يكون ممكناً ، والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر بمرجح تام ، والإمكان ليس له وقت محدود ، فما من وقت بقدر إلا والإمكان ثابت قبله ، فيجب أن الفعل لم يزل ممكناً جائزاً ، فليزم أنه لم يزل الرب تعالى قادراً عليه ، فيلزم جواز حوادث لا أول ولا نهاية . وقالت القدرية والمعتزلة : / نحن لا نسلّم [ أن ] إمكان الحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية لها ، وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع ، بل يجب حدوث نوعها ، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه ، فالحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدم لا أول لها ، بخلاف جنس الحوادث .
إلى أن قال : هل لإمكان الحوادث انتهاء أم لا ، فكلما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية فكذلك الأول يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية إلى أن قال : والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .(1/51)
إلى أن قال : والمقصود هنا أن الفلاسفة إن جوزوا حوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم ، وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث ، وهم لا يسلمون أنه لم يخل من الحوادث ، وإذا كان كل موجود معين من مرادات الخالق مقارناً للحوادث مستلزماً لها امتنع إرداته دون إرادة لوازمه التي لا يفك عنها ، والله ربٌّ كل شيء وخالقه ، فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرداته وبغضه بإرادة غيره ، بل الجميع بإرادته ، وحينئذ فالإرادة الأزلية إما أن تكون مستلزمة لمقارنة المراد وإما أن لا تكون كذلك ، فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديمة أزلية ، والحوادث لازمة لكل مصنوع فوجب أن تكون مرادة له وأن تكون أزلية ، إذ التقدير ان المراد مقارن للإرادة ، فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية ، وهذا ممتنع لذاته ، وإن قيل إن الإرادة القديمة ليست مستلزمة لمقارنة مرادها لها لم يجب أن يكون المراد قديماً أزلياً ، ولا يجوز أن يكون / حادثاً ، لأن حدوثه بعد أن لم يكن يفتقر إلى سبب حادث كما تقدم ، وإن كان أن يقال إن الحوادث تحدث بالإرادة القديمة من غير تجدد أمر من الأمور – كما يقوله كثير من الأشعرية(9) والكرامية (10) ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد – كان هذا مبطلاً لحجة هؤلاء الفلاسفة على قدم العالم ، فإن أصل حجتهم أن الحوادث لا تحدث إلا بسبب حادث فإذا جوزوا حدوثها عن القادر المختار بلا حادث ، أو حدوثها بالإرادة القديمة ، بطلت عمدتهم ، وهم لا يجوزون ذلك .(1/52)
واصل هذا الدليل أنه لو كان شيء من العالم قديماً للزم أن يكون صدر عن مؤثر تام سواء سمي علة تامة أو موجباً بالذات أو قيل إنه قادر مختار واختياره أزلي مقارن لمراده ، وسٌّر ذلك أن ما كان كذلك لزم أن يقارنه أثره المسمى معلولاً أو مراداً أو موجباً بالذات أو مبدعاً أو غير ذلك من الأسماء ، لكن مقارنة ذلك له في الأزل تقتضي أن لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثاُ ولو لم يكن كذلك لم يكن للحوادث فاعل ، بل كانت حادثة بنفسها ، ولا سيما قول من يقول إن العالم صدر عن ذات بسيطة لا تقوم بها صفة ولا فعل كابن سينا وغيره .
إلى أن قال شيخنا : وإنما القصد هنا التنبيه على اصل ( مسألة التعليل ) ، فإن هذا المبتدع أخذ يشنع على أهل السنة بمسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها ، وينقلها على الوجه الفاسد ، وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم ، وما صدق فيه فقولهم فيه خير من قوله ، فإن غالب شناعته هنا على الشعرية / وهم خير من المعتزلة والرافضة ، ويقولون لهم : لما كان هذا الدليل عمدتكم استطال عليكم الدهرية والفلاسفة وابن سينا ، وهذا الدليل مناف في الحقيقة لحدوث العالم ، لا مستلزم له ، فإذا كان هذا الحادث لابد له من سبب حادث وكان هذا الدليل مستلزماً لحدوث الحادث بلا سبب لزم أن لا يكون الله أحدث شيئاً ؛ وإذا جوزنا ترجيح أحد رفي الممكن بلا مرجح انسد طريق إثبات الصانع الذي سلكتموه .(1/53)
ويقولون أيضاً للمعتزلة : أنتم مع هذا عللتم أفعال الله بعلل حادثة ، فيقال لكم : هل توجبون للحوادث سبباً حادثاً أم لا ؟ فإن قلتم نعم لزم تسلسل الحوادث وبطل ما ذكرتموه وإن لم توجبوا ذلك : قيل لكم : وكذلك ليس لها غاية حادثة بعدها ، إذ الفاعل المحدث لابدَّ لفعله من سبب ولابدَّ له من غاية ، فإن قلتم : لا سبب لإحداثه ، قيل لكم : ولا غاية مطلوبة له بالفعل ، فإن قلتم : لا يعقل فاعل لا يريد حكمة إلا وهو عابث ، قيل لكم : ولا يعقل فاعل يحدث شيئاً بغير سبب حادث أصلاً ، بل ذا أشدُّ امتناعاً في العقل من ذاك ، فقول من يقول إنه يفعل لمحض المشيئة بلا علة خيرُ من قولكم في حكمته ، فإن هذا سلم من التسلسل وسلم من كونه يفعل لحكمه منفصلة عنه .. والمعتزلة تسلم له امتناع التسلسل ، وأما من قال بالتعليل من أهل السنة والحديث فقد سلم من هذا وهذا .
وأما قولك : (( جوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب )) فما قال مسلم قط إن الله يفعل قبيحاً أو يخل بواجب ، / ولكنكم معشر النفاة للقدر توجبون على الله من جنس ما يجب على العباد ، وتحرمون عليه ما يحرم عليهم ، فتقيسونه على خلقه ، فأنتم مشَّبهة للأفعال ، فأما المثبتون للقدر من السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بنا في أفعاله كما لا يقاس بنا في ذاته وصفاته ، فليس ما وجب علينا أو حرم علينا أو يحرم عليه ، ولا ما قبح منا قبح منه ، واتفقوا على أنه إذا وعد بشيء كان وقوعه واجباً بحكم وعده ، لقوله تعالى { إن الله لا يخلف الميعاد } ، ( آل عمران 9 ، الرعد 31 ) .وكذلك لا يعذب أنبياءه ولا أولياءه ، بل يدخلهم جنته كما أخبره ، لكن تنازعوا في مسألتين :(1/54)
إحداهما : أن العباد هل يعلمون بعقولهم حُسن َ بعض الأفعال ، ويعلمون أن الله متصف بفعله ، ويعلمون قبح بعض الأفعال ، ويعلمون أن الله منزَّه عنه ؟ على قولين : أحدهما : أن العقل لا يعلم به حسن ولا قبح ، وأما في حق الله فلأن القبيح منه ممتنع لذاته ، وأما في حق العباد فلأن الحسن والقبح لا يثبت إلا بالشرع قاله الأشعرية وكثير من الفقهاء ، وهم لا ينازعون في الحسن والقبح – إذا فسر بمعنى الملائم والمنافي – أنه قد يعلم بالعقل ، وكذا لا ينازع كثير منهم في أنه إذا عُني به كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص أنه يعلم بالعقل . الثاني : أن العقل قد يعلم به حُسن كثير من الأفعال وقبحها في حق الله تعالى وحق عباده ، وهذا مع أن قول المعتزلة فهو قول الكرامية وجمهور الحنفية وقول أبي بكر الأبهري المالكي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب [ الكلواذى ] من الحنابلة ، وذكر أبو الخطاب أنه قول أكثر أهل العلم وهو قول أبي نصر السجزي وسعد الزنجاني من المحدثين . وقد تنازع الأئمة في الأعيان قبل ورود / السمع : فقالت الحنفية وكثير من الشافعية والحنابلة : إنها على الإباحة ، مثل ابن سريج وابن إسحاق المروذي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب ، فقالت طائفة كأبي علي بن أبي هريرة وابن حامد والقاضي أبي يعلى : إنها على الحظر ، مع أن خلقاً يقولون : إن القولين لا يصلحان إلا على أن العقل يحسن ويقبح ، فمن إنه لا يعرف بالعقل حكمُ امتنع أن يصفها قبل الشرع بشيء كما قاله الأشعري وأبو الحسن الجزري وأبو بكر الصيرفي وابن عقيل .(1/55)
وأما المسالة الثانية : تنازعوا هل يوصف الله بأنه أوجب على نفسه وحَّرم عليها ، أولا معنى للوجوب إلا إخباره بوقوعه ، ولا معنى للتحريم إلا إخباره بعدم وقوعه ، فقالت طائفة بالقول الثاني وهو قول من يطلق أن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء . وقالت طائفة بل هو واجب على نفسه وحرَّم كقوله تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ، ( الأنعام 54 )
----------------------------
( 1 ) عناوين الفصول لم تكن في المختصر ، ولكن المرود عليه والرد والمختصر مبنية كلها على الفصول .
( 2 ) أي لا بالنص ، لأنه لا نص ، وقد خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وهو اليوم السادس من شهادة أمير المؤمنين ذي النورين عثمان فقال كرم الله وجهه ( يا أيها الناس عن ملأ وأذن ، إن هذا أمركم ، وليس لأحد فيه حق إلا إن أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر ( أي على ترشيحه للخلافة ) فإن شئتم قعدت لكم ، وإلا فلا أجد على أحد ) والخبر بطوله عند الطبري ( 5 : 156 – 157 ) . وقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه ( إن هذا أمركم ،ليس لأحد فيه حق إلا إن أمرتم ) يهدم كل ما بناه الشيعة من ثلاثة عشر قرنا إلى الان … وانظر ( العواصم من القواصم ص 142 – 143 ) .(1/56)
( 3 ) جهم بن صفوان من موال يبني راسب ( وراسب هم بنو الخزرج بن جدة من قضاعة ) نشأ بالكوفة ، وكان رجلاً فصيحاً ولم يكن له نفاذ في العلم ، فاتصل ببعض الزنادقة ، وكانت الكوفة حافلة بهم ، فبلغوا به إلى أن ينكر صفات الله ، لأن الله – فيما زعموا له – لا ينبغي أن يوصف بصفات يوصف بها خلقه . ثم ذهب إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً . وانتقل من العراق إلى خراسان والشرق فتولى الكتابة للحارث بن سريج الخارج على نصر بن سيار والي خرسان ، وهناك اخذ يبث ضلالاته . أخرج ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال : قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار ( أما بعد : فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله) ، وفي إحدى المعارك بين أنصار الحارث بن سريج وشرطة نصر بن سيار قتل الحرث على جهم ، فأمر نصر صاحب شرطته - وهو سلم بن أحوز – أن يقتل جهماً ، فقتله لإلحاده في الدين ، وكان ذلك سنة 128 . قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : جهم بن صفوان الضال المبتدع رأس الجهمية ، هلك في زمان صغار التابعين ، وما علمته روى شيئاً ( أي من الحديث ) لكنه زرع شراً عظيماً .
( 4 ) أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول ( 134 - 227 ) من موالي عبد القيس ، كان الشيخ البصريين ف الاعتزال ورأس البدعة وصاحب المقالات في مذهبهم ، إلا أنه خالفهم في آراء انفرد بها عنهم ، وممن رد عليه منهم الجبائي وعفر بن حرب والمردار ، وانظر لقوله في فناء الجنة والنار كتاب الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ، ص 73 طبعة 1367 . وأبو الهذيل طال عمره حتى عمي وخرف.(1/57)
( 5 ) هو عبدالله بن سعيد التميمي البصري ، قال السيد مرتضى الزبيدى في شرح القاموس ( بمادة كلب ) : أبن كلاب لقب له لشدة مجادلته في مجلس المناظرة ، لا أن كلابا جدّ له ، وهو راس الطائفة الكلابية من أهل السنة ، وكانت بينه وبين المعتزلة مناظرات في زمن المأمون ، ووفاته بعد 240 ، وله ترجمه في طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي ( 2 : 51 ) . وقد تعرض ابن النديم في الفهرست ( ص 255 مصر ) لشخص سماه ( عبدالله بن محمد بن كلاب القطان ) ونسب إليه مالا يتفق مع ترجمة عبد الله بن سعيد بن كلاب فضلا عن الاختلاف في اسم أبويهما ، وهذه الشخصية لا تزال في حاجة إلى بحث وتحقيق .
( 6) أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( 260 – 334 ) من كبار أئمة الكلام في الإسلام ، نشأ في أول أمره على الأعتزال وتتلمذ فيه على الجبائي ( 235 – 307 ) ثم أيقظ الله بصيرته وهو في منتصف عمره وبداية نضجه ( سنة 304 ) فأعلن رجوعه عن ضلالة الاعتزال ، ومضى في هذا الطور الثاني نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقي الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً طريقاً وسطاً بين طريقة الجدل وطريقة السلف ، ثم محض طريقته وأخلصها لله بالرجوع الكامل إلى طريقة السلف في إثبات كل ما ثبت بالنص من أمور الغيب التى أوجب الله على عباده إخلاص الإيمان بها ، وكتب بذلك كتبه الأخيرة ومنها في أيدي الناس كتاب ( الإبانة ) وقد نص مترجموه على أنها آخر كتبه ( أنظر ترجمته في شذرات الذهب ) وهذا ما أراد أن يلقى الله عليه ، وكل ما خالف ذلك مما ينسب إليه أو صارت تقول به الأشعرية فالأشعري رجع عنه إلى ما في كتاب الإبانة وامثاله وأنظر التعليق 2 ص 46 .
( 7 ) أتباع هشام بن سالم الجواليقي الذي مضى التعريف به في التعليق رقم 1 ص 26 .
( 8 ) لأنهم التزموا في أمور الغيب إثبات النصوص الصحيحة وامرارها كما وردت ، إلا أنهم يقيدونها بأن الله { ليس كمثله شيء } .(1/58)
( 9 ) الأشعرية منسوبون إلى أبي الحسن الأشعري الذي تقدم التعريف به في التعليق 2 ص 44 . وقد علمت أن أبا الحسن الأشعري كانت له ثلاثة أطوار : أولها : أنتماؤه إلى المعتزلة ، والثاني : خروجه عليهم ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف ، والطور الثالث : انتقاله إلى مذهب السلف وتأليفه في ذلك كتاب ( الإبانة ) وأمثاله ، وقد أراد أن يلقي الله على ذلك . أما ( الأشعرية ) أي المذهب المنسوب إليه في علم الكلام فكما أنه لا يمثل الأشعري في طور اعتزاله فإنه ليس من الإنصاف أيضاً أن يلصق به فيما يلقى الله عليه ، بل هو مستمد من أقواله التى كان عليها في الطور الثاني ثم عدل عن كثير منها في آخرته التى أتمها الله عليه بالحسنى .
( 10) الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ( المتوفى سنة 255 ) كان متكلماً عابداً خدع العامة بعبادته فانقاد له ألوف منهم ، قال فيه ابن حبان (( التقط من المذاهب أردأها ومن الأحاديث أوهاها)) وارسل إلى البخاري كتاباً يسأله عن أحاديث منها : روى الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً (( الإيمان لا يزيد ولا ينقص )) فكتب البخاري على ظهر كتابه (( من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل )) ، وكان مذهب ابن كرام أن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن ، والكرامية يقولون : إن الله جسم لا كالأجسام ، وحبس ابن كرام في نيسابور ثمانية أعوام لأجل بدعته ، ثم خرج وسار إلى بيت المقدس ومات بفلسطين .
الفصل الثاني
في المذهب الواجب الاتباع(1/59)
قال : الفصل الثاني ، إن مذهب / الإمامية واجب الاتباع ، لأنه أحق المذاهب وأصدقها ، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ، ولأنهم جازمون بالنجاة ، وأخذوا دينهم عن المعصومين ، وغيرهم اختلفوا وتعددت آراؤهم وأهواؤهم : فمنهم من طلب الأمر لنفسه بغير حق وتابعه أكثر الناس طلباً للدنيا كما اختار عمر بن سعد بن مالك (1) الذي لما خير بينه وبين قتال الحسين – مع علمه بأن قتلته في النار فإنه قال
فو الله ما أدري وإني لصادق *** أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي *** أو أصبح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب ولي في الري قرة عين
وبعضهم اشتبه عليه الأمر ورأى طالب الدنيا فقلده ، وقصر في النظر فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى ، وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فبايعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى : { وقليل ماهم }. ( ص 24 ) . وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن زينة الدنيا وأخلصوا واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم فوجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق بمستقره فقد قال تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } .( هود 18 ) .
فجعل المصنف الناس بعد نبيهم أربعة أصناف ، فكذب ، فإنه لم يكن في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف : أما طالب الأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه ، و أما طالب الأمر بغير بحق كعلي في زعمه ، فهذا كذب عليهما ، فلا علي طلب الأمر لنفسه ولا أبو بكر ، وجعل القسمين الآخرين إما مقلداً للدنيا وإما مقلداً لقصوره في النظر ، فالإنسان يجب عليه أن يعرف الحق ويتبعه ، فإن اليهود عرفوا الحق وما تبعوه فهم مغضوب عليهم ، وأما النصارى فجهلوا الحق وضلوا ، وهذه الأمة خير الأمم فقال تعالى : { كنتم خير أمة }(آل عمران 110) .(1/60)
فخيرها القرن الأول ثم الذي يليه بقوله / عليه السلام (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم )) وهؤلاء الرافضة يقولون فيهم ما قد علمتهم ، ويجعلونهم أقل الناس علماً وأتبعهم للهوى ، فلزم من قولهم أن الأمة ضلت بعد نبيها ، فإذا كان في هذا حكايتك لما جرى عقيب نبيك فكيف سائر ما تنقله وتحتج به !
وقولك (( تعددت آراؤهم بعدد أهوائهم )) فحاشاهم من ذلك . أتدري من تعني ياجويهل ؟ عنيت الذين قال الله فيهم :{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }(التوبة 100). وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }(الفتح 29) . والثناء على المهاجرين والأنصار في غير آية وعلى الذين يجيئون من بعدهم فيقولون :{ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }(الحشر 10) . ويسألونه أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم . والرافضة لم يستغفروا لهم ، وفي قلوبهم الغل لههم (2) . وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : أمر الله بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم يقتتلون ، وقال عروة عن عائشة : أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسبوهم . وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم انفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) . وفي مسلم عن أبي هريرة نحوه مرفوعاً . وفي مسلم عن جابر قال : قيل لعائشة رضي الله عنها : إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ، فقالت : وما تعجبون ومن هذا ؟ انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر . وروى الثوري عن نسير ابن ذعلوق سمعت ابن عمر يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة – يعني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – خير من عمل أحدكم أربعين سنة / وقال تعالى : { لقد رضي الله عن(1/61)
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً }( الفتح 18) . أخبر سبحانه برضاه عنهم وبأنه علم ما في قلوبهم وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فهم أعيان من بايع أبا بكر ، وقال عليه السلام [ فيما ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله ] : ((لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار )) وقال تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة }(التوبة 117). يعني غزوة تبوك ، وقال : { إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا } ( المائدة 55). وقال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أؤلياء بعض }(التوبة 71) . فأمر بموالاتهم ، والرافضة تبرأ منهم . وقد قال بعض الجهلة : إن قوله تعالى : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }(المائدة 55) . نزلت في علي رضي الله عنه ، وذكر في تلك خبراً موضوعاً ، وأنه تصدق بخاتمه في الصلاة فنزلت ، قيل : لا ، لأن الآية صيغة جمع وعلي واحد ، ومن ذلك أن الواو ليست في { وهم راكعون } واو الحال ، إذ لو كان كذلك لتعين بالبدء إعطاء الزكاة في الصلاة حال الركوع . ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب ، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس كذلك بالاتفاق ، وإن في الصلاة شغلاً . ومنها أن علياً لم يكن عليه زكاة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان له خاتم ، أو كان له فالخاتم زكاة ماذا ؟ لأن أكثر الفقهاء لا يجوزون إخراج الخاتم في الزكاة ، وفي حديثهم أنه أعطاه سائلاً ، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء وعلى الفور . ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين ، والرافضة يعادون المؤمنين ويوالون المنافقين مشركي التتار كما شاهدنا ، وقال الله تعالى لنبيه : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم }(الأنفال 62-63) ، والرافضة تريد أتن تفرق بين قلوب / خيار الأمة بالأكاذيب . وقال(1/62)
تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به أؤلئك هم المتقون – إلى قوله – ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا }(الزمر 33-35) . فهذا الصنف هم أشرف الأمة ، وقد وعدهم بأنه يكفر عنهم أسوأ أعمالهم ، وعلي عندهم معصوم فقولوا لِمَ يدخل في الآية ؟ وقال { وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض }(النور 55) . الآية ، فوعدهم الاستخلاف وأخبر برضاه عنهم وبأنهم متقون وبأنه أنزل السكينة عليهم ، وهذه النعوت منطبقة على الصحابة الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك الزمان حصل لهم الاستخلاف وتمكين الدين والأمن بعد الخوف ، إلى أن قهروا فارس والروم ،وافتتحوا الشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان وأذربيجان وغير ذلك ، فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئاً ، بل طمع فيهم الروم وغيرهم ، وحدثت البدع من الخوارج والروافض والنواصب وأريقت الدماء ، فأين ما بعد قتله مما قبله ؟ فإن قيل فالمنافقون كانوا مسلمين في الظاهر ، قلنا : ما كانوا متصفين بخير ، ولا كانوا مع الرسول صلى الله عله وسلم ، ولا كانوا مع المؤمنين ، قال الله فيهم : { ولئن جاء نصر من ربك ليقولون إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين * وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين }(العنكبوت 10-11) . وقال : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم ومنكم ولكنهم قوم يفرقون }(التوبة 56) . وقال : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }(النساء 145) . أخبر تعالى أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا إلى هؤلاء ولى إلى هؤلاء بل مذبذبين ، وكذا ترى الرافضة .(1/63)
وقال : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً * ملعونين }(الأحزاب 60،61) فلما لم يغره الله بهم ولم يتلهم تقتيلاً دل على أنهم انتهوا ، وما كان معه يوم الشجرة منهم إلا الجد بن قيس ، فإنه اختبأ / خلف بعيره . فبالجملة كان المنافقون مقهورين مع الصحابة ، ولا سيما في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وبعد تبوك لأن الله تعالى قال فيهم : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }(المنافقون 8) [ثم] قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }. فتبين أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المنافقين كانوا أذلة بينهم . قال تعالى :{ يحلفون بالله ليرضوكم }(التوبة 62) . { يحلفون لكم لترضوا عنهم )(التوبة 96) . وقال : { ولكنهم قوم يفرقون }(التوبة 56) .هذه صفات الذليل المقهور ، وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار فما زالوا أعز الناس بعد نبيهم وقبل موته ، فلا يجوز أن يكون الأعزاء من خاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منافقين ولا أذلاء .(1/64)
بل هذه صفة الرافضة ، فشعارهم الذل ، ودثارهم النفاق والتقية ، ورأس مالهم الكذب والإيمان الفاجرة ، إن لم يقعوا في الغلو والزندقة يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم ، ويكذبون على جعفر الصادق أنه قال (( التقية ديني ودين آبائي )) وقد نزه الله أهل البيت عن ذلك ولم يحوجهم إليه ، فكانوا من أصدق الناس وأعظمهم إيماناً ، فدينهم التقوى لا التقية ، فأما قوله تعالى : { ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أؤلياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة }(آل عمران 28) . فهذا أمر بالاتقاء من الكفار ، لا أمر بالكذب والتقيه ، والله أباح لمن أكره على الكفر التكلم به ، فأهل البيت ما أكرههم أحد على شيء ، حتى إن أبا بكر لم يكره أحداً منهم على بيعته ، بل بايعوه لما أرادوا طوعاً منهم ، ولا كان علي ولا غيره يذكرون فضل الصحابة والثناء عليهم خوفاً من أحد ولا أكرههم أحد باتفاق الناس ، وقد كان في زمن بني أميه وبني العباس خلق كثير دون علي في الإيمان والتقوى يكرهون من الخلفاء أشياء فلا يمدحونهم / ولا يثنون عليهم ولا يحبونهم ، ولا كان أؤلئك يكرهونهم ، ثم إن الخلفاء الراشدين كانوا أبعد – عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم – من سائر الخلفاء ، ثم هؤلاء أسرى المسلمين ملء أيدي النصارى وسائرهم يظهرون دينهم ، فكيف يظن بعلي وبنيه أنهم كانوا أضعف ديناً من الأسرى ومن رعية ملوك الجور ، وقد علمنا بالتواتر أن عليا وبنيه ما أكرههم أحد على ذكر فضل الخلفاء الثلاثة ، وقد كانوا يقولون ذلك ويترحمون عليهم ويتكلمون بذلك مع خاصتهم .(1/65)
فقولك (( فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس للدنيا )) يشير إلى أبي بكر ، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه ، بل قال : قد رضيت لكم إما عمر وإما عبد الرحمن وإما أبا عبيدة ، فقال عمر : فو الله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وإنما اختاره عمر وأبو عبيدة وسائر المسلمين وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )) .
ثم هب أنه طلبها وبايعوه ، فزعمك أنه طلبها وبايعوه للدنيا كذب ظاهر ، فإنه ما أعطاهم دنيا ، وقد كان أنفق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقل ما بيده ، والذين بايعوه أزهد الناس في الدنيا ، قد علم القاضي والداني زهد عمر وأبي عبيدة وأسيد بن خضير وأمثالهم ثم لم يكن عند موت النبي صلى الله عليه وسلم بيت مال يبذله لهم ، ثم كانت سيرته ومذهبه التسوية في قسم الفيء ، وكذلك سيرة علي ، فلو بايعوا علياً أعطاهم كعطاء أبي بكر مع كون قبيلته أشرف من بني تيم ، وله عشيرة وبنو عم هم أشرف الصحابة من حيث النسب كالعباس وأبي سفيان والزبير وعثمان – ابني عمته – وأمثالهم ، وقد كلم أبو سفيان علياً في ذلك ومت بشرفه ، فلم يجبه علي لعلمه ودينه ، فأي رياسة / وأي فائدة دنيوية حصلت لجمهور الأمة بمبايعة أبي بكر ، [لا] سيما وهو يسوي بين كبار السابقين وبين آحاد المسلمين في العطاء ويقول : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله ، وإنما هذا المتاع بلاغ .(1/66)
فأهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى : فإن المسلمين يؤمنون بنبوة عيسى ولا يغلون فيه ولا ينالون منه نيل اليهود ، والنصارى تغلو فيه حتى تجعله إلهاً وتفضله على نبينا ، بل تفضل الحواريين على المرسلين ، فكذا الروافض تفضل من قاتل مع علي – كالأشعر ومحمد بن أبي بكر – على أبي بكر وعمر والسابقين ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، بخلاف النصراني ، فدع اليهودي يناظره فإنه لا يقدر أن يجيب اليهودي عن شبهته إلا بما يجيب به المسلم وينقطع : فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد ثم قدح في نبوته بأمر لم يمكنه أن يقول شيئاً إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات لعيسى ، وبعده عن الشبهة أعظم من بعد عيسى عن الشبهة ، ومن هذا أمر السني مع الرافضي في أبي بكر وعلي ، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته ودخوله الجنة إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر ، ، وإلا فمتى أثبت ذلك لعلي وحده خذلته الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد عليهما السلام لم تساعده الأدلة ، فإذا قالت له الخوارج الذين يكفّرون عليا ، والنواصب الذين يفسقونه : إنه كان ظالماً طالباً للدنيا والخلافة وقاتل بالسيف عليها وقتل في ذلك ألوفاً مؤلفة من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالخلافة وتفرق عليه أصحابه وكفروا به وقاتلوه يوم النهروان فهذا الكلام إن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في أبي بكر أعظم فساداً / فإن كان كلامكم في أبي بكر وعمر متوجهاً فهذا مثله وأولى . لما ذهب أبو بكر بن الباقلاني في السفارة بالقسطنطينية عرفوا قدره وخافوا أن يمتنع من السجود للملك ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل محنياً ، ففطن لها فدخل مستدبراً بعجزه . ولما أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال : ما قيل في امرأة نبيكم ؟ يريد شأن الإفك ، فقال : نعم ، ثنتان رميتا بالزنا إفكاً وكذباً ، مريم(1/67)
وعائشة ، فأما مريم فجاءت بولد وهي عذراء ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج ، فبهت النصراني ، وظهر أن براءة عائشة أظهر من براءة مريم .
فإذا قلت يا رافضي إن أبا بكر ومبايعيه طلبوا الدنيا والرياسة مع كونه بويع باختيارهم بلا سيف ولا عصا ، واستوسق له الأمر فلم يول أحداً من أقاربه ولا خلف لورثته مالاً ، وأنفق مالاً كثيراً في سبيل الله ، وأوصى إلى بيت مالهم بما كان عنده – وهو جرد قطيفة وأمة وبكر ونحو ذلك – حتى قيل : يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك ، وما قتل مسلم على إمارته ، بل قاتل بالمسلمين المرتدين والكفار ، فلما احتُضر استخلف على الأمة القوي الأمين العبقري عمر(4) ، لا لقرابة ولا لنسابة ولا لدنيا ، بل اجتهد للمسلمين فحُمدت فراسته وشكر نظره بالذي افتتح الأمصار ونصب الديوان وملأ بيت المال وعم الناس بالعدل ، مع ملازمته لهدي صاحبه وخشونة عيشه وعدم توليته أقاربه ، ثم ختم الله له بالشهادة ، فإن ساغ للرافضي أن يقول : كل ذا طلب للرياسة والدنيا ، ساغ للناصبي نظير قوله في علي(5) : إنه كان طالباً للرياسة والدنيا ، فقاتل على الإمرة ، ولم يقاتل الكفار ، ولا افتتح مدينة ، فإن قلت : كان مريداً لوجه الله غير مداهن في أمر الله مجتهداً مصيباً وغيره كان مخطئاً ، قلنا : وكذلك مَن قبله / كان أبلغ وأبعد عن شبهة طلب الرياسة ، وأين شبهة أبي موسى الذي وافق عمراً على عزل علىًّ ومعاوية وردّ الأمر شورى(6) من شبهة عبدالله بن سبأ وأمثاله الذين يدّعون عصمته [ أو ألوهيته أو نبوته ، وكل هذا مما يبين عجز الرافضي عن إثبات إيمان عليّ وعدالته مع نفي ذلك عمن قبله ، فإن احتجّ بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر مثل ذلك عن أبي بكر ، وإن قلت كانوا منافقين في الباطن معادين مفسدين للدين بحسب إمكانهم أمكن الخارجي أن يقول في علي ذلك ويقول : كان يحسد ابن عمه ، والعداوة في الأهل ، وأنه كان(1/68)
يريد فساد دينه ، فلما تمكن أراق الدماء وسلك التقية والنفاق ، ولهذا قالت الباطنية من أتباعه عنه أشياء قد أعاذه الله منها كما أعاذ الشيخين ، ثم ما من آية يدّعون أنها مختصة بعلي إلا أمكن اختصاصها بصاحبيه ، فباب الدعوى مفتوح ، وإن ادّعوا ثبوت فضله بالآثار فثبوت فضلهما أكثر وأصح ، وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون عليّ ، أو فقه عمر دون ابن مسعود ، فما له طريق إلا بالظلم والجهل كدأب الرافضة .
ثم تمثيلك ذلك بقصة عمر بن سعد – لما خيّره عبيد الله بن زياد بين حرب الحسين وبين عزله – من أقبح القياس ، فإن عمر بن سعد كان طالباً للرياسة مقدماً على المحرم معروفاً بذلك ، أفيلزم من تمثيلك به أن يكون به السابقون بمثابته ؟(1/69)
وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان أزهد الناس في الإمارة والولاية بعد ما فتح الله على يديه الأمصار ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس بالعقيق في قصره ، وجاءه ابنه هذا فلامه وقال له : الناس يتنازعون الملكَ وأنت هنا! فقال : اذهب ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( إن الله يحب العبد التقي الخفي الغني )) . [ هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما ، وهو الذي فتح العراق وأذل جنود كسرى ، وهو آخر العشرة موتاً ، فإذا لم يحسن أن يشبّه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان ؟ هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمداً ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه(7) ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه(8) . فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شعبة عثمان ومن المنتصرين له ، وسبوا أباه سعداً لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ، هل كانت النواصب – لو فعلت ذلك – إلا من جنس الرافضة ؟ بل الرافضة شرٌ منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم شهيد ، رضي الله تعالى عنهما ، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين ، وعثمان من السابقين الأولين ، وهو خليفة مظلوم طلب منه أن يُعزل بغير حق لم ينعزل ، ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل(9) ، والحسين رضي الله عنه لم يكن متولياً ، وإنما كان طالباً للولاية ، حتى رأى أنها متعذرة ، وطُلب منه أن يستأسر ليُحمل إلى يزيد مأسوراً فلم يجب على ذلك وقاتل حتى قتل مظلوماً شهيداً(10) ، فظلم عثمان كان أعظم ، وصبره وحلمه كان أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد ، ولو مثّل ممثل طلب عليّ والحسين الأمر بطلب الإسماعيلية – كالحاكم وأمثاله – وقال : إن عليا والحسين كانا ظالمين(1/70)
طالبين للرياسة بغير حق بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد أما كان يكون كاذباً مفترياً في ذلك ، لصحة إيمان علي والحسين ودينهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم(11) . وكذلك من شبّه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم ، وأما كان يكون ظالماً كاذباً ؟ فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ثم إن عمر بن سعد – على بعُده / من الخير أعترف بكبير ذنبه وباء بمعصيته ، وهو خير من المختار الكذاب الذي أدعى أن جبريل يأتيه بالوحي ، أظهر الانتصار وتتبع قائليه ، فهذا الشيعي شرُّ من عمر بن سعد ومن الحجاَّج الناصبي ، لأن كذب على الله ورسوله ، [ وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( سيكون في ثقيف كذاب ومبِير )) فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي . ومن المعلوم أن عمر بن سعد – أمير السرية التى قتلت الحسين – مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدنيا لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله ، بل كان هذا أكذب وأعظم ذنباً من عمر ابن سعد ، فهذا الشيعي شرُّ من ذلك الناصبي ، بل والحجاج بن يوسف خيرّ من المختار بن أبي عبيد ، فإن الحجاج كان مُبيراً – كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم – يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذاباً يدعي الوحي وإتيان جبريل إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر ، وإن كان لم يتب منه كان مرتداً والفتنة أعظم من القتل ، وهذا باب مُطَّرد : لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعه بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شرَّ منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شرَّ من النواصب ، والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفقسهم النواصب ، وأما(1/71)
أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ،ويتبرأون من طريقة الروافض والنواصب جميعاً ، ويتولون السابقين الأولين كلهم ، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ، ويرعون حقوق أهل البيت التى شرعها الله ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ، ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين ، ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين : فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيه أحد من الصحابة ، لا عثمان ولا عليّ ولا غيرهما ، وهذا كان متفقاً عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلافّ شاذ لا يعبأ به ، حتى أن الشيعة الأول أصحاب عليّ لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه ، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر )) ، ولكن كانت طائفة من شيعة عليّ تقدّمه على عثمان ، وهذه مسألة أخفى من تلك ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك واحمد بن حنبل والثوري والأوزعي والليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين ، وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن مالك ، وكان طائفة من الكوفيين يقدمون علياً(12) وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري ، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما أجتمع به أيوب السختياني وقال (( من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار )) . وسائر أئمة السنَّة على تقديم عثمان ، وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدّل النص والإجماع والاعتبار ، وأما ما يحكي عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة ، لا تقديماً عاماً ، وكذلك ما ينقل عن بعضهم في عليّ.(1/72)
وأما قوله : (( وبعضهم اشبه الأمر عليه ، ورأى لطالب الدنيا مبايعاً ، فقلَّده وبايعه وقصرَّ في نظره فخفي عليه الحقُ فاستحقَّ المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه)) قال (( وبعضهم قلّد لقصور فطنته ، ورأى الجَّم الغفير فتابعهم وتوهَّم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفَل عن قوله تعالى : { وقليل ماهُمْ } ( ص 24 ) { وليل من عبادي الشكور } ( سبأ 13) .
فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا ، وصنفّ قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه ؛ لأن الشرَّ إما أن يكون لفساد القصد ، وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه ، وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصّر في النظر حين بايع أبا بكر ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب ، وفيهم من عجز عن النظر فقلّد الجَّم الغفير يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر ، فيقال له : هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد ، والرافضة قومُ بُهْتٌ ، فلو طٌلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل . والله تعالى قد حرَّم القولّ بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف ضد ماقاله ! فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد والجهل بالمستحق ، قال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } : ( الإسراء 36 ) . وقال تعالى : { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } ( آل عمران 66 ) فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلاً وعلماً وديناً ؟ وقد قال ابن مسعود : (( إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه على دينه ، فما رآه المسلمون(1/73)
حَسَناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيىء ، وقد رأى أصحاب محمد أن يستخلفوا أب بكر )) وعن ابن مسعود قال : (( مَن كان [ منكم ] مُستناً بمن قد مات ، فإن الحيَّ لا تُؤمَن عليه الفتنة ، أولئك أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا والله افضل هذه الأمة وأبرها وأعمقها علماً وأقلها تكلُّفاً ، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتَّبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم )) رواه ابن بطة بإسناد عن قتادة . وروى هو وغيره عن زر بن حبيش .
فهذا بضدّ ما ادَّعاه هذا الجهل عليهم من طلب الدنيا والجهل والعجز والتفريط ، بل لهم كمال العلم وحسن القصد ، وهم خيرُ القرون ، ولكن ياما فعلَ الجهلُ والرَّفضٌ بأهله فنحمد الله على العافية ، فإن الرفض مأوى شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وأهل الجبل والبوادي والقرامطة الذين ما بينهم وبين العلم معاملة ، قال ابن القاسم(13) : سُئل مالك عن أبي بكر وعمر( 14 )، فقال : (( ما رأيت أحداً ممن أهتدي به يشكُ في تقديمهما )) .
ثم قلت (( وبعضهم – تعني علياً – طلب الأمر لنفسه بحق ، وبايعه الأقلون )) فهذا باطل بلا ريب ، اتفقت السَّنة والشيعةُ على أن علياً لم يدعُ إلى مبايعته إلا بعد مقتل عثمان ، ولا بايعه / أحد إلا ذلك الوقت ، أكثر ما يقال كان فيهم من يختار مبايعته .(1/74)
قال : (( وإنما كان مذهبنا واجب الاَّتباع لأنه أحقٌ المذاهب وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل وأعظمها تنزيهاً لله ولرسوله وأوصيائه ، اعتقدا أن الله هو المخصوص بالقدم وانه ليس بجسم ، ولا في مكان وإلا لكان مُحدثاً )) إلى أن قال : (( وأنه غير مرئيّ بالحواس ولا في جهة ، وأن أمره ونهيه حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه ، وأن الأئمة معصومون – كالأنبياء – من الصغائر والكبائر ، وأخذوا الأحكامَ عن جَدّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفتوا إلى الرأي والقياس والاستحسان )) .
فيقال : ما ذكرتَه لا تعلُّق له بالإمامة ، بل نقول : في مذهب الإمامية من ينكر هذا ، فإن هذا طريقة العقل ، وتعين الإمام طريقة السمع ، ثم ما في هذا من حق فأهل السنة يقولون به ، وما فيه من باطل فمردود ، وغالبه قواعد الجهمية والمعتزلة ، ومضمونه ، أن الله ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ، وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ولا يجبُّ ولا يبغض .
وأما أهل السنة فيثبتون لله ما أثبته لنفسه من الصفات ، وينفون عنه مماثلة المخلوقات : إثبات بلا تشبيه ، وتنزيهٌ بلا تعطيل { ليس كمثله شىءُُ } ( الشورى 11 ) . ردَّا على المشبهة ، { وهو السميع البصيرُ } ردَّاَ على المعطلة .(1/75)
والله منَّزهُ عن مشاركة العبد في خصائصه ، وإذا اتفقنا في مسمى (( الوجود )) و (( العلم )) و (( القدرة )) فهذا المشترك مطلق كلي في الذهن لا وجود له في الخارج ، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه . وهنا زلَّ خلق حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون (( الوجود )) الذي للربّ هو (( الموجود )) الذي للعبد ، فظنت طائفة أن لفظ (( الوجود )) يقال للاشتراك اللفظي ، وكابروا عقولهم . فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم ، كما يقال : الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث . واللفظ المشترك كلفظ (( المشتري )) الواقع / على الكوكب وعلى المبتاع لا ينقسم معناه ولكن يقال : لفظ (( المشتري )) يقال على كذا وعلى كذا . وطائفة طنت أنها إذا سمتْ هذا اللفظ ونحوه مشككاً – لكون الوجود بالواجب أولى منه بالممكن – نجت من هذه الشبهة ، وليس كذلك ، فإن تفاضل المعنى المشترك الكلي لا يمنع أن يكون مشتركاً بين اثنين، وطائفة ظنت أن من قال : الوجود متواطىء عام ، ف: الوجود متواطىء عام ، فنه يقول : وجود الخالق زائد على حقيقته . ومن قال : حقيقته هي وجوده ، قال : إنه مشترك اشتراكاً لفظياً ، فأصل خطأ الناس توهمهم أن هذه الأسماء العامة يكون مسماها المطلق الكلي هو العينة ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين ، وليس كذلك ، فغن ما لا يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً ولا يوجد إلا معيناً مختصاً ، ]وهذه الأسماء إذا سمي الله تعالى بها كان مسماها مختصاً به ، وإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به ، فإذا قيل : قد اشترك في مسمى ( الوجود ) فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو الماهية والحقيقة ، ( قيل : اشتركا ً في الوجود المطلق الذهني ، ولا اشتراكاً في مسمى ) الماهية والحقيقة والذات والنفس ، فالغلط نشأ من جهة أخذ الوجود مطلقاً وأخذ الحقيقة مختصة ، بكل واحد منهما يمكن أخذه مطلقاً ومختصاً : فالمطلق مساو ٍ(1/76)
للمطلق ، والمختص مساوٍ للمختص ، فالوجود المطلق مطابق للحقيقة المطلقة ، والوجود المختص مطابق لحقيقته المختصة ، والمسمى بهذا وهذا واحد وإن تعددت جهة التسمية كما يقال : هذا هو ذاك ، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين .
والمقصود أن إثبات الصفات والأسماء لله لا يستلزم أن يكون الخالق مماثلاً لخلقه ولا مشبهاً لهم ، فهو تعالى موصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته ، وهي قديمة أزلية واجبة يقّم الموصوف ووجوبه ، وهذا حق لا محذور فيه [ فإثبات الأسماء دون الصفات سَفْسَطة في العقليات ، وقَرْمطة في السمعيات ( 15 ). قال الجمهور : هذا خطأ وبدعة ، أعني هذا التقسيم فالذي عليه أهل الحق من السنَّة أنه تعالى / لا يوصف بالجسمية أصلاً ، بل ولا في فطرة العرب العرباء جاهليتها وإسلاميتها أن الله جسم أبداً ( تعالى الله عن ذلك ) .
وقولك (( ليس بجسم )) فالجسم فيه إجمال : قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرَّقة فجمعت ، أو ما يقبل التفريق والانفصال ، أو المركب من مادة وصورة ، والله منَّزه عن ذلك كله ، وقد يراد بالجسم ما يُشار إليه ، أو ما يرى ، او تقوم به الصفات ، فالله يشار إليه في الدعاء وبالقلوب والعيون ، ويٌرى في الآخرة عيانا ، وتقوم به الصفات ، فإن أردتَ (( ليس بجسم )) هذا المعنى ، قيل لك : هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول ، وأنت لم تٌقم دليلاً على نفيه ، وأما اللفظ فبدعةُ نفياً وإثباتاً ، فما في النصوص ولا في قول السلف إطلاق لفظ (( الجسم )) على الله ولا نفيه ( 16 )، وكذلك لفظ (( الجواهر )) و (( المتحيز )) .(1/77)
وكذلك قولك (( لا في مكان )) قد يراد بالمكان ما يحوي الشيء ويحيط به ويحتاج إليه ، وقد يراد به ما فوق العالم وإن يكن أمراً موجوداً ، فالأول الله [ منَّزه ] ، والثاني فنعم ، والله فوق خلقه . وإذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق فالخالق بائن من المخلوق . فهو الظاهر ليس فوقه شيء ، وهو فوق سماواته فوق عرشه من خلقه ، كما دل عليه الكتاب والسنة واتفقت عليه الأئمة .
وقولك (( إلا لكان محدثاُ )) أي لو كان جسماً أو في مكان لكان محدثاً ، فما الدليل على ما ادَّعيت ؟ فكأنك اكتفيت بالدليل المشهور لسلفك المعتزلة من انه لو كان جسماً لم يخلٌ عن الحركة والسكون ، وما لم يخلُ عن الحوادث فحادث ، لامتناع حوادث لا أول لها ، ويقولون : لو قام به علم وحياة وقدرة وكلام لكان جسماً . والجواب : إنه عندك حي عليم قدير ، ومع هذا فليس بجسم ، مع أنك لا تعتقل حياً عالماً إلا جسماً فإن كان قولك حقاً أمكن أن يكون له حياة وعلم وأن يكون مبايناً للعالم عالياً عليه وليس بجسم / فإن قلتَ لا أعقل مبايناً عالياً إلا جسماً ، قيل لك : ولا يعقل حيَّ عليم قدير إلا جسم . وأيضاً فإنه ليس إذا كان هذا الحادث ليس بدائم وهذا ليس بدائم باق يجب أن يكون نوع الحوادث ليس دائمة باقية ، وأيضاً فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب ، وذلك ممتنع في صريح العقل ، ولكن على الناس أن يؤمنوا بالله ورسوله ويصدقوه ويطيعوه ، فهذا اصل السعادة كلها ، قال الله تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد }(إبراهيم 1) . فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضي الكمال من إثبات أسمائه وصفاته المقدَّسة على وجه التفصيل ، والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل . فالربُّ تعالى موصوف بنعوت الكمال التي لا غاية فوقها ، منزه عن النقص بكل وجه ، ممتنع أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في(1/78)
الجنة ما لم يخطر على قلب بشر ، فإذا كان هذا في المخلوق فما بالخالق ، وقال ابن عباس : (( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء )) ، فإذا كان المخلوقان متفقين في الإسم مع أن بينهما – في الحقيقة – تبايناً لا يٌعرف قدرٌه في الدنيا فمن المعلوم أن ما يتصف به الربُّ من صفات الكمال أعظُم لما يتصف به العبد.
إلى أن قال شيخنا : فما ثبت عن الرسول وجب الإيمان به ، وما لم يثبت عنه فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم وتُعلم صحة نفيه وإثباته .. فالكلام في الألفاظ المجملة بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والقيل والقال : أكثر اختلاف العقلاء من جهة الاشتراك في الأسماء .(1/79)
ومثبتو الجسم ونفاته موجودون في الشيعة وفي السنة . وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلم الرافضة هشام بن الحكم كذلك نقل ابن حزم وغيره . قال الأشعري في ( مقالات / الإسلاميين ) : اختلف الروافض في التجسيم ، وهم ستُّ فَرِق : فالأولى : الهشامية أصحاب هشام بن الحكم ، يزعمون أن معبودهم جسم ، وله نهاية وحدّ طوله( 17) كعرضه وعمقه ، وأنه نور ساطع كالسبيكة ، يتلألأ كاللؤلؤة المدوَّرة ، ذو لون وطعم وريح ومجسَّه . والفرقة الثانية : زعموا أنه ليس بصورة ولا كالأجسام ، وإنما يذهبون في قولهم (( إنه جسم )) إلى أنه موجود ، وينفون عنه الأجزاء والأبعاض ، ويزعمون أنه على العرش بلا مماسَّة ولا كيف . الفرقة الثالثة من الرافضة : يزعمون أنه على صورة الإنسان ، ويمنعون أن يكون جسماً . الفرقة الرابعة : أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أنه على صورة الإنسان وينكرون ان يكون لحماً ودماً ويقولون : هو نور يتلألأ ، وأنه ذو حواس خمس ، وله يد ورِجْل وأنف وفم وعين ، وسائر حواسّه متغايرة . وحكى أبو عيسى الورَّاق ( 18 ) أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء ، وأن ذلك نور أسود . الفرقة الخامسة : يزعمون أن له ضياء خالصاً ، ونوراً كالمصباح من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد ، وليس بذي صورة ولا اختلاف في الأجزاء . الفرقة السادسة من الرافضة : يزعمون أنه ليس بجسم ولا صورة ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس ، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة . قال الأشعري وهؤلاء قوم من متأخريهم [ فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه ولقد طَّول شيخنا هنا إلى الغاية وأطنب واسهب واحتجَّ بمسألة القدر والرؤية والكلام إلى أن قال :(1/80)
وأما قوله : (( إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الخطأ والسهو والصغائر من أول العمر إلى آخره )) فيقال : الإمامية متنازعون في هذا . قال الشعري في ( المقالات ) : اختلف الروافض في الرسول هل يجوز أن يعصي ؟ ففرقة قالت : يجوز ذلك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عصى في أخذ الفداء يوم بدر . قالوا : والأئمة / لا يجوز عليهم ذلك( 19 ) ، فإن الرسول إذا عصى جاءه الوحي ورجع ، والأئمة لا يوحى إليهم فلا يجوز عليهم سهو ولا غلط ، قال بهذا هشام ابن الحكم ، فنقول : اتفق المسلمون على أنهم( أي الأنبياء ) معصومون فيما يبلغونه ، فلا يُقُّرون على سهو فيه ، وبهذا يحصل المقصود من البعثة . أما وجوب كونه قبل النبوة لا بذنب ولا يخطيء فليس في النبوَّة ما يستلزم هذا ، فمن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يقتل ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه فهو مخالف لما عُلم بالأضرار من الدين . فمن المعلوم أن السابقين أفضل من أولادهم الذين ولدوا في الإسلام ، وهل يشبَّه أبناءَ المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل ؟ وأين المنتقل بنفسه من الكفر إلى الإيمان ومن السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره وتوبته ومفارقته عاداته ومعاداته لرفاقه ، إلى من وجد أبويه واقاربه واهل بلده على دين الإسلام ونشأ في العافية ؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( إنما ينقض عُرَى الإسلام من لم يعرف الجاهلية )) . وقد وعد الله من تاب من الموبقات وآمن وعمل صالحاً بأن يبدل سيئاتهم حسنات . وجمهور الأمة ممن يقول بجواز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام يقولون : هم معصومون من الإقرار عليها ، فما يزدادون بالتوبة إلا كمالاً ، والنصوص والآثار وإجماع السلف مع الجمهور والمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ، كقولهم في { ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك } ( الفتح 2 ) أي ذنب آدم ! { وما تأخر } ذنب(1/81)
أمتك ! فأما آدم فنبيَّ كريم ، فوقعوا فيما فّروا منه ، فنفوا الذنب عن بنينا والصقوه بآدم ، ثم إن آدم تاب الله عليه قبل أن يهبط / إلى الأرض ، وقبل أن يولد نوحّ وإبراهيم ، والله يقول : { ولا تزر وازرة وزر اخرى } ( الأنعام 164 ،الإسراء 15 ، فاطر 18 ، الزمر 7 ، النجم 38 ) . فكيف يضاف ذنب هذا إلى ذنب هذا ؟ ثم إن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه : يا رسول الله ، هذا لكَ ، فما لنا ؟ فأنزل الله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } ( الفتح 4 ) . ثم كيف يقول من له مُسْكَة عقل : إن الله غفر ذنوب أمته جميعا( 20 ) . وقد علم أن منهم من يدخل النار بذنوبه ، فأين المغفرة ؟
وأما قولك (( إن هذا ينفي الوثوق بهم ويوجب التنفير )) فليس بصحيح ، بل إذا اعترف الكبير بما هو عليه من الحاجة إلى توبته ومغفرة الله ورحمته : دلَّ ذلك على صدقه وتواضعه وبٌعدِه من الكبر والكذب ، بخلاف من يقول : مالي حاجة إلى شيء من هذا فما صدر مني ما يحوجني إلى مغفرة ولا توبة ، فإن مثل هذا إذا عُرف من رجل نسبه الناس إلى الكبر والجهل والكذب ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله )) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )) . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري [ وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدّي ، وخطأي وعمدي ، وكل ذلك عندي )) متفق عليه ، وقال عليه السلام : (( كل بني آدم خطَّاء وخير الخطّائين التوابون )) .(1/82)
وما ذكرته من عدم الوثوق والتنفير يحصل مع الإصرار والإكثار ، لا مع ندور الذنوب المتبوعة بكثرة الاستغفار والتوبة ، أما من ادَّعى البراءة والسلامة فما أحوجه إلى الرجوع إلى الله والتوبة والإنابة ، وما علمنا أن بني إسرائيل ولا غيرَهم قدحوا في نبيّ من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور .
إلى أن قال : فأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوَّة وبعدها لا يقع منه خطأ / ولا ذنب صغير ، وكذلك الاثنا عشر ، فهذا مما انفردوا به عن الأمة كلها ، وقد كان عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة . وقال بعض المشايخ : لو لم تكن التوبة أحبَّ الأشياء إليه ما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ، ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة واشدَّ حذراً من الذنوب من كثير ممن لم يبتل بذنب ، فمن جعل التائب – الذي اجتباه الله وهداه – منقوصاً فهو جاهل .
وقولك (( والأئمة معصومون كالأنبياء )) فهذه خاصًّةُ الرافضة الإمامية التي ما شركهم فيها أحد ، إلا من هو شرُّ منهم كالإسماعيلية القائلين بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ( 21 )، قالوا : بأن الإمامية بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر ، وهم ملاحدة زنادقة .
وأما قولك (( لا يجوز على الأنبياء سهو )) فما علمت أحداً قاله .(1/83)
وأما أخذ المعصومين عن جدّهم ، فيقال أولاً : القومُ إنما تعلموا حديثَ جدّهم من العلماء ، وهذا متواتر ، فعليّ بن الحسين يروي عن أبان بن عثمان عن أسامة بن زيد ، ومحمد بن علي يروي عن جابر وغيره . وثانيا : فما فيهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا عليّ ووالداه ، وهذا عليُّ يقول : (( إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لأَنْ أخرَّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليَّ من ان أكذب عليه ، وإذا حدَّثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة )) ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ، وكتب الشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عن الأئمة .(1/84)
وقولك إنكم تتناقلون ذلك خَلفاً عن سَلَف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين ، فإن كان ما تقول حقاً فالنقل عن المعصوم الواحد كافٍ ، فأي حاجة في كل زمان إلى معصوم ؟ وإذا كان النقل كافياً موجوداً فأَّيُّ فائدة في المنتظر الذي لا ينقل / عنه كلمة ؟ وإن لم يكن النقل كافياً فأنتم في نقصان وجهل من أربعمائة وستين سنة . ثم الكذب من الرافضة على هؤلاء يتجاوزون [ به ] الحدّ ، لا سيما على جعفر الصادق ، حتى كذبوا عليه كتاب الجِفْر ، والبطاقة ، وكتاب اختلاج الأعضاء ، وأحكام الرُّعود والبروق ، ومنافع القرآن ، وصارت هذه معايش للطرقية ، فكيف يثق القلب بنقل [ من كثر منهم الكذب إن لم يعلم صدق الناقل واتصال السند [ وقد تعدى شرُّهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهلُ المدينة يتوقَّون أحاديثهم . وكان مالك : يقول (( نزّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب : لا تصدقوهم ولا تكذبوهم )) . وقال له عبدالرحمن بن مهدي( 22) : (( يا أبا عبدالله ، سمعنا في بلدكم أربعمائة حديث في أربعين يوماً ، ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله )) . فقال له (( يا عبد الرحمن ، من أين لنا دار الضرب التى عندكم ؟ دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار )) . ومع هذا أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير . ومن كثرة الكذب – الذي كان أكثره في الشيعة – صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا ، بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل إلى بلد نصفُ أهله كذّابون خوّانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصّدُّق الثقة ، وبمنزلة الدراهم التى كثر فيها الغشّ يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقّاداً . ولهذا كُرِه – لمن لا يكون له نقد وتمييز – النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلالُ في الآراء ، ككتب البدع وكُره تلقي العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقاً كثيراً ، فالرافضة أكذبُ من(1/85)
كلّ طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال ] .
وقولك (( فلم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرّموا القياس )) فالشيعة في هذا كالسنة : فيهم أهل رأي وأهل قياس ، وفي السنة من لا يرى ذلك . والمعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس ، وخلق من المحدّثين يذمُّون القياس . وأيضاً فالقول بالرأي والقياس خير من الأخذ بما ينقله من عرف بالكذب نقلَ غير مصدَّقٍ عن قائلٍ غير معصوم . ولا ريب أن الاجتهاد في تحقيق الأئمة الكبار لمناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خيرُ من التمسك بنقل الرافضة عن العسكريين( 23 ) فإن مالكاً والليث والأوزعي والثوريَّ وأبا حنيفة والشافعيَّ وأحمد وأمثالهم رصي الله عنهم أعلم من العسكريَّيْن بدين الله [ والواجب على مثل العسكريين من الواحد من هؤلاء . ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء ، وأن من بعدهم لم يٌعرف عنه من العلم ما عٌرف عن هؤلاء ، ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم .
قال: (( أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب ، فال [ بعضهم – وهم جماعة من الأشاغرة – إن القدماء كثيرون مع الله وهي المعاني التى يثبتونها في الخارج ، القدرة والعلم وغير ذلك ، فجعلوه مفتقراً في كونه (( عالماً )) إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه (( قادراً )) إلى ثبوت معنى هو القدرة ، وغير ذلك . ولم يجعلوه قادراً لذاته ، ولا عالماً لذاته ولا حياً لذاته ، بل لمعانٍ قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها . وأعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال : النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة ، والأشاغرة اثبتوا قدماء تسعة )) .(1/86)
فيقال : الكلام على هذا من وجوه : ( أحدها ) / أن هذا كذبّ على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله كامل بغيره ، ولا قال الرازي ما ذكرته ، بل ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره ، وهو اعتراض قديم من اعتراضات نُفاة الصفات ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية ثم قال (( لا تقول : إن الله لم يزل ونوره . بل نقول : لم يَزل الله بقدرته ونوره ، لا متى قدر ولا كيف قدر . فقالوا : لا تكونون موحدين حتى تقولوا كان الله ولا شيء . فقلنا : نحن نقول قد كان الله ولا شيء ، ولكن إذ قلنا إن الله لم يَزل بصفاته كلها أليس إنما تصف إلَها واحداً بجميع صفاته ؟ وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا : أخبرونا عن هذه النخلة : أليس لها جِذْع وكَرَب وليف وسعف وخوص وجٌماّر واسمها اسم واحد ، وسميت (( نخلة )) بجميع صفاتها ، فكذلك الله – وله المثَل الأعلىَ – بجميع صفاته إله واحد ، لا نقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة ، ولا كان ولا يعلم حتى خلق لنفسه علماً ، والذي لا يقدر ولا يعلم عاجز جاهل ، ولكن نقول : لم يَزل اله عالماً ومالكاً ، لا متى ولا كيف ( الثاني ) : أن يقال : هذا القول المذكور ليس قول الأشعرية كلهم ، وإنما هو قول مثبتي الحال منهم الذين يقولون : (( إن العالمية )) حال معللة بالعلم ، فيجعلون العلم يوجب حالا آخر ليس هو (( العلم )) بل هو (( كونه عالماً )) ، وهذا قول الباقلاني والقاضي أبي يعلىَ وأوَّل قولي أبي المعالي . وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون : إن العلم هو كونه [ عالماً ] ، ويقولون لا يكون عالماً إلا بعلم ، ولا قادراً إلا بقدرة ، أي يمتنع أن يكون عالماً من لا علم له او قادراً من لا قدر له أو حياً من لا حياة له ، فإن وجود اسم الفاعل بدون / المصدر ممتنع ، وهذا كما لو قيل : مصلٍّ بلا صلاة ، وصائم بلا صيام ، وناطق بلا نطق . فإذا قيل : لا يكون مصلٍّ إلا بصلاة لم يكن المراد هنا شيئين(1/87)
أحدهما : الصلاة والثاني : حال معلل بالصلاة ، بل المصلي لابد أن يكون له صلاة . وهم أنكروا قول نٌفاة الصفات الذين يقولون : هو حَّي لا حياة له وعالم له وقادر لا قدرة له . فمن قال : هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لم يحتج في ذلك إلى غيره . ومَن تدبَّر كلام هؤلاء وجدَهم مضطرين إلى إثبات الصفات ، وأنهم لا يمكنهم أن يفرقوا بين قولهم المثبتة بفرق محقق ، لأنهم أثبتوا كونه تعالى حياً وكونه عالماً وكونه قادراً ولا يجعلون هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ، ولا هذه الأمور هذه الذات ، فقد أثبتوا معاني زائدة على الذات المجردة فقولك (( أثبتوا قدماء كثيرة )) لفظ مجمل يوهم أنهم أثبتوا آلهة غير الله في الأزل ، وأثبتوا مع الله غيره ، وهذا بهتان عليهم . وإنما أثبتوا صفات قائمةً به قديمة بقَدمه ، فهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسط؟ ! واسم (( الله )) يتناول الذات المتصفة بالصفات ، ,ليس هو أسماً للذات المجردة .
----------------------------------------------
( 1 ) مالك هو أبو وقاص والد سعد بن أبي وقاص فاتح العراق وأحد العشر المبشرين بالجنة .(1/88)
( 2 ) وفي كتبهم العلمية التى كان ينبغي لهم أن يترفعوا فيها عن الحماقة والمهاترات يسمون أبا بكر وعمر ( الجبت ) و( الطاغوت ) ! مع انه ثبت في التاريخ الممحص أن عليا رضي الله عنه أعلن على منبر الكوفة غير مرة وسمعه الألوف وروي عنه من وجوه تبلغ حد التواتر أنه قال (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )) . نقل المامقاني ( في 1 : 207 المقدمة ) من كتابه : (( تنقيح المقال )) في الحديث العاشر من الأحاديث الشيعية التى أوردها استدلالا على تضليل غير الإمامين وتأثيمهم بل على كفرهم قال : ( العاشر ) ما نقله محمد بن إدريس الحليّ في آخر ( السرائر ) عن كتاب ( مسائل الرجال ومكاتباتهم إلى مولانا أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى ) في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى قال : كتبت إليه أسأله عن ( الناصب ) هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه ( الجبت ) و ( الطاغوت ) واعتقاد إمامهما ؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو ( ناصب ) . ومن تلك الأحاديث ما رواه سليمان بن خالد في ( الحديث الثاني ) عن أبي عبدالله ( بعنى جعفر الصادق ) قال : (( أهل الشام شر من أهل الروم ، وأهل المدينة شر من أهل مكة ، وأهل مكة يكفرون بالله جهرة )) . ولا شك أن أبا عبدالله من وصم أمة محمد بجملتها بأنها كافرة ، وسليمان بن خالد يكذب عليه لأنهم هكذا أرادوا أن تكون نحلتهم . وفي ( الحديث الحادي عشر ) عن أبي حمزة الشمالي قال : (( قال لنا علي بن الحسين : أي البقاع أفضل ؟ قلت : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، قال إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أن رجلاً عمر عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينتفع بذلك شيئا )) . ومن شروط ولايتهم عند الشيعة تسمية أبى بكر وعمر ( الجبت ) و ( الطاغوت ) ، وتكفير من لا يكفر بإمامتهم ، وحكمة الله في ذلك هي – كما فهمته أم المؤمنين(1/89)
عائشة عن ربها – أن أبا بكر وعمر والصحابة لما ماتوا وانقطعت حسناتهم قبض الله لهم من ذرية المجوس من يقف منهم هذا الموقف لئلا ينقطع عنهم الأجر ، ومما يذكر لهذه المناسبة دعاء الشيعة الذي يسمونه ( دعاء صنمي قريش) ، ولعل فرصة أخرى في هذا الكتاب تتسع للحديث عن هذا الدعاء الفاجر .
( 3 ) وهذا الحديث من أعلام النبوة ، فقد مضت ثمان وستون سنة وثلاثمائة وألف والمسلمون مكتفون في أمر الذين بايعوا تحت الشجرة بشهادة الله عز وجل لهم في قوله : { لقدر رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } ( الفتح 18 ) ثم نجم في عصرنا جاهل أحمق أعمى لم يخجل من أن يشكك الناس في إيمان صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقيه في الدنيا والآخرة فقال عنها في ص 63 – 64 ، من الجزء الأول من كتابه ( إحياء الشريعة في مذهب الشيعة ) ما نصه بالحرف الواحد : (( وإن قالوا إن أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الذين نص على الرضا عنهم في القرآن في قوله في هذه السورة { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } قلنا : لو أنه قال (( لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة )) أو (( عن الذين بايعوك )) لكان في الآية دلالة على الرضا عن كل من بايع ، ولكن لما قال { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك } فلا دلالة فيها إلا على الرضا عمن محض الإيمان )) . فقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه بصحيح مسلم (( لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار )) هو كالحجر في فم الأعمى من دينه وفهمه وأدبه أن زعم أن آية الغر لم تنزل مدحاً في أبي بكر بل ذماً فيه ! وهذا الرجل من مجتهدي الشيعة ، فكيف بالذين لم يبلغوا منهم درجة الجهاد!(1/90)
( 4 ) وصف الفاروق عمر بالقوي الأمين أطلقه عليه أخوه علي بن أبي طالب لما كان قائما في الشمس يباشر إبل الصدقة وعثمان وعلي من ورائه يساعدانه ، فقال علي لعثمان متمثلا بالآية { إن خير من استأجرت القوي الأمين } وأشار إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين . أما وصف بالعبقري فمأخوذ من الرؤيا النبوية التي تقدمت في ص60 وفيها يقول صلى الله عليه وسلم (( ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غرباً ، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه )) وإن التاريخ إذ يسجل هاتين الشهادتين لرمز العدالة في الإسلام – بل البشر – يقول لشانئية : موتوا بغيظكم ، إنكم لا تشنأون أبا بكر وعمر ، بل تشنأون الإسلام الذي يمثله أبا بكر وعمر ، بل تشنأون الإنسانية التي تدّعون الانتساب إليها .
( 5 ) كما أن النصراني الأحمق الذي عرض بعائشة لأبي بكر الباقلاني في القسطنطينية كانت حماقته شؤماً على أهل ملته ، فإن حماقة هؤلاء الشيعة شؤم على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ، بل هم بموقفهم من صفوة البشر أصحاب رسول الله يحاولون أن يستفزوا عارفي أقدارهم في الخوض في المقارنة والمفاضلة ، وإن علياً وبنيه أكرم على أهل السنة من أن يستدرجهم المجوس إلى النزول في هذا الميدان ، ونحن كما نقول في رسل الله ما أمرنا الله فيهم { لا نفرق بين أحد من رسله } نقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصفهم به جلّ ثناؤه في قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } .
( 6 ) هذا هو الحق في قضية التحكيم ، فقد اتفق عمرو وأبو موسى ، على رد الأمر شورى بين كبار الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، كما أوضحنا ذلك بدلائله في التعليقات على العواصم من القواصم ( ص 172 – 181 ) وسنعود إلى تقرير هذه الحقائق العظيمة في موضعها من هذا الكتاب
( 7 ) لأنه تزوج أمه بعد وفاة زوجها الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/91)
( 8 ) وقد تقدم في ص 69 نقلا عن اكبر كتبهم في الجرح والتعديل أنهم يسمونه ( الجبت ) ويسمون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( الطاغوت ) ، فإذا كان رمز العدالة في تاريخ الإنسانية الذي أعز الله به الإسلام بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( طاغوتاً ) فأين يذهب سائر الناس ؟ ! إنهم لا يشنأون أبا بكر وعمر ، وإنما يشنأون الإسلام الذي قام على كاهليهما وذلك اخترعوا إسلاماً آخر غير الذي كان يعرفه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وبنوهما . وانظر لإثبات هذه الحقيقة كتاب مختصر التحفة الأثنى عشرية .
( 9 ) أنظر لقضية عثمان كتاب ( العواصم من القواصم ) بتعليقاتنا من ص 52 إلى ص 147 .
( 10 ) أنظر لقضية الحسين مقالة لنا عنوانها (( من هم قتلة الحسين السبط )) في جزء المحرم 1267 من صحيفة ( الفتح ) العدد 851 .
( 11 ) أنظر لبني عبيد واصل مذهبهم وتاريخ نشأتهم مقالة لنا في مجلة الأزهر ( م 25 ج 5 جمادى الأولى 1373 ص 612 – 631 ) (( من هم العبيديون ، ولماذا أحرقوا مدينة الفسطاط ؟ )) .
( 12 ) أي على عثمان ، مع قولهم بقول علي (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )) .
( 13 ) هو الإمام عبدالرحمن بن القاسم ( 132 – 191 ) أحد أعلام الفسطاط ، وتلميذ إمام دار الهجرة مالك بن انس ( 93 – 179 ) ، وناشر علمه في الدنيا ، وعنه تلقى المدونة أسد بن الفرات ( 143 – 213 ) ورحل بها إلى القيروان سنة 181 . أنظر لذلك مقالتنا (( مع الرعيل الأول )) في مجلة الأزهر ( م 25 ج 9 ص 996 – 997 رمضان سنة 1373 ) .
( 14 ) من قوله (( قال ابن القاسم )) إلى هنا مخروم من نسخة منهاج السنة طبع بولاق 1: 168 السطر 10 فيكمله من هذا المختصر من كان عنده نسخة الأصل .(1/92)
( 15 ) السفسطة مذهب فلسفي ظهر في البيئة اليونانية ويسمى أهله (( السوفسطائية )) وهم يمارون في حقائق الأمور ويسرفون في المغالطة وسيأتي كلام لشيخ الإسلام في هذا الكتاب عن السفسطة في ص 66 من الصورة الشمسية المختصرة . والقرموطة مذهب باطني ظهر في البيئة الإسماعيلية المشتقة من نزعة التشيع ، ويسمى أهلها (( القرامطة )) وهم في أصلهم الإسماعيلي والشيعي يمارون في مدلولات النصوص ، ويزعمون أن لها معاني غير التى يفهمها الذين وردت النصوص بلغتهم . والفقرة منقولة من الأصل 1 : 180 .
( 16 ) كل ما يتعلق بأمر الغيب يجب على المسلم أن لا يتحدث عنه – نفياً أو إثباتاً – إلا بالألفاظ الشرعية المنصوص عليها ، وأن يلتزم في ذلك ما كان يلتزمه سلف الأمة . وفي المناظرة التى وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره في مجلس نائب السلطنة الأفرم بدمشق سنة 705 أخذ مناظروه يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ، فأشار شيخ الإسلام إلى رسالته (( العقيدة الواسطية )) وقال : قولي فيها (( من غير تكييف ولا تمثيل )) ينفي كل باطل ، وإنما اخترتُ هذين الاسمين ( أي التكييف والتمثيل ، دون التشبيه والتجسيم ) لأن (( التكييف )) مأثور نفيه عن السلف ، كما قال ربيعه ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التى تلقاها العلماء بالقبول . (( الاستواء معلوم ، و ( الكيف ) مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة )) فشيخ الإسلام يجيب في العقيدة وفي سائر كتبه استعمال لفظ ( التجسيم ) فضلاً عن ( الجسم ) فيقول في تنزيه الله عز وجل (( من غير تكييف ولا تمثيل )) التزاماً منه للاصطلاحات الشرعية الأولى واتباعاً للسلف في طريقتهم ، وكل ما لم يرد به النص من الألفاظ المتعلقة بأمور الغيب لا يستبيح استعمالها إثباتا ولا نفيا .
( 17 ) وأنظر مختصر التحفة الأثنى عشرية ص 63 و 69 .(1/93)
( 18 ) اسمه محمد بن هارون ، أحد تكلمي الشيعة ، ويرميه المعتزلة بما يرمون به ابن الراوندي ، لم أقف على تحديد زمنه ، ولعله أدرك زمن الرشيد ، وما حكاه عنه أبو الحسن الشعري في إلحاد هشام بن سالم الجواليقي وكفره حجة لا يستطيع الروافضي أن يماروا فيها لأن الشاهد والمشهود عليه منهم ، ولعل أبا عيسى الوراق الرافضي يرمي بإشاعته الفاحشة عن هشام ابن سالم أن يدعو الناس إلى القول بها ، وحينئذٍ يكون المعتزلة على صواب في رمي أبي عيسى الوراق بما يرمون به ابن الراوندي . وانظر لأبي عيسى الوراق كتاب ( طريق الهجرتين ) لأبن القيم ص 198 الطبعة الأولى ، وص 157 من طبعة السلفية
( 19) أي أن عصمة الأئمة من عصمة النبي صلى الله عليه وسلم . أما اعتذارهم بأن النبي يوحي إليه فيرجع عن المعصية فهو اعتذار للتمويه ، وقد حفظ الناس عن صناديد الرفض أقوالا كثيرة في دعوى الوحي للأمة ، وفي بخاريهم الذي يسمونه الكافي للكليني دعوى علم الأئمة بالغيب ، وما من شيعي اليوم ويعتقد في قبور الأئمة أنها مهابط الوحي مع ان الذي فيها رمم أموات وبعضها لم يدفن فيه أحد من الأئمة . فإذا كانت هذه القبور مهابط الوحي وليس فيها إلا رمم قد تكون لغير الأئمة – كما يقال عن القبر المنسوب للإمام علي أنه للمغيرة بن شعبة رضي الله عن الجميع – فكيف ننتظر من عبّادها أن يميزوا بين النبي والأئمة في أمر الوحي ؟ إن الاعتذار للتمويه كما قلنا . ثم إنهم يزعمون أن العصمة للأنبياء من أول العمر إلى آخره . أي من قبل بعثتهم ، فأين هو الوحي حينئذ ؟
( 20 ) هذا تبكيت للذين فسروا آية { ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } . بأن الله غفر لمحمد صلى الله عليه وسلم ذنب وذنوب أمة محمد .
( 21 ) أنظر لحقيقة هذه النسبة مقالتنا ( من هم العبيديون ؟ ) في مجلة الأزهر م 25 ج 5 جمادى الأولى 1373 ص 613 – 616 .(1/94)
( 22 ) هو أبو سعيد اللؤلؤي البصري ( 135 – 198 ) الحافظ الإمام العلم ، من تلاميذ شعبة أبن الحجاج وسفيان الثوري ومالك ، وأخذ عنه ابن المبارك وأحمد ، وكان من أعلم الناس بالحديث ، وكان يحج كل سنة ، ويختم القرآن في كل ليلتين .
( 23 ) الحسن العسكري وابنه الموهوم ، ويروون عن الموهوم فتاوى الرقاع أنظر مجلة ( الفتح ) 844 جمادى الآخرة 1366 ، ومختصر التحفة الأثنى عشرية ص 48 .
الفصل الثالث
في إمامة عليّ رضي الله عنه(1/95)
قال الرافضي : (( إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى ، قد رواها الموافق والمخالف ، وأراوا الجمهور قد نقلوا عن غيره مطاعن ولم ينقلوا في عليّ طعنا ، اتبعوه وجعلوه إماماً لهم وتركوا غيره. فنذكر منها شيئاً يسيراً مما هو صحيح عندهم ! ليكن حجة عليهم يوم القيامة ، فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في الجمع بين الصحاح الستة عن أم سلمه أن قوله تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت }( الأحزاب 33 ) نزلت في بيتها وهي جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ألست من اهل البيت ؟ فقال : (( إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم )) ، قالت : وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فجلَّلهم [ بكساء ] ( 1 ) وقال : (( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهبْ عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً )) . فنقول : الأحاديث الثابتة في الفضائل لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم [ من الفضائل الثابتة لعلي ] ( 1 ) . ثم أكثر الأحاديث التى أوردها [ وذكر أنها ] ( 1 ) في معتمد قول الجمهور من أبين الكذب [ على علماء الجمهور ] ( 1 ) ، ما صحَّ منها فيه ما يدل على فضل عليّ علىَ أبي بكر وغيرُ عليّ فيها مشارك ، وأما فضائل الشيخين فخصائص [ لهما لا سيما فضائل أبي بكر فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره] ( 1 ) [ وأما ما ذكره من ] ( 2 ) المطاعن فلا يمكنه أن يوجه على الثلاثة من مطعن إلا وَجَّه الناصبيُّ على عليّ مثله.[ وأما قوله : (( إنهم جعلوه إماماً لهم حيث نزهه المخالف والموافق ، وتركوا غيره يروي فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته )) فيقال : هذا كذبُ بيّن ، فإن علياً رضي الله عنه لم ينّزهه المخالفون بل القادحون في عليّ طوائفُ متعددة ، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان ?ماماً معصوماً( 4 ) ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليس في الأمة من يقدح فيهما إلا الرافضة( 5 ) ، والخوارج(1/96)
المكفرون لعليّ يوالون أبا بكر ويترضَّون عنهما ، والروانية الذين ينسبون علياً إلى الظلم ويقولون إنه لم يكن خليفة ، يوالون أبا بكر وعمر مع انهما ليسا من أقاربهما ، فكيف يقال - مع هذا - إن علياً نزهه الموافق والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟ ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وافضل ، وأن القادحين في عليّ حتى بالكفر والفسوق طوائف معروفة ، وهم أعلم من الرافضة واديَّن ، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً ، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم ، والذين قدحوا في عليّ رضي الله عنه وجعلوه كافراً وظالماً ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام ، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة ، كالغالية الذين يدَّعون إلهيته من النصيرية وغيرهم( 6 ) وكالاسماعيلية الملاحدة الذين هم شرَّ من النصيرية( 7 ) وكالغالية يدَّعون نبوته( 8 ) ، فإن هؤلاء كفار مرتدّون ، كفرهُهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام ، فمن اعتقد في بشر الإلهية ، او اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً( 9 ) .... فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن لم يعرف الإسلام أدنى معرفة ، بخلاف من يكفّر علياً ويلعنه من الخوارج ، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبنى مروان وغيرهم ، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرَّم الله ورسوله ، وليس فيهم كفر ظاهر ، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظَّمة عندهم ، وهذا أمر يعرفه كل من يعرف من عرف أحوال الإسلام ، فكيف يدَّعى - مع هذا - ان جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة ، بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان ، والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون علياً ، وجد هؤلاء خيراً من أولئك من وجوه متعددة ... ولو تخلى أهل السنة عن موالاة عليّ رضي الله عنه(1/97)
... لم يكن في المتوالين له من يقدر المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية ، فإن هؤلاء طوائف كثيرة ، ومعلوم أن شرَّ الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفّروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلوا قتله تقرباَ إلى الله تعالى ، حتى قال شاعر هم عمران بن حطان :
يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها إلا ليبلُغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكرُهُ يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
فعارضه شاعرُ أهل السنة فقال :
يا ضربةً من شقيّ ما أراد بها إلا ليبلُغ من ذي العرش خٌسراناً
إني لأذكره يوماً فألعنه لعناً وألعن عِمرانَ بن حِطَاناً
وهؤلاء الخوارج .. كانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم ، والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم ، ومع هذا فلم يكفرهم ، ولا كفرهم علّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأما الغالبية في عليّ رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفَّرهم عليُّ بن أبى طالب نفسه وحرَّقهم بالنار .. وأما الخوارج فلم يقاتلهم عليُّ حتى قتلوا واحداً من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها ، فأولئك( 10 ) حكم فيهم عليّ وسائر الصحابة بحكم المرتدّين وهؤلاء لم يحكموا فيهم بحكم المرتدّين ، وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبى بكر وعثمان يوجد فيهم من الشرّ والكفر - باتفاق عليَّ وجميع الصحابة - مالا يوجد في الذين عادوا وكفَّروه ، وتبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شرَّ - عند عليّ وجميع الصحابة - من جنس المبغضين لعليّ ] ( 11 ) .(1/98)
وحديث الكساء صححه الترمذي ، وأما مسلم فأخرجه من حديث عائشة قالت : ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرطُ [ مرحَّل ] ( 12 ) من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء عليّ فأدخله ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } الآية )) . [ وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم ، فليس هو من خصائصه ، ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة ، فُعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة ، بل يشركهم فيها غيرهم ] ( 13 ) ومضمونه الدعوة بأن يذهب الله عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً ، والصديق قد أخبر الله عنه ( في سورة الليل 17 - 18 ) ، أنه { الأتقى * الذي يؤت ماله يتزكى } ، وما دخل عليّ في الأتقى حينئذ لأنه لم يكن له مال حينئذ ، بل دخل فيها إذ فتحت خيبر وصار ذا مال .
قال : وفي قوله تعالى { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة } ( المجادلة 12 ) ، قال علي : (( ما عمل بهذه الآية غيري )) . فيقال : الآمر بالصدقة لم يكن واجباً على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه ،وإنما أمر بها من أراد النجوى ، فاتفق أنه لم يُرد النجوى حينئذ إلا علي / فتصدق لأجلها ، وهذا كجواب الهَدْي لمن أراد المتعة( 14 ) ووجوبه على من أحصير( 15 ) ، ووجوب الفدية على من به أذى( 16 ) ووجوب الكفارة على من حنث( 17 ) ، ثم لم تطل مدة المر بالصدقة عند النجوى ، فلما اتفق ذلك إلا لعليّ رضي الله عنه فتصدق بدرهمين أو نحوهما ، وهذا أبو بكر قد تصدق مرة بماله كله واتى به النبي صل ، ولو أشاء لبتُ في المسجد . وقال علي : لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فنزلت : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } ( التوبة 19 ) .(1/99)
فيقال : [ هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمد ، بل دلالات الكذب عليه ظاهرة ، منها أن طلحة بن شيبة لا وجود له ، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن [ أبي ] طلحة( 21 ) ، وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح ، ثم فيه قول العباس : لو أشاء بتُ في المسجد ، فأي كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ؟ ثم فيه قول عليّ : صليت ستة اشهر قبل الناس ، فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة ، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوم أو نحوه ، فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر ؟ وأيضاً فلا يقول : أنا صاحب الجهاد وقد شاركه فيه عدد كثير جداً ] ( 22 ) فهذا الحديث موضوع ، ويردُّ عليه ما في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : لا أبالي أن أعمل عملاً بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي أن أعمل عملاً في الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وذكر( 23 ) آخر الجهاد وقال هو أفضل مما قلتم ، فزجوهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلتٌ فاستفتيتهٌ فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } ، فهذا ليس من خصائص عليّ ، إذ الذين آمنوا وجاهدوا كثير ، وقد قال تعالى : { الذين أمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } ( التوبة 20 ) ، ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أبلغُ من جهاد عليّ [ وغيره كما ] ( 23 ) قال النبي صلى الله عليه وسلم [ في الحديث الصحيح ] ( 24 ) (( إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر )) وقال عليه السلام : (( وما نفعني مالُ أبي بكر )) [ وأبو بكر كان مجاهداً بلسانه ويده ، وهو أولُ من دعا إلى الله ، وأول من أُوذي في الله بعد(1/100)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مشاركاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته وجهاده ، حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر ، وحتى إن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لما قال : أفيكم محمد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تجيبوه )) ، . فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فقال النبي صلى اله عليه وسلم : (( لا تجيبوه )) . فقال : أفيكم ابن الخطاب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تجيبوه )) فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه فقال : (( كذبت يا عدو الله ، إن الذي عددت أحياء ، وقد أبقى الله لك ما يحزنك )) . ذكره البخاري وغيره ](25).
قال الرافضي : ومنها ما رواه أحمد بن حنبل أن أنساً قال لسليمان : سَلِ النبي صلى الله عليه وسلم من وصيةٌّ ؟ فسأله فقال : (( يا سليمان مَنْ كان وصيَّ موسى )) ؟ قال : يوشع ، قال (( فإن وصيي ووراثي عليّ )) ( 26 ) .(1/101)
قلنا : [ هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وأحمد قد صنف كتاباً في فضائل الصحابة ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من الصحابة ، وذكر فيه ما روي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك ، وليس كل ما رواه يكون صحيحاً ، ثم إن هذا الكتاب زيادات من رواية ابنه عبدالله ، وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه( 27 ) ، وهذه الزيادات التى زادها القطيعي غالبها كذب كما سيأتي ذكر بعضها ، وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد ، وهؤلاء الرافضة جهال ، إذا رأوا فيه حديثاً ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ويكون القائل لذلك هو القطيعي وشيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد ، وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبدالله لا سيما في مسند علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فإنه زاد زيادات كثيرة ] ( 28 ) فالحديث من كذب الدجاجلة ، ولا حدَّث به - والله - أحمدُ ، فهذا مسنده ، بل وهذا الكتاب الذي وصفه في فضائل الصحابة .
قال : (( وعن يزيد بن أبى مريم عن عليّ قال : انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد رسول الله على منكبي ، فذهبت لأنهض فرأى مني ضعفاً وجلس لي ، فصعدتٌ على منكبه فنهض بي حتى صعدت على البيت ، وعليه تمثال نحاس ، فجعلت أزاوله ، ثم قذفت به فتكسر ، وانطلقنا نستبق حتى توارينا )) .(1/102)
قلنا : إن صح هذا فما فيه شيء من خصائص الأئمة ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامه بنت أبي العاص( 29 ) على منكبيه ، وسجد مرة فجاء الحسن فارتحله [ فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه ، وإنما حمله لعجز عليّ عن حمله ، فهذا يدخل في مناقب رسول الله صلى الله عليه ويلم أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلى الله عليه وسلم ، كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله ، فإن هذا نفع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي صلى الله عليه وسلم وماله ] ( 30 ) .
قال( 31 ) : (( وعن ابن أبي ليلى قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصديقون ثلاثة : حبيب النجار ومؤمن آل فرعون ، وعليّ وهو أفضلهم )) .
قلنا : وهذا كذب ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف أبا بكر بأنه ((صديق)) ، وصح من حديث ابن مسعود مرفوعاً : (( لا يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )) فالصديقون بهذا كثير ، وقال تعالى في مريم وهي امرأة : { وأمهُ صِديقةٌٌ } ( المائدة 75 ) .
قال ( 31 ): (( وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي : أنت مني وأنا منك )) . قلنا : نعم ، أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء [ لما تنازع عليّ وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضى بها لخالتها وكانت تحت جعفر وقال : أنت مني وأنا منك ] ( 32 ) وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ، وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا ، [ لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه ] ( 33 ) وفي الصحيحين من حديث أبى موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأشعريين : (( هم مني وأنا منهم )) ( 34 ) .(1/103)
قال( 25 ) : (( وعن عمرو بن ميمون قال : لعليّ / عشر فضائل ليست لغيره : قال له النبي صلى الله عليه وسلم لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً ، يحبُ الله ورسوله [ ويحبه الله ورسوله ، فاستشرف لها من استشرف ، فقال : أين عليُّ بن أبي طالب ؟ قالوا : هو أرمد في الرحى يطحن وما كان أحد يطحن ، فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر ، قال فنفث في عينيه ، ثم هز الراية ثلاثاً وأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حُيي . قال : ثم بعث أبا بكر بسورة براءة ، فبعث علياً خلفه وقال : لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه ، وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ قال وعليّ جالس معهم فأبوا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، قال فتركه ثم أقبل على رجل رجل منهم فقال : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ فأبوا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، فقال أنت وليي في الدنيا والآخرة . قال : وكان عليّ أول من اسلم من الناس بعد خديجة . قال : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } ، قال وشرى عليّ نفسه ولبس ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه ، وكان المشركين يرمونه بالحجارة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في غزاة تبوك ، فقال له علي : أخرج معك ، فقال : لا ، فبكى عليّ ، فقال له : أما ترضى أن تكون إلا وأنت خليفتي ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت وليي في كل مؤمن بعدي ، قال : وسدَّ أبواب المسجد إلا باب علي ، قال وكان يدخل المسجد جُنٌباً وهو طريقه ليس له طريق غيره ، وقال له : من كنت مولاه فعليّ مولاه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة فسار لها ثلاثاً ثم قال لعليّ : الحقه فردَّه وبلغها أنت ، ففعل ، فلما قدم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم(1/104)
بكى وقال : يا رسول الله حدث في شيء ؟ قال : لا ، ولكن أُمرتٌ أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني )) ( 26 ) .
قلنا : هذا [ الخبر ] مرسل( 27 ) لو ثبت عن عمرو بن ميمون . ومنه ألفاظ منكرة منها : لا ينبغي أن أذهب وأنت خليفتي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف غيره غير مرة .
وكذلك قوله( 28 ) : (( سدوا الأبواب إلا باب عليّ )) فإنه من وضع الشيعة . فإن في الصحيحين من حديث أبي سعيد [ الخدري ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه : (( إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر ، و ] ( 39 ) لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكر ، ولكن أخوَّة الإسلام مودَّته ، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سُدَّتْ إلا خوخة أبي بكر )) . رواه ابن عباس في الصحيحين ومنه قال( 40 ) (( أنت وليي في كل مؤمن بعدي )) فهذا موضوع [ باتفاق أهل المعرفة بالحديث ] ( 41 ) . وباقي الحديث ليس هو من خصائصه ، مثل كوزنه يحب الله ورسوله( 42 ) ، واستخلافه على المدينة( 43 ) ، وكونه بمنزلة هارون من موسى( 44 ) ، ومثل كون براءة لا يبلغها إلا هاشمي إذْ كانت العادة جارية بأنه لا ينقض العهود إلا رجل من قبيلة المطاع( 45 ) .
قال( 40 ) : (( ومنها رواه أخطب خوارزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا علي لو أن عبداً عبدالله مثل ما أقام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهباً فأنفقته في سبيل الله وحج ألف مرة على قدميه ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوماً ثم لم يوالك لم يشمَّ رائحة الجنة ولم يدخلها )) . فيقال : أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب( 46 ) فيه من المكذوبات مالا يوصف وهذا والله منها .(1/105)
قال ( 47 ): (( وقال رجل لسلمان ما أشد حبك لعلي . قال : سمعت نبي الله يقول من أحبه فقد أحبني )) . وعن أنس مرفوعاً : خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة ، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من احب علياً قبل الله منه صلاته وصيامه [ وقيامه واستجاب دعاءه ، ألا ] ( 48 ) ومن أحب عليا أعطاه / الله بكل عِرْق من بدنه مدينة في الجنة ، ألا ومن أحبَّ آل محمد أمن الحساب والميزان والصراط ، [ ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء ] ( 48 ) ، ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : أيس من رحمة الله . وهن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل : بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ قال : خاطبني بلغة عليّ ! فألهمني أن قلت : يارب ، [ أنت ] خاطبتني أم علي ؟ فقال
قلام والبحر مداد والجن حُسّاب والإنس كَّتاب ما أحصوا فضائل عليّ . وقال : إن الله جعل الأجر على فضائل عليّ لا تحصى ، فمن ذكر فضيلة من فضائله فقرأها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر والنظر إلى وجهه عبادة ، وذكره عبادة ، لا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه ، وعن حكيم بن حِزام مرفوعاً : لمبارزة عليّ عمرو ابن ودّ [ يوم الخندق ] ( 49 ) أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة )) .قلنا : هذه الأحاديث - والله العظيم - كذبّ يلعن الله من افتراها ، ولُعن من لا يحبُّ عليا . وأنت( 50 ) قد قدمت أنك لا تذكر إلا ما هو صحيح عندنا ، فمن أين جئت بهذه الخرافات ؟! ولكنا تيقنا بأن الرافضة أجهل الطوائف وأكذبهم ، وأنت زعيمهم وهذا حالهم !(1/106)
قل : (( وعن سعد [ بن أبي وقاص ] ( 49 ) أن معاوية أمره بسب عليّ فأبي ، فقال : ما يمنعك ؟ قال : ثلاث قالهن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن تكون لي واحدة منهم أحب إلى من حُُمر النعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ وقد خلفه في بعض مغازيه فقال : تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدى ، وسمعته يول / : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، فتطاول لها الناس فقال : ادعوا لي علياً فأتاه ، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ففتح الله عليه وأنزلت هذه الآية الكريمة : { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ( آل عمران 61 ) ، فدعا رسول الله علياً وفاطمة والحسن والحسين فقال : هؤلاء أهلي )) .(1/107)
قلنا : أما هذا فصحيح رواه مسلم وسقته بجهلك بين الموضوعات ، كمن نظم درة بين بعر . ولكن هذه المناقب ليست من خصائصه فإنه استخلف جماعة على المدينة ، وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيهه أبي بكر بإبراهيم وعيسى ، وتشبيه عمر بنوح وموسى( 51 ) . [ فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه بأثنين لا بواحد ، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي ، مع أن استخلاف عليّ له فيه أشباه وامثال من الصحابة ، وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه ، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص ] ( 52 ) . وفي الحديث رد على النواصب الذين لا يتلونه ولا يحبونه ، وعلى الخوارج الذين كفروه ، لكن هذا لا يتم على قول الرافضة الذين جعلوا النصوص الدالة على فضل الصحابة كانت فقبل ردتهم ، فإن الخوارج كذا تقول في عليّ ، وهذا باطل( 53 ) ، لأن الله لا يحب ولا يرضى عمن يعلم أنه يموت كافراً ، وكذا المباهلة شاركه فيها والده . فإن قيل : فلم تمنى سعد واحدة منهن ؟ قيل : لأن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ ظاهراً وباطناً بالإيمان ، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد لمعين بشهادة كانت من أعظم مناقبه ، كما صلى صلى الله عليه وسلم على ميت فقال (( اللهم اغفر له ورحمه وعافه واعف عنه .... الخ )) قال عوف بن مالك : فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت . وهذا الدعاء لم يكن مختصاً بذلك الميت .(1/108)
قال : (( وعن عامر بن واثلة قال : قال : قال عليّ يوم الشورى( 54 ) : لأحتجن عليكم بمالا يستطيع أحد تغيير ذلك ، ثم قال : أنشدكم بالله أفيكم أحد وحد الله قبلي ؟ قالوا : اللهم لا .....)) وذكر الحديث بطوله( 55 ) وفيه : (( فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة وجبريل وميكال وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القليب غيري ؟ قالوا : اللهم لا )) / ومنه : (( ما رواه أبو عمر الزاهد عن ابن عباس قال : لعليّ أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره : هو أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف ، وهو الذي صبر معه يوم حنين ، وهو الذي غسله وأدخله قبره . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مررت ليلة المعراج بقوم تشر شر أشداقهم ، فقلت [ يا جبريل ] ( 56 ) من هؤلاء ؟ قال هؤلاء قوم يقطعون الناس بالغيبة ، قال : مررت بقوم قد ضوضوا( 57 ) فقلت لجبريل : من هؤلاء ؟ قال : الكفار . ثم عدلنا عن الطريق ، فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت علياً يصلي ، فقلت : يا جبريل من هذا ؟ عليّ قد سبقنا ؟ قال : لا ، ليس هذا علياً بل اشتاقت الملائكة إلى رؤيته [ لما سمعوا مناقبه وخاصة قول النبي صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ] ( 58 ) فخلق الله ملكاً على صورته . وعن ابن عباس قال : إن المصطفي قال ذات يوم : أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى [ يعني علياً ، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ ] ( 58 ) . وعن ابن عباس قال : رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : من عرفني فقد عرفني ، وأنا أبو ذر ، ولو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ما نفعكم ذلك حتى تحبوا علياً )) .(1/109)
فيقال : حديث واثلة كذب باتفاق الحفاظ ، وما قال عليّ يوم الشورى شيئاً من ذلك ، بل قال عبدالرحمن بن عوف : لئن أمرتك لتعدلن ؟ قال : نعم . قال : وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن ؟ قال : نعم . وقال مثل ذلك لعثمان . ومكث ثلاثة أيام يشاور المسلمين . وأما حديث ابن عباس فباطل ، فلواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مع مصعب بن عمير باتفاق ، ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير ، أخرجه البخاري . ويوم حنين لم يكن أحد أقرب إلى بغلة النبي صلى الله عليه وسلم من عمه العباس [ وأبي سفيان بن الحارث ، والعباس ] ( 59 ) آخذ بركابه ، وأما [ ما ذكره عن ] المعراج فكذب سمج وفيه ما يبين وضعه ، وهو أن الكرويين لما سمعوا مناقبه قول النبي صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون / من موسى اشتاقت إلى علي ، فخلق لها ملكاً على صورة عليّ . فالمعراج كان بمكة من المسجد الحرام( 60 ) وقوله أما ترضى قاله له في غزوة تبوك [ وهي آخر الغزوات سنة تسع ] ( 61 ) ، وكذا خبر (( لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ )) كذب ، و(( الفتى )) ليس من أسماء المدح ولا الذم ، بل هو كقولك : الشاب والكهل ، وقول المشركين : { سمعنا فتى يذكرهم } ( الأنبياء 60 ) ، لم يقصدوا مدحه بذلك ، وحديث مواخاة النبي لعليّ وأبي بكر لعمر من الأكاذيب ، وأنما آخى بين المهاجرين والأنصار( 62 ) ، وذو الفقار سيف كان لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر فلم يكن ذو الفقار يوم بدر من سيوف المسلمين ، وروى أحمد الترمذي من رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل سيفه ذا الفقار يوم بدر ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد النبوة كهلاً( 63 ) . وقول أبي ذر لم يصح ، مع أن حب عليّ فرض ، كما أن حب أبي بكر فرض ، وحب الأنصار فرض ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (( آية الإيمان حب الأنصار )) وفي صحيح مسلم عن عليّ أنه (( لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن(1/110)
ولا يبغضني إلا منافق )) ( 64 ) .
قال : (( ومنها ما نقله صاحب الفردوس عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة ولا تنفع معها حسنة )) ( 65 ) .
قلنا : كتاب الفردوس [ مصنفه شيرويه ] ( 66 ) بن شهريار الديلمي المحدث فيه موضوعات جمة هذا منها ولا يقوله المصطفى المعصوم ، بل هذا المؤمن الذي يحب الله ورسوله ومع ذلك تضره السيئات ويحد في الخمر ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب حمار في الخمر ، فسبه رجل ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( دعه فإنه يحب الله ورسوله )) ( 67 ) . وأيضاً فقد كان أبو طالب يحب ابنه علياً وضره الشرك حتى دخل النار . وهؤلاء الغلاة( 68 ) يزعمون أنهم يحبونه وهم من أهل النار ، وحب الرسول أعظم من حب عليّ ، ويدخل / خلق من محبيه النار ثم يخرجون بشفاعته .
وكذلك الحديث الذي أورده عن ابن مسعود : حب آل محمد يوماً خير من عباده سنة موضوع . وحديث أنا وعليّ حجة الله على خلقه كذب أيضاً ، والله تعالى يقول : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ( النساء 165 ) .
وكذلك قوله : (( لو أجتمع الناس على حب عليّ لم تخلق النار )) فقد رأينا من محبيه من الإسماعيلية وغيرهم خلقاً من طعام ،ونحن نحبه ونخاف النار ، ثم خلق ممن صدق الرسل يدخلون الجنة وما عرفوا علياً .
وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي ، وأنه راية الهدى ، وإمام الأولياء ، والكلمة التى ألزمها للمتقين . فصاحب الحلية قد روى في فضائل الأربعة عدة موضوعات( 69 ) وإنما كلمة التقوى (( لا إله إلا الله( 70 ) )) .
قال الرافضي : (( وأما المطاعن في الجماعة( 71 ) فقد نقل أتباعهم منها كثيراً ، حتى صنف الكلبي كتاباً في مثالب الصحابة )) .(1/111)
قلنا : الكلبي وابنه هشام كذابان رافضيان( 72 ) . [ وإن ما ينقل عن الصحابة من المثالب نوعان : ( أحدهما ) : إما كذب كله ، وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن ، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب ، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب : مثل أبي مخنف لوط بن يحيى( 73 ) ، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس ، وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب . وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي : ما ظننت أن أحداً يحدث عنه إنما هو صاحب سمر ونسب . وقال الدار قطني : متروك . وقال ابن عدي : هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ، ولا أعرف له في المسند شيئاً ، وأبوه أيضاً كذاب . وقال زائدة والليث وسليمان التيمي : هو كذاب . وقال يحيى : ليس بشيء ، كذاب ساقط . وقال ابن حبان : وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه . ( النوع الثاني ) ما هو صدق ، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد التى إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر . وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب ، وما قدر هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فبما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة ، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة : ومنها التوبة الماحية ، وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم ، ومنها الحسنات الماحية للذنوب ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وقد قال تعالى : { إن تجتنبوا كبئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ( النساء 31 ) ، ومنها المصائب المكفرة ، ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض ، وشفاعة نبيهم . فما من ذنب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك ، قهم أحق بكل مدح(1/112)
ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة .
ونحن نذكر ( قاعدة جامعة ) في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول : لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزيئات ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت ، وإلا في كذب وجهل بالجزيئات ، وجهل وظلم في الكليات ، فيتولد فساد عظيم ، والناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم ، تأثيمهم وعدم تأثيمهم ، في مسائل الفروع والأصول ، ونحن أصولاً جامعة نافعة . مسألة فيها نزاع ؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر - ولم يكن هو الحق في نفس الأمر - هل يستحق أن يعاقب أم لا ؟ هذا أصل هذه المسائل . وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال ، كل قول عليه طائفة من النظار : ( الأول ) قول من بقول إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلاً يعرف به يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق ، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه ، ولا لعجزه . وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة ، وهو قول طائفة من أهل الكلام عير هؤلاء .. و( القول الثاني ) في أصل المسألة أن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق ، وقد يعجز عن ذلك . لكن إن عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله وقد لا يعاقبه ، وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة ...و( القول الثالث ) في هذا الأصل أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأموراً أو فعل محظوراً . وهذا هو قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين ، وهذا القول يجمع الصواب من القولين .(1/113)
( الأصل الثاني ) قول من يقول : إن الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بترك المأمور أو فعل المحظور .. والأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، فالوجوب مشروط بالقدرة ، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضوع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، وأن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب( 74 ) ، فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين ، وهذا الحكم في المذنبين ، حكماً عاماً في جميع الأمة والمذنبين يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب ، فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ؟
ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى فنقول : كلام الذام للخلفاء ولغيرهم - من رافضي وغيره - هو من باب الكلام في الأغراض ، وفيه حق لله تعالى لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض وفيه حق للآدميين أيضاً ، ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة - مثل الملوك المختلفين على الملك ، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين - وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل ، ولا بجهل وظلم ، فإن العدل واجب لكل واحد على كل أحد في كل حال ، والظلم محرم مطلقاً لا يباح قط بحال ، قال تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .. ( المائدة 8 ) فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من يبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس ، فهو أحق أن لا يظلم ، بل يعدل عليه .(1/114)
واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل ، والعدل مما أتفق أهل الأرض على مدحه والثناء على أهله ومحبتهم ، والظلم مما اتفق على ذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم .. والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً : في كل زمان ومكان ، على كل أحد ولكل واحد ، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها ، والحكم به واجب على النبي وكل من أتبعه ، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر ، وهذا واجب الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية . والعملية ، قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ( النساء 59 ) ، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ... وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : القضاة ثلاثة قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ، ومن قضى للناس على جهل فهو في النار . وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين . وإذا وجب - فيما شجر بين المؤمنين - أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ، ويرد ذلك إلى الله والرسول ، فذاك في أمر الصحابة أظهر .. والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق ، فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا ف معاداته ..... وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله ، فقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } ( الأنعام 159 ) ، وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين(1/115)
ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } ( آل عمران 105- 107 ) ، قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أعل البدعة ....و في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاة الله أموركم)) . والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين - احيائهم وأمواتهم - وحرم داءهم وأموالهم وأعراضهم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : (( إن دماءكم أموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . وألا هل بلغت ، ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع )) وقد قال تعالى : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } ( الأحزاب 58 ) ، فمن آذى مؤمناً - حياً أو ميتاً - بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية ومن كان مجتهداً لا إثم عليه فإذا آذاه مؤذٍ فقد أذاه بغير ما اكتسب ، ومن كان مذنباً وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذٍ فقد آذاه بغير ما اكتسب ... وقد قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا } ( الحجرات 12 ) ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( الغيبة ذكرك أخالك بما يكره . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته )). فمن رمى أحداً بما ليس فيه فقد بهته ، فكيف إذا كان ذلك في الصحابة ! ومن قال عن مجتهد : إنه تعمد الظلم أو تعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة - ولم يكن كذلك - فقد بهته ، وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه .(1/116)
لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله ، هو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ، ونصيحة المسلمين . فالأول قول المشتكي المظلوم فلان ضربني واخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذل ك، قال الله تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } ( النساء 148 ) ، وقد نزلت فيمن ضاف قوماً فلم يقروه ، لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك ... وأما الحاجة مثل استفتاء هند بنت عتبة كما ثبت في الصحيح أنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وولدك بالمعروف )) أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة ، فلم ينكر عليها قولها ، وهو من جنس قول المظلوم فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس - لما استشارته فيمن خطبها فقالت : خطبني أبو جهم ومعاوية فقال صلى الله عليه وسلم : (( أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وفي لفظ : يضرب النساء ، أنكحي أسامة )) فلما استشارته فيمن تتزوج ذكر ما تحتاج إليه ، وكذلك من استشار رجلاً فيمن يعامله ، والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (( الدين النصيحة ( ثلاثاً ) ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم )) وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو تعمد الكذب عليه ، او على من ينقل عنه العلم ، وكذلك بيان من غلط في رأى رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية . فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك ، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعة ، فهذا يجب بيان أمره للناس ، فإن دفع عنهم شره أعظم من دفع شر قاطع الطريق .(1/117)
وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين . ثم قد يكون مجتهداً مخطئاً أو مصيباً ، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين - باللسان أو اليد - مجتهداً يعتقد الصواب معه ، وقد يكونان جميعاً مخطئين مغفوراً لهما ، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة ، ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء ، سواء كانوا من الصحابة أو من بعدهم ، فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ، ولا تعلق للناس بها ، ولا يعرفون حقيقتها ، كان كلامهم فيها كماً بلا علم ، يتضمن أذاهم بغير حق ، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك - من غير مصلحة راجحة - من باب الغيبة المذمومة ، لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدراً وأنزه أعراضاً ، قد ثبت في فضائلهم - خصوصاً وعموماً - ما لم يثبت لغيرهم ، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم .(1/118)
فإن قيل : فأنتم - في هذا المقام - تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم . قيل ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص العينة ، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أنواع كثيرة ....و قال الله تعالى : { أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } ( الأعراف 44 - 45 ) ، فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم ، تحذيراً من ذلك الفعل وإخباراً بما يلحق أهله من الوعيد ، ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها ، والمبتدع الذي يظن أنه على حق - كالخوارج والنواصب الذين نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين - ابتدعوا بدعة وكفروا من لم يوافقهم عليها ، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم محرم ..... والرافضة أشد بدعة من الخوارج ، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبي بكر وعمر ، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً ما كذب أحدا مثله ، والخوارج لا يكذبون ، لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع وأوفى بالعهد منهم فكانوا اكثر قتالاً منهم ، وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل ، وهم يستعينون بالكفار على المسلمين كما جرى لجنكز خان ملك الترك الكفار ، فإن الرافضة أعانته على المسلمين وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من ان يخفى على أحد( 75 ) فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره باطناً وظاهراً ، وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم( 75 ) فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفتهم ، وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعاً من الكيد ، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف إنسان أو اكثر أو أقل ، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر ، وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين(1/119)
، فهل يكون موالياً لآل الرسول صلى الله عليه وسلم من يسلك الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين ؟ وهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف ، ولم يقتل الحجاج هاشمياً قط مع ظلمه وغشمه ، فإن عبدالملك نهاه عن ذلك ، وإنما قتل ناساً من أشراف العرب غير بني هاشم ، وقد تزوج هاشمية - وهي بنت عبدالله بن جعفر - فما مكنه بنوا أمية من ذلك وفرقوا بينه وبينها وقالوا : ليس الحجاج كفئاً لشريفة هاشمية .
والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد ، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء : فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين ، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة ، والزيدية - من الشيعة - خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم ، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ، ومع هذا( 76 ) فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم ، فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم ، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض ، بل هم الرافضة خير واعدل من بعض الرافضة لبعض ، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون : أنتم تنصفوننا مالا ينصف بعضنا بعضاً ، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم ، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس ، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض ، والخوارج تكفر أهل الجماعة ، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم ، وكذلك أكثر الرافضة ، ومن لم يكفر فسق ، وكذلك أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه ، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ، ولا يكفرون من خالفهم فيه ، بل هو أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس } ( آل عمران 110 ) ، قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس . وأهل السنة نقاوة المسلمين فهو خير الناس للناس . وقد علم أنه بساحل(1/120)
الشام جبل كبير( 77 ) فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم . ,لما انكسر المسلمون سنة غازان( 78 ) أخذوا الخيل والسلاح والأسارى وباعوهم للكفار والنصارى بقبرص وأخذوا من مر بهم من الجنود وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى ، وقالوا له : أيما خير ، المسلمون أو النصارى ؟ فقال : بل النصارى . فقالوا له : مع من تحشرهم يوم القيامة ؟ فقال : مع النصارى . وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين ، ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمور في غزوهم ، وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم ، وذهبنا إلى ناحيتهم ، وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها ، فلما فتح المسلمون بلدهم وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم ، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا ، فما أذكره في هذا الكتاب في ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ، ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله .(1/121)
ومصنف هذا الكتاب( 79 ) وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفها وخلفها ، فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين ، وإلى خير أمة أخرجت للناس ، فافتروا عليهم العظائم ، وجعلوا حسناتهم سيئات ، وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء - وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها ، زيديها - والله يعلم وكفى بالله عليماً ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم : لا أجهل ، ولا أكذب ، ولا أظلم ، ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان ، وأبعد عن حقائق الإيمان منهم ، فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده ! فإن ماسوى أمة محمد كفار ، وهؤلاء الأمة كلها أو ضللوها ، سوى طائفتهم التى يزعمون أنها الطائفة المحقة ، وأنها لا تجتمع على ضلالة ، فجعلوهم صفوة بني آدم فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة فقيل له : أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها ، فعمد إلى شر تلك الغنم : إلى شاة عوراء ، عفجاء ، عرجاء ، مهزولة لا نقي لها فقال( 80 ) : هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها ، وسائر هذه الغنم ليست غنماً وإنما هي خنازير يجب قتلها ولا يجوز الأضحية بها . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من حمي مؤمناً من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة )) . وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل ، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقاً أو جاهلاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيهم أحد عالماً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع الإيمان به ، فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى وشيوخهم المصنفون طوائف يعلمون أن كثيراً مما يقولونه كذب ، ولكن يصنفونه لهم لرياستهم عليهم ، وهذا المصنف( 81 ) يتهمه الناس بهذا ، ولكن صنف لأجل أتباعه ، فإن كان(1/122)
أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ، ويظهره ويقول إنه حق من عند الله ، فهو من جنس علماء اليهود الذين { يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا فويل بهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } ( البقرة 79 ) ، وإن كان يعتقد أنه حق دل ذل على نهاية جهله وضلاله ...
ولما قال السلف : إ، الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة كان هذا ملاماً حقاً وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (( لا تسبوا أصحابي )) يقتضي تحريم سبهم ، مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام( 82 ) : ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) وقد قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٍ من نساء عسى أن يكن حيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } ( الحجرات 11 ) فقد نهى عن السخرية واللمز بالألقاب ، واللمز : العي والطعن ، ومنه قوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } ( التوبة 58 ) ، أي يعيبك ويطعن عليك .... وقال تعالى { ويل لكل همزة لمزة } ( الهمزة 1 ) ....... وإذا قال المسلم : { ربنا أعفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ( الحشر 10 ) ، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان ، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة ، أو أذنب ذنباً ، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان ، فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة ، فإنه مامن فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً ، بل فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل أنهم يخلون في النار .(1/123)
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته ، فإن كثيراً من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وغيره - لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم ، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء( 82 ) وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم من الفيء . ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ، ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالاً ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة وأمثاله ........ ، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عليّ حين فرغ من قتال أهل النهروان( 83 ) فقيل له : أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فروا ، فقيل : أمنافقون ؟ قال : المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً ، قيل : فما هم ؟ قال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم ........ فقد صرح عليّ رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفاراً ولا منافقين ، وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس - كأبي إسحاق الإسفرايني ومن اتبعه - يقولون : لا نكفر إلا من يكفرنا ، فإن الكفر ليس حقاً لهم بل هو حق لله ، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ، ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة ، لأن هذا حرام لحق الله ، ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح ، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر علياً ....... روى سفيان عن جعفر بن محمد عن القول ، فقال : لا تقولوا إلا خيراً ، وإنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم ، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم .......... وعن مكحول أن أصحاب عليّ سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ماهم ؟ قال : هم المؤمنون .......... وعن عبد الواحد بن أبي عون قال : مر عليّ - وهو متكئ على الأشتر - على قتلي صفين ، فإذا حابس اليماني مقتول( 84 ) فقال الأشتر : إنا لله وإنا إليه راجعون ،(1/124)
هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين ، عليه علامة معاوية ، أما والله لقد عهدته مؤمناً ، قال علي : والآن هو مؤمن ] ( 85 ) .
الفصل الرابع :
في إمامة باقي الاثنى عشر
قال : ((لنا في ذلك طرق : أحدها النص ، وقد توارثته الشيعة في البلاد خلفاً عن سلف عن النبي ? أنه قال للحسين : هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة قائمهم اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يكلأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)) . والجواب : هذا أولاً كذب على الشيعة ، فإن هذا لم تقله إلا شرذمة من الشيعة ، وأكثرهم يكذب به مثلنا / [ والزيدية بأسرها تكذب هذا ، وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم ] ، والإسماعيلية يكذبون . والشيعة نحو من سبعين فرقة(1) . وإنما هذا من اختلاف المتأخرين ، وضع لما مات الحسن بن علي العسكري وتكلم بغيبة ابنه محمد بعد موت الرسول ? بمائتين وخمسين سنة . وعلماء السنة ونقله الآثار الذين هم أضعاف أضعاف الشيعة يعلمون أن هذا كذب على الرسول قطعاً ، ويباهلون على ذلك . ثم [ من شرط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط . و ] قبل موت الحسن العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة المنتظر ، وإنما كان المدعون يدعون النص على عليَّ أو على ناس بعده ، وأما دعوى النص على الأثني عشر وهذا الخلف في الحجة المعدوم أخرهم فهذا لا نعرف أحداً قاله متقدماً ولا نقله ناقل / فأين دعواك التواتر ؟ بل المتواتر ما جاء في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وقيل إن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية النص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين افترى ذلك عبدالله بن سبأ وطائفته(2) . والذي علمناه من حال أهل البيت علماً لا ريب فيه أنهم لم يكونوا يدعون أنهم منصوص عليهم كجعفر الصادق وأبيه وجده زين العابدين علي بن الحسين وأبيه . وأخرجا في الصحيحين عن جابر بن سمرة سمع النبي ? يقول : ((لا يزال أمر الناس ماضياً عزيزاً ما وليهم أثنا عشر رجلاً ثم تكلم بكلمة(1/125)
خفيت عليّ فسألت أبي عنها فقال : - كلهم من قريش)) فلا يجوز أن يراد أثنا عشر الرافضة ، فإن عند الرافضة أنه لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء ، بل مازال أمر الأمة فاسداً يتغلب عليه الظالمون بل الكافرون ، وأهل الحق أذل من اليهود . وأيضاً فعندهم أن ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر .
قال : ((وعن ابن عمر أن النبي ? قال : يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي كنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، فذلك هو المهدي)) . فنقول : الأحاديث التي تحتج بها على خروج المهدي صحيحة رواها أحمد وأبو داود والترمذي ، منها حديث ابن مسعود مرفوعاً ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطَّول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ أسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)) . وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمه وفيه ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة)) . ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه ((يملك الأرض سبع سنين)) . وعن عليّ أنه نظر إلى الحسن فقال : سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطاً . فأما حديث ((لا مهدي إلا عيسى ابن مريم)) فضعيف ، فلا يعارض هذه الأحاديث ، وفيها كما ترى أن أسمه محمد بن عبدالله ، فهو رد على من يزعم أنه المنتظر محمد بن الحسن . ثم هو من ولد الحسن ، لا من ولد الحسين وادعت الباطنية أنه هو الذي بنى المهدية ، وإنما هو دعيّ ، وهو من ولد ميمون القداح فادعوا أن ميموناً هذا هو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الذي تنتنمي إليه الإسماعيلية ، وهم كفار ركبوا مذهبهم من مجوسية وفلسفة وصائبة صنف جماعة في مخازيهم : كابن الباقلاني / والقاضي عبد الجبار والغزالي . وهذا محمد بالمهدي وادعى العصمة . وابن المنصور محمد بن عبدالله لقب بالمهدي للحديث .(1/126)
قال : ((قد بينا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم / ولا معصوم غير هؤلاء إجماعاً)) . الجواب : منع المقدمة الأولى كما مر . ثم لا إجماع في غيرهم . ثم نقول بالموجب : فهذا المعصوم الذي تدعونه في وقتنا هذا وله من أربعمائة وستين سنة وما ظهر له أثر ، بل آحاد الولاة وقضاة البر أكثر تأثيراً منه ، فأي منفعة للوجود بمثل هذا لو كان موجوداً ، كيف وهو معدوم ؟ فأي لطف حصل لكم به ، وأي مصلحة نالت الأمم قديماً وحديثاً به ؟ فمازال مفقوداً عندكم ومعدوماً عندنا ولا حصل به نفع أصلاً .
--------------
(1) صنفت الكتب الكثيرة في التعريف بها ، ومن أفضل كتب أهل السنة في ذلك (مقالات الإسلاميين) للإمام أبي الحسن الأشعري (260 - 334) ، ومن اقدم كتب الشيعة في ذلك كتاب (فرق الشيعة) للحسن بن موسى التويختي المتوفي سنة 310.(1/127)
(2) التحقيق في تخرصات الشيعة حول النص على ائمتهم يتشعب إلى ثلاث شعب : أولاها النص على إمامة علي أو ولايته ، وقد أشبعها شيخ الإسلام بحثاً في هذا الكتاب ونقضها من أسسها فلم يدع مقالاً لقائل ، أما نص عليّ على ابنه الحسن فقد تقدم تكذيبه في هامش ص514 . والشعبة الثانية من أكذوبة النص دعوى الوصاية ، وهذه قد اعترف علامتهم الكشي بأن مخترعها عبدالله بن سبأ . وسجلنا عليهم هذا الأعتراف في ص318 و 459 . والشعبة الثالثة أكذوبة أن الإمامة معهود بها إلى اشخاص بأعيانهم ، ومخترع هذه الأسطورة شيطان الطاق أنه قال : كنت عند أبي المامقاني في تنقيح المقال (1 : 470) مارواه الكشي عن شيطان الطاق أنه قال : كنت عند أبي عبدالله (يعني جعفر الصادق) فدخل زيد بن علي (الإمام الذي يرجع إليه مذهب الزيدية في اليمن ، وهو عم جعفر الصادق) فقال لي زيد : يا محمد بن علي ، أنت الذي تزعم أن في آل محمد إماما مفترض الطاعة معروفاً بعينه ؟ قال : قلت نعم أبوك أحدهم . قال : ويحك ، وما يمنعه أن يقول لي ؟ فوالله يشفق علي من حر الطعام فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها ، أفتراه يشفق على من حر الصعام ولا يشفق علي من حر النار ؟ قال : قلت كره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد . وكنت نقلت هذا الخبر في مجلة (الفتح) في شعبان سنة 1366 واستبعدت يومئذ أن تبلغ الجرأة بشيطان الطاق إلى حد أن يتجاهر بهذه الأكذوبة في مجلس الإمامين زيد وجعفر وقلت : أظنه كذب هذه القصة فيما بعد واخترعها ليدعو بها إلى هذه العقيدة الباطلة .
الفصل الخامس:
تخرصات الشيعة في إمامة الصديق والفاروق وذي النورين(1/128)
قال : ((إن من تقدمه لم يكن إماماً لوجوده)) . قلنا : بل كانوا أئمة صالحين للإمامة ، فتح الله بهم البلاد والأقاليم ، وكانوا خلفاء راشدين وما خالف في هذا مسلم سواكم معشر الرافضة ، وكانوا أحق بها وأهلها ، نقطع بذلك ولا يمكن أن يعارض لا بدليل ظني ولا قطعي . أما القطيعات فلا يتناقض موجبها ومقتضاها ، وأما الظنيات فلا تعارض قطيعاً [ وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين : إما نقل لا نعلم صحته ، أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم . وأي المقدمتين لم يكن معلوماً لم يصلح لمعارضة ما علم قطعاً ] . وإذا نفينا [ الاعتراض على ] إمامتهم بالقطع لم يلزمنا الجواب على الشبهة المفصلة ، فإن بينا وجه فساد الشبهة كان زيادة علم وتأييداً للحق في النظر والمناظرة .(1/129)
قال : ((فمنها قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني . ومن شأن الإمام تكميل الرعية ، فكيف يطلب منهم الكمال ؟)) .قلنا : المأثور أنه قال : إن لي شيطاناً يعتريني يعني الغضب فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أوثر في أبشاركم . وقال : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم . وهذا القول من أفضل ما مدح به ، يخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد . وفي الصحيح أن النبي ? قال : ((لا يقضي القاضي بين أثنين هو غضبان)) فأمر الحاكم باجتناب الحكم حال الغضب ، والغضب يعتري بني آدم كلهم ، حتى قال سيد ولد آدم : ((إنما أن بشر أغضب كما يغضب البشر)) متفق عليه . ولمسلم أن رجلين دخلا على رسول الله ? فأغضباه ، فلعنهما وسبهما ، / وذكر الحديث ، فمن عصى أبا بكر وأخرجه جاز له تأديبه ، كما أن من عصى علياً فأغضبه جاز له تأديبه . وفي الصحيح عن أبن مسعود عن النبي ? قال : ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن . قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : وأنا ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير)) . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ? بنحوه ، وقوله ((فإن زغت فقوموني)) من كمال عدله وتقواه وإنصافه . وقولك ((ومن شأن الإمام تكميل الرعية . فكيف يطلب منهم التكميل ؟)) قلنا : لا نسلم ، ولا يكلمهم ولا يكلمونه ، بل يتعاونون على البر والتقوى ، وإنما التكميل من الله الغني بنفسه الذي لا يحتاج إلى أحد . وقد كان الرسول يشاور أصحابه ويعمل برأيهم .(1/130)
وقال : ((ومنها قول عمر : كانت بيعة أبى بكر فلتة وقي الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه : وهذا يوجب الطعن)) .قلنا : إنما لفظ عمر الذي في الصحيحين : بلغني أن قائلاً منكم يقول لو قد مات عمر بايعت فلاناً : فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته فتمت ، ألا وإنها كانت كذلك ، ولكن وقي الله شرها ، وليس منكم من تقطع [ إليه ] الأعناق مثل أبي بكر .
فصل . قال : ((وقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } (البقرة 124) ، أخبر تعالى أن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم ، والظالم كافر لقوله تعالى : { والكافرون هم الظالمون } (البقرة 254) ، ولا شك أن الثلاثة كانوا كفاراً يعبدون الأصنام إلى أن ظهر النبي ?)) . والجواب : - أيها الرافضي المغتر من وجوه : أحدهما : أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم ، فإن الإسلام يجب ما قبله ، وهذا معلوم بالاضطرار من الدين ، وليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه ،وإلا لزم أفضل من الصحابة ، وقد ثبت أن خير الناس القرن الأول الذين بعث فيهم الرسول ، وسائرهم أسلموا بعد الكفر وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام ، ولهذا قال الأكثرون : يجوز على الله أن يبعث نبياً ممن آمن بالأنبياء ، قال تعالى { فأمن له لوط } (العنكبوت 26) ، وقد قال شعيب : { قد أفترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } (الأعراف 89) ، ثم إنه نبئ رسول الله ? / لم يكن أحد من قريش مؤمناً لا كبيراً ولا صغيراً : وإذا قيل عن رجالهم إنهم يعبدون الأصنام فصبيانهم [ كذلك ، وعلىَّ وغيره ] . فإن قيل : كفر الصبيَّ لا يضره ، قيل : ولا إيمان الصبي مثل إيمان الرجل ، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ ، والصبي له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع ، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم(1/131)
الإسلام قبل البلوغ ؟ على قولين للعلماء . بخلاف البالغ فإنه يصير مسلماً إذا أسلم بالإجماع . ثم لا يمكن الجزم بأن علياً ما سجد لصنم ، وكذا الزبير فإنه أسلم وهو مراهق . فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالماً . فقوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } أي ينال العادل دون الظالم فإذا قدر أن شخصاً كان ظالماً ثم تاب وصار عادلاً تناوله العهد وصار ممدوحاً بآيات المدح لقوله : { إن الأبرار لفي نعيم } (الأنفطار 13 والمطففين 22) ، { إن المتقين في مقام أمين } (الدخان 51) . فمن قال : المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع الأمة . قال : ((ومن ذلك قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة .قلنا : أين صحة هذا ؟ وإلا فما كل منقول صحيح . فإن صح هذا عنه لم يجز معارضته بقولك ((لا يجوز له طلب الإقالة)) إذ ذلك مجرد دعوى . قال : ((وقال عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله ? هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكة في صحة بيعة نفسه ، مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة)) .
قلنا : [ أما قول النبي ? ((الأئمة من قريش)) فهو حق . و ] من الذي يقول إن الصديق شك في هذا وفي صحة إمامته ؟ ولكن ما نقلته كذب عليه ، فإن المسألة عنده وعند الصحابة واضحة ظاهرة ، وإن قدر أنه قاله ففيه فضيلة له ، لأنه لم يكن يعرف أن الأئمة من قريش فاجتهد فوافق اجتهاده النص . وفيه أنه ليس عنده نص من الرسول ? بعليَّ .قال : ((وقال عند موته : ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني في سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير وهذا يدل على إقدامه على بيت فاطمة عند اجتماع علي والزبير وغيرهما ، ويدل على أنه كان يرى / الفضل لغيره)) .(1/132)
قلنا : لا يقبل القدح [ إلا ] إذا ثبت النقل . ونحن نعلم يقيناً أن أبا بكر لم يُقْدِم على عليَّ والزبير بشيء من الأذى ، بل ولا على سعد [ بن عبادة ] الذي مات ولم يبايعه . وغاية مايقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي أمر بقسمته ، ثم رأى أنه لو تركه لهم جاز . والجهلة يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى طرحت ، أفيسوغ في عقل عاقل أن صفوة الأمة يفعلون هذا بابنة نبيهم لا لأمر ، فلعن الله من وضع هذا ومن افتعل الرفض . قال : ((وقال عليه الصلاة والسلام : جهزوا جيش أسامة ، وكرر ذلك وكان فيهم أبو بكر وعمر ، ولم ينفذ علياً لأنه أراد منعهم من التوثب على الخلافة بعده ، فلم يقبلوا منه)) . قلنا : أين صحة هذا ؟ فمن أحتج بالمنقول لا يسوغ له إلا بعد العلم بصحته ، كيف وهذا كذب ، لم يكن أبو بكر في جيش أسامة أصلاً ، بل قيل إنه كان فيهم عمر ? . وقد تواتر عن النبي ? أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات ، وصلى أبو بكر بهم الصبح يوم توفى ، وقد كشف ? سجف الحجرة فرآهم خلف أبي بكر فسر بذلك ، فكيف يمكن مع هذا أن يكون من جيش أسامة الذين شرعوا في الرحيل ؟ ولو أراد النبي ? توليه عليّ لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره ، ولكن جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله من أن يدعوا أحداً يتوثب على من نص الرسول لهم عليه . ثم لو كان أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه ، ولما كان يدع أبا بكر يصلي به .
قال : ((ولم يول أبا بكر عملاً ، وولى عليه)) .قلنا : وأي ولاية فوق ولاية الصلاة والحج والزكاة ؟ وقد ولّي جماعة دون أبي بكر بكثير ، مثل عمرو بن العاص والوليد ابن عقبة وابي سفيان بن حرب وعدم ولا يته لا يدل على نقصه . ولأنه كان وزيره وكان لا يستغنى عنه في مهمات الأمور ، ويليه عمر .(1/133)
قال : ((وأنفذه رسول الله ? لأداء سورة براءة ، ثم أنفذ علياً برده وأن يتولى هو ذلك . ومن لا يصلح لأداء سورة كيف يصلح للخلافة ؟)) .الجواب : إن هذا إفتراء محض ، ورد للتواتر ، فإن الرسول استعمل أبا بكر على الحج [ سنة تسع ] فما رده ولا رجع ، بل هو الذي حج بالناس فكان عليَّ من جملة رعيته إذ ذاك : يصلي خلفه ، ويسير بسيره ، / فالعلم بهذا لم يختلف فيه أثنان ، فكيف تقول إنه أمر برده ؟ ولكن أردفه بعليّ لينبذ إلى المشركين عهدهم ، لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العهود ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث علياً ببراءة (1) . فيالله إذا كنت تجهل مثل هذا من أحوال ارسول وأيامه وسيرته ، فأيش عندك من العلم ! وكان السكون ـولى بك وبأشباهك ، أفأملك أن أعمى الله قلبك غذ خبثت سريرتك ، فلا تبرز بفائدة ولا تأتي بخير ، ولكنك معرق في الرفض ، فلله الحمد على العافية .(1/134)
ثم تقول : ((والإمامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة)) . سبل الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام ، وإنما الإمام منفذ لما شرعه الرسول . والصديق كان عالماً بعامة ذلك ، وإذا خفى عليه الشيء اليسير سأل الصحابة عنه ، كما سأل عن ميراث الجدة فأخبر أن نبي الله أعطاها السدس . وما عُرف له قول خالف نصاًَ ، وقد عرف لعمر وعثمان من ذلك اشياء ، وعرف لعلي أكثر مما عرف لهما ، كقوله : إن الحامل المتوفي عنها تعتد أبعد الأجلين وحديث سبيعة في الصحيحين بأنها تحل إذا وضعت . وقد جمع الشافعي رحمه الله تعالى كتاباً في خلاف عليّ وابن مسعود [ وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك ، فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول عليّ وابن مسعود ، فجمع لهم أشياء كثيرة من قول عليّ وابن مسعود تركوه أو تركه الناس ، يقول : إذا جاز لكم خلافهما في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما ، فكذلك في سائر المسائل . ولا يعرف لأبي بكر مثل هذا ] . ثم القرآن بلغه كل أحد عن الرسول ? فيمتنع أن يقال لم يصلح أبو بكر لتبليغه ، ولا يجوز أن يقال إن تبليغ القرآن يختص بعلي ، فإن القرآن لا يثبت بخبر الواحد .
قال : ((ومن ذلك قول عمر : إن محمداً لم يمت ، وهو يدل على قلة علمه . وأمر برجم حامل فنهاه عليَّ ، فقال : لولا علي لهلك عمر)) . قلنا : قد أوردنا لك نصوصاً عدة في مكانة عمر من العلم ، فكان أعلم الناس بعد الصديق . وأما كونه ظن أن الرسول لم يمت فهذا كان ساعة ، ثم تبين له موته . وعليّ قد ظن أشياء ظهرت له بخلاف ذلك ، ولم يقدح بمثل هذا في إمامتهما . وأما الحامل فلم يدر أنها حاملة فنبهه عليّ ، وقد نزل الكتاب بموافقة عمر في مواضع ، وقال عليه السلام : ((لو كان بعدي نبي لكان عمر)) ولما وضع على سريره أثنى عليه وأجبَّ أن يلقى الله بمثل صحيفة عمر .(1/135)
قال : ((وابتدع التراويح مع / أن النبي ? قال : يا أيها الناس إن الصلاة بالليل في رمضان جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، فلا تجمعوا في رمضان ليلاً ولا تصلوا الضحى ، وخرج عمر ليلاً فرأى المصابيح في المساجد فقال : ما هذا ؟ فقيل : إنهم اجتمعوا لصلاة التطوع . فقال : بدعة ، ونعمت البدعة هي)) .
فيقال : ما رؤي في الطوائف أجرأ من هذه الطائفة على الكذب ، حتى على نبيها ، بوقاحة مفرطة مع فرط الجهل . فأين إسناد هذا ، وأين صحته وأنى له صحة وهو للكذب الإكسير الذي يعمل منه الكذب . لم يروه عالم . وأدنى العلماء يعلمون أنه موضوع ولا له إسناد . فقد ثبت أن الناس كانوا يصلون جماعة بالليل في رمضان على عهد نبيهم ، وثبت أنه صلى بالمسلمين ليلتين أو ثلاثاً فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله ، فلم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا . متفق عليه من حديث عائشة . وخرج البخاري من حديث عبدالرحمن بن عبد [ القاريّ ] قال : خرجت مع عمر ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته رهط . فقال عمر : إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل . ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب . ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، فقال : نعمت البدعة هذه ، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون . يريد بذلك آخر الليل . وهذا الاجتماع لم يكن ، فسماه بدعة وما هو بالبدعة الشرعية التي هي ضلالة إذ هي مافعل بلا دليل شرعي . ولو كان قيام رمضان جماعة قبيحاً لأبطله أمير المؤمنين عليّ وهو بالكوفة ، بل روي عنه أنه قال : نور الله على عمر قبره كما نَّور علينا مساجدنا . وعن أبي عبدالرحمن السلمي أن علياً دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلاً يصلي بالناس عشرين ركعة . قال : وكان عليّ يوتر بهم . وعن عرفجة الثقفي قال : كان علي بن أبي طالب يأمر بقيام رمضان ، ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً ،(1/136)
فكنت أنا إمام النساء . رواهما البيهقي في سنته . وأما الضحى فرغب فيها الرسول ? ، كما صحَّ عنه في أحاديث .
/ قال : وفعل عثمان أموراً لا تجوز ، حتى أنكر عليه المسلمون كافة ، واجتمعوا على قتله))(2)
قلنا : وهذا من جهلك وافترائك ، فإن الناس بايعوا عثمان وما اختلف في بيعته اثنان ولا تخلف عنها أحد كما تخلف شطر الناس عن بيعة غيره . فمن الذي اجتمع على قتل عثمان ؟ هل هم إلا طائفة من أولي الشر والظلم ؟ ولا دخل في قتله أحد من السابقين . بل الضين قاتلوا علياً وأنكروا عليه أضعاف أولئك ، وكفره ألوف من عسكره وخرجوا عليه(3) . وقتل في الآخر كما قتل ابن عمته عثمان ، قاتل الله من قاتلهما .
--------------(1/137)
(1) ولحكمة أخرى ، وهي أن سورة براءة تتضمن الثناء الإلهي الكريم على صديق رسوله ورفيقه في الغار ، فكان من المناسب أن يكون غعلان هذا الثناء الإلهي على الحجيج الأكبر في أيام الموسم بلسان عليّ بن ابي طالب لتشرق بذلك حلوق أعداء الله جميعاً إلى يوم القيامة . وهم كلما تأملوا في ذلك وما يترتب عليه من انهيار دينهم المصنوع يعتريهم الذهول ، فمن قدمائهم عدو الله شيطان الطاق طار عقله فقال : إن الله لم يقل قط { ثاني أثنين إذ هما في الغار } كما رواه عنه الجاحظ فيما سمعه من شيخه غبراهيم النظام وبشر بن خالد (أنظر الفصل لأبن حزم 4 : 181) ، ومن آخرهم طاغوت الكاظمية فقد صوابه فزعم أن قول الله تعالى في سورة الفتح { لقد رضي الله عن المؤمنين غذ بايعوك تحت الشجرة } لا يتناول ابا بكر وعمر لأنها خاصة بمن محضوا الإيمان (أنظر كتابة إحياء الشريعة في كتب الشيعة ص63 – 64) . وأنت ترى من ذلك أن إرسال عليّ بسورة براءة إلى الحج وفيها الثناء على أبي بكر جعل النبي وأبا بكر وعلياً في صف وجعل مبغضي أبي بكر وأعداء الصحابة في صف آخر يخالف ذلك الصف في الدنيا ويوم الدين . وقديماً قالوا : المرء حيث يجعل نفسه . ونحن لا حيلة لنا فيمن أراد لنفسه أن يكون – بأبا طيلة وبفساد سريرته – حصب جهنم .
(2) أي أن قتلة عثمان الذين كان عليّ يلعنهم هم ((المسلمون كافة)) ! وأما الحسن والحسين وعبدالله بن الزبير وسائر أبناء الصحابة الذين كانوا على باب عثمان للدفاع عنه وآباءهم وسائر المهاجرين والأنصار خارجون من مدلول ((المسلمين كافة)) ، بل علي أيضاً خارج من مدلول ((المسلمين)) ، لأن هؤلاء الفجرة مهما بلغت بهم القحة لن يجرءوا على أدعاء أن علياً كان من قتلة عثمان .
(3) ومنهم جماعة ممن اشتركوا في قتل عثمان . ولذلك قال علي لما ضربه ابن ملحم : ((قتلت يوم قتل الثور الأبيض)) .
الفصل السادس
في الحجج على إمامة أبي بكر(1/138)
قال : (( احتجوا بالإجماع . والجواب منعه ، فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة كسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمار ، وحذيفة ، وسعد بن عبادة ، وزيد بن أرقم ، وأسامة ، وخالد بن سعيد بن العاص – حتى أن أباه أنكر ذلك وقال : من استخلف الناس ؟ قالوا : أبنك . قال : وما فعل المستضعفان ؟ أشارة إلى عليّ والعباس ، قالوا : اشتغلوا بتجهيز رسول الله ? ، ورأوا أن أبنك أكبر منه – وبنو حنيفة كافة ، ولم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم ، فأنكر عليه عمر وردَّ السبايا أيام خلافته )) .
قلنا : من له أدنى خبرة وسمع هذا جزم بأن قائله أجهل الناس أ, من أجرأ الناس على البهتان . فالرافضة ذوو جهل وعمى ، فمن حدثهم بما يوافق أهواءهم صدقوه ولو كان الدجال ومن أورد عليهم بمخالفة أهوائهم كذبوه ولو كان صدّيقاً . وإن اعتقدوا صدقه قالوا : نعم وقالوا لإخوانهم : إنما نقول هذا الذي نقول مداراة وتقية للنواصب . فكيف يرجى فلاح من هذا حاله ، أم الذي نؤمل عافية من هذا مرضه ؟ فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى : { ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه } ( العنكبوت 68 ) ، ولنا إن شاء الله أوفى حظ من التمثل بقوله { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } ( الزمر 33 ) ، أفسمع قط بمثل هذا فقد علم كل عالم كفر بني حنيفة أتباع مسيلمة وارتدادهم ، وهذا يعدهم من أهل الإجماع . وإنما قتلهم وسباهم لامتناعهم عن بيعته ولأنهم لم يحملوا الزكاة إليه . فنعوذ بالله من البهتان . ونقل الهذيان ، وتضييع الزمان ، في الرد على هذا الذي هو غير إنسان .(1/139)
/ إذا محاسني اللائي أٌدِلُ بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذرُ ومن أعظم مناقب الصديق قتل هؤلاء الأرجاس وسبيهم ، وما قاتلهم على منع زكاة بل على إيمانهم بمسيلمة وكانوا نحو مائة ألف( 1 ) . والحنفية سُرَّيةٌ عليَّ – أم محمد بن الحنفيه – من سبيهم( 2 ) ، فأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فطوائف من العرب غير بني حنيفة استباحوا ترك الزكاة فقاتلهم . وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهما : إذا قال قوم نحن نزكى ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم . فهلا عددت يا ……. في المتخلفين عن بيعة أبي بكر اليهود والبربر وكسرى وقيصر ، فأمر بني حنيفة قد خلص إلى العذارى في الخدور وأنت لا تعي . وكتاب الردة لسيف بن عمر مشهور ، والردة للواقدي .(1/140)
ثم قولك (( إن عمر أنكر قتال أهل الردة ورد عليهم )) من البهتان ، وإنما توقف مع الصديق في قتال مانعي الزكاة فناظره فرجع عمر إلى قوله . وأما الذين سميتهم وأنهم تخلفوا عن بيعة الصديق فكذب عليهم ، وما تخلف إلا سعد بن عبادة ، ومبايعة هؤلاء لأبي بكر ثم عمر أشهر من أن تنكر . وأسامة ما سار بذلك الجيش حتى بايع الصديق ، وكان خالد بن سعيد نائباً للنبي ? ، فلما مات قال : لا أنوب لغيره ، وقد علم بالتواتر أنه ما تخلف عن بيعة الصديق سوى سعد ، وأما علي وبنو هاشم فلم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له ، لكن فيل تأخرت بيعتهم ستة أشهر ، وقيل بايعوه ثاني يوم طوعاً منهم( 3 ) ثم الجميع أيضاً بايعوا عمر سوى سعد ، ومات سعد في خلافة عمر ، وكان قد رامها يوم السقيفة ولم يدر أن الخلافة في قريش . وما ذكره عن أبي قحافة فباطل ، ولم يكن أبنه أسن الصحابة ، كان أصغر من النبي ? بقليل( 4 ) . والعباس أكبر من النبي ? بثلاث سنين . لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما قبض نبي الله ارتجت مكة فسمع أبو قحافة فقال : ما للناس ؟ قالوا : قبض رسول الله ? . قال : أمر جلل ، فمن ولي بعده ؟ قالوا : ابنك . قال : وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة : قالوا : نعم . قال : لا مانع لما أعطى الله ، ولا معطى لما منع . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : أرسلت فاطمة إلى أبي بكر تسأل / ميراثها من أبيها رسول الله ? قال (( لا نورث ماتركناه صدقه ، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال )) . وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله ? عن حالها التي كانت عليه في عهده . ولست تاركاً شيئاً كان يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ . فوجدت فاطمة على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت . وعاشت بعد رسول الله ? ستة أشهر . فلما توفيت دفنها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر . وكان لعليّ من الناس وجهُ حياة فاطمة ، فلما ماتت استنكر عليّ وجوه(1/141)
الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن بايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن أئتنا ، ولا تأتنا ومعك أحد – كراهية عمر – فقال عمر لأبي بكر : والله لا تدخل عليهم وحدك . فقال أبو بكر : ماعساهم أن يفعلوا بي ؟ والله لآتينهم . فدخل عليهم أبو بكر ، فتشهد عليّ ثم قال : إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت بالأمر علينا . وكنا نرى أن لنا فيه حقاً لقرابتنا من رسول الله ? . فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر . فلما تكلم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ? أحب إليَّ أن أصل من قرابتي . وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آلُ فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله ? يصنعه فيها إلا صنعته . فقال عليّ : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبو بكر الظهر قام قائماً على المنبر فتشهد وذكر شأن عليّ وتخلفه عن البيعة وعذره الذي اعتذر به . ثم استغفر . وتشهد عليّ فعظَّم حق أبي بكر ، وأن لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار عليه للذي فضله الله به ، ولكنا كنا نرى أن لنا في الأمر نصيباً فاستند علينا به ، فوجدنا في أنفسنا . فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت . وكان المسلمون إلى عليّ قريباً حين راجع الأمر بالمعروف .(1/142)
ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والإثنين ، ولو اعتبر ذلك لم تكن تنعقد إمامة( 5 ) / بخلاف الإجماع على الأحكام العامة فهل يعتد بخلاف الواحد أو الأثنين ؟ فعن بن جرير الطبري وغيره . الثاني : يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام . ثم الواحد إذا خالف النص كان خلافه شاذاً كخلاف سعيد بن المسيب في أن المطلقة ثلاثاً إذا نكحت زوجاً غيره أبيحت للأول بمجرد العقد . وأيضاً في صحة الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور ، قال عليه السلام : (( عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة )) وقال : (( عليكم بالسواد الأعظم ، ومن شذَّ شذَّ في النار )) .
ثم إجتماع الأمة على بيعة أبي بكر أعظم من اجتماعهم على بيعة علي ، فإن ثلث الناس أو أرجح لم يبايعوه وقاتلوه ، وخلق من الكبار لم يقاتلوا معه واعتزلوا [ فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة ، كان القدح في إمامة عليَّ أولى بكثير ] ( 6 ) .
فإن قلت : إمامته ثبتت بالنص فلا يحتاج إلى الإجماع .
قلنا : قد مرت النصوص الدالة على تقديم أبي بكر تلويحاً أو تصريحاً ، مع أولويته وإجماعهم على بيعته وعلى تسميته خليفة رسول الله ? .(1/143)
[ والكلام في إمامة الديق إما أن يكون في وجودها ، وإما أن يكون في استحقاقه لها . أما الأول فهم معلوم بالتواتر وإتفاق الناس بأنه تولى الأمر ، وقام مقام رسول الله ? ، وخلفه في أمته ، وأقام الحدود ، واستوفى الحقوق ، وقاتل الكفار والمرتدين ، وولى الأعمال ، وقسم الأموال ، وفعل جميع ما يفعل الإمام ، بل هو أول من باشر الإمامة في الأمة وأما إن أريد بإمامته كونه مستحقاً لذلك ، فهذا عليه أدلة كثيرة غير الإجماع : فلا طريق يثبت بها كون عليّ مستحقاً للإمامة إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة وأنه أحق بالإمامة من عليّ وغيره . وحينئذ فالإجماع لا يحتاج إليه لا في الأولى ولا في الثانية ، وإن كان الإجماع حاصلاً ] ( 7 ) .
قال : (( وأيضاً الإجماع ليس أصلاً في الدلالة( 8 ) ، بل لابد له من مستند إما عقلي – وما في العقل مايدل على إمامته 0 وغما نقلي ، وعندهم أن رسول الله ? مات عن غير وصية على إمام ، فلو كان الإجماع متخلفاً لكان خطأ فتنتفي دلالته )) .(1/144)
قلنا : إن أردت بقولك (( الإجماع ليس أصلاً في الدلالة )) أن أمير المؤمنين لا تجب طاعته لنفسه ، وإنما تجب لكونه دليلاً على أمر الله ورسوله فهذا صحيح ولكنه لا يضر ، فإن أمر الرسول كذلك لا تجب طاعته لذاته بل لأن من أطاعه فقد اطاع الله ، ففي الحقيقة لا يطاع أحد لذاته إلا الله : { له الخلق والأمر } ( الأعراف 54 ) ، { إن الحكم إلا لله } ( الأنعام 57 ) . وإن أردت أنه قد يكون موافقاً للحق وقد يكون مخالفاً ، فهذا قدح في كون الإجماع حجة ، ودعوى أن الأمة تجتمع على الخطأ كما يقوله النّظامُ وبعض الرافضة خطأ ونحن لا نحتاج في إمامة الصديق إلى هذا ، ولا نشترط لأحد فنقول ما من حكم بالإجماع إلا وقد دل على النص ، والإجماع دليل على نص موجود والناس مختلفون / في جواز الإجماع عن اجتهاد ، لكن لا يكون النص خافياً عن الكل . وخلافة الصديق من هذا الباب فإنه ورد فيه نصوص تدل على أن خلافته حق وصواب ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وإنما اختلفوا : هل العقد بنص خاص أو بالإجماع ؟ ومستند قولنا النص والإجماع متلازمان قوله تعالى { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر }( آل عمران 110 ) ، فهذا ينبغي أنهم يأمرون بكل معروف وينهون كل ما أوجبه الله ، ويحرموا كل ما حرمه الله ، وأن لا يسكتوا عن الحق ، فكيف يجوز عليهم النهي ، وامتنع عليهم السكوت . ولو كانت طاعة علي وتقديمه واجباً لكان ذلك من أعظم المعروف الذي يجب أن يأمروا به . وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }(1/145)
( التوبة 71 ) ، وقال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } ( البقرة 143 ) ، فمن جعلهم الرب شهداء على الناس فلا بد أن يكونوا عالمين بما يسهدون به ، فلو كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ، ويسقطون ما أوجب ويوجبون ما أسقط ، لما صلحوا أن يكونوا شهداء على الناس ، وكذلك إذا كانوا يجرحون الممدوح ويمدحون المجروح . فإذا شهدوا بإستحقاق أبي بكر وجب أن يكونوا صادقين ، وكذا إذا شهدوا كلهم أن هذا صالح وهذا عاص وجب قبول شهادتهم . وقال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم } ( النساء 115 ) ، فتوعد على اتباع غير سبيلهم ، كما توعد على مشاقة الرسول ، فكل منهما مذموم ، فإذا أطبقوا على تحريم أو حل وخالفهم مخالف فقد أتبع غير سبيلهم فيذم . وقال { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ( آل عمران 103 ) ، فلو كانوا في حال الاجتماع كالتفرق لم يبق فرق . وقال : { إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا }
( المائدة 55 ) ، جعل موالاتهم كموالاة الله والرسول ، والله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة . وأحق الناس بهذا الصحابة ، فثبت أن مافعلوه من خلافة ابي بكر حق / وقال عليه الصلاة والسلام :
(( من أثنيتم عليه خيراً وجبت خيراً له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض )) .
قال : (( وأيضاً الإجماع إنما يعتبر فيه قول الكل ، وهذا لم يحصل ، وقد اجمع اكثر الناس على قتل عثمان )) .
قلنا : أجبنا على هذا ، وإنه لا يقدح في اتفاق أهل الحل والعقد شذوذ من خالف . وأما عثمان فإنما قتلته طائفة قليلة باغية ظالمة .
قال : (( وكل واحد يجوز عليه الخطأ ، فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع ؟ )) ( 9 ) .(1/146)
قلنا : إذا حصل بالإجماع م الصفات ماليس للآحاد لم يجز أن يجعل حكم الواحد حكم الإجماع . فالآحاد يجوز عليهم الغلط والكذب ، فإذا انتهوا إلى حد التواتر امتنع عليهم الغلط والكذب . وكل واحد من اللقم لا يشبع وبالاجتماع يحصل الشبع . والواحد لا يقدر على قنال العدو ، فإذا اجتمع عدد قدروا . فالكثرة تؤثر قوة وعلماً . قال تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الآخرى } ( البقرة 283 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد )) . ومعلوم أن السهو الواحد يكسره الإنسان ، وبضمه إلى سهام كثيرة يتعذر . وأيضاً فإن كان الإجماع قد يكون خطأ لم تثبت لك عصمة علي ، فإنه إنما علمت بالإجماع كما زعمت وأن لا معصوم سواه ، فإن جاز الخطأ على الإجماع أمكن أن يكون غيره معصوماً وأن قدحتم في الإجماع بطل أصل مذهبكم ، وإن قلتم هو حجة فقد أجمعوا على الثلاثة قبل عليّ .
قال: (( وقد بينا ثبوت النصوص الدالة على إمامة عليّ ، فلو أجمعوا على خلافة لكان خطأ )) .
قلنا : قد تقدم بيان توهية كل ما تزعم أنه ثابت ، وأتينا بنصوص ثابتة بخلاف ذلك . ثم نصوصنا متعضدة بالإجماع ، فلو قدر خبر يخالف الإجماع لعلم أنه باطل أو لا يدل . ومن الممتنع تعارض النص المعلوم والإجماع المعلوم فإن كليهما حجة قطعية ، والقطعيات لا يجوز تعارضها ، وإلا لزم الجمع بين النقيضين . وكل نص أجمعت الأمة على خلاف فهو منسوخ بنص آخر ، وأما أن يبقى في الأمة نص معلوم والأجماع بخلافة فهذا / لم يقع ، فالإجماع والنص على خلافة الصديق بالضرورة لما افترته الرافضة من النص على عليّ .
قال : (( ورووا عن النبي ? أنه قال : أقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر . والجواب المنع من الرواية ومن دلالتها على الإمامة ، إذ الاقتداء بالفقهاء لا يلزم منه الخلافة ، وهما قد اختلفا كثيرا فلا يمكن الاقتداء بهما . ثم هو معارض بما رووه : أصحابي كالنجوم )) .(1/147)
قلنا هذا بكل حال أقوى من النص الذي تزعمونه ، فإن هذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي . والنص في عليّ باطل ، حتى قال ابن حزم . ما وجدنا هذا النص إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكني أبا الحمراء [ لا نعرف من هو في الخلق ] ( 10 ) . وأمره بالاقتداء بهما دال على كونهما غير ظالمين ولا مرتدين ، إذ في النادر ، كالجد مع الأخوة( 11 ) وقسمة ألفي( 12 ) بالسوية أو التفضيل ، واختلافهما في تولية خالد وعزله فاختلف اجتهادهما . والحديث يوجب الاقتداء بهما فيما اتفقا عليه وحديث (( أصحابي كالنجوم )) ضعفه أئمة الحديث فلا حجة فيه . قال : (( وذكروا ليلة الغار ، وقوله تعالى : { وسيجنبها الأتقى } ( الليل 17 ) وقوله : { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى باس شديد } ( الفتح 16 ) ، والداعي هو أبو بكر ، وكان ثاني الاثنين في العريش يوم بدر ، وأنفق ماله على النبي ? ، وتقدم في الصلاة . فلا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره ، والآية تدل على نقصه وخوره وقلة صبره لقوله { لا تحزن } فإن كان الخزن طاعة استحال أن ينهي عنه الرسول وإن كان معصية عادت الفضيلة رذيلة . وأيضاً فإن القرآن حيث ذكر السكينة شرك مع الرسول فيها المؤمنين إلا هنا ، ولا نقص أعظم منه . وقوله { وسيجنبها الأتقى } فالمراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره . وأما { قل للمخلفين } قالمراد من تخلف عن الحديبية ، والتمسوا أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر بقوله { قل لن تتبعونا } لأن الله جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية فمنعوا بقوله { قل لن تتبعونا } ثم قال : { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون } يريد سندعوكم فيما بعد ، فدعاهم الرسول إلى غزوات كثيرة كمؤتة وخيبر وتبوك ، / ويجوز أن يكون الداعي لهم أمير المؤمنين حيث قاتل . وأما كونه أنيسه في العريش فإنما كان أنسه بالله ، لكن لما عرف الرسول أنه إن أمر أبا بكر بالقتال يؤدي إلى(1/148)
فساد حيث هرب عدة مرار ، فإيما أفضل : القاعد عن القتال أو المجاهد ؟ وأما إنفاقه فكذب ، لأنه لم يكن له مال ، فإن أباه كان فقيراً في الغاية ، فلو كان غنياً لكفى أباه ، وكان أبو بكر في الجاهلية مؤدباً وفي الإسلام خياطاً ، فلما ولوه منعوه من الخياطة فقال : إني محتاج إلى القوت فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال . والرسول كان غنياً بمال خديجة قبل الهجرة [ وبعد الهجرة ] (13 ) لم يكن لأبي بكر شئ ، ولو أنفق لنزل فيه قرآن كما نزل في علي { هل أتى } . ومن المعلوم أن الرسول أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين ، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر ، فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل . وأما تقديمه في الصلاة فخطأ ، لأن بلالاً لما أذن أمرته عائشة أن يقدم أباها فلما أفاق نبي الله سمع التكبير فقال : أخرجوني ، فخرج بين عليّ والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة . فهذه حال أدلة الجمهور . فلينظر العاقل بين الإنصاف ويقول طلب الحق دون اتباع الهوى ويترك تقليد الآباء والأجداد )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من البهتان والقحة مالا يعرف لطائفة ، فلا ريب أن الرافضة فيهم شبه من اليهود ، فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويريدون قلب الحقائق ، فهم اعظم المبتدعة رداً للحق وتصديقاً للكذب .(1/149)
فأما الغار ففضيلة ظاهرة باهرة لقوله : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وفي الصحيحين أن أبا بكر قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رؤسنا – ونحن في الغار – فقلت لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما . والمعية هنا خاصة كقوله تعالى : { أنني معكم أسمع وأرى } ( طه 46 ) ، والمعية العامة بالعلم كقوله تعالى { وهو معكم أين ما كنتم } ( الحديد 4 ) ، قال ابن عيينه : عاتب الله الخلق كلهم في نبيه إلا أبا بكر فقال : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ( التوبة 40 ) / الآية . قال أبو القاسم السهيلي وغيره : هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر .(1/150)
وفي قوله : { إذ يقول لصاحبه } دليل على أن الصديق في دروة سنام الصحبة ، فإنه صحبه من أول مابعث إلى أن مات ، كما يقال مافرقه لا في الحياة ولا في الممات . وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : (( عل أنتم تاركوه لي صاحبي )) . وفي الصحيحين عن عائشة قالت : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله ? يأتينا فيه طرفي النهار . وفي حديث صلح الحديبية الذي أخرجه البخاري أن عمر قال : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قال : فلم نعطى الدنية في ديننا إذن ؟ فقال : إني رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري . قال فقلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا ناتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر ، أليس هذا نبي الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ولن يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق . فبهذا وأشباهه استحق أبو بكر أن يسمى صديقاً . وللبخاري عن أبي الدرداء عن النبي ? قال : (( أيها الناس . أعرفوا لأبي بكر حقه ، فإنه لم يسؤني قط )) .(1/151)
وإذا تدبر العاقل ما صح من الأحاديث وأمعن النظر لاح له الصدق من الكذب . ومن شرك الحفاظ وجهابذة الحديث في علمهم علم بعض ماقالوه وعرف بعض قدرهم وتحريهم ، وغلا فليسلم القوس إلى باريها كما يسلم إلى الأطباء طبهم وغلى النحاة نحوهم وإلى الصيارفة نقدهم ، ومع أن جميع أرباب الفنون يجوز عليهم الخطأ ، إلا الفقهاء والمحدثين : فلا هؤلاء يجوز عليهم الاتفاق على مسألة باطلة ، ولا هؤلاء يجوز عليهم التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق . فمن تأمل وجد فضائل الصديق كثيرة وهي خصائص له : مثل { إن الله معنا } . وحديث المخالة ، وحديث أنه أحب الرجال إلى رسول الله ? ، وحديث الإتيان إليه بعده( 14 ) ،وحديث كتابة العهد له ، وحديث تخصيصه بالصديق ابتداء والصحبة ، وتركه له [ وهو قوله : (( فهل أنتم تاركو لي صاحبي )) ] ( 15 ) ، وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط إذ وضع الرداء في عنقه ، وحديث استخلافه في الصلاة ، الحج ، وشأن ثباته بعد / وفاة الرسول ? وانقياد الأمة له ، وحديث خصال الخير التي اتفقت له في يوم . ثم له مناقب يشركه فيها عمر كحديث شهادته بالإيمان له ولعمر ، وحديث [ عليَّ يقول : كثيراً ما كنت أسمع النبي ? يقول ] ( 16 ) (( خرجت أن وأبو بكر وعمر )) ، وحديث نزعه من القليب ، وحديث (( إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر )) ومناقب عليَّ على كثرتها ليس فيها شيء من خصائص . وللصديق في الصحاح نحو عشرين حديثاً أكثرها خصائص ، فمناقبه جمة وفضائله استوجب بها أن يكون خليل رسول الله ? دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة فلو كان مبغضاً له كما يقول الرافضي لما خزن بل كان يظهر الفرح والسرور ، فأخبر الرسول ? أن الله معهما ، وهذا إخبار بأن الله معهما بنصره وحفظه . ومعلوم أن أضعف الناس عقلاً لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي قد عاداه فيه أولئك الملأ ، فكيف يصحب واحداً ممن يظهر له موالاته دون غيره وهو عدو له في الباطن ، وهذا لا(1/152)
يفعله إلا أغبى الناس وأجهلهم ، فقبح الله من جوز هذا على أكمل الخلق عقلاً وعلماً .
وقول الرافضي (( يجوز أن يستصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره )) فهذا باطل من وجوه عدة : أحدها : أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته ومحبته ، وعلم بالتواتر المعنوي أنه كان محباً للرسول مؤمناً به مختصاً به أعظم مما علم من سخاء حاتم وشجاعة عنترة . ولكن الرافضة قوم بهت ، حتى إن بعضهم جحدوا ان يكون أبو بكر وعمر دفنا في الحجرة النبوية( 17 ) . وأيضاً فما قاله هذا الرافضي يدل على فرط جهله عموماً ، وخاصة بما وقع وقت الهجرة ، فإنه اختفى هو وصاحبه في الغار وعرف بذلك أهل مكة وأرسلوا الطلب من الغد في كل فج وجعلوا الدية فيه وفي أبي بكر لمن أتى بواحد منهما ، فهذا دليل على علمهم بموالاته للرسول ? ومعاداتهم له ، ولو كان مباطنهم لما بذلوا فيه الدية . وأيضاً فإنه خرج ليلاً لم يدر به أحد ، فلماذا يصنع باستصحاب أبي بكر ؟ فإن قيل لعله علم بخروجه قيل يمكنه أن يخفى ذلك عنه كما خفى عن سائر المشركين . وفي الصحيحين / أن أبا بكر أستأذن في الهجرة فأمره أن يصبر ليهاجر معه . وفي الصحيحين عن البراء عن أبي بكر قال : سرينا ليلتنا حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق حتى رفعت لنا صخرة لها ظل فنزلنا عندها فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي ? في ظلها ثم بسطت فروة ثم قلت : نم يا رسول الله ، فنام . إلى أن قال : فارتحلنا بعد الزوال ، واتبعنا سراقة مالك ونحن في جلد من الأرض فقلت : يارسول الله ، أتينا . فقال : { لا تحزن إن الله معنا } ، فدعا عليه فارتطمت فرسه إلى بطنها ، فال : إني قد علمت أنكما دعوتما عليَّ ، فادعوا لي ، ولكما أن أردَّ عنكما الطلب . فدعا الله ، فنجا . فرجع لا يلقى أحداً إلا وقال : قد كفيتم ما هاهنا . وذكر الحديث . وفي البخاري عن عائشة قالت : فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً إلى الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيخ ابن(1/153)
الدغنة ، وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ قال : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي …. والحديث بطوله . وأيضاً فلما كان في الغار كان يأتيهما بالخبر عبد الرحمن بي أبي بكر ومعهما عامر بن فهيرة ، فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره . ثم لما جاء الكفار ورأى أقدامهم هلا خرج إليهم وأسلمه ؟ ! فلا مثلها . فسبحان من أعمى بصيرتك .
وقولك : (( الآية تدل على نقصه وقلة صبره )) فهذا تناقض : بينا أنت قائل (( استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره )) إذ جعلته قليل الصبر ذا خور ، فبالله على أي شيء تحسد : لا علم ولا فهم . وأعلم أنه لم يكن في المهاجرين منافق( 18 ) ، وذلك كالمستحيل فإن العز والمنعة كانت بمكة للمشركين . ومن دخل في الإسلام تعب بهم وآذوه بكل طريق ، فلا يدخل أحد في الإسلام إلا ابتغاء وجه الله ، لا لرهبة ، إذ الرهبة من الطرف الآخر . وإنما كان النفاق في أهل المدينة لأن الإسلام فشا بها وعز وعلا على الشرك ، فبقي أناس في قلوبهم زيغ وغل لم يؤمنوا ، فأسلموا في الظاهر تقية وخوفاً من السيف ، والمهاجرون ما أكرههم أحد ولا خافوا من المسلمين ، بل هم كما قال الله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } ( الحشر 8 ) ، وأبو بكر أفضلهم ، وكلهم خاطبوه بخليفة رسول الله ، فمن سماهم الله (( صادقين )) لا يتفقهون على ضلالة . وقولك (( يدل على نقصه )) نعم كلتا ناقص بالنسبة إلى رسول الله ? / ولم ندع عصمته كما فعلتم . ثم الله قد قال لنبيه { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } ( النحل 127 ) ، وقال للمؤمنين عامة : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } ( آل عمران 139 ) ، وقال لنبيه : { لا تمدن عينيك إلى ما تعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم } ( الحجر 88 ) ، ولا ينافي الحزن الإيمان .ومن شبه يقين الصديق وصبره بغيره من(1/154)
الصحابة فهو جاهل ، والصديق أرفع من عثمان بكثير من المناقب وبعد ذا فقد صبر عثمان وثبت ثباتاً ما مثله : حاصروه ، وراموا طعنه وقتله ، وهو يمنع أنصاره ومواليه عن حربهم ، إلى أن ذبحوه ، وهو صابر محتسب موقن ، ثم إن قوله { لا تحزن } لا يلزم منه وقوع الحزن وكذا النهي عن كل شيء كقوله : { يأيها النبي أتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } ( الأحزاب 1 ) ، { ولا تدع مع الله إلاها آخر } ( القصص 88 ) ، { فلا تكونن من الجاهلين } ( الأنعام 35 ) ، وهب أنه حزن ، فكان حزنه على رسول الله ? لئلا يقتل فيذهب الإسلام . [ روى ] وكيع عن نافع عن أبن عمر عن ابن مليكة قال : لما هاجر النبي ? أخذ طريق ثور ، فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه ، فقال النبي ? : مالك ؟ فقال : يا رسول الله أخاف أن تؤتي من خلفك فأتأخر ، وأخاف أن تؤتي من أمامك فأتقدم . فلما انتهيا إلى الغار قال . يا رسول الله كما أنت ، حتى أقمه . قال نافع فحدثني رجل عن ابن ابي مليكة أن أبا بكر رأى حجراً في الغار فألقمه قدمه وقال : يا رسول الله ، إن كانت لدغة كانت بي . وفي الصحيحين (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين )) فحزن الصديق على النبي ? - لا حتمال أن يؤذى – يدل على كمال محبته وذبه عنه . وقد أخبر الله عن يعقوب أنه قال : { إنما أشكو بثي وخزني إلى الله } ( يوسف 86 ) . ثم أنتم تحكون عن فاطمة رضي الله عنها من الحزن على ابيها مالا يوصف ، وأنها اتخذت بيت الآخزان ، وتصفونها بما لا يسوغ . فالجاهل يريد أن يمدح فيقدح . وإن قلت حزن أبي بكر على نفسه من القتل ، دل [ ذلك ] على أنه مؤمن ولم يكن مباطناً لقريش . ونبي الله قال : (( وإنا بك يا إبراهيم لمحزنون )) . والحزن مباح وعلى ذلك تدل النصوص .(1/155)
وقلتم( 19 ) : قوله { لصاحبه } لا يدل على إيمان ، وذكرتم { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } . قلنا : لفظ (( الصاحب )) عام ، ومنه قوله { والصاحب بالجنب } . ولكن آية الغار بسياقها تدل على صحبة المودة والموالاة .
وأما قولك : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } ( الفتح 26 ) فلأنهم كانوا انهزموا فلو قال { على رسوله } وسكت لما دل الكلام على نزول السكينة عليهم ، وأما هنا فلم يحتج إلى هذا لأنه كان تابعاً مطيعاً ، فهو صاحبه والله معهما ، فإذا حصل للمتبوع هنا سكينة وتأييد بالملائكة كان ذلك التابع أيضاً بحكم اللازم . وأبو بكر لما نعت بالصحبة المطلقة الدالة على كمال الملازمة ، ونوه بها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها مصحوبة وهو حال شدَّة الخوف ، كان هذا دليلاً بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد والتمكين ، ولهذا لم ينصر الرسول في مواطن إلا كان أبو بكر أعظم المنصورين بعده ، ولم يكن أحد من الصحابة أعضم يقيناً وثباتاً منه ، ولهذا قيل : لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح ، كما في السنن عن أبي بكرة أن النبي ? قال : (( هل رأى أحد منكم رؤيا ؟ فقال رجل : أنا رأيت كأن ميزاناً من السماء نزل ، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت به ، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان )) .(1/156)
وقولك : { وسيجنبها الأتقى } ، لا يجوز أن تكون الآية خاصة بأبي الدحداح دون أبي بكر ، كيف والسورة مكية وأبو الدحداح كانت قصته بالمدينة باتفاق ، فإن قال أحد أنها نزلت فيه فمعناه أنه ممن شملته الآية ، فإن كثيراً ما يقول بعض الصحابة والتابعين نزلت في كذا ، ويكون المراد أي دلت على هذا الحكم وتناولته ، ومنهم من يقول قد تنزل الآية مرتين بسببين . وقد ذكر ابن حزم بإسناده عن [ عبدالله ] بن الزبير وغيره أنها نزلن في أبي بكر( 20 ) ، وكذلك ذكر الثعلبي ونقله عن عبدالله وعن سعيد بن المسيب . وقال ابن عيينة : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : أعتق أبو بكر سبعة كلهم يعذب في الله ، بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزبيرة وأم عميس وأمة بني المؤمل ، فأما زبيرة فكانت رومية وكانت لبني عبدالدار ، فلما أسلمت عميت فقالوا : أعمتها اللات والعزى ، قالت : فهي تكفر باللات والعزى فرد الله بصرها . / وأما بلاب فاشتراه وهو مدفون في الحجارة ، فقالوا : لو أبيت إلا أوقيه لبعناكه . فقال أبو بكر : لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته . قال : وفيه نزلت { وسيجنبها الأتقى } إلى آخر السورة . وأسلم وله أربعون ألفاً فأنفقها في سبيل الله . وأيضاً فلم يقل أحد إن أبا الدحداح أتقى الأمة وأكرمهم عند الله . وفي الصحيح (( ما نفعني مال أبي بكر )) وفي البخاري أن النبي ? خرج في مرض موته فقعد على منبره وقال : (( إنه ليس أحد أمن عليّ في نفسه وماله من أبي بكر ولو كنت متخذاً خليلاً لأتخذته خليلاً ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة ابي بكر )) . وصحح الترمذي عن عمر قال : أمرنا رسول الله ? أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً . فجئت بنصف مالي ، فقال النبي ? : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت مثله . وأتى أبو بكر بماله كله ، فقال النبي ? : ما أبقيت لأهلك ؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت :(1/157)
لا أسابقك إلى شيء أبداً .
وأما أية : { قل للمخلفين } ( الفتح 16 ) ، فقد استدل بها على خلافة الصديق الشافعي والأشعري ، وابن حزم بان الله قال : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابداً ولن تقتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } ( التوبة 83 ) . قالوا : فأمر الله نبيه في هؤلاء بهذا فعلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس هو ، فوجب أن يكون من بعده ، وليس إلا أبا بكر أو عمر دعوا إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون . وهؤلاء دعلوا المذكورين في الفتح هم المخاطبون في براءة ، ومن هنا صار في الحجة نظر ، والفتح نزلت في قصة الحديبية باتفاق . وبحث هنا شيخنا ( 21 ) وطول ودقق ، إلى أن قال في الآية : إنها لا تتناول القتال مع عليّ قطعاً ، لأن الله قال : { تقاتلونهم أو يسلمون } والذين حاربهم عليّ كانوا مسلمين بنص القرآن ، قال اله : { وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما } ( الحجرات 9 ) ، الآية ، فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي ، وأخبر أنهم إخوة . وقال عليه السلام في الحسن / : (( وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين )) فجرى كذلك ودل عليه أن ما فعله السيد الحسن كان أرضى لله من القتال .(1/158)
وأما ما موهت به من هذيانك ونقلك الكذب الذي هو هجيراك وديدنك من أمر العريش ، فقولك (( هرب عدة مرار في غزواته )) فغزاة بدر أول مغازي الرسول ، فلا غزا هو ولا أبو بكر قبلها ، فمتى هرب ؟ كلا لم يهرب قط . حتى يوم أحد ما أنهزم لا هو ولا عمر ، بل عثمان تولى وعفا الله عنه بالنص , وكان أبو بكر أحد من ثبت مع النبي ? يوم حنين كما تقدم . ولو كان في الجبن بهذه المثابة لم يخصه الرسول بأن يكون معه في العريش . بل قوله للرسول إذ رآه يستغيث بالله : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، دال على ثباته وقوة يقينه . وكان هو ورسول الله ? أفضل من شهد بدراً مع كونها لم يقاتلا ، فما كل من قاتل أفضل ممن لم يقاتل . فإن كنت يا رافض( 22 ) تصفه بالهروب مراراً وبالخور والفشل والفقر والإفلاس وبكونه خياطاً ، وكان ليس بذي عشيرة ولا بيته كبيت بني مناف وبني مخزوم ولا قريباً من ذاك ولا له عبيد ولا خدم ، فبالله لماذا خضع له السابقون الأولون وبايعوه وقالوا (( يا خليفة رسول الله )) ؟ ماذاك والله إلا النص فيه . ولولا أفضليته عليهم في نفوسهم كما قال عمر : والله لأن أقدم فتضرب عنقي – لا يقربني ذلك من إثم – أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر .(1/159)
قال الرافضي : (( وأما إنفاقه على الرسول فكذب ، لأنه لم يكن له مال )) فيقال : من أعظم البلايا إنكار المتواتر المستفيض القطعي . فمن ذا الذي نقل من الثقات أو الضعفاء ما زعمت ؟ أفبالوقاحة والمباهته ينكر جود حاتم وشجاعة علي وحلم معاوية وغنى أبي بكر وفضله ؟ بل هؤلاء لا ذكر لهم في القرآن . وهو فيه نص صريح بفضله وغناه ، ففي الصحيحين أن مسطحاً كان أبو بكر ينفق عليه ، وكان أحد من تكلم في الإفك ، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه . فأنزل الله قوله : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } ( النور 22 ) ، فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فأعاد عليه النفقة . وقد أشترى بماله سبعة من المعذبين في الله . / وقال النبي ? : (( ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر )) . ولما هاجر استصحب ما بقي من ماله ، قيل كانت ستة آلاف ، وكان يتجر .
وقولك (( كان مؤدباً )) كذب ، ولو كان كذلك لما شانه . والمعروف أن أهل مكة كانت الكتابة فيهم قليلة جداً ، ولو كان أبو بكر معلماً لأوشك أن ينشأ في قريش خلق كثير يكتبون . ولا كان خياطاً أيضاً ، والخياطة في قريش نادرة لقلة الحاجة ، فإن عامة ثيابهم الأزر والأردية . ولما استخلف أراد أن يتجر لعياله ، ففرض له المسلمون من مال الله كفايته لئلا يشتغل عن أعباء الخلافة .(1/160)
وفي الصحيحين أن أبا بكر لما ابتلي المسلمون بمكة خرج مهاجراً حتى إذا بلغ الغماد لقيه ابن الدغنة سيد القارة وقال : مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق ، وإني لك لجار ، ارجع واعبد ربك ببلدك . فرجع به ابن الدغنة وطاف في قريش فأرجاه فقالوا له : مر أبا بكر فليعبد الله ربه في داره ولا يؤذنا ولا يستعلن ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا … الحديث بطوله .
وقولك (( لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما في عليّ { هل أتى } . والجواب أن حديث نزول هل أتى من الموضوعات كما قدمنا( 23 ) . ولو وجب أن ينزل قرآن في كل قضية لكان المصحف عشرين سفراً كباراً( 24 ) .
وقولك (( تقديمه في الصلاة كان من أمر عائشة )) فمن باب الافتراء والمكابرة وجحد المتواتر ، فمن نقل لك ماذكرته ؟ إسناد ثابت ، أم من نقل شيوخك المفيد والكراجكي وأمثالهما الذين تصانيفهم مشحونة بالكذب ؟
أفكانت صلاة واحدة حتى يقال فيها هذا ؟
وأهل العلم يعلمون أن أبا بكر صلى بالناس أياماً متعددة بقرب الحجرة النبوية بحيث يسمع الرسول ? ، ولا تخفى عليه إمامته . وتواتر أن ذلك بإذنه ، والنصوص في ذلك كثيرة جمة .
وقد قال نبي الله في مرضه ذلك [ على ] ما في الصحيحين عن عائشة أنه قال (( أدعي لي اباك وأخاك حتى اكتب لهم كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى / ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )) فهذا من إخباره بالكوائن بعده ، ولهذا أعرض عن الكتابة لأبي بكر لما علم أن الله يجمعهم عليه وأن المؤمنين يبايعونه ولا يختلفون عليه : لا في الأول ، ولا في الآخر عندما استخلف عليهم بعده خيرهم . أماتنا الله على حب الأربعة ، فإن المرء مع من أحب .
أخره والله أعلم
والحمد لله على الإسلام . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحابته وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين وسلك تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .(1/161)
فرغ منه منتقيه من كتاب شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيميه أسكنه الله الجنة له المنة ، في نصره أئمة السنة ، في الرد على ابن المطهر البغدادي الشيعي . والأصل نحو تسعين كراسة . وهذا ( المنتقى ) فيه كفاية بحسب همم الناس ، والأصل فبحسب هممة الشيخ ، تغمده الله برحمته آمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
( 1 ) تقدم دفاع الحلي في ص282 – 284 عن مسيلمة الكذاب واهل اليمامة والجواب عليه ، فارجع إليه إن شئت .
( 2 ) وتسري علي يها اعترافاً منه بشرعية حكم أبي بكر وحروبه ونتائجها ( أنظر رسالة مؤتمر النجف ص37 الطبعة الثالثة ) .
( 3 ) ومع ذلك لم يتخلفوا عن الصلاة خلفه في كل المواقيت .
( 4 ) ولو أنهم ولوا ابا بكر لتقدمه في السن لكان ابوه أولى منه بالولاية لأنه أعلى منه سناً .
( 5 ) وشيعة جعفر الصادق انقسموا بعده في الإمامة التى لا عمل لها : فتعلق بعضهم بابنه الأكبر إسماعيل ، وتعلق الآخرون بابنه الآخر موسى . فالذين أنكروا بيعة موسى خرقوا الإجماع بلا ريب وعددهم كبير يخرق به افجماع ، فإن كان الإجماع شرطاً عند الإمامية الموسوية أو عندهم وعند الإسماعيلية فتبعية الطائفتين للإمامين اللذين لا عمل لهما باطلة حتما . وأما إمامة أبي بكر فكاذب فاجر كل من زعم أنه شذ عنها غير سعد بن عبداة ، ومع ذلك قالمسلمون نظروا إلى سعد بعين الشفقة ، ولم يقيموا لشذوذه وزناً ، وقافلة الإسلام مابرحت تسير من أمس إلى اليوم وستظل سائرة إلى يوم الدين ، وهي الموئل ، ومن شذ عنها فعلى نفسه يجني .
( 6 ) عن الأصل 4 : 232 .
( 7 ) عن الأصل 4 : 232 .
( 8 ) أنظر ص430 .
( 9 ) كذا في الأصل 4 : 237 . والذي في المنتقى (( الاجتماع )) هنا وفيما يأتي بعد .
( 10 ) عن الأصل 4 : 238 .
( 11 ) في الميراث .
( 12 ) في الجهاد .
( 13 ) أنظر ص497 .
( 14 ) عن الأصل 4 : 240 .(1/162)
( 15 ) أي حديث المرأة التي قال لها النبي ? : (( إن لم تجديني فأتي أبا بكر )) وهو في الصحيحين .
( 16 ) عن الأصل 4 : 252 .
( 17 ) عن الأصل 4 : 253 .
( 18 ) وبلغ من سفاهة أحلامهم أن أنكروا بأن يكون للنبي ? بنات غير فاطمة . أنظر ص257 و 284 .
( 19 ) لا حظ بعض الأفاضل أن السور والآيات المكية ليس فيها أي شكوى من النفاق ، لأن النفاق ليس من أخلاق العرب ولا سيما قريش . وأكثر ما يتردد ذكر النفاق في السور والآيات المدنية لوجود اليهود وسريان عدواهم إلى بعض الذين في قلوبهم مرض .
( 20 ) الخطاب للشيعة .
( 21 ) أنظر ص396-497 .
( 22 ) أي شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج .
( 23 ) في المنتقى (( يا دانص )) وهذه الجملة من كلام الذهبي وليست في الأصل .
( 24 ) في ص497 – 581 .
( 25 ) ومع ذلك فآية النور وآية { وسيجنبها الأتقى } نزلتا في إنفاقه .
فصل ختامي
بقلم
محب الدين الخطيب
الجيل المثالي
من ايام أفلاطون ( 430 – 348 ق . م ) وكتابه (( الجمهورية )) ثم من عصر أبي نصر الفارابي ( 260 – 339هـ ) وكتابه (( المدينة الفاضلة )) .
إلى زمن السر توماس مور Tomas More ( 1478 – 1535 م ) وكتابه (( يوتوبيا )) Utopia
من تلك العصور والأزمان – إلى يوم الناس هذا – والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب ، والمنشط والمكره في مختلف أطوار الحياة ، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدي به في كمالهم الإنساني .
هي أمنية من أماني الشعوب والأمم ، من أقدم الأزمان إلى الآن ، تحدث عنها الحكماء ، وتغنى بها الشعراء ، وترنم بها رخيم أصوات الهاتفين ، وهمس بها ثفوة الضارعين والمناجين ، من كل صادح أو باغم .(1/163)
بل إن (( الجيل المثالي )) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من اولى العزم ، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العم ، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال ترنو إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفواتها .
تريث موسى بقومه في آفاق العريش وبرية سيناء وصحاري النقب وحوالي بئر سبع أربعين حولا يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء ، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستن بسنن الله ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال ، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه ، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية …
ونبغ في الصين حكيمها … كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم كونفوشيوس ( 550 – 479 ق . م ) ، ولا شك أنه كان من اصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة . لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لين السماء ( الامبراطور ) ولما في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار ، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض ، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار . ولا من أرواح الآباء ، وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود . وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين ، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة ، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه ( الحوار ) ( 1 ) . ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه ، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن …
وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس ، فصنفوا في ذلك المصنفات ، وألقوا به الخطب . وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا . وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا . وكتاب (( الجمهورية )) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشطط . ثم أنقضى زمن حكماء اليونان وحكمتهم ، دون أن تعمل شعوبهم بما دعوها إليه ، لأن الدعوة والمدعوين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك …(1/164)
وعالج المسيح في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة ، ممن كانوا يقصدون هيكل أورشليم ، أو يتسلقون جبل الزيتون ، أو يترددون على شواطئ بحيرة طبريا وحقول أراض الجليل وحدائقها ، فلم يستجيب لدعوته إلا عدد ضئيل لا يكاد يسمى جماعة فضلاً عن أن يكون امة .
إن الإنسانية من اقدم ازمانها ، وفي مختلف أوطانها ، لم تشهد (( الجيل المثالي )) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحارى أرض العرب يدعوا إلى الحق والخير بالقوة والرحمة ، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفرس وآراميين وكنعانيين وعبريين ومصريين وليبيين وبربر وفاندال ولا تين وتيوتون وسكسونيين وصقلبيين وغيرهم .
وكانت المفاجأة عجيبة – بمصدرها ، وكيفيتها ، وأطوارها – ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التى لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ .
أين كان هؤلاء ؟ وكيف تكونوا على حين غفلة من الأمم ؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها ؟ وكيف نجحت ؟ وما هي وسائل نجاحها( 2 ) .
سلسلة من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجأوا بما ينسيهم تاليه أوله . إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما ايقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير ، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها ، وسيرتها وأعمالها ، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض .(1/165)
وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها ، ثم أنساهم بعضها بعضاً . كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من اسرارها . وبالرغم من ضياع العدد الأكبر من المراجع القديمة فيما احترق مع بيوت الفسطاط ومدارسها وجوامعها مدة أربعة وخمسين يوماً( 3 ) ، وفيما غرق دجلة أيام ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد( 4 ) ، وفيما خسرناه بضياع الأندلس وكوارث الحروب الصليبية ، وفيما فرطنا به في أزمان الجهل والانحطاط – بالرغم من كل هذا – فإن النفوس استيقظت الآن لدراسة أحوال (( الجيل المثالي )) الفذ الذي عرفته الدنيا ، ولنقد الأصيل والدخيل من اخباره ، وتحليل عناصر الخير التى أنطوى عليها ، ومعرفة الأسباب التى صار بها جيلاً مثالياً ، لتستفيد الإنسانية من الأقتداء به ، والتاسي بسننه واخلاقه وتصرفاته .
وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس الخير خاتم رسل الله المبعوث بأكمل رسالات الله ? .إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لهذا الجيل المثالي ، لا يشك أحد ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن . ولكن يحق لنا أن نتسائل : ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله ؟ ألم يتح لموسى أن يعاشر قومه في الحل والترحال معاشرة تربية ودعوة أكثر من أربعين سنة ؟ ومع ذلك فقد جاء في (( سفر العدد )) من التوراة الموجودة الآن في ايدي قومه ( 14 : 26 – 27 ) ما نصه : (( وكلم الرب التوراة وهارون قائلاً : حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليَّ ؟ (( 29 )) (( في هذه الفقرة تسقط جثثكم جميع المعدومين منكم حسب عددكم ، من ابن عشرين فصاعدا الذين تذمروا عليّ )) .(1/166)
أين – من أصحاب موسى هؤلاء – اصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس ، فلما بلغ النبي ? بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم ، فأخبرهم عن ريش ، واستشارهم في الموقف . فقام الصديق أبو بكر فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال واحسن ، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو ( الأسود ) الكندي فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك . والله ل نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه )) ، فقال له رسول الله ? خيراً ، ودعا له . ثم قال رسول الله ? : (( اشيروا عليَّ أيها الناس )) . فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج واقوى زعيم في الأنصار : (( والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ )) قال : (( أجل )) . قال سعد : (( فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة . فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك . فوالذي بعثك بالحق لو أستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ماتقر به عينك . فسر بنا على بركة الله )) . وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق .(1/167)
هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد . ورأيناهم في تحريم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها – فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه – قالت : (( جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله ? في مواريث قد درست ليس بينهما بينه ، فقال لهما رسول الله ? : إنكم تختثمون إليّ ، وأنما أنا بشر ، ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض ، وإنما اقضى بينكم على نحو مما اسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا ياخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكي الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقى لأخي ! فقال رسول الله ? : أما إذا قلتما ذلك فأذهبا ، فاقتسما ثم توخيا الحق ، ثم استهما ( أي اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما ) ، ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه )) . وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل أسميهما ، لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم الممتازين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصم النبي ? بالمكانة والمناقب وهذه الطريقة في تربية محمد ? لصحابه على محبة الحق ، واستجابة أصحابه له فيما أحب ? أن يكونا عليه ، قد اشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي . فلما كانت خلافة الصديق رضوان الله وسلامه عليه ناط منصب القضاء برمز العدالة في الإنسانية – وهو عمر بن الخطاب – فكانت تمر على عمر الشهر ولا ياتيه اثنان يتقاضيان عنده ، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاء والمحاكم وهي أمة الحق ، ومن اخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه بل أن الطبقة الدنيا في هذا الجيل ( وأحوالها وأخلاقها معروفة في كل جيل وقبيل ) وهم ممن يستطيع الشيطان في العادة أن يغلبهم على إرادتهم في بعض الأحيان فيقعون في زلة يستوجبون عليها الحد الشرعي ، فإن من(1/168)
أعجب ما وقع في تاريخ البشر أن يأتي من يقع في شيء من تلك الزلة من أهل تلك الطبقة إلى رسول الله ? فيعترف له بزلته ، يلح بلجاجة وإصرار إقامة الحد عليه ( وفي ذلك حتفه ) ليتطهر مما دنسه به الشيطان . وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع ، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا بها عقوبة الآخرة .
وهذه الملاحظة – عن هذه الطبقة بالذات – قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من ائمة أهل البيت من زيدية اليمن ، وهو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة ( المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614 ) نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع السيد محمد بن إبراهيم بن علي المترضي الوزير ( 775 – 840 ) في كتابه (( الروض الباسم )) ( 1 : 55 – 56 ) فذكر تلك الطبقة وقال : (( إن اكثرهم تساهلا في امر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر ، لا سيما معصية الزنا … لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا مالا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم ، ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل . وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين ، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين )) . أي أن طبقة الدهماء في ذلك الجيل المثالي – ممن قد يقعون في الكبائر – كان لهم من صدق الإيمان والإستقامة على الحق ما يرفعهم إلى مرتبة من يحق له منصب الإمامة في امة من اهل التقوى والدين ، فكيف بخاصة الصحابة الذين نزههم الله عز وجل عن اصغر الهفوات ، ورفعهم إلى أعلى الدرجات . ولولا أن النبوة ختمت بمربيهم وهاديهم إلى الحق ? لما كان مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أقل من الأنبياء الذين سلفوا في الأمم الأخرى . وإن هذا الذي يتكلم عن الزناة من دهماء الصحابة واستحقاقهم لمنصب الإمامة إمام من(1/169)
علماء أهل البيت يعني ما يقول ، ويعلم معني أقواله . لكنه رأى هذه الطبقة في ذلك (( الجيل المثالي )) قد صدر عنها من صدق الإيمان ما لم تر أمة من امم الأرض مثله ، فحكم بعلمه ، وكان منصفاً لنفسه وللحق ، ولدعوة الإسلام واثارها في اهلها الأولين .
وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير ( 1 : 56 – 57 من الروض الباسم ) قائلاً يخاطب قارئ كتابه : (( فاخبرني على الإنصاف : من في زماننا – وقبل زماننا – من اهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً ، وأتى إلى ولاة الأمر مقراً بذنبه مشتاقاً إلى ربه ، باذلاً في رضا الله لروحه ، ممكنا للولاة أو القضاء من الحكم بقتله ؟ ! وهذه الأشياء تنبه الغافل ، وتقوي بصيره العاقل . وإلا ففي قول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كفاية وغنية ، مع ماعضدها من شهادة المصطفي عليه السلام بأنهم (( خير القرون )) ، وبأن غيرهم (( لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه )) إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنفية )) .
ونعود إلى المقارنة الأولى بين أمة محمد ? وأمة موسى عليه السلام – وكلاهما من الأنبياء أولى العزم وموسى أتيح له من الوقت لتربية أمته ضعف الوقت الذي أتيح لمحمد ? في تربية أمته ، فكيف نالت أمة محمد ? هذه المكرمة فكانت (( الجيل المثالي )) الذي خلده الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله في سورة آل عمران 110 { كنتم خير امة اخرجت للناس } ، بينما الجبل الذي كان مع موسى استحق أن يدمغ بما ورد في سفر العدد ( 14 : 26 – 27 و 29 ) كما نقلناه أنفاً عن التوراة التي يطبع منها في كل سنة ملايين النسخ بكل اللغات ؟(1/170)
أنا فكرت في هذا الأمر كثيراً من خمسين سنة إلى الآن ، ومن ذلك الحين وأنا أراقب كل ما يقع عليه نظري من تحقيقات العلماء وخطرات أفكارهم لأصل إلى حكمة في هذا الامتياز الذي أختص به أصحاب رسول الله ? فجعلهم (( الجيل المثالي )) الوحيد الذي عرفه تاريخ الإنسانية .
فكرت في معادن الأمم ومواهبها وسجاياها ، فراقبتها جميعاً وهي في بداوتها ( أي في مادتها الخام ) قبل أن تطرأ عليها الحضارات والعلوم المكتسبة والصناعات والأنظمة الاجتماعية التي هي من صنع التشريع البشري ، فتبين لي أن الأمة التى منها (( الجيل المثالي )) في الإسلام امتازت في بداوتها على كل أمة أخرى في بداوتها بسعة المدارك ونضوج العقل ودقة المشاعر ودودة الأخلاق وأنها امتازت بداوتها بلغة هي ارقى على الإطلاق من كل لغة أخرى للبشر في الحضارة واتساعها الحادث في الصناعات والعمران والفنون والثروة ، ولو أن عالما من علماء اللغات أمسك بيده قلماً بالمداد الأحمر وشطب به كل لفظة في المعجم الألماني أو الإنجليزي أو الفرنسي يرى أنها من الألفاظ التى حدثت بعد التقدم الصناعي أو العلمي أو الأقتصادي أو الفني ، ولم تكن للألمان أو الأنجليز أو الفرنسيين في بداوتهم ، لما بقى لهذه الأمم في اكبر معاجمها اللغوية غلا ما يعادل نصف جزء من أجزاء لسان العرب العشرين إن لم يكن اقل من ذلك . والعرب لما استفحل ملكهم وصارت لهم جيوش عظيمة واصطلاحات عسكرية وإدارية وفلسفية وعلمية وصناعية أبي علماؤهم أن يقحموا على معاجمهم واصل لغتهم هذه الاصطلاحات ، وبقيت معاجم اللغة تمثل اصل اللغة بشواهدها من شعر العرب وحكمتهم وأمثالهم في ايام بداوتهم . فهي برهان حسي قائم أمام الأنظار على ما امتازت به العربية بين جميع اللغات التى نطق بها البشر ، ومما امتازت به الأمة التى ظهر منها (( الجيل المثالي )) إنسانيتها العليا في معاملة الغير وغكرامه بالأمن والقرى ، وإذا استثنينا ما يكون في حالة(1/171)
الحرب بين القبيلة وغيرها من العرب ، فإن جزيرة العرب من أقدم أزمانها إلى هذه الساعة اعظم بلاد الله أمناً على الإطلاق ، ويتنقل فيها من يشاء حيث يشاء فيجد لنفسه فندقاً مجانياً عند كل بصيص ضوء يعشو إليه في الليل ، أو أي خباء يلوح له في النهار ، وله ( حق ) الضيافة ثلاثة أيام بلا من عليه ولا فضل لمضيفيه . ومن آداب الضيافة عندهم أن لا يسالوا ضيفهم حتى عن أسمه . وكان عندهم نظام الأشهر الحرم يمتنع فيها القتال بين المتحاربين ، وكان عندهم الأمن المطلق حتى للحمام وسائر الصيد في داخل أعلام الحرم في جميع أيام السنة : ولو لقي الرجل قاتل أبيه في ارض الحرم ماكان له ان يروعه أو يزعجه . أنا مقتنع بأنه كما أختار الله محمداً ? لأكمل رسالاته وآخرها ، اختار كذلك العربية لكتابة الحكيم ، لأنها أكمل اللغات وأغناها . واختار ايضاً لرسوله أصدق الأمم وأكرمها معدناً وأجمعها للصفات التى تكفل نجاح هذه الدعوة وتقوى بها على حمل هذه الأمانة ، فكانت بها خير أمة أخرجت للناس . وقد دعت إلى الإسلام بسيرتها وأخلاقها وتصرفاتها فتعرفت الأمم إلى الرسالة المحمدية بما رأت العيون من سيرة الصحابة ، أكثر مما سمعته الآذان من بيانهم . وأصحاب رسول الله ? لما استجابوا لهذه الدعوة وتشرفوا بالدخول في الإسلام كانوا متفاوتين في مبلغهم من سجايا أمتهم : فبعضهم كان اسرع إدراكاً من بعض . وإذا أمتاز أحدهم على أخيه بناحية من نواحي الخير ، كان لأخيه ناحية آخرى من الخير يمتاز بها . كان أبو بكر أسبق من عمر إلى إدراك الحق في دعوة الإسلام ، لكن عمر حتى في أشد عصبيته على الإسلام – يوم بلغه إسلام أخته وابن عمه وجاء ليبطش بهما – طرقت سمعه صيحة من صيحات الحق التى يهتف بها الإسلام ، فبردت عصبيته ، وتغلب نزوعه للحق على نزوعه لنصرة الإلف ، فكان – في خلال دقيقتين أثنين – من أكرم أنصار الحق على الله ، ومن أسرع البشر إلى الإستجابة لنداء الحق . وخالد(1/172)
بن الوليد كان شاباً من أبناء الأعيان من رؤساء قريش ، سكر بخمره النصر على المسلمين في أحد ، وعاد إلى مكة نشوان بها ، لكن الحق الذي كان الإسلام يهتف به كان يطرق مسامع خالد ، فتأمل فيه فوجده حقاً ، فترك ثروة أبيه وجاهه ومربط خيله الواسع في مكة ، وخرج قاصداً المدينة ليدخل في دين الذين حاربهم وانتصر عليهم ، فلقي في طريقه عمرو بن العاص وحامل مفتاح الكعبة وعلم أنهما مثله قد تبين لهما الحق وخرجا في طلبه والالتحاق بأهله والجهاد في سبيله ، فقال النبي ? فيهم عند بلوغه المدينة : (( رمتكم مكة بأفلاذ كبدها )) .
مثل هذه الأخلاق كثيرة جداً في (( الجيل المثالي )) الذي صنع منه محمداً ? أصحابه ولكننا قلما نجد ذلك شائعاً في الأمم الأخرى . نعم . إن الخير موجود في كل الأمم ، ولكن لا إلى الحد الذي يقوم به الجيل المثالي ، ولذلك كان أصحاب محمد ? خير أمة أخرجت للناس .(1/173)
يقول رسول الله ? فيما رواه البخاري في صحيحه ( الكتاب 61 – الباب الأول ) من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله ? قال : ? (( قال تجدون الناس معادن ، وخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) . ومما لا شك فيه أن العرب كانوا على وثنية ، ولكن من من الأمم لم يكن عند ظهور الإسلام من أهل الوثنية بمختلف معانيها ؟ إلا أن العرب كانوا أحدث الأمم في وثنيتهم ، لأنها طرأت عليهم قبيل الإسلام بمئات قليلة من السنين على يد عمرو بن لحي الخزاعي في خبر طويل لا يتسع المقام للإفاضة فيه وكانت العرب قبل ذلك من أهل الحنفية دين إبراهيم وإسماعيل ، وبنو إسماعيل انتشروا من مكة وتوطنوا في جميع البقاع الشمالية من جزيرة العرب إلى أسوار مدينة دمشق . ومن العرب من كانوا على دين شعيب وقد ترك لها عندهم من الهياكل والسدنة والتهاويل ما يضارع الذي لها عند غيرهم ، فكان أقرب أمم الأرض إلى دين الفطرة ، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم فيهما جاء بسورة ( البقرة 143 ) : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس وليكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم } ، وما جاء في سورة ( الأنفال 64 ) : { يأيها النبي حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين } وما جاء في سورة ( التوبة 100 ) : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين أتبعوهم بأحسن رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } .(1/174)
نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة ( 3 : 2 طبعة السلطان عبد الحفيظ ) عن الزبير بن بكار (( أن رجلاً قال لعمر بن العاص : ما أبطأ بك عن الإسلام ، وأنت أنت في عقلك ؟ قال : إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم ( يعني أباه ومن هم في طبقته ) وكانوا ممن توازي حلومهم الجبال ، فلما بعث النبي ? فأنكروا عليه ، قلدناهم ، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا ، فإذا حق بين فوقع في قلبي الإسلام ، فعرفت قريش ذلك مني ، من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه ، فبعثوا إلى فتَّى منهم فناظرني في ذلك ، فقلت : أنشدك الله ربك ورب من قبلك ومن بعدك : أنحن أهدى أم فارس والروم ؟ قال نحن أهدى ( يعني الصدق والعدالة والأمانة والتعاون المحمود ) قلت : فنحن أوسع عيشاً أم هم ؟ قال : هم . قلت : فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا وهو أعظم منا فيها أمراً في كل شيء ؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد – من أن البعث بعد الموت ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته – حق ، ولا خير في التهادي في الباطل )) .
إن المسلمين – بل الإنسانية كلها – اشد ما كانوا اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله ? وكرم معدنهم وأثر تربية رسول الله ? فيهم ، وما كانوا عليه من علو المنزلة التى صاروا بها (( الجيل المثالي )) الفذ في تاريخ البشر . وشباب الإسلام معذور إذا لم يحسن التأسي بالجيل المثالي في الإسلام لأن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف والأغراض والبتر والزيادة وسوء التأويل في قلوب شحنت بالغل على المؤمنين الأولين فأنكرت عليهم حتى نعمة الإيمان ! وقد اصبح من الفرض الديني ….. على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات ، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع ، إلى أن يكون أما شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يفتدون به ، ويجددون عهده ، ويصلحون سيرتهم بصلاح سيرته .(1/175)
وهذه المعاني تحتاج إلى دراسات علمية عميقة ، لتبين لنا سر الله في تكوين هذا (( الجيل المثالي )) على يد حامل أكمل رسالات الله . وإن فصلا كهذا أضيق من ان يلم – ولو بإشارات قصيرة ولمحات سريعة – بمثل هذه المعاني التى تخطر على البال في أثناء المطالعات والتفكير ، ونحن نكتفي بتسجيلها ليتخذ منها أذكياء الطلبة والشبان مواضيع للدارسة والتمحيص . والله الموافق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1 ) نقله إلى العربية السيد محمد مكين الصيني عن اللغة الصينية مباشرة باقتراح كاتب هذه السطور ، ونشرته المطبعة السلفية .
( 2 ) ولكاتب هذه السطور مقال في وصف لمحات من اسرار هذه المعجزة نشر في صحيفة ( الفتح ) بعنوان ( القرآن معجزة بين معجزتين ) أنظر الجزء 811 لجمادي الأولى 1363هـ .
( 3 ) في سنة 564 . أنظر ص628 – 631 من المجلد لمجلة الأزهر . وأنظر أيضاً ص385 – 386 من ذلك المجلد .
( 4 ) أنظر ص22و171و185 من هذا الكتاب .(1/176)