المكان في التجربة الشعرية
شعراء المدينة المنورة (نموذجاً)
القسم الأول
أ. محمد إبراهيم الدبيسي
نائب رئيس النادي الأدبي في المدينة المنورة
تسعى هذه المقاربة النقدية، إلى استجلاء أثر (المكان / المدينة المنورة)، في التجربة الشعرية، لبعض شعراء المدينة المنورة في المدة من منتصف القرن الثاني عشر الهجري وصولاً إلى القرن الحالي (الخامس عشر)، والتي تتصل عقودها بالرابع عشر بحكم امتدادها الزمني، ووحدة المنظومة الاجتماعية والثقافية في (المكان / المدينة المنورة).. ولكون أولئك الشعراء ينتمون لمكان واحد، مما يبرز العلاقة العضوية بين التجربة الشعرية والمكان، نظراً لارتباط التعبير الأدبي ببيئته الاجتماعية وقيمها المختلفة.
كما تروم استبيان خيط رمزي عميق، لأثر المكان في الخطاب الشعري، وأثر الواقع الثقافي في هذا الخطاب، عبر مراحل تاريخية جاوزت ثلاثة قرون؛ استجابت لظروف سياسية فكان استثمار المكان فيها مرتهناً للواقع السياسي واشتراطاته، كما استجابت لمتغيرات حياتية واجتماعية، ألقت بظلالها على التجربة الشعرية.
ولست أزعم لهذه المقاربة دقة الاستنتاج أو التحليل، أو الرصد الاستقصائي لكل شعراء هذه الفترة، وإنما هي نماذج انتقائية لشعراء من اتجاهات متنوعة وأجيال شتى؛فكان القاسم المشترك بينها (المكان/المدينة المنورة) كبعد وظيفي جمالي في الخطاب الشعري.
وتحاول المقاربة كذلك استجلاء العلامات الدلالية المشتركة والمتمايزة، للخطاب الشعري ـ المتعالق مع المكان والمستجيب لتأثيراته ـ، عبر ثلاثة عهود سياسية توافق دارسو الأدب على تحديدها معياراً تاريخياً؛ في بحثهم في أدب الحجاز وهي (العهد العثماني، والهاشمي، والعهد السعودي). حيث كان للواقع السياسي والاجتماعي الأثر الواضح في القيم المعرفية المفصلية وفي مسيرة الثقافة السائدة، وكذلك في التجربة الشعرية.(1/1)
ومن ثم فقد حاولت هذه المقاربة؛ استجلاء المكان ببعده الواقعي، والوقوف على سمات التمايز بين التجارب الشعرية، في استثمار الموروث الثقافي والمكونات التاريخية والجمالية للمكان، ولا تزعم هذه المقاربة استيعابها لكل ذلك الميراث الشعري وسياقاته الثقافية وتياراته ومؤثراته، بقدر ما تطمح إلى أن تكون محاولة في إطار جهود بحثية حثيثة تسعى إلى ذلك وتروم تحقيقه.
في علاقة الشعرية ـ بوصفها رؤية جمالية ـ بشكلها التعبيري المتمثل في النص الشعري، ما يفسر للمتلقي مكونات التجربة ومدى اتسامها بالعمق، وانطلاقها من مكوناتها البيئية، وفضائها الثقافي، وتعبيرها عنه؛ليشكل النص الشعري مادتها الموضوعية،الباعثة على الاستنطاق والتأمل والتحليل.
ولسنا هنا بصدد مقاربة تجربة شعرية (فردية)، وإنما في نطاق استقراء ظاهرة فنية جمالية (جماعية)، ناتجة عن وعي ثقافي عام، وفي نطاق مكان واقعي محدد، يمثل بنية جوهرية في عصب هذه التجربة، التي تنطلق منه وتستلهم أبعاده وتشكلاته في نماذجها الشعرية، وقد لانستطيع استشراف المكان وتحولاته عبر النص الشعري، دون التماس مع هذه التجربة بأنماطها المتعددة.
فالتجربة الشعرية بوصفها (ظاهرة) متكاملة، متعددة الأبعاد، هي محط قراءتنا،ولاسيما ما يتعالق منها مع المكان، وما ينبثق من تضاعيفه ومشاهده وتحولاته فيها.
وبهذا الإرهاص، يمكن أن نستشرف الأنماط الإيحائية والدلالية للمكان،وأثره في الوعي الشعري،كما يمكن أن نستجلي الإطار العام للمكان؛ بأبعاده الوجودية، وقيمه التعبيرية المؤثرة في لاوعي الذات الإنسانية،المتمثلة في النص الشعري، الذي شكَّل المكان بجمالياته مكوناً رئيساً من مكوناته.(1/2)
فالمكان هنا؛ بوصفه مكوناً شعرياً (يحمل تسامي النفس الإنسانية عند الشاعر، مثلما يحمل رثاء المكان دلالة الاعتبار إلى جانب معاني الوفاء ونحوه من المثل العليا، حتى يصبح وصف آثار المكان في أحد جوانبه، ليس إلا نبش الشاعر بوجوده المكاني الذي أخذ في الارتحال)(1).
ومن ثم فإن القيمة الإبداعية للمكان، لاتقتصر على الشعرية المعاصرة،لأن المكان الجمالي يطل علينا بأنماطه الواقعية والتعبيرية من خلال مدونة العرب الشعرية، فقد كرَّس وقوف الشاعر العربي القديم على الأطلال، إشكالاً ثقافياً، يروم رسم العلاقة بين الإنسان والمكان وتحديد أبعادها.
وعلاقة الشاعر بالمكان ذات أبعاد متعددة، (تستحضر الواقعي والخيالي والوهمي، ويكفي أن الشاعر يعيش في المكان على مستوى الوجود الحقيقي، ويسبح المكان في عالمه الشعري، فيستحضر المكان من المعرفة الثقافية ويقيم لنفسه وجوداً فيه أويعجل من صورة المكان الحقيقي) (2).
والمكان الذي تتوخى هذه المقاربة النقدية تحديده نطاقاً لها هو (المدينة المنورة)، بكل ما تؤصله دلالتها من حقائق ومعان وإيحاءات، فهو المكان المشرع لتأمل البصيرة الإنسانية منذ القدم، وهو أيضاً المكان الحقيقي كوجود (جغرافي) يرتبط بالتاريخ والدين والثقافة، ويؤسس وجوده عليها.
__________
(1) جريدي المنصوري، شاعرية المكان، مطابع شركة دار العلم، جدة الطبعة الأولى 1992م، صـ27 .
(2) المرجع السابق صـ10 .(1/3)
انطلاقاً مما تمتع به من شرف وأفضلية على سائر الأمكنة؛ بما ورد في القرآن والسنة عبر عدة نصوص،إلى القيمة التاريخية التي شكلَّتها هذه المدينة؛ منذ وطأتها أقدام النبي عليه الصلاة والسلام، وتأسست فيها دولة الإسلام،وشكَّل التاريخ الإسلامي انطلاقاً منها، صفحاته الناصعة وصنائعه المبهرة، لتشع الحضارة وتنطلق إلى آفاق الأرض من (المدينة / المكان) (1).
أما الشعراء الذين تقارب هذه الدراسة أنماط التشكيل المكاني في نتاجاتهم الشعرية، فهم شعراء (المدينة المنورة) منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري إلى هذا القرن، إذ تشكَّل المكان في أشعارهم، من خلال أبرز ملامح التجديد في الحجاز، بحسب (عبد الرحيم أبو بكر) وغيره من الباحثين (2)،
__________
(1) أنظر صلاح أحمد العلي، دولة الرسول في المدينة، دراسة في تكونها وتنظيمها. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، ط1 .
(2) عبدالرحيم أبو بكر، الشعر الحديث في الحجاز (1916ـ 1948م) مطابع دار المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة.وعاصم حمدان، المدينة المنورة بين الأدب والتاريخ، مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي، ط1، 1991م. وعبدالله العلي الحامد الشعر الحديث في المملكة العربية السعودية خلال نصف قرن، مطبوعات نادي المدينة الأدبي، ط1، 1988م.
ومن شعراء هذه الفترة السيد جعفر البيتي ومحمد سعيد سفر. والجامي، وغيرهم، ويمكن أن يشار إلى شعراء آخرين في الحقبة ذاتها، من أمثال عمر بري،الذي ارتبط شعره بالمدائح التي استغرقت جلَّ شعره ؛ بما فيها من صياغة جافة وتقريرية مباشرة في النصوص الأخرى، وهو أقرب ما يكون إلى النظم بصورة عامة. وقد رصد (عثمان حافظ) في كتابه (المدينة المنورة صور وذكريات) أكثر من ثلاثين شاعراً في حقبة القرن الثالث عشر الهجري وبدايات القرن الرابع عشر، ضاعت دواوين أكثرهم، فيما يشير إلى (شاعرتين) كانتا من شعراء المدينة في ذلك العهد، وهما: (سلمى القراطيش، وحفصة أركوبي) ويورد للأولى أبيات من بحر الوافر منها :
عيون مها الصريم فداء عيني ... ... وأجياد الظباء فداء جيدي ...
أُزين بالعقود وإن نحري ... ... لأزين للعقود من العقود ...
ولا أشكو من الأوصاب ثقلاً ... ... وتشكو قامتي نهب النهود ...
ومع تقليدية هذا المضمون الذي تشتمله هذه الأبيات،إلا أنها تنم عن شاعرية مطبوعة، وجرأة وصفية تشير إلى انفتاح خطاب المرأة الشعري؛ باتجاه هامش واسع لحرية التعبير؛ يرمز إلى المناخ الثقافي العام الذي كانت عليه المدينة المنورة، تؤكده وتعبر عنه أبيات أخرى للشاعرة حفصة أركوبي من ذات البحر تقول:
أزورك أم تزور فإن قلبي .. ... إلى ما تشتهي أبداً يميل ..
فثغري مورد عذب زلال .. ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل ..
وقد أمَّلت أن تظمى وتضحى .. ... إذا ما غاب عنك بي المقيل ..
فعجلَّ بالجواب فما جميل .. ... إباؤك عن بثينة ياجميل ..
وقد نشر المؤلف المقالة التي تضمنت هذه الأبيات بجريدة المدينة المنورة بتاريخ 24/3/1399هـ .
بمعنى تحديد هذه الفترة التي اشتملت حياة الشاعرتين في القرن الرابع عشر الهجري، وهو مايشير إلى ما أسلفناه من طبيعة واقع الحياة الثقافية بالمدينة المنورة، وانفتاح النظام الاجتماعي الذي تشير الشاعرتان إلى مثال من أمثلته.(1/4)
الذين وجدوا تطوراً فنياً وأصالة إبداعية، في شعر السيد جعفر البيتي المتوفى سنة (1182هـ)، و عمر عبد السلام الداغستاني المتوفى سنة (1201هـ)، ومحمد أمين الزللي المتوفى سنة (1237هـ)، وعبدالجليل براده المتوفى سنة(1327هـ)، وإبراهيم الأسكوبي المتوفى سنة (1331هـ)، ومحمد سعيد الدفتردار المتوفى سنة (1392)هـ، وغيرهم(1)إبان الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي العام (العهد العثماني)، الذي يجسد أكثر العصور تخلفاً وتراجعاً؛ إذ (من المؤكد أن الأدب العربي بلغ في العهد العثماني درجة سحيقة من التدهور، وتظل تلك الحقبة تتصف بغياب الإبداع والافتقار إلى الحيوية)(2).
__________
(1) محمد مصطفى بدوي، الأدب العربي الحديث، ترجمة محمد الشوكاني، نادي جدة الأدبي الثقافي.ط1، 2002م تحرير عبدالعزيز السبيل، وأبو بكر باقادر، محمد الشوكاني ص20.
وبالرغم من تدهور الأدب، وبلوغه هذه الدرجة من الضعف في عهد العثمانيين، فإن لهم دور لا يُنكر، في الاهتمام بالمكتبات،تأسيساً ورعاية، ناهيك عن ثراء انجازهم العمراني الذي تمثل في توسعة الحرم النبوي الشريف، وكذا بعض المساجد الأثرية كقباء والغمامة ومسجد الجمعة وغيرها. وتشييد محطة سكة حديد الحجاز التي تعد إلى يومنا هذا نموذجاً هندسياً ومعمارياً، يعكس مهارة حرفية وجمالية متميزة.
(2) عبدالرحيم أبو بكر، مرجع سابق صـ 69 .(1/5)
وبالرغم من التطور والتجديد النسبيين، الذي حفلت به تجربة هؤلاء الشعراء، وهو مايشاكل الصورة النمطية للشعر العربي الكلاسيكي، فإن المدينة المنورة؛ كمكان ومكوَّن جمالي؛ جاء خلفية واقعية مجردة في نصوصهم الشعرية؛ لم يستثمر الشعراء غناها الجمالي وثراءها الثقافي في إنتاجهم بصوره معمقة، تستوحي قيم المكان الجمالية، ولم يتجاوز هؤلاء الشعراء واقعهم؛ استشرافاً لمكانتها الحضارية أو استيعاباً لمكوناتها الثقافية والاجتماعية؛خلال مائة عام (منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري وحتى النصف الأول من القرن الثالث عشر).
ويمكننا القول بأن جلَّ الشعر في هذه المرحلة، قد عُني بالمكان المباشر، وسجَّل المكان الواقعي، وبرزت الملامح التسجيلية والأبعاد التصويرية التقليدية للمكان، وبرزت الصورة الكلية النمطية له، من خلال شعر المناسبات والإخوانيات والوصف، والمديح، والأغراض التقليدية في الشعر العربي، وبعض النصوص ذات الاتجاه السياسي، والإصلاحي. (ولم تكن البيئة الثقافية والفكرية في الحجاز خلال العهد العثماني الطويل، وبخاصة في العهد الأول منه، لتسمح بظهور نشاط أدبي ممتاز، يفرض وجوده واتجاهاته، وذلك لأن البيئة كانت محرومة من العوامل القوية المساعدة على استئناف النهوض والتقدم.
وإذاعة روحهما بين جيل هذا العهد بقوة، ولهذا كاد الشعر في هذا العهد المظلم يجود بأنفاسه؛ لولا جهود بعض الشعراء الذين حافظوا بإنتاجهم على وجود هذا الفن، ترفدهم في ذلك بعض الوسائل أو الوسائط الثقافية المحدودة التي أتيحت لهم) (1).
__________
(1) عاصم حمدان ـ صفحات من تاريخ الإبداع الأدبي بالمدينة المنورة، مطابع شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر، جدة الطبعة الأولى 2001م.(1/6)
وفي هذه الفترة المحددة بالقرن الثاني عشر الهجري، يرى (عبدالرحيم أبو بكر) أنها أدت بالشعراء إلى استثمار قدراتهم الذاتية وما يتاح لهم من فرص القراءة والاطلاع، وهو مالايتوافق بحال مع حياة التخلف الثقافي الذي فرضته الإدارة السياسية العثمانية على المدينة؛ وهو مايعني توافر البواعث الذاتية لكتابة (الشعر) تحديداً؛ لبعض شعراء تلك الفترة، ممايجعل تجاوزهم لأزمة واقعهم الحياتي، إشارة رامزة للتوق إلى التعبير الشعري، ومناهضة الظلم، وعدم مخادنة السلطة أو ممالأتها، وهي دلالة ثقافية وسياسية، تأخذ شكلها المعبر عن رمزية المكان؛ كدافع لتلك الحماسة الثقافية التي عبرَّ عنها الأدباء شعراً، من خلال نصوص شعرية تحمل الرؤية والموقف،وليس المضمون الجمالي فقط؛ بفضل الباعث الذاتي الكامن في النفس، ومكونات المكان الثقافية في مستواها الشعبي العام، وتبدياتها التي كانت بمعزل عن دعم مباشر أو غير مباشر من لدن سلطة العثمانيين؛ الذين لم يكن يشغلهم الشأن الثقافي بوصفه تعبيراً عن قيم اللغة العربية ونظامها المعرفي.
وإنما شغلهم دعم ركائز حكمهم السياسي، وتوطيد ولاء الحجاز لهم، وما يستدعيه ذلك من قمع الأصوات المعارضة، أو الهمم المنافحة عن وجودها واستقلالها، والتي اتخذ بعضها التعبير الشعري أداة لتلك المعارضة.
وقد (شهدت بيئة المدينة المنورة الأدبية في حقبة القرن الثاني عشر الهجري؛ حركة شعرية حاولت أن ترتفع إلى أفق الأحداث التي عاشها المجتمع في تلك الفترة. ولا شك أن ماتنطق به نصوص هذا الشعر من استبطان لبعض نوازع النفس الإنسانية، ونقد لواقع أليم يعيشه الفرد في ذلك المجتمع، وإبراز لأخطاء قاتلة يقع فيها من وضعت فيهم ثقتها وحملتهم أمانتها، ولذلك اتخذ شعراء هذه الحقبة التصوير أداة لتجسيد الوضع السيئ التي أضحت عليه مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - )(1).
__________
(1) المرجع السابق صـ 512 .(1/7)
على أن استثمار المكان في نتاج هؤلاء الشعراء في تلك الفترة ـ التي حددناها وهي (المائة عام) ـ كان استجابةً للواقع السياسي والثقافي آنذاك، بمعنى تواري المكان بوصفه مكوناًجمالياً وتشكلات رمزية، يُعاد استنطاقها في النسيج الشعري، ويظفر قارئوه بظهور جلي للمكان،دون وعي أو استيعاب لما يرمز إليه من قيمة وثراء؛ ليظهر هذا المكان شعرياً؛ تعبيراً عن الواقع السياسي في نصوص شعراء تلك الفترة(1). وإن كان (عاصم حمدان) يرى (أن شعراء تلك الفترة استعادوا تاريخ المدينة الماضي، في محاولة ذكية لمقارنته بالوضع المأساوي التي تعيشه في الحقبة العثمانية)(2)؛ فإن هذه (الاستعادة) تمثل نتيجة لما ذكرناه من سحب ظلال الواقع السياسي على الحركة الثقافية والشعرية بالمدينة؛خلال الفترة التي أشرنا إليها.
أما الشعراء الذين يعوّل عليهم (عبدالرحيم أبو بكر)؛ في تمثيل النهضة الأدبية في الحجاز في القرنين الثاني والثالث عشر،فإن جُلَّهم من شعراء المدينة المنورة، وهم كما يراهم (يمثلون إرهاصات النهضة ومطالع التطور الأدبي في الحجاز الحديث. وقد استطاعوا أن يمثلوا مرحلة الانتقال إلى النهضة بفنهم الشعري)(3).
وقد ظل الواقع السياسي في هذه الفترة يلح على شعراء المدينة، وكان تبرمهم من الهيمنة العثمانية على المدينة واضحاً لديهم بشكل عام، يعبر عنه واحد من أبرز شعرائها وهو (إبراهيم الأسكوبي) الذي ذاع صيته عبر قصيدته الشهيرة التي ناوأ فيها (آل عثمان) وعبَّر فيها عن واقع مرير، ودفع ثمنها من حريته حيث أُعتقل وأرسل إلى الأستانة.
__________
(1) بمعنى الوجود التاريخي والواقعي المجرد للمكان لدى أولئك الشعراء، دون أن يستثمروا طاقاته الجمالية في نسيج تجاربهم الشعرية،وهو أحد إشكاليات هذه الدراسة.
(2) عاصم حمدان مرجع سابق صـ 107 .
(3) عبدالرحيم أبو بكر مرجع سابق صـ 85 .(1/8)
فيما يشير عبدالرحيم أبو بكر إلى (نوع من التنبه والإحساس الوطني، تمثل في تلك الحركة التي قام بها بعض أهل المدينة المنورة ضد المحافظ التركي علي باشا في عام 1324هـ، حينما أراد هذا الأخير بغطرسته التركية إذلال أهل المدينة ببعض تصرفاته الحمقاء، وأدت تلك الحركة بالقائمين بها إلى محاكمة كانت نتيجتها إدانة أربعين رجلاً من أعيان المدينة وعلمائها، وأمر السلطان بإبعادهم إلى الطائف مصفدين بالحديد، ولم يقبل شفاعة أحد فيهم، لأنه أخذ عنهم فكرة سيئة، وهي إسقاط الخلافة العثمانية وإسنادها للعرب، وقد مكث أولئك الرجال في سجنهم ثمانية عشر شهراً.
وقد كان للسيد أنور عشقي أحد الشعراء المدنيين المعتقلين قصيدة في هذه المناسبة منها قوله:
نُساق للسجن لا جرم ندان به ..... ... إلا تلافيق زور من ذوي الفتن .....
كنا نطالب بالعدل الذي حُرمت .. ... منه المدينة دار العدل والمنن ........
أي الذنوب اللواتي نستحق بها .... ... هذاالعقاب سوى الأغراض والإحن(1) ...
وفي ذات السياق ذهب الشاعر عمر الداغستاني إلى مصر ـ وكانت مصر ملاذاً نفسياً وثقافياً للأدباء الحجازيين آنذاك ـ وعندما ضجَّ في روحه الحنين إلى المدينة، بعث إلى والده قصيدة يُحمِّلها حنينه إلى المدينة ومنها قوله:
سقى الله جيران العقيق ولعلع ....... ... ملث سحاب هامع العطر هاميا ......
وحيا مغاني الأنس أوفى تحية ...... ... تدوم لهم مادام شوقي وافيا ......
سقى ورعى أيامنا ولياليا ....... ... تمضت بوصل في حماها حواليا .....
لقد هاجني التذكار نحو ربوعها ..... ... كما هاجت الأرواح ورقاً شواديا(2) .....
__________
(1) المرجع السابق صـ 24 .
(2) عبدالرزاق البيطار، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ج2 ص126، 1961م مجمع اللغة العربية بدمشق ، وعبدالرحيم أبو بكر مرجع سابق صـ 77 .(1/9)
ونجد الإشارة الواضحة للمكان (العقيق) في شعر هذه الفترة لدى الداغستاني،لاتوحي بأكثر من استخدام (العقيق) كرمز مكاني لتأكيد أن المقصود بهذه المناجاة الشعرية، هم أهل المدينة.
وبالرغم من تلك الظروف المعوقة للنهضة في العهد العثماني، ظلَّ الشعر يحتفظ بوجوده على أيدي شعراء جادين في مغالبة العزلة الفكرية والثقافية مثل: البيتي والزللي والداغستاني والأسكوبي.
ويشير عبدالقدوس الأنصاري بشيء من الإعجاب إلى الشاعر (إبراهيم الأسكوبي)، أحد شعراء المدينة في القرن الرابع عشر الهجري؛ (الذي كان ينظم قصائده السياسية من المدينة المنورة، يزجي بها نصحاً وتوجيهاً للدولة العثمانية، التي تشاءمت من انبثاق هذا الوعي المتفتح الذي سبق أوانه) (1).
__________
(1) عبدالقدوس الأنصاري، مجلة المنهل عدد مارس 1956م صـ 383 وقد اشتهر الأسكوبي بقصيدته التي هجى فيها آل عثمان ويبدؤها بقوله:
( ياآل عثمان فالمغرور من غُرَّا .... ... بأهل أوربة أوعهدهم طُرَّا ....
أتأمنون لموتورين، ديدنهم ... ... أن لا يروا منكم فوق الثرى حُرا...) ....
راجع ديوان الأسكوبي بتحقيق محمد العيد الخطراوي مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي.(1/10)
ولئن تواضع الأثر الشعري في تعبيره عن المكان، لدى أدباء وشعراء هذه الفترة، فإن تمثلهم للدور الثقافي الناهض يمكن أن نلمسه في جهود (جعفر البيتي وعمر الداغستاني)، ممن حاولوا استنهاض إمكانات المكان ورصد أجزاء من حراكه الثقافي عبر مساق أدبي غير الشعر، إذ ألفَّ السيد جعفر البيتي كتاباً بعنوان (مواسم الأدب وأثار العجم والعرب)، وفيه (ألوان من الثقافة العربية، وتراجم لبعض الشعراء، وشيئاً من شعرهم وما قيل فيه، كما احتوى أحاديث عن التاريخ والجغرافيا، وذكر الممالك والأمم، والكتاب يدل على ثقافة واسعة واطلاع شامل تزود بها السيد جعفر، ثم عكس آثارهما في هذا الكتاب، الذي يعد بادرة حسنة ومهمة في ذلك العصر الذي عاش فيه السيد جعفر، وقد نشر الكتاب لأول مرة في جزأين عام 1326هـ على نفقة الخانجي)(1).
أما (عمر الداغستاني) فقد ألفَّ كتاب (تحفة الدهر في أعيان المدينة من أهل العصر)، يصفه (عبدالرحيم أبو بكر) بأنه كتاب مهم من الناحية التاريخية.
ويأتي (عبدالجليل براده) في طليعة شعراء عصره في الحجاز،وهو من الجيل الثاني بالمدينة المنورة، بعد (البيتي والزللي والداغستاني)، ويعده عبدالرحيم أبو بكر من (أكثر شعراء الحجاز شهرة، وقد استطاع بما هُيَّأ له من ثقافة واسعة، ورحلات خارج وطنه؛ أن يغرس اسمه في المحافل الأدبية حينذاك) (2).
__________
(1) عبدالرحيم أبو بكر مرجع سابق صـ 70 .
(2) عبدالرحيم أبو بكر مرجع سابق صـ 87(1/11)
فيما يصفه (السيد عبيد مدني) في مجلة (المنهل) ـ التي كانت اللسان المعبر عن الحركة الثقافية بالمدينة ومدونة سيرتها الأدبية بحكم وعي وجهد رئيس تحريرها وصاحبها (عبد القدوس الأنصاري) ـ أنه (من أبرز أعلام المدينة المنورة علماً وأدباً ووجاهه، لم ينحجز صدى سمعته بين ساكني المدينة المنورة وحدها، ولا في الحجاز وحده، بل تجاوزتها إلى أبعد مدى،وتردد ذكره في مجتمعات العلم وأندية الأدب) (1).
وفي السياق ذاته، يشير (عبدالقدوس الأنصاري) كذلك إلى الشاعر المدني (محمد العمري)؛ الذي يشبهه (بالبارودي في جزالة الألفاظ، وتدفق المعاني وعروبة البيان، وبث الشكوى والأشجان، والمساهمة في حوادث الأكوان) (2).
وللشاعر العمري من شعراء القرن الرابع عشر نص شعري؛ يورده (عبدالرحيم أبو بكر)، ويصف فيه حال المدينة المنورة بعد هجرة أهلها منها؛ اضطراراً في أحداث الحرب العالمية الأولى. ونتلمس فيه أسماء الأماكن التفصيلية في إطار (المكان العام /المدينة المنورة)، ولعله من النصوص الشعرية النادرة التي يبدأ فيه شاعر من ذلك العصر بتصوير هذه الأماكن، والحنين إليها وشكوى الخروج منها.
وقد شكل الحنين للمدينة المنورة والبكاء عليها، استجابة من شعرائها لوضعها القلق، وحالها السيئ،الذي بدد اهتمامهم بمكوناتها الجمالية، وغناها الحضاري،لتتحول إلى حالة شجن يغذي شعرهم بالتوق إلى الخلاص والرغبة في التحرر،والتلذذ بالمناجاة:
دار الهدى خَفَّ منك الأهل والسكن ... ... واستفرغت جهدها في ربعك المحن ......
عفا المصلى إلى سلع إلى جشم .... ... والحرتان ومرأى أرضها الحسن .....
أقوى العقيق إلى الجمّا إلى أحد .... ... إلى قباء التي يحيا بها الشجن .....
منازل شب فيها الدين واكتملت .... ... آياته فا ستعادت نورها المدن .....
__________
(1) عبدالقدوس الأنصاري، مجلة المنهل عدد مايو ويونيه صـ 357ـ358 .
(2) عبدالقدوس الأنصاري مجلة المنهل أكتوبر سنة 1957م صـ 164 .(1/12)
لأي أرض يشد الرحل راكبه ..... ... يبغى المثوبة أو يشتاقه عطن .....
أبعد روضتها الغناء وقبتها الخضراء ...... ... يحلو بعيني مسلم وطن(1) ...................
وفي هذا السياق يرى (عبدالقدوس الأنصاري): (أن عصر البعث بدأ في أعقاب حرب الدولة العثمانية مع إيطالية، وكانت بلاد العرب تموج بحركات الاستنكار، لا لتواءات الرجل المريض، كما تموج بحركات اليقظة والشعور بالذاتية،ونفخ شعرائها في أبواق التبشير بتفتح الوعي، وبانطلاقه من القيود واسترجاع مجده السليب)(2).
لقد تجلت تشكلات الخطاب الثقافي في المدينة المنورة ـ بعيداً عن سلطة القرار السياسي الذي كانت له السيادة المطلقة على المكان في العهد العثماني ـ وظل يتنامي وتتراكم معطياته؛ وتتشعب سياقاته في مفاصل المجتمع المديني، ونخبه المثقفة وتؤثر فيه، حيث يرى (عبدالرحيم أبو بكر) أن الشعر في الحجاز لم يضعف تماماً، بل كان هنالك شعراء لهم فنهم وإنتاجهم، وأن الشعر في هذه الفترة، كان يمثل وجوداً تاريخياً صرفاً، مع عناية أصحابه بالصناعة اللفظية والألوان البديعية.
__________
(1) عبدالرحيم أبو بكر مرجع سابق صـ 113 .
(2) عبدالقدوس الأنصاري مجلة المنهل عدد مايو سنة 1969م، صـ 252.(1/13)
والمعّول الموضوعي الذي يستند عليه (أبو بكر) في هذا الرأي هو مارصده (عمر عبدالسلام الداغستاني) في كتابة (تحفة الدهر ونفحة الزهر في أعيان المدينة من أهل العصر)، والذي تحدث فيه عما يزيد على خمسين شاعراً وخطيباً وأديباً وعيناً، يقول مؤلفه في مقدمته (وسميته تحفة الدهر؛ لما فيه من تحفهم الأنيقة النظرة ونفحات أدبهم العطرة، وجعلته منقسماً إلى أربعة فصول رائعة ؛ هي لفوائد تراجمهم جامعة، الأول: الأشراف، الثاني: في العلماء الطيبي الأوصاف، الثالث: في الخطباء الكرام، الرابع :في الأدباء الفخام)(1).
وفي ذات المقدمة، يشير المؤلف إلى قضية تدهورالأدب في عصره، وعنايته في اصطفاء هذه المجموعة من أدبائه.
ويرى عاصم حمدان أن هذا الكتاب من أهم الكتب والمصادر التي اهتمت بأدباء المدينة المنورة خلال القرن الثاني عشر الهجري(2).
فيما ذهب الدكتور (عبدالرحمن الشامخ)؛ إلى أن نصوص الكتاب مفتقرة إلى الروح الأدبية والموهبة الفنية (3).
__________
(1) عمر عبدالسلام الداغستاني، (تحفة الدهر ونفحة الزهر في أعيان المدينة من أهل العصر) كتاب مخطوط ويذكر الدكتور عاصم حمدان أنه بصدد تحقيقه، في كتابه (صفحات من تاريخ الإبداع الأدبي بالمدينة المنورة) صـ 72 .
(2) المرجع السابق صـ73 .
(3) محمد عبدالرحمن الشامخ، النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية، الرياض، ط1 1975م صـ 36 / 37 .(1/14)
وتشي مقدمة الكتاب بذلك الضعف والافتقار، وقد صاغها المؤلف بذات الروح الأدبية الاتباعية الحريصة على التحسين اللفظي والجناس البديعي، ثم المعيار التصنيفي الذي يقسم المؤلف من خلاله أهل عصره إلى: (أشراف وطيبي أوصاف وكرام وفخام)، إلا أن قيمته الموضوعية تكمن في ترجمته لهذا العدد من الأدباء، ورصده التاريخي لهم، متكئاً على المناخ الأدبي في عصره، ولا يؤكد الكم من الشعراء والأدباء الذين ترجم لهم المؤلف،تطوراً نوعياً في الإنتاج أوموهبة أصيلة في كتابة الشعر، فيما تظل القيمة التاريخية لـ(الكتاب) تتمحور على العناية برصد الحركة الأدبية في القرن الثاني عشر الهجري،ولا يضيره خفوت الحس الأدبي، وتواضع معاييره في الانتقاء؛ نظراً لاختلاف الذوق، والطابع الأدبي العام في عصره عن التقاليد النقدية، وضوابطها في عصرنا الحاضر. لذلك ربما كان من الأولى أن يؤخذ في الاعتبار السياق الزمني، والمناخ الأدبي، وطبيعة الذائقة السائدة في ذلك الوقت، لدى من يتعرض لهذا الكتاب أو يحاول تقييمه.(1/15)
ومما يشير إلى توخي الضرورة الموضوعية التي يعرضها الباحث، والتي تحيل إلى معرفة الأوضاع الفنية للشعر بالمدينة المنورة، ومعرفة الأحداث التاريخية التي وقعت بها، وتأثير الواقع السياسي فيها، مايرصده السيد (جعفر بن حسين بن يحي بن هاشم المدني) المتوفي سنة (1342هـ)؛ في كتابه (الأخبار الغريبة فيما وقع بطيبة الحبيبة)، حيث يعتمد المؤلف على ملحمة شعرية لجعفر البيتي؛ أحد أشهر الشعراء المدنيين في القرن الثاني عشر في وصف (فتنة العهد) التي وقعت بين الأغوات وأهل المدينة عام 1134هـ، والمكونَّة من (أربع وتسعين بيتاً) من بحر الكامل، وملحمة أخرى لذات الشاعر من (أربعة وستين بيتاً) من ذات البحر، في وصف فتنة بشير آغا بين أغوات الحرم النبوي الشريف وأهل المدينة عام 1148هـ(1).
وملحمة ثالثة من (مائة وثلاثة وستين بيتاً) في وصف فتنة عبدالرحمن آغا الكبير، أو فتنة كابوس سنة 1155هـ، وقصيدة ملحميه أخرى للشاعر محمد سعيد سفر من (مائة وستين بيتاً) في وصف ذات الفتنة(2).
__________
(1) السيد جعفر بن إبراهيم البيتي ولد سنة 1100 وتوفي سنة 1182هـ ولا يزال ديوانه الشعري مخطوطاً وتوجد نسخ منه في مكتبة السيد عارف حكمت، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالمدينة المنورة،ومكتبة المرحوم السيد عبيد مدني، ومكتبة آل الصافي بالمدينة المنورة. أنظر ترجمته في (تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ماللمدنيين من أنساب)، لعبدالرحمن الأنصاري، تحقيق محمد العروسي المطوي. تونس 1930هـ صـ 17 .
(2) المرجع السابق. وانظر عاصم حمدان (المدينة المنورة الأدب والتاريخ) صـ 121 .(1/16)
لقد كان الواقع السياسي في ذلك العهد مضطرباً للحد الذي يوظف الشعراء إمكاناتهم الفنية، لكتابة الملاحم الشعرية في تصوير ورصد وقائعه وأحداثه، ويتحول فيه الشعر من قيمته الجمالية؛ إلى القيمة التاريخية الإخبارية، التي يستطلع المؤرخون عبرها حقيقة الوقائع والأحداث، وتفاصيلها المباشرة،وبما يتأتى من ذلك السياق؛ من تحديد الاتجاهات الشعرية السائدة في العصر ذاته.
لقد كان ثمة تمايز بين الشعراء المدنيين في القرن الثاني عشر، ونظرائهم في النصف الأول من القرن الثالث عشر؛ على مستوى التجربة الشعرية، واستيعابها للمكان في المستوى الشعري الفني، وظهور شذرات من النصوص القليلة المجسدة لجماليات المكان بطابع تصويري،لا يلبث أن يتوارى في خضم نصوص ومضامين احتلت الصدارة في إنتاجهم؛ إلا أن المكان ذاته قد حقق مشتركاً دلالياً، ومكوناً جمالياً دفاقاً لدى الشعراء المعاصرين، والذين سنأتي إلى نماذج من شعرهم في ثنايا هذه المقاربة.
وفي النظر إلى هذا الشعر في ذات السياق التاريخي، ما يؤكد استجاباته لظروفه الموضوعية في ظلال المنظومات المطوّلة، التي لا تعدم قيمتها الفنية الأساسية، دون أن يتجاوز الشعراء تخوم واقعهم السياسي، إلى تأمل مكونات المكان، وقيمه الجمالية.(1/17)
كانت إرهاصات الاستقرار السياسي والاجتماعي، تتبدى بعد انفراط عقد الحكم العثماني وحكم الأشراف للمدينة، متمثلة في طور سياسي جديد، بانضواء المدينة تحت حكم الملك (عبدالعزيز آل سعود)، والتحاقها بمنظومة الدولة الحديثة (المملكة العربية السعودية)، وهذا الاسم للمملكة اقترحه أهالي المدينة المنورة ـ (نُخَبهم) ـ على الملك عبدالعزيز؛ ليكون اسماً بديلاً للاسم السابق للمملكة (نجد والحجاز وملحقاتها)، والذي يظهر فيه التقعر التركيبي، وتقليدية الصياغة، والدلالة الحرفية القاصرة عن التعبير عن معنى سيادي لبلد بهذا الحجم والأهمية، ـ إزاء سلاسة (الاسم الأول)، ومعياره الوصفي الدقيق، والمواتي في بعده الدلالي؛ إلى معنى من معاني الوحدة الوطنية في إطارها الجامع والمحدد. وقد صدر مرسوم ملكي في 17/جمادى الأولى/1351هـ يقضي بالموافقة على مقترح أهالي المدينة المنورة بتسمية البلاد بذلك الاسم.
على أن اتصال منظومة الوعي الثقافي والاجتماعي، وغاياته الإصلاحية بالمدينة المنورة، عُدَّت بدايات للخطاب الثقافي الحديث بحسب (معجب الزهراني)، الذي يؤكد على بداية تشكل هذا الخطاب في (فترة ما بين الحربين، وكانت المقولات الإصلاحية هي التي تهيمن عليه لغة ومضموناً، فقد كان وعي النخب الأدبية التي دشنته ـ بالذات والمجتمع والعالم ـ يستوعب أفكاراً وقيماً مدنيةً حديثة، روجت لها صحف رسمية وأهلية كالحجاز في نهاية العهد العثماني ثم (القبلة) لسان حال ماعرف بالثورة العربية الكبرى في العهد الهاشمي و (الإصلاح الحجازي) في نهاية هذا العهد نفسه ثم (صوت الحجاز)(1)و كذلك (مجلة المنهل) في العهد السعودي.
__________
(1) معجب الزهراني (حمد الجاسر، المنجز في سياقه) ملحق ثقافة اليوم جريدة (الرياض العدد 1348، 18 ربيع الآخر 1426هـ(1/18)
أما العوامل المساندة التي ساعدت الخطاب على الانتشار والتأثير، فتتمثل في (تفتح الحياة اليومية في المجتمع المديني الحجازي، وفي تسامح السلطة السياسية واحترامها للثقافة والمثقفين)(1).
ولقد وفَّر العهد السعودي للحياة الثقافية والفكرية واقعاً سياسياً واجتماعياً مستقراً، مما أسهم في النهضة الأدبية الحديثة.. ومن ثمَّ تحول المكان من خلفية تاريخية لدى شعراء القرن الثاني عشر الهجري والنصف الاول من القرن الثالث عشر، إلى مكون جمالي، يتم استثمار طاقاته الحيوية وإمكاناته المحرضة في النص الشعري لدى شعراء المدينة بدءاً من منتصف القرن الثالث عشر، وهو ما يؤكد (ارتباط مفهوم المعاصرة فنياً على وجه الخصوص، بمجال الفكر ومظاهر التفكير، لأنه المجال الأكثر تعرضاً لرياح التحول، ولأن مظاهره هي عرضة للتغير والأقدر على التعبير عن تحولات الداخل الخفية، على صعيد الفرد والمجتمع، إضافة إلى كونها المؤشرات الأسرع ظهوراً والأقوى بروزاً ووضوحاً، ضمن مستويات التجربة الشعرية المسكونة بهاجس المعاصرة على مختلف الأصعدة)(2).
وقد ساعد ذلك الارتباط على تنوع أغراض القول الشعري، ووفر مناخاً عاماً لازدهار الحركة الثقافية، وصار الشعر مهيئاً لتأمل المكان، واستيعاب مقوماته الحضارية والثقافية والجمالية، ولا سيما في مكان كالمدينة المنورة، التي تغدق عناصرها المكانية وأجواءها ورموزها الدينية والاجتماعية فيضاً من الرؤى والمعاني،مما يجعلها تحرر الذائقة الشعرية من نمطية الموضوعات العامة؛ إلى استلهام ذلك الفيض في صنيع شعري نوعي، أكاد أزعم أنه يشكل إشكالية شعرية جمالية في سياق شعرنا المعاصر.
(
__________
(1) المرجع السابق
(2) علوي الهاشمي، السكون المتحرك،دراسة في البنية والأسلوب،تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجاً، إتحاد كتاب وأدباء الأمارات.ط1 1995م ج 3 ، صـ 21 .(1/19)
فقد كانت المدينة المنورة نسيجاً عمرانياً وحضارياً فريداً طُرِّز خلال مراحل متعددة من تاريخها الطويل، ولا تزال بقاياً هذا التطريز تتجلى في تركيبها ومظهرها الحضاري العام، فقد كان هناك تناغم كبير، بين تركيب المدينة ومظهرها العام وسلوك الجماعات الإنسانية؛ لما كان يهمس به هذا المظهر العام، وأن تصرفاتهم كانت تتم بناء على هذا الانسجام بين الإنسان وظروف البيئة الطبيعية والبشرية المحيطة.
وقد أوجدت الخصائص الفريدة للمكان الملامح التي اعتمدت عليها برامج تطوير وتنمية المدينة المقدسة)(1).
وهي ذاتها الخصائص التي تجاوزت الواقع الراهن، بتأثيراتها الجمالية في البناء والتخطيط،كممارسة عمرانية وتقنية هندسية ومعمارية؛ إلى الوعي الثقافي والفكري واستثماره على المستوى الإبداعي/ الشعري.
فقد احتوت هذه الخصائص المظهر العام للمدينة وبناه ومتوازياته الهيكلية الآنية، برصيده التراكمي عبر أربعة عشر قرناً من الزمان. لتشكل جماليات مكانية،وتستنطق رموزه ومظاهره، موظفة هذه المعطيات التأثيرية؛ التي ما فتئت البيئة المدينية تشكلها أو ترمز إليها، وتكوّن رصيدها العميق، لتصل إلى شذرات الحس الإنساني تعبيراً وبوحاً وانطلاقاً من جدل الذات بالمكان، إلى آفاق التشاكلات الجمالية، التي كان الشعر منجزها التعبيري الإبداعي المميز.
لا يمكننا في الإطار العام، لهذه المقاربة إلا أن نشير إلى الإرهاصات الثقافية والمجتمعية في (المدينة / المكان).. والتي كانت منطلقاً للحركة الشعرية ومكوناً من مكوناتها الجمالية.
__________
(1) محمد شوقي بن إبراهيم مكي، تأثير التنمية الحضرية على المظهر العام للمدينة المنورة، مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، العدد الأول صفر ربيع الثاني 1423هـ ـ ابريل يونيو 2002م .(1/20)
فالمدينة المنورة كانت البيئة التي توافرت على عناصرها الأصلية، ورموزها الجمالية التي تغاير المشهد الكلي للمكان المطلق بمعناه الوجودي المجرد،ومكامن حساسيته الفنية، لتذكي طاقات المبدعين وتشحن قدراتهم بفعاليتها،ولتشكل الانطلاقة الرئيسة التي تكاملت عناصرها متجاوزة العامل السياسي، وغير عابئة به أحياناً..!
فقد كان لأدباء المدينة وشعرائها منتدياتهم واجتماعاتهم ومسامراتهم، التي تعبر عن اهتماماتهم الثقافية كجزء مهم من مفردات حياتهم اليومية،كما تعبر عن بعض مظاهر حركة التنوير، ومستويات التفكير والوعي لديهم.
يقول (عثمان حافظ) واصفاً هضبة جبلية في العنبرية (كانت الهضبة هي العش الحنون الذي كان يجمعنا كل يوم عصراً فهي محل نزهتنا، ومتنفسنا بعد عناء العمل اليومي، وأذكر من الإخوان الذين كانت تجمعنا بهم هذه الهضبة السادة مع حفظ الألقاب: محمد حسين زيدان، عزيز ضياء، السيد عبدالقادر غوث، أسعد طرابزوني، صلاح الدين عبدالجواد، السيد يس طه، بهاء الدين خاشقجي، ثم السيد مصطفى العطار، فهمي الحشاني، عبدالعزيز بري، حسن خاشقجي، أنور بصراوي، عبدالحميد عنبر، السيد ناصر غوث)(1).
ويصف أحد مرتادي تلك (الهضبة) الأستاذ (عزيز ضياء) اهتمامه وجيله بالمعرفة والقراءة فيقول (..ومازلت أذكر ولا ينسى رصفائي من الشيوخ، كيف كانت تنقضي الليلة من الغسق حتى الفجر، في حوار حول أراء أفلاطون في جمهوريته التي اشتريت أول نسخة منها بجنيه ذهبي..)(2).
__________
(1) عثمان حافظ، صور وذكريات عن المدينة المنورة، مطبوعات نادي المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1983 صـ 71.
(2) المرجع السابق صـ 73 .(1/21)
أما (محمد حسين زيدان)، فيتحدث عما يؤكد نزوع ذلك الجيل إلى ما يسهم في تأصيل مرجعيته الأدبية وتوسيع أفقه الثقافي، وفي ممارستهم الحقيقية لقضية المعرفة،والتي كانت المدينة المنورة صعيداً لتشكلاته، وكأن المجتمع يلتزم وبعهد غير مكتوب على اعتبار الثقافة؛ منزعاً يتصف بالفاعلية والديمومة والاستمرار،لا ينتحي جهة أو فئة بعينها، بل يكاد يجمع الأعم من الناس على تمثله والتعبير عنه، يقول الزيدان في مذكراته:
(استعرت من رشيد أفندي الغزي أحد مهندسي سكة الحديد والد الأستاذ / الشاعر محمد هاشم رشيد رئيس النادي الأدبي بالمدينة، أعارني ثمانين جزءاً مجلداً من مجلة المقتطف)(1).
ويكفي من هذه الحادثة / المثال.. الإلمام بدلالتها الرمزية مكانة الكتاب والنهم بالقراءة..!
فـ(مهندس سكة الحديد).. يعير هذا الكم من (مجلة ثقافية) لأحد أدباء المدينة الشباب حينها، لنستوضح مكانة الثقافة ومفاعيلها النوعية قراءة ومتابعة،في وجدان المجتمع المديني.
__________
(1) محمد حسين زيدان، مذكرات العهود الثلاثة، مطبعة ضياء، ط1 صـ22.(1/22)
وقد كان المجتمع الحجازي في نظر الباحثين(1) في تاريخ الأدب ومظاهره، نموذجاً أصيلاً ومعبراً عن تجذر الوعي بأهمية الثقافة ممارسة وإنتاجا؛ واستحقاق الرواد فيه؛ لمعنى الريادة الاعتباري، وسعيهم للتنوير بمظاهره وتجلياته المتعددة؛ حداً توصف به هذه الحالة بأنها (مساحة تكشف عن الوعي النقدي والشعري عند روادنا في تداخله وتناغمه الذي يفتح زمانهم الثقافي الفني، على حس التحول المفارق للانغلاق. والمتجاوز لمعاني المركزية واحتكار المعنى والقيمة الشعرية)(2).
في هذا المناخ الثقافي الحيوي الزاخر الذي كانت إرهاصاته تتكون في العهد العثماني الذي لم يمنع انشغال سلاطينه بقضية السيادة العسكرية وفرض الهوية التركية على المكان وثقافته، حرص المجاورين الذين استقروا بالمدينة المنورة واستوطنوها، على تأسيس المكتبات والعناية بها التي يصفها البتنوني في (الرحلة الحجازية) بقوله: (وفي المدينة كتبخانات كثيرة أحسنها كتبخانة شيخ الإسلام "عارف حكمت" وهذه الكتبخانة آية نظافة، في مكانها وحسن تنسيقها وترتيب كتبها وأرضها مفروشة بالسجاد العجمي الفاخر.. فيها كتب لا يقل عددها عن 5404 كتاباً)(3).
__________
(1) يمكن أن ينظركمثال على ذلك، أحمد أبو بكر إبراهيم، الأدب الحجازي في النهضة الحديثة،دار نهضة مصر 1948، عبدالله عبدالجبار، التيارات الأدبية الحديثة، معهد الدراسات العربية بالقاهرة 1959م. حسين نصيف، ماضي الحجاز وحاضره،ط،1،1349هـ على حافظ، فصول من تاريخ المدينة، شركة المدينة للصحافة بجدة.
(2) صالح غرم الله زيَّاد،الوعي بالشعر لدى رواد التحديث في الشعر السعودي. الدَّارة،مجلة فصلية محكمة تصدر عن دارة الملك عبدالعزيز. العدد الأول السنة الخامسة والعشرون.1420هـ صـ67 .
(3) محمد لبيب البتنوني، الرحلة الحجازية الطبعة الثانية 1909م صـ254.(1/23)
ويصف صاحب (مرآة الحرمين) مكتبات المدينة المنورة وصفاً ينم عن إعجاب بكثرة محتوياتها وحسن تنسيقها،ثم يذكر (أن بها سبع عشرة مكتبة جملة ما بها (21855) كتاباً)(1).
ويذكر الشيخ (حمد الجاسر) أن بالمدينة المنورة (80) مكتبة أشهرها مكتبة شيخ الإسلام"عارف حكمت" والتي أنشئت عام 1270هـ وتشمل قرابة خمسة آلاف مخطوطة(2).
وإذا كانت المكتبات مكوناً أصيلاً من مكونات المعرفة والثقافة، وعاملاً من عوامل ازدهار الأدب، فإنها كانت أحد المظاهر التنويرية الواضحة بجلاء في المجتمع المديني، وإحدى ضرورات البنية الاجتماعية في وحدتها الأولى (المنزل / الأسرة)؛ إذ ثمة أسر مدينية اشتهرت بمكتباتها كآل الصافي، وآل هاشم وآل المدني، إضافة مكتبات الأربطة والتي تجاوزت عشر مكتبات في القرن الرابع عشر الهجري(3).
وهو ما يشير إلى العناية بالمعرفة من قبل الأهالي والأعيان والمثقفين على حد سواء، ويؤكد كذلك الوعي الجماعي بأهمية الكتاب في إطار البيئة الاجتماعية.
والمدينة المنورة بوصفها الإقليم الحجازي المنتمي لهذه الثقافة والمعبر عنها، ينسحب عليها وعلى أدبائها مفاعيل السائد العام، الذي تشكله المعطيات السابقة، بكونها علامة ثقافية لصيغة تحول ترفض الانغلاق، وتتفتح باتجاه الزمن وتحولاته.
ولا يمكن أن يأتي التحول بمعزل عن ظروف ومعطيات وإرهاصات أولية، تتراكم وتتفاعل، لتتحول وتتكامل.
__________
(1) إبراهيم رفعت باشا، مرآة الحرمين، دار الكتب المصرية، القاهرة ط1، 1925م. صـ 422.
(2) حمد الجاسر، رسائل في تاريخ المدينة، الرياض، ط1، 1972م صـ20.
(3) ياسين أحمد الخياري، صور من الحياة الاجتماعية بالمدينة المنورة منذ القرن الرابع الهجري، مطبوعات نادي المدينة المنورة، ط1،1990م صـ122.(1/24)
ومنها تلك البيئة التي كانت الثقافة بصيغتها الأدبية محوراً مهماً من محاورها، وجزءاً من مكونات فعلها وخطابها اليومي المستديم، ومجالس ومسامرات،ولقاءات وندوات،يقول عنها (عثمان حافظ):
(كانت الاجتماعات المسائية بالمدينة في الأندية الأدبية ومنازل الأدباء تحفل بدراسة الأدب والشعر والبلاغة..وقليل جداً من هذه المجالس التي يضيع فيها الوقت في لعب الورق أو الشطرنج أو (الكنجفة) التي كانت لعبة ذلك العصر المفضلة، ومن هذه الأندية ندوة الشيخ عبدالجيل برادة ـ رحمه الله ـ وكان شيخاً من شيوخ الأدب والعلم بالمدينة ومن شعرائها المجيدين..وكانت تعقد ندوته في بستانه (الأبارية) والأبارية في موضع فندق التيسير الآن..وكانت ندوة السيد أنور عشقي وكان من الشعراء والأدباء البارزين..وكانت تعقد ندوته. .في بستانه بباب الشامي ـ في شمال ثنية الوداع في سفح جبل سلع ـ وقد سماها (العشقية) وقد أدركناها قبل أن تتحول أرضها إلى منازل)(1).
وتحفل هذه الندوة بالصفوة المختارة من أقطاب الفضل والمعرفة من المدنيين وغير المدنيين، ممن يرد من العلماء والأدباء من الزوار الذين كانوا يدعونهم إليها لتبادل الفوائد ووشج أواصر الصلة الثقافية(2).
__________
(1) عثمان حافظ مرجع سابق صـ98.
(2) مجلة المنهل عددها مايو ويونيه سنة 1969م صـ357.(1/25)
هكذا كان المناخ العام للبيئة المدينية، يتمثل للثقافة في تجلياتها الحقيقية، وفي ممارساتها العفوية، وتحريرها للقيمة الواعية بالوقت والحياة.. وإدراك طبيعي ومواتٍٍٍٍ لإمكانات المكان،يتمثله الرجال المؤمنون بقدراتهم.. ويمارسونه وعياً يعبر عنهم وعن زمنهم.. الذي تتحول ظروفه باتجاه متغير جديد مسَّ هذه الممارسات على صعيدها الإجرائي، حيث صدرت جريدة (المدينة المنورة) بجهود (عثمان وعلي حافظ وحسن صيرفي في 26 محرم 1356هـ ورأس تحريرها أمين مدني بداية(1) فيماصدرت مجلة المنهل لصاحبها عبدالقدوس الأنصاري قبلها بعام سنة 1355هـ (2).
ويعد الأستاذ عبدالله عبدالجبار (نشوء الصحافة) من أبرز العوامل التي ساعدت على الارتقاء بالأدب والوعي الثقافي بعامة(3).
وفي ذات السياق يرى أحد رواد الصحافة المحلية، وهو الأديب المدني (عثمان حافظ) أن (ثمة إرهاصات سبقت صدور الصحف الأدبية، وهي الأندية التي كانت تعقد بصورة منظمة أسبوعياً ويحضرها الكثير من الأدباء والضيوف وزوار المدينة المنورة من رجالات السياسة والأدب، وتلقى فيها المحاضرات الأدبية والاجتماعية والنقدية والاقتصادية وسواها.
إحداها: كانت (نادي الحفل الأدبي) وأعضاؤها السادة الشيخ عبدالقدوس الأنصاري والسيد أحمد الخياري والأستاذ رضا حوحو وغيرهم من الإخوان.
__________
(1) عبدالرحيم أبو بكر. مرجع سابق صـ40 / 51- وذكر لي هذه المعلومة الشاعر حسن صيرفي في مقابلة مسجلة في غرة شعبان 1425هـ بالمدينة المنورة.
(2) عثمان حافظ مرجع سابق صـ110 وقد صدرت مجلة المنهل في ذي القعدة 1355هـ على يد عبدالقدوس الأنصاري، وفي 26 محرم 1356هـ صدرت جريدة المدينة المنورة.
(3) عبدالله عبدالجبار، التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية 1959م صـ205.(1/26)
والثانية: (نادي جماعة المحاضرات) وأعضاؤها السادة عبدالحق نقشبندي، والأستاذ محمد عمر توفيق والسيد علي حافظ والسيد عثمان حافظ والأستاذ عبدالحميد عنبر، والسيد ماجد عشقي ويحضرها الكثير من الأدباء وأساتذة المدارس..وكانت هاتان الندوتان تعقدان أُسبوعياً.
تعقد ندوة (نادي الحفل الأدبي) في مساء يوم الجمعة من كل أسبوع، ويعقد (نادي جماعة المحاضرات) يوم الثلاثاء من كل أسبوع)... وقد كانت (جريدة المدينة المنورة ومجلة المنهل) تهتمان بما يلقى في هذه الأندية من محاضرات ومناقشات، والتنويه عن هذه النوادي الأدبية، وكثيراً ماكانت تنشر نص المحاضرات)(1).
ولعل المتتبع لسياق الدراسات الأدبية والنقدية التي كتبت عن الأدب في الحجاز، والمدينة المنورة بشكل خاص، يلحظ اعتماد الباحثين وبشكل كبير على مجلة (المنهل) كمرجع لهم في تتبع النصوص الشعرية والنثرية التي كتبها المدنيون، إذ كانت (المنهل) نافذتهم على القراءة وطريق نصوصهم للانتشار.
فهذه المجلة هي الأولى من نوعها في الحجاز، من ناحية اهتمامها بقضايا الفكر والثقافة، والسير في الاتجاه الأدبي، ورفد الحركة الأدبية بجد وصمود، بالرغم من المصاعب والأزمات المالية المختلفة التي مرت بها.
(
__________
(1) عبدالرحيم أبو بكر، مرجع سابق صـ64.(1/27)
ومن الطريف هنا أن المنهل هي المجلة الوحيدة التي أصدرت بصك شرعي جاء فيه الإذن لصاحبها بالسماح بإصدارها، ومضت هذه المجلة تواكب مسيرة التقدم، وتجدد في نشر ألوان الثقافة والمعرفة، حتى غدت أهم مجلة أدبية تصدر في الحجاز،بما تنشره من مقالات وشعر ونقد قصصي، وقد استطاعت أن تجتذب بعض أعلام الفكر خارج الحجاز. فنشر فيها بعض أعلام مصر وأدبائها من أمثال طه حسين والدكتور هيكل وأحمد أمين والدكتور أحمد رفاعي وسيد قطب)(1).أما جريدة المدينة المنورة (فإنها لم تأل جهداً في نشر الإنتاج المحلي، وإبراز النشاط الثقافي والأدبي، الذي كان يقوم به شباب المدينة حينذاك في أنديتهم الأدبية، كما عنيت بنشر بعض الإنتاج الشعري والقصصي والنقدي الذي شهده الحجاز خلال هذه الفترة التي أؤرخ لها)(2).
وقد كانت هاتان الندوتان،المنتديين الثقافيين الوحيدين ليس في المدينة فحسب، بل في المملكة عموماً بحسب عبدالله عبدالجبار:
(حيث لم يكن في البلاد منتديات ثقافية أو روابط أدبية، تقوم بدورها في خدمة الأدب والثقافة والفكر... وقد يجتمع المتعلمون في مجالسهم الخاصة، أو في دور الصحف أو في المقاهي، فيناقشون في مختلف المسائل الأدبية والاجتماعية أو السياسية..وربما اجترأوا فأنشأوا بصورة غير رسمية بعض المنتديات كنادي جماعة المحاضرات بالمدينة المنورة الذي كان سكرتيره ضياء الدين رجب، وكما الحفل الأدبي الذي أقامه عبدالقدوس الأنصاري بالمدينة المنورة أيضاً، وكان الأول يزود جريدة المدينة المنورة بالمقالات والقصائد، كما أن النادي الثاني يزود مجلة المنهل)(3).
__________
(1) أنظر عبدالله عبدالجبار، مرجع سابق صـ206، وعثمان حافظ مرجع سابق صـ109
(2) المرجع السابق صـ 65
(3) عبدالله عبدالجبار مرجع سابق صـ206(1/28)
وقد أدى إنتشار المنتديات الأدبية بالمدينة المنورة،إلى التأثير في باقي مدن الحجاز؛ليكوَّن أدباء تلك المدن جماعات أدبية مماثلة، يشير إليها عبدالله عبد الجبار وهي (الأندية والمحافل الأدبية التي اهتم بعض شباب تلك الفترة في الأربعينيات وما بعدها بأن يقيموها بين فترة وأخرى في أحياء مكة وجدة والمدينة..)(1).
وفي جدة كما يقول العواد (فقد كانت هناك اجتماعات أدبية قد اشتركت فعلاً ـ بل أنا الذي أسس بعض الأندية التي كانت تعمر بكل اجتماع أدبي وكانت نواة لجمعية أدبية حرة، قوامها نشر مباديء الفكر الحر ورسالة الأدب الابتداعي الحديث)(2) وهو مايشير إلى إنتشار ظاهرة المنتديات الادبية في باقي مدن الحجاز بعد أن بدأت بالمدينة المنورة.
ومايعنينا التأكيد عليه هنا.. هو دور تلك المنتديات الأدبية بالمدينة المنورة، التي ساعدت على تنامى الفعالية الثقافية وفقاً لمستوى تنظيمي غير رسمي، تمثَّل في ناديين ثقافيين في منتصف الخمسينيات الهجرية بالمدينة المنورة (المحاضرات والحفل الأدبي) تسندهما جريدة "المدينة المنورة" ومجلة "المنهل"، بوصفهما إصدارين صحفيين تأسسا في تلك الفترة، وكانا يواكبان ما يطرح من قضايا وما يُلقى من محاضرات، ليتوافر المناخ العام على تأسيس الجماعات الأدبية وتفعيل دورها،ورعاية الثقافة ورموزها والمعنيين بقضاياها.
أو هو بمعنى آخر، تآخي المناشط الأدبية والثقافية وتكاملها، لتفعيل الحركة الفكرية، واستيجاد صيغة حركية وتعبيرية تنم عن همٍّ تنويري في ذلك الوقت وذلك عبر بعدين، الأول: أدبي منبري؛ يتمثل في منتدى المحاضرات والحفل الأدبي، والثاني: ثقافي صحفي؛ يتمثل في (جريدة المدينة المنورة ومجلة المنهل)، وما يتلاقى مع ذلك من مسامرات أدبية ومناشط ثقافية..تطوّر مستوى أدائها وتجلت مفاعيلها مع وجود المكتبات وانتشارها.
__________
(1) المرجع السابق صـ206
(2) المرجع السابق صـ208(1/29)
غير أن هذين البعدين؛ لم يتشكلا بمعزل عن المحيط المجتمعي العام، ومكونات وجوده الكلي، فثمة عناصر اجتماعية أخرى تعزز المشهد الثقافي، حتى قبل فترة الخمسينيات الهجرية من القرن الماضي..يصفها (عثمان حافظ) بقوله (كانت مجالس الأدباء والأدب بالمدينة المنورة كلها أدب وشعر وفكاهة ومرح وطرب، وكان لأدباء المدينة قطع شعرية ونثرية رائعة، وتوجد عدة دواوين شعرية لبعض الأدباء ومعظمها غير مطبوعة، ومن هذه الدواوين الشعرية ديوان السيد محمد البيتي وديوان الشيخ محمد إبراهيم أسكوبي، وديوان الشيخ عبدالجليل براده، وديوان السيد أنور عشقي، وديوان الشيخ عبدالحق رفاقه علي وديوان الشيخ عمر بري، وديوان السيد عبيد مدني، وديوان الشيخ محمد سعيد دفتردار، وديوان الشيخ سعد الدين عبدالجليل براده، وديوان السيد علي حافظ وديوان الشيخ محمد هاشم رشيد، وقد طبع هذا الديوان حديثاً، وهو لشاب نابغة وديوانه يعطي صورة واضحة عن شعراء المدينة المنورة)(1).
وإزاء هذا الكم من المجموعات الشعرية، نستبين بعض علامات المشهد الثقافي ومكوناته، التي حاولت بث الروح في الحركة الأدبية بالمدينة المنورة، عبر النصوص الشعرية والنثرية، وبتأمل قالة (عثمان حافظ) ورصده الشمولي ؛لواقع الأدب بالمدينة المنورة قبل أكثر من نصف قرن.. نستوضح إرهاصات وجهها الثقافي (الشعري).
فمن يصفه عثمان حافظ (بالشاب النابغة) صار من أبرز شعراء المملكة عبر ستة دواوين شعرية..كما أن بعضاً من الشعراء الذين ذكرهم، لا زالت دواوينهم المخطوطة أو المطبوعة شاهدةً على الثراء النوعي لحركة الأدب، والشعر تحديداً آنذاك.
وما يعنينا من هذه المقالة..هو بعدها الوثائقي الراصد للمشهد الثقافي بالمدينة المنورة..وما يستودعه من دلالات على ثراء المكان الشعري وهو ذاته المكان الواقعي..عندما تعيد الذائقة الشعرية رسمه بأدواتها ومخيلتها الجمالية..!
__________
(1) عثمان حافظ، مرجع سابق صـ107(1/30)
وقد شهد المكان في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وماتلاه حتى بدايات القرن الرابع عشر شعراء مثل: (جعفر البيتي، وعمر داغستاني وأمين زللي، وإبراهيم الأسكوبي ومحمد العمري وعبدالجليل براده).. ويعدهم (عبدالرحيم أبوبكر) ممثلين للنهضة الشعرية الحديثة(1)، هؤلاء الشعراء لم يعيدوا إنتاج المكان الجمالي شعرياً، بقدر ما انطلقوا يصورونه من خلال واقعه السياسي؛ بغرض نقد هذا الواقع والتمرد عليه.
ثمة شعراء كوّن (المكان / المدينة المنورة) في شعرهم..محفزاً إبداعياً.. يتشكل جمالياً عبر النص الشعري.. ليغدو المكان عنصراً ملهماً.. وتكويناً جمالياً يكتنز بالرؤى والإيحاءات (منهم عبد القدوس الأنصاري) الذي وصف في قصيدة له عام 1359هـ وادي العقيق المبارك يوم انهماره بقوله:
هذا العقيق وقد هما متبسماً .. ... طلق المحيا شادياً بسروره ...
وتراه في لألائه متدفقاً .... ... ينساب بين سهوله ووعوره ..
تتكسر الأمواج فوق صخوره .. ... فتئن من تأثيره وعبوره ..
وتهب من جنباته نسماته .. ... فتفوح عطراً منعشاً بعبيره ...
وتحفه أشجاره مزدانةً ..... ... بنوارها المفتر من تأثيره ..
مراته السوداء أشرق وجهها .. ... وتهللت بقدومه ومروره ..
هبت تعانقه وتشكو بؤسها .. ... وشجونها من هجره وحروره(2) ..
فالتشكيل الجمالي للمكان في قصيدة الانصاري يبرز صورة شعرية قريبة للذهن، تعبر عنها صياغات نمطية بسيطة (تراه في لألائه).. (طلق المحيا).. (تتكسر الأمواج)... وهي صياغات تمكن المتلقي من إدراك معانيها ودلالاتها بسلاسة ويسر وتجعله يرتبط بالمكان في ألفة وحميمية، وبلغة تلقائية يشع عليها العقل الباطن بعض فيوضاته، فتفرز بعض صوره، وتقترب من أطياف الرمز من خلال بُنى صياغية توحي تشكلاتها ببعدها المألوف، وذلك حين تعبر عن مكان واقعي معروف للمتلقي.
__________
(1) عبدالرحيم أبو بكر، مرجع سابق صـ70/75
(2) عبدالقدوس الأنصاري، ديوان الأنصاريات، دار الإنصاف بيروت، صـ15/16.(1/31)
وبالتالي فإن التشكيل المفارق للصورة المكانية في البيت الثاني؛إنما تشير إلى شدة التفاعل بين المكونات الزمانية والمكانية، التي عبر عنها الشاعر في صورة لاواعية تحمل أبعاداً مفارقة،تشير إلى بقاء واستمرارية المكان الأصيل وطغيانه على حركة الزمن؛الذي يرصد حركة المكان ويلاحقها، ثم تتحول هذه الحركة الصدامية بين عناصر الزمان والمكان إلى حركة وئام وتصالح:
وتهب من جنباته نسماته فتفوح عطراً منعشاً بعبيره
وهذه الصورة النمطية تتولد نتيجة فعل صدامي مرهق بين (المكان / العقيق) والزمان، ويتولد عنها تشكيل مكاني يتكئ على لغة بسيطة مألوفة في تراثنا البلاغي،حيث الوصف الشعري المأخوذ بروعة (المكان/ العقيق) يصيخ للإنشاد والتأمل المظهري للصورة الواقعية التي تسجل انهمار مياه الوادي، والافتنان بتفاصيلها ويحاول الشاعر تصويرها بشكل مألوف،دونما استدرار لمخيلة نشطة، تتلمس تعبيراتها برؤية تستوحي المكونات الجمالية العميقة، والمبثوثة في فضاء المكان كحيز جمالي، وربما لم تستطع شاعرية الأنصاري التقاط حساسيتها.
فيما ينجب العصر ذاته أديباً مدنياً آخر يشكل نموذجاً لمستوى الوضع الثقافي بالمدينة المنورة وهو (محمد سعيد الدفتردار) الذي رصد له (محمد العيد الخطراوي) عشرة كتب من أهمها كتاب (تاريخ الأدب العربي) في ستة أجزاء بالاشتراك مع الشيخ أحمد كحيل وكتاب (أعلام المدينة المنورة).
كما اصطفى الخطراوي تراجم كتبها (الدفتردار) لبعض أدباء المدينة، ونشرها بمجلة المنهل في السبعينيات الهجرية، ليدلل على عنايته بالتراجم. والتي يعدها الخطراوي (سبباً في شهرة الدفتردار وتميزه على أقرانه)(1).
__________
(1) محمد العيد الخطراوي، (محمد سعيد فتردار مؤرخاً وأديبا) مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي.ط1 1424هـ صـ16.(1/32)
وممن ترجم لهم الدفتردار (عمر زاهد، وعارف حكمت ومحمد بن أحمد العمري وعمر بري)، وهي عروض مفصلة نسبياً تعكس ذائقته الأدبية وموضوعيته وإلمامه الدقيق بالشخصيات الأدبية في عصره.
كما رصد الخطراوي شيئاً من شعر الدفتردار ومحاولاته في كتابه القصة القصيرة.
ومن شعره النادر ماكتبه في لبنان ويقدم له بقوله (فيما جد بي الشوق للمدينة الشريفة ورأيت بعض إخواني قد جاء منها، فبكيت فأخذ بعضهم يعيب بكائي ويسخر مني:
عابوا وفائي لدار المصطفى طه ... ... وعيروني على عيني ومبكاها ...
رأوا ولائي لها مني مجازفةً .... ... ياويحهم جهلوا نفسي ومرماها ...
بيني وبين بلادي أن أناجيها ... ... سد يلجِّم أسماعاً وأفواها.... ...
أكاد والشوق تحدو بي ركائبه ... ... أشاهد النور من أحد تجلاها ...
أكاد والوجد ينحو بي لروضتها ... ... أشتم طيباً لها، ياطيب رياها..! ...
أكاد ألثم ترباً تحت أرجل من ... ... مروا بطيبة إجلالاً لذكراها .....
أكاد ألثم أخفاف المطي إذا ... ... ماالوجد جدَّ بها والسير أضناها(1) ....
ونلمس في هذه الأبيات بالرغم من تواضعها الفني ومباشرتها؛ صدق العاطفة وحرارة الحنين للمكان، والاستجابة لمد الشعور الإنساني في وجده وشوقه الشفيف لذرى المدينة المنورة وروضتها المطهرة، والشعور الضمني بالغربة الروحية عنها، في غنائية النص التي يتعادل فيها الإيقاع الموسيقي مع تصاعد الإيقاع النفسي، وتراتيل الفؤاد المشرب بعشق المكان والحنين إليه.
وهو ما يتسق من الناحية الموضوعية، مع الاتجاه الفني العام لشعراء هذه الفترة، وفي نصوصهم الشعرية التي ظفر منها (المكان/المدينة المنورة) بقدر يسير من الاهتمام.
__________
(1) المرجع السابق صـ 117.(1/33)
ولأن (حياة المكان في فكر الشاعر من شأنها أن تتيح له مجالاً من الفاعلية، التي تتجاوز أمور الزينة اللفظية ولما للمكان من أثر في الاتجاه باللغة الشعرية وجهة تخضع لتأمل الشاعر الذي يعايش لفظ المكان ويقلبه على وجوهه المختلفة، ليستوحي منه معنى أو يقتطع منه لفظاً، فإذا ما تم شيء من ذلك طار فرحاً تجسده اللغة التي تحلق به بين الرؤى والأحلام)(1).
فإن (المكان / المدينة المنورة).. كان محتوىً وجودياً يفيض بفاعليته على الرؤى الشاعرة، ومباءةً تنطلق منها غنائيات الشعراء.. ومكوّناً فنياً.. تتلبسه لحظة الإبداع الشعري، ليبني علاقة تتجسد وتتحقق على مستوى النص..ببنائها الشعري، واعتبارها المكان أُساً في كيانها البنيوي وإيقاعاتها الجمالية.
ولأن (المكان حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرئيسي والأكثر قابليه للتحول واختزال المفاهيم والاكتظاظ بعدد كبير من الحدود والتصورات والمحاميل وشحنات الجمال)(2) استحل عبر هذه الحتمية الوجودية المعبرة عن حقيقته في وجدان الإنسان، وكانت المدينة (المكان/ الأم)، وتفاصيلها الجزئية، تتمثل مدىً من القداسة والعمق التاريخي والاجتماعي في الوجدان العام لساكنيها، الأمر الذي جعل المخيلة الإبداعية تعبِّر عن بعض أبعاده ؛ في تشكيل رؤيتها الجمالية، ولأن الإنسان يخضع العلاقات الإنسانية،لنظم وإحداثيات المكان ؛في دينامية تعالق بين الإنسان والمكان، فقد عزز هذا التبادل التأثيري بينهما.
إن المكان الواقعي المعروف (يضع أخيلته وأبعاده الدينية والفلسفية والجمالية في ذهن المتأمل في تاريخه وتحولاته)(3)، والراغب في استنطاق حمولاته وذكرياته، وهو المتوافر على ما أشرنا إليه من معاني الحضارة والقداسة.
__________
(1) جريدي المنصوري مرجع سابق صـ81.
(2) صلاح صالح، قضايا المكان الروائي في الرواية المعاصرة، دار شرقيات، ط1، 1997م صـ70 .
(3) جريدي المنصوري، مرجع سابق صـ23.(1/34)
وكان (المكان /المدينة المنورة)، وجزئياته التكوينية ؛ الأودية والشوارع والحارات، والمزارع والمساجد؛ مفردات استوحاها النص الشعري لشعراء المدينة، لتتحول إلى علامات مميزة لمعجمهم الشعري، ولازمة في نسيج نصوصهم، وليعاد إنتاجها بصياغة معبرة عن انتمائهم للمكان بذات المستوى المباشر كما رأينا لدى الأنصاري، حيث وقدة الشعور، واحتدام الأحاسيس؛ التي لا يواكبها مستوى تعبيري يكرس شاعريتها،وينهض بمكونات المكان الجمالية ويعبر عنها..!
وبذات المستوى من حيث الوعي بالمكان واستثماره شعرياً، يتأتى لشاعر مديني آخر من شعراء المدينة في القرن الرابع عشر الهجري وهو (عبيد مدني) التغني بالمكان، عبر إنشادية تستتشعر الماضي التاريخي له، بمعنى النظر إليه من خارجه عبر التاريخ، دون استبطان لطاقاته الجمالية، أو التعويل على مكانته كمخزون في الوجدان الاجتماعي، ففي أحد نصوصه يصف الشاعر (العقيق)،الذي ظل المحرك الأساس للشعر بالمدينة، كونه أكثر مكونات (المكان /المدينة المنورة) الباعثة على التأمل والمحرضة على الشعرية فيقول:
وادي العقيق وماحوى تاريخه ... ... سفر يفيض وصفحة تختال ..
ماذا يقول الواصفون وهل لهم .. ... من بعد ماوصف الرسول مقال ..
ياأيها الوادي المبارك إن في .. ... حصباك أيَّ خواطر تنهال ..
ماإن أتيتك مرة إلا انجلت .. ... عن ذكرياتك هذه الأحوال ..
متمثلاً ماضيك وهو حقيقة .. ... وكأنه مما اعتراه خيال .......
أين الأُلى ملأ المجالس فضلهم .. ... فعنا لها الإكبار والإجلال(1) ...
__________
(1) عبيد مدني المدنيات، دار العلم للطباعة والنشر،جده،ط1،ج1صـ55.(1/35)
وبذات الرؤية الشعرية للمكان ومستوى استشعارها لقيمته، يتناول الشاعر مكاناً مدينياً آخر، وهو (قباء) بذات الشعور التاريخي، الذي يتخذ المكان خلفية رمزية مجردة، دون استجلاء التفاصيل والمكونات الجمالية العميقة،التي يمكن أن ترتقي بالمكان في آفاق شعرية مبدعة، تستنطق تلك المكونات وتستشعر بعدها الجمالي:
يمم قباء وجوِّل في مغانيها ... ... واستشعر الروح ريَّا في حواشيها ...
واسعد بنظرتها واستجل فتنتها .. ... فأنت في جنة الدنيا وصافيها ...
واذكر لنا الأوس لما حلَّ ركبهم .. ... في ساحة الرحب كيف اعتز عانيها ...
حتى أتاها رسول الله فانطلقت .. ... تهفو إليه بمن فيها ومافيها ...
بزَّ الغزالة فيها عندما بزغا .. ... وعزَّ نور محياه تلاليها (1) (2)
ولم يكن بروز (العقيق) كتيمة شعرية تمسها تجارب هؤلاء الشعراء بهذه المباشرة، حفيةً بكون هذا العقيق؛ رمزاً تاريخياً وحضارياً للمكان ومعبراً عن مشترك ثقافي ؛ يتمثل في حيوية الحركة الأدبية،التي شكَّلتها الروابط الأدبية عبر جمعيتي (الحفل الأدبي) و(نادي المحاضرات) وفاعلية المحاور الثقافية الأخرى كالمكتبات ودور العلم الأهلية، التي مثّلت الأجواء العامة، ومهدت للتقارب بين أساليب شعراء العصر في مقاربة المكان، وإن كان ذلك بشكل نسبي لم يتجاوز التعبير العفوي والمباشرة التصويرية، التي تجلت أمثلتها الشعرية فيما سبق وأن تطرقنا له من نماذج شعرية.
فيما كان الواقع الاجتماعي العام تواقاً لتلقي هذه النماذج والتفاعل معها؛كونها تحاكي مستقراً شعورياً في وجداناتهم.
ومن هنا نشير إلى ارتباط (العقيق) العضوي ـ كتيمة شعرية بـ(المكان / المدينة المنورة).. باعتباره رمزاً من رموز المكان ومكوناته الرئيسة في الذاكرة الجماعية، وعنصراً ثقافياً وحياتياً بالغ التأثير، في تاريخ المدينة..!
__________
(2) المرجع السابق ج1، صـ65 .(1/36)
فالعقيق بحسب ياقوت الحموي.. (واد عليه أموال أهل المدينة وهو على ثلاثة أميال أو ميلين.. وقيل ستة أو سبعة وهي أعقه : أحدها عقيق المدينة عُقَ عن حرتها أي: قطع وهذا العقيق الأصفر وفيه بئر رومه. والعقيق الأكبر بعد هذا وفيه بئر عروة وعقيق أخر أكبر من هذين وفيه بئر على مقربة منه(1).
والعقيق في الوجدان الشعبي المديني..ينزع إلى تلك الأهزوجة المغنَّاه.. التي كثيراً ما ترنم المدنيون بإيقاعها:
على العقيق اجتمعنا ... ... نحن وسود العيون ...
ما بال مجنون ليلى ..... ... قد جنَّ بعض جنوني ! ..
وقد تجاوز هذا الوادي بعده التاريخي والجغرافي، ليتموضع كقيمة ثقافية واجتماعية وإبداعية؛ في ضمير المدنيين، ويكون محوراً من أهم المحاور المشّكلة لشخصية (المكان / المدينة المنورة).
ولما كانت بعض ملامح الشعرية المعاصرة..قد تشكلت بفعل الإحالة الجدلية؛ القائمة بين المكانين الواقعي والفني..وكثافة الصور الشعرية المحققة لإمكانات الإبداع الفني، في رؤاها وأساليبها المجازية والاستعارية، واستدرار فيض التعبير الجمالي الذي تتحقق عبره تلك الرؤى ؛ فإن المكان ببعده الواقعي الموضوعي، قد تراءى عبر تلك السمات والعلامات الكامنة في المخيلة الجمالية، التي تعيد إنتاجه على نحو يكشف كثيراً سماته المميزة وطابعه الفريد..!
إذ للعقيق مكانته الخاصة في حياة المدينة الاجتماعية والأدبية، (فكأنه نقطة من الدنيا، ودعتها الآلام ولفتها الأحلام الحلوة، وحرستها روح المرح، وتدفقت بين جنباتها قرائح الشعراء، فتركت في نفوس أهلها وزوارها أثراً لا يعدله أثر أي مكان آخر من أماكن الجمال)(2).
__________
(1) محمد حسن شراب، أخبار الوادي المبارك(العقيق) مكتبة دار التراث،ط1، 1985م، صـ158.
(2) المرجع السابق .(1/37)
ولم يكن العقيق مقصوراً على سكانه، (.. ولكنه متنزه أهل المدينة، يلتقي الأحبة على ضفافه ويجتمع الفقهاء في أفيائه، وتجود قرائح الشعراء في مرابعه، مواسمه دائمة،وإقبال الناس عليه لا ينقطع... فإن كان الوقت صيفاً فإنهم يخرجون إليه للاستمتاع بهوائه العليل، وأمسياته الليلية، ويقطفون ثماره المتنوعة ما شاءوا.
وقد روي أن عروه بن الزبير إذا كان موسم أغلال البستان، هدم جدار بستانه ليدخل الناس ثم يعود لبنائه بعد انتهاء موسم الثمار..؟!
ومن أجمل مواسم العقيق، موسم الأمطار، حيث يسيل وادي العقيق، فيتداعى الناس إلى الوادي وقد امتلأت نفوسهم بهجة، ويخرج الناس على جميع طبقاتهم ولا يقبلون على وادٍ آخر. كما يقبلون على العقيق..)(1).
وقد تأسست قدسية (المكان/ العقيق) المنصوص عليها بالحديث النبوي الذي ورد في رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة))(2)ويضاف إلى هذه القيمة القدسية القيم التاريخية والاجتماعية والجغرافية للعقيق..والتي تستثمر الشعرية إيحاءاتها الدلالية.. معولة على معطياتها المتجذرة في الوجدان..!
(
__________
(1) المرجع السابق صـ159.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري،الحديث رقم(1535)كتاب الحج.(1/38)
وجدان) لم يتحقق ارتباطه بالمكان على نحو محفز على الإثراء، مثلما تحقق في وادي العقيق ؛ الذي تجلى رمزاً دالاً على جماعة أدبية هي (أسرة الوادي المبارك) في السبعينيات من القرن الرابع عشر الهجري(1)، وبهذا المعنى الحميمي الأمومي تكونت الأسرة برباط علائقي، ينشد وئام الأمومة عبر هذه الدلالة الموحية..وحين تُسمى الأسرة بكبيرها أو وجيهها كسند إجتماعي وموضوعي حقيقي،يشير إلى النسب كقيمة..؟
أراد أولئك الأدباء أن يُسموا جماعتهم الأدبية باسم (الوادي المبارك / العقيق)، استثماراً لدلالته التاريخية والثقافية، وتأكيداً على خصوصية ثقافية ما.. تميزهم عن غيرهم.
ولقد طغى (العقيق) المديني على ماعداه من (أعقة) في الجزيرة العربية، وبلغ هذا الشأو من الاهتمام، وتعلَّق وجدان الشعراء ومخيلاتهم في روعة تكوينه وتفاصيله الجمالية، حتى استأثر بذلك القدر من النصوص الشعرية، التي تمايزت في مستوياتها وفي حظها من البيان الجمالي والمقدرة الفنية.
__________
(1) محمد العيد الخطراوي،أسرة الوادي المبارك1371-1395 هـ في الميزان،نشرمكتبة الملك عبد العزيز العامة،مطابع مؤسسة التراث.ط1،الرياض 1426هـ،وقد رصد المؤلف بهذا الكتاب نشأة الأسرة وأعضاءها رصداً تاريخياً دقيقاً ـ كونه من مؤسسيها ـ وتأثيراتها في الأجيال اللاحقة،كما عرض لنماذج من إنتاجهم.(1/39)
ولم يقتصر الاهتمام بالعقيق على الشعر، بل صاغ الباحثون والكتاب رؤاهم حول مكانته التاريخية والثقافية، والتي كان المعيار الجمالي محورها الذي أقاموا عليه عماد رؤاهم، وفي هذا السياق يقول محمد حسين هيكل (.. وإذا ذكر العقيق من أودية المدينة؛ نسي الناس كل وادٍٍٍ للعقيق سواه،فقد كان له في أنباء التاريخ من الذكر ماجعله وادي النعمة وخفض العيش والترف، يترنم الشعراء بمحاسنه ويقص الرواة أنباء ما انطوت عليه قصوره، فلم يكد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينزعه من بلال بن الحارث ويقطعه الناس، حتى تنافس الذين ملكوا العقيق في غرسه بساتين وجنات جعلته بهجة للناظرين(1). على أن الوعي بقيمة (المكان/المدينة المنورة)،أو بالعقيق كمكون شعري ثر،واستثماره جمالياً في التجربة الشعرية،لم يتجلى بشكل واضح،إلا لدى شعراء القرن الرابع عشر.. حيث كانت الفعاليات والأنشطة الثقافية الناهضة، التي رسَّخت في ذاكرة أبنائه الكثير من التقاليد الثقافية والاهتمامات الفكرية والمعرفية، وأضفت نتائجها على الأدباء وشكَّلت اتجاهاتهم، على نحو بدت معه الحركة الثقافية فاعلةً وثرَّةً ومعطاءة، مما انعكس على طبيعة الأداء الشعري ومستويات عمقه وتأثيره، ولا سيما عندما آل الاضطراب إلى الاستقرار، وتحولت آثار النزاع السياسي على المدينة المنورة بين آل عثمان والأشراف ـ ذلك النزاع الذي ألقى بظلاله على شعراء القرنين الثاني والثالث عشر ـ إلى صورة أخرى من الاستقرار السياسي والأمان الاجتماعي، في القرن الرابع عشر، واجتمعت عناصر التأثير الثقافي المتمثلة في الجماعات الأدبية ومجلة المنهل، وجريدة المدينة المنورة والمنتديات الأدبية المنزلية، بحكم وجودها المكاني بالمدينة المنورة، واستدامة فاعليتها الحيوية.
__________
(1) محمد حسين هيكل،في منزل الوحي،دار المعارف ط8،صـ584(1/40)
والذي يعنينا منها هنا ما يتعلق بالأدب والثقافة،لنتطلع عبر تلك العناصر ؛إلى قيمة المكان وأثرها في التجربة الشعرية.
ظلت علاقة الشاعر المدني بـ(المكان/ المدينة المنورة) تراوح لدى شعراء المدينة في القرنين الثالث عشر وبدايات الرابع عشر الهجريين..مابين التجديد التقليدي المتمثل بمحاكاة النماذج الإحيائية في الشعر العربي كالبارودي وشوقي، دون منح المكان خصوصيته المعبرة عن غناه الجمالي وثرائه الدلالي، وكانت محاولات الشعراء في تلك الفترة ؛ مرتهنة ـ كما أسلفنا ـ للواقع السياسي المرير والمتقلب، في حين استوعب ذلك الواقع، في جانبه الاجتماعي؛ فعاليات ذات بعد ثقافي تمثلت في المنتديات الثقافية وحركة الصحافة والتأليف النشطة.
أما الشعر فقد لامس المكان بحيادية نسبية، واستوحى بعض مكوناته الجمالية بتعبير نمطي وتجسيد مباشر، وهو ماتغير بشكل كبير، نحو تأصيل جمالي شعري للمكان، وتحول باتجاه واع وبحساسية شعرية مرهفة منذ ولدت (أسرة الوادي المبارك) حيث انبرى ثلة من أدباء المدينة المنورة، يصلون حاضر مدينتهم الثقافي بماضيها القريب.
فألفينا تلك الجماعة الأدبية في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري تؤسس (أسرة الوادي المبارك)، وأعضاءها (عبدالعزيز الربيع ومحمد هاشم رشيد وحسن مصطفى الصيرفي، وعبدالرحيم أبو بكر، ومحمد العيد الخطراوي وعبدالرحمن الشبل) يقتعدون على ضفة وادي العقيق، يتسامرون وينشدون، ويكتبون.. ويفتنون في وصف الوادي، وتهيم وجداناتهم بتكويناته الجمالية وتفاصيله الحميمة، وتتعالق مخيلات الشعراء منهم؛ بالحراك الثقافي الفاعل الذي شهدته ربى الوادي وضفافه.
ليستهل عهد شعري جديد في مسيرة الشعر في هذه المدينة له سماته وخصائصه واتجاهاته الفنية.(1/41)
وتبرز التجربة الشعرية للشاعر (حسن مصطفى الصيرفي) كنموذج مهم ولافت،من حيث مكونات التجربة الجديدة، ومثال على شعرية تقليدية أصيلة..استثمرت جماليات المكان، ونوعت في استلهام تكويناته وبناه في صنيعها الشعري.
وهو ما يمكن اعتباره بنية أساسية في التجربة، تتعالق مع محركاتها الواقعية وتأخذ مكانتها في الوجدان الشعري.
والصيرفي المولود بالمدينة عام 1336هـ والذي نزع منذ بواكير شبابه إلى إستيحاء جماليات البيئة المكانية والاجتماعية بالمدينة المنورة، يصورها شعرا، ويتعالق نصياً مع مكوناتها وعناصرها الموحية والثرية، ويصبغها بحيوية الحركة اليومية، من خلال وعي اجتماعي وثقافي، تعبر عنه شاعريته المطبوعة، وشعره السلس البسيط في بنائه وتشكيله، ومن ثم يكاد شعره في دواوينه الثلاثة (شبابي)، و(دموع وكبرياء)، و(قلبي)(1)؛ أن يؤسس لرصيد بيئي مكاني شفيف، وجغرافيا اجتماعية تمزج العشق العرفاني، بالوصف الشاعري، وتكون عبر هذا الوصف، دراما حركية (لحياة المكان)؛ تستجيب لتفاعلاته، وتجاذب أطرافه، كما تستنتج دقائق تكويناته الثاوية في أعماق الشعور الإنساني، والتي تتكشف فحواها الحميمة، من خلال نصوص الصيرفي.
فعندما يصف حي (التاجوري) (أحد أقدم الأحياء الشعبية بالمدينة) ويستقصي أبعاد المكان الجمالية؛ يعطي لتلك الجمالية، شأوها المعمق في الذاكرة الشعرية،التي تستعيد مشاهداتها على نحو عفوي ومباشر،يبعث على التأمل والشجن :
آه سحر زمان التاجوري ... وليالي أيام غروري
ذكراك تجوب دروب دمي ... وتسامر إحساس شعوري
من لي بشفيع يشفع لي ... كي أدخل ( حوش التاجوري)
أمنية كيف يؤملها ... حي من حي مقبور
في ( المحمودية ) كم رقصت ... أغصان البان الطنبوري
ومكينتها تقرع (دن دن ) ... من نقر دفوف الماطور
تمتص الماء طرنبتها ... ليصب (بقف) محجور
في هيئة قوس من ماس ... يتألق في وهج النور
__________
(1) صدر الديوان في طبعته الأولى عن دار الكتاب العربي بالقاهرة، سنة1365هـ .(1/42)
والنغري مع العصفور ... مع القمري والشحرور
غنوا في الروضة أغنية ... قد سلبت حذر الناطور(1)
إن حركة اللغة الشعرية مؤاتية في إيقاعها النفسي، لترجيعات الصورة البصرية التي يحاكيها الشاعر،ويستثمر عناصرها الحركية، ويستثير إيحائها الدلالي،بذائقته اللغوية المرنة والحاذقة في استخدام الفعل (المضارع)؛ وتوظيفه في بدايات الجمل الشعرية ووسطها؛ مما يسهم في إذكاء الحركة الدلالية للغة، وبعدها الوظيفي والجمالي في هذا النص، المؤتلف مع غنائيته، التي تتبدى هنا بوصف المشهد المنظور واستجابة الذات الشعرية وتفاعلها مع جزئياته، ولا يتماس ذلك كثيراً مع الرؤية الوجودية في تعقيداتها الفلسفية، بل يحتوي اللحظة الشعورية في حال تصورها المرن، والحساس للصور المنظورة والمشاهد المرئية، والتي يستوعب النص الشعري تفاصيلها الحركية، ويتملى انعكاسها على حاسته الشعرية؛المتناغمة مع الإيقاع النفسي للحظة التأمل.
كما ينسج معجمه الشعري من اليومي الفصحوي (الدارج)، في مفرداته المنشورة على مساحة النص الشعري، ومحاولة شعرنة (العامي) المحكي في السياق الشعري؛ المؤسس على ذائقة بيئية مرنة.
تُحُّول (اليومي/ الحركي).. إلى شعري يتلمس مكامن الجماليات المشاهدة ويسعى إلى شعرنة تفاصيلها.
وبين اللغة اليومية واللغة الشعرية، تتولد ثنائية الفعل الشعري.. وينعقد بينهما التلازم في نص (الصيرفي )، ذلك التلازم الذي يصفه جاكبسون: (.. في اللغة اليومية المستعملة للأغراض العلمية، يتركز الاهتمام على السياق ويتركز الاهتمام أحياناً على الشفرة المستعملة في إرسال الرسالة، أي على اللغة نفسها، وفي حالة الفن اللفظي يتركز الاهتمام على الرسالة بوصفها غاية في ذاتها) (2).
__________
(1) نشر النص في جريدة البلاد السعودية العدد الصادر بتاريخ 21 /7/1423هـ
(2) حسن ناظم، مفاهيم الشعرية، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم،المركز الثقافي العربي،ط1،1994م.صـ23 .(1/43)
وهو ما يتحقق هنا في نص الصيرفي، وفي شعره على نحو أكثر شمولية، فيتلازم في لغته الشعرية اليومي بالشعري، حيث تتخذ اللغة من البعد التعبيري للمكان، سياقاً يمنحها الوصول إلى المتلقي.
وتشترك معه في وحدة تلقي النشاط الحياتي الحيوي، وانعكاسه الصادق في الذات المشتجرة معه، والتي تتأسس وإياه على الإحساس الفطري بجمال المكان وحميميته،إذ (يعد النص الأدبي تجلياً لبنية مجردة،حيث تكون ممارسة القراءة طبقاً لهذا التصور تنقلاً حراً في فضاء النص، وإسقاطاً للجانب الذاتي في هذا الفضاء النصي، والقارئ هنا يضطلع بتمييع دوره، ليحقق نقداً فاعلاً يجتاح القراءة المغلقة له)(1).
__________
(1) المرجع السابق.(1/44)
وفضاء نص الصيرفي هذا، وكذا نصوصه التي تناولت المكان بالمدينة، تناولاً نوعياً استشعارياً؛ ورؤية تحتوي إرهاصاته العرفانية، كمؤشر مهادي أولي، يستبطنه الوعي المجرد لديه، وهو مايتجلى في هذا التناول،الذي يسقط الجانب الذاتي، في انحيازه إلى تفاصيل تلك الرؤية؛ ويتجاوز الذات إلى مشترك رمزي، يجمعها بالآخر،القارئ والساكن والزائر للمدينة، والمتأمل لشعر الصيرفي،يجده نتاجاً للتجليات الوجدانية للمدينة المكان والبيئة والإنسان على الشاعر، وواقعياً يستثمر الرؤية الواقعية في بناء مثاله النصي بتلك البساطة المتناهية، في توخي مفردات وألفاظ بعينها، من هذا المعجم، لبناء مستوى إيقاعي مباشر، يتناول المشاهدات القريبة، بعد أن يعيد تشكيلها نصياً وفقاً لإمكاناته الإبداعية، واستشعاره لجماليات المكان الموصوف. (فحوش التاجوري) الذي يمثل وحدة سكانية متناغمة مع أجزاء المكان، وحيزاً يمتلك خصوصيته الجغرافية الأسرية والنظمية، عندما كانت (الأحواش) حيزاً أُسرياً يمثل كتلة اجتماعية، زاخرة بمظاهر البيئة الإنسانية وحميمية ارتباطها، وتفاصيل علائقها(1).
وهي ذات المظاهر الخاصة التي يعدها (فرانكفورت) (مظاهر محسوسة، تشير إلى مواقع لها لون عاطفي)(2).
إذ العاطفة في شعر الصيرفي؛ مسكونة بالمكان، وتأخذ صيغتها الجمالية، من بناه وتعابيره، مشاهداته وموجوداته؛ المتجهة صوب التلاشي ظاهرياً، بينما تعيد الشعرية تكوين جمالياتها، واستثمار طبيعتها؛ وهي التي يناغيها الصيرفي بشاعرية مطبوعة، وصياغة تستدعي الذائقة المتلقية؛ مدفوعة بعشقها للمكان، الذي يتموضع بدوره كبنية أساسية في سياقها:
أه يا عهد التاجوري
__________
(1) أنظر محمد الدبيسي(أحواش المدينة المنورة-مقاربة وصفية) مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، العدد 13،ربيع الثاني –جمادى الآخرة1426هـ صـ155.
(2) فرانكفورت وآخرون، ماقبل الفلسفة،ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، مكتبة الحياة بيروت،صـ24.(1/45)
يا مسرح أيام سروري
ذكراك تجوب عروق دمي
وتغذي روحي وجذوري
(الحجارية) نرجسها
كم غازل أحداق الحور
وحنين سوانيها يذكي
تحنان الصب المأسور
حيث يتحول المكان هنا إلى زمان؛ يتأوهه الشاعر فـ (العهد) و(المسرح) زمكانية (زمانية مكانية) يمثلها (حوش التاجوري)، ويمزج تفاصيلها بالوجدان، وبالشعرية التي تعبرعن فقدها، وتبرر أثر هذا الفقدان بحيثيات يعرضها المقطع السابق والذي قبله، الذي تتردد فيه أسماء الأمكنة الجزئية (المحمودية، الحجارية، الصافية) بدوالها الاسمية المشيرة إلى الحيز التفصيلي الداخلي، في إطار المكان (حوش التاجوري)، والتحامها بالنسيج الشعري في النص، في تراكم دلالي يستثمر حيوية المكان، وتداعيات ذكره، وحمولاته الدلالية، التي يشي الوصف الشعري هنا، ببعض رموزها وإشاراتها المشاهدة، والتي تبعث في كل جزء من أجزائها سمات حركية ودينامية، تنعكس في وجدان الشاعر، ليرسم جمالياتها التخييلية، بمزاج عشقي،يحول ديناميتها تلك، إلى إيقاعية ترددية يستجيب لها المتلقي ويتفاعل معها.
فهذا النص الذي يتخذ من (حوش التاجوري) مكوناً رمزياً، يغذي سياقاته الدلالية، ويبعث في ذات السياق الشعري؛ أسماء المواضع والأماكن المتجاورة، المحفورة في الذاكرة الشعرية، ليكون للمكان بتشكلاته الجزئية والكلية؛ طاقة تستثمرها الشعرية بدفقها العفوي، ثم بسياقاتها المكتترة بالقصص والذكريات،وقدرة الشاعر عبرها على تكوين جماليات صياغية؛ذات دلالة عميقة، تدل على تعالق الشاعر المدني مع المكان، كمعطى أولي تنجذب إليه الشعرية بعفوية وسلاسة، وتستوحي من أوصافه جمالياتها؛على النحو الذي تجسده نصوص الصيرفي، ولاسيما هذا النص، الذي يمنح النص القدرة على التكيف مع غنائية تعيد للمكان شاعريته، بوصفه علامة على تجليها،في بيئة مولدة للخطاب الشعري بمستوياته واتجاهاته المختلفة.(1/46)
وأسماء الأماكن الواردة في شعر (حسن صيرفي)، وجيله المعاصر محمد هاشم رشيد، ومحمد العيد الخطراوي وما تلاهم من أجيال، عبدالمحسن حليت وبشير الصاعدي؛ تعزز ما عُرف من اكتناز(المكان/ المدينة المنورة)، بقيم جمالية في المحتوى التكويني العام،والنسيج الاجتماعي، وفي الخطاب الثقافي العام، المتعالق مع حركة الحياة،والمؤتلف معها، على نحو يمثل رصيداً معرفياً، يستقي خبراته وتراكماته، من المكان وبيئته الاجتماعية، ليستثمر الشاعر تلك المؤثرات والمكونات في تجربته الشعرية، على نحو تختلف تجلياته لدى شعراء المدينة.
وإذا كانت تلك (الألفاظ والمفردات) تمثل علامات اسمية (للمكان) في شعر الصيرفي، حتى لا يخلو أي من نصوصه من اسم جبل أو واد أو شارع بالمدينة، ومن ثم صار علامة مائزة تبرز فيها الأمكنة في شعره بشكل كبير، وفي سياقات شعرية تأتلف مع مفردات وألفاظ التعبير اليومي، وعلامات المكان الاسمية،لتشكل نسيجاً شعرياً متميزاً،فان تلك الألفاظ (ليست بدعاً من غيرها من ألفاظ العربية، التي تحض بصفات تهيؤها للشاعرية، الأمر الذي يعود في حقيقته إلى طبيعة هذه اللغة، في كيفية تآلف أصواتها وبناء كلماتها، وقابليتها لكل تأليف موزون، ويضاف إلى ذلك ما تحمله اللفظة العربية من إمكانات دلالية وإيحائية، وما إلى ذلك مما يعد طاقة شعرية كامنة فيها، بحيث تعد درجة أولى في طريق الخروج من الاستعمال الإيصالي المحض، إلى إضافة مسحة من الجمال على الكلام، وهو ما يتحقق بشكل أكثر وضوحاً في الاستعمال الشعري الجمالي)(1).
وتحقق قصائد الصيرفي هذه الرؤية النقدية التي يطرحها(جريدي المنصوري)، حيث تستحث المكان على الإفضاء بمكنونه الجمالي، وتوظيفه في السياق الشعري المكمل لضرورات إبراز صفاته وحيوية تفاصيله.
وهناك (الصافية) كانت
بركتها تغرق في النور
والريح تدغدغ صفحتها
بروائع فن التصوير
والسور يؤمن نُزلتها
__________
(1) جريدي المنصوري، مرجع سابق صـ78 .(1/47)
من عين حسود وغيور (1).
فإعادة اكتناه المكان بأدوات الصيرفي الشعرية، وتصوره لتاريخه القريب، واستدعائه لموروثه الجمالي الصرف، في تتبعه الدقيق لجزئيات (صورة بركة الصافية)، وحركة الريح في مائها،وإحاطتها بالسور المؤمن لها (من عين الحسود والغيور)، يبعث الفاعلية الشعرية الكامنة في هذه الجزئيات التفصيلية، والتي يصنع الخيال الجمالي للشاعر صيغتها النهائية، كما تتبدى في هذا النص، ويجعلها ذات بعد تأثيري لدى المتلقي، ووصفي جمالي لدى الشاعر، الذي يستجيب لماهية حقيقتها الفعلية.
ومن ثم يعبر عنهاالشاعر بصياغة شعرية غنائية، تنبع من جزئيات الصورة المشاهدة، وتعيد لها إلفاً تناولياً شعرياً، ينهل من ذات شاعرة، يكتنفها عشق المكان على النحو الذي تصوره نصوصه الأخرى، مثلما أخذ (وادي العقيق) جزءاً كبيراً من اهتمام الصيرفي، حيث لم يتجل ظهور العقيق شعرياً لأي من شعراء المدينة، كما هو لدى الصيرفي، الذي يصف وقوفه متأملاً الوادي عند الغروب:
وقد وقفت في ضفاف المسيل
عرائس نخل العقيق الجميل
تحملق في السيل مخزونة
وقد خضبته دماء الأصيل (2).
للبحث صلة في العدد القادم
__________
(1) على أطلال التاجوري، نص للشاعر حسن الصيرفي ’نشر النص في جريدة البلاد السعودية بتاريخ 21/7/1423هـ .
(2) حسن صيرفي، شبابي، مجموعة شعرية، مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي، ط1، 2003م ، صـ91 .(1/48)