ماجد قاروط
" المعذب "
في الشعر العربي الحديث في سوريا ولبنان
من عام 1945 إلى عام 1985
دراسات جمالية
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
الإنترنت ... : Internet : : aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنانة: نسرين المقداد
((
ماجد قاروط
" المعذب "
في الشعر العربي الحديث في سوريا ولبنان
من عام 1945 إلى عام 1985
دراسات جمالية
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
*التمهيد النظري
ينشأ العذاب من وعي الإنسان لذاته في ظروف موضوعية واجتماعية تقف حائلاً دون تحقيق هذه الذات بالصورة التي تريد، ومن ثم فإن الواقع عنده مصدر للشرور التي أنتجتها العلاقات الاجتماعية والظروف الموضوعية السائدة.
ولاينطوي (المعذب) الذي تتراجع لديه قيم البطولة إلى درجة كبيرة على البطولي، والمثل الأعلى عند (المعذب) صعب المنال إذا ماقيس بالمثل الأعلى عند (التراجيدي)، ففسحةُ الأمل عند (التراجيدي) أوسع من تلك الموجودة عند المعذب. إذ يقترب (المعذب) في ظرف ما من مرحلة الانسحاق، بيد أن (المعذب) ليس ذليلاً أو وضيعاً، فعذاباته قائمة على صراع داخلي عميق محاولاً إعادة التوازن إلى ذاته المغتربة عن الظروف الموضوعية والاجتماعية.
والحقيقة أن عدم إمكانية أن يتحول (المعذب) إلى (جميل) و (بطولي)، بالمعنى الذي طرحه التيار الواقعي من الشعر الحديث، أي في أن يتحول إلى شخصية ثورية، وعدم قدرته على الاندراج في عالم القبح أيضاً، هو الذي يجعله معذباً، بمعنى أن إحساسه بفرديته يقف حائلاً أمام تحوله إلى ثوري جميل بطولي، وكذا فإن رفضه الجذري لعالم القبح والتفاهة، يمنعه من أن يكون قبيحاً أو تافهاً(1).
__________
(1) انظر كليب، سعد الدين 1989 القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث 1950-1975 رسالة دكتوراه -جامعة حلب ص283.(1/1)
وقد يتعمم العذاب ليشمل الكوني والميتافيزيقي، وبذلك تتسع دائرة الصراع الداخلي لدى (المعذب) انطلاقاً من البيئة الاجتماعية، التي تقف حائلاً دون تحقيق الذات المعذبة.
لقد طرح الفن والأسطورة إضافة إلى البطل التراجيدي البطل المعذب، ذلك أن هذا الأخير يقوم في حياته بأفعال عبثية سلبية تدل على المزاجية وليست ذات قيمة اجتماعية، فعلى الرغم من أنه قوي على الصعيد الجسدي فهو معذب على الصعيد الروحي، ويُعاقَب على أفعاله هذه بعذاب أبدي تفرضه الآلهة (إشارة إلى أسطورة سيزيف)، بيد أن البطل التراجيدي إيجابي ويقوم بأفعال ذات قيمة اجتماعية هامة، وهو ممتلئ بالحياة وبالدوافع الثورية (إشارة إلى أسطورة بروميثيوس البطل التراجيدي الجليل)، كما أن (المعذب) قيمة جمالية قد تنطوي تحت قيم أخرى كالتراجيدي، وذلك استناداً إلى تداخل القيم الجمالية فيما بينها.
لقد شهد العصر الوسيط في أوروبا ظهوراً مميزاً للمعذب، حيث تحدث الفن في تلك المرحلة عن "التناقض بين وعي الشعب المتنامي وبين إذلال النظام له وإهانته لقيمه الإنسانية باستمرار. وصورةُ الإنسان المتألم المهان كانت الصورة الأساسية فيه، وهي تقف أمامنا مناقضةً للصورة الفنية في المجتمع العبودي، صورة البطل القوي الكامل ذي البنية الجسدية التامة، الذي لايفقد، حتى في العذاب، توازنه الهارموني وقوته الجميلة"(1)، لقد ارتبط الفن في العصور الوسطى بالانتقال من مرحلة العبودية إلى المرحلة الإقطاعية.
كما أن الفن عامة والأدب خاصة قد شهدا أيضاً ظهوراً مميزاً (للمعذب) في القرن العشرين وفي مختلف الأجناس الأدبية، فتسارعُ الإنجازات العلمية المذهل الذي رافقه الدمار الناجم عن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد ولَّد لدى الفرد شعوراً بالغربة والخوف من المستقبل القادم.
__________
(1) المرعي، فؤاد 1989 المدخل إلى الآداب الأوربية -مطبوعات، جامعة حلب ص93.(1/2)
وكان للشعر العربي الحديث -من بين الأجناس المختلفة -نصيب وافر في عرضه لمفهوم (المعذب) بتجلياته المختلفة (الاغتراب، والقمع، والاستلاب الخ...) حيث شكَّلتِ الظروف السياسية والاجتماعية حاجزاً أمام الفرد الذي فَقَدَ توازُنَه النفسي أمام مجمل تلك الظروف.
- - -
-نموذج المعذب في الشعر العربي الحديث:
إن الشعر العربي الحديث يمتد زمنياً منذ ظهور المدرسة الكلاسيكية الجديدة أو المدرسة الإحيائية مروراً بالمدرسة الرومانتيكية حتى ظهور شعر الحداثة بصورته الراهنة.
لقد تجلَّى مفهوم /المعذب/ بغزارة وبصورة تصاعدية في النص العربي الشعري الحديث نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي عانى منها الوطن العربي ونتيجة للتطورات المذهلة التي شهدها القرن العشرون على أكثر من صعيد/علمي، وسياسي، واقتصادي،.../ حيث تسارعتْ التطورات في هذا القرن تسارعاً لم تشهده القرون السابقة، فوقف الفرد عامة والفرد العربي خاصة مدهوشاً أمام تلك التسارعات والظروف، فكان لهذا الأمر أثره في الذات التي عجزتْ عن التلاؤم مع معطيات الواقع، وتجلّى هذا العجز بصورته المرعبة في نص (الحداثة الشعري) الذي مازلنا نعيش إنجازاته حتى الآن.
-النموذج المعذب في الشعر الإحيائي في سورية ولبنان:(1/3)
كانت المدرسة الإحيائية محاولةً لإعادة التوازن إلى النص الشعري ومنها بدأ الانطلاق إلى عوالم أخرى في القصيدة العربية، تجسّدتْ فيما بعد بظهور المدرسة الرومانتيكية ثم المدرسة الحديثة، حيث نهلتْ هذه المدارس من التراث العربي وفجَّرتْ طاقاته، كما أنها عَنِيَتْ بقراءة النتاج الشعري الغربي بمختلف تياراته، وقد ظهرت المدرسة الإحيائية في مرحلة من التأزمات السياسية والاقتصادية في سوريا ولبنان، (الانتدابات، الاحتلالات). أثَّرتْ في البيئة الاجتماعية بشكل عميق، وانعكستْ على الأدب عامة وعلى الشعر خاصة، حيث ظهر المعذب اقتصادياً واجتماعياً في القصيدة الإحيائية، ومن ثم المعذب أخلاقياً.
أما موضوعات /المعذب/ فقد عكست قضايا الفقر واليتم والتشرد ومناقشة مسألة الموت من خلال الرثاء والثشاؤم والاغتراب.
إن اليتم حالة من الحالات المؤلمة على الصعيد الإنساني، عبَّرت عنها المدرسة الإحيائية تعريةً منها للجانب الجشع من المجتمع، ففي قصيدة للشاعر خليل مردم بعنوان (اليتيم الجائع) يصف الشاعر طفلاً متشرداً في جوف الليل فيقول(1):
طفلٌ بجوف الليل يبكي عارياً ... نال الضنى من جسمه مانالا
ماراعه إلا دنوِّي نحوه ... كالفرخ ريعَ لكاسرٍ قد صالا
ساءلْتُه ماخطْبه؟ فتدفقتْ ... منه الدموعُ فما استطاع مقالا
__________
(1) مردم. خليل /د.تا/ الديوان، قدم له جميل صليبا، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق ص280.(1/4)
إن فقدان ذلك الطفل مصدرَ الحنان والمصدر الاقتصادي الذي يؤمِّن له حياته، قد أدَّى به إلى هذه /الصورة/ من العذاب التي حاكى الشاعر أطرافها، ثم إن عذاب هذا الطفل ينطوي على الخوف، خوفٍ من المجهول القادم (كالفرخ ريع لكاسر) نظراً لانعدام ثقته بكل مايأتي وبكل مايحدث، فكلُّ شيء يتحرك حوله يوحي بالرعب الذي تربَّى وتكوَّن لديه نتيجة انهيار قاس لكل مصادر الحنان، فجعله هذا عاجزاً في نهاية المطاف حتى عن التعبير عن الصورة القاسية التي وصل إليها (فما استطاع مقالا).
إن هذه الأبيات لاتصوَّر حالة فردية خاصة، بقدر ماتصور ظاهرة ممتلئة بالخوف على المصير الإنساني بسبب انعدام مصادر الاطمئنان والاستقرار بما فيها المصادر الاقتصادية.
وللشاعر /خير الدين الزركلي/ قصيدة في هذا المجال يصف فيها لاجئاً:(1)
دموعُ من، تلك التي تذرف؟ ... وقلبُ من هذا، الذي يوجفُ؟
إنْ كان إنساناً فهلاّ صغى ... إليه من يرحمَ أو يرأفُ
أمْ ليس في الناس لمستنصِفٍ؟ ... من ناصرٍ يعطف أو يُنصِفُ
ثمة حالة قهرية سلبية استدعت بكاء ذلك الشخص /اللاجئ/، فهو ليس لاجئاً عادياً، بل هو إنسان اضطر مرغماً إلى القيام بفعل يوحي بالضياع وبالهرب من وضع غير آمن، وهذا بالضبط مايثير استنكار الشاعر لجملة الظروف التي أسهمت في بلورة هذه الشخصية فيدعو المجتمع ببعض فئاته إلى موقف أكثر إنسانية من المشكلة المطروحة في الأبيات التي يعاني منها امرؤ ما، لأن معاناته وتشرُّدَه لن ينتهيا إلا بموقف اجتماعي (أم ليس في الناس لمستنصف).
__________
(1) الزركلي، خير الدين، 1980 الأعمال الكاملة ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص333.(1/5)
إنَّ ظهور هذا /المعذب/ في النص آتٍ من أسباب اجتماعية أخلاقية، تتعلق باستعداد ذلك الشخص المسبق لدخول حالة التأزم النفسي، حيث نحن أمام امرئ تعرض لموقف عصيب لا يزول إلا بزوال المسبب، ولكنه ليس موقفاً ينطوي على الديمومة والاستمرارية مدى الحياة ناجماً عن وجود خلل نفسي متأصِّل فيه.
لقد طرحت المدرسة الإحيائية إلى جانب الفقر والتشرد جوانبَ أخرى لغربة الإنسان، تتمثَّل بالاغتراب القسري عن المكان نتيجة وجود ظروف سياسية تتعلق بالانتداب والاحتلال، وهو اغتراب عانى منه (خير الدين الزركلي) نفسه حيث يقول في قصيدة له بعنوان (قصيدة نجوى)(1):
إن الغريبَ معذبٌ أبداً ... إن حلّ لم ينعمْ وإن ظَعَنَا
لو مثّلوا لي موطني وَثَنا ... لهممْتُ أعبدُ ذلك الوُثَنَا
إن شعور الزركلي بالغربة القسرية عن الوطن آتٍ من أنه فقد في الوطن الجديد مجملَ العلاقات الاجتماعية ذات الرابط الحميمي، وقد أخذ الوطن في البيتين السابقين سمة (أعبدُ ذلك الوثنا) عند الشاعر لأنه ارتبط بكل ما هو خيرٌ ومعِطاء ( الأم، الأرض) ، الأمر التقديس الذي جعله يرى الوضع الجديد قبيحاً إلى حد سبّب له الألم والحزن.
وهكذا فإن /المعذب/ الذي طرحه البيتان يرتبط بمعنى /القلق/ و /الألم/ و /عدم الاستقرار/ في البيئة الاجتماعية الجديدة.
إن كل مايسود في الوطن من علاقات سلبية وإيجابية، هو في نظر الشاعر /جميل/، والبيتُ الثاني يرسِّخ هذه الفكرة بعمق، فيكتسب البيتان قيمة جمالية هامة.
__________
(1) الزركلي، خير الدين، الديوان ص21.(1/6)
أما الاغتراب الذي طرحه (محمد البزم) فيختلف عن اغتراب (الزركلي) ذي الظروف السياسية، لأن (البزم) طرح الاغتراب الاجتماعي الذي ينبثق عن العلاقات الاجتماعية الفاسدة، ثم يتَّسع ويزداد حدة وقسوة إلى حد فقدان الأمل والموت مع تراكم السنين، حيث يقول في قصيدة له بعنوان /الغريب/:(1)
بات في أرضه غريباً تبارى ... في أذاه قبل العدى أترابُهْ
كيف لايغتدي غريباً، وقد حُمَّ ... إلى فجوة الفناءِ اغترابُهْ؟ (مدور)
إن المعذب الذي صوَّره البيتان يستند إلى خلل في طبيعة صلة الأفراد بالشاعر، إذ يتّبعُ الأفراد سلوكاً اجتماعياً مخالفاً لسلوكه يعود عليه بالأذى والضرر، فكان لابد من إعلان القطيعة مع قبْح ذلك السلوك.
يتفاوت الاغتراب حدة بين البيتين الأول والثاني، فالغريبُ في البيت الأول -كما رأينا- يرتبط بالعلاقات الاجتماعية، في حين أن الاغتراب في البيت الثاني مرتبط بالموت والنهاية. ويشكّل هذا الاغتراب على الصعيد النفسي حالة أكثر رعباً من الاغتراب الاجتماعي السابق، حيث /الغربة/ الناتجة عن الشعور بالنهاية تنطوي على تأزم نفسي كبير، فكيف إذا اجتمعت هاتان الغربتان معاً، في ذات الشاعر، ويبدو من سياق البيتين أن الغربة الأولى أفضت إلى الثانية.
إن الغربة الاجتماعية بتراكمِ سلبياتها أدَّتْ إلى فقدان الأمل بالواقع وبالمستقبل فانتهى الأمر بالشاعر إلى التفكير بالعدم لفقدانه الثقة بالواقع، وفقدانه التوازن، وهذا ماتشير إليه الحياة الاجتماعية للبزم، الذي "برمَ بالناس وكرهَ المجتمع فقد لقيَ الشقاء منذ شبَّ، واكتنفتْه الهموم منذ دخل الحياة الاجتماعية، ولقى الحَسَدَ والضغينة والخلُق الفاسد"(2).
__________
(1) البزم، محمد /د،تا/ الديوان، ج2، شرح سليم الزركلي، عدنان مردم بك، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والعلوم والآداب، ص105.
(2) الدهان، سامي /د.تا/، الشعراء الأعلام في سوريا، ط2، دار الأنوار، بيروت، ص52.(1/7)
وما دمنا في الحديث عن الغربة والموت، فإن المدرسة الإحيائية قد طرحت الموت طرحاً مغايراً لأشكال الموت وأنواعه في الشعر الحديث، حيث ظَهَرَ الموت في الإحيائية في قصائد الرثاء والحكمة، وفي بعض القصائد حيث ارتبط الموت /بالسراب/ الذي يُفضي إلى /الخديعة/ و /عدم الثقة/ بالآتي:
نقف في البدء عند قصيدة للشاعر بدوي الجبل بعنوان /السراب المظلم/ يقول فيها:(1)
حَنَا السرابُ على قلبي يُخادعهُ ... بالوهم من نشوةِ السقيا ويُغريهِ
فكيف رحتُ؟ ولي علمٌ بباطلهِ ... أهوى السرابَ وأرجوه وأُعليهِ
ويْح السراب على الصحراء تسْلِمُهُ ... رمالُها السمرُ من تيه إلى تيهِ
لقد اقترن العذاب في الأبيات السابقة بالخوف من المستقبل، ذلك أن كلمة سراب، وهي مفتاح الأبيات توحي بذلك المستقبل القاتم، ثم إن السراب في ذاته يفضي إلى معنى /الآتي/ ولكن بالصورة السلبية هنا، وقد انطوى هذا العذاب بالضرورة على التشاؤم والريبة.
إن الأساس الجمالي الذي ارتكزت عليه الأبيات يقوم على توصيفٍ خارجي للسراب، فالسراب من الناحية الواقعية لايختلف كثيراً في المعنى عما أتت به المقطوعة الشعرية السابقة، من أنه -عادة- موجود في الصحراء وأنه يخدع الناظر إليه فيظنه ماء.
كما أن العذاب القادم من السراب قد انطوى أيضاً على الضياع الذي أبرزه البيت الأخير (من تيه إلى تيه)، فبدا أن ثمة خللاً ما في الواقع أدّى بالشاعر إلى الضياع وإلى عدم الثقة بالعالم المحيط به.
في قصيدة أخرى لبدوي الجبل تظهر عذابات الشاعر أقوى وأعتى من الموت، ففي قصيدة بعنوان /ثكْل الأمومة/ وهي في الرثاء يقول(2):
ما للمنيةِ أدعوها وتبتعدُ ... أمرُّ من كلّ حتف بعضُ ما أجدُ
ظمآن أشهدُ وِرْدَ الموت عن كثَبٍ ... والواردون أحبائي ولا أردُ
علّلتُ بالصبر أحزاني فيا لأسى ... بالجمر من نفحات الجمر يبتردُ
__________
(1) بدوي الجبل، 1978، الديوان، ط1، دار العودة، بيروت، ص402.
(2) المصدر السابق، ص297.(1/8)
إن جوهرَ العذاب في الأبيات السابقة ينطلق من (الموت المعنوي) في قول الشاعر (أمرُّ من كلّ حتف بعض ما أجد)، ذلك أن هذا الموتَ أقسى من الموت الفيزيائي، حيث يتمنى الشاعر أن يموت ميتةً واحدة (الموت الفيزيائي) إلا أن هذا بعيد المنال عنه.
ولعل الحياة اليومية بمشاكلها الاجتماعية وعلاقاتها السائدة، تفرض على الشاعر عذابات متكررة وقاسية، لايبالي بعدها بذاك الموت الذي يشكِّلُ النهاية الحتمية لكل إنسان، فالصبر لم يعد يضاهي حجم العذاب، كما أن عذابات الشاعر تنطوي على الكثير من التشاؤم والحزن.
ولابد من الإشارة إلى أن الموت المعنوي المطروح في الأبيات قد اتسع مفهومه واتخذ أبعاداً كبيرة في الشعر العربي الحداثوي في سورية ولبنان، لهذا فإن للمقطوعة أهمية كبيرة جمالية تنبع من كونها حالة جنينية أساسية لتطور مفهوم الموت في مراحل الشعر اللاحقة وتطور مفهوم (المعذب) جمالياً في القصيدة الحديثة.
بيد أن صورة الموت بقيت مادية عند البزم حيث يقول في قصيدة بعنوان (على قبر فتى)(1):
فيادهر ماأقسى جنانَك فاتكاً ... وياموتُ ما أقسى بناتك عادياً
وماابتدعتْ كفَّاك في الناس فتكةً ... فمخلبُك المشؤومُ مازال دامياً
حيث يرتبط العذاب في البيتين بالخوف من (الموت الفيزيائي) من خلال وصْفِ أثره المشؤوم على الناس، إذ أن الشاعر يستخدم غرضاً من أغراض الشعر العربي القديم في تجسيد هذا الخوف من صروف الدهر باعتماده على (الحكمة).
__________
(1) البزم، محمد، الديوان /ج2/ ص163.(1/9)
لم يخرج الموت في الأبيات السابقة عن سماته المعتادة، كالبطش والوحشية، ذلك أن تشبيهه بالوحش الكاسر ذي المخالب والأنياب، هو فرضيةٌ فنية شعرية ساندتْه لمدة زمنية طويلة، حتى أصبحتْ تلك الفرضيةُ قانوناً ونظاماً يستحيل العدول عنه، كما أن البزم قد فرَّغ شحنته النفسية في البيتين السابقين بشكل بلاغي متوارث، فالشاعر في المدرسة الكلاسيكية أخذ على عاتقه "أن يضع في ذهنه النماذج الفنية القديمة، لأن الإبداع -لدى الكلاميين- أقلُّ أهمية من السعي إلى الكمال المعهود سابقاً.
وما الإبداع لدى الكلاسيين سوى اكتشاف الأفكار المناسبة والمطابقة لمقتضى الحال. أما الخيال فيقتصر عمله عندها، على زخرفة الأسلوب بالمحسنّات البديعية والبيانية"(1). وتتوضح الحكمة التي تنطوي على الموت في البيتين التاليين لبدر الدين الحامد، من قصيدة بعنوان /نعمةُ العيش/ (2):
نعمةُ العيش لاتدوم طويلاً ... إن بَعْد النعماء شرَّاً وبيلاً
انظرِ الورد كيف يذبل نضْراً ... واسألِ الدار كيف تغدو طلولاً
إن الحكمة تُقدِّم فائدة فكرية أخلاقية، فعندما نقول كما أرادت الأبيات (إن الموت نهاية كل كائن حي) فإننا لانستطيع أن نقف من هذا الكلام موقفاً جمالياً لأن القضايا المجردة لاتدخل في نطاق الأحكام الجمالية، ولهذا فإن /المعذب/ لم يتوضَّح في البيتين، ولم تتوضّح علاقة الشاعر بالموت أيضاً، حيث تنطبق المقولة السابقة (إن الموت نهاية كل كائن حي) كما هو ملاحظ من خلالها على الكائنات جميعها لتشكِّل حالة عامة لامفرَّ منها.
ننتقل إلى موضوع آخر من موضوعات المدرسة الإحيائية في سوريا ولبنان يتعلق (بالمعذب)، فالتشاؤم يشغل حيزاً كبيراً من حياة المعذب المبنية على الصدامية.
__________
(1) عزام، محمد 1989، الأسلوبية منهجاً، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ص171.
(2) الحامد، بدر الدين، 1928 الديوان، مطبعة الإصلاح، حماة، ص137.(1/10)
نبدأ بالوقوف عند الشاعر (خليل مردم) الذي "افتتح حياته بالحزن، والفاجعة، ففقد أبويه في مطلع عمره، وراح يسير في الدنيا يتيماً وحيداً يعتمد الحذَرَ والصمت والصبر في حياء وخجل وتردد وقلق، فانطبعت شخصيته بذلك وعاش كل عمره قليل الكلام شديد التأمل، هادئاً متزناً، ووراء ابتسامته حزن قديم عميق، يستشفه الذين عرفوا نشأة الشاعر وتمرَّسَه بالصبر والسكون(1).
يقول الشاعر في قصيدة بعنوان (شؤم على شؤم)(2):
لعمرو أبيك الخير ما ازددتُ خبرةً ... بدهري إلا ازددتُ شؤماً على شؤمي
يخيّرني أمرين لاخير فيهما ... تظلُّمَ غيري أو قراراً على الظلْمِ
شقيتُ وكم تشقي الحقيقة أهلها ... فمن لي بأن أقْضي حياتيَ بالوهمِ
لعل اكتشاف جوهرِ العلاقات الاجتماعية، وتعاظُم الوعي لجملة الأحداث التي تجري على أرض الواقع ينبئ بكارثة نفسية، لم يجد الشاعر حيلةً في التصدي لها، بل ازداد شؤمه شؤماً، وغابت الطمأنينة عن صلة خليل مردم بالواقع، ويبدو أن تصوُّر الشاعر للواقع يخالف مايحدث في الواقع فعلاً، فمَعَ تراكم الزمن وتراكم الخبرات المعرفية يزداد عذاب الشاعر حدّة.
إن البيت الأول يشير إلى تفاوت مستوى الشؤم بين مرحلة وأخرى تبعاً لإدراك الشاعر لجوانب سلبية أخرى في المحيط، إذ أن المضمون الذي طَرَحَهُ (خليل مردم) في المقطوعة السابقة مناسب تماماً للظروف الاجتماعية التي عاشها والتي أشرنا إليها سابقاً.
__________
(1) الدهان، سامي، الشعراء الأعلام في سورية، ص86-87.
(2) مردم، خليل الديوان، ص255.(1/11)
ويبدو أن البيت الثاني يشير إلى وضع من أوضاع السلطة القمعية، القائمة على الظلم، غير أن تلك السلطة يمارسها الدهر بتقلباته وأحداثه التي لايستطيع الشاعر أن يلاحقها ويقف مذهولاً أمام وطأتها، فليس له إلا الوهم (أقضي حياتي بالوهم)، فالوهمُ حالة سلبية بخلاف الحلم، حيث الوهم قائم على الخديعة والزيف، بيد أن الحلم بالإمكان تحقيقه، ثم إنه يعمل على تفريغ شحنات مكبوتة، ويؤدي وظيفة نفسية هامة.
ومن القصائد التي عبّرت عن التشاؤم من صروف الدهر قصيدة للشاعر /محمد البزم/ بعنوان /طرابلس الغرب/ يقول في مطلعها(1):
دع الدهرَ تنمو بالرزايا مصائبُهْ ... وتمطر أصناف البلايا سحائبُهْ
فما الدهرُ إلا مرُّ يوم وليلةٍ ... تروح بسعدٍ أوبنحسٍ كواكبُهْ
تطاردنا خيلُ الزمانِ بلا ونى ... ويعدو علينا صرْفُه فنواثبُهْ
تقارعنا الأيامُ حتى كأننا ... بقايا خميسٍ أسلمتْه كتائبُهْ
فالدهر هو المفتاح والبؤرة التي يدور حولها النص، وهو مصدر العذاب، والشكوى والأنين، بما يحمله من أحداث قهرية تصيب الشاعر بالكثير من الأذى والضرر، ولايستطيع بعدها أن يفعل شيئاً إزاء صروفه، ولقد اعتمد الشاعر على بنية النص العربي التراثي في نقْل شكواه وعذاباته، حيث بدا واضحاً الاتكاء على الموروث الفني القديم في تبيُّن الحالة.
إن الألم والشقاء من الموضوعات الهامة التي جاءت بها المدرسة الإحيائية في إطار الحديث عن مفهوم المعذب، وتوزَّعَ الألم والشقاء بين الحزن المرير واليأس والقنوط، حيث نتوقف في البدء عند الشاعر خليل مطران وهو يقول(2):
فإن تَرَني والحزنُ ملء جوانحي ... أداريه فليغررْك بِشري وإيناسي
وكمْ في فؤادي من جراحٍ ثخينةٍ ... يحجَّبها برداي عن أعينِ الناسِ
إلى عينِ شمسٍ قد لَجَأْتُ وحاجتي ... طلاقَة جوٍّ لم يُدنَّس بأرجاسِ
__________
(1) البزم، محمد الديوان، ج1، ص64.
(2) مطران خليل، 1967، الديوان، ج1، ط3، دار الكتاب العربي، بيروت، ص17.(1/12)
أُسرِّي همومي بانفرادي آمناً ... مكايدَ واشٍ أو نمائمَ دسَّاسِ
لعلَّ العزلة هي فسحة الأمل الوحيدة بعيداً عن كل ماهو قبيح في المجتمع الذي هو مصدرٌ من مصادر الحزن والألم، إذ تحكُمُه العلاقات الأخلاقية الفاسدة، ومادامت هناك فسحة أملٍ (أسرِّي همومي بانفرادي آمناً) فإن (المعذب) في النص مازال في صورته الجنينية، وهكذا كان شأن (المعذب) في (المدرسة الإحيائية) عامة.
يعرض النص في البداية حالةً مزْرِية تنتاب الشاعر، ملْؤها الألم والحزن والجراح، ورويداً رويداً يتراجع الألم أمام العزلة كعالمٍ للطمأنينة والاستقرار، حيث العزلة هي أحَدُ جوانب العالم المثالي عند مطران في هذه الآونة، لأنه لايستطيع أن يقوم بنفي (القبْح) عن الواقع بمشاكله الكثيرة وظروفه المضنية.
كذلك فإن (محمد الفراتي) في قصيدة /يامن يشاطرني الأسى/ يمزج بين الأسى والتشاؤم من جهة وفسحة الأمل من جهةٍ أخرى فيقول(1):
نَهَدَتْ صخورُ الصبرِ نا ... تئةً بقلبي كالهضاب (مدور)
تهوي فترتطم الهمو ... مُ بها فتغرق في الشعاب (مدور)
ولعَ الشقاء بمهجتي ... ولَعَ المضلَّلِ بالشرابِ
آمال نفسي في ديا ... جي الوهم تلمَعُ كالشهاب (مدور)
لولا مغالبَةُ الهوى ... لَقَضَيْتُ من ألمِ العذاب
يا مَنْ يُشَاطِرني الأسى ... دونَ العشيرةِ والصحاب
في الأبيات حالتان مختلفتان تماماً، تبدأ الحالةُ الأولى من البيت الأول وتنتهي في البيت الثالث، ويحدث انعطاف في البيت الرابع ومايليه باتجاه حالة أخرى مغايرة لسابقتها. أما الحالة الأولى فهي تصوير قاتم للحياة التي يعيشها الشاعر، بيد أن الحالة الثانية تصوير جميل لتلك الحياة فمنْ يقرأ (نَهَدَتْ صخورُ ناتئةً بقلبي) ويقرأ (آمالُ نفسي في دياجي الوهم تلمعُ كالشهاب) يدرك الفارق بين الحالتين، فالعذاب لم يكتمل لظهور الأمل بشكل مفاجئ في النص.
__________
(1) الفراتي، محمد (1959-1958) الديوان، ج1، المطبعة السليمية، دير الزور، ص70.(1/13)
مما سبق ندرك أن (المعذب) في الإحيائية لم يصل إلى المستوى المطلق من العذاب، وذلك بسبب وجود الروابط الاجتماعية من جهة وبسبب وجود فسْحة الأمل من جهة أخرى.
أما على الصعيد النفسي فإن (أنا) الشاعر الإحيائي تتقاطع مع (أنا) بقية أقرانه من شعراء هذه المدرسة من خلال النصوص التي تناولْناها، وهي تتقاطع مع (أنا) شعراء العصر العباسي بشكل عام؛ أما الوعي الجمالي لهذه المدرسة فيرتكز على الموروث العربي القديم وعلى البلاغة العربية عامة وعلى الاستعارة منها خاصة، تلك الاستعارة التي:
"تحاول إعطاء معلومة تفوق المعلومة المنطقية"(1)، فالشاعر الإحيائي يقوم كما أشرنا سابقاً بتفريغ شحنته النفسية بشكل بلاغي متوارث، وهذا لايعني مطلقاً أن الشاعر الإحيائي لم يتفاعل عبْر وعيه الجمالي مع القضايا والأحداث على أرض الواقع في بدايات هذا القرن، بل إنه تأثر بالأحداث السياسية المتمثّلة بالانتداب والثورات والاحتلالات المتكررة للأراضي العربية، كذلك بالظروف الاجتماعية التي ترافقت مع هذه القضايا والأحداث، وهذا ماانعكس في نصوص (خير الدين الزركلي) على الصعيد السياسي خاصة، وكذلك عند بقية الشعراء الإحيائيين ولكن بصورٍ متفاوتة؛ فالعملُ الفني الأصيل "هو ثمرة استيعاب الفنان للواقع وأفكاره ومزاجه وموقفه من الأحداث الجارية، في منتوج العملية الإبداعية- أي العمل الفني الذي هو أيضاً وسيلة لتعبير الفنان عن نفسه وطريقة لتصوير الحياة الواقعية"(2).
__________
(1) تادييه، جان إيف، 1993، النقد الأدبي في القرن العشرين، تر: قاسم مقداد، وزارة الثقافة، دمشق ص295.
(2) أوفيسيانيكوف، 1981 أسس علم الجمال الماركسي اللينيني، تر:: جلال الماشطة- دار التقدم، موسكو، ص153.(1/14)
إن اتكاء المدرسة الإحيائية على التراث قد أثَّر بالضرورة في لغة النص تراكيب ومفردات، ذلك أن المُطالع لشعر محمد البزم يشعر "أنه في محراب الشعر القديم، إذ تكثُرُ فيه الألفاظُ الصعبة والعبارات المجازية والصور القديمة الجاهلية والأسلوب الفخم"(1) حيث "عاد الشاعر محمد البزم بالشعر إلى أنماطه الأولى فاهتم بجزالة اللفظ ورصانة الديباجة ونادى بالمتنبي ملكاً على أمراء البيان.. وطالب الشعراء باحتذاء نُسُجه اللغوية"(2) كذلك كان شأن الشاعر /محمد الفراتي/ أيضاً حيث لم يتخفف إلا قليلاً من لغة النص العربي القديم.
على صعيد النظام الموسيقي، فقد رسًّختْ القصيدة الإحيائية قوانين النظام العربي القديم الذي أسهمت البيئة الاجتماعية الجاهلية في إنجازه، تلك البيئة القائمة على الرتابة والسياق المادي للحياة، فجاءت القصيدة بغنائيتها لتخفِّفَ قليلاً من وطأة الظروف وقسوتها فقد "حفلَ إيقاع الشعر بحيوية وتنوُّعٍ هما نقيض الرتابة المباشر، بل ربما كانت الحيوية المنبعثة من تنوُّعِ الإيقاع صورةً لحنين لا واعٍ لرفض الرتابة بالغناء، الغناءِ المرهف، المنسربِ، المائجِ، الراقصِ، الصاخب أحياناً، والهاجز الراجز أحياناً"(3).
__________
(1) نشاوي، نسيب، 1980، مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية، مطابع ألف باء، دمشق ص122.
(2) المرجع السابق، ص43-44.
(3) أبو ديب، كمال 1974 في البنية الإيقاعية للشعر العربي، دار الملايين، بيروت، ص43.(1/15)
بعد أن انتهينا من الحديث عن ملامح /المعذب/ في المدرسة الإحيائية في سورية ولبنان، نقف على أعتاب مرحلة جديدة ومدرسة جديدة ظهر فيها مفهوم /المعذب/ بجلاء تماشياً مع ظروف العصر وتعقيداته، فعصرُنا "عصرُ الخوف لأنَّ الخوف أصبح منعكساً شرطياً... ترتكز قاعدة كثير من التربيات على الهجوم والدفاع. ويسرف الإنسان في تعلم كيفية قهر نفسه وتعلَّمِ الكبت، وإخفاءِ أفراحه ودوافعه وغضبه باسم أوامر ترتكز، غالباً، على رمل الأعراف العابرة المتحرِّك.. ويتألم الإنسان لأن به عطشاً إلى شيء آخر، حتى لو لم يكن غير الظمأ إلى أن يكون ذاته، أصيلاً، متحرراً مما هو فيه"(1).
إن اغتراب الفرد في هذه الآونة يرتكز على الدهشة المباغتة، فهو لايستطيع أن يلاحق مايجري من تطورات متصاعدة تحيط به، ولايستطيع أيضاً أن يجد حلاً لخلاصه الوجودي بسبب التأزم عبر القلق الذي أسهم المجتمع بظروفه في تكوينه وتعميقه، فجاءت القطيعة بين الفرد وبيئته حلاً مرّاً لامفر منه، فـ "كثيرٌ من الناس في عصرنا غير متكيفين، وعدمُ التكيُّف يعني التناقض، والتناقض يعني التمزق وهذا يعني الحصر. والتناقض التالي هو أحد أكبر التناقضات: إن الإنسان ممزق بين حقيقة ((ماهو عليه)) وبين ((مايعتقد أنه عليه)). إنه ممزَّق -والحال هذه- بين ميوله العميقة وبين سلوكه الخارجي"(2).
__________
(1) داكو، بيير، 1981، الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث ج2، تر: وجيه أسعد وزارة الثقافة- دمشق ص47-48.
(2) داكو، بيير 1981، الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث ج1، تر: وجيه أسعد -وزارة الثقافة- دمشق ص15.(1/16)
ولمَّا كان الفنان من أكثر الأفراد صدامية مع الواقع نظراً لطبيعته النفسية والفكرية، فإن حالاتٍ مثلَ القلق والاغتراب والسوداوية تظهر لديه جلية، وتختلف هذه الحالات من فنان لآخر تبعاً للعناصر المكبوتة في اللاشعور وتفاوتها من هذا إلى ذاك، فإذا كانت المكبوتات ضخمة ظهرت في العمل الفني بمظهر حاد يوازي ماترسَّب في اللاشعور، والتحليلُ النفسي لهذا العمل يضيء جوانب كثيرة من هذا الأمر، فيُبرز ذلك التحليل مسألة توازن (الأنا) لدى الفنان مع الواقع، و"قد لايُقدِّم التحليلُ إلى الفن سوى ((مساهمة)) من ميدان ((سيكولوجيا)" الهو ومفعولاته على "الأنا" ويبقى مابعد "الهو" وماقبله.
فما بعد "الهو" أي عملُ الفنان، تابعٌ (لسيكولوجيا) "الأنا" لعلم الجمال. وماقَبْلَ "الهو" أي الموهبة والعبقرية، هو ضربٌ من الماقَبْلِ المطلق، لغزٌ غريب"(1).
و-النموذج المعذب في الشعر الرومانتيكي قبل عام 1945:
لقد توضَّحت معالم المدرسة الرومانتيكية لدى بعض الشعراء قبل عام 1945، أي في النصف الأول من القرن العشرين ومن هؤلاء شفيق جبري، والياس أبو شبكة، وإيليا أبو ماضي.
ومن الموضوعات التي ظهرت في أشعارهم وارتبطت بالمعذب كقيمة جمالية (الاغتراب، والتشاؤم، والمعذب والمرأة، والعدمية، والمازوخية).
يتوزَّع اغتراب هذه المرحلة على نوعين، اغتراب عن القيم الاجتماعية وهذا مايظهر عند شفيق جبري، والاغتراب الوجودي وهذا مايُلاحظ عند (إيليا أبو ماضي) في قصيدة (الطلاسم).
نقف في البدء عند قصيدة (عزلة النفس) للشاعر شفيق جبري من ديوانه (نوح العندليب) حيث يقول:(2)
تذكّرني نفسي وهيهات ماأنسى
جراحاً أمَضَّتْ جانبيَّ فما تُؤْسى
ويؤنِسُني هجْرُ الديار وأهِلها
__________
(1) كوفمان، سارة 1989، طفولة الفن تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق ص12.
(2) جبري، شفيق 1984 ديوان (نوح العندليب) شرحه وأشرف على طباعته قدري الحكيم -مطبوعات مجمع اللغة العربية- دمشق ص1.(1/17)
فلستُ أرى في الناس قاطبةً أُنسا
ومايئِسَتْ نفسي من الدهر إنما
تنكَّرَتِ الأخلاق فاختارتِ اليأسا
تجافَتْ عن الدهماءِ لمْ تحتفلْ بهم
ترى عبْسهم بشراً، وبشْرهم عَبْسا
فما ألِفتْ في الليل بارقَةَ الدجى
ولاهِيَ نَاغَتْ في رفيفِ الضُحى الشمسا
يشير الشاعر في النص إلى بناء غير سليم للقيم الاجتماعية، فيضطره هذا إلى بناء عالمٍ جديد له قائم على الاغتراب والعزلة.
إن (المغترب المعذب) في النص ينطوي تحت (المغترب قيمياً) عن السائد في المجتمع، حيث يصرَّح الشاعر أن همومه وعذاباته لاتتعدى ذلك الاغتراب القيمي إلى اغتراب وجودي كوني (ومايئسَتْ نفسي من الدهر)، إذ تمَّ التركيز على مظاهر الخلل في البيئة المحيطة (تنكّرَتِ الأخلاقُ فاختارتِ اليأسا).
أما على الصعيد النفسي فما زال هناك تقاطع بين (أنا) الشاعر و(أنا) شعراء آخرين ذلك أن (شفيق جبري) ما زال متأثراً بالمدرسة الإحيائية الجديدة وبالنص الشعري القديم تركيباً ومفردات (يؤنسني هجر الديار، تجافَتْ عن الدهماء، بارقة الدجى).
يأخذ اغتراب شفيق جبري منحى آخر هو من السمات الأصيلة في الشعر الرومانتيكي، ويتجلَّى هذا المنحى في الاغتراب عن المجتمع بالهرب إلى أحضان الطبيعة والتغنِّي بعناصرها (الغمام، الطيور، البان) فمِنْ قصيدة "ليتني" نختار هذه الأبيات للشاعر يتغنى بعناصر الطبيعة ويبث شكواه لها بنبرة من الحسرة والتشاؤم فيقول(1):
ليتني ياحمامة البان غرِّيـ
د أغنِّي كما يغنِّي الحمام (مدور)
فأناجي الضياءَ في وضَحِ الصبـ
ح ونجوايَ في الظلام الظلامُ (مدور)
وأبثُّ الغمام ما يُقلِق الفكـ
ـرَ فيأوي -لمَا أبثُّ- الغمام (مدور)
__________
(1) المصدر السابق، ص103.(1/18)
نبدأ من حيث انتهى البيت الثالث، ذلك أنَّ الخلل الذي أفضى إلى العذاب هو (مايُقلِق الفكر)، وبالضرورة فإن ذلك القلق ناتج عن عدم الاستقرار وعدم الطمأنينة في المحيط، فكان لابدَّ من التمنِّي (ليتني ياحمامة البان غرِّيد) للتعويض عن القلق والغربة فالمناجاة والغناء والتغريد هي أفعال تعمل على إقامة التوازن مع البيئة الخارجية، ثم إن الهرب إلى الطبيعة ببراءتها وفطريتها، هو ذاته الهرب والانتقال إلى عالم متوازن، بل إن الطبيعة تدخل في نطاق العالم المثالي الذي ينشده الفرد الرومانتيكي.
أما أكثر النصوص تعبيراً عن الاغتراب بمظهره الوجودي فهو نص (الطلاسم) للشاعر (إيليا أبو ماضي) إذ تعالج قصيدة (الطلاسم) وجودَ الإنسان منذ ولادته، إن وجهة نظر الشاعر تنطوي على مرارة الصورة التي تقوم على وجود الإنسان القسري على ظهر هذه المعمورة وضياعه إبَّان تلك القسرية، يقول إيليا أبو ماضي في هذه القصيدة:(1)
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لستُ أدري؟
يُبرز النص إشكاليةَ وجود الإنسان منذ أن وُجد على ظهر هذه الأرض، حيث أفضتْ هذه الإشكاليةُ إلى اغتراب الشاعرِ وشعورهِ بالعذاب نتيجةً لإحساسه بأن سلطةً عليا تجبره على السيرورة داخل النظام الحياتي الذي لا يد له فيه، ولم يُستشر في اختيار هذا النظام واتباعه بل أُجْبِرَ على اتباعه والعملِ بأحكامه (وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت) فلا مفرَّ من هذا الأمر مطلقاً.
__________
(1) أبو ماضي، إيليا (د،تا) الديوان، دار العودة، بيروت، ص193.(1/19)
ينطوي الاغتراب في النص على السوداوية والضياع ويتجلَّى هذا الاغتراب في حالته القصوى عبْر التساؤل (كيف جئتُ كيف أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري)، فهناك تساؤلٌ عن جوهرِ الوجود، وكان جواب هذا التساؤل بالنفي، ومن ثمَّ عدم الإدراك لماهية هذه الحياة (لستُ أدري)، ومن هنا يظهر الاغتراب بصورته القصوى إضافة إلى الضياع والسوداوية، ويزداد هذا الضياع والسوداوية في المقطع عبْر كثير من التساؤلات التي تستفسرُ عن طبيعةِ وجود الإنسان(1):
أجديدٌ أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرٌّ طليق أم أسيرٌ في القيود
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكنْ...
لست أدري
يرتكز المقطع السابق كما أشرنا على التساؤلات المكثَّفة التي تُعمّق الاغتراب والضياع، كما أن القلق الموجود في المقطع لاينطوي في إطار القلق الاجتماعي بالضرورة، بل هو قلق من المصير الإنساني في هذه الحياة برمَّتها، حيث تدور التساؤلات المطروحة في المقطع حول محور واحد، وهو مامدى تملُّكِ الإنسان لذاته في هذه الأرض؟، ويأتي النفي أيضاً بـ (لستُ أدري)، ثم تتشعَّبُ عن ذلك المحور قضيةٌ طالما وقف عندها الفكر الديني ألا وهي، هل الإنسان مخيَّرٌ أم مسيَّرٌ، وبذلك يُعْتَبَرُ نصُّ (الطلاسم) من أكثرِ النصوصِ في هذه المرحلة الزمنية تجسيداً لمفهوم (المعذب)، لما يطرحه من قضيةٍ على قدر كبير من الأهمية ومخالفة للقضايا التي طرحتها المدرسة الإحيائية الجديدة والمدرسة الرومانتيكية.
أما صورة المعذب عند الشاعر (الياس أبو شبكة) فقد بدت واضحة، إذ قيست بالصور الموجودة عند (شفيق جبري) حيث خفَّفَ هذا الشاعر من سمات المدرسة الإحيائية في أكثر من منحى من قصيدة له بعنوان (شهوة الموت) من ديوان (أفاعي الفردوس) اخترنا البيتين التاليين، يقول فيهما(2):
صرتُ أمقت الصفاء
__________
(1) المصدر السابق: ص193.
(2) أبو شبكة، الياس، 1962، الديوان (أفاعي الفردوس)، ط3، دار الحضارة ص75.(1/20)
صرت أعشق الكدرْ
غيرَ مشهد الدماء
لا أحبُّ في الصورْ /1929/
يعرض البيتان السابقان صورةً من صور (المعذب)، هي أقرب إلى /المعذب المازوخي/، فكل شيء يدعو إلى الأمل والخصب محجوب عن حياة الشاعر، بيد أن هناك متعةً وتلذذاً بالشقاء والألم والنظر إلى أي شيءٍ يوحي بالموت.
إن البيتين السابقين يقتربان من حيث دلالتهما الجمالية من (المعذب المازوخي)، ولكننا ندرك بعد قليل أن الشاعر يطرح علاقته مع المرأة بصورة حميمة كمخلِّص من العذاب وذلك في القصيدة ذاتها(1):
جمّلي لي الجسدْ
واسكبي لي الرحيقْ
لاتفكِّري بغدْ
قد يجي ولانفيقْ
مالنا وللأبدْ
إن سره عميقْ
إن (المرأة) ردة فعل على حالة مشوهة، وهي إعادة لتكوين الحياة بصورة جديدة، حيث يقوم الشاعر بذكْر صور الخلق التي تقوم بها الأنثى فيقول (اسكبي لي الرحيق)، (جمِّلي لي الجسد)، حيث يقوم الفعلان (اسكبي، جمّلي) بعملٍ خلاَّق على الصعيد النفسي وهو إعادة التوازن للذات بعد أن أصابها التشوه.
في قصيدة أخرى بعنوان /صلاة/ ندرك كيف تظهر الأفكار الأولى لحالة العدمية الآتية من ضياع الحلم، ففيها يخاطب الشاعر الله (المطلق)، عسى يحظى ببعض الراحة، غير أنه في قرارة نفسه مؤمن بأن اللّه لايصغي إلى نجواه وخطابه(2):
تُرى مشيئتُك العليا تناديني
بثورة النار في تلك البراكين؟
ربَّاه هل ينتهي حلمي ببارقة
من اللهيب، ويخبو الطين في الطين..؟
وهل أرى زاحفاً في الليل ملتهباً
بجمرة السخط في أيدي الشياطين..؟
أدعوك والظلمةُ الحمراء تحرقني،
فلا تجيب، وتلوي لاتنجّيني.
__________
(1) المصدر السابق، ص76.
(2) المصدر السابق ص93-94.(1/21)
تبرز مظاهر (العدمية) كأحد تجليات (العذاب) في تراكيب متعددة في النص، (ينتهي حلمي ببارقة)، (يخبو الطين في الطين)، (فلا تجيب)، (وتلوي لاتنجّيني)، وتبرز -إضافة إلى العدمية- مسألة التشاؤم التي تنبئ بتأزم في الحالة، حيث عملت صورة (جمرة السخط) على مضاعفةِ حالةِ التأزمِ عند أبي شبكة، لأن (السخط) في ذاته أمر يوحي بعدم الاطمئنان والاستقرار، وعندما أُلحِقَ ذلك (السخط) بمفردة (جمرة) ازدادت فعاليته ودوره في بيان البناء النفسي للشاعر، وكذلك فقد عملتْ صورة (الظلمة الحمراء) العملَ ذاته في الصورة السابقة، فالظلمةُ تنبئ بسوداوية وتشاؤم، وعندما أُتبعت بمفردة (الحمراء) اكتسبتْ معنىً أكثر عمقاً ودلالة.
ويبدو أن (بوشكين) من أكثر الشعراء الذين تأثر بهم (الياس أبو شبكة) ولاسيما من خلال قصيدته (الغجر)، إذ يعرض بوشكين في ديوانه لقضية (الحرية) في وجه (الحصار) الذي يفرضه الواقع المحيط، وقد بدا هذا التأثر على أكثر من صعيد، فالحلم بالحرية بإلحاح، واقتران هذا الحلم بالمرأة والحب وبالأجواء الرومانتيكية (الهرب إلى الطبيعة، التلذذ بالألم، العزلة) ظواهر رأيناها في المقاطع السابقة عند (الياس أبي شبكة).
وهذه الظواهر لها مايماثلها بشكل كبير في قصيدة (الغجر) لبوشكين وقصائد أخرى متعددة(1):
صوتي، الذي يضفي الحب عليه الوهن والحنين،
يشقُّ ظلام المساء والهدوء الحالم..
شاحباً بجانبي، محترقاً،
الضوءُ الواهي يغيب بعيداً..
ومن قلبي
تموج هناك القصائدُ الرشيقة وجداولُ الحب
التي تهمهم وتغنِّي وتذوب
وتندفع، حافلةً بكِ، بالهوى الطاغي.
يبدو لي أني أرى عينيكِ، مضيئتين، متوهجتين،
تقابلان عيني.. أرى ابتسامتكِ
أنت تحدثينني وحدي:
صديقي يا أعز الأصدقاء...
إنني أحب.. إنني لكَ.. ملككَ
__________
(1) بوشكين، 1982، الغجر، ط1، قصيدة /مساء/ تر: رفعت سلام، دار ابن خلدون بيروت، ص70.(1/22)
يعرض النص السابق لبعض القضايا النفسية التي تشير إلى انقباض الحياة (الوهن، الظلام، الشحوب، محترقاً، الواهي)، ومن ثم يعرض (الحلم) في وجه ذلك الانقباض (من قلبي تموج هناك القصائد الرشيقة وجداول الحب) ويقترن ذلك الحلم بـ (المرأة) بكل ماتحمله من معطيات الحياة، وهكذا يرتكز الحلم على قدر كبير من الحرية بالضرورة لاعتماده على (التنفيس والتفريغ).
ويبدو أن الرؤيا العامة بين الشاعرين تتشابه إلى حد كبير، انطلاقاً من الظواهر التي أشرنا إليها سابقاً (حالة الحصار، الحلم، الميل إلى التشاؤم، التمرد، البحث عن الحرية، الخ...)، يقول (بوشكين) في قصيدة (الأسير)(1):
أسيراً، أقيم وحدي في برج حصين،
مدفوناً في صمت وظلام إحدى الزنزانات
في الخارج، في الفناء، وفي حركة وحشية جنوبية،
ينقضّ رفيقي، النسر، على فريسته.
ثم إذ يترك بقايا الوليمةِ الملوثةِ بالدماء،
يحدِّق فيَّ، بصرخة حزينة،
صرخةٍ هي أكثر شبهاً بنداء أو دفاع-
((إنه الوقت))، قائلاً ((إنه الوقت))، فلنفرْ!
اقترن كلانا بالحرية، ولهذا فلْنمْضِ بعيداً
حيثُ سحبُ العاصفة تَشَرَّدُ بجرأة،
حيث تندفع البحار الهائجة لتذوبَ في السماء
حيث لايجرؤ على المغامرة غير الرياح.
وأنا...!))
حيث (الحرية) هي المطلب الأساسي في النص أمام الحصار (برج حصين)، وهذا الأمر لايختلف كثيراً عن مطلب (الياس أبي الشبكة) في قوله (هل ينتهي حلمي ببارقة)، ولاتختلف الرؤيا العامة لـ (مدفوناً في صمت وظلام إحدى الزنزانات) لـ (بوشكين) عن رؤيا (أبي شبكة) في قوله: (أدعوك والظلمة الحمراء تحرقني).
__________
(1) المصدر السابق، ص69.(1/23)
ثمة إحساسٌ عند الشاعرين بفقدان الحرية، وبحالةِ الحصارِ المتفاقمةِ، ومن ثم فإنَّ هناك دافعاً للتمردِ على هذه الحالةِ، فالتمرُّدُ عند (أبي شبكة) يرتكزُ على الخروجِ عن التقاليد الدينية التي أنجزها المجتمع واحتفظ بها في ذاكرته، غير أن تمرد (بوشكين) هو تمرد على الحصار بمعانيه المختلفة (حصار الواقع، حصار السلطة، الخ..).
إن الرؤيا العامة للشاعرين تُبرِزُ قضية الحصار، وتُبْرِزُ بالضرورة قضية البحث عن الحرية كمعادل للحصار.
(((
الباب الأول
نموذج المعذب
في الشعر الرومانتيكي
في سوريا ولبنان
الفصل الأول
تجليات المعذب في الشعر الرومانتيكي
*مدخل:
عوامل نشأة الرومانتيكية وارتباطها /بالمعذب/:
لقد وُلدت الرومانتيكية كمنهج للأدب مع انتصار البرجوازية، وجاءت ردة فعل على الكلاسيكية التي كانت منهج الأدب في عصر الإقطاع والملكية الاستبدادية، وكانت بالنتيجة أدب بلاط خالياً من المضمون الفردي.
وراح الفرد في المجتمع الأوروبي الغارق في الصراعات الطبقية، يبحث من خلال أحلامه عن عالم مثالي يُجسّد فيه حريته بالشكل الأمثل، ويبحث عن ذاته المشتتة، عبر تأملاته المضنية والطويلة.(1/24)
إن من أكثر النماذج الفنية تعبيراً عن /المعذب/ في التيار الرومانتيكي الأوروبي، شخصية //فرتر// في //آلام فرتر// للشاعر الألماني //غوته//، حيث "أحرز //فرتر// خاصةً، بدءاً من 1780 تقريباً نجاحاً من أكثر النجاحات التي شهدها تاريخُ الأدب حدة وديمومة، ولقد وجد الناس فيه عواطف كان الأدب المعاصر يعرضها منفصلة بعضها عن بعض، ويُعبِّر عنها تعبيراً ناقصاً في الغالب، فإذا بها تتجمَّع فيه وتنبعث ببلاغة شعرية: كحبِّ الطبيعة العميق، والكآبة، والهوى الذي يصطدم بقوانين الحياة القاسية، والحقد على التفاوت الاجتماعي، والشعور بالمصير الفاشل، شعوراً يفضي بصاحبه إلى الانتحار(1)؛ فمن المعروف أن فرتر الشخصية الرئيسية في القصة تَعَرَّضَ لانكسارات عديدة كان أهمها انتكاسته على الصعيد العاطفي في سن مبكرة انتكاسةً أغلقتْ قلبه عن الحب بعد (شرلوت) التي أحبَّها بكل عمق وإخلاص.
إن آلام فرتر "ثورة على العقل في ركونه واستسلامه، ودعوة إلى الطبيعة، إلى القلب الذي يعتبره جوته مصدر المقدسات ومنبع كلِّ قوةٍ وفضيلةٍ في الإنسان، وقد كانت /فرتر/ في دعوتها هذه، الأثر الفني للحركة الأدبية الناشئة في ألمانيا على غرار الرومانتيسم الفرنسي، وإن كانت تَفُوقها في الثورة والعنف وفي الدعوة إلى تثبيت حق العبقري في المخالفة والاستثناء والشذوذ(2).
لقد كانت قصة /آلام فرتر/ انعكاساً لشخصية /جوته/ المغتربة المتمردّة، ولعل تمرَُد /جوته/ لاينطوي على فعل ثوري، بل هو معارضة لمجموعة من الأطروحات السلبية في المحيط وكفى، أو هو شجْبٌ للظروف الموضوعية التي جعلتْ منه معذباً.
__________
(1) تيغم، بول فان، 1981، الرومانسية في الأدب الأوروبي ج1، تر: :صياح الجهيم، وزارة الثقافة، دمشق، ص48.
(2) ورد، نخلة 1955، مقدمة (آلام فرتر) تر: نخلة ورد- مطبعة الشرق، حلب، ص16.(1/25)
ويبدو أن بعض الرومانتيكيين في أوروبا منهم //شاتوبريان// قد رأوا "أن التمزُّق والعذاب من نِعمِ المسيحية، وينتشر هذا الشعور بالانحلال والانهيار، ويصبح نبعاً في قلوب المعذبين، ينهلون من مائه الدامي ويتلذذون بغرائبه ومفارقاته"(1)، إذْ لازال مفهوم /العذاب/ عند هؤلاء يقترن /بالألم/، ولابد من الإشارة إلى أنَّ الألم ولاسيما المعنوي منه حالةٌ جوهرية عند /المعذب/ الذي حدَّدْنا سماته في بداية البحث، بيد أن ذلك /الألم/ ليس كل شيء في /المعذب/، بل ينطوي تحت معطيات أخرى أساسية تُبْرِزُ هذه القيمة الجمالية وتمِيزها من القيم الجمالية الأخرى.
أما ظهور المدرسة الرومانتيكية في سورية ولبنان فكان في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، في وقت شهد فيه المجتمعُ العربي تحرُّكاتٍ هامةً على الصعيد السياسي خاصة وظهرت الأفكارُ الأولى حول إعادة النظر في البنية الاجتماعية العربية التي تعاني قصوراً في ميادين العلم والثقافة والنهضة الشاملة.
ولاريب أن نشأة (الرومانتيكية) في الشعر العربي الحديث قد نَتَجَتْ عن عوامل عديدة، جعلتْ هذا التيار يقف في الاتجاه المعاكس للتيار الإحيائي في الشعر، لأن (الإحيائية) لم تعد تستجيب -برأي (الرومانتيكية) على الأقل- لمعاناة الفرد وتأزماته التي خلفتها الحرب العالمية وما رافقها من إحباطات وتراجعات أثرَّتْ في الفرد العربي، الذي خرج من كابوس الاحتلال العثماني حديثاً ومن هذه العوامل:
1-العوامل الاجتماعية والسياسية.
2-العوامل الذاتية -النفسية.
1-العوامل الاجتماعية والسياسية:
__________
(1) را: مكاوي، عبد الغفار 1972، ثورة الشعر الحديث، ج1، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، ص54.(1/26)
إن الظروف التي رافقت نشأة التيار الرومانتيكي في المجتمع العربي وطَّدَتْ انتماءه الاجتماعي الأصيل وولادَتَه الشرعية من البيئة العربية، ولايضيره تأثره بالغرب، لأن العوامل التي أسهمتْ في ولادة التيار الرومانتيكي في المجتمع العربي تختلف عن عوامل نشأته في أوروبا بشكل جزئي أوكلي، ثم إن الفترة الزمنية التي ظهرت فيها (الرومانتيكية) في أوروبا ليست المرحلة ذاتها التي ظهرت فيها الرومانتيكية في الشعر العربي الحديث، وهذا عائد بالضرورة إلى التحولات التي طرأت على المجتمعين العربي والأوروبي، فمن المعروف أن (الرومانتيكية) في الأدب الأوربي جاءت "نتيجة حتمية للغات التي انفصلت عن الأصل اللاتيني كما كانت نتيجة ظهور الآداب القومية في أوروبا، وماحدث بينها وبين اللاتينية القديمة من معارضة ومقارنة، وقد شجَّعَ على ظهورها ميلُ الأدباء في التخلص من الكلاسيكية التي سيطرت على الأدب اللاتيني وقيَّدَتْه بالأصول والقواعد القديمة"(1).
__________
(1) مشوح، وليد 1993، دراسات في الشعر العربي الحديث، دار معد للنشر والتوزيع، دمشق 129-130.(1/27)
لقد قَويَ التيار الرومانتيكي في المجتمع العربي في فترة مابين الحربين وذلك لعاملين هما "شدَّة التأثر بشعراء الرومانسية الفرنسيين والإنكليز والألمان، وخيبة الآمال العربية التي كانت معقودة على اشتراك العرب في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية برعاية الحلفاء وبخاصة بريطانية وفرنسا، فإذا العرب يقعون تحت الانتداب، ويعانون سلسلة من المشكلات المعقدة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وحضارياً وإنسانياً، فيدور شعراؤهم في دوامة من الخيبة واليأس والتمزق والقلق ويسيطر عليهم جو الكآبة والحزن، فينزع جمهور كبير منهم منزع الرومانسية التي تتسع للبكاء والأنين ومعاناة الأسى والمرارة والهم، وازداد الألم والشقاء، والفناء في قلب الطبيعة، والبعد عن المجتمع ومفاسده ومظالمه وأدرانه، والتغنِّي بالعزلة والغربة"(1).
كان شعور الفرد متجهاً إلى الثورة والتمرد والخروج من دائرة العلاقات الاجتماعية السياسية الفاسدة والهرب من الانتكاسات إلى عالم يتَّسِمُ بالبراءة والفطرية، فيخلق عالماً له مفرداته ولغته الخاصة ويتعامل مع الأشياء الخارجية تعاملاً ذاتياً، حيث تبدو "الرومانتيكية هي التعبير الأكثر أهمية في الأدب الحديث عن الباعث الأول على الثورة؛ صورة جديدة ومطلقة للإنسان، وهي تربط هذا على نحو مميز بعالم مثالي، ومجتمع إنساني مثالي. يبدو الإنسان في الأدب الرومانتيكي وللمرة الأولى كَمَنْ يتولَّى خلْق ذاته"(2).
__________
(1) أبو حاقة، أحمد 1979 الالتزام في الشعر العربي، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، ص192.
(2) ويليامز، ريموند، المأساة الحديثة، ص90.(1/28)
أضفْ إلى ذلك أن ظهور الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر ارتبط "بالتحولات الاجتماعية التي طرأت على المجتمعات العربية في مرحلة مابين الحربين، والتي تمثلَّتْ في نشوء البرجوازية التجارية وانتشار الأفكار الليبرالية نتيجة اتساع فئات المثقفين من أبناء البرجوازية الصغيرة، وتَصاعُدِ النضال الوطني من أجل الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية"(1)، وبَدَتْ رؤيا البرجوازي الصغير قاتمة للمستقبل، ونَفَرَ من واقعه المفعم بالعلاقات الاجتماعية الفاسدة والأمراض التي ينتجها الواقع.
"وقد مثَّلَتِ الطبيعة دوراً هاماً في امتصاص هموم الشاعر البرجوازي الصغير، القلق والثائر، القلق على وجوده من كونه مشوَّشاً وغير ثابت، والثائر على واقعه السلفي، المتخلِّف والاستبدادي، لأن في ذلك جميعاً مقتلاً لتوثُّباته الصاعدة والحاملة طموحات طبقته في الانفتاح والحرية.
من هنا يمكن أن نفسِّر الهجمة التي شنَّتْها جماعة الديوان على ((أحمد شوقي)) صديق ((القصر)) والشاعر الرسمي للبلاط الملكي المستبد، القائم على دعائم الإقطاع"(2).
2-العوامل الذاتية- النفسية:
لقد كان موقف المدرسة الإحيائية من الظواهر التي تناولتها في الشعر ذا طبيعة موضوعية، في الشكل الغالب، فمحاكاةُ الأشياء لم تكن لِتضيفَ تصوُّراً أو موقفاً جمالياً جديداً، حيث تغيب الرؤيا ذات الأبعاد النفسية العميقة، كما يتلاشى الموقف الذاتي في الموقف الموضوعي العام، وقد جاءت المدرسة الرومانتيكية لتكسر ذلك الموقف الموضوعي وترفع من شأن الذات التي تنظر إلى المحيط نظرة تختلف عن بقية الذوات، فظهرت النزعة الفردية بارزةً فيها.
__________
(1) شريف، جلال فاروق، 1985، الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سورية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص55.
(2) جابر، يوسف حامد 1991، قضايا الإبداع في قصيدة النثر، ط1، دار الحصاد للتوزيع والنشر، دمشق، ص59.(1/29)
إن أهمية ظهور المدرسة الرومانتيكية في الشعر العربي تنبع من أن الشاعر الرومانتيكي يرسم الخطوط العريضة والملامح المميزة للغته الشعرية التي تختلف عن لغة رفقائه من الشعراء الرومانتيكيين، حيث يتم إسقاط الأشياء المحيطة والظروف والتقلبات على الذات نفسياً، وهذا الإسقاط يختلف بالضرورة من شاعر إلى آخر تبعاً للاستعدادات النفسية لدى ذلك الشاعر، فقد يكون تأثير البيئة والظروف في الشاعر عنيفاً، لأن هذا التأثير يصيب أماكن حسَّاسة ويصيب أشياء مكبوتة في اللاشعور، وهذا يظهر بجلاء في اللغة الشعرية، وقد "كانت الثورة الرومانتيكية من القوة بحيث مسَّتْ جوانب النفس الإنسانية فَتحَلَّل الرومانتيكيون من الأصول والقيود والأغلال وكل مايمتُّ إلى ذلك بصلة، وقصدوا بذلك تحرير العبقرية البشرية حتى أصبح الأدب عامة والشعر بصفة خاصة- عند الرومانسيين تغريد طائر أو خرير مياه أو دوي رياح أو قصف رعد، ومن ثم فالشعر عندهم لايخضع لأي قيد، ولايدين لأي منهج من المناهج الفكرية، وإن كان لابد من منهج فهو منهج السليقة الحرة، والطبع الوثاب، والإحساس المنطلق والشعور المتدفق، الأمر الذي حدا بالشعراء الرومانسيين أن يزعموا أن أروع القصائد ما كانت أنَّات خالصة أو عبرات صافية"(1)،
__________
(1) مشوح، وليد، دراسات في الشعر العربي الحديث، ص130..(1/30)
وبما أن الرومانتيكية تيار يسم معتنقه بالفردية فإنه يشكّل حركة معاكسة تماماً للتيار الإحيائي وذلك لغياب تلك الخصوصية عن النص الشعري في المدرسة الإحيائية، حيث بَدَتْ معالجةُ (الظاهرة) في المدرسة الكلاسيكية عامةً، سواء أكان ذلك على صعيد الشكل أم على صعيد المضمون، غير أن الشعر الرومانتيكي يتطلَّع بكثير من الأهمية إلى الفردية ومزاجيتها في العلاقة بين الفنان والقضية التي يتناولها، لذلك فإن "الفردية هي الكلمة التي غلب استعمالها في وصف المزاج الرومنطيقي، إذ يُنظر إلى الرومانطيقي بصورة عامة، على أنه الفنان الذي حطَّم قواعد نظام راسخ وتحرَّرَ من قيوده. والمقصود بكلمة الفردية هالةُ الحرية التي يغلف بها الفنان نفسه، ونشوة التحرر والثورة التي يعيشها. ولكن قبل أن يبلغ الرومنطيقي هذه التجربة الذاتية، كان عليه أن يمرَّ بتجربة أطول وأعظم خطراً وأعني بها تجربة العزلة، وهي عزلة من نوع خاص كان لها أثرها في تكوين أمزجة كبار الفنانين المحدثين"(1).
__________
(1) فاولي، والس 1981، عصر السوريالية، تر: خالدة سعيد -دار العودة- بيروت، ص25.(1/31)
لقد اقترنت كلمة //الفردية// عند الرومانتيكيين بـ //الحرية//، بيد أن المدرسة الإحيائية في الشعر لم تمنح الشاعر القدر الكافي من الحرية، فهو -على الأقل- يفتقد الحرية الفنية، إضافة إلى أنه محكوم بقوى خارجية يسعى إلى تلبية متطلباتها، و"لمَّا كانت الاتباعية الجديدة تلتزم بضوابط اجتماعية، وأعراف جمهورية وقوانين سنَّها الأقدمون وارتضوها لأنفسهم فإن الرومانتيكية على العكس من ذلك تصرُّ على الادعاء بأن التجربة الذاتية هي الأساس، وأنه لاقيود على العبقرية. وتعلن أنها حركة تمرد على القيم السائدة والعهود البائدة"(1)، ثم إنَّ محاكاة الأشياء في النص الإحيائي قد حتّم على الشاعر معرفة الأشياء فقط، غير أن الحرية الفردية في المدرسة الرومانتيكية قد أسهمت في إيجاد العلاقات بين الأشياء ولم تكْتفِ بمعرفتها ونقْلها كما هي، ذلك "أن الفنان لايعرف الأشياء بل هو يعرف العلاقات"(2)، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى اختلاف الوعي الجمالي من شاعر إلى آخر عبر نظرته إلى الأشياء والمحيط، كذلك فإن "الرومنطيقية تطرح قضية العلاقة مع الآخر بكثير من الاهتمام والإلحاح. فالرومنطيقي الذي ينطلق من (الأنا) يتمسك بحريته بل بحقه في الاختلاف عن الآخرين، كما يعتبر الفرد قادراً على التميز والإبداع دون الخضوع لأحكام الجماعة، وبما أنه يرى الفن إلهاماً، إذن لابد أن يكون الفنان متميزاً متفوقاً، وهذا التميز يولّد لديه الشعور بالانتماء إلى عالم أسمى، والغربةِ عن العالم الذي يعيش فيه.
__________
(1) فريجات، عادل 1978 الآداب الأجنبية، ع2، مقالة (الرومانتية) السنة (5) اتحاد كتاب العرب دمشق، ص186.
(2) إبراهيم، زكريا، 1966، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، دار مصر للطباعة، القاهرة، ص35.(1/32)
يعزِّز هذا الشعور بالغربة انتماؤه إلى عالم الحلم والخيال والشعور بدونية عالم الواقع، لذلك كان تصوير الغربة من الموضوعات العزيزة على قلب الشاعر الرومنطيقي"(1).
حين نتحدث عن الحلم والإلهام والخيال في التيار الرومانتيكي في الشعر فإننا ندرك أن "طريقة تفسير الأعمال الفنية مقتبسة من طريقة تفسير الأحلام، وهدفهما واحد: اكتشاف العتيق تحت مايبدو جديداً. إنها تتيح أن نفهم موضوعات الأعمال الفنية المقتبسة من الذاكرة الجماعية أو الفردية"(2)، حيث أصبح النص الشعري (الفني) حلماً في المدرسة الرومانتيكية، وبالضرورة فإن كل نص شعري أصيل هو حلمٌ، بغضِّ النظر عن نوع المدرسة التي ينتمي إليها، ولعل وجود الحلم في ذاته كافٍ للقول: إن هناك علاقة تضاد بين الشاعر الرومانتيكي والواقع، فيأتي الحلم تعويضاً عن ذلك التضاد، ويجيء النص الشعري ليفرِّغ الطاقات المكبوتة في اللاشعور، وهذا التفريغ هو أيضاً من المهمات الأساسية للحلم، ويخلق التضادُ والصراع عند الفنان أيضاً حالةً من التوتر النفسي الذي يهدف إلى توازن (أنا) الفنان مع الواقع المحيط، فيُشتَق "التوتر إذن من المجال السيكولوجي ثم يؤثر بالتالي في كل مظاهر هذا المجال، وليس التوتر مجردُ حالات سلبية، بل إنه يمدُّ القوى النفسية الإيجابية بالطاقة التي تساعدها على إعادة التكيف في المجال السيكولوجي، ويحدث التوتر نتيجة لوجود أهداف تتطلب تصرفاً معيناً من الفرد بهدف تحقيقها، إلا أن وصول الفرد لهذا الهدف لايعني أبداً وصوله لحالة من الجمود في مجاله السيكولوجي"(3)
__________
(1) سعيد، خالدة 1979، حركيَّة الإبداع، ط1، دار العودة، بيروت، ص50.
(2) كوفمان، سارة، 1989، /طفولة الفن/ تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق، ص88-89.
(3) الملا، سلوى سامي 1972، الإبداع والتوتر النفسي، دار المعارف، مصر، ص27..(1/33)
ويتفاوت هذا التوتر بين الزيادة والنقصان مساعداً على إغناء القدرات الإبداعية حتى نقطة معينة "فإذا زاد التوتر عن هذه النقطة أو عن هذا الحد الأمثل وكذلك إذا قل عنه أصبح معوقاً للقدرة، أو على أقل تقدير لن يكون له بها ارتباط أو لعله ارتباط ضئيل جداً، لايكاد يكفي بالمرة لنمو وخصوبة القدرات الإبداعية"(1).
__________
(1) المرجع ذاته، ص215.(1/34)
ويرتبط الحلم بالإلهام ارتباطاً وثيقاً، فهما يعملان ويساعدان على توليد آلي عفوي للنص الشعري، فالإلهام يعيش في قلْب الحلم (النص الفني)، والإلهام بطبيعته حالة نفسية تنتاب المرء من دون تدخُّلِ العقل بشكل مباشر، وهذه الحالة النفسية هي مصدر اللغة الشعرية العفوية، حيث تتقدم عناصر اللاشعور إلى مرتبة عليا، وتتراجع القواعد والأحكام التي يسيطر عليها العقل، والتي تقف حائلاً دون خروج كتابة ميكانيكية متواترة ومتصاعدة، وهذا الأمر لايعني عدم وجود رومانتيكية عقلانية، إلا أن تلك الرومانتيكية" تستلب شيئاً من الحلم، وتميل إلى التشاؤم في لحظات إلى حد الابتئاس المدمِّر، بسبب ماتقف عليه من تفصيلات الواقع والدخول في الجزئيات والتوقع القائم على التجربة التي -لايخاف منها الشاعر-، لذلك فالعاطفة الجموح هنا ملجمةٌ بالعقل، الذي يمرِّرها بنسب مختلفة بين حين وآخر، وهو في عملية التنوير والإيقاظ، وحتى المبالغات هنا تكون من مواد أولية موجودة حقيقة في الواقع، أما في الرومانتيكية الثورية، فإنها أكثر تفاؤلاً، وإن مالت أحياناً إلى اللاجدوى من أي شيء أو من أي فعْلٍ منقذ، لأن للعاطفة دوراً أكبرَ، وأهمَّ، وعملُ الرؤيا في الواقع يكون في مستوى النظرة الكلية"(1)ويؤسس العملَ الفني (الحلم) الفرد المبدعُ المشبع بمجموعة من التناقضات الاجتماعية، حيث تحاول (أناه) أن توازن بين (لاشعوره الممتلئ بالمكبوتات) وبين (الأنا الأعلى)، أي المجتمع الذي يحتوي عادات وتقاليد وقيماً لاتُناسب غالباً تطلعاته، حيث النصُّ الفني هو التوازن المنشود.
__________
(1) الخواجه، دريد يحيى، 1981، الصفة والمسافة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص411-412,(1/35)
فـ "الفردُ الذي هو عضو في جمع، يتعرض تحت تأثير هذا الجمع لتغيرات عميقة تطال نشاطه النفسي. فعاطفيته تتضخم تضخماً مسرفاً، بينما يتقلص نشاطه الفكري وينكمش، وتضخُّمُ الأولى وتقلُّصُ الثاني يتّمان باتجاه يتماثل كل فرد في الجمع مع سائر الأفراد وهذه النتيجة الأخيرة لاسبيل للوصول إليها إلا بإلغاء جميع أشكال الكف الخاص بكل فرد وبالعزوف عما هو فردي وخاص في نوازع كل واحد"(1) وقد يكون التغيير العميق الذي يحدث في المجتمع لصالح الفرد ورغباته وهذا الفرد مستبعد من دراستنا، لأن الفرد (الفنان) الذي نتناوله يشغل الألم والعذاب حيزاً كبيراً من طبيعته النفسية، ومن جهة نظر نفسية أيضاً فإن "أول شيء تشخَّص به حالة الفنان الصحية أنه عصابي neurotic، وقد ذهبت محاولات التحليل النفسي المبكرة لتناول الفن -كما يقول ترلنج- ذهبت إلى أنه مادام الفنان عصابياً فإن محتوى عمله الفني عصابي كذلك، وهذا معناه أن هذا المحتوى لايرتبط بالواقع ارتباطاً صحيحاً(2).
أما الخيال الذي يطرحه النص الشعري (الحلم)، فيتيح لنا أن ندرك العالم على نحو جمالي، لذا فهو يعمل على تركيب العالم بشكل جديد.
__________
(1) فرويد، سجموند، 1979، ط1، علم النفس الجمعي، تر: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ص31.
(2) اسماعيل، عز الدين، 1963،التفسير النفسي للأدب، دار المعارف مصر، ص28.(1/36)
لقد اعتنى الرومانتيكيون عناية فائقة بالخيال وهم يسقطون العناصر الخارجية على الذات، "وقد شُغِفَ خيال الرومانتيكيين بتصوير مرحلة الطفولة لأنهم كانوا يمجدون حياة الفطرة والبراءة ونقاوة القلب والسريرة ووجدوا من ثم في الطفولة تعبيراً عن الدهشة وتجسيداً لإدراك العالم على نحو سحري"(1) ولهذا الخيال عند الرومانتيكيين خصائص تتمحور في التفات الشعراء إلى أكثر مظاهر الحياة إلفاً واعتياداً، يصلح مادة يشكِّلها الخيال فيما يُبدع من قصائد ومايفرز من صور. ولهذا الوجه مايقابله متمثلاً في اتجاه الأدباء إلى المعجب والخارق والمعجز الذي يجاوز عنصري الزمان والمكان، ويعلو على الطبيعة والمدرك الحسي المعتاد"(2). ويتجلى هذا الخيال الرومانتيكي في الصورة الشعرية التي تعدُّ "تحقُّقاً جوهرياً للخيال"(3).
مما سبق ندرك أن (المعذب) كقيمة جمالية قد تبلور في المدرسة الرومانتيكية في الشعر العربي الحديث، وهذا عائد إلى السمات الموجودة في هذه المدرسة، كالفردية والعزلة والاغتراب والتمرد والاستلاب، حيث ترتبط هذه السمات مباشرة بتجليات (المعذب)، وتشير أيضاً إلى المضمونات الأساسية للشعر الرومانتيكي وتتمثَّل "في محاولة التعبير عن الحركة الداخلية عند الشاعر، بخاصةٍ مشاعر القلق والتشاؤم ومحاولة الاستمتاع بالجمال في الطبيعة وعند المرأة، والإحساس بالتناقض بين الرغبات الداخلية وبين العالم الخارجي (المجتمع، القيم السائدة.. الخ) واستخدام الشعر للتعبير عن هذه المواقف والتأثر بالشعر، الرومانتيكي العالمي.
__________
(1) نصر، عاطف جودة، 1984،الخيال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص248.
(2) المرجع السابق، ص258.
(3) المرجع السابق، ص261,(1/37)
كل هذا قدَّمتْه النزعة الرومانتيكية في الوقت الذي كانت فيه الكلاسيكية مثالاً شبه تام للواقع الخارجي بجميع قيمه الثقافية والاجتماعية والسياسية"(1).
إن ذلك التبلور قد رافقه تطور ملحوظ في النص الشعري فنياً، وذلك لاختلاف الفهم، وتطوُّرِ الوعي الجمالي عن سابقه في المدرسة الإحيائية أيضاً، فارتسمت ملامح جديدة للغة شعرية تمتلك القدرة على خلق الصورة الجديدة، والقدرة على الإيحاء والتعبير، وتكثيف اللغة وتشعُّب الدلالات والاحتمالات للصورة الشعرية، فقد "تطوَّر مفهوم الرومانسية واتسع ليصير علماً على الأدب الجديد النابع من الوجدان الفردي، والرافض للقواعد الفنية المتوارثة.
لقد صار الشعر إلهاماً لامحاكاة، وصارت عواطف الأديب أو الفنان هي موضوع تجاربه الأدبية، وأصبح حراً في ابتداع وسائله الفنية وتحقيق عالمه الأدبي، غير ملتفت إلى الماضي"(2)، لذا فإن الشاعر الرومانتيكي ذهب إلى بناء عالم مثالي، لأن الزمان غريب عنه، والمكان لم يكن أبداً لِيشبعَ رغبته، لأنه موبوء بالمفاسد والشرور، لهذا كانت الطبيعة هي المكان الذي يقرّبه من المثالية المنشودة بحكم تكوينها الفطري الذي يقترب من فطرية الطفولة وبراءتها، إذاً هناك حنين عميق ولاشعوري إلى الطفولة، حيث يختفي التعقيد وتزول الشرور التي فرضها المجتمع، ووطَّدَ دعائمها.
__________
(1) الشريف، جلال فاروق، 1976، الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص105-106.
(2) المقالح، عبد العزيز 1985، الشعر بين ا لرؤيا والتشكيل، ط2، دار طلاس للترجمة والنشر، دمشق، ص439-440.(1/38)
ولعل الرومانتيكيين بشكل عام كانوا "سجيني العشق الديني، يحلمون بالسفر وبالصبغة التاريخية والمحلية والمناطق الغريبة.. وهكذا فهم يُظهرون الرباط العميق الذي يجمع التوق إلى عالم آخر، والتوق إلى عالم موجود في مكان آخر"(1)، لأن عالمهم الواقعي مصدر عذاباتهم واغترابهم، وينعكس ذلك على النص الشعري الذي يَبْرزُ فيه الهم كعامل أساسي في بناء القصيدة لديهم، فلم يكن الهدف الفني غايتهم على الرغم من التطور الملحوظ في فنيات النص الرومانتيكي، فأصحاب الفن للفن أدركوا أن "الرومانسيين يتخذون على الرغم من إعجابهم بمذهبهم الفني، من الشعر وسيلة لاغاية، فالشعر عندهم وسيلة للتعبير عن الذات، أما هم فإنهم ينظرون إلى الشعر على أنه غاية في ذاته"(2).
__________
(1) آلكية، فردينان، 1978، فلسفة السوريالية، تر: وجيه العمر، وزارة الثقافة، دمشق، ص24.
(2) مشوح، وليد، دراسات في الشعر العربي الحديث، ص134.(1/39)
وتعمّقَ الهم والعذاب رويداً رويداً عند بعض الشعراء الرومانتيكيين فكان تأزمهم النفسي كبيراً، أودى بهم في نهاية المطاف إلى الانتحار، وإلى الشعور بالعدمية كعبد الباسط الصوفي -على سبيل المثال-، الذي ازداد شعوره بالخيبة وهو يستنتج من الواقع أشياء مؤلمة ومأساوية، "ومن الصحيح أنه كلما ازداد تطور الشعور لدى الشخص دقةً يشتدُّ فهمه واستخدامه للعالم الخارجي، ولكن من الصحيح أيضاً أنه كلما غامر أكثر بالخروج من نفسه بهذا الشكل يتعرض أكثر لردود فعل داخل شعوره وهو يخبرُ حالات ذهنية وانفعالية تكشف حساسيات خاصةً وبذلك تزيد إدراكه لنفسه ولتميُّزه حدة"(1)، بيد أن بعض الرومانتيكيين أيضاً لم يتعمق لديهم العذاب فيصبح قيمة جمالية بارزة ويتخذ منحىً نفسياً متأزماً، حيث يمكن اعتبار (نزار قباني) واحداً من شعراء المدينة الحديثة فلم يثبت أنه صُدم بالمدينة، بل "الثابت أنه فرح بها، معتنق لرموزها، ومعانيها مصور لنهر الحياة فيها، وإن كان معنياً على وجه الخصوص بقطّاع المرأة، والطبقة الارستقراطية، ومن هنا فإن نزاراً يتمتع بوعي محدث منذ البداية، وظل هكذا متعشقاً للمدينة حتى وقعت المواجهة بين الشاعر وبعض الشعراء المهتمين بالدراسات الأدبية، الذين هاجموه في حمْلته على الشكل الاجتماعي للأمة العربية، فاتخذت المدينة في شعره شكلاً سلبياً، وفي هذا لايخرج عن الوعي المحدث، بل يعمّق الوعي المحدث"(2).
__________
(1) كوليير، غراهام، 1983، الفن والشعور الإبداعي، تر: منير صلاحي الأصبحي، وزارة الثقافة، دمشق، ص53.
(2) أبو غالي، مختار علي، 1995، المدينة في الشعر العربي المعاصر- عالم المعرفة- عدد 196، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ص97.(1/40)
لم تسلم المدرسة الرومانتيكية من الانتقادات والاتهامات، شأنها شأن بقية المدارس الأخرى، حيث يشير صاحب كتاب (شعر التجربة) إلى هذه الانتقادات والاتهامات فيقول: "إن التهم الرئيسية التي وجِّهت إلى الشعر الرومانتيكي هي أنه ذاتي عاطفي، يعتمد أسلوب التضخيم والمبالغة ويفتقر للشكل. فيما يتعلق بالتهمةِ الأولى أعتقد أنني قد قلت مافيه الكفاية للتدليل على أنه خطأ تاريخي أن نتهم الرومانتيكيين بالذاتية. إنها إساءة لاتجاه التفكير الرومانتيكي. ذلك لأن الذاتية لم تكن برنامج الرومانتيكية بل هي شرْطها الذي لابد منه"(1).
وكما أن الرومانتيكية في أوروبا ظهرت كحركة مضادة للكلاسيكية، كذلك حدث الأمر ذاته في أدبنا العربي الحديث، وفي الحالتين فإن النتيجة الاجتماعية بتقلباتها وأحداثها قد هيأت لظهور التيار الرومانتيكي ولمعارضة التيار السابق المتمثل في المدرسة الإحيائية، أي أن المصادفة لم تلعب دوراً يُذكر في الانتقال من مذهب إلى آخر، وهذا يعني أن الرومانتيكية أيضاً لم تلغ الإحيائية من الوجود إطلاقاً بل أضافت إليها أشياءً جوهرية وأبعدتْ عنها الأشياء التي اعتقدتْ أنها غير صالحة زمنياً، لأن تطوُّر القيم الفنية في مرحلة معينة لايلغي ما سبقه بل يضيف إليه قيماً تناسب البيئة والزمن، وإلا فهناك خلل في هذا التطور.
__________
(1) لانغيوم، روبرت، 1983، شعر التجربة، تر: علي كنعان، عبد الكريم ناصيف، وزارة الثقافة، دمشق، ص32.(1/41)
إن المدرسة الإحيائية تُشَكِّل بالضرورة (في زمن معين وظروف اجتماعية خاصة) حالةً مشروعة لابد منها كي تكون أساساً للتيارات التي جاءت بعدها، فقد ارتأت المدرسة الواقعية في أوروبا أن الرومانتيكية لم تعد تلبيِّ متطلبات الظروف والمجتمع فخرجتْ عنها، وهاهي "الواقعية تنبثق عن الرومانسية وتنتقم من (أمها) هذه دونما شفقة، وتجلدها جزاء موقفها (المستهتر) بوقائع الواقع الموضوعي. والحقيقة هي أن اقتراب الفن من استيعاب هذه الوقائع العادية لم يصبح ممكناً إلا بعد أن رفعت الرومانسية وجهة نظر الفن إلى نطاقات كونية. والآن عندما تتجه عين الفن من جديد إلى الواقع الأمبريقي فإنها ترى فيه شيئاً مختلفاً وبطريقة أيضاً مختلفة عمَّا كانت تراه واقعية القرن الثامن عشر، تلك الواقعية المهذّبة والعقلية"(1).
بعد أن توقفنا عند نشأة المدرسة الرومانتيكية في الشعر العربي الحديث في سوريا ولبنان، وتبيَّنا عوامل النشأة والسمات والانتقادات التي وجهت إليها، وأدركنا ارتباط هذه السمات بالمعذب، سنستعرض في الصفحات القادمة صور ذلك (المعذب) وأشكاله، كما أبرزتْها المدرسة الرومانتيكية في الشعر في سوريا ولبنان.
تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية:
1-النموذج المغترب العدمي:
إن الجانب القيمي هو أكثر الجوانب بروزاً في (النموذج المغترب العدمي)، إذ يبدو الواقع بمعطياته السلبية سبباً رئيسياً في اغتراب الفرد عن القيم السائدة في بنية المجتمع ويمكن أن يتسع هذا الاغتراب ليصبح اغتراباً كلياً عن الحياة، ومن ثم يسيطر الشعور بعدمية الاستمرار والتواصل مع المحيط، حيث يبلغ التأزم النفسي أقصاه، في تلك المرحلة.
__________
(1) غاتشيف، غيورغي، 1990، الوعي والفن، مجلة عالم المعرفة، ع146، تر: نوفل نيوف، مرا: د. مسعد مصلوح، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص256.(1/42)
وإذا كنا في الحديث عن (النموذج المغترب العدمي) كأحد تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية، فلا بد من الوقوف قليلاً عند مفهومي (الاغتراب) و (العدمية) توضيحاً للدراسة ومدخلاً لها.
إن (المغترب) ليس معذباً بالضرورة، ولكن (المعذب) مغترب لامحالة، فالصعلوك في العصر الجاهلي (مغترب بطولي)، وأبو ذر الغفاري في العصر الإسلامي (مغترب بطولي) أيضاً، ولعل سمات المدرسة الرومانتيكية تتلازم و (المغترب) لاسيما المعذب منه، ذلك أن العزلة المترافقة بالأنين والشكوى والكآبات، هي عزلة المغترب المعذب وليست عزلة (المغترب البطولي).
إن "كل مجتمع يريد من الفرد أن يتماثل في المعايير العامة، بينما يسعى كل فرد ليتماثل في معاييره الذاتية. ولايعود الإنسان يدرك ماذا يحدث، بل لايعرف المغزى من وجوده. فتطفو عندئذ مشاعر العزلة، والقلق والتخلي والنبذ، والشد، والاغتراب”(1) حيث يعيش الفرد تناقضاً بين ذاته المفعمة بالخلاص مما هو سائد وبين المحيط الذي ينتج إشكالياته، مما يجبره على الأنين والحسرة والهرب إلى أحضان الحلم، وقد "انتقلت عدوى ((الغربة)) أو ((الاغتراب)) أو ((الانفصال)) من اللاهوت إلى الفلسفة، وخاصة أقسامها المتعلقة بالحق والأخلاق، وذلك أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، أي في أجواء الصراع اللاهوتي -اللاهوتي، والصراع العلمي- اللاهوتي"(2)، حيث تطوَّر مفهوم هذه الغربة رويداً رويداً مع تقدُّم الزمن و"اكتسب مفهوم الاغتراب (أوالاستلاب) حق الوجود الفكري الراسخ، منذ أواخر القرن الثامن عشر، ومايزال حتى يومنا هذا، بين المفاهيم الفكرية البارزة في الفلسفات المعاصرة، وفي علم الاجتماع"(3).
__________
(1) داكو، بيير، 1990، علم النفس الجديد، ط1، تر: سامي علام، دار الغربال، ص45.
(2) عبد الجبار، فالح، 1991، المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب، ط1، مؤسسة عيبال للدراسات، قبرص، ص11.
(3) المرجع السابق، ص3.(1/43)
ويشير الناقد حنا عبود إلى منابع الغربة في حياة الفرد من خلال تساؤلات عديدة فيقول: "ثم من يستطيع الادعاء أن منابع الغربة غير متوفرةٍ في حياتنا؟ من يستطيع أن يلغي دور الإحباطات الكبرى التي يواجهها الفرد في مراحل حياته؟ إن في حياتنا ضغوطات -لو انتبهنا إليها- تخلق الإحساس بالغربة، أكثر بكثير مما نسميه (الحياة الصناعية المعقدة)"(1).
ويتابع الناقد القول: "وقد تنبع الغربة من البيئة، فيحسُّ الشاعر كأنه ليس من هذا العالم المجنون. إن العالم لدى الشاعر يجب أن لايكون حسبما ترسمه تصوراته، فإذا قارن بين مايتصوره وبين مايعيش فيه انتابه الهلع من هول المفارقة. ففي هذا العالم المأفون المدان لايشعر المرء بألفة معه"(2).
__________
(1) عبود، حنا، 1982، النحل البري والعسل المر، وزارة الثقافة، دمشق، ص77.
(2) المرجع السابق، ص78.(1/44)
من اللافت للانتباه في حديث (حنا عبود) عن الغربة قوله: ((وقد تنبع الغربة من البيئة))، إنَّ ((قد)) هنا حرف تقليل إشارة إلى أن الناقد يرى أن هناك غربة لاتأتي من البيئة وليست وليدة من المجتمع، وربما يقصد الغربة الروحية (1)، غير أننا نتصور أن جميع أنواع الغربة ذات منشأ اجتماعي بما فيها الغربة الروحية، فلا يمكن أن تكون الغربة الروحية ذات منشأ ذاتي محض ولابد لها من محرِّض خارجي مهما تكن صفته، وهناك تداخل بين أنواع الاغتراب التي لايمكن أن تؤدي بالضرورة إلى تكوين (مغتربٍ معذب) في بعض الأحايين، فهناك الغربة عن المدينة والوطن وعن الدار..
__________
(1) إن معنى الغربة الروحية هنا يوازي الغربة الناتجة عن القلق الوجودي، أما عن تداخل أنواع الاغتراب فالغربة المكانية تولِّد غربة نفسية، والغربةُ الناتجة عن القيم الاجتماعية هي الأخرى تولِّد غربة نفسية.(1/45)
الخ" إذا ماأردنا التعرُّف على ظاهرة الغربة والحنين إلى الوطن في ضوء مايراه المحدثون نجد اختلافاً بين النظرتين، فهناك من يقول: إن الحنين إلى الوطن يتولَّد أساساً من خلل في الخيال عند الإنسان، وهو ينتج عادة من اتجاه العصارة العصبية في اتجاه واحد بعينه في المخ، ومن ثم لاتتولّد من جراء ذلك إلا فكرة واحدة بعينها، وهي الرغبة في العودة إلى الوطن، والحنين الدائم إلى العودة، وفي ضوء هذا يراه البعض //مرضاً ريفياً// يتمكَّن من الإنسان حتى يجد نفسه عائداً للعيش في ظلاله ويتحقق هذا أروع مايكون التحقُّق عند الذين أبعدوا ظلماً عن الوطن، وهناك نظرة تقول بأنه مرضٌ محبَّبٌ للذات، وكثيرٌ من الشعراء يؤججون هذا الجانب ليشتعل الشعر عندهم، على أن صورة المكان لاتكون هي الملمح الرئيسي في عملية التذكُّر، ذلك لأن الذي يسيطر على الشاعر أساساً هو فيض ذكرياته عن طفولته وعن شبابه الذي عاشه في الوطن، وقد يكون الأمر أمر حبِّ ذهب ولكن مازالت له بقايا داخل النفس"(1).
ويقول الدكتور (عبد الله عساف) في الرومانتيكية والاغتراب "ومن الأمور التي يجب ملاحظتها في الرومانتيكية إحساس الشاعر الدائم بالاضطهاد والاغتراب بسبب بعد الشقة بينه وبين المجتمع وموقفه السابق من الواقع، ولابد من التذكير بأن علاقة الإنسان بالمجتمع في مفهوم البرجوازية، ليست علاقة تفاعلية، وإنما هي علاقة صدامية دائمة تتمثل في رغبة الفرد المستمرة في التخلص من القيد /المجتمع"(2).
__________
(1) بدوي، عبده، 1984. عالم الفكر مجلد، 15 (الغربة المكانية في الشعر العربي) الكويت ص33-34.
(2) عساف، عبد الله، 1996، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، دار دجلة، القامشلي، ص73.(1/46)
أما العدمية فهي "تردِّي قيمة الأهداف العليا"(1) والعدمي من آمن بسقوط جميع الأشياء من حوله، فلا طائل من الحياة ومن الاستمرارية ذلك أن الموت هو الملجأ الأخير للذات المخرَّبة حيث تتعرض غريزة الحياة لأقصى أنواع الهزات النفسية التي تتراكم زمنياً.
ينصهر (المعذب) و (العدمي) في بوتقة واحدة، فالعدمي قطعاً /معذَّبٌ مغترب/، لهذا فإن صفة الانسحاق أكثر ماتتبدى عند (العدمي).
أما حالات (النموذج المغترب العدمي) كما طرحتها المدرسة الرومانتيكية في الشعر العربي في سورية ولبنان فهي على الشكل التالي:
أ- النموذج الوجودي المغترب روحياً:
يظهر الاغتراب الروحي الذي ينطوي على القلق الوجودي في نصوص الشاعر (عبد الباسط الصوفي)، حيث قام المجتمع بتعزيز ذلك الاغتراب، ومع "مرور السنين أصبح اسم الشاعر (عبد الباسط الصوفي) يستعمل عند شعراء الشعر الحديث خاصة رمزاً من رموز الضياع والقلق والعدمية، وكناية عن الموت الانتحاري في تفجُّر العمر وزهوة الشباب”(2).
__________
(1) بارت، رولان، 1992، لذة النص، ط1، تر: منذر عياشي، مركز الانتماء الحضاري، باريس، ص81.
(2) اسكاف، ممدوح، 1983، عبد الباسط الصوفي، اتحاد كتاب العرب، دمشق، ص106.(1/47)
لم تنشأ ظاهرة (العدمية) عند الصوفي إلا بعد أن سقطتْ لديه جميع الاحتمالات الممكنة للعيش، وتكونت لديه منذ سن مبكرة حالة جنينية تنبئ بنهاية مرعبة: "فنتيجةً لإسرافه في مطالعة الكتب الفلسفية، سنة الشهادة الثانوية، ثم بعدئذ في السنوات الأولى لدراسته الجامعية، ونتيجةً لحالة الإحباط العاطفي التي عاشها مع حبيبته ونتيجة لحياته الأسرية والاجتماعية المغلقة، مضافاً إليها جميعاً فقره المادي، مرَّ عبد الباسط بأزمة نفسية مرضية تبدّت على شكل سهر لليل بأكمله دون قدرة على النوم وحساسية مفرطة تجاه كل شيء سرعان ما تندفع وتعبر عن نفسها بالبكاء، وألمٍّ لايحتمل في الرأس، وتوتر عاصف بالأعصاب كأنها أضحت أسلاكاً كهربائية ماإنْ يلتقي سالبها بالموجب حتى تتوهج"(1).
وتوَّج (الصوفي) حياته بالانتحار الذي يشكِّل نهاية مثاليةً للمغترب العدمي، فيبدو أن هناك سبباً واحداً لانتحاره "وهو وقوعه فريسة اضطرابات نفسية قاسية في أجواء غربته وعزلته، أدت به إلى القضاء على حياته قد ينضاف إليه سببٌ آخر، هو حالة المرض المستعصي التي سبقت عملية الانتحار، إذا صحَّ وقوع مثل هذا المرض، دون أن ننسى أن فكرة الانتحار كانت تراود عبد الباسط وقت مبكر"(2).
__________
(1) المرجع السابق، ص58.
(2) المرجع السابق، ص102.(1/48)
لقد تطوَّر الأمر بتفكير (الصوفي) المرعب إلى حد صار معه "أول شاعر عربي معاصر، بخاصة في القطر العربي السوري، ألحّت عليه المشكلة الميتافيزيقية مشكلة الوجود"(1)، ومن ثم انعكست هذه المشكلة سلبياً في نفسية الصوفي فلم يكن هناك متسع للصراع وللأمل فكان الموت هو الملجأ الأخير "وليس لتجربة الموت والرفض والانسحاق الشامل، وإيقاع الرعب والقلق المتيافيزيقي المتوتر الحاد عند الصوفي، سوى تأويل إطلاقي واحد وحيد ضمن شبكة العلاقات الاستاتيكية اللامحدودة: مواجهة العدم والفراغ العام بكل جرأة وذهول وتجرُّدٍ وتوتر إنساني حاد في ممارسة إبداعية إطلاقية مغامرة.
إن الرعب أسطورة القرن العشرين الساحرة وفلسفته الحقيقية الواقعية، يصير لدى (الصوفي) انفتاحاً وتفتُّحاً فراغياً على عالم اللاشي: العدم، حيث ترقص الشمس معولة على جنازة الحرية ويهيم اللامعقول في دنياه (المعقولة) الفسيحة"(2)، والجدير ذكره -قبل أن نبدأ بالوقوف عند نص شعري للصوفي- أن شاعرنا قد عانى الغربة معاناة محرقة "فهو منذ مطلع شبابه يواجه غربتين، نفسية واجتماعية فمن الناحية النفسية كان عاجزاً عن الارتواء يحسُّ قصوره الذاتي، فيخرج إلى الضوء، ويتوجه إلى الحب، وفي الحب يسقط ولكنه ينهض، ويتدفق في نهر الآخرين، ولكنه يشعر بالحصار"(3) ويتوضَّح هذا في قصيدة له بعنوان (غربة الروح) يقول فيها:(4)
أعود إلى الناس بعد اغترابْ
طريداً، أحشرج بين الشعاب
وظليَ يطفر فوق الترابْ
أعود إلى الناس، بعد النزوح
وتخطفني لمحات السرابْ
__________
(1) الشريف، جلال فاروق، الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سورية، ص180.
(2) ميخائيل، امطانيوس، 1968، ط1، دراسات في الشعر العربي المعاصر، المكتبة العصرية، بيروت، ص106.
(3) خنسة، وفيق، 1981، دراسات في الشعر السوري الحديث، دار الحقائق، الجزائر، ص111.
(4) الصوفي، عبد الباسط (د-تا) آثار عبد الباسط الصوفي- وزارة الثقافة، ص121.(1/49)
ويمضغني الصمت، حتى أبوح
فأهوي إلى الأرض، من غير روح
وروحي ترفرفُ فوق السحاب
حيث تأخذ الغربة في النص منحى ذاتياً يتدرج نحو العدمية، ولم ينشأ هذا المنحى إلا بعد عجزٍ عن التواصل مع الحياة ومقارعة ألوان العذاب والإحباط فيها، وتبدأ حياة الشاعر بالتصاعد نحو تساؤلات مرعبة ومدمِّرة عن جوهر وجود الإنسان ومصيره، وتختفي لدى (الأنا) مقومات التوازن، وتتسع بالتالي دائرة الاغتراب من الحيز الاجتماعي إلى الحيز الكوني، فمنذ مرحلة الطفولة بدأت تتراكم عند الشاعر معطيات الاغتراب الذي تطوَّر فيما بعد إلى العدمية، وكان الفقر والعادات الاجتماعية المحيطة والبيئة الأسرية المحافظة والاختناق العاطفي سبباً في الكبت الذي بلغ أشده في لحظة الانتحار، حيث تعرَّضت غريزة الحياة لانتهاكات مؤلمة، ومالبثت أن سقطتْ أمام غزارة المكبوتات.
إن العودة إلى الناس في قول الشاعر: (أعود إلى الناس بعد اغتراب طريداً) ليست عودة حميدة ولا هي بعودة حقيقية، إنها رجعة من غيبوبة ومن اغتراب إلى اغتراب آخر، لأن الناس (المجتمع) همٌّ من همومه وعائق كبير يقف حائلاً دون خروجه من كآباته، ثم إن هذه العودة قهريةٌ (أعود طريداً).(1/50)
إذ إن الطرد حالة معنوية تنبئ بأنّ المكبوتات تريد أن تظهر على أرض الواقع، غير أن المجتمع لايسمح بذلك، فتظلّ هذه المكبوتات تطارد (الأنا) إلى حد الإرهاق، فتشعر الذات بعدمية تحقيق الرغبة ومن ثم يجيء الاغتراب الذي يتحول مع ازدياد الإحباطات وازدياد الشعور بالعدمية إلى اغتراب كوني ذي سمات مرعبة (تخطفني لمحات السراب)، فالصوفي لم يقل (يخطفني السراب) بل أصرّ على وجود (لمحات) التي تفرض تحولاً على الصعيد النفسي باتجاه العدمية (السراب) الذي لاح في الأفق كنتيجة نهائية لتراكم الصور القاتمة في مخيلته، التي أرادت عالماً مثالياً يقوم على تغيير جذري في معطيات الوجود، ومن هنا ظهرتْ ملامح (الاغتراب الروحي) والقلق المتعاظم القائم على تأزم نفسي هائل، ثم إن تكرار تركيب (أعود إلى الناس) آت من الرغبة في تحقيق حلمه بالعودة إلى مجتمع مثالي ذي علاقات مختلفة عما هي الآن، وتجلَّى ذلك التأزم النفسي في النص في (أحشرج بين الشعاب)، فالفعل (أحشْرجُ) يوحي بصوت متعب ويدل على صراعٍ نفسي كبير أدَّى إلى عملية (الحشرجة)، وعندما ارتبط ذلك الفعل بـ (الشعاب) ازدادت الحالة سوءاً، لاسيما أن /الشعاب/ تشير إلى حالة من التبعثر والضياع و /الشعاب/ يتم إسقاطها نفسياً -ضمن السياق الاجتماعي لحياة الصوفي- على أنها الانكسارات التي رافقت الشاعر طوال حياته القصيرة، وسببت له الاغتراب الروحي، وترافق هذا الاغتراب في النص بالانطوائية والعزلة والصمت كما في (يمضغني الصمت)، فالصمت تعطيلٌ للإرادة عن فعل الكلام، وغالباً مايتَّسِم الكئيب بالصمت الذي هو حالة عدوانية هنا بوجود الفعل (يمضغني)، ثم يأتي (البوح)، غير أن ذلك (البوح) ليس مخلّصاً من عدوانية الصمت بل هو حشرجةٌ أيضاً، ولايؤدي وظيفة نفسية تفريغية أو تصعيدية.(1/51)
وتُتَوَّج الحالة المتفاقمة في النص بالسقوط المفجع في (أهوي إلى الأرض من غير روح) تعميقاً لقضية الغربة، وإيذاناً بتهاوي الجسد خالياً من كل أملٍ.
كثر في النص استخدام ياء المتكلم (ظلِّي، تخطفني، يمضغني، أهوي، روحي) تثبيتاً للغربة الذاتية لدى الشاعر، وتعميقاً للعزلة لديه، وكثر أيضاً استخدام حرف الربط (الواو)، فلم يقلل هذا الاستخدام من شأن الحالة، حيث يدور النص حول بؤرة نفسية واحدة متماسكة.
تتوضَّح في قصيدة (الطريق) لعبد الباسط الصوفي ظاهرة (الاغتراب الروحي) التي تنطوي على (القلق الوجودي) أيضاً، وتظهر في هذه القصيدة عدمية الصراع مع معطيات الزمن وتبرز العبثية واللاجدوى في مواصلة مسيرة الحياة يقول الشاعر في (الطريق):(1)
عبثاً أنظر في الأعماق، لا أبصر شيّاً
والمدى الشاحب، مامات رؤى في مقلتيّا
هكذا أمضي مع الدهر، ولا أشكو المضيّا
أتخطَّى الزمنَ الموغِل إيقاعاً خفيّا
أنا لاشيء، ولاشيء وجود الكون فيّا
تنطلق العدمية في النص من العبثية واللاجدوى في استشراف كل ماهو جميل (عبثاً أنظر في الأعماق)، وبالضرورة فإن تلك اللاجدوى في الاستشراق أسهمت في إنجاز نموذج (المغترب العدمي) في الأبيات، لأن القبح حالةٌ متفشية ليس في المجتمع والواقع فقط، بل في تركيب الكون كله، إذ يبدو أن هناك حالة نفسية متطورة عن حالات أخرى متأزمة (من عدم الثقة بالواقع إلى عدم الثقة بالذات إلى عدم الثقة بالحياة كلها)، ومن ثم نحن إزاء بناء نفسي يعوم في بحر من القلق المزمن إزاء هذا الوجود.
__________
(1) الصوفي، عبد الباسط، آثار عبد الباسط، ص31.(1/52)
أشرنا قبل قليل إلى أن العبثية هي مفتاح النص وهي مفتاح الغربة أيضاً، فالأبيات محكومة بفعل (العبث)، ثم توالت التركيبات التي أدَّتْ إلى تعميق هذا الفعل (لا أبصر شيا، هكذا أمضي مع الدهر، أنا لاشيء ولاشيء وجود الكون فيّا)، ومنذ البداية يوحي النظر إلى الأعماق في (عبثاً أنظر في الأعماق) باحتمالات متعددة على صعيد المعنى، أول هذه الاحتمالات يفضي إلى معنى (النظر إلى المستقبل) أو (النظر في الأفق)، ويظهر أنه مستقبل منعدم لاوجود له، ولم يعد الزمن قادراً على التحرُّك نحو ذاك الأفق (المستقبل)، وثاني هذه الاحتمالات: يحيل على معنى نفسي عميق، وهو النظرُ إلى (الذات) الفارغة المظلمة المغتربة، حيث (الأنا) استنفدت كلَّ وسائلها لتلبية مايلحُّ عليها، ولكنها لم تتمكن من فعل أي شيء يعيد إليها استقرارها، ولعل تركيب (المدى الشاحب) جامع للاحتمالين السابقين غير أن الاحتمال النفسي يفرض إيقاعه أكثر، فالمدى الشاحب ينمّ على رؤيا فردية خاصة بالصوفي، ولايمكن أن يكون ذلك المدى جميلاً إلا إذا حملته (أنا) مستقرة.
في البيت الثالث يطالعنا تركيب (هكذا أمضي مع الدهر) الذي يسم الشاعر بالعشوائية وبالتيه في وجوده وفي تحرُّكه على ساحة الحياة، لأنه غير مطمئن وغير واثق بخلاص بعيد أو قريب، كما أن مفردة (هكذا) في ذاتها -وضمن سياق النص وحياة الصوفي- تُوَضَّح النتيجة النفسية والمآل الذي آلت إليه حياة (الصوفي)، وتشير هذه المفردة من زاوية أخرى إلى مرحلة لاحقة لأخرى سبقتها، فهي نقطة انعطاف بين هاتين المرحلتين، حيث المرحلة الأولى (السابقة) هي الزمن الذي تجمَّعت فيه المكبوتات بأنواعه، أما الثانية فهي الزمن الذي حدثت فيه ردة فعل الشاعر على هذه المكبوتات التي تجلت على هيئة ضياع وتمزُّقٍ وجوديين.(1/53)
ويستمر هذا التمزق في قلب الوجود ليبلغ في البيت الأخير ذروته، لأن هذا البيت يُشَكِّلُ نموذجاً مثالياً (للمغترب العدمي القلق وجودياً)، فهنالك نفي لـ (أنا) الصوفي (أنا لاشيء) وهنالك نفي أيضاً للكون بكل علاقاته عن ذات الشاعر (لاشيء وجود الكون فيَّا) وهذان النفيان كافيان لإقامة العدمية وصولاً إلى الانتحار، إذ تبدو العدمية في هذا البيت مقترنة بفقدان قيمة الذات بشكل مطلق، ويخرِّب هذا الفقدان كلَّ شعور بالبقاء وبالاستمرارية، فيتحقق الانسحاق الشامل.
تتصاعد الحالة في النص بدءاً من نقطة العبث في البحث عن الذات وتنتهي بتلاشي الذات، وتدمير الكون في داخل تلك الذات، ولعل الحياة القصيرة التي عاشها عبد الباسط الصوفي (1931-1960م) كُثَّفت في الأبيات السابقة عبر التصاعد الذي رأيناه في الحالة والذي ييتناسب وتفاقم الأزمة النفسية لديه، وكلُّ ذلك في ظل مجتمع يعاني ويلات المرض والحروب (الحرب العالمية الثانية، نكبة فلسطين، العدوان الثلاثي على مصر، الخ....).
ب- النموذج المغترب قيمياً (الواقع الاجتماعي):
أشرنا في بداية الدراسة إلى أن الظواهر الاجتماعية الفاسدة تنعكس سلبياً على نفسية المعذب، فلا يقوم بعد هذا الانعكاس بأي فعل ثوري من شأنه أن يغيّر بنية المجتمع كما يفعل (التراجيدي)، ويشعر بعدمية الحل وباغترابه عن تلك الظواهر.(1/54)
تُشكِّل نصوص الشاعر (وصفي القرنفلي) نموذجاً للاغتراب القيمي، فهو إضافةً إلى عرضه لنصوص شعرية تصطرع فيها "أنواء ميتافيزيقية، هي جماح تمرُّده، ووثاقه الوجودي الحازم، وغناؤه للعالم الآخر الرحب، الموجود تارةً وجوداً صوفياً بشكل ما، والمنفي لدرجة الطرد، والنفي، والرفض تارةً أخرى"(1) فإنه عرض نصوصاً أخرى تعبِّر عن (المعذب المغترب عن واقعٍ أليم، مليء بالمفاسد والشرور، وبالأفكار البائدة، وتمرد على واقعه الاجتماعي هذا، وهو "كما تمرد على واقعه الاجتماعي الذي هو حصيلة تراكمات كثيرة من جملتها الجانب الفكري والموروثات الشائهة.. كذلك تمرّد على المعتقدات التي أرادها المستغلون أن تكون أداة في يدهم"(2)، واشتدت عليه وطأة الحياة منذ سن مبكرة فازداد اغترابه اغتراباً، إلى أن وصل إلى حالة يرثى لها، حيث "طاردته الحياة من مهنة (المسّاح).. الجوال التي شكا منها الكثير في شعره حتى أُقعد إلا عن رفيف العين لاغير، طوال أكثر من ست سنوات، لايملك غير القدرة على البكاء الأخرس كلما زاره صديق، فكان ذلك أقسى جحيم يمكن أن يتعرض له شاعر لاقدرة له إلا بالكلمة.. وقد حُرم قُدرتي الحركة، والنطق"(3).
يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان (جحيم المساحة)(4):
أنا ميتُ الشباب، في غربة العيش، رفيقَ الوحش، ظلَ القفار
أنا في هذه (المساحة) كالمحكوم بالموت في أمةٍ كالضواري
***
بتُّ واللّه أشتهي الشمس أن تشرق يوماً، ومقلتي في الفراش
__________
(1) الناعم، عبد الكريم، 1973، الموقف الأدبيي، ع10-11، مقالة (شيء من عالم وصفي القرنفلي) اتحاد الكتاب العرب (دمشق)- (بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته)، ص59-60.
(2) المرجع السابق، ص60.
(3) المرجع السابق، ص61.
(4) القرنفلي، وصفي، 1969، ديوان وراء السراب، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ، ص11 (هناك كسر عروضي في قوله/ أمة كالضواري/).(1/55)
نسبق الشمس أن تطلَّ، ونسري في ضمير الدجى سريٍّ المواشي
***
بتُّ واللّه أشتهي الناس، ناس المدن، تروي لنا حديث الحياة
كلّ ماحولنا جماد، وناس، ببغاء، في شهوة السائمات
تشهد العلاقة بين القرنفلي والواقع تردياً ملحوظاً، فيبتعد المجتمع بقيمه عن احتياجات ورغبات الشاعر، وباتت الغربة عن تلك القيم سبباً رئيساً في الغربة القيمية ووليداً شرعياً لها، ومن ثم كانت سبباً في انعدام الخلاص من الأوضاع والعلاقات السائدة.
تختلف العدمية في نص (وصفي القرنفلي) عن عدمية (الصوفي) في نصيّه اللذين وقفنا عندهما سابقاً، فالعدمية في الأبيات السابقة تبرزُ من خلال العلاقة المباشرة بالمجتمع، وتوحي بعدم وجود حلٍّ لما يحدث في المحيط، أما (عدمية الصوفي) في نصيّه السابقين فتتسع لتأخذ منحى وجودياً مرعباً على الرغم من أن المجتمع وظروف الصوفي العصيبة كانت سبباً وأساساً لانطلاقه إلى تلك العدمية المرعبة.
نعود إلى أبيات القرنفلي لندرك أن ضياع الشاعر كان متلازماً مع فقدان الثقة بالأفراد (ونسري في ضمير الدجى سري المواشي) وفقدت الحياة حيويتها وحركتها بزوال الإخلاص والأخلاق السامية (كلُّ ماحولنا جماد، وناس، ببغاء)، ولابدَّ من البحث عن عالم جميل يعوِّض عن اغتراب الشاعر وعن قبْح الواقع، فلم يتعدَّ هذا البحثُ المضني الاشتهاء والحلم (أشتهي الشمس أن تشرق، أشتهي الناس تروي لنا حديث الحياة)، ذلك أن العيش في (مساحة) مخنوقة يفرض على (الأنا) تفكيراً ينطلق من الفراغ ويصبُّ في فراغ، ويتراجع فعْلُ (الذات) باتجاه العدمية (أنا ميت الشباب).
في مرحلة الشباب تكثر احتياجات (الأنا) وطموحاتها، ثم تتخلى عن طموحاتها إذا ماتعرَّضتْ لحالة من الحصار، فيتلقف اللاشعور تلك الاحتياجات ويخزّنها، و(الشهوة) المطروحة في النص السابق تعني أن (الأنا) لم تتنازل عن رغباتها للمجتمع، ولكن أرجأتْ تحقيقها مجبرة، فعندما شعرت أن هذا الإرجاء سيطول انسحقت واغتربت.(1/56)
يطرح النص (المدينة) كمعضلةٍ وعقبة في البيتين الأخيرين، فهي حلقة سلبية أساسية من الحلقات التي تُطْبِق بخناقها على الشاعر، حيث هنالك قصور في تفكير الأفراد الذين تسيطر عليهم ذهنيةٌ مريضة (كلُّ ماحولنا جماد، وناس، ببغاء).
يزاوج (القرنفلي) في لغته بين المفردات التي تدل على الفردية (أنا ميت، أنا في هذه المساحة، بتُّ، أشتهي) وبين المفردات والتراكيب تشير إلى صيغة الجمع (نسبقُ الشمس، نسري، كلُّ ماحولنا)، بيد أن هذا الجمع يمكن أن يحال على احتمالين: أولهما: أن استخدام الجمع آتٍ لتضخيم ذات الشاعر وتضخيم غربتها وشعورها بالعدمية. ثانيهما: أن الجمع يدل على الكثرة وبالتالي يؤدي معنى التشتُّت النفسي والتبعثر، لأنه ليس من المنطقي أن يكون جميع الناس غرباء عن المدينة، لذلك فإن التشتت حقيقةٌ ترتبط بالشاعر، حيث يؤدي تركيب (كل ماحولنا) معنىً فردياً (كل ماحولي)، و (نا) الدالة على الفاعلين ذات مرجعية نفسية عميقة، وهي مجموع (اللاشعور+الشعور) اللذين يصطرعان في (ذاتٍ) واحدة هي (ذاتُ) وصفي القرنفلي.
وكذلك فإن مفردة (المساحة) تحمل إيحاءً نفسياً واسعاً، إذ تشكِّل في النص سجناً نفسياً أكثر منه مكانياً، فهي ساحة للصراع، الذي مالبث أن تراجع أمام وطأة الاختناق والموت (أنا في هذه المساحة كالمحكوم بالموت).
مما سبق ندرك أن القيم التي طرحها (وصفي القرنفلي) في المجتمع والتي جعلتْ منه معذباً، ترتكز على الشعور بأن الأفراد في الواقع قد فقدوا جوهر الإنسانية الحقيقي القائم على الحب، وفقدوا الود والبراءة والحميمية (أشتهي الناس ناس المدن، تروي لنا حديث الحياة).
والشاعرة هند هارون تصرّح بمصدر غربتها وضياعها، كما فعل من قبل وصفي القرنفلي؛ فتراها تقول في قصيدة لها بعنوان (أين الصحاب)(1):
عبثاً ألوب.. ونفسيَ الظمأى.. تحنّ إلى الصديقْ
__________
(1) هارون، هند، 1977، ديوان سارقة المعبد، دار الأنوار للطباعة، ص237.(1/57)
عبثاً أحاول... أن أضمَّ الصحبَ.. في تلك الطريقْ
الدرب خاوٍ.. حيث لاخلٌّ.. أراه.. ولا رفيقْ
الدربُ... يشهد أنني.. ماخنْتُ.. ميثاقي الوثيقْ
أُبدي الوفاء.. وأنثني.. أَلْقى.. التنكُّرَ والعقوقْ
أعطي من القلب... المحبَّةَ. ثم أغدو... كالغريق.
في الأبيات السابقة محاولة دؤوبة من الشاعرة للتواصل مع الآخر (الصديق)، إلاَّ أن المحاولة لاتكلَّلُ بالنجاح، فثمة تناقضٌ قيمي بينها وبين الآخر، حيث يشهد الواقع سلسلة من المفاسد الخلقية تعرضها الشاعرة في النص، وتتمحور هذه المفاسد حول فقدان الإخلاص والوفاء (حيث لاخلٌّ، ألقى التنكر والعقوق) وذلك ينعكس أيضاً بشكل سلبي على المحبة كقيمة سامية في المجتمع وعلاقات الناس بعضهم ببعض (أعطى من القلب... المحبة، ثم.. أغدو.. كالغريق).
إن (العبث) الذي جاءت به هند هارون في النص يتضامن مع (اللاجدوى)، ولايؤدي معنى (اللانتماء) إلى فكر أو قومية أو تحزُّب ما، إنه عبثُ البحثِ عن معايير في الواقع تتوافق مع ذاتها، حيث يتولد الشعور بعدمية إيجاد معايير كهذه، وينشأ بعد ذلك الاغتراب عن المجتمع، لذا لم تستطع الشاعرة الاندماج مع الآخر على علاّته وعلى سلبياته، لأن تلك السلبيات فاقت الحدود، وذلك بحكم تربيتها الاجتماعية (أُبدي الوفاء، ألقى التنكُّر والعقوق).
من زاوية أخرى تفيد (عبثاً) المكررة مرتين في مطلع الأبيات الإطلاق ((مفعول مطلق)) وتدل على التشتت والضياع، وقد ازدادت قوتها بحكم تصدُّرها للأبيات ثم إن الأفعال التي رافقتها لاتدل على اليقين والثقة بالنفس (ألوب، أحاول)، فقد عزّزت التيه والضياع والشعور بالاغتراب.
تُكرر الشاعرة استخدام بعض المفردات ومرادفاتها ضمن تراكيب النص وتستخدم الطريق ومعانيه (أضمُّ الصحب في تلك الطريق، الدرب خاوٍ، الدرب يشهد).(1/58)
إن إصرار الشاعرة على (الطريق) نقطةُ انعطاف في مسيرتها النفسية، ففيه يحدث اللقاء مع الآخر أوْ لايحدث، إنه لقاءٌ على صعيد القيم وليس لقاءً مادياً جسدياً، و(الطريق) هو خط الهجوم الأول الذي تواجهه (الأنا)، لأنه مسرح للعمليات الاجتماعية بمختلف أشكالها. ويرتبط التكرار السابق بتكرار آخر لمفردة (الصديق) ومعانيها (نفسي الظمأى تحن إلى الصديق، أضمُّ الصحب، حيث لاخلٌّ، لارفيق).
إن الصديق مصدر من مصادر الحميمية والطمأنينة ويعزَّز الاستمرارية في الحياة، وهو من العوامل الهامة في استقرار (الأنا) إذا تطورت العلاقة معه ليصبح (خلاًّ)، وهكذا يشكل البحث عن (الصديق) في النص السابق بحثاً عن قيمة اجتماعية إيجابية، بل عن عالم أكثر إنسانية ومرونة.
لقد كثر في النص أيضاً استخدام صيغ النفي والتقهقر (لاخلٌّ، لارفيق، ماخنتُ، التنكر، العقوق، الغريق، أنثني)، ولعلها صيغٌ تفسِّر تراجع (الأنا) وانغماسها في الحزن والغربة، فحرفُ النفي (لا) ضربة مؤلمة للشعور بالأمل وبالوصول إلى نتيجة سعيدة، وجاء الفعل (أنثني) ليسوق لنا كيف حاولت الشاعرة إضفاء بعض المرونة على سلوكها كي تتواصل مع الآخر، إلاّ أن ذلك الآخر رفض حبل التواصل، ويمكن أن يؤدي الفعل (أنثني) معنى (التورية) التي قامت بها (أنا) الشاعرة لاستقطاب الصديق والخليل بشكلٍ لاتصبح معه (التورية) تنازلاً من (الأنا) عن حقوقها.
جـ- علاقة المغترب العدمي بالمرأة:
"لقد فهم الرومانطيقيون الحب على أنه شعور سماوي أخوي، يعتمد على صفاء الروح وطهر المشاعر يتخذ حالة من الشرود، وأحياناً أخرى حالة من الوصال اللاوعي وثالثة يتخذ لغةً غير مفهومة لأن أصحابها هم أيضاً عاجزون عن ترجمتها، وقد اتخذ لدى البعض نوعاً من أنواع العبادة الخالصة تطوَّرت فيما بعد إلى حالة صوفية خالصة"(1).
__________
(1) الأيوبي، ياسين، 1980، مذاهب الأدب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ص119.(1/59)
كانت المرأة عند (نديم محمد) مخلِّصاً لا يُنال، وكانت عند (علي دمر) أحد جوانب حرمانه واغترابه عن المجتمع، غير أن هذا الحرمان يتراجع عند (عمر أبي ريشة) فقد "عاشت المرأة في حياة عمر بكل عطرها وطيبها، وعاش شعره يتلفّت إلى شذاها وهمسها، فكان له معه انتصارات تركتْ على هيكله الشعري كتابات كثيرة كالأساطير في ملاحم الهوى والحب، وخلَّفتْ في قلبه وجسمه جراحات باسمة وقاتمة رسمها عمر كأمير في الحب"(1).
أما موقف (عبد الباسط الصوفي) من المرأة فإنه يشير إلى أن "نزق الصوفي يسعى إلى البديل، وثورته الداخلية، تبحث عن واحة تستظل بها، يبترد في ينبوعها ويطفئ نيران إحساسه في صفائها وصدقها، ولذلك كان يتوجه كرومانتيكي أصيل إلى الطفولة حيناً والطبيعة أخرى والمرأة ثالثة، وهذه هي منابع الحلم والعودة عند الرومانتيكين عامة، وموقف الصوفي من الحبِّ تجسيدٌ عنيف للتطرف، لذلك كانت المرأة تأخذ وصفاً متأرجحاً مقلقاً في شعره فهي مرة معبودة يسجد لها، وأخرى شيطانة رجيمة آثمة يصبُّ عليها أقسى لعناته، وهي مرة معشوقة منقذة تمنحه الجرأة والحياة والتفتح، وأخرى جسد يُشْتَهي ويخون حيث يترك للشاعر الجراح والشحوب والانهيار، وموقف الصوفي من المرأة له نفس الناظم يحمل آراءه وأفكاره وتصوراته تجاه العالم وموجوداته وأحداثه"(2).
والكبتُ بشكل عام هو القاسم المشترك الذي يجمع بين الشعراء الرومانتيكيين في موقفهم من المرأة وبمقدورنا أن نستوضح هذا الكبت من خلال دراستنا للنصوص الشعرية.
تتوزع المرأة في نصوص الصوفي بين (الأنثى الحبيبة) و (الأم) حضن الطفولة والحنان.
1-الأنثى الحبيبة:
__________
(1) الدهان، سامي، الشعراء الأعلام في سورية، ص335.
(2) خنسة، وفيق، دراسات في الشعر السوري الحديث، ص105.(1/60)
تحدثنا آنفاً عن موقف الصوفي من المرأة ورأينا ترجُّحَ موقفه منها ونقف عند قصيدة له بعنوان (ذهول) يقول فيها:(1)
من تكونين؟ كيف أشرقت في عينـ
ي خيالاً؟ وكيف أظلمْتِ عمقاً ... (مدور)
ما شكا الفجر من فتونك إطرا
قاً ولا غصَّ من حيائِك شوقاً ... ... (مدور)
أمسكَ الجرحُ بسمةً في شفاهي
ثم أغفى وذاب أفقاً فأفقاً
يطرح النص المرأة على أنها منقذة من العدمية، وأنها أملٌ، غير أن السياق الاجتماعي المعيش، الذي فرض على الصوفي وشكّل غربته حال دون إتمام عملية الإنقاذ وهذا ماتجسد في الأبيات من خلال تركيب (أمسك الجرح بسمة).
على الرغم من أن (الجرح) معرف (بأل) التعريف، إلا أنه بقي في حيِّز المجهول والإطلاق والاحتمالات وبوسعنا أن نستنتج أن (الجرح) هنا هو مجموعة من المكبوتات وأصناف القمع والغربة التي تعرَّض لها الشاعر فجاء تكثيفاً لها.
يشهد البيت الأول ثلاثة تساؤلات (من تكونينَ، كيف أشرقتِ، كيف أظلمتِ)؟ وتحمل هذه التساؤلات استغراباً جميلاً مدهشاً من الشاعر، فإشراقُ الأنثى في ظروف تدعو إلى العدمية يخفِّف من الألم والعذاب، ولكن (الصوفي) أدرك أن ذلك الإشراق لن يدوم ولن يُكْتَبَ له الاستقرار نتيجة الموانع الخارجية البيئية، ذلك أن الأسئلة الثلاثة تعبير عن مسيرة حياة مصغّرة، فالسؤال الأول (من تكونين؟) آت للتعريف بالأنثى وكشْف الستار عنها وعن ماهيتها، أما السؤال الثاني فلاحقٌ للأول (كيف أشرقت؟) ثم يجيء السؤال الثالث (كيف أظلمتِ؟) ليشير إلى العدمية وانكسار النفس بعنف.
__________
(1) الصوفي، عبد الباسط، آثار عبد الباسط الصوفي، ص78(1/61)
لم يأت الإغفاء في تركيب (أمسك الجرحُ بسمةً في شفاهي ثم أغفى) بمعنى النوم، بل جاء ليعزِّز كلامنا السابق في أن (الجرح) مجموعة من الكبوتات، فالإغفاءُ جاء بمعنى (الترسُّب)، أي (ترسُّب) تلك المكبوتات، وهذا مايفرضه سياق الأبيات بإلحاح، ثم إن الذوبان في (ذاب أفقاً فأفقاً) لم يأتِ بمعنى (الانعدام) بل بمعنى (التفشِّي)، أي تفشى الجرح وترسَّب.
2-الأم حضن الطفولة:
للمرأة (الأم) نصيب في شعر (عبد الباسط الصوفي) فهي الحضن لكل خير وعطاء، وأما رحيلها فرحيلٌ للأمل كله، وبدايةٌ للشقاء والعذاب، فنراه يقول في قصيدة له بعنوان (أم)(1):
أنا قربَ السرير، أنسج يا أمَ.
أمانيَّ من شحوب المساء ... ... (مدور)
وغداً أنزوي، وتمشين للقبر
وتصحو الخطى، على أشلائي ... (مدور)
أيُّ نجمِ، هناك في الأفق النائي
ترامى... على ذيول السماء؟ ... (مدور)
أين كفاك؟ لوّحي بالدعاءِ
السمح، أو فامسحي نزيف الدعاءِ ... (مدور)
اسْنديني، هنا تكفكفَ فجرُ
الروح، وامتد عالم من شقاء ... (مدور)
وهنا في انسراح دنياك جفّتْ
أغنياتي، وأُجفِلَتْ كبريائي
وبعينيَّ مابعينيك يا أمُ
جراحٌ تنام خلف الدماءِ ... ... (مدور)
وتحاملتُ للسرير، وضلّتْ
رعشاتي على ضلوع الشتاءِ
يضع عبد الباسط الصوفي (الأم) مقابل العدم، لما تحمله من معان تصبُّ في نهر الحياة، فمجرّد ذكر الأم هو حنين خفي إلى الطفولة، وتحديد المكان في بداية الأبيات (أنا قرب السرير) وارتباطه بالأم يوطِّد الحالة (اللاشعورية) بالحنين إلى الطفولة والماضي البعيد.
__________
(1) الصوفي، عبد الباسط، آثار عبد الباسط الصوفي، ص7-8.(1/62)
إن سياق الأبيات يفضي إلى انهيار شديد وتدهور نفسي باتجاه العدمية، لأن الإحساس بديمومة الأم كعامل من عوامل الخلاص قد تضاءل (وغداً أنزوي، وتمشين إلى القبر)، حتى أن تلك العدمية قد انسحبتْ على الأم ذاتها، حيث انعكس شعور (الصوفي) بهذه العدمية على ماحوله (وبعينيّ مابعينيك يا أم، جراح تنام خلف الدماء) فأصبح كل مايفعله هباء منثوراً، ويحيل على عمل عبثي (أنسج أمانيَّ من شحوب المساء) وبالتالي يحيل على الاغتراب، لأن الأم تحمل قيماً سامية عليا (الحنان، العطاء، الخير، الرحمة، الخ...)، وإن رحيل الأم يعني رحيلاً لتلك القيم العليا مضافاً إليها تلك القيم التي رحلتْ عن المجتمع، والتي أشرنا إليها سابقاً.
لم تستطع الأم (كبديل للتناقضات الموجودة على ساحة الواقع) أن تخفِّف من نزق (الصوفي) وصراعه الداخلي المرير، وهذا ماصوَّرته اللغة المستخدمة في النص، فالتوليد الذي شهدته الصورة الشعرية جاء تعبيراً عن الحالة وموضِّحاً لجزئيات الحدث النفسي (تصحو الخطى على أشلائي، هنا تكفكفَ فجرُ الروح)، وإنه لمن الأهمية بمكان أن نقف عند تركيب (جراح تنام خلف الدماء) فنستخلص منه الأبعاد النفسية لحياة (الصوفي)، وقد خصَّصْنا هذا التركيب بالاختيار لما يحمله من غرابة وطاقة نفسية إيحائية عالية.
يظن المرء لأول مرة أن (الدماء) هي (الجراح) ذاتها أو أن الدماء وليدة من الجراح، بيد أن الجراح أضحتْ في قاموس (الصوفي) تعني المواقف السلبية الحادة التي هزتْ كيانه، مضافاً إليها مختلف أنواع الكبت والحرمان الاجتماعيين، فالرؤيا التي تقوم عليها حياة (الصوفي) لاتؤمن بمستقبل مشرق أو خلاص قريب بل تقوم على اللاجدوى وعلى الموت الذي يلف الحياة.
قبل أن ننتهي من الحديث عن (المغترب العدمي) نشير إلى أن هناك شعراء آخرين في المدرسة الرومانتيكية قد طرحوا (المغترب القيمي) ومنهم الشاعر (علي دمر)(1)
__________
(1) يقول علي دمر في قصيدة (دوزنة):
نظرتُ لواقعي ففزعتُ منه ... مآس لاتحبَّر في مقال
رنوتُ لواقعي فهربتُ منه ... إلى كون زهي في خيالي
... 1959/ ديوان المجهولة / مطبعة الإصلاح، بيروت، ص9.(1/63)
الذي تعرَّض في حياته لنوعين من الحرمان: الأول عاطفي والثاني إنساني محض يعتمد على استعباد الفرد للفرد الآخر، لذا فإن سمات (المعذب) عنده تنطلق من هذين النوعين من الحرمان.
أما الشاعر اللبناني (الأخطل الصغير) فإن مفهوم (المعذب) بوصفه قيمة جمالية لم يتبلور في نصوصه، حيث يعرض الشاعر في قصائده للمغترب بمفهوم (المهاجر)(1)، إذ يشكل الاغتراب عن الوطن (مكان النشأة) انعكاساً سلبياً على الذات، فالفرد تربَّى على مجموعة من القيم الاجتماعية وعايش ظروفاً تختلف عن تلك التي سيراها في الغربة.
إن المغترب المهاجر ليس معذّباً بالضرورة إلا إذا توافرت عدة شروط في الهجرة: الصفة القهرية للهجرة، ديمومة الهجرة، تأزم الحالة النفسية للفرد المغترب، فقدان الأمل بالعودة، ومن ثم العجز أمام وطأة القيم الجديدة.
ثم إن اللغة التي جاء بها (الأخطل الصغير) في حديثه عن الاغتراب (كما في قصيدة المهاجر) تعود بحاملها الاجتماعي إلى عصور سابقة في تاريخ الشعر العربي، فهي على الصعيد النفسي تُظهر تقاطع (أنا) الشاعر مع (أنا) شعراء آخرين إن كان في المدرسة الإحيائية أو في النصوص الشعرية القديمة (الشعر الجاهلي، الشعر الإسلامي).
كما أن الشاعر (عمر أبا ريشة) لم يتوضَّح عنده /المعذب/، ولم يظهر في نصوصه ويمكن رد ذلك لظروفه الاجتماعية، أما ما نراه من تشاؤم في بعض قصائده فمردُّه إلى التأثر بالأدب المهجري والثقافات الغربية ومسايرة الركب الرومانتيكي، فحياةُ عمر أبي ريشة تكاد تكون مستقرة إلى حد كبير، ومن هنا لايمكن أن يكون عمر أبو ريشة معذَّباً حيث تألق هذا الشاعر في إبراز المفاهيم الجمالية المشرقة (الجميل، البطولي،....).
__________
(1) يقول الأخطل الصغير في قصيدة له بعنوان /المهاجر/
أشجاكَ أنك رائح لاترجعُ
وهواكَ والأوطانُ بعدك بلقَعُ
متلفِّتٌ.. ماتبتغي؟ متوجعُ
ماتشتكي؟ متنصت ماتَسْمَعُ
1972، الديوان، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت، ص29.(1/64)
وكان هناك شعراء واكبوا المدرسة الرومانتيكية والمدرسة الحديثة في الشعر إلا أنهم حافظوا على طابع المدرسة الإحيائية ومنهم محمد الفراتي، وبدر الدين الحامد، وسعيد قندقجي حيث طرحوا في بعض قصائدهم مسألة (الاغتراب القيمي)(1)ولم يكن مفهوم /المعذب/ أساسياً في قصائدهم.
2-النموذج السوداوي المازوخي:
إذا كان الجانب القيمي هو البارز في النموذج (المغترب العدمي)، فإن الجانب النفسي هو الواضح في النموذج (السوداوي المازوخي).
إننا الآن أيضاً أمام مصطلحين هما (السوداوية) و (المازوخية) ولابد من الوقوف عندهما لبعض الوقت "فالتعريف الشائع للمازوخية أنها البحث عن اللذة بواسطة الألم، وقد يكون هذا الألم جسمياً كأنْ يعذِّب الإنسان نفسه، أو أن يعذبها بواسطة الآخر، وقد يكون الألم وجدانياً، فتنبعث عندئذ أعراض شائعة جداً كالحاجة إلى أن يشعر بالصَّغار، وأن يحط من قدره وكالحاجة إلى أن يضع نفسه في موضع (أدنى) من الآخرين، وأن يمضي مغلوباً والحاجة اللاشعورية إلى الإخفاق وإلى معاقبة النفس وإلى أن يكون موضع العقاب لابدافع الإحساس بالعدالة بل ليكون موضع الغفران فيما بعد، أي، أن يكون مجدداً موضع الاعتراف والحب"(2).
__________
(1) يقول سعيد قندقجي:
وأرى الناس ليتني أكتم الجرحَ بصدري كأنهم ديدان
لاتلمْني إذا قسوتُ وما كنت ظلوماً وحوليَ الذئبان
ليس ينجيك خافقٌ يعزف الطهر على سمعهم ولا الإسان
(د-تا) ديوان رحلة الضياع، منشورات دار الثقافة، دمشق، ص50.
(2) داكو، بيير، 1985، تفسير الأحلام، تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق، ص97.(1/65)
و(المازوخية) بعكس (السادية) التي تعني التلذذ بألم الآخرين "بيد أن المازوكية ليست سوى لون من ألوان السادية الأولى، لذة الأم للذات، والثانية لذة الألم للآخرين ومن الممكن أن تنقلب المازوكية إلى سادية في أي لحظة، كما أن من الممكن أن تنقلب السادية إلى مازوكية في أية لحظة، بل يمكن أن تتجلى الظاهرتان في نشاط الفرد الواحد، وبقدر مايكون الفرد متطرفاً في مازوكيته يكون متطرفاً في ساديته، ليس باعتباره شاذاً وإنما باعتباره ذا شحنة عصبية شديدة الحساسية"(1).
ويتابع الناقد (حنا عبود) توضيح العلاقة بين السادية والمازوخية في كتابه (النحل البري والعسل المر) حيث يقول: فعندما "لاتجد السادية موضوعاً تتجه إليه تنقلب إلى الذات لتجعلها فريستها. ولكن عدم وجود موضوع خارجي أمر مستحيل، كلُّ مافي الأمر أن الموضوع الخارجي قد يكون من القوة بحيث يسبب إحباطاً شديداً، لأنه هو الآخر سادي النزعة، في هذه الحالة تسمى السادية باسم آخر هو المازوكية التي ليست أكثر من حالة آنية من حالات السادية، وبما أن المازوكية حالة من حالات السادية فإنها أيضاً سلاح من أسلحة الدفاع عن الذات، فالمذنب أو المقصِّر أو المتخاذل أو العاشق أو.. عندما يفشل في تحقيق مشاعره السادية أو عندما يكون الموضوع أكبر من طاقته، أو عندما لايحقق بالسادية مبتغاه، ينقلب على نفسه يعذبها أو يؤنبها، أو يجعلها ضمن كابوس معين كنوع من التطهير"(2).
__________
(1) عبود، حنا، النحل البري والعسل المر. ص59.
(2) المرجع السابق، ص60-61.(1/66)
من المفترض أن نشير إلى مسألة على جانب كبير من الأهمية، وهي أن (المازوخي) في ذاته لايشكل معذباً، إلا إذا كانت الحياة الاجتماعية والأجواء العامة للشاعر (المازوخي) ذات طبيعة تحيل على قيمة (المعذب) كظاهرة جمالية، أي أنه يتوجّب على المازوخية أن تترافق بحياةٍ سوداوية أو مغتربة أو معدومة حتى يتحقّق شرط العذاب، فالآلام والتلذذ بها لايصنعان عذاباً، بل لابد أن تكون تلك الآلام موجودة في حضن السوداوية.
والاغتراب والاستلاب من التجليات التي تتلازم وقيمة /المعذب/، وأن تصبح تلك التجليات متأصلة وتشغل حيزاً كبيراً من حياة الشاعر إلى حد نفسي متأزم، وعندها يصبح للآلام وضعٌ آخر "فعندما تنتهب نفسَ الشاعر الآلام، يجد عوضاً عنها تلك اللذة التي يستمتع بها وهو في نشوة الوحي، وفي هذه النشوة يكمن مرض الشاعر ودواؤه ولابد أن يعني هذا أنه بسبب تلك الآلام كان الوحي، ومع الوحي كانت النشوة، أي أن المعاناة كانت السبيل إلى الوحي، أي الإبداع وكان الإبداع وسيلة لإخضاع تلك الآلام والتلذذ بها، فلولا الآلام ماكان الوحي ولولا الوحي ماكانت اللذة، فإن كان هذا ليؤكد شيئاً فإنه يؤكد تلك العلاقة السببية بين عصاب الفنان وقدرته على الإبداع"(1).
أما (السوداوية) فهي مرحلة متقدمة من (التشاؤم) فلا يشكِّل التشاؤم في ذاته سمة من سمات المعذب إلا إذا تضخم وصار قريباً من الهاجس وتطبع فيه الشاعر، فالسوداوي يتوقع أسوأ الاحتمالات في الأفعال عبر الأحداث التي تجري وستجري على أرض الواقع، وينظر إلى تلك الأفعال دائماً على أنها مصائب وويلات ويغيب التفاؤل عن دائرة تفكيره، ولاتنشأ السوداوية مصادفة أو عن عبث، بل تتأسس على جملة من الظروف والصدمات القاهرة للفرد، وغالباً مايكون المجتمع سبباً رئيسياً في تلك السوداوية.
__________
(1) اسماعيل، عز الدين، 1963، التفسير النفسي للأداب، دار المعارف، القاهرة، ص29-30.(1/67)
وقد تكون الحوادث التي تصيب الحياة الأسرية من وفاة أو فقدان لعزيز سبباً من أسباب تلك الظاهرة النفسية، وربما تنشأ السوداوية أيضاً من تفكير المرء بالجزئيات التي يقوم عليها تركيب هذا الكون والتدقيق والتمحيص في خوافيها، فيقعد عاجزاً عن ملاحقة المجهول والغامض منها ويتداخل القلق بالسوداوية، بل إن السوداوي قلقٌ بالضرورة، ولكن القلق ليس بالضرورة سوداوياً إلا إذا تعاظم لديه القلق وصار يشغل حيزاً هاماً من طبيعته النفسية، أما صور (السوداوي المازوخي) في المدرسة الرومانتيكية فقد تجلّت على الشكل التالي:
أ- صور الحرمان العاطفي:
نستهل حديثنا في هذا الجانب بالوقوف عند الشاعر (نديم محمد)، الذي يبدو أنه تعرّض في سن مبكرة لانتكاسة عاطفية، إضافة إلى الكبت الذي رافقه طوال سن المراهقة وهو في أوج نشاطه وحيويته، فكانت تقاليد المجتمع وتزّمت أفراده عامل قمعٍ واحتباس لقدرات الشاعر ورغباته، وقد أشار إلى ذلك في مقدمة ديوانه فراشات وعناكب فقال: "واستعرَ جحيمُ الكبت في صدري حتى أحسست له مخالب ونيوباً تجرح وتمزّق وانهملت على جراحاتي لسعاتُ الحبِّ فكانت هذه ضرماً فوق ضرم"(1)- وتعرض أيضاً لهزتين عنيفتين أسهمتا في تعميق البعد السوداوي لديه إذ يضيف قائلاً "وجاءت وفاة والدي هزةً مادت بها الأرض من تحتي، وقصفاً تخلَّعت منه أعصابي، وانفجرت بعد سنين أكبر حادثة مدمرة في حياتي هي: فجيعتي بأخي الصغير"(2)- ويتابع أيضاً قائلاً "وعشتُ لأرى القبح النفسي، وأشهد الكره الرخيص، عشتُ لألمس الكذب في القول والغشّ في المعاملة والسرقة، عشت، لتصدّع قلبي وتطرف عيني مناظر الخيانة وتجارة المبادئ وبطولة الجبناء"(3).
__________
(1) محمد، نديم، 1985، ديوان فراشات وعناكب، ط2، دار الحقائق للطباعة والنشر، بيروت، ص9.
(2) المصدر ذاته، ص11.
(3) المصدر ذاته، ص12.(1/68)
ومهما يكن مصدر السوداوية وسببها عند أي شاعر كفرد من الأفراد، فإنها تعمُّ لتشمل كل مناحي الحياة لديه، وبمعنى أوضح: إن السوداوية الناتجة عن انتكاسة عاطفية -على سبيل المثال- أدى أحد الأفراد تؤدي بذلك الفرد إلى فقدان الثقة بالآخر، حتى لو كان ذلك الآخر مصدر خيرٍ وعطاء، وربما يتطور فقدان الثقة ليشمل الحياة برّمتها بحيث يصبح لاشعور الفرد بؤرةً ومصدراً للخلل والقلاقل وتقوم (الأنا) بتحويل كل مالديها إلى صور قاتمة قبل مرورها إلى اللاشعور، الذي اعتاد على مثل تلك الصور.
يقول نديم محمد في قصيدة /النشيد الأول/ من ديوان /آلام/:(1)
هبَّ من وحشة السنين غرامي ... وأفاقت من غفْوها آلامي
أيُّ ذئب مهمهم الشدْق في صد ... ري وسهم ممزِّق وضرام؟(مدور)
هدرةٌ في جراح نفسي وجوعٌ ... ينهش الحسَّ بالنيوب الدوامي
وتفحُّ الأوجاع ملء ضلوعي ... كالثعابين في الرمال الظوامي
فدعوني أعصرْ من الخمر في جر ... حي فينشى بالخمر جرحُ غرامي (مدور)
جاءت كلمة (غرامي) مفتاحاً أساسياً للنص، وارتبطت تلك الكلمة بذكرى لاتخلو من الألم والحزن، ومن ثم الحرمان فتقطّعت السبل بين الشاعر ومصدر راحته وطمأنينته متمثلاً بالأنثى، وانسحبت تلك القطيعة إلى حياة الشاعر كلها لتملأها عناءً وسوداوية وتجلّت، مظاهر المازوخية بدءاً من البيت الثاني وانتهاءً بنهاية البيت الرابع، ذلك أن هناك مبالغة في توصيف ألم الذات، ويبدو أن هناك صورة قاسية لتعذيب تلك الذات (هدرةٌ في جراح نفسي، جوع ينهش الحسَّ، ذئب مهمهم الشدق في صدري، تفحُّ الأوجاع ملء ضلوعي..).
__________
(1) محمد، نديم، 1985، ديوان آلام، ط2، دار الحقائق للطباعة والنشر، بيروت، ص13.(1/69)
لقد بدت الأنثى عند (نديم محمد) من خلال النص مخلَّصاً، ولكن لاينال فأوجد لها معادلاً وأقنع نفسه أن ذلك المعادل قد ينقذه مما هو فيه، وتمثل بالخمرة أما مهمة الخمرة فتنحصر في إيجاد التوازن لـ (أنا) الشاعر، ولايتم التوازن إلا بنسيان المشكلة والانتقال إلى أجواء وعوالم أخرى حيث تهيء الخمرة لوجود تلك العوالم إلا أن (اللاشعور) يظل محتفظاً بالمعضلة الموجودة عند الشاعر (الحرمان العاطفي)، وليس بالإمكان التخلص منها، لأن المعادل الموضوع لها لايؤمن جانبه.
من الملاحظ في النص أن (الهوة) كبرت بين الفنان الشاعر وبين الحفاظ على ذاته مستقرة، واستفحلت الحالة والأزمة فجاء تركيب (جوع ينهش الحسَّ) ليشدَّ إحساسنا إلى قوة تلك الهوة، فالجوع ضد الشبع، لذلك فإن نهاية هذا الجوع هي الموت الأكيد وهو ظاهرة ضد الطمأنينة والاستقرار والحياة، فيأتي مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالهوة التي تفصل الشاعر عن مبتغاه من جهة وصار يؤدي معنى (الكبت) من جهة ثانية.
إن (الكبت) في الأصل هو منع رغبة من الرغبات أن تتحقق على أرض الواقع، فينشأ الجوع إلى إشباع تلك الرغبة، ويصبح مزمناً كلما امتد الزمن وبالفعل فإنه مزمن عند (نديم محمد) بما أنه (ينهش الحس) لديه، والكبتُ دافع لاشعوري بعكس (الكبح) الذي يدل على قوة الإرادة عند شخص ما أو على عدمها.(1/70)
كان الفارق الزمني في النص واضحاً بين لحظة الكبت ولحظة خروجه على شكل حلم (النص الشعري أو الشحنة التفريغية)، فالبيت الأول يؤسّس لهذا الفارق الزمني (هبّ من وحشة السنين غرامي، وأفاقت من غفوها آلامي) ولعل تلك اللحظة الأولى هي الصدمة أو بداية تكوين المشكلة (الحرمان العاطفي)، ثم إن الجواء المطروحة في الأبيات تعمّق الإحساس بالحرمان والسوداوية ومن ثم الموت، فهي قريبة من الجواء الصحراوية التي تشعر المرء بالجفاف واضمحلال المياه وقحل الطبيعة ووجود الذئاب والأفاعي، وغابت عن الجواء معطيات الخصب الانفراج، كوجود الماء والأشجار، حيث يحيلنا تركيب (سهم ممزّق) على وجود صراع ومعركة قاسية بين نقيضين، فتحول الصراع الكائن بين الشاعر واستقراره العاطفي إلى صراع كائن مع الحياة، لأنها مصدر كل الشرور والمتاعب التي تحدُث له، حيث تصاعدت الحالة الشعورية في النص من الاستيقاظ إلى الصراع مع العناصر التي أفاقت لدى الشاعر، (الآلام، هدرة الجراح، الأوجاع، الحس) وما رافقها من صور حركية (هبّ غرامي، سهم ممزَّق، جوع ينهش الحس) وانتهت تلك الحالة بمحاولة الشاعر إيجاد معادل لحالته -كما أشرنا سابقاً- ليقيم توازنه، وتمثل بالخمرة والظمأ إليها في البيت الأخير (فدعوني أعصر من الخمر في جروحي فينشى).(1/71)
استخدم الشاعر في لغته تراكيب ومفردات قاسية (ذئب مهمهم الشدق، ضرام، هدرة، ينهش، النيوب الدوامي، الظوامي، الخ...) فبسط هذه المفردات والتراكيب كردة فعل على فعل قاس، لذلك لم يكن استخدام تلك اللغة عشوائياً، ولعل الجرح العميق الذي يحمله (نديم محمد) يحتاج إلى ردم، فجاء الأسلوب ليحاول ترتيب الأشياء المفقودة لديه وسدَّ الثغرات ما أمكن ذلك، ولذا جاء موحياً بالسوداوية على صعيد الحالة ومعززاً لمظاهر المازوخية، فالاحتمالات التي يوحي بها النص عبر صوره تصبُّ في إطار السوداوية والشعور الحاد بالألم، وكمثال على ذلك يضعنا التساؤل في (أيُّ ذئب مهمهم الشدق في صدري) أمام احتمالات، إلا أن هذه الاحتمالات جميعها تصبُّ في معنى واحد وهو التآكل الحاصل لذات الشاعر.
صحيح أن (أي) أداة استفهام تفيد التكثير والاستفسار عن المجهول غير أن اقترانها بكلمة (ذئب)، قد صبَّ جميع الاستفسارات في منحى تلك الكلمة وأبعادها (انتكاسات متكرِّرة، ضغوطات نفسية، صدمات يومية، غذابات دائمة، إلخ)..
وأخيراً فإن (نديم محمد) تعامل مع مفردات الخارج تعاملاً ذاتياً كشاعر رومانتيكي، بإسقاطها على الذات بصورة عميقة (ذئب، سهم، نيوب، ثعابين)، فصارت كأنها من مكوِّنات جسده ودمه، ولكنها مع مرور الأيام تحوَّلت إلى شيء خبيث يهدم ذاته وإحساسه، فالشاعر فاقدُ الثقة بالخلاص، وقد ارتبطت سوداويته ارتباطاً عميقاً بالضياع، فكانت الخمرة ملجأه الأخير، عساها تنسيه ولو لبعض الوقت كآبات هذا العالم وكوارثه، إنها وجهة نظر فيما يحدث حوله وقد حافظ على هذه الوجهة في معظم نصوصه الشعرية، ولعل السوداوية بمصادرها وأشكالها تعدّ وجهة نظرٍ قهرية، لا يستطيع المرء الإفلات منها، فتصبح سلطة قمعية تمنع المرء من إدراك متطلباته.(1/72)
ويظهر (الصِّغار) كأحد مظاهر المازوخية في بعض نصوص (نديم محمد) الأخرى، وهو صغار مرتبط بالعلاقة مع المرأة، تجسيداً لحالة الحرمان العاطفي لديه، وقد ترافق هذا الصغار باستخدام قاس للجسد بالتعامل معه بصورة غير مألوفة، وإضافة إلى ذلك دخلت المرأة إلى حيز الألوهية لديه إذ يقول في قصيدة له بعنوان (النشيد السادس) من ديوان آلام(1):
فاسأليني ذلّي ألمٌ جناحي ... وأهوي إلى قرار مهين (مدور)
اسأليني إحراق نفسي أمزّقها ... بظفري.. وألقها في أتون (مدور)
اسأليني موتي أسلُّ من الصدر ... فؤادي.. وأعطهِ للمنون (مدور)
يشهد النص استخداماً قاسياً لأجزاء الجسد قرباناً للمرأة حيث تكمن (الظواهر المازوخية) في هذا الصَّغار أمام الأنثى إلى حد تأليهها.
ويترافق هذا الصغار والخضوع بمبالغة كبيرة في وصف الهلاك الجسدي إلى مرحلة الانعدام، إن هذه المبالغة ردة فعل على الهوة العميقة (الحرمان) التي تفصل الشاعر عن (الأنثى) كصورة من صور الكبت الرئيسة لديه، ومن ثم مهدّ لظهور السوداوية.
إن الطلب من الأنثى -من خلال الأبيات- أن تتمنى أي شيء له صلة بحياة الشاعر، هو في ذاته محاولةٌ للتوازن ولو بشكل نسبي، وذلُّ النفس وإحراقها وتمزيقها أعمال على قدر كبير من الأهمية، لما تحمله من الاستقرار والراحة في وجه (الحرمان).
وللشاعر قصائد أخرى كثيرة في هذا الجانب(2)
__________
(1) محمد نديم، ديوان آلام ص43-44.
(2) من هذه القصائد قصيدة /النشيد التاسع/ من ديوان آلام ص 95
يا شعوري يا حية تنفث السم ... فيجري في القلب من ألف ناب (مدور)
كبرت فيك علتي وتناهى ... فيك حزني وطال فيك عذابي
وأكبّت عليك روحي فأسقتك ... دمائي وأطعمتك شبابي (مدور)
أيُّ عرق لم تلتهمه وعظمٍ ... لم ترعه بعاصف أو شهاب؟(مدور)
شهدَ الحب ما تركت لأثوابي ... من الجسم غير جلدٍ خراب (مدور)
أعطني في الهوى شراباً حميماً ... واعصرِ السم ناقعاً في شرابي(مدور)
واخنقِ الشهوة البريئة في نفسي ... ومزّق بمخلبيك رغابي (مدور)(1/73)
تتحدث عن علاقته بالأنثى وما الأثر الذي تركته الأنثى في نفسيته بعد غيابها.
ثمة فوارق جوهرية بين وضع المرأة عند (المغترب العدمي) وبين وضعها عند (السوداوي المازوخي)، من خلال النصوص الشعرية، فـ (السوداوي المازوخي) يعرض أثر الحرمان العاطفي على نفسيته مباشرة، فيصف جزئيات حالته ويتلذذ بآلامه لذلك تظهر سمات (المازوخي) عند هذا (السوداوي)، حتى أن المتلقي لأول وهلة يظن أن الشاعر يعرّي ذاته إلى أن يصرح أن حرمانه العاطفي هو سبب تعريته لذاته، بيد أن (المغترب العدمي) يصرح بالأنثى ويصف اغترابه عنها مباشرة، كما لاحظنا في نص (الصوفي) الذي بعنوان (ذهول) حيث يتراجع توصيف جزئيات الجسد وتتراجع أيضاً المبالغة في وصف دقائق الحالة النفسية.
ب- صورة الكآبة:
في هذا الجانب يحطُّ بنا الركب في لبنان، حيث "جاء (صلاح لبكي) والشعر في لبنان في أزمة انتقال وتطُّورٍ أثارتها فئة من اللبنانين قد تغذوا بثقافة أجنبية في هذا البلد نفسه أو في البلدان الغربية، وراحوا يرون في الشعر غير ما كان يراه اللبنانيون قبل الحرب العالمية الأولى، وقالوا: إن الشعر الخطابي ليس شعراً فقضوا على المدح والرثاء والفخر، وقالوا: إن الشعر حديث نفساني وحوار داخلي وصنيع فني هدفه الجمال ومنبعه الإيحاء واللاوعي، واشترطوا فيه الصفاء والإخلاص والموسيقى"(1)، ويبدو أنَّ الشاعر قد وجد في هذه الآراء ضالته، فأدرك أن احتياجاته النفسية تتلاءم معها في وضع بيئي متأزم على مختلف الصعد.
__________
(1) لبكي، صلاح 1981 مقدمة المجموعة الكاملة - المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ص 7.(1/74)
ومال إلى استخدام الرمز كوسيلة لتعميق الحالة النفسية والتمويه على العجز في المحيط حوله، فالشعر لديه "سكبُ روحٍ موجعة، بنغم موجع. وبينا يعاني (عقل) معضلة الخلق المنحوت، ينبسط صلاح لبكي في حياة داخلية مرسلة تتحقق في صوت، ولكنه صوت لا يبلغ الصراخ لأنه لا يتعدَّى دائرة الأنين"(1).
إذا ما أردنا أن نضع معياراً لسوداوية (صلاح لبكي) كما جاءت في نصوصه الشعرية، فإن الكآبة الصادرة عن الأنين هي الشائعة في قصائده وهي الأساس والمعيار للسوداوية لديه، فـ "الكآبة حالة وجدانية سببها ألم معنوي، وتتجلى الكآبة بنحول في قسمات الوجه وانخفاض في نقاط التقاء الأعضاء وبطء في الوظائف الإعاشية وانطواء على الذات، الخ. وقد تكون الكآبة ناجمة عن صدمة انفعالية. تخلق دموعاً تنسكب مدراراً، كما تسبب البلبلة والهياج"(2)
نقف عند مقطوعة (لصلاح لبكي) من قصيدة بعنوان (سويداء) يقول فيها:(3)
يغمر الحزن فؤادي مثلما ... يغمر الوحي قلوب الأنبياء
فالكآبات على أنواعها ... خطبتني وأقامت في سمائي
فإذا ما ذهب الفجر بها ... حملتها لي أنفاس المساء
أنا قد أصبحتُ حزناً فهي إنْ ... ذهبتْ أو لا على حد سواء
__________
(1) كرم، أنطون غطاس 1949 الرمزية والأدب العربي الحديث، دار الكشاف، بيروت ص 174.
(2) داكو بيير، الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث ج2 ص 292-293
(3) لبكي، صلاح، المجموعة الكاملة / ديوان أرجوحة القمر/ ص 56(1/75)
إن الحزن والكآبة ظاهرتان نفسيتان، غير أن الحزن وحده لا يصنع (معذباً) إلا إذا ترافق بظواهر نفسية أكثر حدة، حيث (الكآبة) لا بد لها أن تنطوي على الحزن، بيد أن العكس ليس صحيحاً، وهي حالة وجدانية تؤدي إلى تعطيل إرادة الفرد المصاب عن القيام بعمل فعَّال على ساحة الواقع، إلا أن الحزين ليس بالضرورة معطل الإرادة، فالكآبات التي وردت في النص ساندت (الحزن) بقوة لإظهار السوداوية في أكثر صورها قتامة، ولكن (الحزن) في البيت الأخير قد صار مرضاً واستحوذ على زمن الشاعر كله وقد ضاهى بعنفه (الكآبات) المطروحة، لهذا فإن زوال هذه الكآبات أو بقاءها لا يؤثر في تلك السوداوية بحسب قول الشاعر، ثم إن (الكآبات) بأنواعها والكآبات التي ذكرها الشاعر في قوله: (فالكآبات على أنواعها خطبتني) هي محاولة لتضخيم الألم، وقد تبّدى هذا التضخيم في قوله: (أنا قد أصبحت حزناً) ولذا فهو بالنتيجة مظهر من مظاهر المازوخية؛ ولكن مازوخية صلاح لبكي لم ترق إلى مازوخية نديم محمد، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن (المازوخية) كسمة من سمات المعذب تتفاوت من شاعر إلى آخر ومن نص إلى آخر فالمازوخية عند (نديم محمد) ترتكز على توصيف الألم انطلاقاً من جزئيات الجسد، أما صلاح لبكي فيصف الألم والكآبة بشكل عام، ومن هنا يصبح مظهر المازوخية واضحاً عند الشاعر الأول.(1/76)
ومن اللافت للانتباه في نص (صلاح لبكي) صيغة جمع المؤنث السالم لكلمة (كآبة) حين يقول (فالكآبات على أنواعها) حيث نتبين أن مصدر السوداوية عند الشاعر ليس كآبة واحدة، أي صدمة واحدة، بل صدمات عديدة وإحباطات متنوعة والهدف من هذا الجمع هو المبالغة في الحزن، وقد تجلت هذه المبالغة أيضاً في استخدام الشاعر لمفردات وتراكيب تدل على الاتحاد الحاصل بين ذات الشاعر وحزنه (يغمر الحزن فؤادي، الكآبات على أنواعها خطبتني، أصبحتُ حزناً، فالأفعال (يغمر، خطبتني) تدل على التعشق والتداخل أو الاندغام، وللشاعر أيضاً قصائد يجمع فيها (الكآبة) على (كآبات) تعميقاً للسوداوية وللألم، ففي قصيدة له بعنوان (وبي سأم) يقول:(1)
أنا اليوم صنوُ الكآبات باتت ... وبتُّ، وصدري بها مخصبُ
فما للسرور إلى خاطري ... سبيلٌ وليس له مسربُ
حيث بدت الكآبات حالة متأصلة وطبعاً من طباع الشاعر في هذين البيتين، وأدَّى اسم الفاعل (مخصب) عملاً فعالاً في تعميق حالة السوداوية والشعور بالألم، وجاء اسم الفاعل هذا ليحمل معنى مغايراً لما نختزنه في ذاكرتنا حول مفهوم (الخصب) الذي يعني الولادة والعطاء والخير، فجاء معبراً عن منحى سلبي لاقترانه بالكآبات، فانزاح عن دلالته المعجمية وصار ذا خاصية تتعلق بفردية (صلاح لبكي) واحتياجاتها النفسية، وصار (الإخصاب) حالة خبيثة توحي بتعاظم السوداوية وبالشعور بالإحباط وبتعطيل الإرادة.
ج- تمجيد الألم:
__________
(1) لبكي، صلاح، المجموعة الكاملة، (ديوان سأم) ص 123(1/77)
إن (تمجيد الألم) أحد أبرز مظاهر المازوخية، غير أن هذا التمجيد عند بعض الشعراء الرومانتيكيين ينقلب إلى سخرية مرة من واقع الذات، وتتحوَّل هذه السخرية بالنتيجة إلى شعور بأقصى أنواع العذاب النفسي، وهذا ما حدث مع الشاعر (عبد السلام عيون السود) أحد رموز المدرسة الرومانتيكية، حيث يطلُّ هذا الشاعر بمرضه المميت ليضفي على العالم جواً من السوداوية والضياع "ولا شك أن ترسُّخ المرض في قلبه هو الذي أسبغ على شعره، هذه القشعريرة الرومانتيكية الأسيانة، فهو دائماً يهفو إلى مرفأ الخلاص، ويرسل أغنيته في الظلام ويبحث عن طريق النهاية، وقد لعبت المأساة في شعره، كإنسان ممزَّق وضائع وقلق، دوراً كبيراً"(1)
إن انطواء الشاعر على ذاته وتخبطه بها، لم يتح له إقامة أيِّ جسر أو علاقة وطيدة مع المحيط، ولكن المحيط غالباً ما يكون سبباً رئيساً في مرض الفنان، بل هو مرضه الحقيقي.
ولعل الجوهر الذي قامت عليه قصائد (عبد السلام عيون السود) هو البحث عن كينونته الضائعة التي لم يستطع أن يدركها، فهو دائماً يطرح التساؤلات العميقة التي تتحول في أحايين كثيرة إلى طروحات وجودية مرعبة، مما أدى إلى وجود تلك الصبغة السوداوية التي تتحرك في جو مشبع بالسخرية المرة من الوضع الذي آل إليه، فنراه يقول:(2)
تباركتَ يا جرحُ، إن الدماء ... تفور فتملأ نفسي اضطرابْ
وتعصبُ لي جبهتي بالسعير ... وتنفص لي كبدي في الإهابْ
تلفت فإن وراء السياط ... سياطاً.. وخلف الحراب حرابْ
وهذي العروق أفاعٍ تفحُّ ... عطاشاً: ألا قطرةٌ من شرابْ
حيث تتجلى مظاهر المازوخية في الأبيات على النحو التالي:
1- تمجيد الألم (تباركت يا جرح)
__________
(1) عيون السود، عبد السلام 1968، (آثار عبد السلام عيون السود) (من مقالة بعنوان (شعر الشاعر الأسطورة)، للشاعر ممدوح اسكاف، منشورات وزارة الثقافة دمشق ص 116.
(2) المصدر السابق /قصيدة وراء السراب/ ص 77.(1/78)
2- تعذيب النفس (إن الدماء تفور، تعصب لي جبهتي بالسعير)
3- المبالغة في وصف الألم الوجداني (وهذي العروق.. أفاعٍ تفح)
والأبيات بشكل عام تدور حول (الجرح) كمحور للنص، فالفاعل في (تعصبُ، تنغص، تلَّفتْ) عائد على ذلك الجرح.
إن مباركة الجرح توحي ضمن سياق النص بوجود حالةٍ من حالات الخلل النفسي القصوى، فزمامُ الأمور أفلت من يدي الشاعر، ولم يعد يستطيع أن يتحكم بذلك الجرح بأبعاده النفسية التي ربما نشأت عن مرضه الجسدي الذي نشأ بدوره عبر معاناته الاجتماعية، وما كان من (عبد السلام عيون السود) إلا أن يلجأ إلى السخرية المرة عن طريق تمجيد، ما هو قهري (الجرح).
أما الأبيات الثلاثة الأخرى بدءاً من البيت الثاني فتشهد صورة الانكسار والخضوع لأفعال سلبية على الصعيد الحياتي (تعصب لي جبهتي، تنغصُ لي كبدي) ويكاد يكون الفعل الطلبي (تلّفتْ) أكثر الأفعال تعبيراً عن الخضوع، إذ إنه يحمل طلباً للتخفيف من وطأة المعاناة وذلك بأن ينظر الجرح -كحالة سلطوية- إلى أحوال الشاعر (تلفَّتْ فإن وراء السياط سياطاً، خلف الحراب حراباً، العروق أفاع تفح)، ونظراً لوجود شعور خفي بعدم الاستجابة فقد جاءت السخرية المرة (بتمجيد الجرح والألم) ومن هنا يصبح (التمجيد) ذا دلالة معاكسة لمعنى (المباركة)، إذ يدل على الرفض المبطَّن للمعطيات التي كونت التأزم النفسي عند (عيون السود)، ومن ثم كونت السوداوية والكبت لديه.(1/79)
إن النص بمجمله يحيل على وصف يتجاوز (الأنا) إلى منطقة الكبت، فالسياق لا يجعلنا نشعر بفارق كبير بين (الدماء التي تفور) وبين (المكبوتات) التي تتحرك باتجاه النور، فلم تتجاوز المسألة إطار الحلم عند الشاعر (ألا قطرة من شراب)، وكأن (الشراب) هو الرغبة أو الرغبات التي بقي الشاعر عاجزاً عن تحقيقها، ولذا كان هذا الحلم وهذا التمني المعادل الوحيد لسلطة الجرح وكان الانسحاق هو المستقبل الذي ستؤول إليه حياة الشاعر بعد ما حدث من أحداث تنم على إحساس قاتم بالخلاص.
لقد تحدَّثنا في (النموذج المغترب العدمي) عن الشاعر (عبد الباسط الصوفي) مطولاً ورأينا اختلاف أنواع الاغتراب لديه، غير أننا نلمح بين حين وآخر قصائد للشاعر تحمل صورة (السوداوي المازوخي) كأحد تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية، ونلمح في هذه القصائد إحساساً بأن الشاعر لم يعد يتأقلم إلا مع الأحزان والآلام وهذا ما جعله يرفع من شأنها ويرسِّخها كحالة مستمرة في حياته، فيقول مخاطباً الفجر(1):
عدْ فلن تسمع من ثغري نشيداً عبقرياً
أنا أهوى ظلمة الأسداف تدمي مقلتيا
وأحبُ الوتر المحروم يذوي في يديّا
لا يشكل عالم الظلمة عند الصوفي عالماً مثالياً على الرغم من الحب القائم بينهما، لأن هذا العالم قد تراكمت معطياته السلبية فصار يشغل حيزاً كاملاً من حياة الشاعر المشبعة بالسواد، ويبدو أن هذا الحب جاء ليفرِّغ بعض العناصر السلبية المتراكمة عن طريق النص الشعري، فكان الاتجاه إلى تعذيب وتمجيد الألم حالة تمويه على الوضع النفسي للصوفي، وليس حالة إرادية كاملة فالفعلان (أهوى، أحب) لم يأتيا لبلورة مفهوم (الجميل) على الرغم من أنهما في ذاكرتنا الجماعية يحملان حالةً إشراقية بشكل عام، بل أتيا لتعميق القبح والانسحاق ومظاهر السوداوية عند الشاعر.
__________
(1) الصوفي، عبد الباسط، آثار عبد الباسط الصوفي ص29(1/80)
ولعل تمجيد الألم في النص يتلازم مع تعطيل الإرادة أيضاً، فـ (الظلمة التي تدمي المقلتين، والوتر المحروم الذي يذوي) معضلتان ليس بوسع (الأنا) صدَّهما، وما كان للشاعر إلا أن يأتي بفعليْ (أهوى، أحبُّ) تورية لعجزه عن الصراع.
ويتبنى فكرة تعطيل الإرادة بشكل واضح في النص تركيب (لن تسمع من ثغري نشيداً عبقرياً)، حيث يخاطب الشاعر هنا الفجر بالمعنى النفسي كسمة من سمات الإشراق والتفاؤل.
د- الملامح النفسية لتصوير المكان والزمان:
من سمات الرومانتيكيين أنهم يقومون بإسقاط عناصر الخارج على الذات بحسب أحوالهم النفسية، بيد أن الشاعر المعذب في المدرسة الرومانتيكية عادة ما تكون عناصر الخارج مصدراً من مصادر عذاباته.
إن أكثر ما يشغل المعذب الرومانتيكي مسألة المكان والزمان، فهو غريب عن كليهما، ويتعامل معهما حسب إحساسه المشبع بالسوداوية وفقدان الأمل، فالزمان عنده طويل أو قصير حسب مرجعيته النفسية في الذات الشاعرة، كذلك فإن المكان ضيق أو متسع، حسب تلك المرجعية أيضاً وعلى أي حال فإن الطول والقصر والضيق والاتساع عند هذا المعذب تشكِّل بمجملها حالة إرباك له، فلا الاتساع محمود، ولا الضيق محمود، ولا الطول بنافع، ولا القصر ذو جدوى، حتى الطبيعة بفطريتها وبراءتها لا تشبع ذواتهم، ومن المؤكد أن الرومانتيكيين غير المعذبين ينظرون إلى الطبيعة (بوصفها مكاناً) نظرة أكثر تفاؤلاً من الرومانتيكيين المعذبين، فالسوداوية عند المعذبين يمكن أن تتعمَّم لتصيب الأماكن جميعها بما فيها الطبيعة.
إن القِلق وجودياً إلى حد التأزم النفسي-على سبيل المثال- لا يفرّق كثيراً بين الأماكن، ذلك أن سوداويته تشمل حيزاً كبيراً من المكان والزمان في أي آن.
لقد أشرنا فيما مضى إلى الصبغة السوداوية التي تنطوي عليها القصائد (عبد السلام عيون السود)، عبر تساؤلاته المرعبة عن ماهية وجوده، وتحوَّل الزمان عنده من ساعات ودقائق إلى زمن نفسي خاص به.(1/81)
يقول عبد السلام عيون السود في قصيدة (أين)(1):
عامان، كالدهر، مرّا ... ولم أجدْ مستقراً
أنّى اتجهتُ فليلُ ... يدور رعباً وذعرا
وقيل.. لوّح أفقٌ ... أستغفر التيه.. حشراً
لنحنُ أبعد مرمى ... لنحن أعمق غورا
على جبين الليالي ... سفحتُ روحي، شعرا
فأين يا أين ألقي ... عصاي الريح أدرى
يتكئ النص على (الليل) ببعده المعنوي الذي رسخه الشاعر، فاقترن بالإحباط والتشاؤم الذي يغطي المكان والزمان، فضلاً عن أن ذلك التشاؤم قد اتسع ليصبح صفة جماعية (لنحن أبعد مرمى)،
من البداية يطالعنا النص بوجود وطأة زمنية (عامان كالدهر مرا)، وهي ذات مرجعية نفسية تشفُّ عن عدم الوصول إلى حل يؤمِّن الاستقرار والطمأنينة للشاعر، فإذا بثبات الألم يأخذ حيزاً زمانياً لا يطاق وإذا نحن أمام زمن نفسي لم يتوافر له انفراج أو اختراق لينقل (عيون السود) مما هو فيه إلى رغباته.
لقد بدت الصورة أكثر رعباً في البيت الثاني وأكثر إحساساً بالألم وبالسوداوية (أنّى اتجهت فليل)، وانزاح الليل عن طبيعته الحسية الواقعية ليصبح مقروناً بالحصار الذي لا مفر منه والمتصف بالديمومة، وتحوَّل من كونه فترة زمنية معلومة إلى هيئة مكانية متشحة بالسواد، حيث اتخذت الرؤيا الموجودة في الأبيات سمة (الكابوس) الطويل الأمد، لأن المستقبل واقفٌ لا يدع مجالاً للحديث عن أفق، ولن يجدي نفعاً الحديث عن أمل قريب، لأن الأشياء المحيطة سوداء ومترسخة في العقل الباطن.
إن المرض الذي أصاب (عبد السلام عيون السود) منعه من ممارسة نشاطه العادي في البيئة الاجتماعية، ومع تراكم الزمن واستفحال القطيعة، تحولت تلك البيئة إلى مصدر من مصادر الضياع والغربة والقلق منطوية تحت شعوره الحاد بالسواد الذي يكلل كل شيء، ومن ثم تخلخل الزمن عنده وانقلب إلى صورة مفجعة، وما قوله (لم أجد مستقراً) إلا حالةً من حالات الفجيعة التي أدّت به إلى الغربة والانطواء.
__________
(1) عيون السود، عبد السلام- آثار عبد السلام عيون السود ص33(1/82)
تتراجع مظاهر المازوخية في النص كثيراً، غير أننا نرى تركيباً يوحي بالقسوة في التعامل مع الذات (سفحت روحي شعرا)، إلا أن هذه القسوة ليست ذات دلالة سلبية، بل تحيل على شدة التفريغ النفسي عن طريق الشعر، ثم إن الشعور الحاد بالرعب والذعر وبأن جميع الأماكن (ليل) أمر يدل على المبالغة في تعذيب الذات مبالغة تتفاوت من نص إلى آخر عند (عيون السود) حيث رأينا في نص سابق له كيف يمجِّد الألم بصورة قهرية ويعرض أثره المفجع عليه.
نعود للحديث عن الصبغة النفسية للمكان والزمان في الأبيات لنقول: إن (الأفق) المنشود في النص هو (الحشر) ذاته وبينهما يقع (التيه)، فالأفق مكان يوحي بإشراق المستقبل عادة، ولكنه صار قبراً عند شاعرنا ونهاية غير طبيعية أيضاً، ويبدو (التيه ) أكثر جلاء في البيت الأخير (فأين يا أين ألقي عصاي؟).
إن الشاعر هنا لا يعمل ماذا يفعل بكيانه، فجاء باسم الاستفهام (أين)؟ في مطلع البيت ليستطلع عن شيء مجهول ثم نادى هذا الاسم مرة أخرى (يا أين) لأنه أدرك أن لاجدوى من هذا السؤال، ولا جدوى من البحث عن خطاه وأين وجهتها لابتعادها عن درب الاستقرار.(1/83)
فتوقف أخيراً عند الإجابة غير القاطعة عن رحلته عبر تعبير (الريح أدرى)، فمفردة (أدرى) ليست جزماً بالوضع النهائي للشقاء عند الشاعر، حيث تعطي هذه المفردة أكثر من احتمال لذلك الوضع، وعلى الرغم من أن الشاعر يدرك سلفاً استحالة الإجابة عن التساؤل الذي جاء به (فأين يا أين)؟ نراه يلجأ إلى إحدى مكونات الطبيعة لتعميق مصابه والتأكيد أن الحل في يد قوة مترجحة غاشمة، وهنا المفارقة، ومن هنا تكتمل في هذا البيت العناصر التي تخوِّله أن يكون حصيلة للتخبط والتشتت بما يحمله من سخرية تنطوي على الشعور القاتم باستمرارية الحياة وذلك عبر تساؤل لا يخلو من الغرابة والطرافة (فأين يا أين ألقي عصاي؟). وجواب (الريح أدرى) هو ممكن السخرية، فالريح مصدر التبعثر والعشوائية، ولا طائل من الثقة بها.
إن الشاعر عندما قال (الريح أدرى) منح التحكم بمصيره لشيء خارج عن إرادته هو (الريح)، وهذا لأنه عاجز عن التحكم بمجريات الأمور، ولقد جاءت كلمة (عصاي) مطابقة لمعنى (حالي) أو (نفسي) والتقدير (فأين يا أين ألقي بنفسي)، وبشكل عام فإن بناء الحالة قد اعتمد على الحوار الداخلي الممتلئ بالسخرية المرة (وقيل.. لوَّح أفقٌ.. أستغفر التيه.. حشراً)وهي سخرية ناتجة عن عدم الثقة بالذات المريضة التي أوقفت الزمن (الزمن النفسي) تمهيداً للموت والعدمية.
لقد أشرنا مسبقاً إلى أن /المعذب/ لم يتبلور في نصوص الشاعر (عمر أبي ريشة) أو في نصوص (الأخطل الصغير)، فالحزن والبكاء كظواهر نفسية لا تشكل سمات (المعذب السوداوي) إلا إذا كانت مستقرة ودائمة في النفس البشرية وذات جذور راسخة، بيد أن تكل الظواهر مؤطرةٌ ومحدودة زمنياً عند شاعرنا أبي ريشة وتزول بزوال المسبِّب لوجودها، وعادة ما تظهر السوداوية عند أبي ريشة في قصائد الرثاء(1)
__________
(1) يقول عمر أبي ريشة في رثاء حلمي الأتاسي:
كان لي في قرارة الأقداح ... ما أروّي به غليل جراحي
ربّ نجوى على الطلا همستها ... في حياتي، حناجرُ الأتراح
لطمت في ذهولها جبهة الخطـ ... ب وأرخت على دجاه صباحي (مدور)
وسمت بي عن عالم، ملءُ جنبيـ ... ـه حنين الأشباح للأشباح (مدور)
سلوةٌ سلها العياء فلا الحلـ ... ـم إزاري ولا العزاء وشاحي (مدور)
1947 الديوان /دار مجلة الأديب/ مطبعة الكشاف ص 88-89(1/84)
ومطالع بعض القصائد لتشير إلى أن السوداوية ظاهرة غير أصيلة عند الشاعر، فهدف هذه المطالع فني ويسير على منوال القصيدة الكلاسيكية في الشعر العرب القديم، حيث يفرض غرض القصيدة (الرثاء) على المطلع أن يكون ذا منحى تشاؤمي ولعل اللغة المستخدمة في هذه المطالع تحيل على لغة النص الشعري القديم من حيث استخدام التراكيب والبناء النحوي والصورة الشعرية الخ...
(((
الفصل الثاني
السمات الفنية للمعذب في الشعر الرومانتيكي
- التجديد في القصيدة الرومانتيكية:
"إن التجديد في الشعر عملية معقدة ومتشعبة، ولها أكثر من بعد واحد، بالإضافة إلى أنها ككل عمليات الحمل والولادة خاضعة لعوامل الزمن والتهيؤ"(1)، ومن المفترض أن ينطلق ذلك التجديد من البيئة التي تغيرت شكلاً ومضموناً في القرن العشرين، ومن تطور المدارك المعرفية للفنان عبر التراكم الزمني الطويل، لهذا فقد كان فهم الرومانتيكيين للواقع مغايراً للفهم الكلاسيكي.
__________
(1) المقالح، عبد العزيز -الشعر بين الرؤيا والتشكيل ص 157(1/85)
ففي التيار الرومانتيكي يمكن القول: "إن جميع القيم التي ألحقت بالخارج ردّت إلى الداخل، وأصبحت خصائص له"(1)بخلاف المدرسة الإحيائية في الشعر، التي وقفنا عند خصائصها الفنية سابقاً، وقد كان "ابتعاد الرومانطيكيين عن الوسائل الفنية التي استخدمتها الكلاسيكية قد أكّد بشكل استعراضي الطابع الابتكاري التجديدي لطرق الإبداع الفني التي كونوها والطابع الابتكاري الذي اتسم به فهمهم لأهم قضايا الفن وعلاقته بالواقع"(2)، حيث يبدو - من خلال نظرة شاملة لشعرنا العربي الحديث أنّ "الرومانتيكية هي الطابع العام لظاهرة الشعر الحديث، وهذه الرومانتيكية هي السبب المباشر في ثورة الشكل والمضمون التي حققها هذا الشعر، سواء كانت رومانتيكية تقدمية أم رجعية وهي في جميع الأحوال ظاهرة صحية لأنها تعبير واقعي عن تطلعات البورجوازية الصغيرة المتناقضة المتضاربة"(3).
__________
(1) اليافي، نعيم 1981 الشعر العربي الحديث- منشورات وزارة الثقافة دمشق ص 51
(2) خرابتشنكو، ميخائيل، ذات الكاتب الإبداعية ص 368
(3) الشريف جلال فاروق 1976، الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ص 94(1/86)
لم تكن البنية الفنية التي طرحتها المدرسة الشعرية الرومانتيكية في سورية ولبنان ردة فعل عشوائية على البنية الفنية السابقة، بل إن العصر بإنجازاته المذهلة والمرعبة معاً، ومن ثم البيئة التي تربى الشاعر على قيمها وتقاليدها، وكذلك الفهم الجديد للعلاقات والتحولات التي تجري على ساحة الواقع عبر وعي جمالي متطور، كل ذلك ساعد على بناء حالة نفسية متأزمة وجديدة للشاعر العربي الرومانتيكي وأسهمت هذه الحالة بالضرورة في إنتاج بنية فنية ملائمة ومختلفة عن سابقتها، لذا فإن المدرسة الشعرية الرومانتيكية في سورية ولبنان، مؤسَّسة على حامل اجتماعي أصيل، على الرغم من بعض التأثر بالمدرسة الرومانتيكية في الغرب، حيث اقتصر ذلك التأثير على الاستفادة فكرياً من العقلية الرومانتيكية الغربية -إن صح التعبير-، ولم تتوغل هذه العقلية مباشرة في الشعر الرومانتيكي السوري واللبناني لما أشرنا إليه سابقاً حول مشروعية القصيدة الرومانتيكية العربية وأصالتها في مرحلة معينة من شعرنا العربي الحديث.
لقد تجلَّى التجديد في القصيدة الرومانتيكية العربية في الصورة الشعرية، فقد تناولت النزعة الرومانتيكية في الشعر العربي الحديث "موضوع الأخيلة والصور التي اعتبرتها أهمية عظمى للتعبير عن المشاعر المتضمنّة التجارب النفسية، عبر قنوات الصراع الداخلي الذي تعاني منه الذات المبدعة، وهي نظرةٌ تختلف عن نظرة البلاغيين القدامى الذي تعاملوا مع الخيال في إطار الإدراك الحسي، والتصوير المجازي"(1).
__________
(1) فيدوح، عبد القادر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي ص 369(1/87)
إن الصورة الفنية الأصيلة من خلال رؤياها الشاملة "ليست مجرد جمع أجزاء متفرقة (وعناصر تكوّن بدورها هذه الأجزاء)، بل هي عالم فني خاص له علاقاته المكانية والزمانية وسواها من الصلات بين الظواهر المصوَّرة"(1)، وجوهر تلك الصورة يكمن بالتأكيد" فيما تختاره العبقرية من مضامين مرئية يفتّش عنها في الطبيعة الخارجية، انطلاقاً من حالات النفس إلى توحِّد بين الحالات الداخلية وتمثيلاتها الخارجية"(2).
لعلنا في دراستنا للخيال الشعري عند المعذب في المدرسة الرومانتيكية في سورية ولبنان، سنقوم بتناول الصورة الشعرية من حيث قدرتها على التعبير عن الحالة، كذلك سنتناول الطاقة الإيحائية لها، كما سنتناول أخيراً حالة الخلق الجديدة للصورة، مستفيدين من المخزون النفسي الذي جمعناه حول كل شاعر من الشعراء.
__________
(1) سويف، مصطفى، 1959،/ الأسس النفسية للإبداع الفني/ ط2، دار المعارف، مصر، ص147.
(2) فيدوح، عبد القادر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي ص 378(1/88)
لقد استطاع الخيال الشعري في الرومانتيكية -بصورة عامة- أن يخفِّف من وطأة العقل على القصيدة، ونعني هنا بـ (العقل) الميل إلى (الفكرية المحض التي قامت عليها معظم النصوص في المدرسة الإحيائية في سورية ولبنان، ذلك أن "العقل يحدِّد، ولذلك فإن جوابه يحدِّد، حين نحدد شيئاً ننفيه- بمعنى أننا نحصره داخل هذا القوس: التحديد، وننفي ماعداه، التحديد نفيٌ، كما يقول سبينوزا: حين تحدِّد اللَّه تنفيه، لأنك تساويه بالأشياء المحدودة، وتحديد الإنسان أو الوجود ينفي ماهية كل منهما."(1)وهذا الكلام لا يعني مطلقاً أن الخيال الشعري غير مضبوط بقوانين معينة، فإذا غالينا في استخدام الخيال الشعري بدرجة كبيرة انقلب إلى وهم، فالوهم سلسلة من الصور لا تخضع في نفسها لقانون خاص أو عام بينما يخضع الخيال لقوانين محددة، وعلى أبسط المستويات نحن نصف شخصية ما بأنها من نتاج الوهم وليس من نتاج الخيال عندما لا تكون لها أية علاقة بواقعنا المباشر أو الفني.
ونصف (فعلاً) بأنه وهم عندما يبدو أنه من المستحيل تحقيقه، أو عندما يحطِّم قوانين الطبيعة الخارجية، ولا يكشف في الوقت ذاته عن قوانين أخرى بديلة"(2)
__________
(1) أدونيس، 1992، الصوفية والسوريالية ط1 دار الساقي -بيروت- لبنان ص 56.
(2) اليافي، نعيم، الشعر العربي الحديث ص 30.(1/89)
من السمات الفنية الأخرى للقصيدة الرومانتيكية الغنائية أيضاً، أنَّه: "إذا كان حضور الشاعر في القصيدة الغنائية يجعل هذه القصيدة درامية، فإن حضوره في القصيدة الدرامية أو السردية الرومانتيكية يجعلها غنائية. فالشاعر يتخذ اسم الراوي أو البطل وشخصيته في الدراما والقصص الرومانتيكي للسبب ذاته الذي يعطي اسمه وشخصيته للراصد في الشعر الغنائي الرومنتيكي- وذلك لكي يعطي للقصيدة معنى"(1)، ويبدو أن هناك فارقاً كبيراً بين الشعر الغنائي والملحمي، حيث يقول (هيغل) في (فن الشعر) "الشعر الغنائي هو على النقيض من الملحمي، فمضمونه هو الذاتي، العالم الداخلي، النفس الجياشة بالعواطف، والتي بدلاً من أن تبادر إلى العمل تقيم في داخليتها ولا يمكن أن يكون لها بالتالي لا شكل ولا هدف سوى سكب الذات والتعبير عنها"(2)ويتابع (هيغل) في كتابه (فن الشعر) الحديث عن الفارق بين الشعر الغنائي والملحمي فيقول: "صحيح أن الشعر الغنائي يشتمل على مواقف محددة لتستطيع الذات الغنائية أن تقبس من مضمونها عدداً وفيراً من العناصر لتؤالف بينها وبين مشاعرها وعواطفها، غير أن الداخلية هي التي تحدد شكل الغنائية النمطي، فتستبعد بالتالي التصور المبالغ في عيانيته الواقع الخارج.
__________
(1) لا نغيوم، روبرت 1983 شعر التجربة تر: علي كنعان، عبد الكريم ناصيف وزارة الثقافة دمشق، ص 67.
(2) هيغل، فن الشعر، ص 111.(1/90)
وبالمقابل، يقدِّم لنا الأثر التمثيلي الشخصيات وتطور عملها في واقعيتها الحية، فيغيب بالتالي وصف الأماكن والمظهر الخارجي للأشخاص وطبيعة الحدث بما هو كذلك، وتوضع الشدة الرئيسية على الدوافع والغايات الداخلية التي تحفِّز وتحدِّد الأعمال الفردية أما في الشعر الملحمي فيتسع المجال، على العكس، لا للواقع القومي الذي به يرتبط العمل فحسب، بل كذلك للظروف والوقائع الخارجية، والداخلية، بحيث يمكن القول إنه يشمل كلية ما يؤلف حياة البشر الشعرية"(1).
قبل أن ننتهي من هذا التمهيد، لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الرومانتيكي حين يهرب دائماً من خلال حلمه إلى عالم مثالي، فإن ذلك يعني أن هناك شحنة تنفيسية متواترة وكبيرة عند ذلك الشاعر عامة وعند (المعذب خاصة)، حيث تبدو الشحنة عند (المعذب) متعاظمة لما يحمله من تأزم نفسي، وتظهر هذه الشحنة في (الحلم) أي (الصورة الشعرية) لما تحمله من رؤيا وتكثيف وقدرات إيجابية، "وهذا لا يعني مع ذلك أن الحلم يقول الحقيقة قولاً كما هو بالنسبة إلى الشعور، فقد يكون الحلم على العكس تماماً، ضرباً من الخديعة، ذلك أن العوامل اللاشعورية التي تتجلى في الحلم تتدخل وفقاً للحالة الشعورية، وهذه العوامل اللاشعورية هي في ديالكتيك مع هذه الحالة الشعورية وليست في مطلق تصورٍ لذاتها"(2).
أ- الخلق:
__________
(1) المرجع السابق، ص 172-173.
(2) هومبيرت، إيلي 1991، كارل غوستاف يونغ، تر: وجيه أسعد وزارة الثقافة- دمشق ص39.(1/91)
إن "من أولى المهام التي تنفّذها الصورة الفنية أنها تجسِّد تجربة الفنان وتبلور رؤاه وتعمق إحساسه بالأشياء وتساعده على تمثل موضوعه تمثلاً حسياً، كما تساعده على التواصل مع العالم الخارجي والاتحاد به"(1) حيث كان تواصل الشاعر الرومانتيكي مع الواقع وإحساسه به مختلف عن سابقه الإحيائي، وانعكس هذا بالضرورة على الصورة الشعرية عبر عملية (الخلق)، أي (التوليد) الذي شهدته الصورة في المدرسة الرومانتيكية، ذلك أن الصورة "هي شكل إدراك الحياة في الفن، خلافاً لشكل الانعكاس الواعي للحياة في المجالات الأخرى للإدراك الاجتماعي (الشكل العلمي -المنطقي)"(2).
لقد تعززت عملية (الخلق) في الصورة في نصوص العذاب الرومانتيكي، إذ يبدو أن التأزم النفسي الموجود عند /المعذب/ بشكل عام يظهر بحدة في البنية الفنية عامة، وفي الصورة الشعرية خاصة، ومن ثم فإن (الخلق) يفصح عن قدر كبير من الحرية التي يمارسها الخيال الرومانتيكي للشاعر، ذلك أن الصورة الكلاسيكية ظلت تحتفظ بالقواعد البلاغية الصارمة للشعر العربي القديم، وهذا لا يعني بالضرورة أن الشاعر الرومانتيكي قد تخلص من تلك القواعد كلية، إلا أنه تخفف منها إلى أن جاءت مرحلة أخرى من مراحل تطور شعرنا العربي تمثلت في الشعر الحر وقصيدة النثر.
__________
(1) عساف، عبد الله، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا ص 21
(2) فينوغرادوف، (د. تا) مشكلات الشكل والمضمون، تر: هشام الدجاني، ص 10.(1/92)
لقد أرتأت هذه المرحلة أن البلاغة العربية أصبحت عائقاً أمام تطور القصيدة في هذه اللحظة من الزمن، كما أن تلك الرؤية انطلقت من الواقع العربي المعاصر، الذي يشعر فيه الفرد بالإغتراب والموت والاستلاب وضروب القمع، فلا يجد حريته في عالم الخيال والصور والأحلام، وكلما كان (الخلق)، في الصورة الشعرية حاملاً لعناصر نجاحه فإنه ينبئ من زاوية أخرى بقدرة الحلم (النص الشعري) على تفريغ أكبر طاقة نفسية سلبية ممكنة، ونعني بكلمة (سلبية) الطاقة المكبوتة في اللاشعور، ولما كان في النص الشعري هو الحلم فـ "إن الصفة الرئيسة للأحلام تكمن في تحقيق رغبات"(1)مكبوتة في لاشعور المرء عبر مدة زمنية طويلة، و "قد يحدث ألا يوفِّق عمل الحلم كامل التوفيق في خلق تحقيق لرغبة، فتنتقل رسالة من الوجدانات المؤلمة من الأفكار الكامنة إلى الحلم الظاهر. وعلى التحليل أن يبين في هذه الحال أن هذه الأفكار الكامنة كانت في الأصل أشد إيلاماً بكثير من تلك التي يصاغ منها الحلم الظاهر، وعندئذ نسلِّم بأن عمل الحلم لم يدرك هدفه، تماماً كما أن النائم لا يطفئ عطشه عندما يرى في الحلم أنه يشرب. فمهما يحلم النائم بأنواع الشراب، فلا مناص له من أن يستيقظ ليشرب إن يكن ظمآناً حقاً."(2)
نبدأ الحديث عن (الخلق) في الصورة الشعرية في نصوص العذاب الرومانتيكي بالوقوف عند الشاعر (عبد السلام عيون السود) إذ يقول في قصيدة له بعنوان (وراء السراب)(3):
ألا واحةً، في ثنايا الجحيم ... تلوح؟ ألا جدولٌ في اليباب؟
كأن الفضاء ضريحٌ يضيقُ ... كأن الهواء عواء ذئابْ
كأن الحياة شعاع ضئيلٌ ... يحشرج مختنقاً بالضبابْ
تراني أموت؟ تراني أهذي ... تراني أعدو وراء السراب؟
__________
(1) فرويد، سيغموند، نظرية الأحلام، ص 67.
(2) المرجع السابق ص 173.
(3) عيون السود، عبد السلام، آثار عبد السلام عيون السود، ص 77-78(1/93)
تظهر العدمية في النص كأحد تجليات /المعذب/ الذي وقفنا عنده في حديثنا عن صور المعذب في المدرسة الرومانتيكية، حيث تعمَّقت تلك العدمية بفضل التكرار المتواصل لمجموعة من الصور الشعرية التي عملت على إسقاط العناصر الخارجية على الذات بصورة حادة، فعلى الرغم من أن الصورة في الأبيات السابقة حافظت على وجود أداة الشبه (كأن) والمشبه والمشبَّه به (كأن الفضاء ضريح يضيق) فإن التركيب العام للصورة قد اخترق فلسفة البلاغة القديمة، حيث بدا استخلاص وجه الشبه بين (مفردة) الفضاء ومفردة (ضريح) عائداً بشكل محض على الطبيعة النفسية (لعبد السلام عيون السود) التي ترى السواد على كل شيء في المحيط الخارجي.
إن التقاء الحقلين الدلاليين (الفضاء، ضريح يضيق) لتكوين صورة شعرية يبرز التكثيف المتولِّد عن تلك الصورة، وبالضرورة يبرز الخلق والتوليد في تلازم هذين الحقلين وكذلك ينمُّ على التوتر النفسي الحاد عند الشاعر، وكل ذلك آت ضمن السياق العام للنص، وسياق الحياة الاجتماعية لـ (عيون السود).
لما كان (الفضاء) عنصراً خارجياً موجوداً في الكون حولنا، فإن إسقاطه على الداخل داخلياً في النص تمثل في (ضريح يضيق)، لهذا فقد صار الفضاء الخانق جزءاً لا ينفصل عن كيان الشاعر.
تظهر في النص صورةٌ أخرى (كأن الهواء عواء ذئاب)، حيث جاءت هذه الصورة كسابقتها محافظة على أداة الشبه والمشبَّه والمشبَّه به، غير أنها فرضت جواً أكثر سوداوية وميلاً إلى القطيعة مع الوسط الخارجي، وأحدثت، لدى المتلقي دهشة قائمة على بناء علاقة بين الأجزاء المتباعدة في الطبيعة ومن ثم إسقاطها على النفس ضمن سياق يوحي بأن تلك الصورة قد صعدّت الحالة النفسية التي تشتد تأزماً، لهذا كانت الغرابة والمتعة حالتين لاحقتين للدهشة.(1/94)
لم تكن الغرابة في صورة (كأن الهواء عواء الذئاب) إلا احتياجاً ملحاً لردم الثغرة مع الواقع وحالة من حالات التنفيس القاسية عبر (الحلم)، فالانعطاف الحاد الذي قامت به مفردة (هواء) باتجاه (عواء ذئاب) جعل من تلك المفردة تخرج عن معناها المعجمي الذي نحتفظ به في ذاكرتنا، ذلك أن الذاكرة الجماعية تعودت أن يقترن (الهواء) بأشياء محددة ومعروفة، بيد أنها لم تعود على مثل هذا اللقاء بين الحقول الدلالية، ثم إن (عواء ذئاب) ما كان أبداً عنصراً خارجياً عن ذات الشاعر، بل هو مظهر من مظاهر الكبت والحرمان، ولهذا فإن (الهواء) أصبح داخلاً في البنية النفسية المتهدِّمة للشاعر.
أما المتعة في الصورة السابقة فآتية من عدة مصادر، أولها التكثيف الموجود، وثانيها: الأشياء الجديدة التي يكتشفها المتلقي -وهو صاحب المتعة حين يقوم بإسقاط هذه الصورة على الواقع المحسوس وعلى ذاته.
يحمل البيت الثالث صورة مركَّبة ترتكز على صورة متولدة من سابقتها على النحو التالي:
الحياة ... ... ... شعاع ضئيل (صورة)
شعاع ضئيل ... ... يحشرج ( صورة متولِّدة من سابقتها)
شعاع ضئيل ... ... مختنقاً (صورة متولِّدة من سابقتها)
حيث تتنازع مفردتا (يحشرج- مختنقاً) على تركيب (شعاع ضئيل) لإقامة الصورة الشعرية في البيت؛ واللافت للانتباه في هذه الصورة المركبة أن كل صورة جزئية متولِّدة فيها تشكل حالة نفسية أكثر تأزماً من الصورة التي سبقتها وذلك على النحو التالي:
الحياة ... ... ... شعاع ضئيل (حالة نفسية متأزمة)
شعاع ضئيل ... ... يحشرج (حالة نفسية أكثر تأزماً من سابقتها)
شعاع ضئيل ... ... ... مختنقاً (حالة نفسية شديدة التأزُّم)(1/95)
وهذا الأمر يشير إلى بذور التداعي المبني على الكتابة الآلية، وهذا لاينم مطلقاً على أن التداعي السابق يسيطر عليه اللاشعور بشكل مطلق، بل إن الشعور تدخَّل في عملية تنظيم الصورة حتى لاتنقلب في نهاية الأمر إلى هلوسة، حيث "الصورة الشعرية ينبغي أن لا تنفصل عن التفكير الكلي الشامل. إنها وإن لم ترتبط فيها المفردات المكانية والزمانية ارتباطاً منطقياً فإن هذا الارتباط مايزال ولا بد أن يكون -خاضعاً لمنطق الشعور"(1)أما مظاهر تدخُّل الشعور في الصورة المركَّبة السابقة فتتوفر في العلاقة الوطيدة بين (الشعاع) و (الضباب)، كذلك بين (اختناق الشعاع) وبين (الحياة شعاع ضئيل)، إلا أن أهم ما يمكن أن يقف عنده المرء هو صورة (شعاع يحشرج)، فثمة ابتعاد كبير بين المفردتين (الحقلين الدلاليين) اللتين كونتا الصورة انطلاقاً من الانتماء المكاني لكل منهما، بيد أن العدمية وعدم الثقة بالمستقبل والاستسلام للواقع، كل ذلك شرَّع مثل هذه الحشرجة التي انتابت (الشعاع) الذي يرمز لكل أمل وكل عطاء، وشرَّع أيضاً الغرابة التي تلفُّ الصورة لأن "ما يميز الرومانتيكي- على وجه التحديد إنما هو النزوع نحو الغريب، وغير المألوف، أو هو الرغبة فيما هو ناءٍ أو ((قصي)) في المكان والزمان"(2).
ونلمح بين حين وآخر مقطوعات شعرية للشاعر (عبد الباسط الصوفي) تحمل من الخلق والتجديد شيئاً كثيراً، حيث آمن هذا الشاعر "بالحرية كشرط أساسي للعمل الأدبي والفني، وفي رأيه أن الجمال والحرية مفهومان لا ينفصلان، وكل منهما يلازم الآخر تلازماً هو التعليل الحقيقي لطبيعة الأدب والفن"(3)، يقول عبد الباسط الصوفي في قصيدة له بعنوان (وحشة)(4).
__________
(1) اسماعيل، عز الدين، التفسير النفسي للأدب، ص 109.
(2) إبراهيم، زكريا، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، ص 95.
(3) اسكاف، ممدوح، عبد الباسط الصوفي، ص 53.
(4) الصوفي، عبد الباسط، الآثار، ص6.(1/96)
الليل... مكدودُ الفضاء، مروَّع الأشباح، مغلقْ
ورفيف قلبي، كالطفولة كالصدى النشوان، مطلق
يفتح النص آفاقاً أخرى للعدمية والاغتراب عند الصوفي عبر تلاحق الصور الغزيرة التي تجسد ما آلت إليه الحالة النفسية لديه؟، فالليل هو المحور الذي انبثقت عنه ثلاث صور:
... ... ... مكدود الفضاء
الليل ... ... مروَّع الأشباح
... ... ... مغلق
كذلك فإن تركيب (رفيف قلبي) في البيت الثاني قد انبثقت عنه ثلاث صور:
... ... ... كالطفولة
رفيف قلبي ... كالصدى
... ... ... مطلق
إن حالة التوليد القصوى في البيت الأول كامنة في الصورة (الليل مغلق)، فالصورتان الأولى والثانية (الليل مكدود الفضاء، الليل مروَّع الأشباح) تمهيد لهذه الحالة النهائية من خلال الصورة المركَّبة، ولا بد من الإشارة إلى أن هاتين الصورتين أيضاً تحملان من الابتكار والخيال الشيء الكثير، بيد أن التصاعد العام حتَّم أن تكون الصورة النهائية خاتمة ملائمة لذروة الأزمة النفسية.
ويبدو أن الصورة (الليل المغلق) تحيلنا من جهة أخرى على تعطيل الإرادة واختفاء الصراع الذي أوجده الشاعر كحلٍّ للمعضلات التي تواجهه، فلم يعد هناك إيمان بأن ثمة صباحاً يلوح في الأفق، ومن البدهي بعد ذلك أن يصبح الليل مغلقاً.
نتحول الآن إلى الصور في البيت الثاني، فالمرء يظن للوهلة الأولى أن هناك تناقضاً وانفصاماً عضوياً بين البيت الأول والثاني على صعيد الحالة، ولكن الأمر غير ذلك، لأن البيت الثاني يعبِّر عن ضعف الذات أمام مستوى السوداوية بأشكالها، وعن مدى الانسحاق أمام (الليل المغلق)، فحين يشير الشاعر إلى أن رفيف قلبه كالطفولة، فإنه يبين مدى وهنه قدّام (الليل المغلق) (شكل من أشكال السلطة).(1/97)
نعود إلى تحليل الصور في البيت الأخير، فقد خفَّفت هذه الصورة من استخدام عناصر الطبيعة والمحيط ولجأت إلى استخدام عناصر لها صلة وثيقة بالذات وبالماضي (رفيف قلبي كالطفولة)، فالعزلة وأنواع الاغتراب التي يعيشها الصوفي فرضت عليه عودة مؤلمة إلى الذات واستخراج آلامها وذكرياتها، حيث كان الحنين إلى الطفولة ولا زال أحد المنافذ التي يميل إلهيا الشعراء عامة والرومانتيكيون منهم خاصة من أجل التخفيف من قسوة المستقبل والواقع، والحنين إلى الماضي هو سمة من السمات النفسية التي تتصف بها الشخصية الانتحارية، كما هو الحال عند شاعرنا (الصوفي) وكذلك الشاعر (خليل حاوي) في مدرسة الحداثة.
إن التفكير بالطفولة هو تفكير بالحرية وبالفطرية التي نادت بها صورة (ورفيف قلبي كالطفولة )، والذي رسخ هذا التفكير بالحرية هو الصورة النهائية في البيت (ورفيف قلبي مطلق)، فمفردة (مطلق) تثير لدى المتلقي حالة لانهائية من الحرية التي تعني هنا تحقيق جميع الرغبات المكبوتة في اللاشعور، ومن ثم فإن الخلق في الصورة هو بالتأكيد وعي جمالي متطور عن سابقه، وهو يظهر خبرة الصوفي المعرفية التي أخذت أبعاداً مرعبة وجديدة في آن.
ولعل حالة (الخلق) في البيت الثاني جاءت ملازمة لحالة التداعي (الكتابة الآلية) وتعزيزاً لمسألة (الحلم)، وأهميتها هي تفريغ شحنة نفسية تخفِّف من الأزمة النفسية، وهذا الأمر من المهمات الأساسية للفن، لأن الفن "يريح الإنسان من كل ما لا يقدر على فعله وتحقيقه على وجه ثانٍ، إما لمانع أخلاقي أو لعائق مادي بحت”(1)
إن (الخلق) الناجح في القصيدة الفنية الذي يأخذ بعين الإعتبار الظروف الموضوعية والذاتية للشاعر، إنما هو توليد أصيل، ويقوم بتمييز (أنا) الشاعر من بقية أشكال (الأنا) الأخرى للشعراء.
ب- الإيحائية:
__________
(1) هويغ، رينيه، 1978، الفن وتأويله ج1 تر: صلاح برمدا- وزارة الثقافة، دمشق، ص 26.(1/98)
"يلعب الإيحاء دوراً بارزاً في رسم الفروق الفاصلة بين النص اللغوي العادي وبين النص الشعري الإبداعي، لأن الإيحاء هو الذي ينقل النص من صيغة المباشرة أو التقريرية إلى أفق أرحب وأوسع، حيث يمنحه القدرة على تجاوز الإطار المحدود لمجال التواصل الفوري، بين الناطق والسامع، ويمكنِّه من حفر خندق سري داخل النفس الإنسانية، أي داخل ذات القارئ المستهلك للنص، بجميع ما تحمله هذه الذات من مستويات الوعي واللاوعي، فيتحوَّل النص الشعري نتيجة هذا الفعل الكيماوي السحري من الانغلاق إلى الانفتاح"(1)
ولعل الإيحاء على صلة وثيقة بالغموض الشعري خاصة، والغموض في الفن عامة.
"ويعتبر الغموض أباً للإيحاء، باعثاً له، دون أن يعني ذلك، انفصالاً أو استقلالاً فهما يسلكان درباً واحدة، الواحد إلى جنب الآخر، وقد يندمجان معاً فتصبح الكلمة الغامضة أو الصورة الغامضة هي ذاتها مثار وحي وتأثير على الآخرين"(2).
إن دراستنا للإيحاء سوف تنطلق من قدرة الصورة الشعرية بما تحمله من تكثيف وخصب على نقل الحالة النفسية لشاعر العذاب الرومانتيكي، كذلك بما يكتنفها من رمز، "فالرمز إيحائي بجوهره، وأعني بإيحائي أنه لايقف على قدم الأشياء المادية ليصورها، بل يتعداها لينقل التأثير الذي تتركه هذه الأشياء في النفس بعد أن يلتقطها الحس. فهو لا يعبر عنها بقدر ما يعبر عن الأجواء الضبابية المبهمة التي تسربت إلى أعماق الذات المتفرعة المتباعدة الأطراف والأصول"(3)
__________
(1) بنيس، محمد 1985، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ط2 دار التنوير للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ص 165.
(2) الأيوبي، ياسين، مذاهب الأدب ص 35.
(3) كرم، أنطون غطاس، الرمزية والأدب العربي الحديث، ص12.(1/99)
إن جميع الدلالات التي ينجزها شاعر العذاب الرومانتيكي عبر الإيحاء تنصبُّ بالضرورة في إظهار حالة التأزم النفسي، وتتفاوت القدرة الإيحائية من شاعر إلى آخر حسب تفاوت التأزم النفسي بينهما، وبالنتيجة هناك تفاوت في مستوى العذاب، وبالضرورة أيضاً يرتبط مفهوم الإيحاء "بتعددية دلالات الصورة، وباتساع مناخها، وهو لا يرتبط بالبناء وطرائق تركيبها فقط، وإنما يرتبط أيضاً بالمضمون، وبعلاقة التفاعل بين عناصره من جهة، وبينها وبين عناصر البناء من جهة أخرى"(1).
كما أن الإيحاء على صعيد اللغة هو عملية انزياح تقوم بها الصورة الشعرية بمفرداتها ودلالاتها، والشعر بطبيعته "انزياح عن قانون اللغة، بالنسبة للنثر العلمي أو اللغة العادية التي في درجة الصفر، لأن الشعر هو تحطيم اللغة العادية، وإعادة بنائها، بعد ذلك، على مستوى أعلى"(2) ولا يحدث الإيحاء في الصورة إلا بحدوث فعل الانزياح الذي يرتكز على ظروف مرحلته الزمنية والاجتماعية.
__________
(1) عساف، عبد الله، الصورة في قصيدة الرؤيا، ص 346.
(2) عزام، محمد، 1994، التحليل الألسني للأدب وزارة الثقافة - دمشق ص105.(1/100)
يتفاوت مستوى الانزياح (الانحراف) في الشعر بين مدرسة وأخرى، فلم تجد (المدرسة الرومانتيكية) في الانزياح الذي حضنته (المدرسة الإحيائية) ما يلبِّي احتياجاتها ومتطلبات شعرائها تبعاً للوعي المعرفي لأولئك الشعراء، بيد أن البلاغة العربية القديمة التي ارتكز الإحيائيون على بنيتها الفنية قد مهدَّت للانزياح الشامل الذي شهدته القصيدة الحديثة "فالاستعارة مثلاً يمكن أن توصف بأنها انحراف موضعي من اللغة العادية، أما الانحراف الشامل فيؤثر على النص بأكمله، ومثاله معدَّلات التكرار الشديدة الارتفاع أو الانخفاض لوحدة معينة في النص، مما يعدُّ انحرافاً شاملاً ويمكن رصده بشكل عام عن طريق الإجراءات الإحصائية"(1)ومن ثم تخلت الصورة العربية في المدرستين الرومانتيكية والحديثة عن تلك الاستعارة إلى حد كبير، وانطلقت إلى مساحات أخرى في الخيال وفي النفس البشرية، حيث "أحسَّ الشعراء المحدثون بأن الصورة الشعرية التقليدية القائمة على التشبيه والاستعارة ووسائل البيان العربية الموروثة ليست كافية لأن يمتلك الشاعر الأشياء امتلاكا تاماً، ولأن يقبض عليها ويتوحَّد معها، فعمدوا إلى جعل الصورة الشعرية ضرباً من المفاجأة ومن الرؤيا القائمة على التغيير الجوهري في نظام التعبير فمنحوها بذلك غرابة مدهشة، والغريب جميلٌ، لكنه متعب، فهو يحتاج في فهم الشعر وتذوقه وتقديره والتفاعل معه إلى كدِّ الذهن واللجوء إلى ضروب التأويل والتصور والاستبطان الداخلي لا سيما حين يحذف من القصيدة كلُّ تسلسل منطقي(2).
__________
(1) المرجع السابق، ص 106.
(2) أبو حاقة، أحمد 1979 الالتزام في الشعر العربي ط1 دار العلم للملايين -لبنان، بيروت ص 380.(1/101)
وعليه فإن التجديد في الصورة الشعرية في المدرسة الرومانتيكية يفتح أمام الإيحاء دلالات جديدة ومتنوعة، خاصة فيما يتعلق بالصور المتراسلة التي تعتبر "نمطاً آخر من التركيبات الفنية التي شاعت في القصيدة الرومانتيكية، كما شاعت في القصيدة المعاصرة، وينحصر مجالها في نطاق الحواس إذ تحوِّل الإدراكات من واحدة إلى أخرى، فبدلاً من أن نسمع الصوت نراه ((النغمة الخضراء)) وبدلاً من أن نرى اللون نسمع إيقاعه ((سندسي الصوت)) وهلم جرا، وتكون النتيجة الطبيعية لهذا التحويل أو التداخل وحدة بين الحواس تتشابك على رحابها المشاهد والألوان والمسموعات والمشمومات، تتناغم وتتحاور، وتؤكِّد في هذا التناغم والتحاور كلية الرؤيا البشرية، وشموليتها وجدلية عناصرها المشكلِّة لها"(1)
النص الأول في حديثنا عن الإيحاء اخترناه للشاعر (نديم محمد) من قصيدة (النشيد الثامن) من ديوان (آلام) يقول فيه واصفاً نفسه(2):
والضحى.. صفعة الحياة.. على ... خدّيه.. تكوي عروقه بالشقاءِ (مدور)
والرغاب الدكناء تصفرُّ كالحيات ... في صدره.. اليبابِ.. القواءِ (مدور)
والشعور المسعور يلتهم النذرَ ... المبقى من أعظم جرداءِ (مدور)
والإباءُ الجريحُ... يزحف بالنصل ... عناداً.. إلى ذرى الخيلاء (مدور)
والشموخ الكسيح.. ينشب كفيه ... احتماءً.. بنجدةِ الأعضاءِ (مدور)
بعضهُ.. لحدُ بعضهم مثلما يدفن ... في نفسه.. وقود الصلاءِ (مدور)
تنطوي السوداوية في النص على العدمية، حيث أدرك الشاعر أن الحياة مصدر الشرور والمآسي والويلات، فتراجعت دوافع الصراع أمام وطأتها، وكان الانسحاق هو الوضع النهائي الذي عبَّر عنه (نديم محمد) في النص.
__________
(1) اليافي، نعيم، أو هاج الحداثة ص 210-211.
(2) محمد، نديم، ديوان آلام، ص 53-54.(1/102)
تشتمل الأبيات على الكثير من الصور الجزئية التي تنقل للمتلقي الحالة النفسية للشاعر بتفاصيلها، فالبيت الأول يعرض صورة مركبة تنطوي على صور جزئية ينبثق بعضها من بعض، ذلك أن (صفعة الحياة على خديه) وهي صورة جزئية قد لفتت الانتباه إلى تنامي الحالة النفسية المترديَّة عند (نديم محمد)، إذ توحي مفردة (صفعة) بالشدة والعنف اللذين تمارسهما الحياة على ذات الشاعر، وقد أسهمت هذه المفردة كحقل دلالي مرتبط بحقل دلالي آخر هو (الحياة) في إخصاب الصورة في سياقها النصي والاجتماعي الذي يحيط بالشاعر، ودخلت هذه الصورة الجزئية ضمن الصورة المركَّبة وهي (صفعة الحياة تكوي عروقه بالشفاء)؛ فلقد أصبح الفعل (تكوي) ذات دلالة نفسية مرعبة، لأن (صفعة الحياة) هي التي تقوم بذلك الفعل الذي يشير إلى مقدار الألم وإلى تعطيل الإرادة، وعليه فإنَّ مفردة (الضحى) في النص أصبحت تدل على زمن نفسي، وبالضرورة فإن هذا الزمن (الضحى) أسود، بل إن وجوده لم يعد متوافراً في حياة الشاعر، فالضحى في ذاكرتنا يدلُّ على الإشراق، بيد أن هذا الإشراق بعيد المنال في النص.
كذلك فإن البيت الثاني يفصح عن صورة مركّبة تنطوي هي الأخرى على صور جزئية، فصورة (الرغاب الدكناء تصفّر) تشتمل على صورتين: الأولى (الرغاب الدكناء)، والثانية (الرغاب تصفرّ)، وإن إلحاق كلمة (الدكناء) بـ (الرغاب) قد أزاح هذه المفردة الأخيرة عن معناها المعجمي وفتح لها أبواباً وعوالم من الإيحاء، فـ (الرغاب) الموجودة في الأبيات غير مستعدَّة لأن تتحقق على أرض الواقع لارتباطها بالحقل الدلالي (الدكناء).
إن الرمز الذي توحي إليه (الرغاب) قد تبدّل عما هو موجود بين عامة الناس، وأصبحت الرغبة في النص مشوهةً في سعيها إلى الظهور.(1/103)
كما أن الصورة الجزئية الأخرى (الرغاب تصفرُّ في صدره) زادت من إخصاب الصورة المركَّبة (الرغابُ الدكناء تصفرّ)، فالاصفرارُ علامة من علامات الشيخوخة والعدم، وعندما انصهرت هذه الصفرة بالرغبة، أوحي إلينا بأنَّ ثمة حاجزاً منيعاً (الأنا الأعلى) حال دون تحقيق الرغبات، فبقيت مكبوتةً، لهذا فمن البدهي أن تصفرّ مع مرور الزمن، وبما أن الاصفرار يقترن بمرحلة الشيخوخة فإن الرؤيا المستقبلية لتلك المرحلة لابد أن تكون قاتمةً، ونلاحظ في البيت أيضاً الصورة المركبة الأوسع من سابقتها (الرغاب الدكناء تصفّر كالحيات)، فقد دخلت على هذه الصورة مفردة جديدة (الحيّات) المقترنة بكاف التشبيه.
إنّ ذكر (الحيّات) يوحي إلينا باحتمالين يمكن أن يدركهما المتلقي على النحو الآتي:
1- الاحتمال الأول للصورة: هو أن اقتران الرغبة بالحيّات يوحي بأن المكبوتات تفعل فعل (الحيّات) في تحرُّكها ضمن (اللاشعور)، كي تظهر في الواقع وتتحقق فيه، لذلك فهي تنهك الذات وتضعفها.
2- الاحتمال الثاني للصورة: هو أن اقتران الرغبة بالحيّات الصفراء يمكن أن يعزِّز ماذكرناه سابقاً، من أن الرغبة قد تبرد وتتراجع تماشياً مع المدة الطويلة التي كبتت خلالها، وما ذكر الحيات الصفراء إلا للتعبير عن هذه البرودة وعن شدة الاصفرار (الموت، الشيخوخة)، وعليه فإن أمامنا في هذه الصورة إيحاءين (احتمالين) مما يحقق سمة هامة من سمات الفن القائم على الاحتمال.(1/104)
في البيت الثالث نطالع صورة (الشعور المسعور)، حيث لم يصبح هذا الشعور مسعوراً إلا لأنه تعرّض لاهتزازت من الخارج، فتراجعت إثر ذلك الذات متخبِّطة، لذا ألحق هذا الوضع النفسي الأذى بالجسد وبأعضائه، واستمرَّ الشاعر عبر مفردة (المسعور) في الترميز إلى الصراع الداخلي العنيف، فأظهرت هذه المفردة حجم العبء الملقى على عاتق (الأنا)، وتجدر الإشارة إلى أن لفظة (الشعور) في الصورة لا تعني (الأنا) مطلقاً، بل إن (الشعور) هنا يرادف كلمة (الإحساس) إلى حد كبير.
كذلك فإن صورة (الشعور المسعور) جزئية بالنسبة للصورة المركبة الثانية (الشعور المسعور يلتهم النذر المبقّى)، فقد جاء الفعل (يلتهم) ليضيء عمل (الشعور المسعور) من جهةٍ، ويوحي بالعذاب والاضمحلال والفناء من جهة ثانية، وتكتمل هذه الصورة بصورة كلية مع انتهاء البيت عند تركيب (أعظم جرداء) الذي رسّخ فكرة القحط والفراغ والانهدام على الصعيد النفسي.
لقد بدت صورة (الشموخ الكسيح) في البيت الخامس محمَّلة بالكثير من السخرية المرّة، فارتباط (الكسيح)بـ (الشموخ) أودى بالمعنى الحقيقي للشموخ الذي احتفظنا به في ذاكرتنا على أنه يعني الإباء والمجد والسمو، ولكنه في الصورة السابقة أوحى بالضعف والانكماش وانقراض الحركة والصراع، فجوهر هذه الصورة قائم على التناقض، لأن كلَّ حقلٍ دلالي فيها مختلف في المعنى المعجمي عن الحقل الآخر، إلا أنّ اندماج حقليهما الدلاليين لتكوين صورةٍ شعرية رجَّح فكرة الموت كنتيجةٍ خرج بها المتلقي من هذه الصورة.(1/105)
ولعلّ تلك الصورة جزئية أيضاً من واحدة أخرى وهي (الشموخ الكسيح ينشب كفيه احتماءً بنجدة الأعضاء)، إن غزارة الصور الجزئية يفضي إلى احتمالات إيحائية أكبر ضمن الصورة المركّبة، فعادة ما يمتاز تلاحق الأخيلة بالتكثيف وارتفاع مستوى الرمزية في القصيدة، فالشموخ الكسيح حين ينشب كفّيه يوحي بالضرورة بمحاولة فاشلة لإعادة خلق الذات المشوَّهة، لأن سيطرة الحقل الدلالي (كسيح) على الصورة بكاملها أدَّى إلى عدم جدوى تلك المحاولة، وهذا ما رسَّخه البيت الأخير في صورة (بعضه لحد بعضه)، فـ (الهاء) عائدة على ذات الشاعر، ثم إن الانطباع العام الذي يخرج به المرء عبر ملاحظاته للصورة السابقة ينمُّ على تآكل الذات بصورة متزايدة على الصعيدين الجسدي والنفسي، وقد جاء تكرارُ مفردة (بعضه) مرتين في الصورة واستنادها على مفردة (اللحد) ليجعل الإيحاء منصبّاً على بؤرة واحدة تتمثل بـ (القبر) ومعطياته، لأن (بعضه) الأولى والثانية في الصورة هما (القبر) بشكل أو بآخر.
يمتاز الشاعر (عبد الباسط الصوفي) بقدرةٍ كبيرة على الإيحاء عبر عفويةٍ واضحة وتكثيفٍ كبيرٍ في الصورة الشعرية، واستخدام موفقٍ للرمز المنطلق من الإيحاء، بيد أننا رأينا في دراسة سابقةٍ للشاعر (نديم محمد) أن الصورة لديه تقترب من الذهنية، وتتكرُّر بكثرة في ديوانه (آلام)، وهذه الذهنية ترتبط بالحالة الانفعالية الكبيرة عند الشاعر(نديم محمد).
يقول الشاعر (الصوفي) في قصيدة له بعنوان (في ظلال الفجر).(1):
ارسمي لي في خشوع الصمت أشباح مصيري
وأدفني في معبد الآلام أشلاء غروري
ضاع في وجداني الليل فهل ضاق ضميري؟
إن العدمية أحد تجليات المعذب الأساسية في النص، وهي بالتأكيد تفرض الغربة والسوداوية على الأبيات أيضاً.
__________
(1) الصوفي، عبد الباسط، الآثار، ص 29.(1/106)
لقد لاحظنا سابقاً أن العدمية لا بد لها أن تنطوي على الغربة والقلق، غير أن العكس ليس صحيحاً، هذا لأن الشعور النفسي المزمن بالموت يولِّدُ تجليات أخرى للمعذب.
لقد اختزلت تجربة (الصوفي) الحياتية كلَّ أنواع العذاب على مختلف الأصعدة. فقد عانى الاغتراب بأنواعه، وعانى الموت بألوانه، ورفض قيم المجتمع لهذا لم تستطع (آلام) (نديم محمد) الحياتية على الرغم من شدتها -أن توازي كارثة (الصوفي) وصدمته بالحياة.
وقد نجح الشاعر (الصوفي) في تجسيد هذه التجربة عبر استخدامه لتقنيات فنية خففت من تقنيات المدرسة الإحيائية واستطاع أن يفجر مشاهد جديدة من ظلال الخيال وإيحاءاته فـ "مايهم في شعر التجربة هو أن يكون الظرف قادراً على إيقاظ استجابة طازجة، أي أن يتخطّى الصياغة. وهذا يفسّر سعي الشعر الحديث الدائب بحثاً عن مشاهد جديدة (أو عن منظورات على الأقل) ليستنبط منها معاني جديدة، تميزها من التفضيل الكلاسيكي للمشاهد والمعاني التقليدية"(1)
نعود إلى أبيات (الصوفي) السابقة حيث افتتحها الشاعر بفعل الأمر (ارسمي) ذلك أن المخاطب (أنثى)، إلا أن هذه الأنثى ليست مساعداً على الخلاص ضمن الأبيات، فمهمة الفعل (ارسمي) هي أن يكون مفتاحاً للنص، وشروعاً في توصيف الذات، إذ يدور النص في مجمله حول تعرية الحالة النفسية للشاعر.
في البيت الأول تستوقفنا صورة (أشباح مصيري) إن (المصير) سمةٌ مستقبلية، بيد أن الشاعر استخلص رؤيا قاتمة لذلك المستقبل، وحتَّم على ذاته نهايةً غير سليمة، فالخاصية التي ترافق (الأشباح) تختزن الرعب والخوف، ثم إن هذه المفردة (الأشباح) أفادت في نقل صورة الذات وهي في طور التلاشي، لأن (الأشباح) في الأصل أشياء غير مجسَّدة تماماً.
__________
(1) لانغيوم، روبرت، شعر التجربة، ص 58(1/107)
من المفترض هنا أن نشير إلى أن الصورة الشعرية بحقليها الدلاليين، تقدِّم لنا مرتكزاً على قدر كبير من الأهمية، وهو أن أحد الحقلين فيها يتفوق على الآخر، ومن خلاله نستنتج الإيحاء النفسي النهائي للصورة، فعندما نقول: (أشباح مصيري) فإن (أشباح) كحقل دلالي أقوى من (مصيري) كحقل دلالي آخر، والنتيجة النهائية لإيحاء هذه الصورة على الصعيد النفسي يبرز لنا الموت والفناء. أما إذا قلنا: (شمس مصيري) فالمعنى يتغيَّر تماماً، لأن (شمس) كحقلٍ دلالي سيطرت نفسياً على الصورة بشكل مطلق، وسيطرت بالطبع على الحقل الدلالي (مصيري)، وقد رأينا أيضاً فيما سبق أن صورة (الشعور المسعور) التي جاء بها (نديم محمد) توحي بتآكل الذات لأن الحقل (مسعور) تفوق على الحقل (الشعور)، ومنه استنتجنا الإيحاء النهائي للصورة، لأنه لو قلنا: (الشعور الجميل) لكان هناك اختلاف في المعنى والإيحاء، إذ إن الحقل الدلالي في الصورة، والذي يشير إلى حالة نفسية سلبية (الموت، الغربة، المسعور، الأشباح، الأنقاض) هو الحقل الراجح في الصورة الشعرية وهو يؤثِّر في الوضع النهائي للإيحاء.
ثمة صورة أخرى من الصور التي توحي بالعذاب في النص هي (أشلاء غروري)، فالغرور حالة إرادية تقوم بها (الأنا) شعوراً منها بتفوق الذات على الآخرين، وهي بالنتيجة دافع لمواصلة الحياة اليومية، ولكنَّ إلحاق هذا (الغرور) بمفردة من قبيل (أشلاء) ينهي تلك الحالة ويدِّمرها، وينقل لنا الإيحاء بوجود عائق نفسي ذي جذور عميقة، ويبدو أن الصورة -من خلال التناقض الموجود فيها- عملت على إضاءة البيت كاملاً عبر فعل الخصب الذي قامت به، ونعني بالتناقض أن مفردة (الأشلاء) بما تحمله من إيحاء بالتشظي وبالتمزق تختلف عن مفردة (غرور) بما تحمله من شعور بالسيطرة وتفُّوق الذات وثقتها بنفسها.(1/108)
ولعل البيت الأخير يحيل القارئ على احتمالات إيحائية متعددة، فمن خلال صورة (ضاع في وجداني الليل) يستطيع المرء أن يتبين مدى انشغال الشاعر بالزمن من ناحية، وأن يدرك مقدار التيه والضياع عند (الصوفي) من جهة ثانية. ثم إن الصورة (ضاق ضميري) تزيد من الطاقة الإيحائية للبيت، بحيث تحال الأبيات على (النص المفتوح).
إن الضمير على علاقة وثيقة بالقيم الأخلاقية (النبل، الخير، الحق، الوفاء، الخ...) لذا فإن وجود تركيب (ضاق ضميري) يوحي بأن الشاعر يعمل على تأنيب ذاته، بيد أن السياق العام للنص لا يوحي بأن (الضمير) الذي طرحه الصوفي. يعني ذلك المكان الجامع للقيم الأخلاقية الجميلة، فتأنيب الذات يشير إلى أن هناك فعلاً مشيناً لاترضى عنه (الأنا الأعلى) وهذا مخالف لسياق النص.
لقد أسهم الإيقاع الموسيقي للأبيات في تسهيل نقل الإيحاء إلى مجالات أوسع، فإضافة إلى موسيقا بحر الرمل الخارجية والتي تمتاز بغنائيتها، فإن التقطيع الإيقاعي للمفردات داخل البنية اللغوية واضح، ولن نتعمق هنا في دراسة الموسيقا وأثرها في نقل الحالة النفسية ونرجئ الحديث عنها إلى فصل الحديث عن التنويع الموسيقي.
أما الشاعر اللبناني (الأخطل الصغير) الذي لم يتبلور في نصوصه الشعرية مفهوم (المعذب) بشكل واضح، فإنه ظل متأثراً بإنجازات المدرسة الإحيائية في الشعر وذلك في نصوصه التي تعرض للألم والمتاعب والأحزان التي لم ترق إلى آلام/ المعذب/، لهذا فإننا قلما نعثر في تلك النصوص على قدرات إيحائية كبيرة، على الرغم من أن الجواء العامة لقصائد (الأخطل الصغير) هي جواء رومانتيكية من حيث التركيز على عناصر الطبيعة ببراءتها وفطريتها هرباً من المجتمع، وبالضرورة فإن الرومانتيكيين ليسوا جميعهم معذبين.
يقول الشاعر (الأخطل الصغير)(1) في قصيدة (سلي الليل):
قسمتُ فؤادي بين بؤسي والهوى
فهذا له شطرٌ وهذا له شطرُ
__________
(1) الأخطل الصغير، الديوان، ص 72.(1/109)
حياتيَ، هل ثغرُ البنفسج يفترُّ
كعهدي، وهل يجري كعادته النهرُ
وهل يذكر الصفصاف إذ نحن عنده
وفي أذن الظلماء من همسنا نقرٌ
سقيت مرارات الحياة فلم أجد
كمثل الذي يسقيه من كفك الهجر
ينطوي النص على حالة من حالات الألم الناتجة عن الحرمان العاطفي، ولم يتطور ذلك الألم ليصبح عذاباً نفسياً عميقاً، ذلك أن اللغة في النص تحال على لغة القصيدة / الإحيائية/ التي لم يتبلور فيها مفهوم المعذب أيضاً، ومن ثم فإن الإيحاء النفسي للصور والتركيبات لم يبرز /المعذب/ كسمة جمالية بارزة في أشعار / الأخطل الصغير/ عامة، وفي النص السابق خاصة.
إن صورة (هل ثغر البنفسج يفترُّ) وتركيب (هل يجري كعادته النهر) يقومان بعمل إيحائي واحد، وهو عودة الاستقرار، أو الأمل بعودته، حيث لا يعود هذا الاستقرار إلا بحضور الأنثى، وبانتفاء صفة (الغياب)، وهذا الموقف لا يفصح عن تأزم نفسي يمكنه أن يضع الشاعر في نطاق العذاب، كما أن الصورة (وفي أذن الظلماء من همسنا نقر) توحي بالعلاقة الوطيدة بين الشاعر ومحبوبته (في الزمن الماضي).
كذلك فإن لغة النص لا تخلو من الترهل والتكرار مما ضيَّع فرص الإيحاء وقوته، فعلى سبيل المثال، إن الشطر الأول من البيت الأول كاف للتعبير عن الحالة، ولم يكن الشطر الثاني إلا الشطر الأول ذاته من حيث المعنى، وهذا لايعني قطعاً أن تدَّني مستوى الإيحاء في إظهار مفهوم /المعذب/ ينفي صفة الشاعرية عن الأخطل الصغير أو غيره من الشعراء، فنحن ندرس ظاهرة جمالية عبر تجليها فنياً، وربما لا توجد هذه الظاهرة عند شاعر ما، ومن البدهي ألا تُظهِرَ الفنِّيات عند ذلك الشاعر مفهوم/ المعذب/ لأن هذا الشاعر يعرض لقيمة جمالية أخرى (تراجيدي، بطولي، جميل، الخ...)، وهذا الأمر ينطبق على الشاعر (عمر أبي ريشة) الذي لم يتبلور لديه مفهوم /المعذب/ بشكل واضح، وكذلك الشاعر (نزار قباني)، غير أنهما يظهران قيماً جمالية أخرى في نصوصهما كالبطولي والجميل.(1/110)
ج- التعبيرية:
قبل أن نتحدث عن مفهوم /التعبيرية/ لابد لنا أن نشير إلى أن الخلق الشعري والإيحائية والتعبيرية تتداخل فيما بينها في النص الشعري الواحد، فالتوليد الجديد في الصورة يرافقه بالتأكيد إيحاء جديد ورمز جديد أيضاً، ويرافقه أيضاً تعبير متميز عن الحالة النفسية.
"إن التعبيرية تنفّذ المعاني التي تتضمنها تسميتها، يعني، أنها تعبِّر عن انفعالات الفنان العاطفية بأي ثمن"(1)، وهذه التعبيرية بصورتها الانفعالية تظهر في فن الشعر عبر لغة النص عامة، وعبر الصورة خاصة، و (التعبيرية) كمصطلح ترتبط في الأصل بفنون أخرى غير فن الشعر، إنها ترتبط بالفنون الجميلة (الرسم بأنواعه، النقش، النحت، الخ...)
ويبدو أن هناك علاقة وثيقة بين التحول التعبيري والتحول الرمزي "فهما ينبعان من تربة مشتركة -من حياة الإنسان الذاتية في المجال العريض المكوَّن من تفكيره وإحساسه، لذا فإن مصطلح (الرمزي) يستعمل أحياناً بمفهوم عام جداً لتحديد تلك الخواص في عمل من الأعمال التي لها علاقة بعالم الفنان الداخلي، بما فيه الإحساس والتفكير كلاهما، إذا شاهدنا أنه حين ينظر الرسام أو الشاعر أو الفنان إلى العالم فإنه يضفي عليه شيئاً من ذاته - إنه يسبغ على الواقع المادي للشيء من الواقع النفساني الذي يتخذه هذا الشيء في شعوره الخاص.
__________
(1) ريد، هربرت، 1975 الفن والمجتمع ط1، تر: فارس متري ضاهر، دار القلم، بيروت ص 169(1/111)
ولكنَّ الفكر والإحساس حدثان مجردان وغير ملموسين في حياة النفس ولكونهما كذلك فإنه ليس من وجود محسوسٍ لهما، لذا لا يمكن أبداً للشكل واللون أن يكونا نسخة طبق الأصل عن الأفكار والإحساسات وإنما يستطيعان فقط التلميح إليها بصفة متطابقة"(1)، ومصطلح (التعبير) مصطلح عائم، أي أن هناك تفسيرات متعددة له، وهو يختلف من الفيلسوف إلى منظر علم الجمال إلى معتنق المذهب الكلاسيكي في الفن إلى معتنق المذهب الرومانتيكي في الفن أيضاً إلخ..، فعلى سبيل المثال يربط (بنديتو كروتشه) أحد منظِّري علم الجمال الحسي بين التعبير والحدس ويعتبرهما شيئاً واحداَ فيقول "نستطيع إذن أن نضيف، إلى التعاريف المختلفة التي وصفنا بها الحدس منذ البداية، هذا التعريف الجديد:
((المعرفة الحدسية هي المعرفة التعبيرية)). فالحدس المستقل تجاه الوظيفة العقلية، المنفصل عن التمييزات اللاحقة التجاربية، عن الواقع وغير الواقع، وعن تكوين الزمان والمكان أو إدراكهما - وهما عمليتان لاحقتان أيضاً، هذا الحدس أو الامتثال يمتاز مما نشعر به ونلقاه من سيال الحس أو من المادة النفسية، بوصفه ((صورة)) وهذه الصورة المختارة هي التعبير فالحدس إذن هو التعبير دون سواه، ولا أكثر ولا أقل))"(2)
__________
(1) كوليير، غراهام، الفن والشعور الإبداعي، ص 159-160.
(2) كروتشه، بنيدتو 1963 علم الجمال تر: نزيه الحكيم- المطبعة الهاشمية ص 18.(1/112)
كذلك فإن دراستنا للتعبير الشعري في نصوص العذاب الرومانتيكي ستنحو المنحى النفسي أيضاً، فقدرة الشاعر الرومانتيكي على التعبير (بصيغته الانفعالية) من خلال الصورة يأتي من التركيز على توصيف الحالة بجزئياتها، وأما الفوارق الجوهرية بين (الإيحاء) و (التعبير)، فتكمن في أن (الإيحاء) سمة فنية تتعلق بالمتلقي، أما (التعبير) فسمة تتعلق بالفنان، وبمعنى أوضح، إن التعبير هو الانعكاس المباشر لانفعالات الفنان في اللوحة الفنية (القصيدة الشعرية، الصورة الشعرية، لوحة تشكيلية، لوحة سوريالية، لوحة تكعيبية، إلخ...)، وأما الإيحاء فهو حالة تأتي بعد إنجاز اللوحة الفنية، وهذه الحالة خاصة بالمتلقي ووعيه، فهو يقوم بإعادة قراءة اللوحة من خلال بنيته النفسية ومداركه المعرفية ليستخلص منها الاحتمالات التي ينطوي عليها العمل الفني الأصيل عبر دلالاته ورموزه.
النص الأول للشاعرة (هند هارون) بعنوان (الرؤى القدسية)(1):
ألقيت بالهم الجريح.. وروضتي
الغنّاء.. حوَّلها العذاب... طلولاً..
ألقيتُ بالحزنِ العميقِ... ونجمتي..
الوسنى.. تحاكيني أسى.. وذبولاً
وضممتُ.. في الليل المقيم وسادتي
أطبقت.. جفناً مثقلاً... وكليلاً
وحنا السريرُ على حطامٍ هاجعٍ
يغفو لينهض في الصباح عليلاً
عطف السرير.. على بقيَّة مهجةٍ
كادت تودِّعُ،... قاتلاً وقتيلاً
وتصاعدتْ في الليل آهةُ مغرمٍ
شقتْ إلى قلب السماء سبيلاً
إن عنوان النص (الرؤى القدسية)، وسياقه يوحيان بأن هنالك علاقة صوفية بين الشاعرة وبين مخلِّصها من العذاب، وهذا ما يشير إليه البيت الأخير من النص، بيد أن ذلك المخلِّص بعيد المنال، فالحالة التي تعرضها الشاعرة مكتظَّة بإنجازات العذاب وتجلياته، حيث نرى منذ بداية النص أن هناك صورة نفسية غير مرضية لحياة (هند هارون)، إذ يتجلَّى الحزن في القصيدة مرات عديدة وكذلك الهم والعذاب.
__________
(1) هارون، هند، سارقة المعبد، ص187-188(1/113)
يبدأ النص بالفعل (ألقيت) الذي يعبِّر عن القهرية في عملية (الإلقاء) فهذا الفعل ليس من إرادة الشاعر، ولم تشأ القيام به، بل أجبرت على فعله قهراً، والذي زاد الطين بلة أنَّ فعل (الإلقاء) كان على (الهم الجريح) وذلك في قول الشاعرة: (ألقيت بالهم الجريح)، فلم تكتف الشاعرة بذكر مفردة (الهمِّ) مستقلة، بل أصرت على أن تلحقها بمفردة الجريح تعبيراً منها عن التشوه الذي لم يسلم منه (الهمُّ) أيضاً.
إن (روضتي) في تركيب (روضتي الغنّاء حوَّلها العذاب طلولاً) ليست روضةً مرئية تشاهد بالعين المجرَّدة، ذلك أن هذا الحيز المكاني (الروضة)، أسقط على الذات فانقلب من معناه المكاني إلى معنى نفسي عميق يعبِّر عن الأشياء الجميلة في حياة (هند هارون) التي تؤمن لها الاستمرارية في الحياة قد اضمحلت وآلت إلى اليبس والقحط.
وتكرِّر الشاعرة الفعل القهري (ألقيت) في تركيب يتشابه مع ذلك الذي رأيناه في مطلع البيت الأول، (ألقيت بالحزن العميق)، ثم إن الشاعرة تقوم بتعميم حزنها وألمها على العناصر الموجودة في الكون كالنجوم مثلاً في قولها (ونجمتي الوسنى تحاكيني أسى وذبولاً)، فمفردات (الوسنى، أسى) هي ذات جذور نفسية عميقة عملت على تشكيل اللوحة الشعرية الممتلئة بمعطيات السواد والإحباط، ولعل الشاعرة لم تصف النجمة أنها وسنى إلا لأن حالتها النفسية تقتضي ذلك، كذلك فإن هذه النجمة لم يلفّها الأسى والذبول في اللوحة الشعرية إلا لأن الشاعرة تنطوي نفسياً على ذلك الأسى وعلى ذلك الذبول.
يتلاحق التعبير عن الحالة النفسية في الأبيات، فالبيت الرابع يشهد حالة من التعب التي تنتاب (هند هارون) ساعة النوم، وذلك في قولها (أطبقتُ جفناً مثقلاً... وكليلاً)، فالجفن لم يثقل إلا بالعذابات اليومية ولم يتعب إلا من صور الإحباط والحرمان التي تجعل من الواقع كله صورة سوداء قبيحة.(1/114)
لا يؤدي النوم عند (هند هارون) وظيفةً مشجِّعةً قائمة على استحضار الراحة والاستقرار وتوازن الذات، بل إن الذات المحطمة والمنكسرة على الصعيد النفسي ستستفيق ذاتاً مريضة، لأن العلة ما زالت موجودة في أعماق النفس (يغفو لينهض في الصباح عليلاً)
لابد أن نشير إلى أن البيت يشير إلى محاولة لإيجاد بقعة ضوء عن طريق تركيب (تصاعدت آهة مغرم) لتضعنا أمام جواء صوفية هدفها الاتحاد والوصول إلى الحضرة الإلهية، غير أن تلك الجواء لم تخرج عن نطاق الحلم الصوفي.
ظلت لغة النص عند (هند هارون) متأثرة بلغة النص ((الإحيائي))، ومن ثم فإن مفهوم /المعذب/ لديها لم يرتق إلى عذابات /عبد الباسط الصوفي/ ولا حتى إلى/ نديم محمد/ بيد أنه موجود بالتأكيد، ولكن من الطبيعي أن يتفاوت ظهور القيمة الجمالية من شاعر إلى آخر.
لقد تعمَّق العذاب عند /هند هارون/ بعد وفاة إبنها /عمار/ في ديوانها الثاني (عمار في ضمير الأمومة) الذي لا يدخل في حيِّز دراستنا، لأنه صدر بعد عام (1985) وهو الحد الزمني الأقصى للدراسة، تقول الشاعرة في قصيدة (لم أذهب إلى داره)(1):
أتُراك تسكن في الضريح..؟
لا يا بنيَّ... وألف لا...
سُكناكَ في قلبي الذبيح
لا لستُ أقدر أن أضم ثراك في اللحدِ
أخشى الظنون تشوب أعماقي
وتغيّر النعمى بأشواقي
أولستَ منتشراً بآفاقي؟
وعلى رحاب اللَّه في البعد...؟
وتتفاوت قدرة (نديم محمد) على التعبير عن الحالة بين نص وآخر، فنراه في نص من النصوص يميل إلى التعبير المكثف عن حالته، ولكنه في نص آخر يظهر على غير ذلك، حيث تتراجع التقنيات الفنية للقصيدة بشكل عام، تتراجع القدرة التعبيرية على تجسيد اللوحة الشعرية التي تعكس صورة الحالة، ويقع الشاعر في إشكاليات فنية متعددة (الترهل، والتكرار، وتعاظم الذهنية)، يقول نديم محمد(2):
__________
(1) هارون هند 1988 عمار في ضمير الأمومة ط1، دار طلاس للترجمة والنشر دمشق،
ص 236.
(2) محمد، نديم، آلام، ص 49-50.(1/115)
أنا دمع منثّرٌ في الصحارى ... وأنينٌ مفتَّت في الرياحِ
أنا رجعٌ محطَّمٌ.. واحتضارٌ ... في ضلوع الإمساء والإصباحِ
أنا ميتٌ أجرُّ جثَّةَ نفسي ... بين عطف الحاني ولحي اللاحي
آه ما للسماء تدجو وتنها ... ر، وصدري ينهدُّ تحت وشاحي (مدور)
ينطوي العذاب في النص على كثير من السوداوية وحالات الألم التي يعانيها (نديم محمد)، وهذا ليس بجديد على شاعرنا الذي انكفأ على ذاته في صراع مرير مع ألوان الألم.
المقطوعة تعمل على التقاط جزئيات الحالة المتردية عند الشاعر (دمع منثَّر، أنين مفتَّت، رجعٌ محطم، احتضار، أجرّ جثة نفسي)، فمن البيت الأول باستطاعتنا رؤية هذا الأمر، إذ يتلازم الدمع مع الصحارى تعبيراً عن العدمية المنطوية على الضياع والتشتت، ولعل (الدمع) الذي يصور الألم والحزن في النص قد اكتسى حالة متصاعدة وعبّر عن تأزُّم نفسي كبير عندما جاء ملحقاً بالصحارى التي تعكس بدورها مسألة التيه والضياع.
وهكذا فإن (الشطر الأول) من البيت جاء ليعزِّز الشعور بجوهر العلاقة بين (نديم محمد) والمحيط.
كما أن الشطر الثاني من البيت الأول يطالعنا بصورة (أنين مفتَّت في الصباح)، فالأنين وحده كاف لأن يعبِّر عن الآلام والإحباط، بيد أن إدخال مفردة (مفتَّت) عليه أضاف عملية التهديم على الألم والحزن، ثم جاءت مفردة (الرياح) في نهاية هذا الشطر لتعبِّر بشكل نهائي -مع الصورة السابقة- عن العدمية، وهذا الموت توطَّد في صور ومفردات البيت الثاني (أنا رجع محطم)، حيث تعمَّم الفناء على بقية أجزاء المحيط (الصبح، المساء) فالمكانُ الذي يتواجد فيه الشاعر والذي يتحدث عنه سيصاب بالنهاية بالموت لامحالة، وكأننا أمام لوحة فنية تجسدُ صورة الموت بأبعاده.
يبدو أننا سنقف بعض الوقت عند صورة (أنا ميت أجرُّ جثة نفسي)، حيث تحمل هذه الصورة خصباً كبيراً في التقاط دقائق الحالة، أما عوالم نجاح هذه الصورة فتحدَّد فيما يلي:(1/116)
1- الطرافة القادمة عبر التناقض الموجود فيها (الحركة) من خلال الفعل (أجرُّ) الموضوع مقابل (الموت) من خلال تركيب (جثة نفسي).
2- القدرة الإيحائية للصورة.
3- التوليد الذي شهدته الصورة، إذ قلَّما نشاهد تركيباً على هذه الشاكلة في شعر العذاب الرومانتيكي في سورية ولبنان.
4- الصورة في ذاتها تعبير ساخر مرٌّ معاً، عن الخلل النفسي (لنديم محمد)، وعن عدم قدرته على التوازن أمام مصاعب الحياة.
وأخيراً بوسعنا أن نقف في البيت الأخير عند صورتين، أولاهما (السماء تدجو وتنهار) والثانية (صدري ينهدّ تحت وشاحي)، فالصورة الأولى تشير إلى لوحة مشبعة بالحركة، إلا أن هذه الحركة ليست فعلاً قائماً على الصراع ومقارعة المصاعب؛ إنها حركة الموت داخل الذات، وكذلك كانت الصورة الثانية.
إن الفعل (تدجو) توليدٌ جديد على صعيد المفردة آت من كلمة (الدجى)، وهو منطلق الحركة في اللوحة (الصورة الشعرية وأساسها) ولعلَّ (السماء) عند ارتباطها بالانهيار تحوَّلت من عنصر خارجي مرئي إلى عنصر ذاتي محض، من خلال إسقاطها على الذات، وهذه السماء المنهارة مهدت لانهيار وتهديمٍ آخر (وصدري ينهدُّ تحت وشاحي) وكلُّ ذلك يعكس صورة السقوط التي ألمت بالذات.
رمز المرأة:(1/117)
إنَّ الرمز هو صورة الشيء محوَّلاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، بحيث يغدو لكل منهما الشرعية في أن يستعلن في فضاء النص. فثمة، إذاً، ثنائية مضمرة في الرمز وهذه الثنائية تحيل على تقويمين جماليين متماثلين. مع الإشارة إلى أن هذا التماثل هو الأساس في التحويل الذي يجريه المبدع. أي هو الأساس في جعل الثنائية واحدية في الرمز"(1)، فقد كان الرمز كسمة أساسية من سمات الفن الأصيل موجوداً في المدارس الشعرية بمختلف اتجاهاتها، غير أن الوعي الجمالي المختلف من مدرسة إلى أخرى يفضي بالضرورة إلى فهم مختلف لاستخدام الرمز في النص الشعري، فاستخدام الرمز في القصيدة العربية القديمة ينطلق من القوانين البلاغية المتمثَّلة بالاستعارة والكناية والتشبيه البليغ والتشبيه التام الأركان إلخ...، أما المدرسة الرومانتيكية العربية عامةً فقد تجاوزت إلى حد ما تلك القوانين واعتمدت على الطاقة الإيحائية للصورة بحاملها الاجتماعي الجديد، حيث يحضن الرمز تلك الطاقة الإيحائية من خلال إسقاط العناصر الخارجية على الذات.
__________
(1) كليب، سعد الدين، 1997 وعي الحداثة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 71.(1/118)
أما الخلاف بين المدرسة الرومانتيكية والرمزية فـ "يتمثَّل في اتجاه الشاعر في الأولى من الذات إلى العالم في حلم جميل هادئ، ينقله إلى الماضي البعيد والمستقبل المنتظر والطبيعة الوارفة والحبيبة الجميلة، وفي اتجاه الشاعر في الثانية من الذات إلى الذات نفسها، والبحث في زواياها المظلمة عن الماضي والحاضر والمستقبل والوجود، وجوهر الذات الفعلية، أما الخلاف الآخر بينهما فيتمثَّل في رفض الرمزية لمصدر الشعر الرومانتيكي القائم على الإلهام ومجانية الخيال، واعتبارها أن الجهد الشاق والاعتناء الشديد في صياغة القصيدة واختيار المفردات هو مصدر الجمال الذي تتحلى به، وغاية الخيال الرمزي سبر الغامض ومحاولة استخراجه وتنظيم صور النص"(1).
أما أهم العوامل النفسية التي هيَّأت نفوس بعض الأدباء العرب لتقليد مذهب الرمزية فتنحصر في "الكبت السياسي والاجتماعي الذي عانته البلاد دهراً طويلاً، في ظل الاستعمار التركي الغاشم ثم في ظل الاستعمار الأوربي الخبيث، وكلاهما ضغط النفوس ضغطاً عنيفاً، وجلب عليها من وسائل الظلم والعسف وأسباب القهر والإذلال وما تعجز الأقلام عن وصفه وبلوغ مداه، وكلاهما كان يعمل على كتم الأنفاس وإخماد الحريات"(2)
وأما الأغراض التي تناولتها الرمزية في الأدب العربي فتنحصر في أربعة أغراض:
"أوَّلها: تيسير التعبير عن المعاني التي لا يتسنى التعبير عنها بطريق مباشر، وإن كانت هذه المعاني ممَّا يدور في عالم الحس.
وثانيها: إرضاء الحاسة الفنية الجمالية التي لا تصطدم بالعرف الجمالي الأدبي.
وثالثها: إظهار البراعة والذكاء .
ورابعها: اتخاذ الرمز تقية لدفع الأذى والضرر"(3)
__________
(1) عساف، عبد الله، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، ص 75.
(2) الجندي، درويش، الرمزية في الأدب العربي، ص 399.
(3) المرجع السابق، ص 527-528(1/119)
لقد أشرنا سابقاً إلى القدرة الإيحائية للرمز وأنواعه، غير أن استخدام الرمز لا يتكلل بالنجاح دوماً، فقد يفقد خصوبته في السياق لوقوعه في إشكالات فنية ولغوية متعددة فينقلب إلى استعمال ذهني جامد لا إشعاع له على أرجاء النص، "فحين لا ينقلك الرمز بعيداً عن تخوم القصيدة، بعيداً عن نصِّها المباشر، لا يكون رمزاً، الرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، فالرمزُ هو، قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تتكوَّن في وعيك بعد قراءة القصيدة. إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشفَّ عالماً لا حدود له، لذلك هو إضاءة للوجود المعتم، واندفاع صوب الجوهر"(1)
والرمزية الشعرية تظهر على وجه الخصوص في "الشعر الغنائي، كما تظهر في الشعر التمثيلي، وهي في الشعر الغنائي تسعى إلى خلق حالة نفسية خاصة"(2)
وبما أن النص الشعري ضرب من الحلم فإن "هذه العلاقة الدائمة الثابتة بين عنصر الحلم وترجمته نصفها بأنها رمزية، على اعتبار أن العنصر نفسه رمز لفكرة الحلم اللاشعورية"(3) وعليه فإن رمز المرأة في نصوص العذاب الرومانتيكية يقوم بوظيفة نفسية حيوية في القصيدة الشعرية.
إن وجود المرأة في القصيدة هو (الحلم) بوجودها حقيقة وبالتواصل معها، فيفرِّغ هذا التواصل شحنات الكبت الناتجة عن الحرمان العاطفي.
__________
(1) أدونيس 1983 زمن الشعر ط3 دار العودة، بيروت ص 160
(2) مشوح، وليد، دراسات في الشعر العربي الحديث، ص147
(3) فرويد، سيجموند، نظرية الأحلام، ص 92.(1/120)
لقد أصبحت المرأة أحد مكونات العالم المثالي البعيد المنال الذي يسعى إليه الرومانتيكي المعذب، فمكِّونات العالم المثالي المنشود تتصف بقدرتها على تخليص الشاعر من معوقات الحياة، ويختلف وضع المرأة الحبيبة من شاعر إلى آخر من شعراء العذاب، ولكنها بشكل عام تشكَّل مخلِّصاً بعيد المنال، بل إن المرأة عند بعض هؤلاء الشعراء أحد مكونات العذاب من خلال ابتعادها وغيابها عن ساحة حياتهم. إما لظروف اجتماعية خاضعة للتقاليد وللعادات وإما لظروف شخصية محض، يقول (علي دمر) في قصيدة (غيبوبة الحلم)(1):
قبل رؤياكِ ما شعرتُ بعمري
كنتُ محواً وها أنا كالوليد
كالذي زار كوكباً من جديد
فهو في عالم بديع فريد
كلٌّ خوفي من السقوط من الصحو
لدى يقظة الفراق المريد ... ... (مدور)
ترمز المرأة في المقطوعة إلى صورة من صور الانبعاث والخلق لحياة جديدة يحلم الشاعر بإنجازاتها، ومن ثم فإن عدم وجود الأنثى يعني عدم وجود الحياة إطلاقاً، إذ إن الشطر الثاني من البيت الأول (كنت محواً وها أنا كالوليد) يفصح عن العدمية في حال غياب الأنثى، ويوضِّح غياب الزمن الجميل بغياب الأنثى.
ويبدو أن حضورها هو الولادة الأولى والحقيقية للشاعر، حيث يصبح للأشياء معنى جديد فريد، وتنقلب عناصر المحيط من حالة سكونية قبيحة إلى حالة حركية، وهذا ما أشار إليه الشاعر في البيت الثاني (كالذي زار كوكباً جديداً) تصويراً للأنا المستقرة بوجود الأنثى، وتتجلى وضعية الاستقرار بأبهى أشكالها في الشطر الثاني من البيت الثاني (فهو في عالم بديع فريد)، فقد فتحت المرأة أمام (علي دمر) آفاقاً جديدة ونقلته إلى عوالم أخرى لم يكن أبداً يحلم بها.
__________
(1) دمر، علي، 1968، ديوان غيبوبة الحب، منشورات دار مجلة الثقافة دمشق، ص 51-52(1/121)
أما البيت الأخير فإنه يعرض وجهاً من وجوه الخوف الذي يتمثل بالسقوط من حافة الحلم، فنحن أولاً وأخيراً أمام (حلم)، لأن السياق العام لحياة الشاعر قائم على الحرمان العاطفي، وما النص الذي أمامنا إلا لحظة تفريغ نفسي ضرورية عن طريق ذلك (الحلم).
في النص بعض المفردات التي تنقلنا إلى جواء صوفية تبرز مسألة النشوة التي تعتري الشاعر في لقائه بالأنثى، وهي بالضرورة جواء النشوة عند المتصوفة القدماء، ومن هذه المفردات (محواً)، فالمحو يرتبط عند الصوفي بالفناء ويمهِّد للاتحاد بالذات الإلهية، كما أنَّ (المحو) يرتكز على تصعيد الحالة الوجدانية عند (الصوفي) بعد صراع طويل مع (النفس).
كذلك فإن مفردة (الصحو) تنقلنا إلى عوالم الصوفية، فلطالما سمعنا بالسكر والصحو والغيبوبة عند المتصوفة، ذلك أن المتصوفة يمرُّون عبر حياتهم بمراتب ومجاهدات نفسية حادة، وهم في طريقهم إلى الذات الإلهية، ولذا فإن المرأة في النص رمز من رموز النشوة الصوفية.
سوف نقف في حديثنا عن المرأة في شعر نديم محمد عند المرأة الحبيبة المخلِّصة، وعند الأم حضن الطفولة ولمسة الحنان الأولى -يقول الشاعر في هذين البيتين(1):
فاذكريني... يثب إليَّ شبابي
ولِعابي.. وزهرتي... ومجوني
اذكريني ينشفْ على محجريْ الدمع
ويهمدْ في جانحي أنيني ... ... (مدور)
__________
(1) محمد، نديم، آلام، ص 43(1/122)
ندرك أن مفتاح البيتين هو فعل (اذكريني) الذي ألحقت به ياء المؤنثة المخاطبة دليلاً على أن المنادى أنثى، فمجرَّد أن تذكر هذه الأنثى الشاعر أو تلمِّح باسمه تعود حياته إلى زهوها وشبابها، فالفعل الذي تقوم به (الأنثى) في البيتين السابقين هو إعادة الخصب لنديم محمد، ومن ثمَّ تكوين ولادة جديدة وانغماس في السعادة والاستقرار، لأن (الشباب، الزهوة، اللعاب، المجون) حالات تشير إلى أن هناك انغماساً في الحياة، وهي حالات لاحقة لوجود (الأنثى)، بل إن المرأة عند نديم محمد شرط ورمز من الرموز التي تساعد غزيرة البقاء على الاستمرار والديمومة والانتعاش وتعمل على توازن (الأنا).
في البيت الثاني نشهد حالة مماثلة للبيت الأول أو مكمِّلة لها، فالفعل الذي تقوم به الأنثى (الذكرى، اذكريني) يسقط عن الشاعر كلَّ إحساس بالحزن والكآبة وتجلياتها من دمع وأنين.
إن الفعلين (ينشف، يهمد) الواردين في البيتين يوحيان بمقدار العمل الخلاَّق الذي تقوم به (الأنثى) بتأثيرها في نفسية الشاعر، ذلك أن الفعل الأول (ينشف)، يوحي بانقطاع مطلق للدمع والأحزان، كما أن الفعل (يهمد) يوحي ضمن السياق أيضاً بالراحة والطمأنينة التي تحملها الأنثى، ولعل الفعلين السابقين (نحوياً) جاءا جواباً للطلب، أما فعل الطلب فهو (اذكريني) لكلا الفعلين، ولا يتحقق ذلك الجواب إلا بوجود فعل الطلب حتماً، لهذا فإن غياب الأنثى وتمنُّعها عن التلميح باسم الشاعر يلغي جميع معطيات الحياة المستقرة، ويقول نديم محمد في (الأم)(1)
أين أمي.. يداكِ؟ ادنيهما مني
دعي راحتيك في راحتّيا (مدور)
أمِّ لا تذهبي.. يطف شبح الموتِ
وينقضُّ في الظلم عليَّا ... ... (مدور)
إن التساؤل (أين أمي؟) هو في ذاته بحثٌ عن وضعٍ أكثر أماناً من الوضع الحالي للشاعر، ومن البدهي أن يكون هذا البحث منصبّاً على حضن الطفولة والحنين إليه، ذلك أن الحضن مصدر الهدوء والاستقرار.
__________
(1) المصدر السابق، ص 69(1/123)
لقد شكَّلت الأم رمزاً من رموز الأمان عند (نديم محمد)، بيد أننا سنشهد عند بعض شعراء الحداثة الخلل في العلاقة مع هذه الأم. ونعود إلى البيتين السابقين لنشير إلى أن الاستفسار المتمثل بـ (أين أمي؟) جاء نتيجة لحالة سابقة على الاستفسار ألا وهي صورة الضياع والتشتت.
في البيت الثاني ترمز الأم إلى الحياة في وجه العدمية، أما ذهابها فهو توطيد لحالة الموت الأولى الموجودة عند الشاعر، فالفعل (لا تذهبي) المسبوق بـ (لا الناهية) ينبئ بإصرار على حضور الأم بما تحمله من سمات الخير والعطف والعطاء.
هناك نتيجة مرعبة يعبّر عنها الشطر الثاني من البيت الثاني، ذلك أن هذه النتيجة آتية إذا تغيَّب شرط الحياة (وجود الأم) الذي يشكل معادلاً حيوياً في وجه الانسحاق والغربة، فالفعل (ينقضُّ) رمز لمقدار سطوة الواقع والظروف على الشاعر، ويعكس الحاجة الملَّحة للفعل الخلاَّق الذي تقوم به الأم.
أما الشاعر (صلاح لبكي) فقد كان، شأنه في الحديث عن المرأة الحبيبة شأن (علي دمر) و (نديم محمد)، إذ نرى حالة إشراقية جميلة آخَّاذة تأتي بها المرأة الحبيبة يقول (صلاح لبكي)(1):
قبلكِ كان العيش يا حلوتي
‘ن طاب حسَّاً مفعماً بالشقاءِ
كأن شتائي مالئاً مهجتي
كآبةً تغمر وجه الشتاءِ
__________
(1) لبكي، صلاح، الأعمال الكاملة، ص 283(1/124)
إن المرأة عند (لبكي) رمز من رموز التحول من حالة الموت إلى حالة الحياة، من الماضي الممتلئ بالشقاء والكآبات، إلى الحاضر الجميل بوجود المرأة، ويبدو أن تركيز (صلاح لبكي) على التأزمات النفسية (الشقاء، الكآبة) إنما هو تعريةٌ لظروف ذاتية اجتماعية، وما مجيء المرأة الحبيبة إلا تخفيفٌ من ذلك التأزم، بل إن المرأة التي أتى بها (صلاح لبكي) في البيتين ليست بعيدة المنال كبعدها عن (نديم محمد) و (علي دمر) قياساً للحياة الاجتماعية التي مر بها الشاعران الأخيران ومعاناتهما من الحرمان العاطفي، الذي وقفنا عنده سابقاً في حديثنا عن تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية في سورية ولبنان.
التشكيل اللغوي:
إن الشعر نوع معقد من البناء اللفظي حيث يشير (ويمساط) إلى أن بعد الترابط المنطقي في بناء الجملة الشعرية يكون بفعل "تقنيات تضمين مختلفة مما يؤدي إلى خلق بعدٍ إضافي للتطابق مع الواقع هو البعد الرمزي أو التناظري analogical (1)ذلك أن طريقة البناء اللفظي للنص الشعري هي من الأساسيات التي تقوم عليها القصيدة، إلا أنها ليست هي اللغة الشعرية، وبالضرورة فإن الخلخلة في بناء اللغة تنعكس على القضايا الشكلانية.
__________
(1) جفرسون، آن- روبي، ديفد 1992 النظرية الأدبية الحديثة تر: سمير مسعود -وزارة الثقافة- دمشق ص 144، القول لـ (ويمساط) من كتابه الأيقونة اللفظية (غير مترجم إلى العربية)(1/125)
إن اللغة الشعرية لشاعر ما هي مصطلحٌ شامل ينطوي على بناء الجملة نحوياً وصوتياً، كما أنه ينطوي على التقنيات الفنية المتعددة (الصور الشعرية، والموسيقا، الخ..) وإذا كنا تحدثنا عن الصورة الشعرية عبر قضايا الخلق والإيحائية والتعبيرية، فإن حديثنا عن اللغة الشعرية سينطلق من البناء النحوي وبناء المفردة، ومن ثمَّ إسقاط هذين البناءين على الذات، وقد آثرنا أن نضع للفقرة عنوان (التشكيل اللغوي) على عنوان (اللغة الشعرية) تماشياً مع حديثنا عن البناء النحوي وبناء المفردة، ذلك أن اللغة الشعرية - كما أشرنا - مصطلح شامل، وأما حديثنا عن التنويع الموسيقي فإننا سنرجئه إلى فقرة (التنويع الموسيقي.)
مما سبق يفترض أن نحدِّد العلاقة بين الشاعر واللغة في عملية الإبداع، حيث "تراوحت النظرة إلى هذه العلاقة بين فريق يرى اللغة مجرد وسيلة في يد الشاعر إلى شيء وراءها، إلى الفكرة المطلقة عند هيجل وإلى السلام المخلِّص عند شوبنهور وإلى الكشف عن مضمون اللاشعور والتخلُّص من ضغطه الذي يثير الاضطراب في الحياة النفسية عند أصحاب التحليل النفسي، وبوجه عام هي مجرد وسيلةٍ عند من عنوا بالمضمون في العمل الفني دون الصورة، وعلى الضدِّ من ذلك هي غاية الفنان عند فريق آخر من الباحثين من أمثال ريتشاردز وجان بول سارتر J. P. Sartre والواقع أننا هنا بصدد مشكلة على جانب من الأهمية، لما نلمسه في آثار الشاعر من استخدام اللغة استخداماً خاصاً خاضعاً لتنظيم، يبدو في أجلى مظاهره في الشعر المنظوم المقفى، ولا يمكن إغفاله في حالة الشعر المرسل"(1)
__________
(1) سويف، مصطفى، الأسس النفسية في الإبداع الفني، ص 185(1/126)
ويبدو أن تلازم الشكل والمضمون في العمل الأدبي الفني الأصيل حالةٌ على قدر كبير من الأهمية، فالمضمون الجميل عندما لا يظهر عبر شكل ملائم يفقد حيويته، وكذلك الشكل، فهو عندما لا يحمل مضموناً ذا فائدة اجتماعية يفقد حيويته وأصالته، فـ "عمل الكاتب لا يقتصر على أن يخلق في تصويره عالماً خيالياً (مبتدعاً) من الحوادث والنماذج، أن يبتدع وينتقي تفصيلات جميلة، إنَّ عمله يتركز كذلك في أن يصوغ هذا المضمون الجميل كي ينقله إلى القارئ، ومن أجل أن يصبح هذا المضمون الجميل بكل تفصيلاته عملاً أدبياً فنياً يجب أن يتجسَّد في الكلمة، ويجب أن يأخذ شكله النهائي في السرد اللفظي"(1)
إن اللغة الشعرية في التيار الرومانتيكي قد نالها التمرد على القواعد السابقة والانفلات من الضوابط، تبعاً لاختلاف الوعي الجمالي للشاعر الرومانتيكي عن سابقه الإحيائي، إلا أن الشعر الرومانتيكي لم يتوصل إلى "الهيمنة على الشعر العربي المعاصر بصورة مطلقة، فقد استمرت الكلاسيكية الجديدة كتيار قوي له ممثلون بارزون إلى جانب الرومانتيكية، ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى أن النزعة الرومانتيكية ظلت في إطار الشكل العمودي الذي هو بالأصل المقوِّم الأساسي للكلاسيكية ولم يستطع الشعر العربي الحديث زحزحة هذه الكلاسيكية عن مواقعها إلا عندما تصدَّى لهذا الشكل"(2)
__________
(1) فينو غرادوف، مشكلات الشكل والمضمون، ص 130
(2) الشريف، جلال فاروق، الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سورية، ص 57(1/127)
أما عن علاقة (اللغة) بـ (الشعرية) ضمن إطار النص فمن المفترض أن نشير إلى "أن اللغة فعل يشير قبل أن يعني، يشير إلى أن أحداً يتكلم ويفترض في نفس الوقت دائماً، وجود متلقٍّ، وبعد أن يتمُّ الاتصال تصبح اللغة كالنقد، ومعنى الكلمة، هو ((سعر)) هذه الكلمة، ولا قيمة لها إلا من خلال عملية التبادل، وتنتفي الرسالة العادية حينما يتحقق هدفها وهو الفهم، أما الرسالة الشعرية، فعلى العكس، فهي تسعى إلى الاحتفاظ بمبدأ (الغموض) ambigute لأن للكلمة الشعرية عدة معان، فهي تشبه شيئاً ما (باعتبار أن أي شيء هو ملتبس)، والكلام الشعري ((يُنتَج)) أكثر مما ينقل، فبيتٌ جميل من الشعر لا يظل مجرد مؤشر إنما يتحول إلى واقعة أو حدث Fact"(1).
ولقد بدا مصطلح ((الشعرية)) موافقاً لمصطلح (الأدبية) ثم صار يوازي معنى (الجمالية)، فهذا ما جاء به الشكلانيون الروس، حيث راحت "الشعرية تحوز على سمة العلمية أو بالأحرى تصبح (علم الأدب) حالماً تبتعد عن الأدب بوصفه واقعه لتقاربه بوصفه منطوياً على قوانين، ويكون هدف الشعرية أو (علم الأدب) هو اكتشاف هذه القوانين، وليس على الشعرية أن تنهي مطافها باكتشاف هذه القوانين، ولهذا فليس هدفها الكشف عن القوانين فحسب، ذلك أن استراتيجيتها تتمثل في مرحلتين:
__________
(1) تادييه، جان إيف، النقد في القرن العشرين، ص 281، القول مأخوذ عن (بول فاليري).(1/128)
مرحلة الاكتشاف ومرحلة استثمار هذه القوانين، واستخدامها مادة أولية وليست نهائية في دراسة النصوص(1)، والشعرية من جهة ثانية هي شيفرة تبرز تقليات وظروف ونتاجات المنظومة الاجتماعية من زمن إلى آخر وفي عصر ما. "وطالما أن الشعرية شيفرة تعبِّر عن ميول عصر خاص، فإنها تغذِّي الفن الإبداعي بتقديم القواعد التي يحطمها هذا الفن لصالح الأصالة"(2).
إننا حين آثرنا مصطلح (التشكيل اللغوي) على مصطلح (اللغة الشعرية) وذلك باقتصارنا على دراسة البناءين النحوي واللفظي، قد قرَّبنا دراستنا من الأسلوبية البنيوية، وتسمى هذه الأسلوبية أيضاً (الأسلوبية الوظيفية) "وهي ترى أن أساس الظاهرة ليس فقط في اللغة، وإنما أيضاً في وظائفها وعلاقاتها، وإنه لايمكن تعريف الأسلوب خارجاً عن الخطاب اللغوي كرسالة، أي كنص يقوم بوظائف بلاغية"(3)، غير أننا لانعني بتلك الدراسة البنيوية دراسةً شكلانية للنص قائمة على عزل النص عن منظومته الاجتماعية كما يفعل الشكلانيون وعلى الاقتصار فقط على ما يحمله النص من ظواهر لغوية تعكس ظواهر نفسية واجتماعية، بل إن السياق الحياتي للشاعر يفرض ذاته على الدراسة ويفرض بالضرورة الأسلوب الذي ينطوي عليه كل شاعر على حدة، "وبما أن الأسلوب باعتباره بداية أساسية للعمل الفني ولإبداع الأديب بشكل عام يعتبر كذلك منظومة معقدة، فمن هذه المنظومة يجب قبل كل شيء فرز مجموعة وسائل اللهجة.
__________
(1) ناظم، حسن 1994، مفاهيم الشعرية ط1 المركز الثقافي العربي بيروت -الدار البيضاء، المغرب، ص 69.
(2) شولز، روبرت، 1984، البنيوية في الأدب تر: حنا عبود اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 192.
(3) عزام، محمد، 1989، الأسلوبية منهجاً، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ص 110.(1/129)
أما المواضيع والأفكار والشخصيات فإنها تنكشف في البيئة المحدَّدة للهجة، وفي جوٍّ من هذه المواقف العاطفية أو تلك من موضوع الإبداع ومن مختلف جوانبه، ويظهر العالم العاطفي للروي وللفعل الدرامي وللكلام الشاعري، بالدرجة الأولى في النغمة الأساسية التي يمتاز بها العمل الأدبي كوحدة متكاملة"(1)، وقد أظهرت اللغة في شعر العذاب الرومانتيكي المستوى الدرامي الذي كان خافتاً في النص الإحيائي، حيث ظهرت ملامح الصراع عبر إنجازات اللغة وطريقة تركيبها في القصيدة، من تعظيم لشأن (الأنا) في صراعها مع المحيط إلى الصراع الداخلي المتأزم إلى صراع مع الوجود في بعض الأحايين.
وأخيراً لا بد من القول إن اللغة في ذاتها "طبيعة بنائية structural فهي نظام Systeme أو مجموعة من الأنظمة المحكمة التي تتكامل مع بعضها في نظام كلي، فمن النظام الصوتي إلى النظام الصرفي إلى النظام النحوي.. تتشكَّلُ اللغة وتعرض نفسها كتربة خصبة لفاعلية المنهج البنيوي، وهذا ما يفسِّر النجاح الباهر للبنيوية في ميدان علم اللغة على وجه الخصوص"(2).
النص الأول للشاعر (عبد السلام عيون السود) من قصيد (صلاة) يخاطب فيها والده(3):
ودمي.. أين دمي؟ هل غالهُ الموت.. فأصغى؟
لم أحيا؟ أنا للزنبق... والزنبق أغفى..
شدّني الشوك إليه، مدَّ للمشدود كفا
وقِني.. ربُّ.. ترنَّحتُ.. فلم ضيقتَ بابكْ؟
بلّلَ الدمع نجاواي.. ولم أسمع جوابكْ
لقد جاء (الموت) محوراً رئيساً في النص، وتفرَّعت عنه صور العذاب الأخرى كالاغتراب والسوداوية.
__________
(1) خرابتشنكو، ميخائيل، ذات الكاتب الإبداعية ص 168.
(2) حسن، عبد الكريم 1990 المنهج الموضوعي ط1 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ص 163.
(3) عيون السود، عبد السلام، آثار عبد السلام عيون السود، ص 81(1/130)
إن الظاهرة اللغوية الأكثر جلاءً في النص عملية الاستفهام، إذ نطالع في بداية الأبيات الاستفهام الإنكاري (أين دمي؟) فهذا الاستفسار لم يخرج من إنسان يجهل موقع دمه أو لا يدرك حالته، بل هو سؤال امرئ موقن بالمآل الذي وصل إليه على الصعيد النفسي، حيث يشكِّل الضياع والتشتت ومن ثم مرحلة الانعدام (الصورة النهائية لذلك المآل).
لقد جاءت أداة الاستفهام (أين) بين لفظتي (دمي) حيث (دمي) الأولى توحي إلى القارئ بأن هناك حديثاً عن (الدم)، ولكن هذا الحديث قد انقطع عند (أين دمي؟)، لأنه لا مجال للاسترسال في الكلام في وضع ينبئ بالإحباط والحسرة والتأسف على شيء ضاع وتهدّم، ومن ثم فإن هذا الانقطاع يبرز ملامح المستوى الدرامي القائم على صراع مع الذات ومع الخارج.
يأتي الاستفهام الآخر (هل غاله الموت؟) لتوضيح الحالة الأولى من التيه والتشتت، ويصرّح (بالموت) نتيجة لعدم جدوى الحياة من ناحية أخرى.
إن الأبيات تشهد موقفاً قهرياً (سلطوياً) يمارس على ذات (عيون السود)، ويجعل (الأنا) دائماً في موقف حرج، فالفعل (أصغى) صورة من صور الطاعة القهرية للموت، ولهذا فإن الاستفسار (هل غاله الموت؟) قد تخلّى عن طبيعته الاحتمالية التي تأتي عبر الجواب، فالمرء في حالة السؤال لا يتوقع جواباً محدداً إلا أن (هل) عندما جاءت في سياق مبني على أساس قهري أسهمت في تعزيز موقف الموت (العدمية) الذي يخرج به المتلقي، وعليه فقد جاء السؤال (لم أحيا؟) خلاصة لتراكم الانكسارات، وأنواع العجز عند الشاعر ولا نعني بكلمة (سلطوي) -من خلال حديثنا- فئة أو أفراداً يقومون بفعل (قمعي)، بل هي تلك الحالة النفسية القهرية التي سيطرت على الشاعر.(1/131)
وكما أن الفعل (أصغى) تجلٍّ للطاعة القهرية للموت، كذلك فإن الفعل (شدّني) في تركيب (شدَّني الشوك إليه) صورة من صور السلطة النفسية التي تحدُّ من فعل (الصراع) عند الشاعر إلى حد كبير، ثم إن مفردة (الشوك) عبر التركيب وعبر السياق الحياتي للشاعر الذي وقفنا عنده سابقاً في حديثنا عن تجليات المعذب في الشعر الرومانتيكي، توحي بأن الرضا عن الواقع الذي أسقطت عناصر أحداثه سلبياً في ذات الشاعر مفقود، حيث تكونت رؤيا قائمة على أن ما يحدث في المحيط يتداعى وينهار وهكذا يسهم في تداعي وانهدام الذات، لذلك فإن الموت ضرورة ملحّة في نهاية المطاف.
إن السؤال الأخير في النص يرتكز على مخاطبة المطلق المخلّص (اللًّه)، وذلك في قول الشاعر (لِمْ ضيقت بابك؟)، حيث أصبحت الثقة بالخلاص مهتزة، مما يعزِّز السوداوية وفقدان التوازن والثقة بجميع الأحداث والأمكان والعلاقات، إذ ينطوي هذا التساؤل على عملية تنفيسية لتفريغ شحنة من شحنات كثيرة في أعماق الشاعر.
إن التراجع إلى أعماق الذات ومخاطبتها بصورة مهموسة توضَّحا عبر (الكاف الساكنة) في مفردتي (جوابك، بابك)، فقد أدت هذه (الكاف) دوراً حيوياً في إضاءة الحالة تماشياً مع معطيات النص الأولى، فتلك (الكاف) أوحت بالتعب والإنهاك والقنوط توازياً مع سطوة الحياة على الذات الشاعرة.
ولقد ابتعد الشاعر قدر الإمكان عن التركيبات النحوية الجاهزة التي تختزنها القصيدة الإحيائية، والتي تنمّ على موقف جمالي مسبق، وفضَّل تجزيء هذه التراكيب بما يتناسب مع حالة التشتت ، وعمد إلى الوقف بين تركيب وآخر، ولا نقصد بكلمة (عمد) هنا الحالة الناتجة عن عمل ذهني محض قائم على إتمام التراكيب والمفردات وإعمال العقل فيها بصورة كبيرة، بل إن ذلك الوقف والتجزيء قد صعّد الموقف الدرامي وارتكز على الموقف النفسي تجاه المحيط، ويتوضَّح هذا الوقف وتجزيء التراكيب والحذف فيما يلي:
... ... وقف (صمت)
ودمي ... ... ... أين دمي؟
... ... زمن طويل(1/132)
... ... وقف (صمت)
أين دمي ... ... ... هل غالَه الموت؟
... ... زمن طويل
... ... وقف (صمت)
لِم أحيا؟ ... ... ... أنا للزنبق
... ... زمن طويل
... ... وقْف (صمت)
وقِني.. ربُّ ... ... ... تر نحتُ
... ... زمن طويل
... ... وقْف (صمت)
ترنحتُ ... ... ... ... فلِمْ ضيقت بابك؟
... ... زمن طويل
وهذا لا يعني مطلقاً فقدان الوحدة العضوية في الأبيات، فالعائق على المستويين الاجتماعي والنفسي موجود في الأبيات ويتصاعد إلى أن وصل في نهاية النص إلى مخاطبة (اللَّه) كطريق أخيرة للخلاص، وكلٌّ ذلك عبر حامل لغوي يرتكز على حامل اجتماعي أصيل.
لقد كان الوقف الذي أشرنا إليه سابقاً مكمِّلاً للحالة النفسية ومكملاً للوحدة العضوية للأبيات أيضاً النص الثاني في دراستنا للتشكيل اللغوي للشاعر (وصفي القرنفلي)، إذ يعتمد هذا الشاعر في تعبيره على "لغة منتقاة، مترفة، يَفُردُها فيبدو اللفظ كائناً حياً يتحرك من خلال وضْعِها وبنيتها الفنية، فالنور، والأطياب، والبخور، والتمتمة، والعطر، والمفردات المترفة الشفافة إحدى أدوات تعبيره الجمالية"(1)، وأما طريقة نظمه للقصيدة، فإنه على ما يبدو "كان ينظم القصيدة على دفعات، وكان ختامها يشكل هماً بالنسبة له، كوصول للذروة التي ترفع القارئ إلى حيث يرضى الشاعر عن عطائه، وسكبه، وكثيراً ما يبدو الختام منفصلاً، مستقلاً عما سبقه، وبالرغم من أنه لا يخرج عن حدود الفكرة، فكثيراً ما يفقد ذلك الحبل السري الواصل -بينه، وبين ما سبقه - بوشائج غير منظومة ولكنها تحسُّ"(2).
من قصيدة للشاعر القرنفلي بعنوان (سراب) اخترنا هذه الأبيات:(3)
نفضَ اليأس، في دمي، عنصر الموت، وذرَّ الصحراء، في أهدابي
قتلَ الشعرَ، في فمي، ولواني عن صحابي، فملَّني أصحابي
صبغَ الأفقَ، بالدجى، وأتى الخمر، فصبَّ الظلامَ في أكوابي
__________
(1) الناعم، عبد الكريم، الموقف الأدبي، ع 10-11 ص 58.
(2) المرجع السابق، ص 58.
(3) القرنفلي، وصفي، ديوان وراء السراب، ص 44(1/133)
النص يتخذ من مفردة (اليأس) مفتاحاً له، فجميع الألفاظ والتراكيب الأخرى ومن ثم الحالة الشعرية تتوالد عن هذه المفردة الرئيسية، وتجلَّى في النص- بناء على ما سبق- (المعذب العدمي) الذي فقد كلَّ ثقةٍ بالمحيط وباستمرارية الحياة.
أول ما يلفت الانتباه في النص هو الأفعال التي تقوم بعمل تحويلي جذري من حالة إلى أخرى، فالفعل (نفضَ) في تركيب (نفض اليأس) يشير إلى انتقال حاد من حالة السكون إلى حالة الحركة، ولكنَّ هذه الحركة ليست إيجابية لاقترانها (باليأس)، ذلك أن اليأس تحرَّك، فنفضَ الموتَ والفراغ في كل مكان، فأصبحت الذات بعد ذلك غير قادرة على فعل الصراع الإيجابي الموجود عند (البطولي)، ثم أتى الفعل (ذرَّ) لتعميق سابقه (نفضَ)، وارتبط هذا الفعل باليأس والصحراء معاً تعبيراً عن التحوُّل إلى مرحلة الانسحاق الشامل الذي بدأت تشعر به (الأنا) في مسيرة حياتها، ذلك أن الصحراء واليأس يوحيان بالجفاف والقحط والموت المؤكد.
وأما الفعل (قتلَ) في (قتلَ الشعر) فيعمل عملاً حاسماً في نقل الحياة بحركتها وحيوتها إلى الموت بسكونه ورعبه، إذ هو أبعد الشاعر عن كل عزيز عليه (الشعر، الصحاب)، وما دام النص يطرح أن الشاعر على علاقة جيدة مع بعض شرائح المجتمع وليس كلها متجسِّدة (بالصحاب)، فهذا ينبئ بأن يأسه المميت قد تداخل مع قلق وجودي كبير، ناتج عن تراكم تصورات سلبية لأساس الحياة وجوهرها، وعن رؤيا قاتمة لمستقبل الذات ومسيرتها، وعلينا أن نؤكِّد أن ذلك القلق له مكوناته ومنطلقاته الاجتماعية أيضاً (الظروف المحيطة بشاعرنا) ويجيء التركيب (صبغَ الأفق بالدجى) ليعمّق إحساسنا بالسوداوية ويعمِّمها على كلِّ أشكال الحياة والعناصر حول الشاعر، وذلك عبر الفعل (صبغ)، إذ طالما لاحظنا أن الشاعر الرومانتيكي يعمم سوداويته على المحيط.(1/134)
لقد اقترن (الأفق) عند الرومانتيكيين) (بالمستقبل)، فعندما قال الشاعر: (صبغَ اليأس الأفق) فذلك يرجع إلى رؤيا قاتمة للمستقبل، وتعممت تلك الرؤيا حتى على الأشياء الخاصة جداً بالشاعر، والتي يظنُّها مخلِّصة لبعض الوقت ألا وهي (الخمر)، إذ وصلت طلائع الانسحاق إلى أقداح الخمر، فانتهى عمل المخلّص هذا، ولم يعد للذات سبيل للبحث عن مخلِّص آخر.
ظلت لغة (القرنفلي) على صعيد التركيب تعاني ترهُّلاً في قصائده عامة وفي هذا النص على وجه الخصوص، ففي الأبيات الثلاثة السابقة ندرك أن تركيب (نفضَ اليأس في دمي عنصر الموت) يقترب إلى حد بعيد من معنى تركيب (ذرَّ الصحراء في أهدابي) لأن الصحراء كما وضَّحنا سابقاً- ترتبط بالموت ارتباطاً وثيقاً في ذاكرتنا، مما أدَّى إلى بقاء الحالة في مستوى واحد دون تصاعد درامي، فالأفعال التي ذكرناها (نفضَ، قتلَ، صبغَ، ذرَّ) لدى ارتباطها (باليأس)، فرضت من الناحية النفسية جواً من تعطيل الإرادة، بيد أن وصف ذلك اليأس اقترب من الوصف الذي اعتدناه للعناصر الخارجية (الأشجار، السماء، الأرض، الجبال) وكأن (اليأس) قد بدا عنصراً خارجياً عن ذات الشاعر، غير أن السياق الحياتي والاجتماعي (للقرنفلي) قد شرَّع هذا الوصف وأكسبه حاملاً اجتماعياً أصيلاً.
نقف الآن في هذا الصدد عند نصٍّ للشاعر (عبد الباسط الصوفي)، فعلى "صعيد بنية القصيدة تتحقق لديه نظرية (الوحدة العضوية) في كثير من قصائده متأثراً في ذلك باستجابة الرومانسيين لهذه النظرية التي نقلها (العقاد) في كتابه الديوان واستوحاها من أرسطو، أو كولردج أو الشاعر الانكليزي سبندر)(1)، ولقد تجاوز (عبد الباسط الصوفي) التركيبات الجاهزة التي وقفت عندها المدرسة الإحيائية الجديدة مطولاً، وخفَّف من نظام الجملة الذي يراعي العروض ويخضع له بصورة كبيرة.
__________
(1) اسكاف، ممدوح، عبد الباسط الصوفي، ص 225.(1/135)
من قصيدة له بعنوان (خيبة) اخترنا الأبيات التالية، إذ يقول فيها:
كلاّ.. وأجفل صوتها الرعديد في الشفتين: كلاّ
من أنت؟ذاك الشارد الهيمان، تطوي العمر ظلا
من أنت؟صوتٌ شاحب النبرات، مجهولٌ أطلا
عينان غائرتان حدّقتا، وماضٍ قد تولى
شبحٌ يمر على الوجود، يداعب الزمن المملا
ليلٌ من الأبد الطويل، وصورة بلهاء تُتلى
دعْني.. فثغرك ميت الأسرار، مقرور، تدلَّى
وخطاك هدَّتها الرياح، ولا أحبك أن تزلاّ
الآثار ص86
يظهر النص دهشة الآخر (الأنثى) من الحالة التي آل إليها الشاعر والتي تنطوي على (المعذب العدمي)، وتكمن تلك الدهشة من الصورة المشوَّهة التي آل إليها الشاعر على الصعيدين النفسي والجسدي.
يبدأ النص بأداة الزجر (كلا) ذات البناء الصوتي المميز، حيث حدث وقف زمني بين (كلاّ) والتركيب الذي يليها (وأجفل صوتها الرعديد في الشفتين)، و (كلا) تشكِّل موقفاً رافضاً لوضع الذات الشاعرة؛ وتكوينها الصوتي جاء أعلى من التكوين الصوتي لمفردات التركيب الذي يليها بشكل عام والذي يوحي بالحسرة والاستغراب، ثم حدث وقف زمني آخر بين تركيب (وأجفل صوتها الرعديد) و (كلا) الثانية التي تؤكّد الأولى، وتصرُّ على رفضها لتعطيل الإرادة وللتشويه الموجود عند (الصوفي).
إن الوقف الزمني الذي أشرنا إليه والذي تكرَّر مرتين قد حقق وعمّق دهشة الآخر، (الأنثى) من حالة الشاعر، لأن الدهشة تترافق عادةً بالصمت والتأمل الشديد لظاهرة غريبة جديدة، وبالضرورة فإن البيت الأول قد اخترق نظام التركيب الذي تقوم على أساسه المدرسة الإحيائية، فلم يجعل من النظام العروضي الخليلي غايةً، بل وسيلةً لإظهار الحالة الشعرية التي تتصاعد منذ البيت الأول، ولعل ذلك الاختراق يلغي تقاطع (الأنا) الذي رأيناه عند مجموعة من شعراء الإحيائية مع (الأنا) الموجودة عند الكثير من الشعراء.(1/136)
في البيت الثاني نقف عند التساؤل (من أنتَ؟!) إذ يوحي هذا الاستفهام بالعديد من الاحتمالات في الإجابة، ويحمل أيضاً في طياته الاستغراب والسؤال عن المجهول والحسرة الخ..، وإذا ما أردنا إسقاط ذلك الاستفسار على النفس، فإننا ندرك أن هناك ضياعاً واضمحلالاً للذات أمام الضغوطات وتضخُّم المكبوتات.
يأتي الاستفهام ذاته في البيت الثالث (من أنت؟!) وتأتي الإجابة عنه (صوت شاحبٌ النبرات)، حيث يشير هذا التركيب الأخير إلى عملية تعطيل الحواس، إذ تداخلت مفردة (الصوت) التي ترتبط بحاسة السمع مع مفردة (شاحب) التي ترتبط بحاسة (البصر)، ويتماشى هذا التعطيل مع تعطيل الإرادة عن عمل قائم على الصراع، طالما لمسناه عند (عبد الباسط الصوفي) في قصائده.
ومن التراكيب التي يجدر بنا أن نقف عندها (ليلٌ من الأبد الطويل)، فـ(ليل) مفردةٌ نكرةٌ تفيد الإطلاق وتوحي بالرعب والحزن، ثم جاءت مفردة (الأبد) لتقوم بزيادة مساحة الشعور بذلك الرعب، على الرغم من أنها جاءت معرفة بـ (أل التعريف)، لهذا فقد عزَّزت التنكير الذي يحيط بـ (الليل).
يفاجئنا الفعل (دعني) في البيت السابع بالقطيعة بين الشاعر والأنثى، وهو بالضرورة انفصال عن تحقيق رغبة هامة من الرغبات التي تنقذ ذات الشاعر ولو بشكل نسبي من الانكسارات العديدة، فالشعور بأنَّ (الثغر ميت الأسرار) ينم على عجز عن التواصل مع الأنثى، لأن عدمية الصراع صبغت كل شيء لدى الصوفي، وغيّبت عن ناظريه الأمل وكلَّ سبيل إلى النور.(1/137)
أما البيت الأخير فيطالعنا بالفعل (هدّتها) في تركيب (وخطاك هدَّتها الرياح)، فهو يختزن منحى مرعباً على الصعيد النفسي وخللاً في العلاقة مع الظروف الموضوعية، وأخيراً فإن تركيب (لا أحبك أن تزلاّ)، وعبر الفعل (تزلُّ) يدل على مرحلة قبل السقوط مباشرة، ويُعبِّر عن انحدار إلى مستوى نفسي أكثر تأزماً من المستوى السابق، بيد أنَّ سياق النص قد أبرز السقوط المرعب بأعمق صوره تركيباً ومفردات (الشارد، تطوي، الرعديد، شاحب، مجهول، غائرتان، تولّى، شبح، المملُّ، ليلٌ، بلهاء، ميت، مقرور، هدَّتها)، وقد شكَّل البيتان الأخيران نتيجة وذروة للحالة النفسية التي تصاعدت، ومن ثم انهارت الذات بانهيار العلاقة مع (المرأة).
نقف أخيراً في حديثنا عن اللغة الشعرية عند الشاعر (صلاح لبكي) في نص له بعنوان (الانتظار) من (ديوان أرجوحة القمر) من مجموعته الكاملة لندرك مدى تأثره بالمستوى اللغوي الذي ساقته المدرسة (الكلاسيكية الجديدة)، إذ يقول(1):
فمالكِ يا عينُ لم تهجعي ... لقد تعبَ الليلُ ممَّا يعي
فصعَّدَ في السهل أنفاسهُ ... وأحنى على الجبل الأصلعِ
وأغمضَ عينيه مستأنساً ... بلحنٍ منَ القاتمِ المفزعِ
ينوح بعيداً ويشكو جوىً ... ويبكي على هادئ الأربعِ
لك اللَّه يا عينُ، جفن الصباح ... يرفُّ فمالكِ لم تهجعي
وفي النفس شوقٌ إلى طيفها ... برى من فؤادي ومن أضلعي
لنا أن نتساءل بعد قراءة النص، هل تبلور في النص مفهوم (المعذب)؟
إن النص سردٌ حكائي لحالة من حالات الهوى والغرام عند (صلاح لبكي) عبر (القول المنظوم)، ولم تنته تلك الحالة نهاية سليمة، بل ظل الشاعر يعاني ألم الشوق والحزن لغياب التواصل مع (الأنثى).
__________
(1) لبكي، صلاح، الآثار الكاملة، ص 16.(1/138)
أما من حيث بناء الجملة الشعرية لغوياً، فهناك خضوع صارم لقوانين القصيدة القديمة، ومن هذه القوانين أنَّ صدر البيت الأول من النص يفترض أن ينتهي بكلمة تراعي القافية والروي في عجز البيت، فمفردةُ (تهجعي) جاءت نهاية لصدر البيت الأول، تماشياً مع كلمة (يعي) التي جاءت في نهاية العجز إنجازاً للروي والقافية.
كما أن النصَّ مفعمٌ بالتركيبات الجاهزة، ابتداء من تركيب (فمالك ياعين لم تهجعي)، إذ يعود هذا التركيب إلى مرحلة متقدَّمة من القصيدة العربية القديمة، وكذلك فإنه يحمل وعياً جمالياً سابقاً على لحظة إنجاز النص، ولهذا فإن المتلقي لا يندهش له، لأنه مختزن في ذاكرتنا مدة طويلة من الزمن، كما أن هذا التركيب على المستوى النفسي، يقاطع (أنا) صلاح لبكي مع (أنا) الكثير من الشعراء الآخرين في شعرنا العربي القديم، وفي شعر المدرسة الإحيائية، فهو ليس تركيباً أصيلاً ينطلق من بيئة الشاعر ومن بنائه النفسي الحقيقي.
ومن التركيبات الجاهرة أيضاً (صعدّ في السهل أنفاسه، القاتم المفزع، ينوح بعيداً، يشكو جوى) وهي كذلك لا تختلف عن التركيب السابق من حيث مرجعيتها وحاملها الاجتماعي الذي يعود إلى قرون سابقة من تاريخ الشعر العربي.
أضف إلى ذلك أن النص يشهد تكراراً وترهلاً على صعيد المفردات والتراكيب من حيث المعنى ، فـ (ينوح بعيداً) لا تختلف كثيراً عن (يشكو جوى) وهي لا تختلف كثيراً عن الفعل (يبكي).
وعليه فإن مفهوم (المعذب) لم يتبلور عند صلاح لبكي بوضوح (من النص السابق على الأقل) ومن خلال اللغة الشعرية، إذ تقترب الأبيات من القول التزييني العائد إلى بنية النص الشعري القديم، فكثيراً ما نرى هذه الأبيات في افتتاحيات القصائد المطولة في (المديح والرثاء، والهجاء الخ..) حيث لا نجد همَّاً واضحاً يمكن له أن يتعمق ليدخل في نطاق /العذاب/.
النص المفتوح والنص المغلق:(1/139)
قبل أن نقوم بتحديد جوهر هذين المصطلحين، علينا أن نحيط بالأمور والعناصر التي رافقت وجودهما، فلقد كان ولوج المدرسة الرومانتيكية في الشعر إلى الداخل وإلى أعماق الذات سمة بارزة من سماتها، وبذلك حدَّت من وصف الموضوع (العناصر الخارجية) الذي قامت على أركانه المدرسة الإحيائية، والذي يعنينا هنا أن ولوج الرومانتيكية في أعماق الذات، يفتح في النص الشعري احتمالات متعدِّدة، فأعماق الذات الإنسانية عالم مجهول ممتلئ بالنقائض والصراعات، على الرغم من أن علم النفس لم يألُ جهداً في البحث عن أسرارها.
من البدهي أن تظهر تلك الصراعات والنقائض في الشكل الفني، إذ غالباً ما ندركها في الصورة الشعرية، التي يمكن لها أن تفضي إلى احتمالات إيحائية ودلالية، وكذلك فإن للرمز دلائله التي تضفي على النص احتمالاتٍ إيحائيةٍ أيضاً، لهذا فإن النص الشعري الذي تتوفر فيه مثل تلك الإحتمالات ينتمي إلى ما يسمى (النص المفتوح)، وأما (النص المغلق) فيمكن للمتلقي أن يمسك بأطرافه بسهولة، حيث تضمحلُّ فيه الاحتمالات الإيحائية والدلالية بشكل عام.
إن الكلام السابق يشير إلى أن تعدد الإيحاء في النص الشعري الرومانتيكي، قد عمل على التقليل من النظام الذي قامت عليه النصوص الإحيائية عبر صورها المعتمدة على قانون البلاغة العربية.
ولعل (النص المفتوح) -إذاً- هو النص القادر على أن يوحي للمتلقي باحتمالات عديدة للحالة، إنه لا يقدِّم نفسه مباشرة للمتلقي، غير أن (النص المغلق) ذو احتمالات محدودة للحالة، قد تتقلص إلى الاحتمال الواحد، فهو سهل التفكيك، باعتباره إما قائماً على البلاغة العربية بصورة صارمة، وإما هو قولٌ منظوم ينطوي على سرد خالٍ من التقنيات الفنية.(1/140)
لم يتبلور النص المفتوح جيداً في المدرسة الرومانتيكية، فمقوماته قد اكتملت في مدرسة الحداثة الشعرية، حيث تشكِّل المدرسة الرومانتيكية، الجسر الواصل بين (النص المغلق) و (النص المفتوح)، ففي دراستنا سندرك هذا الأمر تماماً.
نبدأ دراستنا بالحديث عن (النص المفتوح) ونتوقف عند نص للشاعر (عبد السلام عيون السود) بعنوان (متعب) يقول فيه:(1)
أنا يا أختُ متعبٌ، وسلِي الريحَ.. سليها، تجبكِ عن إعيائي
وأنا أنتِ، في انفلاتِ الأعاصيرِ، بدنياي، وامتدادِ شتائي
شفَّني الدربُ، فارتميتُ على الدرب، مصيراً، معصَّباً بدمائي
كيف أحيا، يا أختُ، أدركني الليل، ودبَّ الصقيع في أعضائي
وتهاويت مثقلاً، ناء بالعبء، فألقى يديه: خيطي عناء
بُنيَ النص على مساعد واضح (مفتاح النص) هو المرأة (الأخت)، ولكنها في الأبيات لم تقم بعمل حيوي في الاتجاه النفسي، بل إن تأزم الشاعر وشعوره بالفناء لم يضمحل بوجود الأنثى، فانتقل حزنه وألمه إلى ما حوله، فانتابه إحساس بأن المرأة التي بثَّها شكواه في النص مثله تماماً تعاني وتبكي، ويمكن أن تكون تلك المرأة (الأخت) شكلاً تزيينياً، ليس هدفه إلا كونه مفتاحاً للنص وتمهيداً لوصف المعاناة والهموم.
لقد أقام الشاعر علاقةً كبيرة بين الريح وبين سبب إعيائه وذلك عندما طلب من تلك المرأة (الأخت) أن تسأل الريح لتجيب عن سبب مرضه، وهنا يمكن للمرء أن يتساءل ما علاقة الريح بمرض الشاعر؟ وأنَّى لهذه الريح أن تدرك سبب وهنه؟، لهذا فإن المرء أيضاً يضع احتمالات متعددة قبل الإجابة عن ذلك السؤال.
إن أحد الاحتمالات التي يضعها هذا التساؤل هو أن (الريح) ذات ارتباط وثيق بالتهديم والتخريب وإلحاق الضرر والأذى بالأشياء، ومن ثم تعمل على قلقة الراحة والطمأنينة، إنه مجرد احتمال، ذلك أن الريح ليست في كل الأحوال عامل تخريب، ولكنَّ السياق النفسي للنص يُبَشِّر بهذه الريح المخربِّة.
__________
(1) عيون السود، عبدالسلام، الآثار، ص 41(1/141)
أما الاحتمال الآخر لمشروعية ذاك التساؤل فآتٍ من أنه يمكن للمرء أن يسقط (الريح) على النفس، وبشكل مباشر على الذات الشاعرة، وبوسعنا أن نقول: إن الريح في النص مصدرٌ للضياع والتشتت مهدِّدَةً بذلك غريزة البقاء عند (عيون السود)؛ يرسِّخ البيت الثاني (وأنا أنتِ، في انفلاتِ الأعاصير) الطبيعة الاحتمالية لإظهار المستوى النفسي الذي ذكرناه سابقاً، فمفردة (انفلات) على قدر كبير من الأهمية من حيث دلالتها النفسية، فالانفلات يحدث دون رقيب، أو دون رادع، ومن ذلك يبدو أن تركيب (انفلات الأعاصير) قد أسهم في بناء حالة احتمالية مشابهةٍ وفعل قريب لفعل (الريح)، بل أشد وطأة منه.
إن (الأعاصير)- عبر احتمالاتها ودلالاتها- تنطوي على مجموعة الضغوط التي يمارسها المجتمع على (الشاعر)، وتنطوي أيضاً على المكبوتات التي تقوم (الأنا) جاهدة بإرجائها كي تحقق حالة التوازن، وربما تنطوي أيضاً على مرض القلب الذي أصابه، وعليه فإنَّ الاحتمالات تتعدد لمفردة (الأعاصير) في هذا البيت، وكذلك تتعدد الاحتمالات لتركيب (امتداد شتائي)، وهكذا فإن اللوحة (النص الشعري) متعدِّدةٌ الدلالات والاحتمالات الإيحائية، ينتج عن ذلك أن هذا النص ينتمي إلى (النص المفتوح)، إلا أنَّه من المفترض أن نقرِّر أن جميع تلك الاحتمالات تصبُّ في حيز التدهور النفسي وفي الشعور بالنهاية المحتمة، ذلك ما ظهر في تساؤل الشاعر الاحتمالي (كيف أحيا؟).(1/142)
لقد (كان) الليلُ في جملةٍ (أدركني الليل) حاملاً بين طياته حالات متعدّدة، فجاءَ بمعنى (الموت)، أي (أدركني الموت)، وربما أوحى بالكآبة والسوداوية وتعطيل الإرادة، لأن جملة (دبّ الصقيع في أعضائي) تُرسِّخُ فكرةَ تعطيلِ الإرادة في ذلك الحيز (الزمني)، ومن ثم توحي بالموت وبانتهاء الرغبة وبانتصار السلبيات السائدة، لذا فهو انتصار للقبح المحيط، ولنا أن نشير إلى أنّ المفردة في النص قامت عن طريق قدرتها الإيحائية الرمزية بفعلٍ حاسمٍ في تحويل القصيدة إلى (نص مفتوح).
نتابع الحديث عن (النص المغلق)، و(النص المفتوح) ليحطّ بنا الركب عند قصيدة الشاعر (علي دمّر) بعنوان (وداعاً) من ديوان (غيبوبة الحب)، يقول فيها(1):
ليذهبْ هواكِ الحلو في طيّ غيهبي
كما غابَ نجمٌ في الظلام المطْبق
كما مرّ حلْم في كرى الشوق باسماً
كما لاح طيف في الخيالِ المحلّق
أقامِ بروحي طيف أنسٍ ونشوةٍ
وودّع يأسي بابتسامةِ مشفِقِ
سعدْتُ به حيناً قليلاً ولم يدعْ
سوى فضْله في كأس راحٍ معتق
تذوقتُ منه حلوَ ما كنتُ أشتهي
وغادرَ بي مرّ الذي كنت أتقي
وما بين لقياهُ وبين فراقه
سوى لمح برق في دياجي التشوُّقِ
هو الأملُ المرجوّ قد لاحَ واختفى
فيا حزنُ ذوبْني ويا نارُ أحْرقي
منذ البداية يستطيع المرء أن يمسك بأطراف النص بسهولة، ولا يجد حاجةً في أن يعمل فكره في استخراج طاقات احتمالية للنص، ذلك أنها غير متوفرة، فنحن أمام توصيف لحالة فراق بين الشاعر ومحبوبته بالمعنى التقليدي الموروث ليس إلا.
__________
(1) دمر، علي، غيبوبة الحب ص70-71(1/143)
تنبع تقليدية النص من أن الأبيات تختزن كماً كبيراً من التركيبات المألوفة، والتي عايشها العقل العربي سنوات طويلة من تاريخ شعرنا العربي (ليذهبْ هواك، طيّ غيهبي، الظلام المطبق، لاح طيف، راح معتّق، لمْح برقٍ، دياجي التشّوق، إلخ..) ولم يتمكن الشاعر من إسقاط هذه التركيبات على أرض الواقع من خلال خلخلة بنائها بما يتلاءم والطبيعة النفسية لفرد القرن العشرين، ولم يفجّر فيها أية طاقة روحية أو فكرية جديدة بوسعها أن تقوم بفعل إيحائي يرتكز على حامل اجتماعي أصيل، حيث يبدو لنا في النص أن هناك بيئة اجتماعية لا تنتمي إلى بيئة وظروف القرن في أي حال من الأحوال.
لقد انعكست هذه التركيبات الجاهزة سلبياً على بناء الصورة الشعرية التي أفصحْت عن احتمالات محدودة في الإيحاء، وغابت عنها أسس الخلق والتعبير عن الحالة، فالصورةُ الشعرية (ليذهبْ هواكِ كما غاب نجم) قدّمتْ للقارئ احتمالاً واحداً ليس أكثر، ذلك أن تكوين هذه الصورة لم يشهد انزياحاً مُطَّرِداً مع الانزياح الذي شهدْتهُ البيئةُ الاجتماعية والظروف المحيطة، شكلاً ومضموناً، حيث سارت تلك الصورة على منهج البلاغة العربية القديمة، ثم إن هذه الصورة مع مرور الزمن ومع اختزالها الطويل في ذاكرتنا من خلال تكرارها أو تكرار نمطها، انقلبتْ إلى قول منطقي عادي أحادي الرؤيا.
وتأتي جميع الصور في النص على شاكلة الصورة الأولى (هواك كما مرّ حلمٌ، ليذهبْ هواكِ كما لاح طيف) حيث لم تخلُ هذه الصورة من التكرار الأحادي للمعنى الذي يشابه معنى الصورة الأولى ويقترب من بنائها نحوياً على الشكل التالي:
كما ... كما ... كما ... أداة الشبه الواحدة
غاب ... مرّ ... لاح ... الفعل الماضي المتكرر
نجم ... حلم ... طيف ... الفاعل المتكرر(1/144)
وكذلك نشهد هذا في التركيبين التاليين: (سوى فضلة في كأس راحٍ معتق) وفي (سوى لمح برق في دياجي التشّوق)، وبهذا فقدَ النص استطاعته وقدرته على التكثيف. واستخدم الشاعر أيضاً المزيّنات البلاغية كالطباق كما في (حلو، مزّ) و(لقيا، فراق).
وعليه فإن النص السابق ينتمي إلى (النص المغلق) لانكشافه على المتلقي بصورة مباشرة، واختفى عمل الصورة المُخصب الذي يشعّ على أرجاء النص متكاملاً مع الصور الأخرى لتشكيل لوحة فنية متكاملة.
أما على الصعيد النفسي فإننا إزاء حالة متكررة، لطالما شاهدناها في نصوص أخرى تتقاطع مع هذا النص، إذ لا تملك الأبيات السابقة خصوصية مرتبطة بـ ذات (علي دمر) الحقيقة، فحياة العذاب وأنواع الحرمان التي عاشها لم تظهر بالشكل الفني اللائق.
نتناول نصاً آخر ينتمي إلى (النص المغلق) للشاعر صلاح لبكي بعنوان (هدوء) يقول فيه(1):
رضيتُ بالآلام يقْظى كما ... رضيتُ بالأفراح لم أجزعِ
يقظى فإن أثقل جفني الكرى ... تنساب في صدري وفي أضلعي
فملءُ أحلامي أشباحُها ... وهمْسُها الأخرسُ في مسمعي
هل بَعْدَ أن أبلغَ رمسي ... غداً، تنبثق الآلام في مضجعي؟
مزعجة حلْمَ الخلود الذي ... تُغري به الإنسانَ يا مبدعي
فالشاعرُ اليائسُ من عيشه ... والمُغرِقُ الأفراحَ بالأدمع
يمضي كَمَنْ فكَكْتَ أغلاله ... إلى عناقِ الجدَثِ المفزع
رضيتُ بالآلام يقظى كما ... رضيتُ بالأفراح لم أجزعِ
تنطوي الأبيات على الألم والحزن لتنبئ بـ (معذب سوداوي)، لم تستطع فنّيات النص أن تظهره بشكل واضح.
ينكشف النص أمامنا بدرجة كبيرة، فالمحور الذي تدور حوله الأبيات هو (الألم)، وأما جميع الصور اللاحقة بهذا الألم فذات قدرة إيحائية محدودة، لأن المرء يستطيع أن يؤطّر النص بأبعاده كليةً.
__________
(1) لبكي، صلاح، المجموعة الكاملة، ص45(1/145)
إن صورة (همْسُها الأخرس) هي الصورة الوحيدة الأكثر إيحاءٌ في النص ولكن دلالاتها اضمحلت لوقوعها في سياق متراجع فنياً، فظهرت هذه الصورة كأنها بنية فنية مستقلة بذاتها.
تقترب الأبيات الثلاثة الأخيرة من القول المحض المنظوم، أي من النثرية، فالوزنُ الخليلي لم يستطع أن ينتشل تلك الأبيات مما هي عليه من نثرية، فليس كلّ قول منظوم شعراً بالضرورة، ثم إن القول العادي -بطبيعته- ذُو احتمال إيحائي واحد، ولعلّ تركيب (الشاعرُ اليائسُ من عيشه يمضي كَمَنْ فككتَ أغلاله) هو نتيجةُ وحكمة استخلصها الشاعر من مسيرة حياته، والحكمةُ في هذه الفترة الزمنية من القرن العشرين لم تعد صالحة للتعبير عن حالة تأزم قاسيةٍ، ومن ثم فإن الحكمة لا تمنح المتلقي في معظم الأوقات موقفاً جمالياً من العناصر الموجودة في المحيط ومن التحركات ومن الظروف ومن الظواهر، وهي أقرب إلى الفلسفة الفكرية المجردة التي تعتمد على العقل بشكل جوهري، وعلى أساسيات منطلقة من المقدمات والنتائج وتبتعد عن فلسفة الشعر (الفن) التي تعبّر عن موقف انفعالي من ظواهر الحياة.
نضيف إلى ما سبق أن توارد معاني الأفكار الواحدة في النص عبر التراكيب والمفردات المتواترة التكرار قد أسهم في تراجع القدرات الاحتمالية للحالة التي ينشدها (النص الفني)، فقد كان بمقدور الشاعر الاكتفاء بذكر مفردة (صدري) وحذف مفردة (أضلعي) والعكس صحيح، وذلك في تركيب (تنساب الآلام في صدري وفي أضلعي).
*التنوع الموسيقي:(1/146)
في دراستنا للإيقاع الموسيقي وتنويعاته في المدرسة الرومانتيكية سنقوم بالتركيز على التأثير النفسي الذي تقوم به البنية الموسيقية، وعلى مدى استطاعتها نقْلَ الحالة الشعرية إلى عوالم وأجواء أخرى، غير أنه من الأهمية أيضاً أن نشير إلى أن الموسيقى وسيلة هامة في نقل إحساسات الشاعر، ولكنها ليست غاية، وإلا قضَتْ على بقية العناصر التي قام النص الشعري على أساسها، لأن الكثير من التركيبات في الجملة العربية تسير على عروض الخليل، ولكنها -بالنتيجة- ليست شعراً وتظل في إطار القول المنظوم.
أما عن علاقة (الإيقاع) بـ (الوزن)، فبعضهم يفرّق بين هذين المصطلحين ومنهم الدكتور (نعيم اليافي) الذي يرى أن "للوزن صورته الجاهزة العامة الإعلائية في الأذهان ولدى الشعراء، وعلى امتداد العصور. وغير ذلك الإيقاع الذي لا يتكرر وفق نمط معين، بل على العكس يتباين ويأتي بصورٍ لا حصر لها، ويختلف من عصر إلى عصر، ومن شاعر إلى شاعر، ومن قصيدة إلى قصيدة"(1).
لقد حافظت القصيدة الرومانتيكية العربية في سورية ولبنان على نظام القصيدة العمودية، غير أن هناك شعراء حاولوا تسخير هذه البحور كوسيلةٍ تتماشى مع ظروفهم الاجتماعية والأوضاع المحيطة (سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، الخ..) وكان أن اعتمدوا على البحور ذات الوزن الواضح كبحر الخبب (فعلن، فعلن، فعلن، فعلن)، وعلى التفعيلات غير الكاملة للبحور الطويلة (الكامل، الطويل، البسيط) عبر مجزوءاتها ومنهوكاتها، حيث رأوا أن البحر القديم بتفعيلاته الطويلة لم يعد يلبي طموحهم النفسي والاجتماعي، كما أن بعض النقاد قد وقفوا الموقف ذاته من هذه البحور، واعتبرها آخرون شيئاً دخيلاً على الحياة المعاصرة ومن هؤلاء النقاد صاحب كتاب (قضية الشعر الجديد) الأستاذ (محمد النويهي) الذي كان موقفه حاداً من بحور الخليل، إذ يقول:
__________
(1) اليافي، نعيم، الشعر العربي الحديث ص163(1/147)
"فالبحر العربي المأثور ذو موسيقى حادة بارزة، شديدة الجهر، عنيفة الوقع على طبلة الأذن"(1)، ويشير (النويهي) أيضاً من ناحية أخرى إلى أن "الوزن في الشعر ليس شيئاً زائداً يمكن الاستغناء عنه، وليس مجرد شكل خارجي يكسب الشعر زينة ورونقاً، وطلاوة وحلاوة.(2).
كما نريد من هذه الدراسة أن نتبين عمل الإيقاع في إظهار المستوى النفسي، فإن ذلك ينطلق من أن "الإيقاع من بين جميع العناصر الجمالية في العمل الأدبي هو أول ما يدخل ميدان الفعل، لأنه كأنما يعطينا إشارة بأن شرارة النشاط التشكيلي قد انطلقتْ، ثم يهيئنا حالاً لموجة معينة"(3) وعلى مستوى آخر فإن "وظيفة البعد النفسي للإيقاع تكمن في ترجمة المعنى الداخلي، أي من طبيعة عمق الانفعال الذي من شأنه أن يحدد جمال الصورة الشعرية التي تستكمل شروط نموها بتأثير الانفعال على خيال الشاعر"(4). حيث من البدهي أن يتجلى ظهور الإيقاع في الكلمات ذات التأثير النفسي (الانفعالي) العالي لأن، "المصدر العاطفي للإيقاع، أساسُه اختيار الكلمات من حيث كونها تعبر عن قيمة التأثير الذي تحدثه في أذواق المتلقين، ومن أجل ذلك تكون وظيفة الكلمة في مدلولها الإيقاعي، هو إحداث استجابة ذوقية تُمتّع الحواس وتثير الانفعالات"(5).
__________
(1) النويهي، محمد، قضية الشعر العربي ص94
(2) المرجع السابق، ص38
(3) غاتشف، غيورغي /الوعي والفن/ عالم المعرفة/ ع146 ص65
(4) فيدوح، عبد القادر، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، ص461
(5) المرجع السابق ص448(1/148)
لقد انقسم الشعراء الرومانتيكيون في سورية ولبنان إلى فئتين، فئة تخلّت إلى حدّ ما عن النظام الذي سارت عليه بحور الخليل بشكلها الصارم (أي استخدام التفعيلات الكاملة التّي ترتكز على موروث بلاغي يحافظ على إيقاع صوتي حاد للمفردة)، وفئة أخرى حافظت على ذلك النظام متأثرة بالمدرسة الإحيائية، إذ عاصر بعض الشعراء المرحلتين الرومانتيكية والحديثة في الشعر وظلوا محافظين بشكل كبير على لغة المدرسة الإحيائية، لهذا فمن الصعب إدراجهم في قائمة الشعراء الرومانتيكيين، وأخذت الموسيقى عندهم -بشكل عام- تتجه إلى كونها غاية وليست وسيلة.
نستهل دراستنا عن الموسيقا بالوقوف عند الشاعر (عبد الباسط الصوفي)، فـ "قليلاً ما يستعمل عبد الباسط البحور الرباعية التفاعيل كالطويل والبسيط، وإنما يعمد على الأغلب إلى استعمال ما كان منها ثلاثي التفعيلات، ويميل إلى المجزوء منها اغناء للزخم الموسيقي”(1)، وهو يميل في القصيدة الواحدة إلى التنويع في القوافي وإلى الحفاظ على حالة التداعي (الكتابة الميكانيكية الآلية)، وبذلك يستخدم الوزن على أساس سليم كوسيلة جيدة للتعبير عن الحالة.
إن شعر عبد الباسط الصوفي "لا يمثل النزعة الغنائية بمعناها الرومانسي المتعارف عليه، وإنما يمثل هذه النزعة الغنائية بمعناها الحقيقي، وهو صلاحيته للغناء بحناجر المغنين وأصواتهم"(2)، وهذا لا يعني بالضرورة أن إظهار البناء النفسي -الذي تقوم به الموسيقا- مضمحلّ، بل إن الإيقاع عند الشاعر يساعد على إظهار المستوى الدرامي أيضاً.
من قصيدة (نشيد) اخترنا الأبيات التالية:(3)
الريحُ سكرى، يا حبيبُ، فهل أنام على الدروبِ
وعلى الجبين أناملي، كالنار، راعفة اللهيب
وتنهّدْتْ شكوى.. وغار الليل في الصوت الرطيب
... ... ... ***
هذيانُ هدبي.. والفراغُ يموج بالصورِ الغريبهْ
__________
(1) اسكاف، ممدوح، عبد الباسط الصوفي، ص211
(2) المرجع السابق ص72
(3) الصوفي، عبد الباسط، الأثار/ ص47.(1/149)
والأفق يطويه الجناح، وللصدى دُنيا رحيبهْ
وفمي على الشَفقِ الخضيبِ، يذوبُ ألحاناً خضيبهْ
... ... ... ***
ينطوي النص على (المغترب المعذب) الذي يعاني الكثير من السوداوية والضياع أيضاً، والنص من مجزوء الكامل (متفاعلن متفاعلن، متفاعلن متفاعلن) وقد تمّ استخدام جوازات هذا البحر (متفاعلن، متْفاعلاتن، مُتفاعلاتن) كما أن القافية قد اختلفت في الأبيات الثلاثة الأولى عنها في الأبيات الثلاثة التالية، وإضافة إلى (الوزن الخليلي) الذي تنتمي إليه الأبيات، نرى أن هناك إيقاعات داخل التفعيلة الواحدة، إما أن تكون ناتجة عن الحروف المشددة أو عن حروف العلة، الخ..، وكلّ ذلك يؤدي بالمتلقي إلى أن يشعر أن هناك ضغطاً ما على حرف معين استوجب ظهور فاصل زمني أو وقف (فترة صمت) بين حرف وآخر، (فالريح سكـ) وتقطيعُها (/ْ/ْ//ْ)، فضلاً عن أنها ذات وزن عروضي (متْفاعلن)، فإن الضغط على (الراء) في لفظة (الريح) عبر إلحاقها بالياء (حرف العلة)، قد شكّلَ فاصلاً زمنياً وصمتاً، كذلك فإن الألف المقصورة في (سكرى) قد عملت على إقامة فاصل زمني بين (الريح سكرى) و(يا حبيب).
إن (الريح) كمفردة يمكن أن تَرِدَ في أي نص شعري أو نثري، فمِنْ أين تنبع خصوصيتها في النص؟(1/150)
إن (الريح) تتناغم مع (حبيب، الجبين، الخضيب) وتتناغم هذه المفردات بالنتيجة مع الكلمات المكوّنة للقافية (الدروب، اللهيب، الرطيب، الغريبة، رحيبه، خضيبه)، كما أن الألف المقصورة في (سكرى، شكوى، الصدى) تنمّ على تشكيل إيقاعي آخر، يفيد إطلاق الحالة إلى مجالات أوسع عبر تكرارها، حيث تؤدي إلى تعميق حالة الضياع والتشتت، فالتركيبات في المقطوعة توحي -في الأصل- بذلك الضياع، وكذلك فإن ورود حرفي (النون+ الألف) بصورة متلاحقة في مفردات متعدّدة في النص قد عمل على بناء إيقاع آخر غير الذي رأيناه في مفردات (شكوى، سكرى، خضيب، رطيب، الخ..) ومن تلك المفردات التي جاءت فيها (النون، الألف) (أنام، أناملي، النار، الجناح).
في قصيدة، أخرى للشاعر (نديم محمد) من مجزوء الكامل أيضاً نرى اختلافاً كبيراً في موقع الإيقاع عن ذلك الموقع الذي رأيناه في قصيدة (عبد الباسط الصوفي)، على الرغم من أن القصيدتين من مجزوء الكامل، يصف (نديم محمد) في قصيدته (ناعورة) بعد وفاة والده بدقائق، ولكنه -بالنتيجة- يصف ذاته، وهذا ما سنراه في سياق النص(1):
نغمٌ كريح القبر، يُغثي الروح، أسود كالمنون
رخْوُ السمال، أبحُّ، تمضغه حلاقيمُ السكون
ينهالُ من قلب الظلامِ، صديدَ جرحٍ من قرون
وينوح من ناعورةٍ حمراء، من صدأ السنين
مغروزةٌ، كالبومة الصمّاء، في جرفٍ حزين
تُعلي وتبْسط من جناحيها، كأشرعةِ السفين
ظمأى كشِدق النار، تعزفُ بالحواصلِ والبطون
للوهلة الأولى يظن المرء أن الشاعر يصف ناعورة ما، بيد أننا ندرك بعد قراءة النص -عبر سياق الموقف (موت والده)، وعبر السياق الحياتي لنديم محمد- أن الشاعر يصف ذاته المنطوية على الكثير من الاغتراب ومن السوداوية.
__________
(1) محمد، نديم، فراشات وعناكب، ص91.(1/151)
النص عروضياً -كما أشرنا- من مجزوء الكامل، وأكثرُ ما يميز استخدام المشتقات (الصفات المشبهة باسم الفاعل، وصيغ المبالغة، الخ..) والتي ولّدتْ إيقاعاً يوحي بشدة التأزم (أسود، رخو، أبح، صديد، الصماء، حزين، ظمأى، إلخ..) حيث تسيطر هذه المفردات على جواء النص بوقع مميز كما أن الاستخدام المتكرر للمفردات التي تحتوي على حروف المد، وبشكل غزير، قد أسهم في بناء منظومة إيقاعية أخرى كاستخدام حرف المد (الواو) في (ينوح، ناعورة، مغروزة، البومة، البطون، المنون، السكون، قرون) وتناسب بعض الكلمات إيقاعياً في صدر البيت أو عجزه مع القافية.
إن الذي يلفت الانتباه في النص أيضاً كثرة استخدام المضاف والمضاف إليه، وهذا أيضاً بدوره يؤسّس لوجود إيقاع آخر كما في (ريح القبر، رخو السعال، حلاقيم السكون، قلْب الظلام، صدأ السنين، أشرعةِ السفين، شدْقِ النار).
لقد تكاملت كل الأشياء السابقة كي تمنح إيقاعاً واضحاً، ثم إن ذلك الإيقاع قد ترافق بوجود قيم فنية أخرى قائمة -بشكل خاص- على بناء الصورة الشعرية التي اعتمدت على الخلق كما في (نغم كريح القبر، رخو السعال، صدأ السنين، مغروزةٌ كالبومة الصماء، ظمآى كشِدق النار، الخ..) فبدتِ الحالة (باجتماع الإيقاع والصورة والبناءين الصوتي والنحوي) تُعبّر بوضوح عن مدى الانسحاق الذي أصاب (نديم محمد).
كما شهدت المدرسة الرومانتيكية استخدام المخمّسات في بعض الأحايين كقول (هند هارون) في ديوان (سارقة المعبد)(1):
غريبٌ أمرُ أشواقي ... عجيبُ.. وجْدُ أعماقي
تصارعني.. أصارعها ... ودمّي.. فيضُ أحداقي
وحزني قائمٌ.. باق..
تنطوي المقطوعة على (المعذب السوداوي) وعلى استمرارية الشقاء والألم عند الشاعرة.
__________
(1) هارون، هند، ديوان سارقة المعبد ص116(1/152)
النص من مجزوء الوافر (مفاعلتن، مفاعلتن)، والذي يلفت الانتباه أن الشطر الأول من البيت الأول يطابق الشطر الثاني من حيث عدد المفردات والتوزيع الإيقاعي لهذه المفردات أيضاً، هذا يؤدي بالنتيجة إلى تركيبة نحوية واحدة وفق ما يلي:
مفردات الشطر الأول ... مفردات الشطر الثاني ... التقطيع العروضي ... الإعراب
غريبٌ ... عجيبٌ ... فعولن ... خبر مقدم
أمرُ ... وجْدُ ... فعْلُ ... مبتدأ مؤخر
أشواقي ... أعماقي ... مفعولن ... مضاف إليه
وهذا يعطي بالضرورة إيقاعاً واحداً رتيباً لا يضفي على الحالة أي نوع من أنواع التأزم المتصاعد من جواء إلى أخرى.
في البيت الثاني يلاحظ المرء أن هناك مفردتين في الشطر الأول هما تفعيلتا البحر الوافر أو هما، شكّلتا، وطابقتا، تفعيلتي، مجزوء البحر الوافر (تصارعني، مفاعلتن)، (أصارعها، مفاعلتن). ولم تؤدّ هاتان الكلمتان وظيفة هامة على صعيد الحالة، فذكر إحدى الكلمتين كافٍ لأن يدلّ على أن هناك حالة صراع تفرض وجود نقيضين، لأن الشاعرة عندما قالت، (تصارعني) فهذا يعني بصورة بدهية وجود حالتين متضادتين، وكذلك مفردة، (أصارعها) التي تعني الشيء ذاته، وهكذا فإن هناك حالة واحدة في الأصل قبل وجود البنية الموسيقية.
لقد استخدم بعض شعراء العذاب في المدرسة الرومانتيكية الموسيقا كغاية فتراجعت الحالة لديهم تراجعاً ملحوظاً، حيث سنقف في هذا المجال عند قصيدة لـ (علي دمر) بعنوان (ورقات) يقول فيها:(1)
ورقاتُ جوابكِ بين يدي
تقتات وتنهل من كبدي
في كلّ نهار.. أو ليلٍ
أتلوها في فرح الولدِ
يطويني الحرفُ وأنشرهُ
يشعلني يحرق لي جلّدي
يشربني الحرفُ وأشربهُ
وكلانا بعد الشرْب صدي
يمتاز البحر المتدارك بموسيقاه الخارجية الواضحة، وهذا يعود إلى طبيعة تركيب تفعيلته (/ْ/ْ) أو (///ْ) أي (حركة +سكون) أو (ثلاث حركات+ سكون).
وعلى الرغم من الإيقاع البارز للبحر المتدارك في الأبيات، فإن الموسيقا ذات هدف تزييني محض.
__________
(1) دمر، علي، ديوان غيبوبة الحب، ص38.(1/153)
يُعزّز مقولتنا هذه أن الموسيقا -كما أشرنا- مستخدمةٌ كغاية لبناء منظومة لغوية تقوم على انتقاء المفردات وعلى انتقاء عكسها على صعيد المعنى بصورة لا تكترث للحالة أو تكترث لتعميقها، ومن ذلك على سبيل المثال تراكيب (يطويني الحرف وأنشرهُ، يشربني الحرف، وأشربُهُ)، حيث لم تُعمّق هذه التراكيب الحالة، بل إن هناك استخداماً غير موظف للبلاغة القديمة في رصد الحالة، كاستخدام الطباق (نهار، ليل)، (يطوي، ينشر)، (الشرب، صدي) وعليه فقد تمّ تسخيرُ الموسيقا لخدمة هذه المكونات البلاغية (المكوّنات الشكلانية)، دون الاكتراث لرصد (مكوّنات الحالة) ولـ (علي دمر) قصائد أخرى يعتمد فيها بشكل كبير على لغة النص الشعري القديم، لذلك فإن موسيقا هذه النصوص تُحال على مرحلة تاريخية اجتماعية سابقة.
إن البيت الأول من النص السابق قد كثف الحالة الشعرية بمجملها، فمِنْ هذا البيت ندرك أن هناك شوقاً إلى أنثى ما، ومنه ندرك أيضاً أن هناك قطيعة مع امرأة ما، ومنه كذلك نستطلع أجواء الحرمان التي يعيشها الشاعر الخ..، أما بقية الأبيات فلم تستطع أن تولّد حالة متصاعدة جوهرية، كما أن الموسيقا في البيت الأولى كانت عاملاً واضحاً في إتمام حالة التكثيف، مما يبرز مقولتنا حول التزيينية التي أصابت الأبيات الأخرى.(1/154)
من أكثر الشعراء الرومانتيكيين الذين تبرز لديهم البنية الموسيقية كظاهرة جلية في نصوصهم الشعرية، الشاعر (عمر أبو ريشة)، حيث نرى الأستاذ (سامي الدهان) يقول في كتابه (الشعراء الأعلام في سورية) متحدّثاً عن الموسيقا عند أبي ريشة: "هذا هو التركيب الموسيقي في شعر عمر، يزحف به على قواف مختارة وألفاظ مصطفاة فتحسُّ بالأنغام تتساوق، يجر بعضها بعضاً بسلاسل دقيقة من أصوات خفية مهموسة هي سر النجاح في شعر عمر، لذلك كان في بدء حياته الشعرية يصلح منشداً اكثر مما يصلح شعره متلواً مقروءاً -إذا صح التعبير- فيسكر السامع ويطرب لعمر متغنياً بشعره"(1).
إن (عمر أبا ريشة) ينوّع في استخدام البحور الموسيقية التي تعتمد على المجزوءات والبحور ذات الموسيقا الواضحة، كالبحر المتدارك، ومجزوء الوافر، والرمل.
من قصيدة بعنوان (ما أوجع) من ديوان (غنيت في مأتمي) اخترنا هذه الأبيات(2):
صاحٍ وكؤوسي لا تشفي ... غصصي، لا تسكر آلامي!
أستعرضُ أيامي، فأرى ... ما تخجل منهُ أيامي
فجفوني لا تعرفُ إلا ... أحلامي، تَقْتُل أحلامي
ودروبي لا تذكرُ أني ... نقلتُ عليها أقدامي
صاحٍ وأحبك يا دنيا ... في الوهج من الشفقِ الدامي
ما أوجعَ نفرةَ أهوائي ... مني.. وتثاؤبَ أصنامي!!
أشرنا في أكثر من موضع إلى أن (المعذب) كقيمة جمالية لم يتبلور في شعر (أبي ريشة)، تبعاً للحياة الاجتماعية والظروف التي عاش في كنفها الشاعر، بيد أننا نرى بين الفينة والأخرى نصوصاً تحمل طابع العذاب لديه، إلا أن هذا العذاب لا يأتي بالمعنى الذي وقفنا عنده في بداية الدراسة، بل يأتي بمعنى (الألم المؤطّر) بفترة زمنية محددة)، وهكذا كان الأمر عليه في النص السابق.
__________
(1) الدهان، سامي، الشعراء الأعلام في سورية ص324
(2) أبو ريشة، عمر، ديوان غنيت في مأتمي ص63-64.(1/155)
الموسيقا التي جاء بها البحر المتدارك واضحة في الأبيات، ويظهر لنا أن استخدام (ياء المتكلم) قد عزّز موسيقا المتدارك باتجاه استعمال الجواز (فعلن)، ذلك أن هذه الياء إضافة إلى أنها تُشكل وقفاً(ْ) فإن لها وقعاً مميزاً أيضاً على المتلقي (كؤوسي، غصصي، آلامي، أيامي، جفوني، أحلامي، دروبي، أني، أقدامي، أهوائي، مني، أصنامي)، كذلك فإن استخدام أداة النفي (لا) المتكررة، يبسط في الأصل حالة إيقاعية تعمّق نفْيَ الأشياء الجميلة التي يريدها الشاعر عبر سياق النص (لا تشفي، لا تسكر، لا تعرف، لا تذكر) حيث توضّح الإيقاع الناتج عن هذه الـ (لا) التي أسهمت في خلق فاصل زمني (فترة صمت) سيطر على سمع المتلقي.
ويبدو أن ورود حرفين في النص ثانيهما (ألف ممدودة) قد عمل على تشكيل إيقاع ذي مستوى واحد من التناغم، كوجود (لا) في (آلامي)، ووجود (يا) في (أيامي) ووجود (ما) مرتين، وظهور (لا) أيضاً في (الا) وفي (أحلامي) المكرّرة مرتين، وظهور (ها) في عليها، و(دا) في (أقدامي)، و(صا) في (صاح) و(وا) في (أهوائي) و(ثا) في (تثاؤب) وأخيراً (نا) في (أصنامي)، وكلّ ذلك أظهر الجواز (فعْلن) على أنه المسيطر على مسيرة النص عروضياً.
المعجم اللغوي
من المفترض أن يختلف المعجم اللغوي عند الشاعر الأصيل(1) عن باقي لغات الشعراء الآخرين، حيث يؤدي هذا المعجم بالضرورة إلى انفراد ذلك الشاعر بخواص تميزه من أقرانه من الشعراء، وبالتالي لا يمكن لـ (أناه) أن تتقاطع مع أنا أولئك الشعراء.
__________
(1) لا تعني الأصالة هنا ذلك المفهوم السائد الذي يربط كلمة (أصيل) بكل ما هو قديم في التراث، بل نعني بالأصالة الانطلاق من حامل اجتماعي متين ومعاصر للشاعر، وتفجير طاقات فكرية وروحية في التراث بصورة جديدة.(1/156)
ولعل ذلك المعجم أيضاً يفرض مفردات خاصة بالشاعر الأصيل، لذلك سوف نتوقف عند مفردات المدرسة الشعرية الرومانتيكية كما تجلت عند شعرائها في سورية ولبنان ومدى توظيف تلك المفردات وتطورها الدلالي وكثرة استخدامها عند هذا الشاعر أو ذاك، وما هي المفردات التي يكررها الشاعر خدمة للحالة الشعرية؟ الخ..
يْكثر الشاعر عبد الباسط الصوفي من المفردات التي تدل على العدمية، ومن ثم على القلق الوجودي (فناء، ظلمة، محروم، يذوي، أشباح، ادفني، أشلاء، ضاع، القبر، شحوب، السراب، الوهم، الشحوب، لا شيء، سأمضي، دامي)(1)، حيث تنطوي هذه المفردات أيضاً ضمن سياق النص على الغربة والسوداوية.
أما الشاعر علي دمر فينطلق معجمه اللغوي من المفردات التي تدل على الحرمان العاطفي والكبت بصورة رئيسة، ثم تتشعب تلك المفردات لتشمل التعبير عن الموت (دُفنتُ، رمس، الموت، الردى، مستحيل، الكبت، نار، نخشى، خائف، الدموع، تخيب، خابت، الشوك، حطاماً، أحرقته، الأرق، السأم ضيّعتَ،، قلق، ففزعتُ، هربتُ، ضللتُ، ذهبت، لهيبه، لاعج)(2).
__________
(1) انظر آثار عبد الباسط الصوفي ص5-7-20-28-29-30-31
(2) انظر علي دمر ديوان (حنين الليالي) ص19- و(غيبوبة الحب) ص30-79-80-84-85-89-90(1/157)
لقد وقفنا مطولاً عند المعجم اللغوي للشاعر (نديم محمد) عبر مجموعته (آلام) ومجموعته (فراشات وعناكب)، حيث أشرنا إلى أن شاعرنا يستخدم المفردات ذات البناء الصوتي الحاد والقاسي، والتي تتماشى مع التراجعات الحادة والقاسية على عدة صُعدٍ (الانتكاسات الاجتماعية، المرض، القطيعة مع الواقع) كما في (أبحُّ، تمضغه، حلاقيم، ينهال، صديد، شدق، مكشّرة، ملاغم، المحموم، أمرٌّ، تنفث، تلتهمه، تُرِعهْ، اخنق، أهوي، أمزّقْها، أزج، أكابد، أنين، مصها، انهرّتْ، عجاف، مرير، ساحق، تدبُّ، صفعة، تكوي، المسعور، جرداء، الكسيح، ينشب، قطيعة، اجتناب، يدمي، تشهاق، إغماء، وحشة، ذئب، هدرة، ينهش، النيوب، تفحُّ، أعصر، المهدور، تصعير، انسفاح، الصقيع، يزأرن)(1).
كذلك فإن بعض المفردات عند الشاعر (نديم محمد) تتلازم مع الحرمان العاطفي، حيث استعرضنا سابقاً رمز المرأة عنده، وماذا تعني بالنسبة له؟
كما أن (عبد السلام عيون السود) يُشابه إلى حد ما الشاعر (نديم محمد) في مجال استخدام المفردات القاسية، بيد أن (عيون السود) يعتمد على المفردات التي تقترن عادة بالنار وبالغليان وبالضياع، ومن ثم تأتي مفردات السراب والليل كما في (الظلام، تفور، اضطراب، سعير، الجحيم، ضئيل، السراب، أغفى، الضياع، التيه، يسفح، نغيب، الظماء، ليل، غام، غارت، الريح، طويتُ)(2).
أما الشاعر (صلاح لبكي) فيعتمد على المفردات التي تفضي إلى تعطيل الإرادة والإرهاق ومفردات النار أيضاً، كما في (تعب، ينوح، يبكي، سأمّ، كآبات، أرهق، نتلظى، الوقيد، الضرام، الويل، أغمض)(3).
__________
(1) انظر نديم محمد ديوان (فراشات وعناكب) ص34-91 وديوان (آلام) ص13-34-36-41-43-44-53-54-58-61-59-85
(2) انظر آثار عبد السلام عيون السود ص33-41-45-58-77-78-81
(3) انظر صلاح لبكي الأعمال الكاملة ص16-74-123-257-258(1/158)
كما أن مفردات العذاب واليأس والشكوى ترد بكثرة عند الشاعرة (هند هارون) في ديوانها سارقة المعبد، وتشتد وطأة هذه المفردات حدة على الصعيد الصوتي بعد وفاة ابنها عمار وذلك في ديوان (عمار في ضمير الأمومة) الذي لا يدخل زمنياً حيز دراستنا، ومن مفردات الشاعرة في الديوان الأول نجد (عذابي، بأس، جرح، ينزف، الأسى، الدمع، حزني، أوهَنُ، الغريق، خاو، الغدر، أكفان، بكاء، الهم، ذبول، كليلاً، حطام، آهة)(1).
ولعل مفردات الشاعر عمر أبي ريشة ترتبط بالاغتراب وبالمرأة من قريب أو من بعيد ويستخدم أيضاً المفردات التي تعتمد على العناصر الموجودة في الطبيعة، وارتباط هذه العناصر بالأنثى ومن مفرداته نرى (الغيمة، نجمة، اهوائي، غصص، الشموع، الفتون، غربتي، ألقاك، الحب، غرباء، الشوق، الألم، موعد، غوايات، اشتهت، لا تخجلي، سكران، موسم، الورد، جوع، حرمان)(2).
ثم يأتي الشاعر (وصفي القرنفلي) بمفردات تصبّ أولاً وأخيراً في خانة الموت والفناء، ومن هذه المفردات (اليأس، أفرغتُ، أنقاض، ميت، القفار، الألم، رماد، الموت، الصحراء، قتلَ، الدجى، الظلام)(3).
__________
(1) انظر هند هارون ديوان سارقة المعبد ص40-41-146-158-187-188-224-237
(2) انظر ديوان عمر أبي ريشة (غنيت في مأتمي) ص46-63-64-67-68-69-127-128 وديوان (من وحي المرأة) ص89-117-118-149
وديوان (من عمر أبي ريشة) ص24-45
(3) انظر ديوان القرنفلي، (وراء السراب) ص43-44-211(1/159)
لقد تغيرت وتطورت الكلمة دلالياً في المدرسة الرومانتيكية، ومن ثم فإنها ساعدت على إقامة انزياح هام بفعل الصورة الشعرية التي تتضمن حقلين دلاليين، وضمن الصورة المركّبة من عدة صور جزئية، ثم إن بعض المفردات حافظت على طابعها الموجود في المدرسة الإحيائية في الشعر، حيث بقيت داخل الاحتمالات المحدودة التي تحملها الصورة الشعرية في هذه المدرسة، ولعل الصورة في المدرسة الرومانتيكية قد مهدّت لظهور صورة شعرية في مدرسة الحداثة، تعتمد على الكلمة بطاقاتها الإيحائية الكبيرة عبر (الرمز والتطور الدلالي للمفردة).
(((
الباب الثاني
نموذج المعذب في شعر الحداثة
في سورية ولبنان
الفصل الأول
تجليات المعذب في شعر الحداثة
لقد تمثّل الحامل الطبقي لشعر الحداثة بالبرجوازية الصغيرة، حيث تعرّضَ أفراد هذه الطبقة للكثير من الأزمات والإحباطات على غير صعيد، ومن تلك الأزمات نكبة فلسطين. ومجموعة الاستقلالات المزورة ، والانقلابات العسكرية الديكتاتورية التي تبعتها، وما سببتْه من عدم استتباب الأمن لشرائح المجتمع قاطبة. مضافاً إلى ذلك كله المعاهدات والأحلاف الاستعمارية في المنطقة، كحلف بغداد ونظرية الفراغ، ووضع الحكومات الجديدة المتعاملة مع الاستعمار، والمتآمرة على شعوبها في سورية ولبنان والأردن والعراق، مع ما خلفه هذا الوضع من شعور بالخجل، وإحساس باليأس والضياع، وسط زحام الآمال العريضة عند شريحة البرجوازية الصغيرة، التي أدركت، وهي المأزومة من جرّاء الوضع الجديد، أنها صاحبة المصلحة الحقيقية في تغيير أنماط العلاقات السائدة، وإحداث بدائل لكل المعوقات المنتشرة على أرض الواقع، وسط الاهتزاز العام الذي يحكم بنية المجتمع حينئذ.(1)
__________
(1) جابر، يوسف حامد، قضايا الإبداع في قصيدة النثر ص71-72(1/160)
نتيجة لكل ذلك بدأت الأحلام التي يحملها بعض أفراد هذه الطبقة بالسقوط الحاد، وانتابهم شعور بسوداوية المستقبل وعدميته، وقد جاء شعر الحداثة شكلاً من أشكال التعبير عن تلك المشاعر القاتمة، فتناسبت اختراقات هذا الشعر (على صعيدي الشكل والمضمون) مع التغيرات المذهلة والسريعة التي شهدها القرن العشرون علمياً وسياسياً واجتماعياً.
إن الانكسارات الحادة والتغيرات المذهلة التي شهدها الفرد، أسهمت في بلورة نموذج /المعذب/ بشكل واضح في شعر الحداثة، حيث عاش الشاعر /المعذب/ في أجواء وعوالم أكثر شمولية من شعراء المرحلتين الإحيائية والرومانتيكية، وكلّ ذلك انطلاقاً من تأزمه النفسي العميق الذي سبّبه تفكيره المرعب بواقعه الأليم، فبدا أن "أيديولوجيا الشاعر الحديث تنبع أساساً من إحساسه الذاتي بالقضايا الكيانية الكبرى، لذلك فهو لا ينحصر في أطر سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وإنما يكتسب أيديولوجيته في الإطار الحضاري الشامل لمأساة الإنسان"(1).
__________
(1) شكري، غالي 1978- شعرنا الحديث إلى أين؟ دار الآفاق الجديدة، بيروت ص174-175(1/161)
لقد امتلكت البرجوازية الصغيرة عبر تاريخها وعبر نسقها الفكري مؤهلات جيدة ومرتعاً خصباً كي تجعل من أفرادها معذّبين، لا سيما أولئك الذين يملكون حساسية مفرطة تجاه ما يحدث على أرض الواقع، فـ "الأسس الأربعة المكوّنة لأهم مرتكزات النسق الفكري البرجوازي الصغير، وهي الانتقائية، واحتقار النظرية، والتذبذب، والدعوة إلى التقنية، تساعد أبداً على استمرار الخلط الفكري، ومن ثم فإن البرجوازية الصغيرة على الصعيد الفكري تبقى أسيرة محورين رئيسين، وهما السقوط من ناحية والانتظار من ناحية ثانية: السقوط وهو العجز عن تكوين نظريتها الخاصة، وهذا شيء موضوعي، ثم انتظار من يمدّها، من البرجوازية أو الطبقة العاملة، بما يلائمها كحل خاص بها"(1).
__________
(1) بنيس، محمد 1985- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ط2 دار التنوير للطباعة والنشر -الدار البيضاء ص353
... إن الانتقائية عند البرجوازية الصغيرة تعني أن هذه الطبقة لا يمكن لها أن تمتلك طرقاً متنوعة في اختياراتها الأيديولوجية لأنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من الجمع بين المتناقضات لتؤلف بينها وحدة وهمية، أما احتقارها للنظرية فيشير إلى أن موقف هذه الطبقة تجاه الفكر النظري يختلف عن باقي الفئات حسب الظروف، وبصفة عامة فإن الحركات البرجوازية ترفض وتحتقر النظرية في بداية نشاطاتها السياسية، وهي متذبذبة لأنها تفتقر للاستمرار والصلابة سواء في الفكر أو الممارسة فهي تعدل مواقفها الإيديولوجية وخاصة زمن الأزمات، وأما الدعوة إلى التقنية: فهي الوجه الآخر لتمجيد كل المظاهر العصرية لأوربا (التعليم، العلم، الصناعة، الخ..)(1/162)
ولا بد من القول بعد هذه الوقفة: إن التوتر والألم في الشعر العربي الحديث عامة وفي الشعر العربي الحديث في سورية ولبنان خاصة ظواهر أصيلة، تستند إلى حامل اجتماعي أصيل أيضاً، لذا فإن "هذا التوتر أو الانخلاع الذي أخذ يعيشه الشاعر المعاصر، إلى حدٍ بات من الممكن عنده القول بأن القصيدة المعاصرة هي قصيدة الأزمة، أو قصيدة الإشكال، هذا التوتر وهذا التأزم، لا يمكن القول بأنهما مستوردان من الغرب، كما زعم بعض أعداء الشعر المعاصر، بل هو انعكاس لأم صميمي بين أفراد الجنس البشري بعامة، وهو في الوقت نفسه نتاجَ الذعر الذي يثيره واقعنا الاجتماعي الخاص، وواقعنا التاريخي المهزوم، هذا الواقع الذي أخذنا نعيه بشيء من العمق نتيجة لانتشار المدارس والجامعات والصحافة ووسائل الإعلام والكتب وسواها من أدوات التوعية"(1).
ولهذا فإن استشراف المستقبل يكون عادة قاتماً عند شاعر الحداثة، فهذا المستقبل -كزمن نفسي- سيأتي بالكوارث والويلات وبمزيد من الرعب والأسى ولذا "أخذ الشاعر المعاصر يعيش خواء العدم وسقم الوجود، وأصبحت الوظيفة الأساسية للشعر تجسيد المتعارضات، والبذرة التي تطلعه هي الانشراخ، انشراخ الوجود إلى ناف ومنفي، وانشراخ الكينونة إلى حضور وغياب يضرب الحصار حول أسوار الروح الذي لايمتاز بأي حصانة إزاء القلق، وراحت المأساوية تنكشف في هذا الشعر الأصيل، مضاعفةً مأسوية وجودية وتاريخية ولا سيما لدى (السياب) و(الحاوي) وهيمن إحساس الموت على الأول هيمنة قلّ نظيرها في هذه الآونة، بينما هيمن وجدان الخيبة على الثاني(2).
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر العراقي (بدر شاكر السياب) من أكثر الشعراء العرب الذين تبلور في شعرهم نموذج (المعذب).
__________
(1) اليوسف، يوسف سامي 1980 الشعر العربي المعاصر، مطبعة الكاتب العربي، دمشق ص26
(2) المرجع السابق ص26-27(1/163)
لقد كان السياب غريباً في المدينة وهو ابن الريف، إنها تقوم باضطهاده سياسياً وتجعله تابعاً مهاناً، وتضطهده اجتماعياً لأنها تجعل منه عبداً محروماً، ويبدو أن تجربة الحزب الشيوعي قد جعلت بدراً مضطهداً ومشرّداً، ولكنها حوّلتْ إحساسه الفردي إلى شعور بفاجعة المجتمع وتوسعت دائرة الإحساس بالموت لديه، إذ كان الموت فيما سبق موته وموت أمه أما فيما بعد، فقد أصبح الموت موت الآخرين عامة، لهذا فإن ردة فعله الواضحة على قبح الظروف الموضوعية والاجتماعية هي العودة إلى الماضي إلى (جيكور)، وإلى أمه الحضن الأول، كحالة من حالات البحث عن الحرية المفقودة، وكذلك البحث عن صورة مثلى للتوازن النفسي.
ففي قصيدة (أفياء جيكور) تصويراً لكل ما هو جميل في الماضي الذي يعادل قُبْحَ الحاضر:(1)
نافورة من ظلال، من أزاهير
ومن عصافير..
جيكور، جيكور، يا حقلاً من النور
يا جدولاً من فراشات نطاردها
في الليل، في عالم الأحلام والقمر
ينشرن أجنحة أندى من المطرِ
في أول الصيف
يا باب الأساطير
يا باب ميلادنا الموصول بالرحم
من أين جئناكِ، من أي المقادير؟
من أيّما ظُلَمٍ..؟
وأي أزمنة في الليل سرناها
حتى أتيناكِ.. أقبلنا من العدم..؟
أم من حياة نسيناها
جيكور مسّي جبيني فهو ملتهبٌ
مسّيه بالسعف
والسنبل الترف
مدّي علي الظلال السمر، تنسحب
ليلاً، فتخفي هجيري في حناياها
يعرض النص لصورتين متناقضتين، حيث تجسد الصورة الأولى الماضي (الطفولة، ساحات جيكور) بكل تفاصيله الجميلة التي تفضي إلى الحميمية التي يفتقدها الشاعر الآن في ظل الظروف الموجودة، فالفراشات والأزاهير والعصافير والأحلام والقمر على صلة وثيقة بجيكور المنبع الرئيسي لحالة التوازن، وحالة البحث عن الذات.
__________
(1) السياب، بدر شاكر، 1971، الديوان، دار العودة، بيروت، ص 186-187.(1/164)
أما الصورة الثانية فهي صورة الحاضر الذي يقف حائلاً دون تحقيق رغبات الذات (ظلم، العدم، ملتهب، هجيري) لهذا فإن الحنين إلى الماضي هو حنين إلى الحرية، ولذلك فإن الرجوع إلى جيكور وتصوير الأماكن والعناصر بشكل جميل، آتٍ لردم الهوة التي نتجتْ عن الواقع.
إن جيكور كما يعرضها النص أصبحت تاريخاً، بيد أنه تاريخ ممتلئ بأشكال الحياة الجميلة، ومن ثم فإنه من الطبيعي أن يُسقط هذا التاريخ على الحاضر الممتلئ بأشكال الحياة القبيحة، وبالضرورة فإن هذا الإسقاط هو اسقاط لأشكال الحرية على أشكال القيد المتمثّله بالاضطهاد والاستلاب وتغييب الذات الحقيقية عن ساحة الفعل الحر.
إن الظواهر السلبية التي عاناها السياب في المدينة كالاضطهاد والاستلاب، قد أظهرت في النص تجليات متعددة للمعذب، كالمغترب، والعدمي، وما ينطوي تحت تلك التجليات من حالات الضياع والقلق، حيث شكّلت المفردة في النص رمزاً يوحي بتلك الحالات، فـ (الهجير، الظلم، العدم) هي معطيات الواقع، ذلك أن (الهجير) و(الظلم) تكثيف للصراع الداخلي لدى الشاعر من جهة، والناتج من جهة أخرى عن صراع مع قيم المجتمع.
لقد كانت عودة السياب إلى الماضي من حالات (الحلم) التي لجأ إليها شعراء الحداثة عامة والمعذبون منهم خاصة، فالشاعر المعذّب يميل إلى الحلم بدرجة كبيرة لأن الهوة بينه وبين الواقع عميقة وكبيرة، حيث اقتربت لغة الشاعر الحديث من اللغة السوريالية التي تمجّد عمل الحلم، والتي تعتمد على إخراج مكنونات اللاشعور في حالة من التداعي الحر.(1/165)
وتجدر الإشارة إلى أن اللغة السوريالية تقترب من اللغة الصوفية، لأن المنهج /المعرفي لكليهما واحد، ولعل السوريالية تقول في مسألة اللاشعور وعلاقته بالشاعر "إن روح الشاعر في ماهيتها اختلاطً دون ترتيب، تعصف فيه المشاعر والعواصف والأشواق، والرغبات التي تتجلى في الضوضاء والتشويش والمجانية، ترجمانها الكلام أو الكتابة بقالب منطقي عريق في القدم يجب أن يُحطّم ويعاد إلى عناصره البسيطة المكوّنة من الألفاظ التي تستطيع وحدها، أن تعبّر بأمانة، عن الرعشة الشعرية في كمالها"(1).
إن المدرسة السوريالية في نشأتها تقترن بالعذاب والمعذبين، لأن معتنقيها قد شعروا في فترة ما بين الحربين أن الإنسان فاقدٌ لقيمته، لهذا فقد جاء الحلم (العالم المثالي) من أبرز معطيات السوريالية باعتمادها على اللاشعور، وبالتالي اعتمادها على نظريات (فرويد) في هذا الخصوص، ومن هنا يلعب الحلم وظيفة نفسية هامة فهو "كما تفحّصه العلماء باختبارات متعددة، قد وجد ليكون ضرورة كاملة للإنسان، إنه يحافظ على حياتنا النفسية حية في جو مميز، ولا يؤدي بالحياة إلى الانحراف ولا يتعرّضُ لضغوط المجتمع"(2).
__________
(1) نادو، موريس، 1992 تاريخ السوريالية تر: نتيجة حلاق وزارة الثقافة، دمشق، ص19
(2) نن، أناييس 1983- رواية المستقبل تر: محمود منقذ الهاشمي وزارة الثقافة، دمشق ص10-11(1/166)
وهذا لا يعني مطلقاً أن السوريالية- حينما تطرح أشخاصاً على درجة كبيرة من العذاب ذات منحى مغرق في الذاتية بارتكازها على اللاشعور الفردي، بل إنها ترفض "رفضاً مطلقاً أن تسجن نفسها داخل حدود الذاتية، ذلك أن مبدأها ذاته يفرض عليها أن تبحث عن التأليف الفاعل بين الذاتي والموضوعي، فليست مثالية ولا فكرية، وإن ارتبطت بالإخفائية فلا يمكنها في الوقت نفسه أن تتجاهل وزن المادة والحياة الاجتماعية ويقوم دورها الأساسي على العكس، على مقابلتها فعلياً والبحث عن السبل التي تتواصل بها الذاتية المفرطة بالموضوعية الأكثر إغراقاً في المحسوس"(1).
مما سبق سوف نعتمد في دراستنا للشعر الحديث في سوريا ولبنان (انطلاقاً من الظاهرة المدروسة)- على الحالة النفسية أيضاً للشاعر عبر تجلّيها في لغة النص، وفي السياق الاجتماعي للشاعر.
لقد تجاوزت دراسات علم النفس النظرة التي تقول: إن الفنان شخص عصابي، وأصبحت تلك النظرة حالةً سابقة لأخرى لاحقة تقوم بدراسة العمل الفني من جوانب أخرى، ففيما مضى/ صرّح غوته أن الفن ينبع من المرض، وأنه نوع من الاحتجام، وحوّل (شوبنهاور) هذا الرأي إلى النص على آلام الفنان، وأضاف إليه نيتشه تعديلاً يقول إن الفن ليس /فحسب نتاج المرض، ولكنه تسجيل له، وإن كلّ فلسفة اعتراف أو "نوع لا إرادي لا واع من الترجمة الذاتية". أما (ماكس نورداو) فقد أشاع المبدأ القائل بأن العبقرية نوع من المرض العصبي في كتابه (الانحطاط) degenration وحديثاً أكثر (توماس مان) من القول بأن الفن ينتج من المرض والاضطراب العصبي، مثلما تنتج اللؤلؤة من الصدفة"(2).
1-النموذج المغترب:
__________
(1) كاروج، ميشيل، 1973- أندريه بروتون والمعطيات الأساسية للحركة السوريالية، تر: اليأس بديوي وزارة الثقافة، دمشق، ص229-230
(2) هايمن، ستانلي، 1958- النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ج 1- تر: د. إحسان عياش، محمد يوسف نجم، دار الثقافة بيروت، ص207(1/167)
"الاغتراب أشد العواطف عمقاً في الشعر، وما زال الإحساس الأولي بالاغتراب مبثوثاً، بهذا الشكل أو ذاك، في شعرنا الحديث والمعاصر، وبالتالي فإن الثنائية الضدية: الاغتراب- الألفة، خلقت وتراً شعرياً عميق النبرة والنغم"(1)، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الاغتراب يُبرز الجانب القيمي على اختلاف أنواعه (الاغتراب الاجتماعي، والاغتراب الروحي، والاغتراب المكاني الخ..) ويمكن لنا أن نقف عند سمات (المغترب المعذب) وأشكال اغترابه في قصيدة الحداثة وفق ما يلي:
أ-الاغتراب عن المدينة:
إن "من أولى السمات التي أكّدها الشعراء بالنسبة إلى المدينة، ولعلها الأهم سمة التدمير التي تمارسها على قاطنيها وعلى الوافدين إليها"(2)، ذلك أن نظرتهم إلى المدينة تأخذ طابعاً سلبياً في كثير من الأوقات، إذ تذوب إنسانية المرء وتتلاشى في خضم العلاقات الاجتماعية السلبية.
لقد ارتبطت غربة (محمد الماغوط) عن المدينة بالحزن، بل إن الحزن سمة رئيسة في قصائد الشاعر، حيث راح (الماغوط) يبحث عن عالم أكثر اطمئناناً واستقراراً من جواء المدينة، يقول في قصيدة (رسالة إلى القرية)(3):
في المساء يا أبي
مساءِ دمشق البارد والموحش كأعماق المحيطات
حيث هذا يبحث عن حانة
وذاك عن مأوى
أبحث أنا عن (كلمة)
عن حرف أضعُهُ إزاء حرف
مثل قط عجوز
يثب من جدار إلى جدار في قرية مهدّمة
ويموء بحثاً عن قطّته
ولكنْ.. أوتظنني سعيداً يا أبي؟
أبداً
لقد حاولتُ مراراً وتكراراً
أن أنفض هذا القلم من الحبر
كما يُنفَض الخنجر من الدم
وأرحل عن هذه المدينة
ولو على صهوة جدار
ولكنني فشلت
__________
(1) عبود، حنا، القصيدة والجسد ص70
(2) عساف، عبد الله، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، ص103
(3) الماغوط، محمد، 1973- /الأعمال الكاملة/ دار العودة- بيروت ص305-306(1/168)
إن المكان المتمثّل بالمدينة مصدر للوحشة وللبرودة، حيث الوحشة والبرودة عنصران سلبيان اقترنا بذلك المكان، بل هما عنصران نفسيان معنويان أكثر منهما عنصرين ملموسين (يمكن إدراكهما بالحواس) وهما ناتجان عن بناء غير متوازن في المحيط، لذا فإن الاغتراب هو النتيجة التي آل إليها (الماغوط) بعد أن فقد ثقته بإعادة تكوين ما تهدّم في الواقع (المدينة)، ومن ثم راح الشاعر يعرض في النص لأفعال تنم على أنه يفتقد عالماً آخر غير عالمه الحالي (أبحث أنا عن كلمة، عن حرف أضعه إزاء حرف)، غير أن هذا البحث في ذاته مشوّه، ويوطّد العزلة داخل المدينة وعن المدينة، فهو يبحث عن مراده (مثل قط عجوز، يثب من جدار إلى جدار في قرية مهدمة).
ولعل المرء يدرك مقدار الصعوبة في عملية البحث، لأن الماغوط قد وضع أمامه حواجز مريرة وصعبة في تحرّكه عبر تشبيهه لذاته بـ (قط عجوز) وعبر (تهديم القرية)، مما يُضعف الأمل بالوصول إلى حالة مشرقة ومنفتحة على الواقع أيضاً.
ارتبطت عزلة الماغوط واغترابه في النص بالحزن، من خلال حواره مع شخصية أخرى، أرادها هنا أن تكون والده، الذي يشكل متكأً تتواصل عبره معطيات الحالة ومفتاحاً للنص، فتساءل الشاعر (أوتظنني سعيداً يا أبي؟) ويأتي الجواب بالنفي القاطع (أبداً).
ويعاود الشاعر الحديث عن محاولاته المتكررة للخروج من ضيق المدينة وسطوتها عليه، والتحرر من العوائق الكثيرة المضنية، (لقد حاولتُ مراراً وتكراراً، أن أنفضَ هذا القلم من الحبر، كما يْنفض الخنجر من الدم، وأرحل عن هذه المدينة)، بيد أن العجز تجذّر مع تراكم الزمن وتراكم الإحباطات، وامتزج شعوره بالعجز وبالسخرية المُرة.(1/169)
لقد أراد (الماغوط) أن يرحل ولو (على صهوة الجدار)، إلا أن المدينة مكان مهدّم ومدمر، استسلم الشاعر لمعطياته ولتكوينه، فأعلن انسحاقه في نهاية المطاف (ولكنني فشلت)، ويبدو أن هناك أيضاً موانع متأصلة في ذاته جعلته عاجزاً عن الرحيل أو حتى التفكير به، لأن (الرحيل) عن المدينة، هو أيضاً رحيل معنوي عن العلاقات السلبية والظروف الموضوعية وليس رحيلاً جسدياً حركياً، وما الوحشة والبرودة في مطلع النص إلا شعور خفي بتعطيل الإرادة عن فكرة الرحيل، التي لم تتكلل بالنجاح في نهاية النص.
إن السياق العام للنص يربط بين البرودة من جهة، وبين تعطيل الحركة والصراع والخروج من دائرة المدينة المليئة بالمفاسد من جهة أخرى، وهكذا فإن اغتراب (الماغوط) عن المدينة هو اغترابُ (معذّب)، لاقترانه بالسكونية، فالواقع قبيح غير أن الشاعر لا يستطيع تغيير هذا القبح، بل اكتفى بتصويره، ومن ثم أعلن فشله في النهاية، وكذلك كان شأن المدينة في معظم قصائد الماغوط(1) حيث يعبّر عن استيائه من المدينة بشكل عام، الأمر الذي تسبّب له بالعزلة والاغتراب.
أما الشاعر (علي كنعان) فإنه يصرّح بالسلبيات التي تجعله مغترباً عن المدينة، حيث يقول في قصيدة (دمعة للزنابق الميتة)(2):
لأنني أعيش في مجرى وحول هذه المدينة
لأنني أرضعُ في مستنقع السمّ
لدى أرخص ما فيها من البغايا
لأنني أنوسُ بين رغوةِ السطح
وأدران الحضيضْ
لأنني أقطع من جبيني
أريكة، ومن ضلوعي سُلّماً
ترقى عليه جوقة اللصوص والغلمان
والسماسره
__________
(1) من هذه القصائد قصيدة /سماء الحبر الجرداء/ يقول فيها:
لقد سئمتك يا بيروت
ياسرطاناً من الحرير
لا المرأة ولا الحرية
لا الشرف ولا المال
يزيل هذا اليأس من قلبي
دعيني أحتضر فوق الجبال
دعيني أرفرف كالنسر بين الأقدام
المجموعة الكاملة، ديوان /غرفة بملايين الجدران/ ص214-215
(2) كنعان، علي 1979- /ديوان أعراس للهنود الحمر/ ط1- دار المسيرة، بيروت ص54-55(1/170)
لأنني سبيكةٌ معاصرهْ
يختلط المجرم بالشهود بالخنجر بالقضاة
فيها، بدم الضحية
لأنني دمٌ مريض وقناع مستعارْ
أعرف كيف يصدأ اللؤلؤ في المحارْ
كيف يموت الطفل في جراب أمهِ
مختنقاً بالحمأ الناضح من أبيه
وكيف يجتاح السخام
هذه الزنابق البيضاءَ
في قلوبنا البيضاء
يتكلم الشاعر بلسان حال الزنبق أحد رموز الجمال والعطاء والنقاء، لأن هذا الرمز يواجه آفات المدينة بجميع معطياتها السلبية، إنه الخير في مواجهة الشرور والمفاسد، ولذا فإن رؤية الشاعر عبر هذا الرمز الذي تدنّسه المدينة مفعمة بالاغتراب عن سلبيات مجتمع المدينة، إذ لا مكان للنقاء في (مستنقع السم) وعند (البغايا) وعند (جوقة اللصوص).
ولعل (مستنقع السم، والبغايا، وجوقة اللصوص، والمجرمين، والقضاة، والقناع المستعار) هي العناصر التي تسم الواقع بالقبح، لأنها عناصر ذات أفعال سلبية، لهذا فإنّه من الضروري أن يغترب الشاعر عن ذلك القبح.
يبدأ النص (بوحول المدينة) وينتهي بصوت (الزنابق البيضاء)، والبدايةُ والنهاية تشكّلان عامل اغتراب قسري على حد سواء، فليستْ وحول المدينة -في الحقيقة- سوى العناصر التي وقفنا عندها سابقاً (مستنقع السم، البغايا، الخ..)، وليس موت الزنابق إلا نتيجة لتحرّك العناصر السابقة على أرض الواقع وقيامها بأفعال قبيحة، فاعترافُ (علي كنعان) على لسانِ الزنابق بأن المدينة بقعة من الوحل وأنها عامل من عوامل موت الطهارة (الزنابق) يشير بالضرورة إلى اغترابه عنها وإلى عذاباته الناتجة عن تلك الصورة التي يعيش مفرداتها في المدينة.(1/171)
إن تراكم الأخلاق المتردّية وتعاظمها في المجتمع، جعل المدينة عامل تدمير واغتراب للذات، التي ما زالت تحتفظ بالكثير من النقاء والبراءة والفطرية، حيث تعرَّضَ النقاء -من خلال النص- لانتهاكات قاسية في مجرى العلاقات التي تقوم على الخداع والنفاق، فـ (مستنقعُ السمّ، والبغايا، واللصوص، والمجرمين) عناصر تقف ضد توازن (الأنا)، بل إنها عامل من عوامل الموت المؤكد، الموت الذي سيأتي نتيجة للاغتراب الحاد (يموت الطفل في جراب أمه، يصدأ اللؤلؤ في المحار).
إن كل خيّر في مدينة (علي كنعان) هذه مغترب، إلا أنه ليس معذباً بالضرورة غير أن الاغتراب في النص يحمل بين جنباته العذاب، لأن الخيّر لم يستطع أن يتفادى وطأة الصورة القاتمة في المحيط، فهو لا يقدر على فعل شيء أمام تفشّي الظواهر المريضة الكثيرة التي يراها هنا وهناك، وهكذا انتهى الأمر إلى تأزم نفسي، تفاقم حتى انتهت إثره العوالم المضيئة والبريئة في آن (الطفل، الزنابق).
أما الشاعر (أنسي الحاج) فإن دائرة الغربة عن المدينة تتسع لديه لتشمل البلاد بأسرها، عبر حوارية بينه وبين تلك البلاد. ولكن هذه الغربة عن البلاد لم تتبلور حتى تدخل حيّز /المعذب/، على الرغم من أن الأجواء العامة لقصائد (أنسي الحاج)، توحي بالعذاب وتوحي بتبلور مفهوم /المعذب/ لديه، إذ إننا نرى في تلك الغربة حالةً من الثورة (بعض القصائد لديه)(1)،
__________
(1) يقول أنسي الحاج في قصيدة نشيد البلاد:
يا بلادي من الأعماق لا أناديك
لم أقرأ قصتك، وأتمناك رحماً
أفزّره
خائن!
يا بلادي، أتزوجك لأتقذّر
حظي معك منك، تجنين كيف لا أبالي بكِ،
تجنين حقيقة؟ رحنا إلى المحلات
فتنتكِ رصاصة
هيجتُكِ ولم تطلقي
ديوان، (لن) 1982- ط2 المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ص81(1/172)
وخاصة في ديوان (لن)، ونرى بين الفينة والأخرى بعض المقطوعات لشعراء آخرين عبّروا فيها عن غربتهم عن المدينة كعبد الكريم الناعم، وخالد محي الدين البرادعي، ومروان خاطر، الخ..
ب-الضياع والقلق:
تقترن الغربة في ظروف كثيرة بالضياع والتشتت، وهذا الضياع يكون عادةً حاملاً المفهوم، النفسي لهذه الكلمة، لأن خلل المحيط لا يدع مجالاً للاستقرار وللطمأنينة، ويعجز المرء أن يجد حلاً لما يجري، ويظهر بعد ذلك التوتر النفسي والقلق والخوف مجتمعة، إذ يشير القلق إلى حالةٍ من عدم الطمأنينة وعدم الثقة بالمستقبل والخوف من المجهول، حيث تُحرّض هذه العوامل على تعميق مسألة الضياع كظاهرة نفسية.
يكتظّ شعر الحداثة بهذه الظاهرة النفسية التي تفرضُ وجودها على (المعذب المغترب)، ولا بد من الإشارة إلى مسألة على قدر كبير من الأهمية في دراستنا لهذه الظاهرة، وهي الشعور الذي ينتاب شاعر الحداثة، بأن قيمة الإنسان العربي في الظروف التي رافقت الحرب العالمية الثانية والانتكاسات السياسية المتكرة وتمزق الإنسان جراء هذه المعطيات- قد تضاءلت، بل شعر بعضهم أنها تلاشت، ومن ثم انعكس هذا الأمر على (مفهوم المعذب) وتفاوتت درجاته من نص إلى آخر، ومن شاعر إلى آخر.
من أولئك الشعراء الذين عبّروا عن الضياع والقلق (أدونيس) "فمنذ (قصائد أولى) يضفي أدونيس قلقه الذاتي الداخلي على الأشياء القابعة (هناك)، أعني في الخارج الذي لا يعبأ كثيراً بأمورنا وعوائدنا. بل وفي وسعك الذهاب إلى أنه يوحّد قلقه الخاص -وهو قلق بشري كوني بقلق الموضوعات، الذي لا يعدو كونه وهماً شعرياً، إلى حد يمكننا معه أن نعدّ أدونيس شاعر القلق بلا منازع في تلك المرحلة"(1)
يقول في قصيدة (مرآة الطريق وتاريخ الغصون):(2)
-"من أين أتيت؟"
__________
(1) اليوسف، يوسف سامي، الشعر العربي المعاصر، ص128
(2) أدونيس، 1968- المسرح والمرايا ط1- منشورات، دار الآداب، لبنان، بيروت ص261-262(1/173)
-من أرض الموتى، من أجران الدمع أتيتْ
لم أسكن بيتْ..
وحينما نزلتُ في مقبرهْ
والشمسُ تلتفُّ على كاحلي
كالعشبةِ المسكرهْ
حملتُ للجوع قرابينهُ
"كان دمي أضحيّةً هاجرَتْ
إلى غدٍ آخر
كانت يدي مجمرهْ"
لم تكن (أرض الموتى) و(أجران الدمع) سوى الجذور التي تأسس عليها وخرج منها القلق، ومن ثم الضياع، ذلك أن تساؤل الافتتاحية (من أين أتيت؟) يوحي باحتمالات مكانية للقدوم، بيد أن هذه الاحتمالات لا تصبّ إلا في اتجاه واحد ممتلئ بمظاهر الإحباط وصور الموت، حيث تشكلتْ لدينا حين قرأنا (لم أسكن بيت) صورة الضياع والتيه كبداية لعذابات أخرى شديدة.
إن (البيت) عامل استقرار وطمأنينة ولا بد للقلق الناتج عن عدم الاستقرار من أن يجعلنا نتوقع لا شعورياً أو شعورياً أجواء أخرى مرعبة في النص، وقد تجسدتْ هذه الأجواء في (وحينما نزلتُ في مقبرة)، تعميقاً للضياع وللقلق الذي يسم نموذج /المعذب/ في المقطوعة.
يُسقط الشاعر الأجواء الأسطورية في النص -والتي تنمّ على تهدم وانكسار- على ساحة الواقع، إذ إن هذه الأجواء في ذاتها تبرز حالة من حالات الاغتراب الحاد أمام سلطة (الجوع) بالمفهوم النفسي العميق للكلمة، حيث يمهّد الشاعر لهذا (الجوع) بفترة من فترات الضياع أيضاً، حين تصبح (الشمس) مصدر قلق وتيه (كالعشبة المسكرة).
إن هذا التمهيد يُعزّز الجوع في (حملتُ للجوع قرابينه)، فـ (الجوع) في النص يفرض احتمالات عديدة ضمن السياق (الفراغ النفسي، والضياع، والقلق، والاغتراب، الخ..)، ثم يقوم تركيب (كان دمي أضحية هاجرت إلى غدّ آخر) بتأكيد تلك الاحتمالات بما فيها الضياع، ومن ثم الاغتراب حتى عن الزمن، الذي يُشكّل في النص أيضاً زمناً نفسياً (غدٍ آخر).(1/174)
ولعل المرء يدرك مدى الخيبة في تحقيق التوازن وإعادة الاستقرار في نهاية المقطوعة بدءاً من (حملت للجوع قرابينه)، ثم إن إطار الحدث الذي تجري فيه الأحداث والأفعال ذات الأجواء الأسطورية هو (المقبرة)، لذا فإن تلك الأحداث ستكون مشوّهة قلقة إن لم تكن ميتة.
ولعل (يوسف الخال) يعرض الضياع، والقلق بصورة أخرى مختلفة عن أدونيس وذلك في حيز (المعذب المغترب)، يقول يوسف الخال في قصيدة (أعمى)(1):
أعمى
أبحث عن أحدٍ يبصرني
عن شيء أحسَبُهُ عندي
هذا العالمُ أنثى
لعبتْ بالغيمةِ فاضطَجَعتْ
فيئاً في الربع الخالي
إن كلمة (أعمى) (مفتاح النص) تجمّع لشحنات نفسية بالغة الحدة، ذلك أن الظلام الذي يخيّم على الذات، بل (على الرؤيا المستقبلية بمجملها)، كان سبباً رئيساً في الضياع، فالعمى يترافق قطعاً بالتيه والتشتت النفسيين.
وجاء مظهر الاغتراب الأساسي في المقطوعة عن طريق (البحث) عن منافذ لإعادة النور، ولإعادة المسار الصحيح بعد حالة التشتت، وتزداد التناقضات والصراعات مرارة في (أبحث عن شيء أحسبه عندي)، حيث يتشكّل التخمين والقلق خلف هذا الضياع، لأن البحث من دون جدوى عملٌ عبثي مؤلم، لا سيما إذا كان ذلك البحث ذا هدف تنفيسي (تفريغي)، يؤمّن الاستقرار، وينفي صور الغربة بمختلف أشكالها.
__________
(1) الخال، يوسف 1979- الأعمال الكامنة/ قصائد في الأربعين/ ط2- دار العودة -بيروت ص243(1/175)
ويأتي المقطع الأخير مكثفاً أشكال الضياع والاغتراب، عبر سخرية مرة، إذ تبدو فيه مظاهر الاشمئزاز والشعور بالنهاية من خلال رؤيا أخرى للعالم المخيّب للآمال، والضائع حيث عمّم الشاعر ضياعه على كل الأشياء المحيطة حوله، فالأنثى أي (العالم) حسب رؤيا الشاعر تائهة بين (الاستقرار) المتمثل بالغيمة وبين (التيه) و(الموت) المتمثّلين بالربع الخالي، غير أن الاستقرار في (الربع الخالي) هو استقرار قهري مرعب يُعزّز فكرة الضياع والتأزم النفسي التي يعانيها نموذج /المعذب/ في النص.
إن (يوسف الخال) عندما أراد أن يشفق على هذا العالم الضائع عبر تشبيهه بالأنثى التي سقطت سقوطاً ذريعاً في عالم الضياع (الربع الخالي) بعد فترة من التيه أيضاً، فإنه أراد التركيزَ على حالته المشّتتة وتعميق حالة العمى التي تسيطر عليه في بداية المقطوعة، وعليه فإن سقوط الأنثى (العالم) هو سقوطه وضياعه أيضاً، وإن إشفاقه وتأسّفه على ما يحدث للعالم (الأنثى)، هو تأسّف على ذاته المعدّبة التي لا تستطيع أن تفعل شيئاً.
ولعل إلحاحنا على مسألة (الإشفاق والتأسف) ناتجٌ عن تشبيه العالم بالأنثى التي هي مصدرُ كل عطاء وخير، لذلك فإن أسفَ الشاعرِ على هذا العالم هو أسفٌ على الخير والعطاء والاستقرار لضياعهم أجمعين.
أما النص الأخير الذي سنتوقف عنده فهو للشاعر (شوقي بغدادي) من قصيدة /الرغبة في الرحيل/ يقول فيها(1):
ليس سوى حقيبة وحيدهْ
وليس إلا الرغبة الأكيدهْ
في رحلة بعيدة بعيدهْ
أذوب في المحطة الكبيرهْ
بلا رفيقْ
أطوي الطريقْ
في عربات البضائعْ
فوق جسور السفنْ
وفي ضجيج المدنْ
أحسُّ أنيّ ضائع
__________
(1) بغدادي، شوقي 1969- أشعار لا تُحَب، مطبعة الجمهورية، دمشق ص79(1/176)
نبدأ من حيث انتهى النص، حيث كان ضياع الشاعر هو الثمن الباهظ الذي دفعه للمدينة الحديثة وللحضارة المعاصرة بخصائصها وأسسها المنعكسة سلباً عليه، لما تُنْتِجُهُ من علاقات مادية صرفة على حساب إنسانية الإنسان، إضافة إلى العلاقات الاجتماعية الفاسدة.
إن (عربات البضائع)، وجسور السفن، وضجيج المدن) هي من منتجات العصر الحديث الحضارية التي وجدت بفضل التطورات العلمية الهائلة، وكانت سبباً رئيساً من أسباب ضياع الشاعر وقلقه، لأنها تقف حاجزاً منيعاً دون العلاقات الاجتماعية الحميمية، بيد أنها تُفسح المجال لعلاقات تفتقد المودة بين الناس على الرغم من أنها مفيدة على صعيد إنجاز الأعمال وتسهيل الحركة والإنتاج، ولكن الإنسان الذي يمتلك الكثير من الأحاسيس والمشاعر لا يملك إلا أن يرفض هذه المنتجات قهرياً، ومن ثم بدا ضياعه مقترناً بالعزلة المتسّعة شيئاً فشيئاً حتى عن الأصدقاء (بلا رفيق أطوي الطريق).
كانت محاولة الإسراع في الرحيل ضرورةً قصوى للشاعر، غير أنه لم يصرّح بالمكان الذي يود الرحيل إليه، لأنه من البدهي مكانٌ مناقض (في التكوين وفي العلاقات) للبيئة السائدة.
إن قول الشاعر (ليس سوى حقيبة وحيدة) لم يأت عبثاً، لأنه عندما حدّد عدد الحقائب بواحدة في رحلته الطويلة قد شاء أن يسرّع في عملية الانتقال إلى عالم مثالي بأقصر فترة ممكنة، وما قوله أيضاً (رحلة بعيدة بعيدة) وتأكيده على (بعيدة) مرتين، سوى تعميق لحالة الاغتراب من جهة، وهربٍ حاسم، من دون عودة إلى الواقع الموضوعي، كذلك فإن الذوبان في (أذوب في المحطة الكبيرة) يوطّد صورة الهرب والاختفاء عن (ضجيج المدن، وعربات البضائع، وجسور السفن) لأن هذه الأشياء أضحتْ مرعبة ومقلقة.(1/177)
وقلما نجد شاعراً في الحداثة لم يتحدث عن الضياع في قصائده، غير أن هذا الضياع شأنه شأن العذاب، يتفاوت في الوضوح والتبلور بين شاعر وآخر أيضاً، إلا أن البيئة هي العامل الرئيسي من عوامل الضياع باعتباره اغتراباً يبرز فيه الجانب القيمي.
ج-الأم والعودة إلى الطفولة:
إن عودة المغترب إلى مرابع الطفولة هو هرب من الواقع الأليم إلى واقع ماضٍ مفعم بالسعادة والبراءة، هرب إلى حضن الأم الدافئ، إلى أطفال الحي واللعب معهم، غير أن بعض من اغتربوا من الشعراء لا يعودون عودة حميدة إلى الطفولة، بل إن غربتهم نشأت معهم منذ تلك الفترة وتعمّقت مع مرور الزمن وتعاقب الأحداث.
تأخذ الغربة أشكالاً متعددة عند الشاعر مروان خاطر (الغربة عن المدينة، والغربة الذاتية، والغربة السياسية، يقول في قصيدة (أبحث عن أمي)(1)
أتعذّب يا أمي
أتوحّد يا أمي
أستحضرُ وجهك من زمن
تتبّدلُ فيه وجوه الأحباب الخلّصِ،
ترتدُّ الألوانْ
يتحلل أخضرّها للأصفر والأزرقْ
يتنامى الأحمرُ يملأ كل مكانْ
واللونُ الآخر يهربْ
مَنْ لا يهربْ قد يغرق
أستحضرُ وجهك يحميني
ويعيد إليّ براءة صوتٍ
جرحه الحرمان
إن (التوحّد) في (أتوحّد يا أمي) حالةٌ عكس التشتت، غير أن تلك الحالة مؤقتة، فالمسألة مجرد استحضار مؤقت للأم، التي تشكّلُ صورة من صور الاستقرار الرئيسة، والاستحضار هذا لا يتم إلا في وضع (التوحّد) أي استجماع عناصر الذات الضائعة والمغتربة.
ولعل الاستعانة بالأم على قدر كبير من الحيوية في مواجهة الواقع الذي يعيشه الشاعر، فهي لا تقع في دائرة الألوان المتبدّلة (الأصفر، الأزرق، الأحمر)، هذه الألوان التي تُمثّل حالات المخادعة والزيف وتبدّل الأقوال والأفعال بين الناس، بينما (الأخضر) هو اللون الوحيد المطلق للأم، إذ يرمز لكلّ ما هو خيّر ومعطاء.
__________
(1) خاطر، مروان، 1994- الأعمال الشعرية ط1- المطبعة العلمية، ص193(1/178)
أما (الأحمر) فهو اللون الأكثر سلطةً وقمعاً وزيفاً في المجتمع، إنه يتصاعد رويداً رويداً إلى الواجهة وكلما تصاعد خشيّ (الأخضر) منه أكثر فأكثر، ومن ثم يهرب ذاك (الأخضر) ويحدث الاغتراب، حيث (الأخضرُ) منسحُقُ، ويبدو أن (الشاعر) يطلب من ذاك (الأخضر) الهربَ من وجه (الأحمر) رمز الزيف والمخادعة، لأنه لن يسلم (من لا يهرب قد يغرقْ)، وهو بالضرورة لم يسلمْ، بل هو مغترب لا محالة.
إن استحضار وجه الأم كمصدر للحماية، لا ينفي سمة العذاب والاغتراب من النص مطلقاً، أو عن الشاعر، باعتبار أن وجه الأم يشكّل فسحة أمل، ولكن ذلك الاستحضار -يوحي ضمن السياق- بأنه هربٌ مؤقتٌ كما أشرنا، لأن العلة والمخادعة والرياء أشياء وعناصر انعكست سلباً في نفسية (مروان خاطر)، لهذا فإن ذلك الانعكاس لا يتيح المجال لأي فعلٍ من شأنه أن يغيّر الواقع، لذا فإن تلك الأشياء والعناصر ستبقى تنتج تأزماً نفسياً عبر زمن طويل، على الرغم من أن (وجه الأم) ذو هدف تنفيسي، لكنْ لبعض الوقت.
أما الشاعر (علي الجندي) فإنه يتعرض لمرحلة الطفولة بكثير من الأسى من خلال قصيدة (قطري بن الفجاءة) المُسقطة على ساحة الواقع، إذ لا تخلو من العذابات المختلفة من قلق وضياع مستذكراً أطفال الحي وكيف كانوا يلعبون،(1):
وخُيّل للحالمين الصغار بأن الزقاقَ نهايةَ دنيا
وأن الحجارة والعشبَ جنّةُ حبٍّ ونجوى
ومنْ نبع هذا السكون المزقزق ياما شربْنا،
وذاكَ الطريقُ المؤدي إلى الليلِ كان الصراطُ
وكنّا نخاف عبوره
وكانَتْ تراءى على جانبيه طيوفْ، وأشباحُ موتى
تواروا خلال الظهيرهْ
أليستْ طريق المقابرِ درباً مهيباً يُشَرّع للعابرين
قبورَهْ؟
وأمضي أُنَقّلُ خطوي برفق خلال المدينهْ
إذا لاح طفلٌ يحدّق فيّ، يخيّل لي أنّ
أمسي يلوح بعينيه، أحزنُ، يوقظُ
آلامَ عمري الدفينهْ
__________
(1) الجندي، علي، 1969- الحمّى الترابية المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت ص16-15(1/179)
ينقسم النص إلى مستويين أساسيين، مستوى الحلم، ومستوى الحقيقة (الارتباط بالواقع مباشرة).
أما مستوى الحلم فيبدأ مع بداية النص وحتى تركيب (أليست طريق المقابر درباً مهيباً)، حيث يُشبع هذا الحلم بمظاهر الحميمية في مرحلة سابقة، هي مرحلة الطفولة، وبالأفعال القائمة على الفطرية، وعلى عدم الاكتراث بما يجري من أحداث على أرض الواقع، ومن ثم فإنّ تفكير الشاعر بتلك المرحلة، ولا سيما الأفعال والأحداث التي جرت فيها، والحنين إليها، إنما يقترب من حالة نفسية أشْبَهِ ما تكون بـ (النكوص) الذي يدل في التحليل النفسي "على عدد من الظواهر النفسية تتميز جميعها بتقهقر النشاط النفسي إلى مرحلة سابقة، من مراحل تطور اللبيدو، وهذا (الرجوع إلى الوراء) قد ينحصر في العودة إلى موضوع الإشباع الذي تتميز به مرحلة سابقة أو الرجوع إلى حال مبكر من أحوال الأنا"(1).
ولعل تركيز الشاعر على مفردات موجودة في الماضي ومقارنتها بالحاضر (الواقع) (الحجارة، العشب، النبع، الزقاق)، يُبرز حالة الاغتراب لديه بشكل كبير، فهو في معرض حلمه لا يلبث أن يصحو على الحقيقة المرة عبر تساؤل (أليست طريق المقابر درباً مهيباً يشرّع للعابرين قبوره)، حيث لا يمكن طرح تساؤل كهذا إلا إذا كانت الذات على شفا حفرة من الموت ومن النهاية أمام وطأة التشتت والغربة.
__________
(1) فرويد، سيجموند، 1970- الموجز في التحليل النفسي تر: سامي محمود علي، عبد السلام القفاش، راجعه مصطفى زيور -دار المعارف في مصر ص114(1/180)
أما المستوى الثاني فهو مستوى الحقيقة، أي مرحلة الصحو المرير من الحلم والتخبط بمعطيات الواقع، ويبدأ هذا المستوى من (وأمضي أنقّل خطوي برفق خلال المدينة) إلى آخر النص، ولكن الشاعر خلال تنقله في المدينة ومشاهدته لما يجري من تقلبات وأحداث، عاد بفكرة (الطفولة) إلى الواجهة، وألح عليها، فهو حينما يرى طفلاً يحدق فيه يتذكر الماضي، فتثور آلامه المكتسبة من الواقع (إذا لاح طفل يحدّق فيّ، يخيّل لي أن أمْسي يلوح بعينيه)، وعليه فإن (علي الجندي) ما دام يحنّ إلى عالم ماض أو عالم آخر، فإنه لا شك غريب عن عالمه الحالي.
ومن الشعراء الذين تحدثوا عن الطفولة كوسيلة لصد الاغتراب (عبد الكريم الناعم) و(علي كنعان) و(فايز خضور) الذي نلمح لديه مقطوعات صغيرة تبرز فيها الطفولة على أنها أساسُ الاغتراب، ومنطلقُه العميق عنده، حيث تبدو علاقة الشاعر حتى مع والدته غير سوية منذ سن مبكرة.(1)
د-الاغتراب الروحي:
يبدو أن الشاعر فايز خضور "تنتابه رؤى عابسة، تنخره، تذيقه عذابات نفسه فتصله بمشاهد ممّنْ حوله، ويبدو موقفه المعّقد حالةَ تعبٍ تصطبغ اصطباغاً عنيفاً بالقسوة والانسحاق، إنها حالة نفسية تتأتّى تلقائياً من التفكير من داخل، تجاه الأشياء والذات معاً، تكتنفها المرارة، ويعبق فيها صدى، ونار، وأحياناً تذرف دموع المطر"(2)
__________
(1) يقول فايز خضور:
لَعَنَتْني أمي من صِغَري
مَنْ غيري يهفو للعنهْ.؟!
ألأنّي كنتُ ألصّ البيضْ،
والقمحَ لأبتاع الحلوى؟!
أم أني من أعصاب البلوى
كُوّنْتْ لأرْفَضَ حتى الرفضْ!!
(درتا) /الديوان/ فايز خضور ط1-دار الأدهم، للطباعة والنشر ص5
(2) الخواجة، دريد يحيى 1981- ،الصفة والمسافة/ اتحاد الكتاب العرب، ص95(1/181)
في قصيدة (آداد) المطولة يعرض الشاعر لمجموعة من الاغترابات -السياسية، والاجتماعية، تُتوّج بالاغتراب الروحي العميق، ذلك أن تصاعُدَ الاغتراب وتفاقمه على الصعيدين الاجتماعي والسياسي يؤدي إلى الاغتراب الروحي، إذ نرى في(آداد) حلم الانبعاث من خلال استخدام هذه الشخصية الأسطورية، إلا أن هذا الحلم يتعرض لضغوطات وانتكاسات كثيرة.
إن أكثر المقاطع تعبيراً عن (الاغتراب الروحي) المقطع الحادي عشر من القصيدة الذي يقول فيه(1)
آداد
قَدَرُ النوارس أن تبيض فراخها بين السفائنْ
لا البحرُ يعرفها، ولا خَشَبُ الصواري
هي غربةٌ جعلتْكَ توغِلُ في غيابات المدائنْ:
كفّاكَ ترتجفان، من خوفٍ على الواحاتِ
يخطفها اليباسُ،
وتستبيح خراف ساكِنها المجاعةُ
واجتراءاتِ الضواري
آدادُ. لا تكثرْ من التحديقِ،
في السّحن الكئيبةِ
إنه زمن الرهائن
والجاهلون تشدقوا -بطراً-
بأنّ "العصر!"
جاوز منطقَ الأقنان والأسيادِ
يا تعبَ الجواري
لا البحرُ يدرك ما تعانيه النوارسُ
من عذابِ فراقِ أفراخٍ لها،
رحلتْ..........
ولا الجزُرُ القصيةُ نغّصَتْ خلجانَها،
صِبِغُ المرارةِ في البراري
تبرز في النص حالة الانفصام الكلي بين معطيات الحياة (النوارس) وبين مظاهر الواقع وعناصره (البحر، خشب الصواري، السفائن)، وتقوم رؤيا هذا الانفصام بشكلها الأوسع، على الاغتراب بين الشاعر وبين المجريات السلبية، حيث تفاقم هذا الاغتراب ليصبحَ حالة تسليم قهري لمشيئة أعلى (سلطوية).
__________
(1) خضور، فايز، الديوان، ص453(1/182)
فالنص يُخفي أو يتجاوز الحديث عن الاغتراب الاجتماعي، لينتقل بالحديث إلى اغتراب تسليمي يقترب من حافة النهاية، وهذا ما تبدى في النص من خلال (قدرُ النوارس أن تبيض فراخها بين السفائن)، فالقدر حالة قهرية، و(القدر) هنا أيضاً تتويج للاغترابات ولمسيرة مخاضٍ عنيفة من العراك مع الحياة، وهكذا ينشأ الاغتراب بشكله الروحي من انعدام العلاقة والتواصل بين (النوارس) و(البحر) و(خشب الصواري).
إن ذكر (النوارس، والبحر، والسفائن، وخشب الصواري) وإسقاطها على حالة الاغتراب المعاصرة للشاعر، تتماشى -كعناصر في الواقع- مع ذكر (آداد) إله الريح والحرب، لتصبحَ الجواءُ العامة واحدةً، لأن (آداد) في النص محاولة للتقريب بين معطيات الحياة المغتربة، وبين مسببات الاغتراب، بيد أن (آداد) مندهش من صور المعاصرة القائمة، لهذا فهو عاجز عن التحرّك، بل دخل حيز الاغتراب (هي غربة جعلتك توغل في غيابات المدائن) وغربته جعلته بالضرورة يهرب، إلا أن هَرَبه ليس بذي فائدة، لأن الاغتراب أصبح يغطي جميع الأشياء المعطاءة (كفّاك ترتجفان، من خوف على الواحات، يخطفها اليباس) و(تستبيح خراف ساكنها المجاعةُ، واجتراءات الضواري) فليست المجاعة والضواري وفتكّها بالأشياء، إلا صورة لاغتراب (النوارس) عن (البحر، السفن، خشب الصواري).
ولعل طلَبَ الشاعر من (آداد) إله الريح أن يتوّقف عن (التحديق في السّحن الكئيبة) هو طلبُ اليائس من الخلاص، لأن الزمن مقّيدٌ، فاقد لخواص الحياة والطمأنينة، ولا شك أن فعل (التحديق) الذي يقوم به الإله (آداد) ينبئ بـ المباغتة والمفاجأة التي وقع ذاك الإله وهو ينظر إلى الصورة القاتمة للإنسان المرهون الذي يحتاج فعلاً انبعاثياً هائلاً، كي يستعيد نضارة وجهه وولادته من جديد.(1/183)
إن هذا الإنسان المرهون يتوهّمُ كل يوم بأنه معافى عبر محركات ومحرضات تريد استلابه، وتجعله نائماً (والجاهلون تشّدقوا- بطراً- بأن العصر جاوز منطق الأقنان والأسياد).
تتوضّحُ في نهاية النص قضيةُ (المعاناة) سببُ الغربة، بل إن الشاعر يصرّح بها (لا البحر يدرك ما تعانيه النوارس)، إذ تبدو النوارس مرهونة حتماً بمستقبل مرعب ممتلئ بالعذابات، عذابات (فراق أفراخ لها)، غير أنها لا تستطيع رد هذا المستقبل فاستسلمت وانسحقت أمامه.
وهكذا كانت صورة الإنسان المعاصر في مجتمع (فايز خضور)، إنه معزول مُجبَرٌ على أن يتعاطى سموم الواقع ومفاسده، فاغترب روحياً، حيث يختلف (الاغتراب الروحي) في هذا النص عن (الاغتراب الوجودي) فالأول يحافظ على معنى الأشياء والعناصر الخارجية في ذات المعذب ولكنه -أي المعذب- يغترب عنها قسرياً، فالحياة ذات معنى رائع عند هذا المغترب، وكذلك (الطبيعة، والناس، والأشجار، والبحر الخ..) غير أن (المغترب الوجودي) يفقد معنى تلك الأشياء، ويتساءل في نفسه ما معنى كل هذا؟ وتبدو صورة (المغترب وجودياً) أكثر تطرفاً. إن صح التعبير- من صورة (المغترب روحياً).
إن (آداد) كإله أسطوري للريح، قد استخدم في النص، لأن الريح تقوم بفعل محرّك، وبمعنى آخر، إن الريح صورة نفسية من صور الاستقرار، عبر الفعل الثوري الذي تقوم به من خلال (إله الريح)، هذا الفعل الذي سيعيد المعنى إلى الحياة، ولكن (الفعل) في الحقيقة لم يتعدّ إطار الحلم حتى نهاية قصيدة (آداد)، حيث يقول الشاعر في نهاية القصيدة:(1)
آداد
موتي وبعثك،
وانبعاث الآخرين،
حصانةُ الوطن الوحيدة.!!
__________
(1) خضور، فايز، الديوان ص453(1/184)
إن الحاجة إلى فعل إلهي جبار في عملية الانبعاث، يعكس بالضرورة صورة العقم و(الاغتراب الروحي) الذي رأيناه في المقطوعة الحادية عشرة من هذه القصيدة، حيث بقي للأشياء معنى وحضور في ذات الشاعر، غير أنّ هناك إحساساً عميقاً بالغربة عنها، لذلك تراجع الحديث في المقطوعة التي وقفنا عندها عن المجتمع، بينما ظهر الإساس العميق بغربة روحية تجذّرت من خلال الاغترابات الأخرى.
ومن الشعراء الذين ظهرتْ لديهم تلك الغربة بشكل حاد أيضاً الشاعر (رياض صالح الحسين) الذي يقول في قصيدة (انفجارات)(1):
ذهبتُ إلى الأشجار وما وجدتُ أحداً،
إلى الينابيع وما وجدت أحداً،
إلى الحيوانات وما وجدت أحداً،
ذهبتُ إلى المطاراتِ
والشوارع
ومؤسسات الأيتام
فحسبوني شحاذاً ووضعوا في كفي النقود..
اليوم مساءً وكحصان مقطوع الرأس
عدتُ إلى الغرفةِ
الغرفة الصغيرة الضيقة
وبلطةٌ ضخمةٌ من الصراخ تنمو تحت أظافري
ينشأ (الاغتراب الروحي) في النص من أنّ (الذهاب) في ذاته إلى (الينابيع، والأشجار، والحيوانات، والشوارع، والمطارات) هو إصرار على المعنى الرائع للأشياء حول الشاعر، إصراراً يتخذ الصبغة الحميمية، غير أن تلك الحميمية لم تُنجز إطلاقاً، ذلك أنّ (لم أجد أحداً) المكررة مراراً هي جوهر تلك الغربة، كأساس للانفصال والفراغ، لأن كلمة (أحداً) الاحتمالية الإيحاء، تصبّ في معطيات جميلة ومشرقة، يوحي بها هذا (الأحد)، والبحث عنه هو بحثٌ عن صورة الإنسان ببراءتها، بل عن صورة الكائن الحي ذي المشاعر والأحاسيس والحركة وبحث عن الحياة بمعناها العميق، حيث (المغترب الوجودي) لا يجد معنى لتلك الحياة بمعناها العميق، ولا يجد معنى في الذهاب إلى الأشجار وإلى الينابيع، ولذا فهو اغتراب يختلف عن الاغتراب الموجود في النص.
__________
(1) الحسين، رياض صالح، 1982- بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس/ ط1- دار الجرمق للطباعة والنشر، دمشق ص67(1/185)
تترافق الغربةُ الروحية في المقطع السابق بشعور حاد بالخيبة، فهنالك فرقٌ شاسع بين رؤيا الشاعر وبين ما حدث ويحدثُ على أرض الواقع (فحسبوني شحاذاً ووضعوا في كفي النقود).
إن الفهم الخاطئ لهدف الشاعر ورؤياه وتطلعاته يعمّق هذه الغربة، لهذا من البدهي أن يعود إلى غرفته (كالحصان المقطوع الرأس) دليلاً على التشتت والعذاب، وبعد كل هذا العذاب لا بد أن تكون هناك رؤيا خاصة لغرفة الشاعر، حيث وصفها بأنها (غرفة صغيرة ضيقة) فضيقها جاء نتيجة للأشياء المرعبة التي حملها الشاعر من الخارج معه، وكذلك كان صغرها، فالضيق والصغر حالتان نفسيتان في النص ولا شك بذلك أبداً، فالتوازن مع الخارج لا يجعل من هذه الغرفة ضيقة، بل واسعة وواسعة جداً على الرغم من أنها قد تكون ضيقة حقيقة.
تنتهي المقطوعة بذروة الحالة (وبلطةٌ ضخمة من الصراخ تنمو تحت أظافري)، فلا شك أيضاً أن هذه الحالة المؤلمة هي تصاعد لحالة الضيق المعنوي للغرفة، ولحالة الإحباط التي أتى بها من الخارج، فكم هو مؤلم أن يقرن الصراخ بالبلطة (علامة الموت)، وأن يقرن كل ذلك بالأظافر، ومن ثم يأتي الألم الأكبر، وهو أن (بلطة الصراخ) آخذة بالنمو، أي أنّ الحالة النفسية تسير إلى أسوأ.
ولعل العودة إلى الغرفة، ونمو الصراخ، في جو كئيب صامت، حالةٌ من حالات العزلة المريرة بعد تعب مضن في البحث عن نقيض لهذه الحياة، وعن ولادة جديدة.
نكتفي هنا بالحديث عن نموذجين من نماذج (الاغتراب الروحي)، فهناك شعراء آخرون وقفوا عند هذا الجانب من الاغتراب، ولعل (محمد الماغوط) أحدهم، فهو يتمنى دائماً أن يتواصل مع الأشياء والعناصر حوله.
إن هناك حنيناً من هذا الشاعر إلى أن يصبح شيئاً من الأشياء في المحيط، في علاقة أشبْهِ ما تكون بعلاقة (الاتحاد) الموجودة عند المتصوفة، وذلك يعكس الهوة التي تفصله عن معنى تلك الأشياء والعناصر(1)
__________
(1) يقول محمد الماغوط في قصيدة (أغنية لباب توما)
أشتهي أن أكون صفصافة خضراء
قربَ الكنيسة
أو صليباً من الذهبِ على صدر عذراء
تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى
وفي عينيها الجميلتين
ترفرف حمامتان من بنفسج
أشتهي أن أقبل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمي
-/الأعمال الكاملة/ ديوان /حزن في ضوء القمر/ ص25-26(1/186)
لن نتحدث في هذه الآونة عن (الاغتراب الوجودي)، لأن هذا الاغتراب هو من مفردات (السوداوي العدمي) وينطوي تحت هذا التجلّي وهذه الصورة من صور العذاب في شعر الحداثة، بل إنه ملازم للعدمي، وهذا عائد لطبيعة (المغترب الوجودي)، الذي لا يرى معنى للأشياء وللعناصر وللوجود بشكل عام.
2-النموذج السوداوي العدمي:
لا نملك في مصطلح (السوداوي العدمي) في شعر الحداثة إلا أن نُقدّم (السوداوية) على (العدمية) لتشكيل هذا المصطلح، ذلك أنه لو قلنا (العدمي السوداوي)، لوقعْنا في لحن كبير، لأن (العدمي) هو (سوداوي) بالضرورة، فلا داعي لذكْرِ هذا المصطلح الأخير كاملاً، بل يكفي ذكْرُ (العدمي)، حتى ندرك السوداوية التي تنطوي تحته، وآثرْنا مفهوم (السوداوي العدمي)، لأن (السوداوي) ليس (عدمياً) بالضرورة، وكان اختيارُنا لهذا المفهوم منطلقاً من تلازم السوداوية والعدمية في شعر الحداثة في كثير من النصوص.
"يشكل الموت هاجساً أساسياً في ميدان الشعر، ومنذ أقدم العصور حتى اليوم ما يزال حاثة من أهم الحاثات الدافعة إلى الإبداع الفني، سواء ألفَ الإنسان الموت أو استوحشه، لقد حاول الإنسان استئناس الموت وتدجينه، وهو يشعر دائماً أنه جزء منه ينغل في كيانه، فهل هناك إحساس جسدي بالموت، كالإحساس الجنسي مثلاً؟ وما دورُه في عملية الإبداع الشعري؟
إن التمويه الذي قام به الإنسان تجاه نفسه لم يُبْعِدْ عنه شبح الموت ولا الخوف منه. ويمكن أن نجد بعض المتحمسين المتفانين يبذلون أنفسهم رخيصة في سبيل أمر نذروا له حياتهم. إلا أنهم ليسوا القاعدة العامة، إن الخوف من الموت داخلٌ في كيان الجسد البشري، وكيان كل الأحياء، باستثناء الكائنات الوحيدة الخلية(1).
__________
(1) عبود، حنا، القصيدة والجسد، ص183(1/187)
ولا شك أن هذا التفكير بالموت يرتبط بكثير من السوداوية والقلق، ثم إن البيئة والعصر من العوامل الهامة في تفاوت الشعور بالموت بين ارتفاع وانخفاض، فلكل عصر فلسفته حول القضايا والأحداث بما فيها القضايا الحضارية والكونية" والفلسفة المعاصرة، ككلّ فلسفة، عكستْ طبيعة العصر الذي وجدت فيه، وما دام العصرُ الراهن، هو عصرُ السيطرة المذهلة، فإن فلسفته هي تعبير عن أقصى حالة قلق، بلغها العقل البشري. وهي بحق، نتاج متميز في تاريخ الفكر. فالثورة العلمية الصناعية التكنولوجية، قد حطّمتْ طبيعة المجتمع القديم، وأحدثت انقلابا في معايير الحياة والفكر. وانتهت إلى نزاعات كونية كبرى، أحدثت ارتجاجاً عظيماً في العقل البشري، وولّدتْ داخل النفس دوياً، لا زال صداه يئن في الصدور(1).
لقد أشرنا في حديثنا عن تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية إلى أن السوداوية حالة متطورة عن التشاؤمية، حيث تتعمم لتشمل كلّ مناحي الحياة وجوانبها، وهي على صلة وثيقة بالعدمية، ذلك أن "القرف من الحياة أولى استجابات السوداوي. فهو لا يبالي بأي شيء، حتى ولا بألمه، كلّ صباح هو عذابٌ يتجدّد: فالفناء رغبته الكبرى. ومن البدهي أن يكون فقدانُ الإرادة كلياً، ومثله العجز، ولا شيء يبقى له غير لا مبالاة تفوق كل حد"(2).
__________
(1) منصور، محمد منير، الموت والمغامرة الروحية ص93.
(2) داكو، بيير، الانتصارات المذهلة لعلم النفس ج1- ص37(1/188)
وتتسع دائرة (السوداوية العدمية) في شعر الحداثة لتصبح صراعاً مع الوجود بأسره، ففي النهاية لا يصبح للوجود معنى، بل إن هناك طلباً ملّحاً للفناء، فـ "الموقف الأقرب إلى النموذج الوجودي هو ذلك الذي يرى في الموت حداً نهائياً"(1)، وعلينا أن لا نفهم أن الوجودية ذاتُ منحى تشاؤمي في طبيعتها الكلية، فقد تكون الوجودية حالة تأقلم للفيلسوف أو الشاعر أو الفنان الخ..، ويختلف ذلك المنحى بين الوجوديين المؤمنين وغير المؤمنين، ولا بد لنا من القول قبل أن نتحدث عن أشكال (السوداوي العدمي) في شعر الحداثة وسماته: أنه على ما يبدو، و"بالنسبة إلى شخصيات الرؤيا التشاؤمية كلها، فإن وهمَها هو ضعْفُها وهو أيضاً خطيئتها المأساوية المفترضة"(2).
أما أشكال (السوداوي العدمي) وسماته في شعر الحداثة فإنها على الشكل التالي:
أ-الموت الحضاري:
إن (الموت الحضاري) هو أحدُ أشكال الموت الرئيسة في شعر الحداثة، حيث تشير النصوص الشعرية التي تحدّثت في هذا المجال عن موت واقع بأكمله (موت أمة) تحتاج انبعاثاً جديداً، غير أن اليأس الذي أصاب بعض الشعراء لا سيما الانبعاثيين منهم، بأن هذا الواقع لن يكتب له الانبعاث، أوقعهم في حقيقة (الموت الحضاري)، بل إن (الانبعاث) كما تجلّى في قصائدهم، جاء مشوّهاً مؤلماً، (كقصيدة العازر لخليل حاوي)، وتداخلَ ذلك الشعور بالموت وبسوداوية المستقبل بصراعٍ وجودي حاد، انطلاقاً من أنّ مظاهر العذاب تتعمّمُ وتتسّعُ لتأخذ حيزاً مكانياً كبيراً، إضافة إلى حيزها الزمني الطويل.
__________
(1) ماكوري، جون، عالم المعرفة/ الوجودية/ عـ 58- ص363
(2) زيلسكي: جون فون 1982 المأساة والخوف تر: عارف حذيفة- وزارة الثقافة دمشق ص67(1/189)
إن تلك الصفات التي أشرنا إليها سابقاً متوافرة جميعها عند الشاعر (خليل حاوي) ففي "دواوينه الثلاثة، من "نهر الرماد" إلى "بيادر الجوع" نجده خائضاً غمرة هذا الصراع الوجودي بين مختلف الحتميات الكونية والحضارية وبين رغبة التحرر والخلاص من سيطرة هذه الحتميات على الإنسان، ونراه في غمرة هذا الصراع يُنشئ في ذاته، بوصفها جزءاً من الذات الكلية، أي الذات النوعية للإنسان، عالماً تعصف فيه ريح الرعب، وتُحْفَرُ في جوانبه الكهوف المعتمة، وتترّمدُ في صحاريه شعلُ الحياة وخصوبتها، فإذا الحياة كلها نهر من رماد الموت والعقم، أو ركام من عفن الجثث، جثث الأفكار والتقاليد والحضارات والآدميين"(1).
من القصائد التي تُصور الانبعاث المشوه الذي يؤدي إلى الموت والمنطوي على كثير من السوداوية والرؤيا القاتمة للمستقبل، قصيدة (بعد الجليد) للشاعر (خليل حاوي) يقول فيها(2):
وارتمينا جثثاً، لحماً حزيناً
ضمّ في حسرته لحماً قديدْ،
عبثاً نغتصب الشهوة حرّى
عبثاً نسكّبها خمراً وجمراً
من بقايا في الوريد
علّه يفرَخ من أنقاضنا نسل جديد
ينفضُ الموتَ، يغلّ الريح
يدوي نبضةْ حرّى
بصحراء الجليدْ:
"حبّنا أقوى من الموت العنيد"
غير أن الحب لم يُنبِتْ
من اللحم القديدْ
غير أجيالٍ من الموتى الحزانى
تتمطّى في فم الموت البليدْ
إن الموت هو الحالة النهائية والمنجزة على أرض الواقع في النص السابق، فالنص بدأ برؤية سوداوية وقاتمة للمحيط الممتلئ بالانتكاسات، ذلك أن النص يعرض لجيلين متعاقبين بينهما فترة حلم:
__________
(1) مروة، حسين، 1986- دراسات في ضوء المنهج الواقعي، ط3- مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ص118
(2) حاوي، خليل 1972 /الديوان /نهر الرماد/ دار العودة، بيروت لبنان ص92-93(1/190)
1-الجيل الأول، ... الذي ينبئ بحضارة وواقع ميتين، بل عن أمة ميتة، (وارتمينا جثثاً، لحماً حزيناً)، وهذا الجيل لا يستطيع أن يحرّك ساكناً، ثم إن كلّ أفعاله لا جدوى ولا طائل منها، لأنها ليست بذات قيمة تذكر، وينقصها عملٌ ثوري جوهري وجذري لإحياء مامات، (عبثاً نغتصب الشهوة حرّى، عبثاً نسكبها خمراً وجمراً في بقايا الوريد)، حيث يشير التركيبان السابقان إلى رؤية سوداوية للعمل المنجز، ويعكس الصورة النفسية عند (خليل حاوي) التي تقوم على تعطيل الإرادة عن الحركة وعن الفعل الثوري، (فالشهوة) منطلق للقيام بفعل جبّار حيوي، غير أن اقترانها بالعبثية يقتلها ويميتها.
إن تعطيل الإرادة تلك أدّى فيما بعد إلى إفناء الذات وذلك بانتحار (خليل حاوي)، إذ تلازم هذا التعطيل بصورة وثيقة مع اللاجدوى ومع الشعور بأن الأشياء والعناصر والحياة أمور ليس لها معنى، فجاء الانتحار، لأن فقدان الإنسان لمعنى وجوده هو أحد أسباب الانتحار الرئيسة في علم النفس، ووجود الشاعر كائن من وجود الأمة بكل معطياتها الحضارية، أما موتها فموته، موت للإنسان (بكرامته، وبمعطياته الحضارية، وبتفكيره).
2-فترة الحلم (المخاض) وتبدأ في النص من (علّة يفرخ من أنقاضنا نسل جديد)، فنسْلُ الحلم من المفروض أن يمتلك -في مخيلة الشاعر- مقومات إنقاذ الأمة (يدوّي نبضة حرّى) وذلك في وجه (الجليد) الذي يجسّد الموت والسكون بأبعاده المرعبة.
3-الجيل الثاني، ... وجاء التعبير عنه في نهاية المقطوعة، وهو جيل الانبعاث المشوّه، ومن ثمّ الميت (غير أجيال من الموتى الحزانى)، فهناك شعور عميق بأن الانبعاث لن يتمّ نتيجة لتعدّد أشكال الموت وتراكمها في المحيط.(1/191)
النصّ صورة مصغرة لحياة (خليل حاوي) التي تشير إلى أن الأجواء العامة لشخصيته تُفضي إلى العذاب على الرغم من وجود مسألة (الانبعاث) التي تعطي أملاً بالخلاص فانتحارُ (حاوي عام 1982 عَكَسَ صورة (الانبعاث) الحقيقية التي جاءت بالفعل في نهاية المقطوعة السابقة، إنها تلازم الانبعاث مع رفض الواقع ليس إلا، والنظر إلى هذا الواقع على أنه قبيح.
وهكذا صار مفهوم (الانبعاث) ذا معنى معاكس لمفهوم (القْبح)، إنه الجمال المنتظر، غير أن سياق حياة الشاعر يدل على فقدان (الجمال)، ومن ثم لم يعد هناك فائدة من الانتظار مع بروز صور أكثر سوداوية في الواقع ولا سيما الإحباطات السياسية والاجتماعية التي عاناها خليل حاوي حتى لحظة انتحاره المرعبة، وهكذا كان الانبعاث تمرّداً مؤقتاً ليس إلاً.
إن الأجواء الأسطورية للنص تنبئ بمحاولة رجوع حميمية إلى قوى أكثر انسجاماً وحيوية داخل الأحداث الأسطورية، تلك القوى التي تتمّثل عادة بآلهة الانبعاث التي تقف ضد السكونية والتحجر، وما دامت تلك القوى الجبارة منسجمة وتقوم بفعل ثوري، فهي الوحيدة القادرة على قلب الواقع وانبعاثه عبر إسقاط تلك الأجواء على البنية الاجتماعية السياسية المعاصرة، لهذا فإن حاجة الشاعر إلى فعل جبار في هذه المرحلة الزمنية لإنجاز عملية التغيير أدى به إلى الرجوع إلى الماضي، لأن الواقع ليس بإمكانه أن يُنتج ذلك الفعل، ومن هنا جاء العذاب والموت وجاء الشعور القاتم بأن المستقبل سيأتي مشوّهاً، وسيقوم ذلك المستقبل بإنجاب أجيال (معطيات) (تتمطى) في فم الموت البليد.(1/192)
ولعل "مغامرة الحاوي هذه التي جعلت التاريخ والمستقبل حضوراً مباشراً أمام الذات العارية، وكشفْت خلال التفجير الحيوي الرمزي للميثولوجيا مسافة القلق والشوق والضياع وسوداوية اليأس والضجر والمعاناة في أجواء التجربة الانبعاثية العربية، ثم غنتْ إيقاع الحنين والحلم لمعانقة القمر ولقاء شمس المستقبل السعيدة، إن هذه المغامرة بحد ذاتها رؤيا واستغراق حقيقي وصميمي وأصيل بالواقع الذي ينوس بين التحجر والحركة والانبثاق والتجسّد والتلاشي والنمو(1).
فإذا ما استخدم (خليل حاوي) الأسطورة في تجسيد انبعاثه الذي آل في نهاية المطاف إلى الموت والعدمية، فإن الشاعر (ممدوح عدوان) استخدم شخصيات بطولية من التاريخ العربي، كذلك استخدم صورة (السيد المسيح)، ولكن ليس بشكلها الانبعاثي الذي ينمّ على فعل جبّار يقوم على التحويل الجذري لقلب الواقع، يقول في قصيدة (وتمرّ المدينة برقاً) من ديوان (أقبل الزمن المستحيل):(2)
لا ماء في البحارْ
والنار في السفنْ
تمتد للمدنْ
وطارقٌ كالحلم طارْ
ولم تجئنا في غيابه المزُنْ
قلت: أمضي، وأترك خلفي الركام
قلتُ: أمضي، كفاني عناداً فلستُ المسيحْ
الدروبُ استفاقت سيوفاً تفضّ الزحام
قلت أمضي بعيداً، فلا أحدٌ يسمع الصوت حولي
ووحدي أصيحْ
ليس هذا زماني.. من الغيظ للغيظ وحدي أطوفْ
قلتُ: أمضي فلا أبتغي من حياتي بطوله
منذ مطلع النص تتلازم السوداوية والعدمية، فالشعور بأنّه (لا ماء في البحار) شعورٌ سوداوي من جهة، وشعور عدمي يوحي بالنهاية من جهة ثانية، وكذلك الأمر في (والنار في السفن تمتد للمدن)، حيث الصورة الكبرى وراء كل هذا هي صورة الانهدام الحضاري لأمة بأكملها، لذلك فمن الضروري أن تكون تلك الصورة حالة منصهرة مع (المعذب) كنموذج يطرحه النص.
__________
(1) ميخائيل، امطانيوس، دراسات في الشعر العربي الحديث ص39
(2) عدوان، ممدوح 1985 الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة -بيروت ص58(1/193)
تطرح المقطوعّة شخصيّة بطولية من شخصيات التاريخ العربي تتمثّل (بطارق بن زياد)، الذي يجسّد حالة انبعاثية لم تتكلل بالنجاح، لأن المجتمع الراهن لم يفرض ولم يطرح حالة تغيير جذري، حالةً مشابهة لصورة الأفعال التي قام بها ذلك الشخص، لهذا فمن البدهيّ غياب طارق (الفعل الثوري) مع الشعور بتفاقم الأزمة في المحيط (والنار تمتد للسفائن)، ومن ثم فإن (طارق كالحلم طار) تركيبٌ يمهّد لرؤيا سوداوية أيضاً، بل دخلتْ تلك الرؤيا حيز العدمية، لأن (الحلم) في ذاته لم يعد له وجود.
وعليه فإن الشاعر يلحّ ويطالب بتكرار نموذج (طارق)، غير أن ذلك الإلحاح خَبَا فطَرح بعد ذلك (ممدوح عدوان) نظرة لا تقلّ عدمية أو سوداوية عن الصور السابقة، وذلك عبر تركيب (ولم تجئنا في غيابه المزن)، ذلك أن (المزن) هي صور مشرقة وصورة لمعطيات حضارية، إنها إعادة لتكوين ما تهدّم وما جفّ في الأمة من أفكار، وهي بعد ذلك تبعث على الأمل بولادة وضع جديد، غير أنّ كل هذا لن يتشكل ولن يحدث، ولن ينبعث بعد كل الذي تهدَّم- مستقبل عربي.(1/194)
بناءً على كل المعطيات التي رآها الشاعر، لا بد له أن ينسحق، وتتعطل إرادتهُ، وينسحب من الواقع (قلتُ: أمضي، وأترك خلفي الركام)، حيث (الركام) ليس إلا الجمود والموت الأكيد، أما الشخصية الثانية التي يطرحها النص فهي شخصية /السيد المسيح/، الذي يرمز إلى العذاب وإلى الألم في سبيل إنقاذ مجتمع تسوده الأفكار والقيم الفاسدة، فالشاعر يعقد مقارنة بين حالته وحالة السيد المسيح بوصفه مخلّصاً، ثم يستنتج بعد ذلك أنه معطّل الإرادة والحركة بخلاف (المسيح)، (كفاني عناداً فلست المسيح)، لهذا فإن (المسيح) في النص لم يُسقط كرمز على أرض الواقع كشكلٍ من أشكال الانبعاث، بل ما زال متوضّعاً في التاريخ وفي زمن معين، ومن هنا جاء التسليم المرُّ الذي قام به (عدوان)، التسليم الذي يقترن بـ (الهرب، الموت، التمرد)، بيد أن التمرد هنا لم يأت في صورته الإيجابية، بل في صورته السلبية التي يتصف بها /المعذب/ عادة.
يقوم الشاعر بتكرار الفعل (أمضي) ثلاث مرات، حيث يوحي هذا الفعل باليأس وخيبة الأمل من الواقع على مختلف الصعد (الاجتماعية، والسياسية، الخ..)، وينبئ بمسير باتجاه العزلة، لأن المسير الحالي يبدأ من (الغيظ) وينتهي (بالغيظ)، (من الغيظ للغيظ وحدي أطوف)، حيث المشاهد لا تُرضي ولا تسر، كذلك فإن هذا المسير والمُضي حسب سياق النص- ليس إلى عالم مثالي زهي كما يفعل الرومانتيكي بل خوفاً من المشاهد السابقة (صور المجتمع).(1/195)
لقد حجب الشاعر عن ذاته التفكير بفعل بطولي في مسيرة حياته، لأن حلم البطولة منذ رحيل (طارق) تلاشى، (أمضي فلا أبتغي من حياتي بطولة)، لا شك أن الأجواء العامة لنص (ممدوح عدوان) تختلف عن الأجواء التي طرحها (خليل حاوي) في النص الذي توقفنا عنده سابقاً على الرغم من عالم العذاب الواحد في النصين، فالأجواء التي طرحها حاوي أقرب إلى البناء الأسطوري، ولعل عذاب حاوي أكثر إيغالاً في السوداوية والشعور بالعدمية من (ممدوح عدوان) حيث يترافق عذاب حاوي بصراع وجودي مرعب، قلما نجده عند (عدوان) الذي يكتفي بحزنه الشديد على تراجع الحضارة للأمة العربية وانهدام ذاتها، كذلك فإن خليل حاوي يعرض للموت بأشكال متنوعة لا نجدها عند (عدوان)، وسنعرض لهذه الأشكال لاحقاً، وإن شعور حاوي بموت الأمة هو شعور بموت وجوده، بل بموت الوجود الإنساني كله في الحضارة، غير أن نص (ممدوح عدوان)، لا يطرح هذه المشكلة المرعبة.(1/196)
وأما الشاعر علي الجندي فـ "يشتهي الموت كخلاص من الواقع الهامد الخانق القفر، ولكنه يخشاه، لأنه نهاية لا بداية بعدها، تماماً نفس الموقف العدمي الذي يتبناه طرفة، كلاهما ينغمس في الخمرة والجنس، وكلاهما لا يثق بالخلود- إن الحياة سجن بالنسبة لعلي الجندي- وعليه أن يتحرر ولا سبيل للنصر على أمراض الواقع عن طريق الجماعة، ولذلك يلجأ إلى الموت، وهذا أقصى وأقسى أنواع الاحتجاج على الواقع، ورفض هذا الواقع، طلباً لحياة أخرى أجمل وأنظف وأمتع. رغم قناعة الشاعر بعدم وجودها(1)، إذ تعرّض (الجندي) أيضاً لانتكاسات وخيبات أمل من الوضع السياسي الاجتماعي، كما تعرض لذلك من قبل (خليل حاوي) و(ممدوح عدوان) و(أدونيس) فقد "صحا علي فجأة على السقطة المروعة التي تلّقاها جيله في حرب حزيران 1967، وانهارت أحلامه السياسية، وأحسّ بالخراب، والتداعي يحاصرانه من الجهات كلها، وشعرَ بالوحدة القاتلة المدمرة، تجاه ذلك كله حاول أن يجعل من الشعر عالماً موازياً للواقع. ومعوّضاً وبديلاً عن العالم المعطى ولكنّ شبح الموت انتشر في القصيدة، وصبغها باللهجة الحزينة التي تقطر فجيعة وذعراً"(2) وتتحوّل قصائده في معظمها إلى صور للموت(3) والشعور بالعدمية والسوداوية في آن.
__________
(1) خنسة، وفيق، دراسات في الشعر السوري الحديث ص90-91
(2) المرجع السابق ص87
(3) يقول علي الجندي في قصيدة /الكوابيس/:
هذي نوارس أيامنا الزائلة
تراوح فوق الصخور العتيقة
تنعق، تنقضّ
تهجر أوكارها الزبدية
ترحل صوب المحيطات تاركة خلفها وحشة آهلة
1978- ديوان /النزف تحت الجلد/ اتحاد الكتاب العرب/ دمشق ص66(1/197)
ويختلف أدونيس عن الشعراء السابقين في معالجة قضية الموت عامة، حيث يتشكّل لديه الموت الفلسفي الذي سنقف عنده في حديثنا عن البناء الفلسفي، فأدونيس يشكو من "أن الموت ينقصه ليضيف إلى لغته كلمات جديدة، بيد أن الموت يتمدد مع إخطبوط الجنس في لحظة قاتلة، ربما ليزحزح جدار الوهم الجنسي ويحطم خرافته الجمالية، وتتعانق فلسفة الاتحاد اللحمي مع فلسفة الموت ليذرف الشاعر الإنسان من خلالها عبراته وينشر يأسه وحزنه العميق(1)، وهكذا فإن مفهوم العذاب، عبر قضية الموت، يختلف من ظرف إلى آخر، ويتفاوت من شاعر إلى آخر، بحسب الظروف النفسية والبيئية للشاعر.
ب-الموت والعلاقة مع الأشياء والأماكن:
لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ (السوداوية) تتسع عند الشاعر مكانياً لتصيب كلّ نواحي الحياة وعناصرها، فإذا ما ترافقت تلك السوداوية بشعور بالعدمية فإن هذا يعني بالضرورة أن مظاهر الموت تتسع أيضاً، وتكبر دائرتها، حتى تصيب مساحات كبرى من الخارج انطلاقاً من الذات التي تحسّ بوطأة الموت أيضاً.
لقد عاش (محمد عمران) صراعاً حاداً بين الحياة والموت يمتد على مجمل دواوينه الشعرية، ونراه في هذا الصراع يميل إلى استخدام عناصر الطبيعة عبر اتحاد صوفي، وكثيراً ما تجتاح (عمران) رؤى سوداوية تنذر بتهدم الإنسان وموته، وذلك أمام ما يجري من أحداث مرعبة في المنظومة الاجتماعية.
إن قصيدة (الطين) المطوّلة تطرح الكثير من المشاكل المعاصرة التي تضرب عمق الإنسان من الداخل، بحيث يقف هذا الإنسان حائراً وعاجزاً أمام النظام الذي تسير وفقه الحياة الراهنة بانجازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكلّ ذلك معروض بلغة رمزية وعبر (قصيدة النثر) التي تحاول إثبات وجودها،
__________
(1) ميخائيل، امطانيوس، دراسات في الشعر العربي الحديث ص231(1/198)
لقد شعر (محمد عمران) خلال قصيدة (الطين) أن ثقة الإنسان بعصره، هذه الثقة المتزعزعة رويداً رويداً، أحالته على التفكير بنهاية مخيفة تنطوي على إحساس مؤلم بالعدمية وبالموت، بل إن الموت صورة حقيقية ومتوافرة بكثرة في هذا القرن، بدءاً من تهدم الإنسانية وموتها بصورته القصوى عبر الحربين العالميتين الأولى والثانية، أضف إلى ذلك تعثر الفرد العربي مراراً وتكراراً.
لقد ظهر الموت في قصيدة (الطين) ليس في الفرد فقط بل وصل أيضاً إلى جزئيات وعناصر كثيرة في المحيط الخارجي، عناصر تشكل بالنسبة إلى محمد عمران الملجأ الأخير للفطرية وللبراءة المفقودتين (عناصر الطبيعة)، ولعلها - أي تلك العناصر- الملجأ الوحيد للإنسان الهارب من العصر، فإذا ما أصابها الموت أيضاً، فإن الخلاص سيصبح معضلة وينشأ العذاب، يقول محمد عمران في (الطين):
دمٌ على الأشجار
أين تهدل الحمائم..؟
دم على الزهر
أين يجني عسله النحلُ؟
دم على الأعشاب
أين ترعى الماشية؟
دم في الحدائق
أين يلعب الأطفال؟
دم على أعتاب الجسد ونوافذه
على سريره ومائدته
أين يأوي الحب الراجع من الحقول؟
أين تتناول خبزّها القصائدُ
لعلّ كلمة (الدم) في النص أتت مطابقة في المعنى لكلمة (الموت) وهذا يشير حتماً إلى أن الدم في النص صورة مطابقة للموت، ولا ريب في أن هذه الصورة تمتد على أرجاء المقطوعة متسعة لتشمل كل الأماكن المحيطة بذات الشاعر، فالمكانُ الذي لا يستطيع أن يهدل فيه الحمام، والمكانُ الذي لا يستطيع أن يقربه النحل، والمرتعُ الذي لا تستطيع الماشية أن ترعى منه، والحديقة التي ليس بوسع الأطفال أن يلعبوا فيها الخ.. إنما هو مكان لا جدوى ولا فائدة منه، ذلك أن الموت سيطر عليه ليقصيه عن عمله.(1/199)
وما دام هناك شعورٌ بأن الموت ينبسط على كل شيء، فهذا شعورٌ لا يمكن إلا أن يكون سوداوياً، لأن ما جرى في الواقع قد انفجر بسلبياته، وهو قابل للانفجار أكثر فأكثر، وقد أصابت شظايا الانفجار حيزاً مكانياً واسعاً، وصار الموت حالة معمّمة.
إن الحمائم، والزهر، والعشب، والماشية، والأطفال، ونوافذ الجسد الخ، هي أشياء وعناصر لها دورها الفعال في تكوين الحياة، وهي نماذج حيوية على ساحة الواقع تخدم مسيرة الحياة والإنسان والكائنات الحية، غير أن هذه العناصر بفطريتها اصطبغت قهرياً بالدم (الموت) الناتج عن صراع سلبي.
وكان انتشار (الدم) في النص وسيطرته على تلك العناصر الحيوية، قد أشار إلى مدى الحصار الذي فرضه الموت الذي انتقل واتسع مداه إلى أجزاء أخرى من العالم المحيط حتى أصاب ذات الشاعر، حيث هذه الأجزاء مهدّدة في أمنها واستقرارها، وانطلق ذلك الشعور بالموت من الذات بالتأكيد، لأن الذات الشاعرة على وشك الانهيار، فإحساسها هذا يُكسب المحيط الصورة ذاتها للذات.
من جهة ثانية يشهد النص -عبر نظرة عميقة إلى السياق- صراعاً بين (الحياة) (العناصر والأشياء المذكورة سابقاً) وبين (الموت) الذي يمثله الدم، ولا يلبث هذا الصراع أن يميل لصالح الموت، حيث يشير اسم الاستفهام (أين) دائماً في النص إلى نقطة الانعطاف في هذا الصراع لصالح الموت، وهذه العناصرُ التي أصابها الموت تنطوي في مخيّلة الشاعر على اغتراب شديد -فـ (أين) التي تفيد الاستفسار عن (المكان)، تطرح عالماً مثالياً (مكاناً مثالياً) يمكن أن تلجأ إليه العناصر والأشياء بعد أن داهمها الموت، والجوابُ على هذه الاستفسارات يدركه الشاعر جيداً، وهو معروف من سياق النص، إذ لا مجال للبحث عن مكان آمن مادامت الأماكن جميعها ملطخة بالدم الذي يوحي بأشكال متعددة للموت وبسوداوية عالية، وهكذا فالتساؤل هذا في بحثه عن عالم مثالي يرمي إلى عملية التوازن النفسي عند الشاعر.(1/200)
يكمن العذاب في النص في أن تلك العناصر مجتمعة ذات معنى عميق جداً، ومن ثم جاء الاغتراب عنها، وهي في ذاكرتنا ذاتُ معنى عميق أيضاً، إلا أنها تكتسب خاصية مميّزة عند الشاعر لأنه يتحدث عنها مراراً وتكراراً ليس فقط في هذا النص بل في نصوص كثيرة، وفي مجموعاته بشكل عام، حيث نشهد اتحاداً صوفياً بينه وبينها، لأنها على درجة عالية من البراءة، فالقبحُ ليس كامناً في هذه الأشياء، بل في الواقع السياسي الاجتماعي، الذي يحاول أن يجعل من تلك العناصر المحبّبة إلى نفس الشاعر قبيحة، فليس الدم الذي أوجد على الأشجار وعلى الزهر إلا بناء قبيحاً أدخل قسراً عليها.
إن العذاب في نصوص (محمد عمران) الشعرية لم يرتق إلى عذابات (خليل حاوي) و(علي الجندي)، فنحن نرى في نصوصه بين الفينة والأخرى حالات كثيرة من الولادة التي تجسّد انبعاث الجميل، وحالات من التحدي، كما في (اسم الماء والهواء) وهي إحدى مجموعاته الشعرية، ويقابل تلك الحالات الكثيرة ما يشابهها من رؤى سوداء قاتمة السواد، تُشعر المرء بأن (عمران) يمتلك من العذاب ما لا يمتلكه أي شاعر آخر كما في قصائد مجموعته (الأزرق والأحمر) (1)على سبيل المثال لا الحصر، وهذا عائد لا شك إلى تغيّر الموقف الفكري.
تبدو صورة الموت في (الأزرق والأحمر) مرعبةً، إنه يمتد في الزمان والمكان، يمتد في الإنسان، من أي كائن حي، ويصيب الأشياء كلها، بدءاً من الأشياء الصغيرة، وانتهاء بعناصر المحيط كله(2).
__________
(1) عمران، محمد 1982، قصيدة الطين، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق - ص 31-32.
(2) يقول محمد عمران في قصيدة /عاش القرنفل مات القرنفل/ 1984 الأزرق والأحمر، اتحاد الكتاب العرب دمشق ص39
القمحُ، صوتك، لم يعد أخضر
فلِمَ البطاقات التي تدعو العصافيرا؟
ولِمَ السفارات التي أنشأت عبر
عواصم الأعناب والسُكّرْ؟
ولِمَ القناديل التي أشعلت
تجتذب المزاميرا؟
القمحُ صوتك، لم يعد أخضر
فاجلسْ إلى شفتيك يابستين
وانتظر المساميرا(1/201)
فإذا ما اقترن (الموت) عند (عمران) (بالدم) فإنه يقترن (بالرماد) عند (مصطفى الخضر)، الرماد الذي يسيطر على الأشياء حوله، يقول في قصيدة (ذاكرة الرماد)(1):
بين الإشاعةِ والنبوءة كان ينتشر الرمادُ
وكنت حين أراهُ يسعى في أراجيح الطفولة،
في صباح العشب والأوراق والأمواهِ،
كنتُ حين أراه أسقط أو أكاد
والشعرُ يسقط والعواصم والعباد
ماذا أرى؟ هيهات يبتدئ الحريقُ،
ولا طريق سوى الرماد
إنها صورة سوداوية أخرى للمستقبل، فالإيمان بأن يتلاشى الموت عن الأشياء صار مزعزعاً.
إن الرمادَ (الموت) ظاهرةٌ ضد (الحريق) الذي يحمل في جنباته التغيير والانعطاف من حال إلى آخر، وقد وَرَدَ (الحريق) في النص بصورته الإيجابية في (هيهات يبتدئ الحريق)،كبناء معاكس للرماد (للموت الذي يسيطر على كل الأشياء)، إلا أن هذا (الحريق) لن يُكتَب له الاشتعال، فالموت أصاب (أراجيح الطفولة، والعشب، والأوراق،والصباحات).
وقد يكون (الرماد) في النص آت بمعنى (السكون) الذي يلفُّ الأشياء، ولكنَّ (السكون) أيضاً حالةُ من حالات الموت، لا ريب في هذا.
وفي كلا الاحتمالين هنالك شعور بالموت يلفّ أجزاء المحيط، وتتكثّفُ السوداوية المنطوية على الموت في (هيهات يبتدئ الحريق) التي وقفناعندها سابقاً، (فهيهات) بمعنى (بَعُدّ) وهو شعار سوداوي بخلاص الأشياء من السكونية ومن الموت، لهذا فإن هذا التركيب هو محورُ العذاب في النص، ونقطة تحوُّلٍ لصالح (الرماد)، لأن (الحريق) بوضعه الإيجابي لم يعدْ في قاموس الشاعر.
__________
(1) خضر، مصطفى، 1984- المرثية الدائمة، مطبعة وزارة الثقافة- دمشق ص18(1/202)
إن الأشياء عند (المعذب) في شعر الحداثة، (عبر قضية الموت)، ترمز إلى قضايا متعددة، (فالكهف) عند (حاوي) رمزٌ للذات المظلمة المعتمة الميتة، والأشياءُ والعناصرُ عند (رياض صالح الحسين) هي دائماً في حالة صراع مع الشاعر، وتفاجئه بصورة وحشية، وهو دائماً يتحدث عن (الغرقة) التي ترمز إلى العزلة والانطواء، والابتعاد عن ساحة الحياة، و(الشتاءُ) عند الماغوط يرمز إلى الموت والكآبة في أحايين كثيرة(1).
-ج- ترهُّل الزمن
لابد وأن توقُّفَ الزمن سيرافقه توقفٌ في مسيرة الحياة، ومن ثم تظهرُ معالم الموت على تلك الحياة.
لقد كان توقُّف الزمن في شعر الحداثة إحساساً نفسياً ينبئ بوطأة ذلك الزمن، فعندما يدرك الشاعرأنْ لا جدوى من الاستمرار في منظومة الحياة، فهذا يعني أن مرورَ الزمن على ذلك الإدراك سيكون طويلاً وممَّلاً،وينبع الإحساس باللاجدوى من ظروف اجتماعية سياسيةقاهرة، ليس تغييرها بذلك الأمر السهل.
النص الأول في حديثنا عن (الترهُّل الزمني) كأحد أشكال الموت في شعر الحداثة، سيكون للشاعر (خليل حاوي)، حيث توقَّفْنا، عند السمات العامة لهذا الشاعر، وتعرّفْنا على أحد أشكال الموت عنده وهو (الموت الحضاري)، يقول الشاعر في قصيدة (الكهف) من ديوان (بيادر الجوع)(2):
وعرفتُ كيف تمطّ أرجلّها الدقائقُ
كيف تجمد، تستحيل إلىعصورُ
وغدوتُ كهفاً في كهوف الشطِّ
يدفع جبهتي
ليلٌ تحجَرَ في الصخور
وتركتُ خيلَ البحر تعلكُ
لحم احشائي
تُغيِّبُه بصحراء المدى
__________
(1) يقول (محمد الماغوط):
غداً يتساقط الشتاء في قلبي
وتقفر المنتزهات من الأسماك والضفائر الذهبية
وأُجهشُ ببكاء حزين، على وسادتي
وأنا أرقبُ البهجة الحبيبة
تغادر أشعاري إلى الأبد
والضبابُ المتعفن على شاطئ البحر
يتمدَّدُ في عينيّ كسيل من الأظافر الرمادية.
/المجموعة الكاملة/ ديوان/ حزن في ضوء القمر ص 35-36.
(2) حاوي، خليل، /الديوان/، ص 279.(1/203)
- إن الصورتين الساطعتين لوطأة الزمن في النص هما:
1- الصورة الأولى (وعرفتُ كيف تمط أرجلها الدقائق، كيف تجمد تستحيل إلىعصور). فترهُّل الزمن يودي إلى الموت لا محالة، ولعل تجسيد الزمن (أرجلها الدقائق) يقرِّب إلى المتلقي صورة الزمن الممتدة والطويلة جداً عبر الفعل (تمطّ)، وتُوحي من زاوية أخرى بحجم العذاب عند (خليل حاوي).
كما أن ترُّهل الزمن، واللاجدوى الذي يرافق هذا الترهل، هو مستوى آخر من مستويات تعطيل الإرادة والشعور بقبح المحيط، فليس هنالك دافع نفسي إيجابي حيوي في ذات (الحاوي) ليجعل الزمن متحرِّكاً ومواكباً للحياة، ولعل الحياة متوقِّفة، بالنتيجة لتوقُّفِ الزمن النفسي، وعليه فإن تعطيل الإرادة هذا يوضِّحُ صورةَ الموت.
ولقد ترافَقَ الإحساسُ بوطأة الزمن (الموت) بصورةِ الذاتِ المعْتِمة (الكهف) في تركيب (وغدوتُ كهفاً في كهوف الشط)، وهذا ما يوطِّدُ عمْقَ العذاب،وعمْقَ الإحساس بالفناء القادم خلف وقوف الزمن.
ح- الصورة الثانية: (ليلٌ تحجر في الصخور)، فهي إضافة إلى أنّها توحي بالظلام النفسي الدائم تشير إلى زمن نفسي لليل، زمنٍ مقيَّد لا يتزحزح كما الصخور التي على شاطئ البحر، ويترافق هذا التحجُّر للزمن بصورة مرعبة لتهديم الذات (خيْلُ البحر تعلك لحم أحشائي)، مما يوضح أيضاً ملامح الفناء والعدمية في النص، ويُكسِبُ الزمنَ رعباً أكثر.
لقد رأينا صورتين من صور الزمن، الزمنِ الذي تلاشى وطال في آن فليس ثمة تناقض في هذا الكلام، فالدقائق التي تستحيل إلى عصور لا تستحقُّ أن تُعاش ولا قيمة لها على الصعيد الحياتي، لأنها ممتلئة بالفراغ والموت، ومن هنا ينبع تلاشي الوقت وطوله.(1/204)
أما المقطوعة الثانية التي سنتوقف عندها فهي للشاعر (فايز خضور)، فيمكننا أن ندرك من خلال هذه المقطوعة أن وطأة الزمن عند (خليل حاوي) ذات أبعاد مرعبة أكثر من تلك الموجودة عند (خضور)، ذلك أن الواقع انعكس علىنفسية (حاوي) بصورة أشدّ سلبية من الصورة التي انعكس فيها على نفسية (خضور)، ويمكن لنا أيضاً أن ندرك أيضاً أن /معذَّبَ/ (حاوي) شمولي، إذ تظهر لدى هذا الشاعرتجليات المعذب مكتملة.
يقول (فايز خضور) في المقطوعة السابعة من (آداد): (1)
آداد
زمنٌ تحجّر في المكانْ
لا راهبٌ يعطيك مغفرة، ولا شيخٌ يطارحك الأمانْ
أُتُرّاك تحلم بالمسرهْ؟
إن وطأة الزمن في المقطوعة، تمر بصورة عابرة كجزء من المشاكل الكثيرة التي يواجهها الشاعر،وهذا الزمن نفسي بالتأكيد وينبئ بالموت، وبالشعور برؤية قاتمة للمستقبل، وأما المشاكل التي أشرنا إليها فهي تلك الاغترابات والإحباطات في القصيدة المطولة (آداد) المؤلفة من ثلاثين مقطوعة.
نشهد في المقطوعة انتقالاً سريعاً من الحديث عن الزمن إلى الحديث عن قضايا ومصاعب أخرى (لا راهبٌ يعطيك مغفرة، ولا شيخٌ يطارحك الأمان).
ولعل وطأةَ الزمن (الموت) عند (خضور) لم تترافق بفتك وانهيار لأجزاء وعناصر من جسد الشاعر كما رأينا عند (خليل حاوي)، (خيلُ البحر تعلك لحم أحشائي)، وهذا يُبرز كما أشرنا سابقاً- صورةَ الواقع المريرة جداً والمنعكِسة على ذاته، وهي تختلف عن صورة ذلك الواقع عند (خضور)، ثم إنَّ وطأة الزمن عند (حاوي) تنمُّ على صراع وجودي حاد، لأنها تترافق بمعطيات مخيفة، بينما يجئ ترهل الزمن في مقطوعة (خضور) عائقاً في طريق ولادة حضارة مهلهلة وانبعاثها، والعائقُ هذا أيضاً موجود عند (حاوي) إلا أنّه عائق قد تفاقَمَ،حتى لم يعد المتلقي يشعر بغير الموت معتلياً كلَّ شيء (الأماكن، والكون، والأرض،والوجود بأكمله).
__________
(1) خضور، فايز، الديوان، ص 428.(1/205)
والأمر الجوهري في عذابات حاوي، أنَّ كل شيء يخالف رؤياه وتطُّلعاته يشكل لديه رعباً، لأن تفكيره يتأتّى من أن هذا الذي يخالف رؤياه هو مصدر من مصادر الموت (الزمن، والمجتمع، والظروف السياسية، الخ....).
د- صورة اليأس:
ينمُّ اليأس علىوضع نفسي يشير إلى الإحباط والانكسار، فلا أمل يُرتجى في الخلاص من إنجازات الواقع السلبية التي تتشعَّبُ إلى أكثر من مستوى، ومن ثم فإنّ صورة (اليأس) لابد لها من أن تحمل بين طيَّاتها الكثير من السوداوية.
يظهر اليأس في قصائد عديدة للشاعر (نزيه أبو عفش)، إذ طالما يذكر هذا الشاعر الموت ومفرداته، وتتوقف لديه كلُّ العوالم المشرقة، وينطوي على ذاته المتألِّمة من كل مظاهر الحياة، يقول في قصيدة (أحزان ليلة الميلاد) مخاطباً فيها ليلة عيد الميلاد(1):
ويمطر في جبيني الموتُ
يغزو ليل أعيادي
ولا جدوى
بلا عينينِ أرصدُ بابكِ الموصدْ
أواكبُ خاطري المجهدْ
كأني لم أطفْ يوماً بخاطر هذه الدنيا
ولا طفْتِ
وها أنا خلفَ مدِّ اليأسِ في دوَّامةِ الموتِ
أعاينُ بابك الموصدْ
وخلفي ألفُ نافذةٍ تلحُّ، تثير أحقادي
ولا أهتمُّ
حسبي ليلةَ الميلاد أني دون ميلاد
إنَّ المكوِّنات الأساسية لحالة اليأس في النص آتية من تَعَدُّدِ اتجاهات الموت وشدَّتهِ (ويمطرُ في جبيني الموت)، ويبدو أن تلك الوطأة للموت جَعَلَتْ من صورة العيد قاتمةً، فلم يعدْ هنالك جدوى من الحديث عن أيام سعيدة، بل إن الأيام كلها سواء، وكلها عبارة عن زمن فارغ من حيويةِ الحياة ونشاطها.
__________
(1) أبو عفش، نزيه 1968، الوجه الذي لا يغيب ط1، ص 110-111.(1/206)
ولعل الجوهر الذي قامت عليه المقطوعة هو المقارنة بين الولادة بالمفهوم العام، أي دوافع العيش على أرض الواقع بكل أشكالها، وبين مقومات الموت المحيطة، وذلك عبر الصراع القائم والمتواصل بين هذين النقيضين (الولادة، الموت)، بيد أن دوافع العيش عبْر سياق النص تتراجع بشكل كبير، لِتَدْخُل حيِّز العدمية، نتيجةً صدمات متكررة شهدِتْها ذات الشاعر مدة زمنية طويلة، لهذا فمن البدهي أن تأتي ليلة عيد الميلاد ميتة، و(لا جدوى) بعد ذلك من الإيمان بأي شكل من أشكال الخلاص والأمل والتفاؤل، (كأني لم أطفْ يوماً بخاطر هذه الدنيا ولا طفْتِ).
وعليه فإن الشاعر يربط بين (اليأس) و(الموت)، لأنّ (اليأس) هو حافة من الحواف المشرفة مباشرة على العدمية (وها أنا خلف مدِّ اليأس في دوامة الموت)، تلك (الدوامة) التي تنبئُ بخلل وصراع نفسيين وتُظهر غياب الشاعر الفعلي عن دائرة (الحياة)، لأن تلك (الحياة) لم يعد لها جدوى، بل ليس هنالك في الواقع من محرِّضات إيجابية تجعل الشاعر يقوم بأيِّ حركةٍ وتواصلٍ مع مستويات الحياة وأشكالها، (وخلفي ألفُ نافذةٍ، تلحُّ، تثير أحقادي).
يضمحلُّ الحديث في قصائد (نزيه أبو عفش) التي تتناول صورة (اليأس) عن جزئيات البيئة والظروف، التي جعلتْ منه يائساً، بينما يُبرز الأثر النفسي لتلك الجزئيات بشكل كبير(1).
المقطوعة الثانية في حديثنا عن اليأس للشاعر (عبدالكريم الناعم) بعنوان (تحية الظلام) يقول فيها(2):
دُفِنَتُ، ومتُّ من زمنٍ بعيدٍ لستُ أدركُهُ
__________
(1) يقول نزيه أبو عفش في قصيدته /بطاقة قديمة/
جفّ عمري، أوراق السلّ بأعماقي
شراييني استحالت عُمْدا
جسدي؟
يضحكني لونُ الخريفِ الميْتِ في جبهتي الصفراء
في قلبي المريضِ
وأنا... ماذا أنا؟
ترهبني العتْمةُ في عمقِ الحضيضِ
ديوان /الوجه الذي لا يغيب/ ص 127.
(2) الناعم، عبد الكريم، 1965، زهرة النار، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ص 49.(1/207)
أعيشُ بظلمةِ الأوثانِ مدفوناً بأحشائي
ومصلوباً بكفِّ الغيبِ مشدوداً لأشيائي
وتعْوي الريح في صدرٍ من الفخَّارِ،
واديه
فسيحٌ كاتساعِ الأفقُ في أحلامِ بحَّارِ
إن تغييبِ الذات عن ساحة العمليات (الحياتية) تغييباً لا عودة بعده هو (اليأس) من مجمل تلك العمليات (دُفنتُ، ومتُّ من زمنٍ بعيدٍ لستُ أدركه)، والمقطوعة تُظهِرُ هرباً حاداً نحو أعماق النفس، ولم يكن هذا الهرب بحميد، لأن الظلام والموت موجودان أيضاً في تلك الأعماق، بل إن أعماق الذات هي أحد الأماكن الكثيرة التي مات فيها الشاعر (مدفوناً بأحشائي)، ويبدوأن (الأوثان) في النص على صلة وثيقة بعملية التغييب والدفن لماتحمله من إيحاءات، لاسيما تلك الإيحاءات الدينية التي تصوِّر الأوثان على أنها مصدر للتيه والضلال.
لقد اتسعت دائرة اليأس في المقطوعة اتساعاً أخذ أبعاداً ميتافيزيقية (مصلوباً بكفّ الغيب)، حيث ندرك أن هناك قوة خفية تتحكم بالشاعر، وهذا التحكُّم ضمن سياق المقطوعة يفضي إلى الموت، فحالةُ (الصلْب) حالة موتٍ لا محالة،لما تنطوي عليه من وضعٍ سكوني يسم الكائن (المصلوب)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن (الصلب) حالة قهريةغير إرادية تُضاف إلى حالة اليأس والعدمية في النص.
تترسخ العدمية، ومظاهر اليأس في نهاية المقطوعة عبر التصوُّر المرعِب الناتج عن (عواء الريح) الذي يثير في المتلقي شعوراً بالخواء وبالقلق، فـ (عواء الريح) كامن في (صدرٍ من الفخار) و(وواديه فسيح كاتساع الأفق في أحلام بحّار)، و(الوادي الفسيحُ) لا يعطي شعوراً بالراحة -ضمن سياق النص- لاقترانه بالخواء وبعواء الريح،وكلما اتسع هذا الوادي اتسعت العدمية،وكلما اتسعت أحلام البحّار،كبرتْ مشاكل الشاعر وكبرَ إحساسه باليأس، فَخَرَجْت كلمة(فسيح) عن معناها الجميل في ذاكرتنا، وانطوت على معنى (قبيح)، وكذلك (أحلام البحار) التي توحي أصلاً بالأمل والإشراق.(1/208)
هنالك قصائد أخرى لشعراء آخرين تحدّثوا فيها عن اليأس انطلاقاً من عدمية التواصل مع هذه الحياة، شعوراً منهم بخواء التحرّك وممارسة الحياة في ظلِّ واقع مرير ومن هؤلاء الشعراء أدونيس(1) الذي يعبّر بلغة أقرب إلى الومضة وإلى التداعي عن حالة الفراغ اليأس الذي يختلط بالسواد القائم في كلِّ شيءٍ.
كما أن أورخان ميسر في ((اثّنان في واحد)) وفي ((سريال)) يعرض العدمية بصورة مرعبة، العدميةِ التي أصابت الذات من الداخل، وجعلتْ منها كهفاً مهجوراً، ويحلم أورخان ميسر بعالم مثالي(2)، فهو ما زال متأثراً بالرومانتيكيين في أحلامهم، على الرغم من أن ديوانه (سريال) اخترق الأبنية الفنية للرومانتيكيين، وحتى بعض الأبنية الفنية في شعر الحداثة، وذلك بالميل إلى النثر "فكان -سريال- دعوة لقلب نظام القيم الشعرية الثابتة، والبحث عن قيم بديلة، متحوِّلة. بهذا المعنى -سريال- كتابٌ هدمي، ذو أفق نظري - السوريالية، وذو أفق إبداعي -قصيدة النثر- وبالتأكيد إن هذين الأفقين كانا مترابطين عضوياً. إذ إن التحرر من الشكل الخارجي -لابد أن يرافقه تحرر آخر من -الشكل الداخلي.))(3).
__________
(1) يقول أدونيس / المقطع 7/ من أوراق في الريح.
((لا أنام:
أضلعي شوكٌ، حناياي حطامٌ
ليس في عيني ضوءٌ ليس في وجهي كلامَ
غمر النور الظلامُ
1971 المجلد الأول (وراق في الريح) ط1 دار العودة - بيروت ص 199.
(2) يقول أورخان ميسر في قصيدة /قصائد غير منشورة/
ليس ما أملؤه الآن
هو جوفي الفاغرَ فاهٌ للعدم
إنما هي رئات كهفي العطشى لذوب الغاب
هذا الذوب الذي تاه في سكره ليسكرنا معاً
شوكٌ يستيقظُ من رقاد طويل
ويكبو منهمكاً من بعض قطرات دم
فيضٌ من زهور، وفراش وألوان
يضع ساعات،
قبور
جمجمة في قعر وادٍ سحيق، الخ....
1979* مجموعة /-سريال-/ اتحاد الكتاب العرب - دمشق- ص 78-79.
(3) باروت، محمد جمال، الشعر يكتب اسمه، ص 11.(1/209)
فاليأس والشعور الحاد بالسوداوية وبالعدمية أمورٌ تترافق -على الصعيد النفسي- وحالة من حالات الحصر (القلق المتطور)، فـ "ثمَّةَ الحصر الرهن (أمام شيء واقعي) والحصر العصابي (حصر لا موضوع، ولكنه حصر بهيئة قلق أساسي) إنهما حصرا الأنا على وجه الضبط، وينشأ أولهما عن الأوضاع، والثاني عن الصعوبات الحالية، بوصفها صعوبات نصف شعورية وتحجبها الأنا"(1).
والذي يهمنا هو حالة الحصر الأولى(أمام شيء واقعي)، أي أن ما يحدث في الواقع (عبر نظرة سلبية للحدث)،وتكرار المظاهرالسلبية في المحيط، يؤدي بالمرء إلى عدم الاستقرار وإلى عدم الطمأنينة وإلى الإحساس بالقلق الذي يتطور إلى مرحلة (الحصر)، ومع تفاقم هذا (الحصر) يولد اليأس.
- هـ - صورة المرأة:
إن المرأةَ في الشعر العربي المعاصر "قد أصبحتْ بؤرةَ ترابطاتٍ تتراكبُ في صورتها صورُ الذات والأعماق والوجود والتاريخ والقهر والاستبداد، وكلُّ مافي الكون من جمال وقبح"(2)، وانطلاقاً من هذا فإن صورتها أيضاً تتعدَّدُ في القصيدة بين عدة مستويات من خلال ارتباطها (بالسوداوي العدمي) على الشكل التالي:
1- صورة الأنثى المنقذة:
__________
(1) لوغال، أندريه، 1988، القلق والحصر، تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق ص 129.
(2) اليوسف، يوسف سامي، الشعر العربي المعاصر، ص 25.(1/210)
إن المرأة بالنسبة لـ (محمد عمران) مازالت حلماً، حلماً جميلاً يسعى إلى تحقيقه، فهي تدخُلُ كعنصرِ فعَّال في قصائده عبر الحالة الصوفية القائمة بينه وبين عناصر الخارج فـ "المرأةُ دائماً طَرَفٌ في حوار، يبادلها الشاعر همَّه، وأحزانَهُ ويأسه، وفي ذلك تطوُّرٌ إيجابي لصالح الشاعر، أقصدُ معاملة المرأة كندٍّ يحاوره ويحترمه، وعلى الرغم من أن الحب هو كل شيء بالنسبة للشاعر وأن الحب هو الباب الباقي للشعر بالنسبة للشاعر أيضاً، على الرغم من ذلك كله، فالشاعر وحيدٌ وحْدَتُه هنا تعني أنّ علاقته مع المرأة غير صحيَّة، فلو كانت صحيِّةً، لأشبَعَتْ رغباته من جهة، ولملأ الحبُّ فراغه الداخلي من جهة ثانية، وليس من المعقول أن الشاعر لم يلتقِ بواحدة جديرة بحبه -"(1) ولهذا فهو في حاجة ماسة إلى الحنان الأنثوي كعاملٍ من عوامل الخلاص من الفراغ والعدمية.
يقول محمد عمران في قصيدة (مزمور)(2)
مهجورةٌ شوارع قلبي
امنحيها تنفُّسَ قدميكِ
كانت لي أرصفُةُ وأشجار
هاجرتُ مع الدم الذي هاجر
كانت لي أغانٍ، ضحكاتٌ، ورنينُ قُبّل
اختنقتُ في مِلْجأ انهار
كانت لي غابةُ أقدام
اقتَلَعَتْها القنابلُ
امنحيني تنفُّسَ قدميكِ
قلبي كالشواطئ آخر الليل
في البدءِ ينطوي العذاب على الشعور بالفراغ وبالعدمية (مهجورة شوارع قلبي)، وهذا الشعور يضع الأنثى كمعادلٍ فعّال في مواجهة عملية انهدام الذات وتراجعها عن فعل الحركة والنشاط (امنحيها تنفُّسَ قدميك).
__________
(1) خنسة: وفيق: دراسات في الشعر العربي السوري الحديث، ص 128.
(2) عمران، محمد 1980، الملاجة ط1، دار المسيرة، بيروت، ص 55-56.(1/211)
بعد ذلك يعرض الشاعر حالةَ الاستقرار الماضية، الحالَةَ التي سَبَقَتْ نقطةَ الانعطاف باتجاه العدمية فقد كانت له (أرصفة وأشجار)، إيحاءً بأن هنالك صورةَ أمان واطمئنان وتوازنٍ مع المحيط، إلا أنّ وجود الفعل الماضي (كانت) يوحي بأن الحالة تغيَّرَتْ وتبدَّلتْ من الوضع الآمن إلى الوضع غير الصحي (هاجرتَ مع الدم الذي هاجر)، ويتوالى الحديث عن الماضي الغابر بصوره البهية والجميلة (كانت لي أغانٍ، ضحكات، رنين قُبُلَ) وما لبثت أن تغيَّرَت تلك الصور أيضاً، بل ماتت، (اختنقتْ في ملجأ أنهار)، حيث (الأنهار) بصيغة الجمع تشير ضمن سياق النص -الذي بنئ بالفراغ- إلى تعاظم وتَشَعُّبِ مصادر اليأس والإحباط، وكذلك كان الأمر في (كانت لي غابة أقدام)، (اقَتَلَعَتْها القنابل)، فكثرةُ الأقدام التي كان يملكها الشاعر سابقاً تُبرِزُ مقدار التفاؤل والحيوية في معتَرَكِ الحياة، لأن الأقدام هي تَعَدُّدُ لمستويات ذلك التفاؤل، وأما (القنابل) فإنّها مجموعة الصور القاتمة ذاتُ الفعل التخريبي التي تعمل في ساحة الواقع مؤديةً إلى ذلك الموت الذي رأيناه في مطلع المقطوعة (مهجورة شوارع قلبي).
إن تلك الصور القاتمة بحاجة إلىفعلٍ جبار يعيد الإشراق إلى سابق عهده، لهذا أصرَّ الشاعر على وجود الأنثى تجسيداً لذلك الفعل (امنحيني تنفُّس قدميكِ)، وذلك كحالة مضادة للقنابل ولللاختناق وللهجران، حيث الهجران في (هاجرتُ مع الدم الذي هاجر) هو انزياح وخلل في عمل (الأنا) وانتقالٌ للذات من التوازن إلى الهوة التي تفصلها عن معطيات الحياة بمظاهرها الجميلة.
2- صورة الحب:
نعني هنا (الحب) بشكله العام تجاه (الأنثى)، حيث يشكل هذا (الحب) حالة ولادة وانبعاث عند (رياض صالح الحسين)، الذي يقول في قصيدة له بعنوان (الحب):(1)
الحُبُّ ليس حَبَّةَ أسبرين
نتناولَها عندما نشعرُ بالصداع
__________
(1) الحسين، رياض صالح، 1983، وعل في الغابة، وزارة الثقافة، دمشق، ص 110.(1/212)
وليسَ نكتةً خفيفةً
نتداولها في أوقات الضجر
الحبُّ ليسَ وردةً للزينةِ
ولاكأساً مكسورةً لسلة المهملاتِ
الحبُّ...
شهادةُ ولادةٍ دائمة
نحملها برأس مرفوع.
لِنخترقَ شارعَ المذبحة
فالحبُّ في نص (رياض صالح الحسين) ولادةٌ وانبعاث في زمن الموت المرير، إن (حبَّة الأسبرين، النكتة الخفيفة، وردة الزينة) صورٌ للرفاهية التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، غير أن شخصاً يعيش الموت كـ (رياض صالح الحسين) لايمكن له أن يقبل من الحبِّ إلاّ أن يكون عملاً إلهياً جبّاراً ويستغرق زمناً طويلاً لا وسيلة مؤقتةً من وسائل الرفاهية، فاختراقُ (شارع المذبحة) ليس بالأمر السهل، و(الحبُّ) بما يملكه من سمات وصفات سامية قادر على أن يخترق أشدَّ الصعوبات وأمرَّها.
ليس (شارع المذبحة) في النص سوى مسرح الواقع الذي يشكِّلُ بؤرةً من بؤر العدمية والفراغ؛ إنّ (المذبحة) تعبير قاس وحاد عن حالة عميقة عند الشاعر في طريق الموت.
إن ذاكرتنا تحتفظ بالكثير من الألم والحزن حول طبيعة(المذبحة) وجوهرها، فالشاعر لايصرح بمكانٍ أو بزمانٍ أو بتسميةٍ (للمذبحة) بيد أنّه من الضروري أن ندرك أن تلك (المذبحة) توحي بشكلٍ أو بآخر (بحالة لا شعورية) بأن (رياض صالح الحسين) يعيش عذابات مضنية ومرعبة.
3- صورة الخلل في العلاقة مع الأنثى:
في هذا الجانب سنقف عند الشاعر (أنسي الحاج)، لندرك أن هنالك شيئاً غير متوازن في العلاقة بين الشاعر والأنثى، أدَّى إلى حالة القطيعة يقول في قصيدة (حوار):(1)
قولي: بماذا تفكِّرين؟
أفكُرُ في شمسِكَ التي لاتنيرني يا عاشقي
قولي: بماذا تفكِّرين؟
أفكِّرُ فيكَ، كيف تستطيع أن تصبرَ على برودةَ قلبي
قولي: بماذا تفكِّرين؟
أفكِّرُ يا عاشقي في جبروتِكَ، كيف
إنك تحبني ولا أحبُّكَ.
__________
(1) الحاج، أنسي، (لن) ص 38.(1/213)
يعرض النص صورةً من صور الانكسار المريرة الناتجة عن القطيعة بين الشاعر والأنثى التي يحبها، فالتساؤلات المتكررة (بماذا تفكرين) تفرض إيقاعاً من الإحباط المتولِّد عن الإجابات القاتمة للأنثى والتي لا تعطي مجالاً للأمل.
إن الأنثى عامل من عوامل الطمأنينة للشاعر، بيد أن تلك الطمأنينة لم تتكَلّلْ بالنجاح، ذلك أن المقطوعة تحمل في طياتها معالم القطيعة والانفصال بين الشاعر ومحبوبته التي يحبُّها ولا تحبه، ولهذا تتجلَّى في المقطوعة مسألة الحرمان العاطفي.
تتصاعد الحالة في النص من خلال الإجابات التي تُدْلي بها الأنثى، فالإجابة الأولى (أُفكِّرُ في شمسك التي لا تنيرني) تشير إلى ملمحِ من ملامح القطيعة، فهنالك توصيف للعلاقة غير المتوازنة بين الطرفين (الشاعر، الأنثى).
أما الإجابة الثانية (كيف تستطيع أن تصبرَ على برودة قلبي) فتُبرز ملامح الفتور في تلك العلاقة من جهة، ومحاولة الشاعر التغلب على هذا الفتور من جهة ثانية، فهذا الفتور آتٍ من جانب واحد (الأنثى).
أما الإجابة الثالثة التي تشكِّلُ حالةَ الصدمة بالنسبة للشاعر (كيف أنك تحبني ولا أحبكَ) فهي تعكس صورة القطيعة بشكل كلي، وهي ذروة العلاقة ونتيجتها المؤلمة على ذات (أنسي الحاج)، ولا مجال هنا للحديث عن الفنِّيات في حديثنا عن تصاعد الحالة، فربما يكونُ تصاعد الحالة مترافقاً بفنيات عالية وربما يكون غير مترافق، وهذا ما سندركه في حديثنا عن (السمات الفنية لصورة المعذب في شعر الحداثة).
وهنالك بعض القصائد الأخرى التي تتحدث عن حالة الخلل في العلاقة بين الشاعر والأنثى، التي تتشابه وعلاقة (أنسي الحاج) بالأنثى، في أنها حالة خلاصٍ غير أن تلك الحالة لا يُكتب لها الظهور والنجاح.(1)
__________
(1) يقول عبد الكريم الناعم:
جاءَ الصباحُ وأنتِ في زمن الرؤى:
غبش ضريرُ
وطغى المساء وأنت في زمن الردى:
ألم عسيرْ
فإلى متى سُكْري الجريحْ؟!
وإلى متى جسدي الضريِّح؟!
1979 /تنويعات علىوتر الجرح/ منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق، ص 39.(1/214)
3- النموذج المقموع:
(المقموع) أحد تجليات المعذب التي تُبْرِزُ خضوعَ الشاعر لظاهرة سلطوية في الواقع، تحدُّ من حريته، وتقيِّد تفكيرَه، فجاءت القصيدة منقِذاً لشخصية المعذبِ من ذلك القيد من جهة، وتنفيساً عن همومها من جهة أخرى.
إن السلطةَ لا تمثل (الأنا الأعلى) بالنسبة إلى الشاعر، وهي مُخالفة لهذا المصطلح النفسي الذي يشير إلى الضمير الجمعي إن صحَّ التعبير،وإلى هذا الأمر يشير (سيجموند فرويد) في كتابه (عسرْ الحضارة) في حديثه عن القلق فيقول: "إن للشعور بالذنب أصلين:أحدُهما هو القلقُ حيال السلطة، والآخر، وهومتأخر، القلق حيال (الأنا العليا)، الأول يرغم المرء على الإقلاع عن إرضاء اندفاعاته. والآخر يدفع المرء فوق ذلك إلى معاقبة نفسه بنفسه، إذ من المحال إخفاء استمرار الرغبات الممنوعة عن (الأنا العليا)، وقد رأينا أيضاً كيف يمكننا فهمٌ قسوة (الأنا العليا)، أي أوامر الضمير. إنها مجرد استطالة لقسوة السلطة الخارجية التي حرمتها من ممارسة وظائفها وحلّت محلها جزئياً"(1).
وهكذا فإن سلطة (الأنا الأعلى) تختلف عن (السلطة) التي سوف نتحدث عنها وهي (فئة معينة من الأفراد تحدّ من حرية الآخرين وتتحكم بمصائرهم).
ولابد لنا من الإشارة إلى أمرٍ على قدرٍ كبير من الأهمية وهو أن كلمة (الذنبْ) التي وَرَدَتْ في بداية المقبوس لـ (سيجموند فرويد) توازي إلى حدٍ كبير معنى كلمة (الإحباط)، وليست تعني (الذنب) الذي نعرفه أي (ارتكاب الخطيئة)، فلو أنها جاءت بمعناها الحقيقي لأصبحت (السلطةُ) بمفهومها (القمعي) حالةٌ إيجابية، وهذا لم يُرْدْه (فرويد) من خلال حديثه.
من القصائد التي تتحدث عن /المقموع/ قصيدة للشاعر /محمد الماغوط/ بعنوان/ القتل/ يقول فيها: (2)
__________
(1) فرويد، سيجموند، 1975، عسر الحضارة، تر:عادل العوا، وزارة الثقافة، دمشق، ص 117.
(2) الماغوط، محمد، الأعمال الكاملة/ حزن في ضوء القمر/ ص 84.(1/215)
أنام وعلى وسادتي وردتان من الحبرِ
الخريفُ يتدحرجُ كالقارب الذهبي
والساعاتُ المرعبةُ تلتهبُ بين العظام
يدي مُغْلَقُةُ على الدم
وطبْقَةٌ كثيفة من النواح الكئيب
تهدرُ بين الأجساد المتلاحقةِ كالرمل
مستاءةً من النداء المتعفِّن في شفاه غليظةٍ
تثيرُ الغثيان
حيث تصطكُّ العيونُ والأرجل
وأنينٌ متواصلٌ في مجاري المياه
شفاهٌ غليظةٌ ورجالٌ قساةٌ
انحدروا من أكَمَات العْنف والحرمانِ
ليلعقوا ماءَ الحياةِ عن وجوهنا
تتصاعد حالة القمع في النص عن طريق سرد الاضطرابات النفسية المرافقة قبل الوصول إلى ذروة الحالة(القتلْ، الموت) في نهاية النص، لأن هناك انتظاراً -مفعماً بالقلق- للمصير النهائي المرَوِّع للنموذج المعذب المطروح في النص، بل إن هناك نماذج معذبة ومتعدِّدة هي التي تجتمع حول مِحْوَرَي (القمع) و(العذاب): فالخريف الذي يتدحرج والساعات المرعبة واليد المغلقة على الدم وطبقة النواح الكئيب، صورٌ نفسية تشير إلى القلق الذي ينتاب الذات وهي تستعدُّ لوضعها النهائي، الذي ينطوي على (الموت)، وتَتَوضَّحُ في النص من خلال تصاعد الحالة صورةُ السلطة رويداً رويداً (شفاهٌ غليظة ورجال قساة).
تتنهي الحالة في النص بشكل مرعب من خلال الفعل السلطوي (ليلعقوا ماء الحياة عن وجوهنا)، هذا الفعل النهائي الذي يقوم على أقسى درجات التسلُّطِ التي تصل إلى الموت، وإلىتقييد الحرية بصورة مطلقة.
إن ملامح الشعور بالموت المترافقة بالقمع تبدأ من مطلع النص، فليس الخريف الموجود في بدايات المقطوعة سوى شكل من أشكال الموت، كذلك الساعات المرعبة واليد المغلقة على الدم، توحي هذه الأشياء بأن الأحداث القادمة أحداثٌ مميتة، ثم يتحقَّقُ الموت فعلاً كنهاية لأفعال السلطة.(1/216)
وإذا كان الماغوط قد عَرَضَ (قَمْعَ) السلطة بهذه الصورة الواضحة، فإن (محمد عمران) قد عرض قضية (قمْعِ الحلم)، وهي من القضايا التي توحي بمدى اتساع الحالة السلطوية، التي وصلت إلى عناصرعلى صلة وثيقة بنفسية الإنسان ألا وهي (الحلم).
إنَّ بَحْثَ (محمد عمران) عن العالم المثالي عن طريق الحلم قد اصطدم بعائق السلطة، التي فَرَضَتْ سطوتها على كل شيء في ساحة الواقع، يقول محمد عمران في قصيدة /الدخول بين الوردة والدم/(1)
أُسائِلُ: أين طريقي إلى وطن الحلْمِ؟
يُمْسِكُ بي الحرس الملكي على كل منعطفٍ
وأساقُ إلى السجن
(- أنت تهرِّب حزناً غريباً-
- أهرِّبُ حزن التحول. حزناً
يصادره باعةُ الموت في وطني
المخبرون، وكلُّ الذين يخافون أن تخلع
الأرض سادتَها وتنامُ
على سرر الفقراءْ).
- خذوه إلى المقصلهْ
عندما يصبح تغيير الواقع معضلةً، فلابد من البحث عن مقوِّمات لواقع آخر، وقد تجسَّدَ هذا البحث عند (عمران) عبْرَ (وطن الحلم)، الذي يمتلك مقوِّمات الاستقرار والسعادة، ولكن هذا البحث (عبر الحلم) يتعرَّض للقمع أيضاً، الأمر الذي يوحي بأن الخوف قد امتدَّ واتسع ليمتد على عناصر ذات طابع نفسي عميق (الحلم)، ثم إن التساؤل (أين طريقي إلى وطن الحلم؟)، ينم على العوائق المفروضة على تلك الحالة النفسية (الحلم)، ولعل تركيب (يمسك بي الحرس الملكي على كل منعطف) تعزيزٌ لتلك العوائق وترسيخ لها.
__________
(1) عمران ، محمد 1978، أنا الذي رأيت، وزارة الثقافة، دمشق، ص 37.(1/217)
إن نقطة التحوُّل الجوهرية في النص باتجاه الخروج من دائرة القمع تكمن في الحوارية بين الشاعر ورجال السلطة(أنت تهرِّب حزناً غريباً)، ويأتي ردُّ الشاعر (أهرِّ ب حزن التحول)، ذلك أن حزن التحول هو الثمن الباهظ الذي سيدفعه الشاعر كي يحقِّق نقطة الانعطاف نحو عالم أكثر أماناً واستقراراً، ولكنه حزنٌ ينطوي على كثير من السعادة، حزنٌ مشرقٌ -إن صح التعبير- غير أن هذا الحزن أيضاً- بما أنه ينطوي على السعادة ويُحقِّقُ جسر العبور إلى النور- مُصَادَرٌ مقموع، حيث يعرض الشاعر صور القمع في المقطوعة (باعةُ الموت في وطني، والمخبرون، وكلُّ الذين يخافون أن تخلع الأرضُ سادتَها)، فـ (باعة الموت، والمخبرون، الخ).. مظاهر سلبية تقوم بالحدِّ من صور الحرية عند الأشخاص.
كان اعتراض الشاعر على هذه المظاهر السلبية، مظهراً للحرية، إلا أن التفكير بالحرية ليس له مكان في تلك الظروف القاسية، مما أودى بنموذج العذاب في النص إلى الموت المروِّع (خذوه إلى المقصلة).
أما الشاعر (حسين حموي) فيعرض للقمع بصورة أخرى؛ إنهُ بانتمائه القومي العربي، لا يرى أن هناك ملامح داخل الأمة العربية تدل على التكاثف والوحدة وتجسيد صورة (القومية العربية) لاختلاف آراء الحكام واختلاف الأنظمة وتعدُّدِ جوازات السفر، فهو لا يستطيع التنقل بحرية في أرجاء الوطن كفرد من الأفراد(1)، فهناك الكثير من العوائق (حرس الحدود، الصراعات بين الدول، التمزقات الكثيرة، الخ.......).
__________
(1) يقول حسين حموي في قصيدة (المزمور الخامس).
وأنا لا أكتمكم:
لم أحصلُ بعد، على نصفِ جواز مرورٍ عادي
يسمحُ لي أن أتجوَّلَ في قلبِ الوطن العربيِّ
بلا مهْرٍ ملكيِّ
من حامي الحرمينْ
أو توقيعٍ رسميٍّ من قائد مفرزة متقدمةٍ
أو تأشيرة سفر من حراس حدود البيت الواحد
1981، ديوان قابيل،وسِفر البحر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ص 79.(1/218)
وأما (رياض صالح الحسين)، فإنه يعرض صوراً متعدِّدة من خلال تَعَدُّدِ شخصيات القمع (الموظفون لزرق الكآبة في الشرايين، ملائكةٌ بقوانين حمورابية لاغتيال الموتى والأحياء، محاسبون لإحصاء الأظافر والأيدي، ثيران بقوائم لطيفة لشرب البيرة. وإصدار المراسيم)(1).
وكذلك تَتَبَدَّى صورةُ القمع في قصائد الشاعر (كمال خير بك)، حيث يصرِّح (بالحرية) بديلاً لكلِّ العلاقات السلطوية التي وصلت إلى مفرداتٍ وجزئياتٍ خاصةٍ جداً من حياته فنراه يقول في قصيدة (أمنية)(2)
ياليت لي حريتي الصَّغيرهْ
حريةَ البحث عن السلامْ
حرية النهوض والسقوط والكلام
في مخدع الأميرهْ.
حرية الراغب أن ينامَ
حين تهبُّ اليقظة المريرهْ
فالحرية مطلب كبير وشاق أمام الأزمات المفروضة على الشاعر من خلال حالات القمع، (فليس هناك حرية في البحث عن السلام، وليس هناك حرية في النهوض وفي السقوط وفي الكلام ولا حتى في النوم)، إنه شعور بالضيق في كل شيء، ذلك الضيق الذي عرضه(نزيه أبوعفش)، في قصائد عديدة أيضاً، إذ امتد هذا الضيق والاختناق إلى(الندى، والبكاء،وعشب الحديقة، وفسحة، والعاشقين)(3)
__________
(1) راجع، صالح الحسين رياض 1979، خراب الدورة الدموية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ص 29-30.
(2) خير بك، كمال 1982، ديوان أيها الشعر، ط1، باريس، ص 27، (والشاعر كمال خير بك عاش في لبنان ويحمل الجنسية اللبنانية غيرأنّه من مواليد سورية).
(3) يقول نزيه أبو عفش:
ضيِّقٌ في البلاد الهواءْ
ضيقٌ في البلاد الندى والبكاءْ
المساءُ الرؤوم وعشب الحديقة
ضيقةٌ فسحة العاشقين
1982 ديوان /بين هلاكين/ ط1 (العربية للدراسات والنشر)- دمشق ص 35.(1/219)
ويبدو أن تجليات (المعذب) وصوره في الشعر العربي عامة لاتختلف كثيراً عن صور (المعذب) في سورية ولبنان، لاسيما في شعر الحداثة، فالشاعر المصري (صلاح عبد الصبور) يعرض في قصيدة(مذكرات الصوفي بشر الحافي) تجليات متعددة للعذاب، تُبرز الظروف الموضوعيةوالاجتماعية التي تقف أمام الفرد، وتَحُول دون إشباع ذاته المقهورة، وتُبرز من زاوية أخرى وعي الفرد المتعاظم لمجمل تلك الظروف.
إذ يُظهِر مطلع النص صورة سلطوية من خلال لغة صوفية، عملت هذه الصورة على حجب رضاها عن منظومة اجتماعية معينة، ومن ثم فإن مطلع النص يتصاعد ويتشعب ليُظهر غربة الفرد بشكل مرعب(1):
حين فقدْنا الرضا
بما يريدُ القضا
لم تنزلِ الأمطارْ
لم تورقِ الأشجارْ
لم تلمع الأثمارْ
حين فَقَدْنا الرضا
حين فَقَدْنا الضحكا
انفجرتْ عيوننا... بكا
حين فقدنا هدأةَ الجنبِ
على فراش الرضا الرحْبِ
نام على الوسائد
شيطان بغضٍ فاسدٍ
معاً نقي، شريكُ مضجعي، كأنما
قرونُه على يديْ
حين فَقَدْنا جوهر اليقينْ
تشوَّهَتْ أجِنَّةُ الحبالى في البطون
إن افتقاد الرضا تمهيدٌ لافتقاد عناصر حيوية هامة في الحياة (الضحك، وهدأة الجنب)، وفراش الرضا الرحب، الخ....)، حيث هذا الافتقاد هو بالضرورة تمهيدٌ لزوال حرية الفرد في ساحة الواقع الذي أنتج أشكالاً متنوعة للعذاب وما ينطوي تحتها، حيث (الأشجار، والأمطار، والأثمار)، شكْلُ العالم المثالي المنشود بما تحمله من رمز للخير والعطاء، بيد أن فقدان الرضا قد حَجَبَ ذلك الرمز، وأجبَرَهُ على التراجع لما يحمله من سمات قمعية، ثم إن الوصول إلى (جوهر اليقين) يعني الوصول إلى توازن للأنا ويفتح للفرد عوالم جديدة تقضي إلى السعادة والخير.
__________
(1) عبد الصبور، صلاح، 1972، ط2، المجموعة الكاملة، دار العودة، بيروت، ص 263-264.(1/220)
فالمريد عند المتصوفة في الأصل عندما يصل إلى ذلك (الجوهر) يقترب من (الذات الإلهية) ويحقِّقُ مراده بعد مجاهدات طويلة،أما الإخفاق في الوصول فهو العجز عن التواصل مع (الذات الإلهية)، وبالنتيجة يبقى (الحجابُ) قائماً بين (الصوفي) وتلك (الذات) ولا تحصل (المَشاهَدَةُ) وتظهرالعذابات من جديد، وتظهر معالم الضياع أيضاً، لهذا فإن (تشوُهَ أجنَّةِ الحبالى في البطون)، بعد فقدانِ (جوهر اليقين)، هو شكلٌ من أشكال التأزَّم الذي ينطوي على الضياع، ويعكس تشوُّه القيم التي يحملها المجتمع، والتي أثَّرَتْ قهرياً في الفردِ فحالت دون طمأنينته واستقراره ودون تحقيق ذاته بالشكل الأمثل.
إن (الشيطان) بالمفهوم الصوفي هو عاملَ (قمعِ) أيضاً يقف أمام (الصوفي) حجاباً، فالشيطان هو (النفس) بما تحملها من شهوات وأدران، وهكذا فإن الشيطان تمثيلٌ للقبح بل هو سبب القبح.
في المقطعين الثاني والثالث من القصيدة يعرض (صلاح عبد الصبور) بشكل واضح لصورة الإنسان المقموع الذي أُلْغِيَ دورهُ من ساحة الحياة،وعُطِلَتْ إرادته عن السمع وعن النظر وعن اللمس وعن الكلام(1):
احرصْ ألا تسمعْ
احرصْ ألا تنظُرْ
احرصْ ألا تلمسْ
احرصْ ألا تتكلمْ
حيثُ يشكِّلُ الحرص علىعدم القيام بهذه الأفعال الإرادية(تسمع، تنظر، تلمس، تتكلم)، صورةً من صور إرضاء منظومةٍ سلطوية، بيد أن هذا (الحرص) هو (كبت) بالضرورة، كبتٌ لتلك الأفعال، وكبتٌ لرغبات الفرد وحريته، ذلك الفرد الذي بدأ يشعر أنه بحاجة الموت للخلاص مما هو فيه(2):
تعالى الله، هذا الكونُ موبوءٌ، ولا بُرْءُ
ولوينصفنا الرحمن عجّل نحوَنَا بالموتِ
تعالى اللهُ، هذا الكونُ لا يصلحه شيء
فأينَ الموتُ، أينَ الموتُ، أين الموتْ
__________
(1) المصدر السابق، ص 264-265.
(2) المصدر السابق، ص 267.(1/221)
- يقترب مفهوم المعذب في المقطع السابق من /المنسحق/ حيث اتسعت دائرة الإحساس بالموت (هذا الكون موبوء)، ومن ثم تعاظمت حالة الصراع الداخلي العميق لإنجاز عالم مثالي، ولإنجاز ذات متوازنةٍ مع المحيط.
إن السؤال المتكرر عن الموت هو هربٌ حادٌ من الواقع، إشارة إلى أن هذا الواقع قد تراكم، فيه الكثير من السلبيات وتفاقم القبح إلىدرجة لا برء منها.
ويبدو أن تعميم الفساد ليشمل الكوني إنما هو تعميم (للسوداوية) كحالة نفسية انطوت تحت الشعور بـ (العدمية)، إذ إن فقدان الطمأنينة من الواقع المحيط قد تعمم، فأصبح الكون كله عامل ضياع للفرد، وبؤرة كبرى للفساد.
أما المقطع الخامس، والأخير في النص فإنه يقدِّم صورتان رئيستان من صور العذاب وهما الاستلاب والغربة وما ينطوي تحتهما.
إذ يجسِّد تراجع العلاقات الإنسانية الجميلةوصعود العلاقات الفاسدة القائمة على الغش والخداع، حيث يشكل /السوق/ في هذا المقطع ساحة لتلك العلاقات ونموذجاً لها(1):
ونزلنا نحو السوق أنا والشيخ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن
يلتف على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلبْ
عجباً،...
زوْرُ الإنسان الكركي في فكِّ الإنسان الثعلب
نزل السوقَ الإنسانُ الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
حيث يعرض المقطع السابق مسألة القوة والضعف التي تحدث في مجتمع مُصَغَّر (السوق)، حيث تصعد هنالك حرية الفرد علىحساب حرية آخر، وهذا ينمُّ على مجتمعٍ موبوءٍ بالمفاسد والشرور، يؤثر في الفرد، ويستلب منه ذاته،ويجعل منه غريباً عمَّا يحدثُ، فبعضُ الأفراد يقعون فريسةً لهذه العلاقات، مما يجعلهم مُسْتَلبين في مختلف المستويات، ومن ثم يظهر الاغترابُ، الاغترابُ الذي يأخذ أبعاداً وجودية مؤلمة.
يا شيخي الطيب!
هل تدري في أي الأيام نعيش؟
هذا اليومُ الموبوءُ هو اليوم الثامِن
من أيام الأسبوع الخامس
في الشهر الثالث عشرْ
__________
(1) المصدر السابق ص 267-268.(1/222)
هي حالةٌ الإنسان الضائع المغترب عن الوجود الذي يعيش على هامش زمنٍ، ليس لهذا الزمن وجود أيضاً، فاليوم الثامن والأسبوع الخامس والشهر الثالث عشر، أزمنة لا وجود لها عملياً، لأن الواقع المفروض قد فرَّغَ الزمان من محتواه (الجميل) وجعله هامشياً، ولا معنى له، بل إنّه وقتٌ غريب من رؤيا الشاعر الحقيقية.
إن (بشر الحافي) و(بسام الدين) يمثِّلان الصورة النقية الجميلة التي وَعَتْ القبحَ في الواقع عبر معطيات كثيرة تُعَبِّر عن ذلك القبح (شيطان بغضٍ فاسد، الكركي، الثعلب، الكلب، الأفعى، الخ....).
نبقى في مصر، لنرى أن الشاعر (أمل دنقل)، يميل إلى استخدام الأشياء والعناصر التي نتعامل معها يومياً، ولكنه يستخدمها بصورة قبيحة، فهي تدخل في معطيات العذاب (طاحونة، نوافذ، قطار، مقعد، القاطرة، الحائط،...الخ.....) وهو يميل أيضاً إلى الشخصيات الأسطورية والتاريخية في شعره ويسقطها على الواقع بصورة معذبة. (أبو موسى الأشعري، زرقاء اليمامة، إيزيس، المتنبي....)، وتظهر في أشعاره صورة (السوداوي العدمي) كأحد تجليات المعذب الرئيسة، وقد نَتَجَتْ هذه الصورة عن عدة عوامل يأتي على رأسها الشعورُ بالرعب الحضاري وبمخلْفات الحضارة المخيفة، والشعور بالغربة وبالقمع أيضاً:(1)
تأكلنيْ دوائرُ الغبارْ
أدورُ في طاحونةِ الصمتِ، أذوبُ في مكانِيَ المختارْ
شيئاً فشيئاً... يختفي وجهي وراء الأقنعهْ
أعمدةُ البرقِ التي تطلُّ من نوافذِ القطار
كأنها سرْب إوز أسود الأعناقِ
يطلقُ في سكينتي صرخته المروِّعة
ويختفي... متابعاً رحلته مع التيار.
__________
(1) دنقل، أمل 1973، البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، دار العودة، بيروت، ص 89.(1/223)
لعل ظاهرة (تعطيل الإرادة) هي الحالة الواضحة في النص (تأكلني دوائر الغبار، أدور في طاحونة الصمت)، وتنطوي حالة (تعطيل الإرادة)، على ظواهر أخرى كالخوف والسوداوية، فالإحساس بأن (أعمدة البرق) هي مصدر للصراخ وللخوف يفضي إلى الشعور بعدم الطمأنينة والقلق، ويستند هذا الشعور بالضرورة إلى مرحلة خوف سابقة ذات منشأ حضاري، ذلك أن الشاعر يتعامل مع (القطار) الآلة المادية، أحد منجزات الحضارة، من خلال شعور خفي بالخوف من هذه الآلة. ويستخدمها منطلقاً للخوف من أشياء كثيرة وظواهر مختلفة أنجزها العصر.
هذا ما يفرضه سياق النص من خوف وقلق وتعطيل إرادة، فالشعور بالسكونية هو حالة ذهول مما يجري في العصر، فالبرق حالة عامة تجري في أي مكان وأي زمان، بيد أن اقترانها بمنجزات العصر المذهلة والضخمة قد أنتج ذاتاً غير متوازنة على الصعيد النفسي.
أما (محمد الفيتوري) الشاعر السوداني، فقد عاش الغربة والهجرة منذ طفولته، متجولاً من بلد إلى آخر، تستقبله عاصمة، وتطرده أخرى، وعاش أيضاً أحداث الحرب العالمية الثانية، ولاسيما الغارات الألمانية على الاسكندرية التي كان موجوداً فيها آنذاك، وقد خلَّفَتْ هذه الحرب في ذاته مشاعر القلق والحزن والتوتر، ومشاعر الموت والغربة.
أضفْ إلى ذلك فقد عانى (الفيتوري) من مشكلة اللون التي تبعْتْهُ طوال أيام حياته، فقد تطورت الغربة لديه أيضاً حتى انطوت تحت الشعور بالعدمية وبالموت(1):
يومَها كانتِ الشمسُ
مذبوحةُ في دمي
وأنا أتقاطرُ نشوانَ بالحزنِ
فوقَ الطريق
انظريني
أنا ملك الغربةِ المتقاطرِ بالحزنِ
فوق تراب الطريق
__________
(1) الفيتوري، محمد، 1979، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، ص 137.(1/224)
تنطوي (الغربة) في النص تحت الإحساس بعدمية الحياة (الشمس مذبوحة في دمي)، ذلك أن الإحساس بموت الشمس، هو شعور بافتقاد كل مظاهر الحياة والخير والعطاء والجمال، وشعور بتصاعد القبح وافتقاد الطمأنينة والقلق والسوداوية، ثم إن ارتباط (الشمس المذبوحة) بـ (دم الشاعر)، يفضي إلى الحدّة في التحول من حالة مستقرة إلى أخرى مرعبة.
ويمكن أن توحي (الشمس) بالمستقبل المشرق الذي انعدم نتيجة لوصول الشاعر إلى اليقين بأنه لم يعد قادراً على مجاراة الحياة التي ستمنحه مستقبلاً مشرقاً.
الفصل الثاني
السمات الفنية لصورة المعذب
في شعر الحداثة
1- البناء الفلسفي:
ترتكز نصوص المعذب الفلسفي الشعرية على المقدِّمات والنتائج وعلى المبالغة في تجريد الأشياء عادةً، بيد أن سمة (الانفعالية) لا تختفي من هذه النصوص، لأن تلك المقدِّمات والنتائج والمبالغة هي نتاجُ تجربة إنسانية انفعالية في آن، ولكنَّ نصوصَ العذاب الحياتية التي وقفْنا عندها سابقاً تُظهر السمة(الانفعالية) بصورة أوضح، لأن لحظةَ انبثاقِ النص هي لحظة انفعاليةٌ تتناسب طرداً والحالة الموجودة في تلك اللحظة.
إن نصوص العذاب الحياتي عادة ما تكون قهريةً، بمعنى أن الحالة هي النص، والنص هو الحالة، ولا انفصام بينهما، ولا يستطيع الشاعر الفكاكَ من اللحظة الشعرية حينئذٍ، وأما نصوص العذاب الفلسفي فليست بقهرية بل هي كما أشرْنا نتاجُ تجربة وتفكيرٍ سابقين.(1/225)
ويمكن /للمعذب فلسفياً/ أن يُنتِجَ صورةً ذهنية، وربَّما تصل تلك الصورة إلى حالةٍ من حالاتِ التوهُّمِ، وفي هذا يقول الدكتور خليل موسى: "أما التوهمُ فمادي آلي سلبي لا يعتمد على حالة الفنان العاطفية، وإنما يحاول العقلُ فيه مجرَّداً من العاطفة أن يربط ربطاً منطقياً تجميعياً بين الأفكار والموضوعات الجزئية، فينتج مجموعة من الصور الجامدة منفصلة الواحدة منها عن الأخرى، مكدَّسة بعضها فوق بعض. والشعر الذي يصدرعن التوهم صورٌ وأفكار مفككة، قد يتحقق فيما بينها تناسق فكري أو منطقي آلي، وقد ينشأ بينها علاقات مصدَرها العقل الصرف، ولكنهاتبقى جزئيات باردة لا عاطفة فيها تنفصل كل صورة فيها عن الأخرى"(1).
أما الصورة الحسية فإنها تبرز في نصوص /المعذب حياتياً/، "فإذا كانت الصورة الذهنية تقوم على ترجيح المعطيات الخيالية التي تفرزها العلاقة بين عناصر الصورة، والتي تجهد أن تجرِّدها من الحدود المؤطرة للمكان والزمان، فأطلقتْ دلالاتها التي امتدت مع الخيال إلى حدوده القصوى، فإن الصورة الحسية تقوم، في الأساس، على إمكانيّة تحقُّقِها في العالم المادي المعروف"(2).
إن تجليات /المعذب الفلسفي/ في شعر الحداثة تقترب من تجلياته عند المعذب (حياتياً)، فالشاعر الذي يعرض لنماذج (معذبة حياتياً) في نصوصه، يمكن له أن يعرض في بعض النصوص (لنماذج معذبة فلسفياً)، ويتفاوت هذا العرض من شاعر إلى آخر، غير أن معظم الشعراء قد تحدَّثوا عن فكرة الموت واليأس في هذا العذاب.
__________
(1) موسى، خليل، 1994، وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ص 31.
(2) جابر، يوسف حامد، قضايا الإبداع في قصيدة النثر، ص 149.(1/226)
إن الشاعر (أدونيس) من أكثر شعراء الحداثة عرضاً لذلك المعذب، وتتعدد لديه طرق بناء النص الشعري فلسفياً وأساليبه، ومن هذه الطرق المحاولات الحثيثة لاستدراج المجرد الذهني إلى حيِّزِ التجسيد والتشخيص، كذلك فإن "هناك عدداً من القصائد في شعر أدونيس تتميز ببنية خاصة تتمثل في التمركز حول نقطة معينة. ثم تمتد القصيدة أو تتسع دائرتها بتتبُّع المنظورات المحتملة لهذه النقطة. هذه الظاهرة البنيوية لها جذورٌ ولكنها بسيطة في شعر أدونيس المبكِّر، إلا أنها بدت أكثر تطوراً في مراحل شعرية مختلفة.(فهذه الظاهرة في مراحل متأخرة من شعر أدونيس:
(تكشف عن مهارة شعرية كبيرة، وعن قدرة كبيرة في التحليل، كما أنها (هذه الظاهرة) تتواجد حيث يغيب الحس الحكائي أو القصُّ في شعره، حيثما يبتعد أدونيس عن الأطر اللغوية والشكلية والتراثية. باختصار إن هذا النمط من القصائد القصيرة يعكس جهداً عقلياً مركّزاً، وربما تكشف عن تخطيط فكري واعٍ للعمل الشعري أو عن حدْس فني مصقول"(1)، كذلك فإننا نرى في قصائده استخدام المقدّمات والنتائج كظواهر فلسفية تعتمد على التركيبات المنطقية.
من صور اليأس عند أدونيس نختار قصيدة /حدود اليأس/ يقول فيها(2):
ماشٍ على أجفانه سادراً
يجرُّه مديدُ آهاتِهِ
تلطمه الحيرةُ أنّى مشى
كأنها سكنى لخطواته
علَّق بالغيبِ، فأجفانُه
رمليةُ الأفق
كأنما، من يأسهِ، شمسُهُ
تغيبُ في الشرق
يكابد في مثقل أنّاتهِ
تعثُّرُ بالموت شرايينهِ
ويولد اللاشيءُ في ذاتهِ
__________
(1) الشرع، علي 1978، بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ص 97-98.
(2) أدونيس، المجلد الأول، قصائد أولى، ص 12.(1/227)
تنطوي الشخصية المعذبة في النص على حالة من اليأس (كأنما من يأسه، شمسُه تغيب في الشرق)، الذي وصل إلى حافة الموت (تعثُّر بالموت شرايينه) غير أن تلك الحالة معروضة بصورة فلسفية، بل بصور فلسفية متعدّدة الوجوه تتركز في الملامح التالية:
1 - استخدام الأضداد والربط بينها بصورة تدل على استخدام مباشر لمعطيات العقل، التي تقوم على الربط وعلى المقدمات والنتائج كما في (كأنما من يأسه/شمسُه تغيب في الشرق)، وفي (يولد اللاشيء في ذاته) فالمرء يظن للوهلة الأولى أن هناك صورة في (شمسُه تغيب في الشرق)، غير أن الأمر يشير إلى أن المؤثرات العقلية المحض التي تدخلت في هذا التركيب قد أبعَدْتْهُ عن حيز الصورة الشعرية الأصيلة، وأحالته على بناء يشير إلى فعل عكسي للشمس ليس إلا، وهو (غروبها في الشرق).
إن التركيب السابق يقدّم إيحاء ضيقاً جدّاً، بل احتمالاً وحيداً، ويقترب هذا التركيب من المفاهيم والمعادلات العلمية، فهو ليس سوى معادلة مقلوبة لعمل الشمس.
أما تركيب (يولد اللاشيء في ذاته) فيمثلُ بناءً متناقضاً جداً، ونقول: إن التناقض من سمات الفن، غير أن التناقض هذا قام على النظير المطلق (للولادة) وهو (اللاشيء) الذي ينبئ بالموت، ثم إنّ (اللاشيء) حالة ضد (الشيء)، فالكلمة في ذاتها (اللاشيء) تُبرز -ضمن السياق- إعمالاً كبيراً لمنتجات الفلسفة المحض، لإنتاج ذلك البناء (يولد اللاشيء في ذاته)
-2- المبالغة في التخييل إلى حد التجريد، (ماشٍ على أجفانه سادراً، أجفانه رملية الأفق، تعثُّرُ بالموت شرايينَه)، فهذه الصورة من الصعب إسقاطها على أرض الواقع، لتشكل بناء حسياً مجسَّداً، فهناك اعتماد كبير على (التذهن) في تكوين هذه الصور بشكل يتناسب والحالة التي تنبئ بتأزم نفسي قائم على اليأس، وهذا يؤثر في الكتابة الميكانيكية (حالة التداعي) للنص من جهة ثانية.(1/228)
أما النص الثاني فهو للشاعر (يوسف الخال) يقول فيه(1):
والآن أحضنُ الهمومَ والجنونَ
في موانئ الزحام أحتمي
أحملُ من قرارة البقاء أيّةً أخيرةً:
وجودُنا انتظارُ ما يجيءُ
حين لا نكونُ في انتظارهِ
نهايةُ المسيرِ قمةٌ
ونحن لا نسيرْ
نَظلُّ في السفوح كومةً
تزحف أو تموت:
ينسج ثوبَها الأخيرَ عنكبوتْ
ولا يُقال للجبال انتقلي
إلى البحار أو فأقْبلي
وابتدئي الحياةْ:
يشكل النص حالة من حالات الضياع والقلق من الآتي ومن المجهول، وينطوي على رؤيا للوجود، رؤيا خاصة بالشاعر.
إن تلك الرؤيا للوجود الإنساني (وجودُنا انتظار مايجيء/ حين لا تكون في انتظاره) هي نتاج تجربة إنسانية فردية عاشها الشاعر، وكأننا أمام (حكمة) جاءت نتيجة لتأملات طويلة ولمعاناة طويلة،وهنا مكمنُ الظاهرةِ الانفعالية التي اعتمَدَتْ على المعاناة، بيد أن هذه الانفعالية تختلفُ عن تلك الموجودة في نصوص (المعذب حياتياً) لأسباب ذكرناها سابقاً.
لقد اعتمدت (الحكمة) السابقة على المقدمة وعلى النتيجة كسائر الحِكَم الأخرى، (فوجودُنا انتظار ما لا يجيء)، هي النتيجة، ومن ثم كانت المقدمة (حين لا نكون في انتظاره)، بيد أن النتيجة قد سبقت المقدمة، ولا ضير في هذا.
ويبرز في النص أيضاً استخدام العلاقات المتضادة لبناء الحدث (نهاية المسير قمة/ ونحن لا نسير)، ويتوضح هذا التضاد في المنحى الإيجابي للمسير وفي نقيضه، أي المنحى السلبي (ونحن لا نسير)، وعليه فإن تجليات المعذب عند (المعذب حياتياً والمعذب فلسفياً) هي ظواهر أصيلة قائمة على حامل اجتماعي أصيل، غير أن هذه الأصالة تتفاوت بين طرفي العذاب /المعذب حياتياً، المعذب فلسفياً/، وذلك لصالح (المعذب حياتياً)، لأن البناء الانفعالي يُظهر بجلاء العمقَ النفسي الموجود عند ذلك (المعذب).
__________
(1) الخال، يوسف، الأعمال الكاملة، ص 326-327.(1/229)
إن التخييل المبالَغ فيه (إلى حد التجريد)، يُذهِب الكثير من (الأصالة) عند (المعذب فلسفياً).
ومن ذلك نرى الشاعر (عبد القادر الحصني)، الذي يعرض للموت بأسلوب فلسفي لا يخلومن المقدمات والنتائج والنسيج الصوري المبالغ فيه، فيقول في قصيدة (تشكيلات للزمن)(1):
بين ارتعاش البدء، وانكسار اللحظة -الطريقْ-
يدبُّ في الأعصاب فصلُ الموت، والحريقْ
يمدُ خيطاً واهن الخطا،
مقوَّس الظهر إلى الشعورْ
والنبضُ في الفراغ سلْك ليّنٌ
يميلُ
ينحني
يدورْ
إن الملمح الأساسي للعذاب في النص ينطوي على صورة الموت وهي تدب في الأعصاب، عبر الإرهاصات الأولى له، والتي ستكبر لاحقاً، (يدب في الأعصاب فصل الموت، يمد خيطاً واهن الخطا).
أما ظاهرةُ العذاب الفلسفي فإنها تَتَوضَّحُ في المقطوعة بدءاً من (خيط الموت المقوّس الظهر)، ذلك أن هذه الصورةَ بعيدةُ المنال عن الإسقاط الحسي على الواقع لما تحمله من تخييل بعيد قرَّبَها من التذهن.
كذلك فإن صورة (النبضُ في الفراغ سلكٌ ليِّن)، تنبئ بحالة مماثلة لسابقتها، فالعلاقة بين النبض والسلْك اللين تحتاج تفكيراً عميقاً كي تسهم في تكوين الصورة من هذين الحقلين الدلاليين البعيدين (النبض، السلك).
إن (الموت) عبر هذا السياق التخييلي، أكَّدَ حضوره على الصعيد الفلسفي فمنذ أن افتتحَ الشاعرالقصيدة بـ (انكسار اللحظة) و(فصل الموت)، يدخلُ المرءُ حالةَ فلسفية الموت، ذلك أن المرء عندما يتلقَّى تركيب (فصل الموت) فإنّه ينتقل بمخيلته إلى جواء مؤطَّرة لها بداية ولها نهاية كجزء من أجزاء (الكتاب).
__________
(1) الحصني، عبد القادر، 1976، بالنار على جسد غيمة- مطبعة ابن الوليد- دمشق ص 25.(1/230)
وكذلك فإننا نلمح صورة (المعذب الفلسفي) في قصائد لشعراء آخرين كميشال سليمان ومصطفى خضر، وحسين حموي، وعلي الجندي، إذ تتبلور لدى هؤلاء الشعراء بعض المعطيات الفلسفية التي تبرز في قصائد المعذب فلسفياً، إذ نرى استخدامات على مستوى عال من الذهنية، إضافة إلى استخدام النظائر والأضداد، التي توحي في بعض الأحايين بأننا أمام مسألة علمية، فنرى حسين حموي يقول(1): (أقتطع خلايا من جسدي وأُسارِرها تحت المجهر، ماعادت أنسجة الجلد العليا تُغْنْي عن كشف الأنسجة السفلى)، وهذا علي الجندي يقول أيضاً(2)(أزيل خيالكِ الممهور بالنار الرمادية، أحاول أن أهدِّ جدارِكَ ا لمبنيَّ من لبنات آثامي على صدري) وهذا مصطفى خضر أيضاً يقول(3) (طرّزتُ أمعاء ضميرِ الكلمة، أطنبْتُ في وصفِ سراويل الأميرة)، وكذلك نرى ميشال سليمان يقول(4): (مجاذيفُ الموج الشقي المزمعاتُ هوّى، يسلُّ المرْوَ من شط الهجوع، تهدهدها نهود الريح)الخ...
-2- الرمز والأسطورة:
__________
(1) انظر، حموي، حسين ديوان قابيل وسِفَرْ البحر ص 22.
(2) انظر، الجندي، علي، ديوان الحمى الترابية ص 100..
(3) انظر خضر، مصطفى 1985 ديوان رماد الكامن البشري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ص 142.
(4) انظر، سليمان ميشال 1970، ديوان النار والأقدام الجائعة دار لسان العرب- بيروت- لبنان ص 27-28-29.(1/231)
لقد استعمل شعر الحداثة الأساطير، لاسيما أساطير الانبعاث لما تحمله من قدرات تنفيسية، فهذه الأساطير تمنح الشاعر قدراً من الأمل بالخلاص من مشكلة ما، بيد أنها تبقى ظاهرة فنية أو حلماً لم يتبلور على أرض الواقع، وهذا ما حدث فعلاً عند الشاعر (خليل حاوي) على سبيل المثال، حيث "تمتلك الأسطورة -كما في الحلم- بنية خيالية عميقة تكوّن فكرَ الأسطورة، وعملُ الأسطورة مثل عمل الحلم وهو أن يحوِّل هذه الخيالات إلى شكل مقبول للأنا أو للذات، يُصنع المحتوى الظاهر للأسطورة -مثل الحلم- من عناصر مأخوذة من الحياة اليومية وخبرات الشعوب، وكذلك من المادة التي تُنْظَر عموماً باعتبارها ملائمة لخلق الأسطورة، وتختلف الأسطورة عن الحلم فيما يختص بالجماعة الاجتماعية، في أنها تمتلك شكلاً خارجياً ممتداً قابلاً للتعديل مع مرور الزمن، ويخضع بالتالي لتنوعات مختلفة"(1)
قبل أن نصل إلى تعريف (الرمز الأسطوري) نودُّ أن نربط بين (الرمز) و(الأسطورة)، على الصعيدين النفسي والاجتماعي، إذ يبدو أن "وظيفة تكوين الرمز هي ربط وإفراغ الطاقة النفسية، ففي التجارب التي مُنِعَ فيها الشخص من الحلم، بإيقاظه لحظة بداية الحلم، كانت النتيجة إصابته بقلق وعدم ارتياح، ويبدو أن إحدى وظائف الأسطورة والشعائر والطقوس، هي ربْط الطاقة التي سوف تنفث القلق غير المحتمل للوصول إلى عواقب اجتماعية مرغوبة”(2) وعليه فإن للرمز وللأسطورة وظائفُ نفسية ذات أهمية بالغة، وخاصة في العملية الفنية الإبداعية.
__________
(1) عدد من الباحثين، 1994، سحر الرمز، ط1، مقاربة وترجمة: د. عبد الهادي عبد الرحمن، دار الحوار، اللاذقية، ص 185.
(2) المرجع السابق، ص 189.(1/232)
أما (الرمز الأسطوري) فيمكن تعريفه في مجاله الفني "بأنه تجسيد شعوري حيوي، لكلية الشاعر، في تجربة ما، أُريدَ منه تكثيف التجربة الإنسانية وتعميمها، والإيحاء بظلالها، في الوقت الذي يعجز فيه أي أسلوب آخر، عن أداء ذلك”(1)، لهذا فإن شعراء الحداثة لاسيما المعذبين منهم، عندما اتجهوا إلى (الرمز الأسطوري) أرادوا إظهار تجربةٍ إنسانية قديمة وإسقاطها بصورة معاصرة على واقع آخذ بالانهيار والتداعي، ومن ثم تحقيق حالةالحلم التي ترتكز على معطيات مشرقة في الماضي تتمثل بأساطير الانبعاث ذلك أن "عالم الرمز الأسطوري في القصيدة المعاصرة يقوم أساساً على التذكر والتداعيات المبنية على الأحلام والتخيلات، فإذا كان الحلم عند الإنسان العادي في نَظَرَ التحليل النفسي هو تحقيقٌ لرغبةمكبوتة في منطقة اللاشعور، فإن حلم الشاعر، والفنان على وجه العموم يتحقق فيما يبدعه من نتاج فني يجده سبيلاً ليفرغ فيه شحنته النفسية والفكرية على حد سواء، وهذا يعني أن الشاعر يعتمد على مخيلته في استقراء ما ابتدعته الثقافة الأسطورية والتجربة الوجدانية، التي تستثير في الشاعر خياله المبدع الناتج من الحدس التصوري، فتعطيه قوة انفعالية تستقر في تجربته لتمنح حياته أهمية خاصة"(2).
__________
(1) كليب، سعد الدين، الرمز والأسطورة، ص 61.
(2) فيدوح، عبد القادر، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، ص 400.(1/233)
إن الآمال المقموعة لشاعر الحداثة في هذا القرن الممتلئ بصور الخوف والموت والتناقضات، لابد لها من مواز يدعو إلى التفاؤل، مواز على قدر كبير من القوة والحيوية متمثلاً بآلهة الانبعاث في الفكر الأسطوري القديم فقد، "اتخذ الشاعر المعاصر الرمز الأسطوري أداة تعبيرية لمعاناته الفكرية والنفسية، وبقدر ما أُعيقت رغبات الشاعر، ولُجمت آراؤه بقدر ما وجد في ذلك متنفَّساً لآلامه وآماله الحبيسة التي جسدها في الأحداث التاريخية، إذ توغل في شعره الرمز الأسطوري، وذلك بعد أن أدرك الشاعر مافي هذا التوظيف الدلالي من قيمة فنية يتقمصها، حتى يستطيع التوفيق بين توظيف الرمز الأسطوري والمحتوى الدلالي الذي يحمله هذا الرمز(1).
إن كلمة (انبعاث) التي سترافقنا مطولاً في حديثنا عن الرمز الأسطوري في نصوص /المعذب/ في شعر الحداثة، توحي بالأمل، وهذا يتنافى مع مفهوم /المعذب/.
المرادف لمعنى /افتقاد الأمل/، غير أن سياق الحياة الاجتماعية لشعراء العذاب في شعر الحداثة من جهة، وسياق النصوص الشعرية من جهة أخرى، يوحي بأن كلمة (الانبعاث) لم تتعدّ إطار الحلم بالخلاص، فمن يقرأ -على سبيل المثال- نصوص (حاوي) وبعض النصوص عند (الخال) يدرك صحة ما أشرنا إليه، ثم إن النهاية المرعبة (لحاوي) تفضي إلى أن الانبعاث لديه هو نوع من السخرية المرة من الخلاص، فظهر الموت الحضاري لديه، الذي وقفنا عنده سابقاً في حديثنا عن تجليات المعذب في شعر الحداثة.
__________
(1) المرجع السابق، ص 407-408.(1/234)
وجاءت أسطورة البعث رمزاً حضارياً موازياً ومعادلاً للموت الحضاري، "إننا نفهم من تحويل الأسطورة إلى رمز حضاري أن تخرج الأسطورة عن دلالتها الأسطورية التاريخية البدائية إلى دلالة جديدة يتفتح في قلبها مضمون وجداني فكري أو فلسفي، أو اجتماعي يستمد عناصره من مكتسبات الحضارة بوجهها الإيجابي"(1)، غير أننا من المفترض أن نضع في حسباننا أمراً ذا أهمية بالغة، وهو أن شعراء العذاب في شعر الحداثة لم يكتفوا بأساطير الانبعاث، بل أتوا بالأساطير التي تحمل في طياتها شخصيات معذبة، كشخصية سيزيف- على سبيل المثال-.
إن ظاهرة الانبعاث الأسطورية التي اتسم بها المعذب خاصة، تعكس حالة الموت التي يعانيها على الصعيد النفسي والتي ستتطوّر لتصبح حالة موت حقيقية على الصعيدين المعنوي والجسدي، فالموتُ -لا شك- مرتبط بالأسطورة، "بل هو من أكبر المفجرّين للأسطورة.
وهذا يعني أن الاعتماد الفني على الموت يهبه قيمة جمالية فائقة، باعتباره بالقصيدة ينأى عن الواقع المعاش، ويُدخل القارئ في عالم آخر، مهما قيل إنه معادل للواقع، فإنه يبقى عالماً آخر ومن هذا العالم الأسطوري يستطيع الشاعر أن يضمن لقصيدته وشعره مخملية خاصة، قد يعجز عن توفيرها في تعامله مع الواقع"(2).
أضف إلى ذلك أن شعراء العذاب قد مالوا إلى استخدام بعض الشخصيات المعروفة من تاريخنا العربي وجعلوها رموزاً، وذلك من خلال إسقاطها بصورة معاصرة على الواقع عبر ما تحمله من ملامح تعزّز ظاهرة العذاب لديهم، كالحطيئة، وأسماء، وخولة، وأبي ذر الغفاري، إلخ.. حيث تبدو هذه الشخصيات في مسيرة حياتها التاريخية غير معذّبة، غير أنّ إسقاطها على واقعنا المعاش يحمّلها الكثير من العذابات، كما أنها في بعض الأحايين تُعمّق الإحساس بالعذاب من خلال الرؤيا المستخدمة في النصوص الشعرية.
__________
(1) مروة، حسين، دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي، ص129
(2) الموقف الأدبي، حنا عبود، ع 175- ص46(1/235)
نستهل حديثنا عن (الأسطورة والرمز) في تصوير (المعذب) في شعر الحداثة بالوقوف عند الشاعر (خليل حاوي) في ديوانه /نهر الرماد/، حيث الشعر في هذا الديوان "قد تخلّص من آلية الصور القديمة المجرّدة وجمودها، واعتمد في غوصه الوجودي، على تجسيد التمزقات البشرية الهاربة المتطورة، كما أنه اعتمد الرموز الكثيرة لخلق هذه العوالم الغامضة، وكان في كل ما تقدم من تجديدات مستحدثة رائد الثورة في الأدب عندنا"(1).
أما النص الذي سنقف عنده لهذا الشاعر فهو بعنوان /بعد الجليد/ إذ، يستخدم فيه أسطورة تموز، إله الخصب، في الفكر الأسطوري الشرقي بإسقاط معاصر على أرض الواقع فيقول(2)
يا إله الخصب، يا بعلاً يفضُ
التربة العاقر
يا شمس الحصيدْ
يا إلها ينفضُ القبرَ
ويا فصحاً مجيد،
أنت يا تموز، يا شمس الحصيدْ
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عقمٍ دهاها ودهانا،
أدْفئ الموتى الحزانى
والجلاميد العبيدْ
عبر صحراء الجليدْ
ينطوي العذاب في النص على الشعور بالموت الشامل الذي أصاب كل شيء، انطلاقاً من ذات الشاعر حتى وصل إلى أماكن بعيدة، ودخل عوالم من الصعب أن نتكهن بها (عالم الموتى).
إن (تموز) الممثّل لحالة الانبعاث في وجه ذلك الموت الشامل، يشعّ على أرجاء النص التي تحمل جزئيات الموت (عروق الأرض، عقم، الموتى، الحزانى، الجلاميد العبيد)، على أمل أن تعود الحياة إلى تلك الجزئيات والعناصر.
لقد وضع الشاعر في النص بعض الحالات التي تبرز أقصى سمات الموت، (التربة العاقر، عقم الأرض)، فمن المستحيل على الكائن البشري إعادة الحياة والانبعاث إلى تلك الحالات، وهنا مكمن العذاب، لذلك فقد أتى الشاعر بالإله (تموز).
__________
(1) حاوي، خليل/ الأعمال الكاملة/ عفاف بيضون/ مقالة (التطور في شعر خليل حاوي) ص377
(2) حاوي، خليل، الأعمال الكاملة، ص89-90(1/236)
إن إعادة الحياة والانبعاث إلى (التربة العاقر) وإلى (الأرض العقيمة) أمرٌ كامن في يد قوى جبارة خفية، قوى إلهية تمثّلت هنا بإله الخصب (تموز)، فالفعل (يفض) المقترن بإله الخصب هذا جاء موازياً لمعنى (إعادة الحياة)، أي ولادة جديدة في كل شيء، وتحمل ظروف الحضارة والمدنية كلها.
لقد ترافق أيضاً ظهور تموز (إله الخصب) بظواهر إيجابية كمنطلق لإعادة بناء ما هُدّم (الشمس، والفصح المجيد، والدفء، والخصب)، غير أن تلك الظواهر إذا ما قورنت بالسياق العام لحياة (خليل حاوي) فإنها لم تفعل أي شيء يوحي بالسعادة وبالطمأنينة، بل إن الإحباطات التي تعرّض لها (حاوي) مراراً، جعلت من (تموز) وهْماً في نهاية المطاف.
ولعل تركيب النص بشكل عام على صعيد الحالة، ينبئ بصورة مرعبة، لا يمكن لأي صورة مشرقة أن تحلّ مكانها، حيث توضّح هذا الأمر في قصيدة /العازر/ التي تشير إلى انبعاث مشوّه، حيث سنقف عند هذه القصيدة مطولاً في حديثنا عن (النموذج الفني).
كما أن تكرار حرف النداء (يا) كثيراً في النص وارتباطه بإله الخصب (تموز) يدلّ على تمنّ منْ ذلك الإله أن يقوم بفعل انبعاثي بصورة ملحّة، فالتكرار -بالنتيجة- هو إلحاح، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن ذلك الإلحاح يحمل في داخله حسرة الشاعر على الواقع المتردي والميت (حسب رؤياه).
أما أدونيس فإن نصوص الانبعاث لديه أكثر إشراقاً من نصوص (خليل حاوي) الانبعاثية، بيد أننا نرى أن (أدونيس) يميل إلى استخدام شخصيات أسطورية، ويُسقطها على الواقع فيجعل منها شخصيات معذبة على الرغم من أنها في أحداث الأسطورة ليست معذبة (كأوديس) الشخصية الرئيسة في ملحمة (الأوديسا)، كما أنه يستخدم شخصيات أسطورية هي في الأصل معذبة (كسيزيف) البطل العبثي، لهذا فإننا لن نقف عند نصوصه الانبعاثية التي يستخدم فيها عادة (آلهة الخصب) وسنقف عند نص لشخصية أسطورية عبر إسقاط ملامحها على البيئة المعاصرة بصورة معذبة.(1/237)
يقول أدونيس من قصيدة /ساحر الغبار/ مقطع /أرض بلا معاد/(1):
حتى لو رجعت يا أوديس
حتى ولو ضاقتْ بكَ الأبعادْ
واحترق الدليلْ
في وجهك الفاجع
أو في رعْبِكَ الأنيسْ،
تظلّ تاريخاً من الرحيلْ
تظل في أرض بلا ميعادْ
تظل في أرض بلا معادْ
حتى لو رجعتَ يا أوديس
إن أوديس شخصية أسطورية (بطولية) تنطوي في ظروف متفرقة من الأحداث الأسطورية على شخصية (معذبة)، بيد أن الشاعر عبر رؤياه لهذه الشخصية، جعل منها معذبة بصورة مطلقة، وتجلّى هذا العذاب في المقطوعة السابقة على شكل ضياع مستمر، فأوديس رمز الضياع والترحال، فجاءت رؤيا الشاعر المعاصرة معمّقة لحالة الرمز، ذلك أن هذه الحالة هي صورة الفرد المعاصر في القرن العشرين الذي يعيش الضياع والتشتت بأقصى أشكاله.
ينقسم النص إلى مستويين من الحالة تجْمُعُهُما بؤرة واحدة وهي (الحديث عن أوديس) رمز الضياع والرحيل.
أما المستوى الأول فيبدأ مع مطلع النص، حيث نجد تسهيلات أو محاولات إيجابية مفترضة لعودة أوديس إلى ساحة الاستقرار والطمأنينة، فالرجوع نوع من الاستقرار والأمان، وضيْق الأبعاد أمرٌ يوحي بالاستقرار وبمعرفة أبعاد المكان وينفي الضياع، غير أن هذا كله لا فائدة منه، لأن المستوى الثاني للحالة يبدأ من (تظلّ تاريخاً من الرحيل) فيُبرز أن الضياع والتنقل والتيه حالات متجذّرة عند (أوديس)، حيث لا فائدة من الرجوع ولا فائدة من ضيق الأبعاد، لأنه سيظل (في أرض بلا ميعاد) أي أرض ضائعة في طريقها إلى الزوال (إشارة إلى الواقع الحالي)، وكذلك الحال (في أرض بلا معاد) إشارة أيضاً إلى حالة التشتت على أكثر من صعيد.
__________
(1) أدونيس، المجلد الأول /أغاني مهيار/، ص396(1/238)
يبرز (المعذب) في النص السابق من خلال الحالات المتأصلة للضياع والرحيل، فالرحيل والضياع عبر سياق المقطوعة صورتان ممتدتان مدى الزمن، ومستقرتان، ولا أمل بالخلاص منهما، وعليه فإن صورة (الإسقاط) التي قام بها (أدونيس) لتلك الشخصية الأسطورية (أوديس) على ساحة الواقع قد عزّزت وكرست فكرة الرحيل التي تعكس حالة الفرد المعاصر، حيث جاء (الرحيل) ذا خلفية معنوية، إنه رحيل إلى المجهول، إلى مستقبل تظهر ملامح الرعب فيه، لأن معطيات الواقع المخيفة، تقضي بالضرورة أيضاً إلى ملامح المستقبل.
أما الشاعر (علي الجندي) فيبتعد عن رمز الشخصيات الأسطورية، ليتناول رمز المكان من جهة ورمز (المسيح) من جهة ثانية وذلك في نص واحد، حيث يزاوج الشاعر في النص الذي سنتناوله بعد قليل بين رمز المكان (غار حراء) ورمز (السيد المسيح) في علاقة غير مترابطة.
إنه يستخدم الرموز بشكل متوالِ مما يُفقد النص الكثير من طاقاته الفنية، ويُفقد الرمز أيضاً خاصيته المشبعّة على النص.
يقول (علي الجندي) في قصيدة /النشيد الثاني عشر/ من /مطوّلته/ قطري ابن الفجاءة(1):
تهلّ الغيوم على أرض صمتي دماء حزينهْ،
وينبت عشبٌ على قبر أحباب قلبي
ويرسل طيرُ البحار عبر الرياح شجونهْ
كأن المسيح انتهى ها هنا دون ذنب
وغارُ حراء يوزع حلوى العشاء الأخير
لأهل المدينهْ!
وتنبت أزهار شوكٍ على كل مخدع عرس،
وفي كل مهد،
وكل حديقةِ شوقٍ.. فتجتثُّ منها جذورَ
السكينهْ..
وتفرخ بالمطر الموسميّ.. ضروع العقاربْ
كأن وراء الفم العندمي.. رؤى ومخالبْ
__________
(1) الجندي، علي الحمى الترابية ص35(1/239)
إن (المسيح) رمز من رموز العذاب والخلاص في آن، كما لاحظنا سابقاً في حديثنا عن المعذب تاريخياً في المدخل النظري، فجاء في النص مخلّصاً، ولكن ذلك الخلاص لم يتم ولم يتكلل بالنجاح، فالصورة السوداوية للحالة النفسية عند الشاعر والمستمدّة من الواقع المرير أخذتْ في طريقها (المسيح) رمز الخلاص، فالغيوم التي تنجب دماء حزينة، والطير الذي يرسل آهاته، وأزهار الشوك التي تغطي كل مكان، الخ..، وقفتْ عائقاً كبيراً، ولم تفتح أية نافذة أمل للفعل الجبار الذي يقوم به (المسيح).
إن القبح الذي يلون الواقع أخذ أبعاداً كبيرة ومتفاقمة، وصلتْ إلى الشعور بالموت في نهاية النص (وتفرخ بالمطر الموسمي.. ضروع العقارب، كأن وراء الفم العندمي رؤى ومخالب)، فليست ضروع العقارب والمخالب إلا منطلقاً للموت وأساساً له، وذلك عبر الإيحاءات التي تصب في إطار العدمية والتي انطوى عليها التركيبان السابقان.
لقد مرّ (المسيح) في النص بصورة عابرة، فلم يشكّل محوراً في النص كما شكّل (تموز) إله الخصب في نصوص (خليل حاوي)، فقد جاء عمله محدوداً واقتصر على التركيب الذي هو فيه (كأن المسيح انتهى ها هنا دون ذنب)، والذي عزّز محدودية هذا العمل مجيء (غار حراء) كرمز آخر خلفه مباشرة، بحيث لم يفسح هذا الرمز المكاني المجال للمسيح كي يقوم بدور فعال في عملية الخلاص، لأن توارد الرموز بصورة مكثّفة بعضها خلف بعضها يُذهب من عملها، ويقلل من شأنها على الصعيد الفني.
إن ذاكرتنا تعي جيداً الأحداث التي رافقت (غار حراء) وتعي أيضاً القدسية التي انطوى عليها هذا المكان، غير أن رمز المكان هذا لم تتوضح دلالته في المقطوعة، أضف إلى ذلك أن هذا الرمز (غار حراء) لم يقم بفعل حيوي خصب، يُبرز الفعل الرمزي الأصيل في النص، والقائم على المحورية التي تنطلق منها المكونات النفسية واللغوية.(1/240)
ومن البدهي ظهور السوداوية المنطوية على العدمية مع تراجع فعل الرمز في النص بصورة جلية، حيث انطوى الرمز تحت هذه السوداوية، بدلاً من أن تنطوي السوداوية تحت الرمز وما يحمله من طاقات هائلة، وخاصة إذا كان رمزاً للانبعاث وللخلاص، وقد وجد في الأصل ليقف مناقضاً ومضاداً لتجليات العذاب التي توحي بالموت وبمستقبل قاتم.
أما (ممدوح عدوان) فقد اعتمد في رموزه على الأحداث والشخصيات التي وردت في القرآن الكريم، كشكل آخر من أشكال الرمز في صورة (المعذب) في شعر الحداثة، ومن ثم قام بإسقاط هذه الرموز والأحداث على واقعه المرير، يقول (ممدوح عدوان) في قصيدة (أستميحك ذاكرتي)(1).
واستمحتك يا وطني
ورجوتُ دموعكَ مغفرةً
أصبحتْ بئري الآن مقفرةً
إن إخوة يوسف صاروا سماسرة
لدموع أبيهم
وصاروا أباطرةً
بقميص أخيهم
وإنّ العزيز يقايض بالشهداء
ويطلب في الحلم سبعاً عجافاً
لنحني أسعارنا
وأنا شاهدٌ مفعمٌ
ببلادي وذاكرتي
آه يا تربة الجوع
إنْ لم تواري حياتي
اشفعي لي
فإني تبرّأتُ من أول الكلمات
إن افتتاحية النص تُمهّد لصورة الرمز الأول (أخوة يوسف صاروا سماسرة) فالدموع والبئر المقفرة تضعاننا في جواء القص لسيرة (يوسف).
ولعل تركيب (أخوة يوسف) في هذه المقطوعة يوحي عبر سياقه بمجمل العلاقات السلبية في الواقع الحالي (صاروا سماسرة لدموع أبيهم)، وقد انعكس هذا الواقع سلباً- أيضاً- على ذات الشاعر، فبدت عليه ملامح السوداوية والشعور بالإحباط (أصبحتْ بئري الآن مقفرة).
تتوضح في النص رويداً رويداً قيم الزيف والخداع التي انطلقت من مركز الرمز (أخوة يوسف)، أي مركز الخداع والزيف، حيث صار أخوة يوسف (أباطرة بقميص أخيهم)، إشارة إلى انهدام وتراجع الفرد في هذا القرن على عدة مستويات، (فكرية وقيمية وحضارية).
__________
(1) عدوان، ممدوح، /الأعمال الكاملة/ مج 2-ص42-43(1/241)
إن (أخوة يوسف) في الأصل -وكما ورد في أحداث قصة يوسف- مصدر للشرور والمفاسد، بينما يمثّل (يوسف) رمزاً للجمال وللخير، رمزاً تعرّض للكثير من الصعوبات، وهكذا فإن (يوسف) في النص تمثيل واضح للإنسان المُحبط والمهدّم على الصعيد النفسي، لأن الواقع بقيمه لا يرحم أحداً، إنه واقع قبيحٌ بكل ما يعنيه (القبح) من معنى.
أما (العزيز) فقد جاء أيضاً مرمزاً لشكل من أشكال السلطة ذات المنحى السلبي، فهو مصدر للجوع وللحرمان، لذلك فإنه يُضاف إلى مجموعة القيم الفاسدة في المجتمع، حيث خرج (العزيز) عن المعنى الأصلي الذي يلفّه ويحيط به في أحداث قصة (يوسف)، وصار حالة مرضية داخل المجتمع.
ولعل صورة (العزيز) هي الصورة المكمّلةُ لـ (أخوة يوسف)، بل إن (العزيز) كشكل للسلطة حالةً متعاظمة ومتطورة عن حالةِ (أخوة يوسف)، لأنّ أثرها النفسي والاجتماعي ذو وطأة عظيمة، وطأة قائمة على القمع وعلى سلْبِ الآخرين حريتهم وحقوقهم في العيش الآمن.
تلك هي أهم الظواهر الرمزية في الشعر الذي صوّر العذاب، وقد تنوعت وتوزعت على أشكال متعددة.
لقد رأينا في دراستنا هذه تفاوت فعالية الرمز من نص إلى آخر ومن شاعر إلى آخر، إذ تُظهر بعض النصوص أن الرمز معادلٌ قوي للعذاب، وفي نصوص أخرى ينطوي الرمز تحت تجليات العذاب المتبدّية في النص.
إن الشعراء الذين وقفنا عندهم سابقاً ليسوا إلا نموذجاً، إذ يظهر الرمز بأشكاله عند شعراء الحداثة كافة، لأن الرمز من أساسيات هذا الشعر، وهو قائم على جذور نفسية عميقة، وعلى فعل (التورية)، الذي يقوم به الرمز، التورية الناتجة عن رغبة الشاعر في إخفاء ذاته عن الواقع.
3-النموذج الفني:(1/242)
يقوم النموذج الفني (للمعذب) على تكثيف صورة العذاب الموجودة عند عدة شخصيات في صورة شخصية واحدة، فـ (العازر) هو نموذج التشويه الذي يكثف الشخصيات المسحوقة أمام شعورها القاتم بانبعاث الأمة، وسيزيف (البطل المعذب) لم يظهر في شعر الحداثة إلا لأنه نموذج لكثير من المعذبين المعاصرين، غير أن إسقاطه الفني على الواقع المعاش لا بدّ وأن يترافق بتعميق العذاب عند الشاعر وتراجع حالة البطولة المقترنة بسيزيف، فربما يقوم الشاعر المعاصر بتجريد سيزيف من (بطولته) ويكتفي بالحديث عنه كمعذب فقط، ولعل النموذج الفني للعذاب غير النموذج الحقيقي، فدراسةُ أبي العلاء المعري في العصر العباسي على أنه (معذب)، تختلف عن دراسته حين نقوم بإسقاطها على وضع معين، لأن إسقاطها يجعل من أبي العلاء نموذجاً فنياً، وقد تكون هناك شخصيات (بطولية) في التاريخ والأسطورة يمكن إسقاطها بصورة معذبة على واقعنا الحالي.
هنالك علاقة وطيدة بين (النموذج الفني) للمعذب والرمز المستخدم في نص يصوّر (المعذب)، فكلاهما يقوم بعملية الإيحاء الفني، غير أنّ (النموذج الفني) للمعذب- كما أشرنا سابقاً- يرمز إلى الكثير من المعذبين على ساحة الواقع، فهو يشكّل حالة شمولية أكثر من الرموز التي وقفنا عندها سابقاً في حديثنا عن (الرمز الأسطوري، والرمز الذي تناول الشخصيات التاريخية) حيث تُشكّل هذه الرموز مساعداً لتعميق حالة العذاب في النص، لهذا فإن النموذج الفني للعذاب ليس محوراً للنص أو بؤرة له فقط، بل إن وجود النص كامنّ في وجود نموذج العذاب.
منْ أكثر النماذج الفنية التي توضّح صورة العذاب قصيدة (العازر) 1962، للشاعر (خليل حاوي)، حيث تمّت معالجة انبعاث (العازر) برؤيا جديدة، رؤيا تقوم على العذاب، فـ (العازر) انبعث في التاريخ بصورة مشرقة، غير أنه عند (خليل حاوي) انبعث مشوهاً، تعميقاً لصورة الموت عند (الشاعر).(1/243)
يبدأ النص بعودة (العازر) من الموت، أملاً بحياة جديدة تحمل الخير والتفاؤل بين طياتها حيث تقوم زوجته في بداية النص بسرد جميل ينطوي على السعادة والإشراق بعودة زوجها، غير أن (العازر) في ذاته عاد بصورة مشوّهة لأن ما يجري من تهديم ورعب ومظاهر مخيفة على أرض الواقع (بحسب رؤيا الشاعر المعاصر)، جعلتْ (العازر) يُفضل العودة إلى الموت والفناء والابتعاد بأقصى سرعة عن أرض الواقع، يقول (حاوي) على لسان (العازر):(1):
عمّق الحفرةَ يا حفّارُ،
عمّقْها لقاعٍ لا قرار
يرتمي خلف مدار الشمس
ليلاً من رمادٍ
وبقايا نجمةٍ مدفونةٍ خلفَ المدارْ
لا صدّى يرشح من دوّامة الحمّى
ومن دولاب نار
ينطوي المقطع السابق على أشد حالات الموت رعباً، إضافة إلى ذلك فإن الشعور القاتم بانبعاث معافى هو الحالة السائدة في ذلك المقطع.
يوحي أسلوب العودة بـ (الموت، القبر) عبر تركيب (عمّق الحفرة يا حفّار) وتركيب (عمّقْها لقاعٍ لا قرار) باستحالة الانبعاث، انبعاث (العازر)، ومنْ ثم استحالة ولادة أمةٍ جديدة بعد هذا الموت، ذلك أنّ طلب الشاعر أن تُعمّق حفرة الموت إلى هذه الدرجة يقضي على كل أمل بإنتاج نظام حياتي مستقر، من جهة، ويشير من جهة ثانية إلى مقدار عملية (الهرب) من الواقع فكلما اتسعتْ حفرة الموت نحو الأسفل، اتسعتْ صورة الهرب إلى أحضان الموت.
إن صورة (الهرب) من الواقع تتجلّى في أبرز مظاهرها في المقطوعة عندما تصبح حفرة الموت كياناً منفصلاً تماماً عن كيان الوجود الإنساني، وذلك حينما (ترتمي خلف مدار الشمس ليلاً من رماد)، وليس الرماد إلا شعوراً عميقاً برماد المحيط، الرماد الذي يحمل كل سمات الموت، ويشير إلى حالةٍ حضاريةٍ قد خبت ولا سبيل إلى عودتها، بيد أن الرجوع إلى الموت ليس رجوعاً، هدفُه توازن (الأنا)، بل إنه رجوع قهري.
__________
(1) حاوي، خليل، /المجموعة الكاملة/ بيادر الجوع/ ص313(1/244)
ويبدو أن (دّوامة الحمىّ) و(دولاب النار) هي الصور المثْلى لصدى الواقع المرير، حيث (دوّامة الحمى) عبر احتمالاتها خرجتَ وتجاوزت القيم الاجتماعية الفاسدة، وراحت تأخذ منحى الصراع الوجودي العميق، الصراع الذي ينطوي على اغتراب على كافة المستويات، إلى حدّ العدمية(1):
آه لا تلْقِ على جسمي
تراباً أحمراً حيّاً طري
رحِماً يمخره الشرش ويلتفّ
على الميت بعنفِ بربري
ما ترى لو مدّ صوبي رأسَه المحمومَ
لو غرّق في لحمي نيوبَهْ
من وريدي راح يمتصُّ حليبهْ
لُفّ جسمي، لفّه، حنطْهُ،
واطمرْهُ
يكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريتِ،
فحم حجري
حيث يتابع (العازر) في المقطع السابق رفضه لكل مظاهر الحياة (آه لا تلق على جسمي تراباً أحمراً حيّاً طري)، ذلك أن الحقيقة تُفضي إلى أنه لم يعد هناك أي مظهر من مظاهر الحياة، ثم إنّ (التراب) في المقطوعة لم يقدّم ولن يقدّم ولادةً سليمة أبداً، بل إن هذا (التراب) سيصبح لعنةً من اللعنات وممهّداً للآلام أخرى، فهو (رِحمٌ) أو (مشروع) لمخاضات من الآلام سوف تصيب الشاعر حتى في حفرة القبر، لهذا فهو يرفض هذا (التراب) لأنه سينغّصْ عليه ميتتهُ بعد أن تكتمل مظاهر العودة إلى الموت.
يضع الشاعر بديلاً للتراب الذي جاء بالمظهر السلبي، حيث نجد صورة أخرى موازية لحالة العدمية، وهي أن يُلفّ جسده الميت بمظاهر تفضي إلى إفناء الجسد بقسوة (كلْس مالح، صخر من الكبريت، فحم حجري) وبعد ذلك يتساءل (العازر) هل صلوات الحب في دموع (الناصري) ستعيد ميتاً عريقاً في الموت؟(2):
صلوات الحبّ والفصْحِ المغنّي
في دموع الناصري
أترى تبعثُ ميتاً
حجّرتْهُ شهوةُ الموت،
ترى هل تستطيع؟
أن تزيح الصخر عنّي
والظلام اليابس المركوم
في القبر المنيع
رحمةٌ ملعونة أوجَعُ من حمّى الربيعْ
صلوات الحب يتلوها صديقي الناصري
__________
(1) المصدر السابق ص314-315
(2) المصدر السابق /قصيدة العازر/ ص315-316(1/245)
فليست صلوات (الناصري) ودموعه إلا هباءً منثوراً، إن تلك الصلوات في دموع (الناصري) لا يمكن لها أن تنقذ امرءاً (حجّرتْهُ شهوة الموت)، إذ يحمل هذا المقطع سخرية مرّة من أحد مظاهر الخلاص عبر الحالة القدسية التي تنم عليها صلاة (الناصري)، لأنّ الحالة المتردية أو الصور الثابتة المستقرة للموت تمنع أي فعل انبعاثي (الصلوات) فالصخرُ، والظلام اليابس المركوم، والقبر المنيع، أمور تجذّرتْ مع مر الزمن كغريزة ودمٍ يمشيان في (عروق العازر).
إنّ الصورة السوداوية في المقطوعة السابقة جعلت من أهم مظاهر الحياة بعطائها وبحيويتها شكلاً من أشكال الرعب والدمار ألا وهو (الربيع) في (رحمة ملعونة أوجع من حمّى الربيع)، وكأن الربيع -خلال سياق التركيب- أحد إنجازات الموت، أو هو سمة من سمات الموت، وليس سمة للتفاؤل وللإشراق، وكان التفاؤل الحقيقي لـ (العازر) هو عودته إلى الموت، إنه التفاؤل الذي يعني الهرب إلى صورة مريرة (حفرة القبر)، ولكنها صورة أجمل من الواقع القبيح بكل معطياته، فـ "العازر إنسان يموت وهو يعلم أنه يموت وسيغتبط لذلك ولكنه لا يريد أن يرى وجه الحياة الذي يطلّ عليه باستمرار، إنه يودّ أن يهرب إلى قاع بلا قرار، ربما لينسى نفسه وبقاياه وليقتلع من رأسه جذور رغبته المحمومة في العودة إلى أيامه ولياليه المكهربة"(1).
وبعد مضيّ أسابيع من عودة /العازر/ وبعثه المشوّه تطلّ زوجته علينا مستعرضة صور التشوه البادية على زوجها(2):
كان ظلاً أسوداً
يغفو على مرآة صدري
زورقاً ميتاً على زوبعةٍ مِنْ وهْجِ
نهديّ وشعري
كان في عينيه ليلُ الحفرةِ الطينيّ
يُدوّي ويموج
__________
(1) ميخائيل، امطانيوس، دراسات في الشعر العربي الحديث ص58-59
(2) حاوي، خليل، الأعمال الكاملة /بيادر الجوع/ ص320-321(1/246)
المقطوعة السابقة تعرض حالة الموت المتمثلة بـ (العازر) أمام شكلٍ من أشكال الحياة متمثل بالمرأة (الأنثى، الجنس) فالظلّ الأسود وليلُ الحفرة الطيني، هي مفردات التشويه التي لحقتْ بـ (العازر جسدياً ومعنوياً، أما (مرآة صدرْ الأنثى، زوبعة من وهج نهديها وشعرها) فهي مفردات العطاء ونبضُ الحياة الملازمة للأنثى (زوجة العازر).
فالتصوّرات التي وضعتها (زوجة العازر) عن عودة زوجها كانت ممتلئة بالبهجة وبالغبطة، بيد أن تلك العودة كانت مخّيبة لآمالها، فقد عاد بصورة وحشية خالية من الملامح الإنسانية الحضارية، عاد ميتاً إلى الواقع، وهذا يعبّر تماماً عن انسحاق الشاعر (خليل حاوي)، وإخفاقه في أنْ يقدّم صورة مشرقة للمستقبل العربي القادم، وما عودةُ (العازر) المشوّهة إلا عودة المستقبل العربي: مشوّهاً بحسب رؤيا الشاعر أيضاً، وعندما رأت زوجة (العازر) زوجها على هذه الحالة من الانهدام ومن الوحشية في آن، ذهبت الصورة المسبقة التي زرعت في مخيلتها ذهاباً يُفضي بالضرورة إلى عدمية المستقبل، وتمنّت لو أنه لم يعدْ، لأنه شخصٌ آخر وغريبٌ ومعطلُ الإرادة لا يستطيع الانبعاث الحضاري(1):
كنتُ أسترحمُ عينيهِ
وفي عينيّ عارُ امرأة
أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ
ولماذا عاد من حفرته
ميتاً كئيب
حيث الموت والكآبة في المقطوعة يكمّل بعضهما بعضاً، وهما من سمات المعذب الأساسية.
وعليه فإن قصيدة (العازر) تسير على هذه الخطوات من العذاب والإخفاق في ولادة أمة جديدة وانبعاثها.
__________
(1) المصدر السابق ص323(1/247)
ونكتفي بالإشارة إلى نموذج آخر من نماذج المعذب عند (حاوي)، نموذج قصيدة البحار والدرويش(1)، "فالبحار يرمز إلى الذات الغربية التي انطلقت تنزع ستائر المجهول وتكشف القارات البكر وتستعين بالعلم على تطويع المادة وتحطيم الذرة، واستغلال مرافق الطبيعة وتسخير قواها لخدمة الإنسان وأغراض البشرية، إنه الإنسان الغربي والحضارة الغربية بعد أن بلغا قمة المعرفة وقدّما كل تضحيةٍ في سبيلها ثم انتهيا إلى اليأس من العلم والتنكر له، وبدأا ينحدران إلى هوّة الخيبة والقنوط(2) وأما الدرويش فإنه "يمثل الشرق المغرق في الروحانية والتصوّف والقدم إنه الذات الشرقية الزاهدة في المغامرة واكتشاف المجاهيل واكتناه أسرار الطبيعة، القابعة في عريها المنتشية في حلقات ذكرها، هذه الذات التي تجتاز الحياة في غيبوبة وفناء وترى أن كل طرقات الأرض، قاصيها ودانيها، تؤدي إلى (روماها) وكوخها، حيث يتعانق الدهر والله والزمان والروح(3)، لهذا فإن كلاً من البحار والدرويش يعانيان من مصاعب شتى، بيد أنّ هذه المصاعب في الحقيقة يعانيها الشاعر (خليل حاوي).
فـ "اللقاء الذي يتم بين البحار اليائس والدرويش الزاهد القابع، ليس سوى مظهر من مظاهر الفراغ الداخلي الذي يدور ضمن جدران ذاتية الشاعر. إنه تجسيد حي وحضاري للمشكلة التي يعانيها وتبحث ذاته عن مخرج من مأزقها وحلّ لها، إنّ الذات تكاد تتمزق بين قطبي المنطق والتصوف، العلم والإيمان، المادية والروحانية"(4).
__________
(1) راجع، حاوي خليل، الأعمال الكاملة ديوان /نهر الرماد/ قصيدة البحار والدرويش بدءاً من ص11
(2) رزوق، أسعد، 1959- الأسطورة في الشعر المعاصر، منشورات مجلة آفاق- بيروت- لبنان ص28
(3) المرجع السابق ص29
(4) المصدر السابق ص31-32(1/248)
إن خلف قصيدة (البحار والدرويش) قضية الإحساس بالعجز عن مواصلة مسيرة الحياة والتلاؤم مع جزئياتها، والعجز عن تفسير بعض المعضلات الوجودية على الصعيد العلمي، ذلك أن (البحار) هو ردة فعل سلبية عكسية على مقتنيات الحضارة، ونكوص لذات الشاعر نحو الخلف، ونحو الداخل العميق للنفس، فالشاعر "يسقط ذاته على هذا البحار بعد أنْ وجد فيه المعادل الموضوعي لتجربته الذاتية. لقد رأى أن الشرق والغرب بوضعهما الحالي عاجزان عن إعطاء المعرفة الإنسانية الحقيقية. وهذه هي الرؤية العامة للقصيدة(1) فهذا العجز هو رؤيا الشاعر الخاصة به، التي تشفّ عن عجزه عن مقاومة ذلك النكوص إلى الخلف، الذي يلف الواقع بشكل عام..
فإذا كان (خليل حاوي) قد استحضر شخصية تاريخية ونمذجها فنياً بحيث تصبحُ معذبة مستسلمة للواقع، معطلة الإرادة عن فعل حضاري، فإن (نزيه أبو عفش) قد جاء بشخصية من واقعنا المعاصر على قدر كبير من العذاب، ولم يُسمّها، لأنها نموذج لمعذبين كثيرين في هذا الواقع الاستلابي والممتلئ بالقيم السلبية اجتماعياً. يقول (أبو عفش) في قصيدة (أشياء عن الحزن والرجل الذي مات حياً)(2):
نعم، ولم يعدْه في مساء حزنه أحَدْ
ولم تُوَشىّ وجهه ابتسامةٌ.. ولم..
وماتَ ولم يبكِ على غيابه أحدْ
كانت عيناه مفتّحتين كجرحِ لم يتقطّر منه الدمْ
ويداه معلقتين على واجهة الباب
متشنجتين.. مرحبتين!
هلا بالضيف.. هلا بالضيفْ
ويُقال تقيأ قبل الموت دماً وقصائد ثم انهارْ
وتفوّه قبل غياب الموت بشيء ما
حدّقنا في شفتيه: لرُبّ سؤال لم يحضرهُ.
توقّفَ بين الحنجرةِ المذبوحة والأسنانْ
خوّضْنا في طوفان الدمع وقلّبنا حتى الأجفانْ
كانت رائحة القيء تلحّ: تفوّه قبل الموت بشيءٍ ما
لا شكّ تفوّه قبل الموت بشيء ما
يا قلبي.. لكنْ أينْ؟
أينْ؟..
__________
(1) نشاوي، نسيب، مدخل إلى المدارس الأدبية ص490
(2) أبو عفش، نزيه، حوارية الموت والنخيل، ص83-84(1/249)
يطرح النص شخصية على قدر كبير من الإنسانية والخير، بيد أنها تحمل من الحزن القدر الكبير أيضاً، حيث يعرض الشاعر في النص عدة حالات انطلق منها عذاب تلك الشخصية، وفق ما يلي:
1-الانطوائية والعزلة كأولى الحالات التي أفضتْ إلى الحزن العميق
(ولم تُوَشّ وجهه ابتسامة)، ذلك أن هذه العزلة حالة قهرية لا ريب.
2-الموت المعنوي (وماتَ ولم يبك عليه أحد)، حيث ينطوي هذا الموت على صورة اليأس التي أنتجتها الظروف الموضوعية والبيئة المحيطة.
3-الاغتراب القيمي (الاجتماعي)، الذي يشكّل المحور الأساسي في الشق الأول من النص، والذي كان سبباً في ظهور الانطوائية والعزلة، ومعمّقاً الإحساس بالموت (لم يعده في مساء حزنه أحد، ولم توشّ وجهه ابتسامة)، وعلى الرغم من الدوافع الإنسانية الجميلة لتلك الشخصية عبر إلحاحها على اللقاء مع الآخر على ساحة الواقع، فإن ذلك الواقع كان مخيّباً للآمال (ويداه معلقتين على واجهة الباب/ متشنجتين.. مرّحبتين/ هلا بالضيف.. هلا بالضيف) ولم يكن الضيف الذي استقبلته تلك الشخصية سوى الموت الذي راح الشاعر يعرض جزئياته ويعرض حالة (الشخصية) وهي في طريقها إلى الموت المعنوي، فبدا العرْض وكأنه لموتِ حقيقي مادي (ويقال تقيأ قبل الموت دماً وقصائد ثم انهار (وتفوّه قبل غياب الموت بشيء ما/ كانت رائحة القيء تلحّ/).(1/250)
إن (الموت) المطروح في المقطوعة بصورته المعنوية ليس إلا موت الفرد الإنساني ذي القيم والمبادئ أمام مجمل العلاقات المعاصرة التي طالعتْنا بها المدنية القائمة، التي تقوم مرتكزاتها على التعامل المادي على حساب التعامل الحميمي والمودة بين الأفراد، فالشاعر لم يصرّح بتلك العلاقات المتردية، بيد أن الشق الأول من النص تعبير عن علاقة المجتمع بـ (الشخصية المعذبة) في الواقع أيضاً، إذ هي نموذج للإنسانية بكل مظاهرها الإيجابية، لهذا فإن الشاعر -عبْر هذا النص- يلّح بصورة غير مباشرة على انبعاث جديد للقيم السائدة، انبعاث ممتلئ بصورة الحياة والسعادة.
يجعل الشاعر من نهاية النص نهاية مفتوحة احتمالية (لا شك تفّوه قبل الموت بشيء ما)، فليست هناك إجابة على السؤال الذي يغص في حلق تلك الشخصية المعذبة، بل إن السؤال في ذاته غير متوافر وليس له وجود، (يا قلبي... لكن أين/ أين؟).
يمكن أن نشير أيضاً إلى نموذج آخر من العذاب للشاعر (علي الجندي) الذي استقطب شخصية (موسى بن نصير) البطل العربي المعروف ليجعل منها شخصية معذبة، عبر الرؤية التي تقوم بها هذه الشخصية لصورة المدينة (دمشق)، المدينة المتعثِّرة بالوحشة وبأسباب الغربة، حيث يشكِّل (موسى) نموذجاً للشخصية المغتربة المعذبة، يقول (علي الجندي) في قصيدة (موسى بن نصير يتسول في شوارع دمشق)(1):
- يا موسى
ماذا تفعلُ في هذا البلدِ الموحشِ، والناسُ
يمرُّونَ بوجهِكَ والعينين الزائغتين
فما يلتفتون؟
إنْ عرفوكَ تغاضوا، أو جهلوك امتعضوا
تبدو للناس جنازةَ إنسانٍ مرميٍّ فوق
رصيفِ الدنيا
- فانفرْ يا موسى
__________
(1) الجندي، علي ديوان /النزف تحت الجلد/ ص101.(1/251)
إن (موسى) القرن العشرين معذَّبٌ على الصعيد الروحي القيمي، غير أنه ما زال محتفظاً ببطولته وفروسيته، التي تعتمد على قوته البدنية، وهذا لا ينفي سمة العذاب الأساسية لديه التي ترتكز على تأزُّمٍ نفسي عميق، إذ لا فائدة من البطولة البدنية في ظل حالة نفسية متقهقرة تنطوي على الاغتراب الكبير عن المجتمع بأفكاره وعاداته وتقاليده، لذلك كان الحل الوحيد لدى (علي الجندي) أن يرحل (يهرب) موسى من صور المجتمع السلبية (البلد الموحش، إنْ عرفوك تغاضوا، أو جهلوك امتعضوا، الخ)
ولعل (موسى) في الحقيقة هو انعكاس لشخصية الشاعر التي تشعر بكل الصور السلبية في الواقع والتي ذُكرتْ في النص.
إننا أمام شخصية مغتربة عن المدينة الممتلئة بعوامل الإحباط والعزلة، لهذا فإن الهرب هو الوسيلة الوحيدة للخلاص، الهرب الذي أتى موافقاً لمعنى الرفض والتمرد على القيم السائدة.
وكما عرض شْعرُ الحداثة نماذج للعذاب فقد عرض نماذج معاكسة للعذاب، فعلى الرغم من أن /مهيار الدمشقي/ لأدونيس نموذج (للامنتمي)، فإن هذا (اللامنتمي) ليس معذباً، بل هو بطولي، فالأجواء العامة لمهيار الدمشقي تحيل على مفهوم (اللامنتمي البطولي) الذي ينطوي في بعض مراحل النص على المعذب وذلك انطلاقاً من تداخُلِ القيم الجمالية بعضها مع بعض.
إن اللامنتمي في الأصل هو "الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساسٍ واهٍ ، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذُّراً من النظام الذي يؤمْن به قومه"(1)
__________
(1) ولسون، كولن 1982 اللامنتمي ط3 تر: أنيس زكي حسن، دار الآداب بيروت ص5(1/252)
ومن ثم فإن مصطلح (اللامنتمي) يقترب كثيراً من مفهوم (العبثي)، ويختلف (اللامنتمي) عن (المغترب)، فـ (اللامنتمي) يَبْرز لديه الجانب الفكري، أما (المغترب) فيبرز لديه الجانب القيمي، فليس هناك فكر ولا قومية ولاعقيدة لذلك اللامنتمي، من هنا تنطلق العبثية في الأمر، "ففي عالم محروم فجأة من الأوهام والأنوار، يشعر الإنسان أنه غريب، وهذا المنفى لا رجعه منه، لأنه محروم من الذكريات عن وطنٍ مفقود، أو من الأمل في أرض ميعاد.
إن هذا الطلاق بين الرجل وحياته، بين الممثل وزينته هو في الحقيقة الشعور بالعبثية(1).
لقد كان (مهيار الدمشقي) تمثيلاً واضحاً لحالة (اللاانتماء البطولية)، ولا يعبر مطلقاً عن حالة العذاب، إن مهيار "ثورة على الواقع المتعفن الذليل، ورمز لقوة النقض الكامنة في الأشياء، والمحوِّلة للواقع، والحاملة للوجود على جناحيها، ومن خلال مهيار نذوق نكهة المجد البشري، ونعانق العظمة المنداحة في كل شيء، ومردُّ ذلك كله إلى هيمنة مفهوم العبور (النقض، التحول، الصيرورة) الذي يتسم بقدرته على نقل حالة الصراع، هذه الحالة التي تفجر الخيال وتبعث فيه الحركة"(2).
لقد قام أدونيس بالاعتماد على التاريخ العربي في استحضار شخصية الشاعر (مهيار الديلمي) الشاعر العباسي، وإسقاطها على الواقع بصورة (مهيار الدمشقي). فهناك نقاط مشتركة بين مهيار الدمشقي ومهيار الدليمي تتركز في الشعر، والنزوح، ورفض العصر، وبعض هذه النقاط تتناسب وظروف اللامنتمي وحالاته (رفض العصر، النزوح).
__________
(1) كامو، البير (د/ تا) العبث تر: سالم نصار- دار الاتحاد لبنان ص19
(2) اليوسف، يوسف سامي الشعر العربي المعاصر ص153(1/253)
إن أدونيس من خلال (مهيار الدمشقي) يضع المرء في أجواء أسطورية، بدءاً من أجواء الأفعال الجبارة التي تقوم بها تلك الشخصية، وتحولها بين حالة وأخرى، إنه يجسدُ الخلق والانبعاث كفينيق والصقر، ومن ثم التجدد،(1):
هو ذا يأتي كرمحٍ وثني
غازياً أرض الحروف
نازفاً- يرفع للشمس نزيفه،
هو ذا يلبس عري الحرْ
ويصلي للكهوف
حيث يضعنا المقطع السابق في أجواء أسطورية تنم على الحركة والحيوية والصراع، وفي ذلك تقول خالدة سعيد في (حركية الإبداع) رابطةً هذه الأجواء بمعطيات القرن العشرين، "أما شخصية مهيار فهي أسطورية تنطلق بدءاً من أزمة الشاعر كفرد يعيش في القرن العشرين، ويعاني على مستوى ثانٍ تجربة التحول والتحرك التي يعيشها العربي، كما يُعاني على مستوى ثالث، أزمة الإنسان إذ يواجه المعضلات الكونية كالموت والحياة والحب. وهذا ينقل أدونيس التجربة الشخصية والقومية إلى المسرح الكوني"(2).
التشكيل اللغوي
نتابع الحديث عن السمات الفنية للمعذب في شعر الحداثة، ونتوقف عند (التشكيل اللغوي) للنص الشعري، إذ لابد لنا كالعادة أن نتناول هذا الجانب من خلال وظيفته النفسية، فليست هذه الدراسة آتية لتناول (البنية اللغوية) عبر منظورها المحض، (بحيث نتناول العلاقات والأنظمة اللغوية في النص بمعزلٍ عن خلفيتها النفسية والاجتماعية).
__________
(1) أدونيس المجلد الأول/أغاني مهيار/ فارس الكلمات الغربية ص331
(2) سعيد، خالدة 1979، حركية الإبداع، ط1 دار العودة- بيروت ص121-122.(1/254)
إن"الإنسان قبل كل شيءٍ، آلة تحوّل الطاقة. وتتلقى الجملة العصبية الطاقة بصورة شتى، نور، وروائح، وأصوات، وحركات آلية، وحرارة، الخ، فتختزنها وتُحولها. ثم تبثها إلى الخارج بصورة حركة، وفكرة، ولغة"(1)، ولا شك بأن تلك اللغة تحمل شحنات نفسية مختلفة من تركيب إلى آخر ومن لفظة إلى أخرى، ومن ثم فإن هذه الشحنات تنعكس على القدرة الإيحائية الدلالية للتركيب اللغوي أو للمفردة (شحنة إيحائية دلالية)، "ولكن هناك كلمات مشحونة أكثر من غيرها، وهذا ناتج عن أحد أمرين أو كليهما. فإما أن تكون هذه الكلمات ذات طبيعة تهيئها لذلك كالرموز مثلاً، وإما أن تدخل هذه الكلمات في علاقات غنية مع الكلمات الأخرى، فالأمر الأول داخلي وأما الثاني فهو خارجي"(2).
من البدهي أن تختلف الدراسات اللغوية للنص باختلاف المدارس اللغوية، ذلك أن "الشكليين الروس يلتقون مع البنيويين في طبيعة النظرة إلى النص الأدبي، تلك النظرة التي تعزل النص عن المؤثرات الخارجية ولا تتفحصه إلا من حيث هو بنية لغوية مستقلة، ذلك لأن كل المعالجات الخارجية -حسب الشكليين- لا تمتلك المؤهلات الكافية لدراسة الأدب واستنباط قوانينه، إن كلاً من الشكلية والبنيوية لم تسأل عما يُعبِّر عنه النص الأدبي، وإنما اقتصر سؤالها عن كيفية التعبير، ذلك أن هذه الكيفية التي يكون عليها النص هي المسألة المركزية التي تقود إلى الكشف عن قوانينه"(3).
__________
(1) داكو بيير، الانتصارات المذهلة لعلم النفس ج2، ص22
(2) الحسن، عبد الكريم، 1983، الموضوعية البنيوية، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ص37
(3) ناظم، حسن، 1994، مفاهيم الشعرية/ ط1 المركر الثقافي العربي- بيروت، الدار البيضاء- المغرب ص40(1/255)
ومن ثم فإن تلك البنيوية في مجال الشعر خاصة- تنظر إلى أن "الطريقة الأساسية التي تُظهر فيها الوظيفة الشعرية نفسها في الشعر، تكون بإسقاط البعد الصرفي والاستعاري للغة على البعد النحوي، إن الشعر بتأكيد تماثلات الصوت والإيقاع والصورة يزيد من كثافة اللغة، جاذباً الانتباه إلى خصائصها الشكلية بعيداً عن أهميتها الإسنادية"(1)، وبالطبع فإن الإسناد يعني المرجعية الواقعية أي العلاقة بين الصورة والواقع، تلك العلاقة التي تفتقدها البنيوية.
ومن الدراسات اللغوية أيضاً السيميولوجية والتفكيكية، فالسيمياء هو "علم تفسير معاني الدلالات والرموز والإشارات وغيرها، ويعدُّ من أحدث العلوم في ميادين اللغة والأدب والنقد، وهو امتداد للألسنية"(2)، ويرتكز هذا العلم من علوم اللغة على الحياة الاجتماعية والوظيفة الاجتماعية التي تؤديها (العلامة)، لأن السيميائية في الواقع تقوم بدراسة أنظمة العلاقات، واللغات، إلخ .....؛ وأما مناهج الدراسة السيميولوجية فترتكز على منهج التحليل التوزيعي، ومنهج التحليل المفهومي أو (التوليدي) ومنهج التحليل الإحصائي، أما مستويات الدراسة السيميولوجية فهي (الصوتي، والتركيبي، والمعجمي، والمعنوي).
__________
(1) شولز، روبرت، 1984، البنيوية في الأدب تر: حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب دمشق، ص38
(2) عزام، محمد، 1996، النقد والدلالة /نحو تحليل سيميائي للغة/ وزارة الثقافة، دمشق، ص8(1/256)
إن لعلم اللغة- إضافة إلى طرق الدراسات اللغوية- تياراتٍ متعددة، يستطيع المرء من خلالها أن يحدِّد الطريقة التي ارتآها أنصار التيارات هذه في دراسة الظواهر اللغوية وعلاقتها بالمحيط الاجتماعي، ولعل التيارين الرئيسين في علم اللغة هما التيار المثالي والتيار الوضعي، فالتيار المثالي" يعتدُّ بالتمييز الذي أقامه (همبولت) بين العمل والطاقة، ويعدُّ اللغة أداة للجماعة، وفعلاً خلاَّقاً للفرد، يخضع للقوانين النفسية والاجتماعية التي تؤثر على الأفراد المبدعين للغة والمتقبِّلين لها"(1)، ذلك أن هذه اللغة تحت سيطرة أولئك الأفراد ومستويات حياتهم (الثقافية والمزاجية والعمرية)، وأما التيار الوضعي في علم اللغة "فيؤسس للعلوم الإنسانية على قواعد تجريبية وعقلية، وينتقد مبادئ علم اللغة التاريخي. ويمثل العالم السويسري (سوسير) هذا الاتجاه الذي ضمَّ -أيضاً- عدداً من اللغويين الفرنسيين، وقد رفض اعتبار اللغة جوهراً مادياً خاضعاً لقوانين العالم الطبيعي الثابتة، واعتبر اللغة خلقاً إنسانياً، ونتاجاً للروح البشري، تتميز بدورها كأداة للتواصل، ونظام للرموز المخصصة لنقل الفكْر، فهي مادة صوتية، ولكنها ذات أصل اجتماعي ونفسي"(2).
وعليه فإنه يمكن الاستفادة من المعطيات السابقة في دراسة النص لغوياً، وارتباط هذه اللغة بالمفهوم الجمالي المدروس (المعذب)، وبشكل عام فإن ثورة اللغة في شعر الحداثة قائمة على "تهديم وظيفة اللغة القديمة، أي في إفراغها من القصد العام الموروث، وهكذا تصبح الكلمة فعلاً لا ((ماضي)) له، تصبح كتلة تشع بعلاقات غير مألوفة"(3).
__________
(1) عزام، محمد، 1994، التحليل الألسني للأدب، مطابع وزارة الثقافة، دمشق، ص93
(2) المرجع السابق ص94
(3) أدونيس، 1983/زمن الشعر/ دار العودة- بيروت، ص131(1/257)
فمن الخطأ الشائع أن نضع قبالة أعيننا المنهج الذي ستتم من خلاله دراسة القصيدة قبل الاطلاع على معطياتها وتركيبتها اللغوية والنفسية، ثم نقوم بتطبيق هذا المنهج على النص، ذلك أن هذا التطبيق سيشوه النص الشعري، ويغفل الكثير من جمالياته، فالقصيدة هي التي تفرض منهج دراستها على عدة مستويات.
ما دمنا إزاء قصائد من شعر (المعذب)، فإن هذا يضعنا -كما أشرنا سابقاً- أمام حالة من التأزم النفسي المسيطر على الشاعر، لهذا لابد لنا من أن نقوم بدراسة (التوتر الشعري) الذي تأتي به اللغة بإنجازاته النفسية والاجتماعية، حيث (التوتر الشعري) "هو البؤرة الانفعالية التي لا يخضع لها الشاعر أو المتلقي بطريقة عادية. والمقصود بكلمة (عادية) كل ما يتفرع عنها من تداع وحلم وانسيابية، وإنما توقظه، تثيره، تهز كيانه، بمعنى آخر، تصدمه، بما تحمله من شحنة توترية يقوم أساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، إما أن تتكون علاقة توافق وانسجام وإما أن تكون علاقة تنافر وخصام، وعلى محور هذه العلاقة وما يتفرع منها، والتي تخضع للشد والجذب، تكمن مسافة التوتر النابعة من بنية النص الشعري، ومن مختلف الرؤى والمواقف المتمثلة بعلاقة الشاعر بالعالم"(1).
وعليه فإن (المعذب) في علاقة تنافر وخصام مع محور الموضوع، ثم علينا أن ندرك الشحنات النفسية التي تحملها طبيعة المفردة التي يستخدمها المعذب ضمن سياق النص وضمن السياق الاجتماعي لحياة الشاعر، ومن ثم نتطرق إلى التركيب (تركيب الجملة) الذي يشير في الحقيقة إلى أنه قاسم مشترك بين الدراسات اللغوية لنظام الجملة في الأجناس الأدبية عامة والشعر خاصة.
__________
(1) جابر، يوسف حامد، قضايا الإبداع في قصيدة النثر، ص96(1/258)
النص الأول للشاعر /محمد عمران/ من ديوانه /الأزرق والأحمر/ ومن قصيدة /الأزرق والأحمر/ أيضاً يقول فيه (1):
نبَّهتُ، من إغفائه، الأزرقْ:
(( يا لون صوت حبيبتي
كبرَ النهار، وأنتَ في حلمٍ من الفستقْ
كبُرَ انتظارُ قصيدتي
عَّتقتُ في شفتيَّ، خابية، فقمْ نسكَرْ
طفلي يفيقُ على منابتهِ
فقمْ نسكَرْ"
الأزرقُ المخذولُ قام،
مَشَى على ثِقلٍ
وارتمى في حضرة الأحمرْ
والأزرقُ المقتولُ أرخى حلمَهُ
وتوسَّد الأحمر
أمسكتُ خابيتي على شفتي
وهتفت بالألوان:
((يا سيدي الأخضرْ))
((يا سيدي الأصفرْ))
((يا سيدي الـ ))
((يا ...
ماتتِ الألوانْ
وعلى المنابت حيث طفلي،
عرَّشَ الأحمرْ
إن سيطرة (اللون الأحمر) على الأشياء بشكل نهائي هي صورة العذاب ومكمنه، ذلك أن (الأحمر) رمزٌ لكل ما هو سلبي، حتى كأن (الأحمر) صار رمزاً مطلقاً للحالات المضادة للحياة والتفاؤل والأمل، وبالتالي صار رمزاً مطلقاً للقبح في الواقع، وينشأ الصراع بين هذا الرمز وبين رموز الخير والإشراق وفي طليعتها اللون /الأزرق/، ومن هنا انبثقت قضية (التوتر الشعري) التي أنتجتها اللغة عبر إيحاءاتها النفسية، فالنص بمجمله بؤرة انفعالية قائمة على الصراع بين الإيجابي والسلبي في الحياة، وأخيراً ينتصر السلبي لتجسيد صورة الانسحاق الشامل (صورة العذاب).
أما الحالات الإيجابية في النص، والتي تشكِّل عناصر الحياة الجميلة (الأزرق/ صوت حبيبتي/ كبر النهار/ حلم من الفستق/ خابية/ الأخضر/ الأصفر/ طفلي)، وأما الحالات السلبية الكثيرة والمضادة للحالات السابقة فهي (الأحمر/ المخذول، مشى على ثقل/ ارتمى/ المقتول/ ماتت الألوان/ عرش الأحمر) ومن ثم فإن صورة اللقاء وحالة التداخل غير المتوازنة بين معطيات (الأحمر) السلبية ومعطيات (الأزرق) الإيجابية هي التي تخلق مسافة التوتر النابعة من بنية النص الشعري السابق.
__________
(1) عمران، محمد، ديوان الأزرق والأحمر ص29-30.(1/259)
إن حالة التضاد الرئيسية التي خلقت مسافة التوتر الشعري في بنية اللغة بإيحاءاتها النفسية كامنة بين (الأحمر) و(الأزرق) وبعد ذلك عناصر التضاد الثانوية المرافقة لكل من (الأحمر) و (الأزرق)، ويمكن توضيح ذلك عبر الجدول التالي:
... ... ... حالات سلبية ... - حالات إيجابية
(تضاد رئيسي) الأحمر ... ... ... ... الأزرق (تضاد رئيسي)
المخذول ... ... ... ... ... ... ... صوت حبيبتي
مشى على ثِقَلٍ ... ... ... تضاد ثانوي ... ... كبرَ النهار
ارتمى ... ... ... ... ... ... ... حلمٌ من الفستق
... ... ... ... علاقة تضاد
المقتول ... ... ... ... ... ... ... خابية
ماتت ... ... ... ... تضاد ثانوي ... ... الأخضر
عرَّشَ ... ... ... ... ... ... ... الأصفر
أرْخى ... ... ... ... ... ... ... طفلي
إن مسافة التوتر في بنية النص السابق لا تفضي بالتأكيد إلى حالة من الصراع القائم بين (الأحمر)، ومنجزاته من جهة، وبين الأزرق ومنجزاته من جهة، وبين الأزرق ومنجزاته من جهة أخرى.
لقد كان (الأزرق) سكونياً ميتاً أمام الأحمر وذلك كما في (الأزرق المخذول قام/ مشى على ثقلٍ/ ارتمى في حضرة الأحمر)، إذ لو تبلورت صورة الصراع إلى فعلٍ بطولي يقوم به (الأزرق) في وجه (الأحمر) لكان سقوطه تراجيدياً، بيد أن السكونية والموت أحالاه على /المعذب/، واقتصر الصراع على صراعٍ نفسي عميق ينعكس تلقائياً على ذات الشاعر التي أحسَّتْ بالموت وبالتهدم يصيبان كلّ شيء، غير أننا نعود ونؤكد أن مسافة التوتر الشعرية تظهر بنيةً لغوية، تحمل هذه البنية في طياتها إيحاءين نفسيين، وتظهر العلاقة السلبية بين الذات الشاعرة لمحمد عمران وبين الموضوع، فليس (الأزرق) سوى صور التفاؤل التي كان يحملها الشاعر في أعماق نفسه، ولم تلبث هذه الصورة أن سقطتْ تحت وطأة (الأحمر).(1/260)
من خلال حديثنا عن الصورة السلبية الصدامية بين الذات والموضوع في النص السابق، تحدثنا عن الإيحاءات النفسية لبعض المفردات في النص، كالإيحاء النفسي للأزرق والإيحاء النفسي للأحمر، ويبدو لنا أن الشاعر قد عرض ألواناً أخرى في المقطوعة فألوان. (الأخضر والأصفر) تشير أيضاً، إلى أشكال متعددة من المرتكزات الإيجابية في الحياة، ولكنها تتراجع أمام الشكل الأساسي للحياة، وهو اللون (الأزرق) بيد أنها تظل محتفظة بصورتها الإيجابية.
قد يظن المرء للوهلة الأولى أن بداية النص هي صورة من صور الحيوية والاستقرار، ولكن الأمر على غير ذلك، (فالإغفاء) كلفظة -داخل السياق- تشير إلى أن (الأزرق) بعيدٌ عن ساحة الواقع، فهو يُفسح المجال للأحمر ليحل مكانه، ثم إن (الإغفاء) يبرز مسألة الحالة اللا واعية والموت المؤقت، ومن ثم فإن ذلك الموت المؤقت للأزرق انتهى إلى موت مستمرٍ ونهائي في نهاية المقطوعة، حيث عرَّشَ الأحمر على كل شيء، لهذا فإن لفظة (إغفاء) تحمل شحنة نفسية عالية المستوى، عبر الاحتمالات المتعددة التي انطوت عليها.
كما أنّ لفظة (طفلي) الواردة مرتين في النص، يمكن أن تكون حسب السياق تمثيلاً لكل ما هو بريء فطري في مواجهة قيم (الأحمر) المشبعة بالموت والسلطوية، ولعل مفردة (حضرة) المقترنة بـ (الأحمر) في المقطوعة في تركيب (حضرة الأحمر) من الدلائل الساطعة على السلطوية التي يمارسها (الأحمر) على ذات (الأنا) لدى الشاعر وعلى توازنها.
أما على صعيد التركيب في النص، فأول ما يطالعنا هو تقديم الجار والمجرور على المفعول به (نبَّهتُ/ من إغفائه/ الأزرق) وذلك لضرورات نفسية، فنوم الحالات المولدة للعطاء والمتمثلة بنوم (الأزرق)، أمرٌ على غاية من الخطورة النفسية، لهذا لابد من الصحو (الحيوية، النشاط، الصراع) إذ لا فائدة من (الأزرق) وهو غافٍ، ولذلك فإن ذكرَ الإغفاء جاء مهماً على الصعيدين النفسي والفني.(1/261)
وأما التحول النفسي اللافت للانتباه في تركيبات النص، فيظهر عندما ينادي الشاعر الألوان الإيجابية كي تقوم بأفعال الإنقاذ:
وهتفت بالألوان:
" يا سيدي الأخضر"
" يا سيدي الأصفر"
" يا سيدي الـ"
" يا ....."
ماتت الألوان
ففي خضم نداء الشاعر للألوان يخفت صوت الشاعر، حيث تظهر صفة اللون في البدء (الأخضر، الأصفر) ثم لا تظهر تلك الصفة بعد أن خَفَتَ الصوت (يا سيدي الـ)، ولهذا أيضاً ضرورته النفسية الكبيرة، فقد يئس الشاعر من تحقيق رغبته في أن يُسيطر (الأزرق) الجميل (الأشياء والعناصر الإيجابية) على الواقع، بل يئس من كل شيء جميل (الأصفر، الأخضر)، لهذا لم يعد هناك فائدة من متابعة النداء، فاختنقت تلك الإيجابيات والرغبات في (اللاشعور)، ولم يعد هناك سبيل إلى خروجها إلى دائرة الضوء وإلى مسرح الحياة.
أما على صعيد المعجم اللغوي فإن الشاعر في حديثه يستخدم مفردات لها صلة وثيقة بالحياة اليومية التي يعيشها، وهي أقرب ما تكون إلى اللغة المتداولة بين الأفراد، ومن خلال هذه المفردات تظهر قضايا العذاب، لأن الحميمية تصبح مفتقدةً بينه وبين العناصر المحيطة (عالم الأشياء الخارجي)، فيأتي بالمفردات اليومية كي يردم الثغرة بينه وبين الواقع ومن تلك المفردات (خابية، عرّش، الفستق، عتَّق، الخ...) حيث نرى أن هذه المفردات نموذج للمفردات الأخرى التي تمتزج بألفاظ مستمدة من الطبيعة، حيث نرى دائماً وأبداً عند (عمران) أن هناك اتحاداً صوفياً بينه وبين عناصر الطبيعة، ومن هذه المفردات المستمّدة من عناصر الطبيعة (البرتقال، غار، قبرة، سنبلتين، حجر، القمح، التراب، الينابيع، الوديان، الحصى، الشجر، الحطب، البحر، الريح، الخ......)(1).
__________
(1) راجع، عمران، محمد، ديوان الأزرق والأحمر، ص18-39-45-114/ 1980 ديوان الملاجة، ط1 دار المسيرة، بيروت، ص44-75-76 قصيدة الطين ص152.(1/262)
قبل أن ننتهي من الحديث عن نص (محمد عمران)، نودُّ القول: إن(التوتر الشعري) الناتج عن البنية اللغوية ومنجزاتها النفسية، يضمحل أو لا يكاد يظهر عند الشعراء الذين يجسدون مفهوم (الجميل) الذي يتوضح في أشعارهم، ذلك أنّ همهم الوحيد هو إبراز تجليات هذا المفهوم، بحيث تتراجع صور الصراع والتوترات النفسية في النص، ويظهر (التوتر الشعري) عند (البطل التراجيدي) لأنه يقترب في أجوائه من (المعذب)، غير أن التوتر النفسي الناتج عن التوتر الشعري ذي الجذور اللغوية، يظهر بجلاء عند (المعذب)، لأن صورة التأزم النفسي الكبير لابدّ لها أن تظهر في البنية اللغوية، التي ستُنجز بالضرورة توتراً شعرياً عميقاً وهوةً في انعطاف (التشكيل اللغوي)، بحيث يظن المرء أنه أمام حالتين مختلفتين (حالة الذات + حالة الموضوع)، بيد أن الصورة النهائية للحالة واحدة وهي التمزق، ومن ثم فإن القطيعة عند / المعذب/ كلية مع الواقع، وتُعبّر هذه القطيعة، لا شك، عن عمق الهوة بينه وبين المحيط الاجتماعي، وربما عن عمق الهوة بينه وبين المحيط الكوني.
وعليه فمن البدهي أن يظهر (التوتر الشعري) واضحاً عن المعذب، بيد أنه لا يظهر بهذه الصورة العميقة عند (التراجيدي) الذي يقوم بأفعال وتحركات إيجابية على ساحة الواقع لتغييره، ذلك لأن (التراجيدي) يرى القبح في المحيط ويحاول تغييره، وينعكس هذا بالضرورة على النموذج (التراجيدي) في النصوص الشعرية، وفي مسافة التوتر الشعري في البنية اللغوية أيضاً.
إن الذات التراجيدية تظلُ تحتفظ بالجميل في أعماقها حتى لو فقده الواقع، وعليه فإن التوتر الشعري يظهر عند تلك الذات، وإن ظهوره يبدو أقوى عند المعذب، لأن ذات المعذب تحتفظ بالقبح في أعماقها وفي نظراتها إلى المحيط، ولا تحاول تغييره فتشعر بالعذاب، وتظهر الفجوة العميقة تخرج إلى البنية اللغوية وإنجازاتها النفسية عبر مظهر (التوتر الشعري) الذي تتداخل فيه البنيتان اللغوية والنفسية.(1/263)
النص الثاني للشاعر كمال خير بك بعنوان /اتحاد/ يقول فيه(1):
تنبض في عينيَّ
تنبض في يديَّ
تنبض في سريري
جنازةُ النهار،
لا، ليس لي اختيار
السفر المدمّى
السفر المليء بالدمار
السفر المليء بالحمى
في سفن الدماء
حيث اتحاد الاسم بالمُسمَّى
والأرض بالسما
يبرز في النص (السوداوي العدمي) كأحد تجليات المعذب، حيث تظهر معالم الموت في كل الأماكن (عينيّ، سريري، يديَّ، النهار، السفر، سفن الدماء، الخ.....)
في المقطوعة عناصر إيجابية على صلة حميمية بالشاعر، وهي مصدر حياته وطمأنينته وهي تساعده على التواصل مع المحيط الخارجي، وتتمثل هذه العناصر بصورة رئيسية في (عينيّ، يديّ، سريري) أما العناصر المضادة والمسيطرة على تلك الأشياء الحميمية فهي كثيرة في المقطوعة، وقد عملت على إظهار صوت الموت، ومن ثم خلقت (التوتر الشعري) في النص، وهذه العناصر هي (جنازة النهار، السفر المدمّى، السفر المليء بالدمار، السفر المليء بالحمى، سفن الماء).
إن المظاهر الحميمية التي وقفنا عندها سابقاً تمثّل (الذات) بمكوّناتها وخصائصها وعناصرها، بينما تمثل العناصر السلبية والمضادة لتلك المظاهر الحميمية مكونات (الموضوع)، المحيط الخارجي بكل صوره المرعبة.
لعل ذروة الالتقاء المرعب بين مكونات (الذات) وعناصر (الموضوع) في المقطوعة يتجسد في التقاء الفعل (تنبض) بـ التركيب (جنازة النهار) فهما يلتقيان في مكونات الذات (عينيَّ، ويديّ، وسريري)، وعندما يلتقيان لابد وأن تنشأ حالة من الخلل النفسي، ومن هنا ينشأ التوتر الشعري في أقصى ذروة له، حيث (جنازة النهار) استوعبت كل الأشياء الجميلة.
تنبض في عينيَّ ... ... ... ... ... السفر المدمى
تنبض في يديَّ ... ... ... جنازة النهار ... السفر المليء بالدماء
تنبض في سريري ... ... ... ... ... السفر المليء بالحمى
__________
(1) خير بك، كمال وداعاً أيها الشعر ص 25.(1/264)
إن (جنازة النهار) هي البؤرة والمحور في النص، وهي نقطة الانعطاف من العناصر الجميلة إلى العناصر القبيحة (كما هو ملاحظ من المخطط السابق)، وعلينا أن نذكر أمراً على قدر كبير من الأهمية، أسهم بفعالية في إنجاز التوتر الشعري في النص، وهو أن الفعل (تنبض) يحتفظ في ذاكرتنا بصورةٍ مفعمة بالحياة والنشاط، ولكنه عندما اقترن بـ (جنازة النهار) وأصبح متداخلاً مع هذه العبارة في تركيب واحد (تنبض جنازة النهار) فقد كل صلة له بالحياة، بل عمّق صورة الموت عبر التقاء الحقلين الدلاليين (تنبض) و(جنازة) لتكوين صورة شعرية، وإن لحظة الاقتران تلك هي لحظة التوتر الشعري الدقيقة والمركزية في النص، التي توالدت بعدها الصور السوداوية في الواقع (السفر المدَمّى، السفر المليء بالدمار، السفر المليء بالحمى).
أما على صعيد المفردة، فيشهد النص تكراراً لافتاً للانتباه للفعل (تنبض) وللمفردة (السفر)، إذ يشير الإلحاح على مفردة (تنبض) إلى واقع حياتي يأسف عليه الشاعر، لأن هذا التكرار يوحي بالحسرة التي آل إليها (كمال خير بك)، حيث بات الفعل (تنبض) مقروناً بالموت المتمثل بـ(جنازة النهار).
وتشير كلمة (سفر) بوضوح إلى اسشراف المجهول والمستقبل، هذا المستقبل الذي عرف الشاعر ملامحه جيداً، إنه السفر الممتلئ بالانتكاسات والإحباطات، وبالتالي هو المستقبل الميت لاشك (السفر المليء بالدمار)، حيث هناك شعور بالقلق من الإقدام على المجهول، أي التوغل في الحياة أكثر فأكثر.(1/265)
وأما على صعيد التركيب، فيبرز النص اختراقاً على صعيد نظام الجملة نحوياً، حيث يتقدم الجار والمجرور ثلاث مرات على الفاعل في مطلع النص، (تنبض في عينيَّ جنازة النهار، تنبض في يديَّ جنازة النهار، تنبض في سريري جنازة النهار)، ذلك أن المجرور في المرات الثلاثة (عينيَّ، يديَّ، سرير) ذو أهمية كبرى للشاعر، فهو يشكل العناصر والأشياء الذاتية والإيجابية المرتبطة بشكل لا انفصام له بكينونة الشاعر التي تعرضت للموت لاحقاً عبر (جنازة النهار)، لهذا فمن المفروض أن يكون لها شأن خاص في بنية النص، فتقدّمت على الأمر الكريه السلبي (جنازة النهار) الذي أخفى الشاعر ذكره حتى مرحلة متأخرة من النص، فلم يذكر سوى مرة واحدة، لأنه صورة قهرية من صور الموت.
في تركيب (لا، ليس لي اختيار) تعميق لصورة القهر والإجبار على الفعل من خلال وجود أداتي النفي (لا، ليس)، فـ (لا) تنفي قطعاً مسألةً ما وتختلف عن (لم)، و (ليس) تنفي أيضاً نفياً قطعياً قضيةً ما، وعندما التقيتا في صورة وطيدة في التركيب السابق أسّستا لشكلٍ ما قمعي سلطوي تعدَّى حدود السلطة المتعارف عليها إلى سلطةٍ ذاتية ونفسية عميقة تتحكم بالشاعر، وتجبره على اختيار مسار معين، وتعطل إرادته في الخلاص، ويبدو أنّ هذا الاختيار المفروض ينصبُّ كله في (الموت، الدمار، السفر المدمّى، السفر المليء بالحمى).
نكتفي بدراسة النموذجين السابقين لغوياً، لنقول: إن بعض الشعراء في تيار الحداثة قد اخترقوا نظام الجملة بشكل كبير، ومنهم (أدونيس) و(أنسي الحاج) الذي يقوم بانتقالات مفاجئة من حالة إلى أخرى وهذا الانتقال يفرض لغةً موازيةً لمفاجآت الحالة الجديدة، وكأننا في صورة أو لوحة (سوريالية)، وهو يعتمد في هذا على الأفعال المتلاحقة، والتقطيع في الجمل وهذا ما تجسده على سبيل المثال قصيدة (مجيء النقاب)(1)
__________
(1) يقول أنسي الحاج:
جاءت الصورة، لماذا تتأخر؟! كلا لم تجىء. لم تجىء؟
وغد. الشتم مقفلٌ وعليَّ اليباب.
الضباب. الذباب. العذاب! أين؟
وراء. في الوراء. في وراء. وراء
الصوت. الليفة، اللب، الصلب
هل أتخلى؟ متأخرٌ، أرفعُ الجلسة،
أؤجل. لم أكلَّف. لم أنا؟
فليدفعوا، فلأطمح للصورة!
ديوان /لن/ ص 53(1/266)
وأما على صعيد المعجم اللغوي، فيبدو أن (خليل حاوي) من أكثر الشعراء في تيار الحداثة استخداماً للمفردات ذات الإيحاء المرضي من جهة والإيحاء الذي يوحي بالفراغ وبالسقم من جهة ثانية، إنه الفراغ الذي يعني الموت بأعتى صوره. (الحمى، الكهف، الضغط، أعصاب، لفْح، وجعي، صخر، الجلاميد، شبحاً)(1).
ولعل (نزيه أبو عفش) يميل إلى ذكر المفردات التي تُبرز أعضاء الجسد بعد حالة الموت، تعميقاً لصورة العدمية، ومن ثم المفردات التي تشكل عناصر الموت وأدواته (يخنقني، الجمر، النزيف، الجمجمة، الدمامة، يزوغ، يذوي، الخنجر، يرتجف، الزلازل، نعوش، تقيأ، صقيع)(2).
أما الشاعر (رياض صالح الحسين) فإنه يميل إلى استخدام المفردات ذات العلاقة الوطيدة بحياة الشاعر اليومية في الحي وفي المنزل وفي الشوارع ويكسبها صفات مؤلمة، تعتمد هذه الصفات على الموت والفناء أيضاً (القهوة، الرف، قطار، صبايا، الأزقة، الأقفال البلاستيكية، شاشة، صحن، منتجات، السكان، الكتاب، الغرفة، المعتقل، الصورة الشخصية)(3).
ونلمح الأمر ذاته عند الشاعر (محمد الماغوط) فإنه يعمِّق الموت عبر العناصر والمكونات والأشياء المحيطة به في حياته اليومية (الجسور، الوحول الصافية، المدينة، الحقول، البواخر، أجراس، مزارع، مجارير، الرابية، العجلات، القطيع، الضفة.. الخ..)(4).
__________
(1) حاوي، خليل المجموعة الكاملة ص32-51-102-285-286-287
(2) أبو عفش، نزيه، ديوان حوارية الموت والنخيل، ص10-71-83
ديوان (بين هلاكين) ص39- 79
(3) الحسين، رياض صالح، ديوان بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس، ص62- 78، ديوان خراب الدورة الدموية، ص14-35-45-46.
(4) الماغوط، محمد، الأعمال الكاملة، ص50-51-58-59.(1/267)
إن المعجم اللغوي للمعذب يخدم بشكل عام بؤرة العذاب التي تنطوي في النص على تجليات هذه القيمة الجمالية، فليست المفردات التي توحي بعناصر الحياة اليومية إلا أشياء ذات معنى عميق، غير أن افتقاد الشاعر المعذب لهذا المعنى العميق يسمه بصفة العذاب، وينجز هذا الافتقاد المفردات القاتمة والمرعبة، التي تشكّل طرفاً آخر في العذاب لأنها مستمدة من قبح الواقع ومن موت الرغبات داخل الذات الشاعرة.
5- الصورة الشعرية:
أ- السمات العامة
تختلف الصورة عن التشبيه في أن "التشبيه يجمع بين طرفين محسوسين، إنه يُبقي على الجسر الممدود فيما بين الأشياء. فهو لذلك، ابتعاد عن العالم أما الصورة فتهدم هذا الجسر، لأنها توحِّد فيما بين الأشياء، وهي إذ تتيح الوحدة مع العالم، تتيح امتلاكه"(1).
حيث جاء شعر الحداثة بشكل عام ليخترق بنية التشبيه متجاوزاً إياها إلى بنية الصورة ذات المنحى النفسي العميق، فـ"الصورة الشعرية باعتمادها على العلاقات الداخلية التي تثير في الشاعر استجابة لمقتضيات التجربة إنما تنفلت من حالات الحضور إلى حالات الغياب، ومن هنا يقترب مدلول الصورة الشعرية في القصيدة المعاصرة من مدلول الحلم، من حيث كونهما يستجيبان لرؤى الذات الشاعرة وذلك من خلال ما تصبر عنه تحت حفظ الحدث الخارجي الذي تنفصل له أعماق هذه الذات.، فتفرز عملاً فنياً، يكون نابعاً من التجربة الجمالية، التي تشكل وعي الشاعر في تجسيد الرؤية المرتبطة بالوجود منذ لحظة إدراكه"(2)، لهذا فإن للصورة الشعرية عبر مدلول القريب من مدلولها الحلم- وظيفة نفسية من جهة، ووظيفة تكثيف من جهة أخرى، أي اختزال التجربة الحياتية بصورة دقيقة ومركزة بعيدة عن الترهل والاستطالة، ومن ثم فإن الحلم "الومضة":
(حالةٌ من حالات التكثيف أيضاً، وتجربة حيوية لاستقرار الإنسان وتوازنه).
__________
(1) أدونيس، زمن الشعر، ص154
(2) فيدوح، عبد القادر، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، ص388(1/268)
يقول (رولان بارت) في كتابه (لذة النص) حول أهمية الحلم: "إن الحلم ليضع تحت الضوء مشاعر أخلاقية رهيفة رهافةً قصوى، بل وميتافيزيقية. وإنه ليدعم المعنى الأكثر دقة للمعاني الإنسانية. وهو يسمح بالاختلاف الراقي. ويمتلك معرفة من أعلى المعارف الحضارية. وباختصار، إن له منطقاً واعياً، مترابطاً ترابطاً رهيفاً لا مثيل له، لا يستطيع امتلاكه سوى عملٍ يقظ مكثَّف. وبإيجاز، إن الحلم يجعل كل ما ليس فيَّ، وما ليس أجنبياً عني يتكلم: إن هذه نادرة غير متحضرة صُنعت بمشاعر جدُّ متحضرة"(1).
أما من علاقة الصورة الشعرية بالواقع فإن "الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع، ومن ثم يبدو لنا في كثير من الأحيان أن الشاعر أو الفنان يعبث في صوره بالطبيعة وبالأشياء الواقعة، وقد نطلق على هذا العبث لفظة ((التشويه))، فإذا الحقيقة الواقعة تبدو ناقصة أمامنا وقد تبدو، مزيفة غير أن الحقيقة أنه لا تشويه هناك ولا تزييف، لأنه ليس من الضروري أن يكون عالم الوجدان مطابقاً لعالم الواقع، أو أن يكون الذاتي تكراراً للموضوعي، بل الغالب أن يكون للذاتي واقعيته الخاصة"(2) وهذا لا يعني أنه لا يوجد مصطلح (الصورة الواقعية)، أو لا توجد تلك الصورة حقيقةً، ذلك أن الصورة الواقعية تبدأ من الواقع إلى الذات، ومن الذات إلى الواقع، وتغلب الواقع على الذات من وجهة النظر التي تقول: إن الذات -في أساسها- انعكاسٌ للعلاقات الاجتماعية ويأخذ الخيال دوره في النفاذ إلى جوهر الواقع واكتشاف الإيجابي الأصيل والسلبي الزائف، وتكوين النموذج الفني وصياغته على مستوى العمل"(3).
__________
(1) بارت، رولان، لذة النص، ص103.
(2) إسماعيل، عز الدين، الشعر العربي المعاصر، ص127
(3) عساف، عبد الله، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، ص88(1/269)
تنقسم الصورة في شعر الحداثة إلى شقين، الصورة المفردة، والصورة المركبة، حيث الصورة المركبة هي "الصورة الفنية التي تمتد، فيما تحمله، إلى أكثر من اتجاه. وتقوم خصوبتها، ليس على احتمالاتها المطروحة، وإنما على تعدد الصور التي ينهض بها سياق النص، الجسد العام للصورة، وعلى كثافة هذه الصور أيضاً، وتمثل التجربة الشعرية، بمستوياتها كافة، أبرز محمولات الصور المتكاملة المتضمنة، والهادفة إلى خلق جو غني ومثير، غايته كشف عالم التجربة وتوضيح المكونات التي يتأسس عليها بمقصياتها النامية"(1)، والصورة المفردة تدخل في إطار الصورة المركبة الشاملة، إنها ومضة من ومضات الحلم الشامل.
إن أكثر ما يعترض الصورة الشعرية في تيار الحداثة مسألة (الغموض) التي لها علاقة بالمتلقي، فالغموض "وصف يطلقه القارئ على نص لم يقدر أن يستوعبه، أن يسيطر عليه، ويجعله جزءاً من معلوماته. الحداثة، هنا، هي مكان الغموض. الحداثة انقطاع في سلسلة معطيات يصرّ وارثوها على أن تتطاول وتستمر، بهيئتها وعناصرها. ومثل هذا الانقطاع يقود إلى ضياع القارئ الذي لا ذخيرة له غير الذاكرة الحافظة، وغير التقليد والعادة، فالغموض إسقاط: إنه وليد هذا الضياع. إنه ناتج عن عدم إدراك الفرق بين طريقة التعبير القديمة، والطريقة الحديثة، وعن عدم إدراك معنى زمنية الشعر، وعن الحكم على اللحظة الحاضرة بلحظة تعود إلى حوالي عشرين قرناً، والعجز عن الحياة في حركية التحول"(2).
إن الغموض يقدّم لنا مالا نتوقعه، والذي لا نتوقعه في الحقيقة هو صورة إحساسنا الداخلية العميقة، وليست صورة الإحساس الظاهرية، وعليه فإن الغموض صفة إيجابية في الفن وليست سلبية، ولا تكون سلبية إلا إذا وصلت مرحلة التهويم والغوغائية، والتهويم في الشعر ظاهرة نحوية لغوية بعيدة عن الظاهرة الفنية الأصيلة.
__________
(1) جابر، يوسف حامد، قضايا الإبداع في قصيدة النثر، ص164
(2) أدونيس، زمن الشعر، ص280(1/270)
وقد أشار الدكتور (عبد اللطيف عبد المجيد) في كتابه (في الشعر العربي المعاصر وتحليله) إلى أهمية الصورة في شعر الحداثة، واعتبرها تعويضاً عن سحر الموسيقى الموجود في القصيدة فقال: "لقد أصبحت الصورة الجديدة بما تمتلكه من شحنات ذهنية والمعتمدة على (الحركة والصوت واللون) تعويضاً عن السحر الموسيقي في الشعر التقليدي والذي كان يخلق مجرد عملية تلاحم صوفي بين المتلقي والشعر، واستطاع الشاعر الجديد، بما مُنح من حرية، أن يشكل صورته الخاصة به، يتحكم هو دون غيره بإطارها ومحتوياتها، فتعبر حينذاك عن وعيه الحقيقي للعالم"(1).
وأخيراً لابد من أن نشير إلى علاقة الصورة الشعرية بالمستوى الرمزي الأسطوري، حيث "بنيت الصورة الشعرية في إطارها الرمزي الأسطوري على مجموعة من المكونات من شأنها أن تستقطب الأبعاد النفسية لرؤية الشاعر، نحاول أن ندرجها تباعاً على النحو التالي:
أ- المكوّن النفسي
ب- المكون الاجتماعي
ج- المكون الحضاري..)"(2)
وكما يقوم الرمز الأسطوري والرمز التاريخي الحياتي بعملية الدلالة والإيحاء، فإن الصورة تفعل هذا أيضاً، تقوم بعملية الترميز، فهناك علاقة وثيقة بين الرمز والصورة" علاقة تفاعل ضمن جدلية التأثر والتأثير فالصورة هي الرحم الدافئ الذي ينمو فيه الرمز، تزداد خصوصيته. فهي من خلال عناصرها المتمثلة بالواقع والفكر والعاطفة واللاشعور والخيال- تضيف إلى الرمز أشياء جديدة، وتضعه ضمن مناخ خاص يكفل وصوله إلى المتلقي، وتأثيره فيه، كما أنها -من خلال طبيعتها الحسية- تساعد على تجسيد الرمز، وعلى وضعه ضمن مساحة الحواس"(3).
ب- الخلق:
__________
(1) عبد المجيد، عبد اللطيف، 1990 في الشعر العربي المعاصر وتحليله، منشورات جامعة البعث سورية. ص166.
(2) فيدوح، عبد القادر، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي المعاصر، ص414.
(3) عساف، عبد الله، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، ص267(1/271)
لقد أشرنا في حديثنا عن (الخلق) في المدرسة الرومانتيكية إلى أهم إنجازات الصورة على صعيد التوليد والابتكار، ولعل مدرسة الحداثة في الشعر في سورية ولبنان قد تجاوزت المرحلة الرومانتيكية في استخدام الصورة الشعرية ومرتكزاتها، فوصلَ التوليد إلى مستوى عالٍ من الطاقة الاحتمالية، وإلى قدرٍ كبير الإدهاش، إضافة إلى هذا فإن الصورة شهدت انزياحاً كبيراً أيضاً من خلال عمليات التكثيف الهائلة فيها، وحالة مثلى في خلخلة الصورة التقليدية، إن هذا يفضي بالضرورة إلى انزياح على صعيد اللغة وعلى صعيد المعجم اللغوي، ومن ثم دلالة المفردة.
النص الأول في دراستنا للشاعر خليل حاوي بعنوان /الجروح السود/ يقول فيه(1):
خلَّيْتُها تروحُ
وانهار قلبي رمَّةً
جنازةً خرساءَ لا تنوحْ
تطلُّ من رسمٍ على الجدارْ
ضحكةُ عينيها... وعبرَ الدربِ والغبارْ
امرأةً تخفي بكفٍ عينَها
المزرقَّةَ الرهيبهْ
تعيا بثقْلِ الشمس والحقيبهْ
تمضي إلى محطة القطارْ
مرارةً وعارْ،..
تفْلٌ بلا طعمٍ
بقايا الحب، تفْلُ الحقد في القرار
يسير النص بأسلوب (القص الشعري) حيث تتصاعد حالة العذاب من لحظة غروب الأنثى (خَلْيتها تروح/ وانهار قلبي رمَّةً) حتى المرارة الرهيبة في نهاية النص/ بقايا الحب تفْلُ الحقد في القرارْ/.
يطالعنا النص بالصورة المركبة/ وانهار قلبي رمة، جنازةً خرساء لا تنوح/ التي تتوزع على صورٍ جزئيةٍ تشع وتنطلق من تركيب /وانهار قلبي/ أساس الصورة المركبة، ومن ثم تتوالد الصورة الشاملة من الصورة الجزئية:
وانهار قلبي ... ... رمَّة ... ... جنازة خرساء ... جنازة لاتنوح
__________
(1) حاوي خليل الديوان ص57- 58.(1/272)
إن الصورة المركبة السابقة مبينة بناء درامياً، ذلك أن هذا البناء أصبح من سمات نص الحداثة ككل، حيث شهدت الصورة نقطة انعطاف هائلة على صعيد الحالة النفسية، وهذه النقطةُ هي أحد ملامح الخلق في الصورة، فـ (القلب) هو المحرك الأساسي للجسم البشري، وهو مصدر العواطف والأحاسيس الخ...، غير أنه سقط فجأة، وبصورة حادة، (وانهار قلبي رمة/ جنازةً خرساء)، انهار نتيجة لظرفٍ واقعي (خلل واقعي) كامن في غياب (الأنثى).
لقد انعكس هذا الخلل بشكل سلبي وقوي في آن، فكان أنْ سقط القلب جنازة خرساء لا تنوح، فالانتقال من أعلى حالات الحياة والحيوية إلى أعلى حالات تعطيل الإرادة ومن ثم الموت، يخلقُ صراعاً نفسياً داخلياً عميقاً، كما أن انعكاس الحالة الحادة على البنية الفنية لابد له أن يولد شكلاً فنياً جديداً ونظاماً آخر في الخيال -إن صح التعبير- إذ لابد أن نشير إلى مسألة على جانب كبير من الدقة، وهي أن الأجواء العامة لحياة (خليل حاوي) الممتلئة بالسوداوية وبالموت الحضاري، قد انعكست نفسياً على بناء الصورة السابقة بحالة لا شعورية، فجاءت الصورة ناضجة تحمل في طياتها عوامل الإدهاش والتكثيف، حيث أدركنا سابقاً أن (السوداوية) أو (العدمية) عند شاعر ما تتعمَّم على مختلف جوانب الحياة، وهنا، في الصورة السابقة، تعممت حالة العدمية على حادثة اجتماعية من مفردات الحياة اليومية التي يعيشها (حاوي).(1/273)
من جهة المتلقى، أشرنا إلى أن الصورة على قدرٍ كبير من الإدهاش، والإدهاشُ حالة جديدة مباغتةً (حالة خلق)، إذ حين يسقط القلب جنازةً خرساء، فإن ذلك ينطوي على انزياح كبير في العلاقات الدلالية، وينطوي -من خلال الصورة- على الغريب، فالشعورُ أن الصورة غريبة ليس أمراً سلبياً، إنها غريبةٌ على ما هو سائد أو ما هو سابق في عملية التقاء الحقول الدلالية، وغريبة أيضاً، لأن المتلقي لا يتوقعها، ولكنه يدهش لها لأنه يقوم بإسقاطها إما على الواقع، وإما على حالته النفسية فتحرّك في داخله عناصر خفية، وهذا هو الأهم، وإنّ الذي لا نتوقعه ويدهشنا في آن، يخلخل في داخلنا كموناً مختزناً من العلاقات، ويعيد تركيب علاقاتٍ جديدة.
إضافة إلى ما تحمله الصورة السابقة من عوامل الخلق، فإنها تحمل الطرافة، التي لا يفترض أن نفهم منها الميل إلى الفرح، بل إنها إحدى جزئيات الدهشة، وبمعنى آخر، نشعر بألم لذيذ ألم أقرب ما يكون إلى (المازوخية)، لأن المازوخية بالضرورة حالة من حالات الصراع، وهي أحد الأشكال المختلفة للبناء الدرامي الذي يحس به المتلقي (الجانب الآخر من العملية الإبداعية).
وتتواصل الصور في القصيدة، ويحط بنا الركب عند نموذج آخر للخلق في الصورة، حيث نتوقف في نهايات المقطوعة عند (مرارةً عار/ تفلٌ بلا طعم بقايا الحب، ، تفْلُ الحقد في القرار)، فاللافت للانتباه في الصور السابقة كلمة (تفْل) إحدى مكونات الصورة، وأساس الخلق فيها، ذلك أنها تشكل حقلاً دلالياً جديداً نجح ضمن السياق العام في إخراج صورة ناضجة، حيث المرء -عبر النظرة الأولى للصورة- /تفلٌ بلا طعم بقايا الحب/ -يدرك أن هناك حالة فلسفية في بناء الصورة، وبالتأكيد فإن تلك الحالة متوفرة، غير أن البناء الفلسفي للصورة هنا ناتج عن حالة انفعالية، وهذا من ضرورات الفن والنظرة الجمالية.(1/274)
إن جوهر الخلق في الصورة بشكلٍ عام وفي الصورة السابقة بشكل خاص ينطلق من الانفعالية كأساسٍ له، والذي عزَّز هذه الانفعالية في الصورة السابقة التركيب الذي يليها/ تفْلُ الحقد في القرار/ وهو تركيب أيضاً ينطوي على صورة ذات مرجعية نفسية عميقة تتعلق بالأجواء العامة لحياة (حاوي). حيث السياق التصاعدي لحالة القص الشعري ينبئ بهوة عميقة بين الشاعر والواقع.
النص الثاني في دراستنا للشاعر (رياض صالح الحسين) من قصيدة بعنوان (أقمطة ونياشين وولاعات للرجال السعداء) يقول فيها:(1)
فمكَ مغلقٌ، ولسانكَ مصفّد
ترى، هل تخبِّئ في فمكَ أغنيةً أم نقالةَ موتى؟
حديثاً عن عطلة نهاية الأسبوع؟
أم طفلةً بعينين مفقوءتين؟
هل نسفوا لسانكَ أيضاً؟
أم ثبتوه بسقف حلقكَ بالدبابيس الفضية؟
يتجلى /المقموع/ كشكل من أشكال المعذب في النص السابق، حيث تظهر ملامح التسلط في النص في أكثر من مكان (فمك مغلق/ ولسانك مصفّد/ نسفوا لسانك أيضاً/ أم ثبَتوه بسقف حلقك/).
أما الصور في النص فتنطلق من تركيب (تخبئ في فمك) لتشكِّل في النهاية صورة مركبة متكاملة، وتبدأ هذه الصورة من التساؤل (هل تخبئ في فمك؟)، ومن ثم تستند الصورة على تعداد أشكال التساؤلات وفق ما يلي:
... ... ... ... ... أغنية
... ... ... ... ... نقَّالة موتى
هل تخبئ في فمك ... ... ... ... حديثاً عن عطلة نهاية الأسبوع
... ... ... ... ... طفلة بعينين مفقوءتين
إن الحالة المثلى للخلق ليست كامنة في التساؤل الأول (هل تخبئ في فمك أغنية؟)، بل هي كامنة في التساؤل (هل تخبئ في فمك نقالة موتى)، ذلك أن إخفاء نقالة الموتى في الفم صورةً لم يعتدْها المتلقي، لأنه محتفظٌ بكمون لا بأس به من الصور التي ترتكز: إما على الموروث الماضي وإما على الصورة في المرحلة الرومانتيكية، ومن ثم فإنه يمكن للصورة داخل تيار الحداثة أن تكون مألوفة مع كثرة استخدامها أو استخدام مشابهات لها بناء وتركيباً.
__________
(1) صالح الحسين، رياض، خراب الدورة الدموية، ص35- 36(1/275)
ولعل (إخفاء نقالة الموتى في الفم) يشير إلى خلخلة في الموقف الجمالي الذي وقفه الشاعر العربي طويلاً في السابق من المحيط، ويؤسس لموقف متطور عن سابقه، لذا فإن ذلك (الإخفاء) يعكس بشدة شكل القمع المفروض على نموذج (المعذب) في النص، ويعكس بالضرورة صورة العذاب عند ( رياض صاع الحسين) ولقد نتج ( الخلق) في الصورة عن الحالة النفسية البالغة التأزُّم أمام قمع سلطة معينة، ولابد لهذا القمع أن ينتج (تفجيراً) أو (انزياحاً) كبيراً يتبدى في اللغة بشكل عام، وفي الصورة بشكل خاص، فالهوة السحيقة بين الشاعر والواقع المحيط- عبر قضية القمع والغربة- تحتاج ردماً وأساساً كبيراً لبناء ما تهدّم.
إن هذا الأساس الكبير تجلّى بالنتيجة في هذه الصورة، وفي الصور اللاحقة لها، ويبدو أن إخفاء نقالة الموتى جاء نتيجةً لتراكمات متعددة لظواهر الإحباط، لهذا فإن (نقالة الموتى) تكثيف لحالات الإحباط ونتيجة لها في آن.
أضف إلى ذلك أن الصورة الجزئية (هل تخبئ في فمك طفلة بعينين مفقوءتين؟) توحي كسابقتها بمقدار الانزياح في دلالة المفردة، فالفم لم يعد يمتلك وظيفة حياتية، وليس هو ذاته ذلك الحيز المكاني في الكائن الحي، لقد صار في النص يطابق تماماً (اللاشعور) بكل مكوناته.
إن الفم الذي يحمل الإحساس بأن فيه (نقالة موتى) وبأنّ فيه (عينين مفقوءتين) ليس إلا (وعاء اللاشعور)، ذلك أن (نقالة الموتى) و(العينين المفقوءتين) هما إحْساس نفسي عميق تجسّد حسياً عن طريق (الفم)، أي أن (اللاشعور) تجسد واقعياً عن طريق (الفم)، وهذا التجسيد أتى مدهشاً غريباً على الوعي الذي يمتلكه المتلقي، ثم إن (نقالة الموتى) و(العينين المفقوءتين) هما من إنجازات القمع السلطوي، لهذا فإن إخفاءهما عبر الصورة السابقة ينطوي على الكثير من السخرية المرة والطرافة كما انطوت الصورتان الأخيرتان في المقطوعة: (هل نسفوا لسانك أيضاً/ أم ثبتوهُ بسقف حلقك بالدبابيس الفضية).(1/276)
إن كلا الصورتين تشيران إلى فعل قسري لتعطيل الإرادة والصراع، لأن الجوهر الحقيقي للصورتين راجع إلى جذور نفسية عميقة أيضاً، فالتثبيت شكل أساسي من أشكال (الكبت) في الصورة الثانية، لأن الفعل (ثبتوه) -ضمن سياق النص- يشير إلى منع رغبةٍ أو رغبات عن التحقق على أرض الواقع لوجود فعل سلطوي، فجاءت الحالة قاسية ومتجسدة من خلال المفردتين (نسفو، ثبتوه) اللتين تمثلان حقولاً دلالية جديدة في طريقة الطرح، حيث أسهمت هاتان المفردتان في توليد صورة غير مألوفة للمتلقي.
ج- الرمزية:
وكما تحمل القصيدة الحديثة بين طياتها الصورة الجديدة التي تنم على وعي مالي متطور، فإنها تحمل مستوى رمزياً على درجة عالية من الإيحاء النفسي، فالصورة المركبة تحمل شحنة نفسية، هي مجموع الشحنات الناتجة عن الصور الجزئية، وهذا ينعكس -لا شك- على مسألة الرمز الشامل للنص، المأخوذ من الرموز الجزئية للصور المتفرقة، حيث يمكننا من خلال الصورة الشاملة الكلية معرفةَ رمز الكلمة ضمن السياق، وليس بمعزل عنه، والمقصود بالكلمات المرموزة "تلك التي تكون مشحونة بالإيحاءات وليس بالإمكان (تقييد)، معناها بألفاظ قليلة، بل إنها تتخطى تأويلات شعرية شتى بحيث تكتسب وجوداً مطلقا دائم الحيوية، كما أنها -وهذا مهم- تتردد في أكثر من مكان في أكثر من قصيدة واحدة بإشارات متنوعة"(1).
إننا لن نتناول الكلمات التي توحي بالعودة وبالانبعاث لأنها كلمات في الأصل لا تدخل في حيز دراستنا عن (المعذب).
النص الأول في حديثنا عن (الرمزية في الصورة) للشاعر (علي الجندي) من (النشيد الخامس والعشرين) من قصيدة (قطري بن الفجاءة) يقول فيها(2):
علامَ تُحدِّقُ فيَّ وتحمرُّ عيناك يا سيدي العلقما؟
كأنكَ جئتَ إلينا
من الوهم أو ربَّما
وصدرُكَ هذا المدمّى، ووجهُكَ هذا العجيبُ
الذي طالما...
__________
(1) الخواجة، دريد يحيى، الصفة والمسافة، ص105
(2) الجندي، علي، ديوان الحمى الترابية، ص62.(1/277)
حلمنا به... مقبرهْ
لكل الخطوب الحزانى
لكل الرؤى المقمرهْ
لماذا تحدِّقُ فينا
وتبدو لنا مقلتاك نذيراً ورعبا
إن (السوداوية) هي أحد تجليات المعذب الأساسية في النص حيث تشكِّل كلمة (علقما) البؤرة المركزية في المقطوعة، ومنها خرج الكثير من الصور الجزئية، وتشكلت لدينا في النهاية لوحة كاملة لصورة (العلقم)، فكلمة (علقما) التي ترمز إلى المرارة العميقة ترمز أيضاً من خلال النص إلى أشكال وسمات تلك السوداوية في الواقع المحيط، ويبدو أن تلك الأشكال على قدر كبير من الحدة والقمعية، فوجد كلمة (سيدي) قبل (العلقم) في تركيب (يا سيدي العلقما) ينبئ بظهور مرتكزات سلطوية تحيط بالعلقم، أما الصور المنبعثة من مفردة العلقم فهي صور تقوم بتجسيد هذه المفردة وفق ما يلي:
... ... ... ... تحدّقُ فيَّ
... ... ... ... تحمرُّ عيناك
... ... ... ... صدُركَ هذا المدمى
العلقم ... ... ... ووجهك هذا العجيب
... ... ... ... المقبرة
... ... ... ... مقلتاك نذيراً ورعباً
فالصور الجزئية التي أشرنا إليها سابقاً، تقوم بعملية الرمز في اتجاهات ومستويات متعددة، وكل هذه المستويات تصبُّ في حيز وصفِ العلقم بأشكاله وسماته.
فالصورة (علام تحدق فيّ) بناء تجسيدي للعلقم، يرمز إلى تكثيف صورة المرارة القادمة من المحيط، وكذلك صورة (تحمر عيناك)، فاحمرار العين أمر مختزن في ذاكرتنا يرمز إلى شدة الغضب من شخص ما أو من ظاهرة ما، ومن ثم فإن احمرار العين في الصورة السابقة، يُبرز تعاظم المرارة وتجذُّرها، ويعكس الانسحاق أمام هذا التعاظم مع غياب فعل تحويلي ثوري.(1/278)
وأما الصورتان (صدرك هذا المدمى/ وجهكَ هذا العجيب) فهما مواصلة لتجسيد صورة العلقم من جهة، ورمز لوطأته على ذات الشاعر من جهة أخرى، فالشعور بأن صدر العلقم (مدمى) وأن (وجهه) عجيب يوحي بالدهشة القائمة على الخوف من العناصر المصاحبة للمرارة، ذلك أن جميع العناصر المصاحبة سلبية بالضرورة، ومن هذه العناصر السلبية (المقبرة)، فاقتران العلقم بالمقبرة، يرمز إلى أحد إنجازات العلقم وهو الموت بالمفهوم النفسي.
إن العلقم مقبرة للرؤى المقمرة، الرؤى التي ترمز إلى الإشراق الذي يعكس نفسياً شكل الاستقرار المفقود عملياً من ذات (علي الجندي).
وتأتي صورة (لماذا تحدّق فيَّنا) محددة ، إلا أن هذه الصورة تختلف عن الصورة السابقة( لماذا تحدق فيَّ)، فالصورة الجديدة جاءت بصيغة الجمع (فينا) أما السابقة فجاءت بصيغة المفرد (فيَّ)، وهذا يرمز بالضرورة إلى شيء وقفنا عنده مراراً، وهو أن السوداوية من المسائل التي تتعمم على العناصر المحيطة كاملة، لهذا فإن الصورة الجديدة تشرِّع نفسياً هذا التعميم.
أما الصورة الأخيرة في المقطوعة (تبدو لنا مقلتاك نذيراً ورعباً)، فإنها ترمز إلى بناء المستقبل المرير الذي ارتآه الشاعر، واستخلصه من الواقع القبيح، فكلمة (النذير) لم تأت بمعناها الإيجابي، بل أتت مكمِّلة ومعمِّقة للعذاب المستقبلي، لأن (النذير)- في الأصل، وعبر ذاكرتنا- يحذِّر من العواقب المستقبلية لارتكاب فعل غير سوي في الواقع المعاش، ويقوم بفعل النصح والإرشاد، هذا لأن النذير أيضاً يرتبط في مجتمعنا الشرقي بالنبوة والرسالة، بيد أن العلقم جاء نذيراً لكل ما هو سوداوي وسلبي وقمعي، وأخيراً جاء ذلك العلقم رمزاً للخوف في الصورة الأخيرة.
النص الثاني للشاعر (نزيه أبو عفش) من قصيدة (مفكرة النخيل والزعتر)(1):
وأنا المارقُ من قافلةِ الأهلِ
وزلاَّتِ العيونِ المستجيرهْ
__________
(1) أبو عفش، نزيه، حوارية الموت والنخيل، ص13(1/279)
أتوارى بين جلدِ الليل والشمسِ
وأعرْى في فظاظات الظهيرهْ
لابساً وجهي على علاَّتِهِ...
جِلْدي.. وأوراقي.. وأشعاري الأليفهْ
إن (قافلة الأهل) هي منطلق النص وأساسه، وهي الخطوة الأولى في عملية التمرُّد على الواقع في عاداته وتقاليده، وعلى هذا التمرد ينطوي العذاب.
- في النص ثلاثة مستويات للرمز وهي على الشكل التالي:
أ- الرمز الكلي للصورة (اللوحة، المقطوعة)، حيث أشرنا إليه سابقاً وهو عملية التمرد على الواقع، لأن الصورة في مجملها رمزٌ للهرب والغربة عن العلاقات الاجتماعية السائدة.
ب- الرمز الناتج عن الصور الجزئية، والصور الجزئية هي:
1- أنا المارق من زلات العيون المستجيرة
2- أعرْى في فظاظات الظهيرهْ
3- لابساً وجهي على علاّته
4- لابساً جلْدي وأوراقي وأشعاري الأليفة.
فالصورة الأولى (أنا المارق من زلاّت العيون المستجيرة)، ترمز إلى حالة الاغتراب والسعي إلى الخلاص عند فئة معينة في الواقع، متمثلة بـ(العيون المستجيرة) التي تقع تحت وطأة القمع وأشكال العلاقات السلبية.
وأما الصورة الثانية (أتوارى بين جلد الليلْ والشمس)، ترمز إلى شدة الهرب والعزلة عن الواقع، فالتواري أحد أشكال الاختفاء وأحد مظاهر العزلة والهرب.
والصورة الثالثة (أعْرى في فظاظات الظهيرةْ) ترمز إلى حالة غير سوية في ذات الشاعر تفضي إلى الشعور بالألم والانكسار، وتمثلَ هذا في (فظاظات الظهيرهْ)، فالتعري الذي في الصورة جاء بمعنى الانفلات (التمرد القهري)، وجاء بمعنى النفي أيضاً.
وأما الصورتان الرابعة (لابساً وجهي على علاته) والخامسة (لابساً جلْدي وأوراقي وأشعاري الأليفة) فهما تعميق للصورة الثالثة، وترمزان إلى حالة الهرب وشكْله.(1/280)
إن صورة (لابساً وجهي على علاَّته) تجعلنا نقف عند مفردة (علاَّته) اللافتة للانتباه، فاقترانُ (الوجه) بـ(علاته)، جاء لأن (الوجه) يحمل الملامح الأساسية لنفسية الإنسان (الكآبة، والحزن، والفرح، الخ...) وأما (العلات) التي يحملها الشاعر في وجهه فترمز إلى صور العذاب المأخوذة من الواقع في رحلة التمرد والهرب.
3- أما المستوى الثالث للرمز في المقطوعة فهو رمزُ الكلمة حيث أشرنا إلى بعض رموز الكلمات في النص، غير أن المفردتين الأساسيتين وهما (الأهل، وجهي)، يمكن دراستهما من خلال رمزهما على النحو التالي:
هنالك في البداية تناقض كبير بين (الأهل) و(وجه) الشاعر، أما الأهل فرمز للواقع وللحياة الاجتماعية وللعادات وللفئات المتسلطة القمعية، حيث (الأهل) -في سياق النص- رمزاً أيضاً للسقوط الحضاري وللقبح.
وأما (الوجه) فهو الذات الشاعرة، التي تقف ضد السقوط الحضاري والقبح، ولكنَّ وقوفها لا ينطوي على صراع وحركة، بل على تعطيل الإرادة والهرب والعزلة.
وهنالك مفردات كثيرة في شعر الحداثة تحمل طاقة نفسية كبيرة عبر الرمز، فكل شاعر من شعراء الحداثة يميل إلى استخدام مفردات لها رمزها المختلف، وقد يكون للكلمة الواحدة أكثر من رمز أو يكون لها رموز عديدة، (فالريح) على سبيل المثال مفردة أخذت أبعاداً رمزية مختلفة بين شاعر وآخر في تيار الحداثة، وذلك فيما يخص مفهوم (المعذب).
إن رمز الريح عند السياب تختلف عن رمز الريح عند (حاوي)، فالريح عند السياب ترمز إلى التدمير والخراب الناتجين عن التسلط القمعي السياسي أما (خليل حاوي) "فإن للريح عنده محمولاً مختلفاً، وهو التشيؤ والاغتراب. ولهذا فإن الصقيع والجليد والعراء من مصاحبات الريح عنده، وإذا كان السياب يرى في الريح سلاحاً بيد الديكتاتور، فإن (حاوي) يراها سلاحاً بيد الواقع المادي المبتذل"(1).
__________
(1) كليب، سعد الدين، وعي الحداثة، ص87(1/281)
ولقد وقفنا في معرض حديثنا عن (التشكيل اللغوي) عند رمز بعض المفردات والألوان في قصائد الشاعر (محمد عمران)، فاللون الأحمر رمز لكل ما هو سلبي، بيد أن الأزرق رمز لكل ما هو إيجابي وخيِّر، فالأحمر رمز للقبح، بينما الأزرق رمز للجمال المفقود في الواقع.
إن وجود هذه الألوان في القصيدة، أي قصيدة (الأزرق والأحمر) قام أيضاً بتكثيف السلبيات والإيجابيات في المحيط عبر ذلك الرمز المنطوي على ذكرْ الألوان، "فالذات الشعرية الحديثة، وجدت في إيقاع اللون، كواحد من مظاهر المجال التخييلي، تعبيراً أكثر خفاءً وأشد رمزية من إيقاع الصوت يناسب حركتها الداخلية السرية وإيقاعها التعبيري الصامت، خاصة أن إيقاع اللون قادر على تعويض إيقاع الصوت نظراً لارتباطهما الحميم، الذي تؤكده بعض النظريات الموسيقية والرياضية الحديثة"(1).
د- التناقض في الصورة:
__________
(1) خصباك، عائد، 1989، الشعر حتى نهايات القرن العشرين، المحور للدكتور علوي هاشمي، بعنوان /إيقاع اللون في القصيدة العربية الحديثة/ دار الحرية بغداد. ص270.(1/282)
إن الحداثة الشعرية قائمة على التناقض، الذي يحدث عبر صور المفارقة في النص، ذلك أن صور المفارقة تعني "تلك التركيبات الفنية التي تُعبّر عن الشيء ونقيضه في آن، وتصدر عن طبيعة الرؤية الكونية الحدْسية للإنسان، بوصفها رؤية تهتك الحجاب المضروب بين الأنا والعالم، الداخل والخارج من جانب، وتقدِّم جدلية التضاد في الوجود من جانب آخر وسواء لجأ الشعراء في هذه الصور إلى المفارقة الساخرة التي تُبين الاختلاف بين هذا الواقع والإحساس به أو مفارقة الازدواج أو التناقض الخ... فإنها جميعاً صور احتفلت بها صور القصيدة العربية المعاصرة أيما احتفال"(1)، فجدلية التضاد في التناقض ليست جدلية فلسفية محض، بل إنها جدلية ذات مرجعية انفعالية تحيل الصورة على بنية فنية أصيلة، يقول /عبد الكريم الناعم/ في قصيدة /عبور/ المقطع /4/: (2)
حين عبرتُ السوقَ رأيتُ الأفراح الريفية تبكي،
تبكي في دور البحار.
((كردانُ)) العرس المشنوق بباب الصاغة
لم يعرفني،
لم يذكر أيام الفرح الطارئ
نَفَضُوا عنه غبارَ الحِنَّة،
ليلَ الدبكة، الدبكةُ،..
وجْهُ ((عتابانا)) الشرقية نائحةً
في ليل الفرحه
(هذا زمنٌ ينسى فيه الباكي جُرْحهْ
تنسى الدمعةُ مسقَطَها لا تمسحها كفْ
يُحبَس في كل صناديق الأموالْ
زمنٌ يملكُ فيه الدورةَ (بضعُ) رجالْ
هذا زمنٌ يسوقُ؛
فيه يُباع الناس
وأنتِ
تنبع الغربة في النص من عدة عوامل أسهمت في تكوين شخصية معذبة، وأهم هذه العوامل عدم الشعور بالحميمية والألفة مع الواقع المحيط، وانتهاء حالة الفرح من هذا الواقع لظروف قمعية (زمن يملك فيه الدورةَ ((بضعُ)) رجال)، وموت بعض العادات الجميلة في البيئة الاجتماعية (الأفراح الريفية، الدبكة،).
أما مظاهر التناقض في النص فتكمن في الصور التالية:
1- رأيت الأفراح الريفية تبكي
__________
(1) اليافي، نعيم، أوهاج الحداثة، ص208- 209
(2) الناعم، عبد الكريم، /الكتابة على جذوع الشجر القاسي/ ص82- 83(1/283)
2- كردان العرس المشنوق بباب الصاغة لم يعرفني
3- الدبكةُ نائحة في ليلِ الفرحة
إن الصور السابقة تشكل إسقاط الذات المغتربة المتألمة على الواقع، ذلك أن الصورة الأولى (رأيت الأفراح الريفية تبكي) تشير بالفعل إلى رؤية الذات الشاعرة للعلاقات الحميمية والسعادة والاستقرار وهي تتهَّدمُ، فالأفراح الباكية تنجز حالة التوتر النفسي القائمة بين الشاعر والمحيط، حيثُ الفرحُ هو السمةُ الماضية في الواقع (الريف)، غير أن البكاء هو السمة الحاضرة والمستقبلية في ذلك الواقع، وعليه فإن الفرح -لا شك- سابق على الحزن والألم، وهذا يشير إلى نقطة التحول والانعطاف بين الماضي والحاضر، بين وجود الجمال بأشكاله المتعددة في الماضي، وبين وجود القبح بأشكاله المتعددة أيضاً في الحاضر.
أما الصورة الثانية (كردانُ العرس المشنوق بباب الصاغة لم يعرفني) فهي صورة مركَّبة تنطوي على صورتين جزئيتين هما:
1- كردان العرس المشنوق (الصورة الأولى)
2- كردان العرس لم يعرفني (الصورة الثانية)
إن (كردان العرس) هو تعبير عن أحد مظاهر الفرح، وحين يكون هذا المظهر مشنوقاً، فإنه يفضي بالضرورة إلى صورة متناقضة، إلا أن هذا التناقض له مشروعيته التي تتشابه مع مشروعية الصورة الأولى (الأفراح الريفية تبكي)، (فالأفراح التي تبكي) هي بالضرورة (كردانُ العرس المشنوق) عبر منطق الحزن والفرح، حيث (الأفراح، الكردان) على نقيض من (البكاء، الشنق)، وعندما يظهر البكاء والشنق في الواقع فإنهما يرجِّحان القبح ويعمِّقان صورة العذاب، بينما تتراجع (الأفراح) الحالة الجميلة المقهورة في البيئة الاجتماعية.(1/284)
أما الصورة الثالثة والأخيرة في النص وهي (الدبكة نائحة في ليل الفرحة) فتنطوي على تناقضين أيضاً، أما التناقض الأول فهو أن (الدبكةَ) أحد مظاهر البهجة نائحةٌ، وأما التناقض الثاني في الصورة يكمن في أن (الدبكةَ نائحةٌ) في (ليلِ الفرحةِ)، حيث نجد في الصورة بمجملها تحولاً من فرح إلى حزن إلى فرح وفق ما يلي:
الدبكة ... ... ... مسافة التناقض ... ... ... في ليل الفرحة
... ... تناقض أول ... ... تناقض ثاني
(مظهر السعادة) ... ... ... ... ... ... (مظهر السعادة)
نائحة
(مظهر حزن)
ولكن (الدبكة، ليل الفرحة) كمظهرين من مظاهر البهجة سقطاً في دوامةِ (نائحة) كمظهر من مظاهر الحزن والألم، ومن ثم فإن التناقضات السابقة تشير إلى عدم توازن (الأنا)، على الرغم من أن تلك (الأنا) منفتحة على الواقع، لقد قضت على الحجاب بينها وبين الواقع، غير أن انفتاحها لم يكن إيجابياً، بل كان سلبياً وبصورة قهرية أيضاً، فإذا كان التناقض السابق في الصورة قائماً على فلسفة انفعالية تحيل /المعذب/ عند الناعم على /المعذب حياتياً/، فإن التناقض عند أدونيس ويوسف الخال قائم على الفلسفة المحض في معظم القصائد حيث نرى المقدمات والنتائج عندهما، ويحيل التناقض لديهما على /المعذب فلسفياً/(1)، الذي وقفنا عنده سابقاً، فعادة ما نرى في شعرهما مقدمة تبدأ بالمفردة وتنتهي بنقيضها، وكأننا في حالة تضاد، أو حيال (طباق) طالما شاهدناه في البلاغة العربية القديمة.
6- الإيقاع الموسيقي:
__________
(1) يقول أدونيس:
نموت إنْ لم نخلق الآلههْ
نموت إن لم نقتل الآلهة
يا ملكوت الصخرة التائههْ
المجلد الأول /أغاني مهيار الدمشقي/ ص470
ويقول أيضاً:
مسافرٌ دونما حراك ... يا شمسُ، من أين لي خطاكِ
المصدر السابق ص487.(1/285)
"إن الشعر الجديد لم يلغ الوزن ولا القافية، لكنه أباح لنفسه -وهذا حق لامماراة فيه- أن يُدخل تعديلاً جوهرياً عليهما، لكي يحقق بهما الشاعر من نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه. فلم يعد الشاعر حين يكتب القصيدة الجديدة يرتبط بشكل معين ثابت للبيت ذي الشطرين وذي التفعيلات المتساوية العدد، والمتوازنة في هذين الشطرين، وكذلك لم يتقيد في نهاية الأبيات بالروي المتكرّر أو المنوَّع على نظام ثابت"(1) فقد قضى الشعر الحديث على النمطية الموجودة في القصيدة الإيحائية تناسباً مع الحالة الشعرية التي تفرض تجارب مختلفة من شاعر إلى آخر.
حيث "أحسَّ الشاعر الحديث بوطأة الموسيقى الشعرية التقليدية، ذات القوالب المسْبقة الصنع، على مشاعره، وشعر بحاجته إلى التعديل في الفلسفة الجمالية. ولكن استقرار الجماليات القديمة في ضمائر الشعراء لكثرة ما قرأوا وما نظموا من الشعر التقليدي، حال دون الخروج الحقيقي على تلك القوالب. حتى كانت نهاية الأربعينات من هذا القرن، حيث حاول رواد الشعر الحر الخروج من الإطار الموسيقي للقصيدة التقليدية إلى إطار موسيقي جديد ليس تطويراً للقديم، ولا تعديلاً فيه، وإنما تجديد جذري بعيد عن تلك "الإصلاحات" الشعرية"(2)، ومن ثم فإن ذلك التجديد الجذري قد بلغ أقصاه في (قصيدة النثر) التي لازالت في حيز المغامرة بين المؤيدين لها والمعارضين، حيث جاء شعر الحداثة -من خلال البنية الإيقاعية- ليقدم قاعدة جمالية أخرى أكثر فعالية من القاعدة الجمالية للموسيقا التقليدية.
__________
(1) اسماعيل، عز الدين، الشعر العربي المعاصر، ص65
(2) عزام، محمد، الحداثة الشعرية، ص14(1/286)
"وإذا كانت قاعدة النغمة في النموذج التقليدي تقوم على الرنين والتماثل والرتوب والتشابه فيما هو مختلف والتوقع -فإنها في النموذج الحر تقوم على التغير والترجيع والتنوع وعدم التوقع"(1)، وأما قضية (الموسيقا الداخلية) أو (الإيقاع الداخلي) فجاء بها أنصار ومؤيدو قصيدة النثر، ليعوضوا ما فاتهم من (الموسيقا الخارجية)، فاعتبر بعضهم أنّ الإيقاع الداخلي "هو حركة توليد جديد داخل النص لما هو "خارجه" وهو جزء هام من عنصر الموسيقا، جزءٌ لا يلغي أجزاءً أخرى من هذا العنصر. الأجزاء الأخرى يمكن البحث عنها في أنواع من الموازنات ومن التقطيع، وفي تشكيل يأخذ بعين الاعتبار جرسْ الحروف ويعتمد التكرار لها وفق أنساق مختلفة، كما يُبحثُ عنها في فنون عدة تولد النغم وتخلق الموسيقا صوتتاً نسمعه عند القراءة أو توتراً معيناً نحسه وتراه بصيرتنا"(2)
ويقوم (جان كوهن) -من خلال تصنيفه للشعر، بإشارة إلى أن (قصيدة النثر) فاقدة للبنية الصوتية، بيد أنها تحتفظ بالمستوى الدلالي، ولكن (النثر المنظوم) على العكس من ذلك، فهو فاقد للمستوى الدلالي غير أنه محتفظ بالبنية الصوتية، وفق الجدول التالي(3)
الجنس ... السمات الشعرية
الصوتية ... الدلالية
القصيدة النثرية ... - ... +
نثر منظوم ... +
شعر كامل ... + ... +
نثر كامل ... -
__________
(1) اليافي، نعيم، الشعر العربي الحديث ص166
(2) العيد، يمنى، 1985، في معرفة النص، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص105
(3) كوهن، جان 1986، بنية اللغة الشعرية، ط1، تر: محمد الوالي- محمد العمري: دار التوبقال، المغرب ص12(1/287)
إن (الشعر الحر) شعر التفعيلة، إضافة إلى موسيقاه الخارجية التي تعتمد على تفعيلات يلتزم بها الشاعر طوال النص، قد عمل على تعزيز البناء النفسي للنص عبر التركيز على إيقاع آخر داخل البنية اللغوية في القصيدة، تنجزه الكلمات في سياق معين، ولا نعني بهذا الإيقاع مسألة (النبر)، (أي شدة الصوت في مكان ما)، لأن ذلك (النبر) حالة عامة في الشعر القديم وشعر الحداثة، بل إن شعر الحداثة قد مال إلى الهمس الداخلي العميق تماشياً مع ظروف العصر والبيئة، كما أن تعريفات (النبر) قد تعدَّدت واختُلِفَ فيها إلى أن أصبحت المسألة شائكة. أضفْ إلى ذلك، أن إيجاد قوانين صارمة للنبر قد أذهب من فعاليته النفسية، حيث بدا الأمر وكأنه تقعيد (إيجاد قواعد وقوانين للنبر)، وقد أشار الناقد (كمال أبو ديب) إلى تلك القوانين فقال: "
1ً- إذا انتهت الكلمة بالنواة (-5) أو بالنواة (--5) فإن النبر القوي يقع على الجزء السابق لهاتين النواتين مباشرةً.
2ً- إذا انتهت الكلمة بالنواة (---5) فإن النبر يقع على الجزء السابق للتتابع (--5) مباشرة، أي على المتحرك الأول في النواة (---5)(1) "حيث شرّع الناقد (أبو ديب) قصيدة النثر عبر مغامراته في الإيقاع الموسيقي، فأشار إلى أن العربية تصبُّ كلها في بناءين موسيقيين. هما (فا) و(علن) أي(-5) سبب خفيف و(--5) وتد.
إن شعر العذاب في تيار الحداثة لا يختلف كثيراً عن الشعر الذي يجسد (البطولي) و(الجميل) من حيث الاستخدام الخارجي للموسيقا، (أي التفعيلات التي تسير عليها القصيدة)، بيد أن (شعر العذاب) يهتم ببنية إيقاعية داخل البنية اللغوية وداخل المنظومة اللغوية المكونة للتفعيلة ذاتها.
__________
(1) أبو ديب، كمال، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، ص302(1/288)
لقد عمل شاعر الحداثة على تنويع التفعيلات في القصيدة الواحدة، حيث نرى أن القصيدة المطولة والمقسمة إلى أجزاء تنطوي في كل جزء منها على تفعيلة محددة كقصيدة (آداد) لـ (فايز خضور)، ومن ثمَّ تختلف تلك التفعيلة في الجزء الآخر، كما أننا نرى أيضاً أن النص الشعري ذاته ينطوي على أكثر من تفعيلة متكررة لبحرين مختلفين، وهذا ما نراه على سبيل المثال لا الحصر عند (ممدوح عدوان) في قصيدة (أقبل الزمن المستحيل) التي وقفنا عندها سابقاً في حديثنا عن (الموت الحضاري).
ويمكننا أن نرى أيضاً أن القصيدة المؤلفة من أجزاء تنطوي على بعض الأجزاء المنثورة عبر ما يسمى بقصيدة النثر، وهذا ما نراه عند محمد عمران في قصيدة (عاش القرنفل... مات القرنفل) من ديوان (الأزرق والأحمر).
حيث يقول (عمران) في نهاية المقطع (6) وفي المقطع (7) من القصيدة المذكورة: (1)
-6-
تفعيلة ... ... تفعيلة وحيدة ... ... أت تغني
البحر ... ... خمس تفعيلات ... ... الأرض في رئتيك مقفلةٌ
الكامل ... ... ... ... ... وبين يديك وقتٌ من دماءْ
... ... ... ثلاث تفعيلات ... وعلى المسافة بين وجهك والطريق
... ... ... ثلاث تفعيلات ... وعلى مدى عينيكَ تمشي المقصلةْ
... ... ... ثلاث تفعيلات ... هذا اختناقكَ في العصور المقفلةْ
... ... ... خمس تفعيلات ... فاجلسْ على قدِّ التنفّس من قرنفلةٍ
... ... ... ... ... وقلْ.. عاش الهواءْ
-7-
إيقاع ... ... ... ... ... وكان محمد يتنفس من خرم قرنفلةٍ
غير ... ... ... ... ... ويقول لحنجرته: الهواء أخضرُ، اصدحي
واضح ... ... ... ... ... وما كانت تصدحُ، بل تختنقُ، وسمَّى
... ... ... ... ... اختناقها غناءٌ، سمّاه وردةً،
مقطع منثور ... ... ... ... جَلَسَ في شرفتها يتدربُ على الفرحْ
... ... ... ... ... وسمّى الفرح باباً، أو نافذةً،
... ... ... ... ... فتحهُ، فدخل هواءٌ أسود. أغلقَ
... ... ... ... ... محمدُ خرم القرنفلة، وتركَ عادة
... ... ... ... ... التنفس
__________
(1) عمران، محمد، الأزرق والأحمر ص47- 48(1/289)
يعرض النص إحدى حالات الموت والعدمية التي أنجزتها المدنية والظروف المعاصرة، لم يستطع إثرها نموذج العذاب في النص أن يقوم بفعل بطولي، بل اقتصر الأمر على الحلم (فاجلس على قدّ التنفس من قرنفلة/ وقلْ: عاش الهواء).
لقد أسهمت الموسيقا في المقطع(6) في تصعيد الحالة الشعرية عبر التداعي (الكتابة الآلية) الواضح فيها، على الرغم من وجود وقْف (صمت) فرضته أواخر الجمل الشعرية (دماءْ، الطريقْ، المقصلةْ، مقفلة الهواءْ)، وذلك أن هذا (السكون) لم يكن عائقاً أمام حالة التداعي مطلقاً، وكان من مكمّلات الحالة الشعرية التي تنطوي على تأزم نفسي كبير، ومن ثم كان ظهور هذا (السكون) على أواخر الكلمات ذا شأن أكبر من ذلك الذي جاء به (النبْر) ذو السمة العامة في الشعر.
أضف إلى ذلك (السكون) في فعليْ الأمر (اجلسْ، قلْ) أنجز إيقاعاً متمماً للسكون الموجود في الكلمات التي أشرنا إليها سابقاً، فتوظيفُ (الحرف الساكن) عبر سياق النص يولّد شعوراً لدى الملتقي بالانطوائية على الذات وبالدخول إلى أعماقها، ويُخفي بالضرورة المشاعر المؤلمة التي جاء بها الواقع القبيح.
أما المقطع (7) فإنه يفتقد التفعيلة ويفتقد إيقاعاً آتياً من طريقة صياغة اللغة، ومن طريقة التعامل مع المفردات، بل إنّ (السردية) هي المسيطرة عليه على الرغم من وجود الصورة وعلى الرغم من وجود التصاعد الدرامي أيضاً، وليس المقصود بالسردية (القص الشعري)، بيد أن المقصود هو نظام الجملة المركب بطريقة لا تنبئ بأية مسألة موسيقية (الموسيقا الداخلية) التي تعوّض عن (الموسيقا الداخلية) غير متوافرة- إن صحّ وجودها أصلاً- في المقطع (7) لما أشرنا إليه سابقاً من طبيعة بناء الجملة في هذا المقطع.(1/290)
ولا بد من الإشارة إلى أن نظام السرد يتفاوت في (قصيدة النثر) بين الاتجاه نحو النثرية المحض وبين الميل إلى إظهار بعض الموسيقا (الإيقاع، أو إظهار بعض الوزن الذي يسير على النظام الخليلي)، وهذا الأمر لا يتفاوت فقط بين شاعر وآخر، بل بين قصيدة وأخرى أيضاً، حيث يميل المقطع(7) من قصيدة (محمد عمران) إلى النثرية المحض (عدم ظهور إيقاع أو حتى موسيقا خارجية تسير على النظام الخليلي)، فغالباً ما نرى في هذا المقطع أكثر من أربعة حروف متوالية متحركة (أي أكثر من أربع حركات متوالية) وذلك على النحو التالي:
محمد يتنفس من: [//ْ////ْ///ْ] أربع حركات
لحنجرته: [//ْ////ْ] أربع حركات
بل تختنق وسمى: [/ْ/ْ////ْ/ْ] خمس حركات
جلس في: [////ْ] أربع حركات
يتدرب على: [///ْ////ْ] أربع حركات
وسمى الفرح باباً: [//ْ/ْ////ْ/ْ] أربع حركات
فتحه: [////ْ] أربع حركات
فدخل هواء: [//////ْ/ْ] ست حركات
أغلق محمد: [/ْ///ْ//] أربع حركات
وترك عادة: [/////ْ//] خمس حركات
وعليه فإننا نرى أن الوزن الخارجي منعدم تماماً، إضافة إلى انعدام الإيقاع بصورة تكاد تكون مطلقة.
بيد أننا لا نرى هذه النثرية في قصيدة أخرى، -فعلى سبيل المثال- يضمحل في قصيدة (مقهى في بيروت) لـ(محمد الماغوط) توالي الحروف الخمسة المتحركة، أو الستة الحروف، أو السبعة الحروف.. الخ. يقول في هذه القصيدة:(1)
منَ التاسعةِ حتى العاشرةْ
رأيتُ نوافيرَ الطيورِ والدمِ
والفراشاتِ الممزَّقةَ منذ أجيالٍ تحت الحوافرِ
شربتُ قهوةً وماءً وتبغاً ودموعاً
حتى أصبحتُ كالحبلى
وما ارتويت
وعرضتُ نعلي في وجه
الصيف والخريف
في وجه البحر والصحراء
والأمطار اليابسة والحجر
وما ارتويتُ.
- التاسعةِ حتى: [/ْ/ْ////ْ/ْ] أربع حركات
- اليابسة والحجر: [/ْ/ْ////ْ//ْ] أربع حركات
__________
(1) الماغوط، محمد /المجموعة الكاملة/ ديوان غرفة بملايين الجدران/ ص154- 155(1/291)
بيد أن القصيدة ظلت في إطار النثرية على الرغم مما أشرنا إليه سابقاً، أما (رياض الصالح الحسين) فعلى الرغم من انعدام الوزن واضمحلال الإيقاع في معظم قصائده فإنه يفاجئ المتلقي بحالة من حالات الإدهاش، وغالباً ما تكون هذه الحالة في نهاية النص عبر ذروة التصاعد الدرامي (ذروة الإحساس بالعذاب).
إننا نرى بعيداً عن قصيدة النثر قصائد مطوّلة في شعر الحداثة عامة وشعر العذاب خاصة مقسَّمة إلى مقاطع لا تسير على تفعيلة واحدة كقصيدة (آداد) المطوّلة للشاعر (فايز خضور)، إذ تتألف هذه القصيدة من ثلاثين مقطعاً، يختلف كل مقطع عن الآخر -غالباً- بنوع التفعيلة التي يسير عليها، فالمقطع رقم(1) من القصيدة يسير على تفعيلة الكامل أما المقطع رقم (4) من القصيدة فيسير على تفعيلة المتقارب وهكذا..، وذلك تماشياً مع الحالة الشعرية، لأن (آداد) تعرض مجموعة من الاغترابات، يجيء في مقدّمتها (الاغتراب الروحي)
الذي وقفنا عنده سابقاً، ويمكن تمثيل الموسيقا في المقطع (1) و(4) على الشكل التالي:(1)
-1-
آدادْ
أفرغتُ من صدغِ الحقائبِ،
صفْوَ ما حوَّشتُ قبل الأربعين: ... ... (تفعيلة الكامل)
كنوزَ مقبرتي،
وفحمَ رفاتِ أوردتي.
فضجَّ دمي،
يساومني على نبضي
وكان فمي
كفيفَ النطق
من يُعنى بردعِ الحزنِ عن قلبي،
ويسعفني.؟.
فسقْفُ السجنِ يحميني،
من البَرَدِ، الرصاصِ...
وكان يضحكني،
حنانُ سيادة السجّانْ...!!
-4-
آداد
إذا ما تحامْتكَ، في ليلةٍ باردةٍ
سنونوَّة فاحتَضِنْها.
لعلَّ تباشير فألٍ إليك، /تفعيلة المتقارب/
تجيء بها،
من ضميرِ البحارِ.
تُفجّر فيك حنيناً، إلى هجرة الغيمةِ الشاردةْ.
وتوقاً إلى غضبِ ((الطَوْف))
يكْشُط عنك،
لُزُوجةَ، ألسنةِ الضارعين،
ويُعمي نعاسَ النهار.
ويتلف أدران أوبئةٍ،
خلَّفتْها ندوباً،
على صدرك السَّمْحِ
أنيابُ حضَّانة حاقدة
__________
(1) راجع، خضور، فايز الديوان ص435- ص427(1/292)
حيث تفرض الحالة الشعرية بنية موسيقية معينة تبتعد عن النمطية، إذ من المستحيل وجود قاعدة، أو وجود تفعيلات محددة وذات عدد واحد في شعر الحداثة، فالمقطع(1) من القصيدة السابقة يسير على خمس وعشرين تفعيلة من البحر الكامل فرضتها ظروف الحالة عبر تصاعدها.
إن الشيء الوحيد الذي يحدد التفعيلات هو الانفعال الذي يبدأ من نقطة معينة وينتهي عند نقطة معينة أيضاً، كما أن المقطع(4) من القصيدة ذاتها يسير على ستٍ وأربعين تفعيلة من البحر المتقارب بجوازاته وخاصةً الجواز (فعلْ) الذي انتهى به المقطع بانتهاء الحالة الانفعالية أو الدفقة الشعرية.
خاتمة البحث:
في نهاية المطاف لابد من الوقوف عند أهم النقاط التي يمكن استخلاصها من البحث:
* لم يظهر /المعذب/ كقيمة جمالية بارزة في /القصيدة الإحيائية/ في سوريا ولبنان فقد أدّت هذه القصيدة وظيفة إصلاحية، لهذا فإن الشاعر الإحيائي لم يكن على قطيعة مع الواقع بالمعنى الذي جاءت به /الرومانتيكية/ ومن ثم قصيدة /الحداثة/ باتجاهاتها المختلفة.
* لقد حاول الشاعر الإيحائي بناء جسور عديدة مع الواقع، فذهب إلى ابتكار حلول للمشكلة الاجتماعية عبر النص الشعري، وامتدت هذه الحلول إلى التأزمات السياسية والاقتصادية التي كانت تعاني منها سورية ولبنان في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لهذا فإن فرص الأمل بالخلاص من واقع متأزم كانت متعددة في القصيدة الإحيائية.
* إن اعتماد هذه القصيدة على موضوعات الشعر العربي القديم، الوصف، والغزل، والمديح، والرثاء، الخ.... قد جعل ظهور /المعذب/ نادراً أو قليلاً في تلك الموضوعات التي تنهل أحداثها من الموضوع الخارجي بصورة تكاد تكون مطلقة.(1/293)
* ولعل اتكاء النصوص الشعرية الإحيائية عل الموروث البلاغي القديم بصورة عامة، قد أفقد القصيدة خصوصيتها الفردية التي تميزها من القصائد الأخرى، حيث تتقاطع /أنا /الشاعر مع /أنا /الكثير من الشعراء في المدرسة ذاتها، وهذا ما ينعكس بصورة سلبية على ظهور القيمة الجمالية المدروسة /المعذب/ والتي تتمتع بالخصوصية الفردية المحض.
* ويبدو أن الظروف الحياتية التي عاشها معظم الشعراء في هذه المدرسة لم تهيئهم كي يدخلوا /العذاب/ من أوسع أبوابه، فالتجسيد الفني لم يُظهر القيمة الجمالية التي تعكس تلك الظروف التي ربما كانت على قدر كبير من التأزم، غير أن الهم الشكلاني الذي على أساسه قامت /المدرسة الإحيائية/ لا يسمح أيضاً لتلك الظروف أن تظهر بصورتها الأصلية التي تستند إلى حامل اجتماعي متين.
... ... ولابد من الإشارة إلى أن بعض المقطوعات والنصوص الشعرية في المدرسة الإحيائية، قد شكّلت وعياً جمالياً هاماً في نطاق القيمة المدروسة، وشكلت أيضاً عبر السياق التاريخي صورة هامة من صور العذاب، إلا أن هذه الصورة تعتبر جنينية، إذا ما قيست بتلك الموجودة في القصيدة /الرومانتيكية/ وفي قصيدة /الحداثة/.
* لقد تبلور مفهوم /المعذب/ في المدرسة الرومانتيكية في سوريا ولبنان، فسماتُ هذه المدرسة بشكل عام تحيل النص الشعري على القيمة الجمالية المدروسة كالفردية والعزلة والاغتراب والتمرّد والاستلاب الخ...، وقد تشعبت أسباب ظهور العذاب في شعر هذه المدرسة، حيث يمكن تكثيفها في النقاط التالية:
1- التوغل في تعقيدات القرن العشرين على أكثر من منحى.
2- تَرَدِّي القيم الاجتماعية نتيجة لوجود ظواهر سلبية مازال يحتفظ بها المجتمع/ التخلف، العلاقات الاجتماعية الفاسدة، الاحتفاظ بكمون لا بأس به من العادات والتقاليد البالية، الإنجازات التي أتى بها الاحتلال والانتداب/.(1/294)
3- المرض الجسدي الناتج إما عن خلل على الصعيد الفيزيولوجي، وإما عن خلل نفسي أثَّر في عمل الجسم، وهذا الخلل النفسي عائد إلى وعي معرفي كارثي، انعكس سلباً على البنية النفسية.
4- الانتكاسات العاطفية المتكررة.
5- الحرّيات المستلبة على أكثر من صعيد.
... ... حيث جاء /المعذب/ من القيم الجمالية البارزة التي تصدّت لها النصوص الشعرية الرومانتيكية في حين أنّ المدرسة الإحيائية قد اعتنت بإظهار قيمٍ جمالية أخرى كالبطولي والجميل.
* لقد بدأ يظهر واضحاً في النص الشعري الرومانتيكي تفاوت القيمة الجمالية /المعذب/ من شاعر إلى آخر، ومن نص إلى آخر، تعبيراً عن الفردية التي تسِمُ هذه المدرسة عموماً و/المعذب/ على وجه الخصوص، ومن ثمّ بدأ يظهر واضحاً أيضاً انعكاس الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعاني منها الشاعر على النص الشعري، بحيث يقوم كل شاعر رومانتيكي بإسقاط هذه الظروف على ذاته إسقاطاً يختلف عن الآخر دون أن يجد حلاً لمعاناته من تلك الظروف.
... ... إن الشاعر في هذه المدرسة يقوم بتناول الخارج تناولاً فردياً محضاً، وهذا من سمات التيار الرومانتيكي أيضاً، وهذا لا يعني أن تلك الظروف التي أشرنا إليها لا تنعكس في النص الإحيائي، بل من البدهي أن تنعكس، ولكنّ انعكاسها يأتي وصفاً لتلك الظروف ومحاكاة لجوانبها، ومن ثم يقوم الشاعر الإحيائي بوضع الحلول لمعاناته.(1/295)
* إن تطور المدارك المعرفية واختلافها من شاعر إلى آخر، كان وراء ظهور الفردية والرومانتيكية، ومن ثم فإن تلك المدارك المعرفية قد وجدتْ المستقبل قاتماً عند /المعَذّب/، حيث ارتأى شاعر العذاب الرومانتيكي أنه يعاني معضلات كثيرة، لا يمكن الخلاص منها، لا في المستقبل القريب، ولا في المستقبل البعيد، ويبدو أن /المعذب/ بصورة عامة و/المعذب الرومانتيكي/ بصورة خاصة، يعمم تشاؤمه على الأشياء المحيطة والعناصر الخارجية حتى يقترب في مرحلة ما من مرتبة /الانسحاق/ أمام مجمل الظروف التي يعيشها، وهذا ما حدث مع /عبد الباسط الصوفي/، /على سبيل المثال/.
* ولعل تبلور صورة /المعذب/ في الشعر الرومانتيكي العربي في سوريا ولبنان، قد ترافق بتطور ملحوظ على الصعيد الفني /تبعاً لتطور الوعي الجمالي عن سابقه/، فظهرت سمات جديدة للغة شعرية جديدة، لها القدرة على خلق صورة مبتكرة، ولها القدرة على الإيحاء والتعبير، وتكثيف اللغة، ومن ثم فقد تشعبت الاحتمالات والإيحاءات الدلالية للصورة الشعرية وللنص الشعري عامة، فصار يُسمَّى هذا النص بـ /النص المفتوح/ وحدث انزياح في بناء الجملة الشعرية وتركيبها، واختراقٌ لبنية النص الإحيائي، إلا أن النظام العمودي للقصيدة ظل مسيطراً على النص الرومانتيكي، ولم تتخلص جميع النصوص من أثر المدرسة الإحيائية، وعادة ما تُسمى تلك النصوص بـ /النصوص المغلقة/، حيث تضمحل الإيحاءات والدلالات فيها.
* لقد بدأت ملامح /المستوى الدرامي/ تظهر في القصيدة الرومانتيكية، عبر الصراع الداخلي العميق الذي يعيشه الشاعر عاكساً أيضاً الصراع مع الواقع بسلبياته المختلفة، بيد أن /المستوى الدرامي/ قد بلغ أوجه في القصيدة الحديثة متناسباً مع تبلورِ مفهوم /المعذب/ في شعر الحداثة بصورة واضحة، حيث تصاعد هذا المستوى بدءاً من القصيدة الإحيائية حتى قصيدة الحداثة باتجاهاتها المتعددة.(1/296)
* إن /المعذب/ بوصفه قيمة جمالية قد ظهر في قصيدة الحداثة بصور وأبعاد متنوعة تماشياً مع الشروخات الحادة في ذات الفرد العربي، الذي وجد الواقع قبيحاً ولا أمل منه، ذلك الواقع الذي ينبئ بكوارث لا تحمد عقباها، إنْ كان على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاجتماعي.
*ولعلَّ صور /العذاب/ في قصيدة الحداثة قد توزعت على قصائد الحالة والرؤيا معاً، فجاءت قصيدة الرؤيا لاستشراف المستقبل، بيد أن هذا المستقبل قاتم ولا سيما عند الشاعر /خليل حاوي/ الذي أنهى حياته بيديه /على سبيل المثال/، لأن المستقبل بخلاص الواقع والأمة لم يعد متوفراً ولن يُكتب له النجاح.
* لقد تناولت قصائد الرؤيا وقصائد الانبعاث عند شعراء العذاب الأساطير والشخصيات العربية المشهورة والموروث الشعبي، فكان هذا الاستخدام تنفيسياً تفريغياً لردم الهوة بين الشاعر المعذب والواقع، غير أن تلك الحالة التنفيسية والتفريغية بقيت حلماً، يعاني الشاعر في الوصول إليه، وبقي الواقع متأزماً، وظل الاغتراب قائماً.
* أما قصيدة الحالة عند /المعذب/ في شعر الحداثة فإنها تُبرز الصراع الداخلي العميق، كالصراع الذي رأيناه عند /رياض صالح الحسين/ و/نزيه أبو عفش/ وبعض قصائد /محمد عمران/، حيث ينطوي الشاعر /المعذب/ في هذا النوع من القصائد على ذاته في عزلة كبيرة، بعد أن اقتنع أن الواقع معضلة سلبية تقف حائلاً دون تحققِ ذاته، فرجع إلى تلك الذات يتخبط بها، ويبدو أن قصيدة /الرؤيا/ يتوضح فيها الصراع مع الخارج لتغييره، بيد أن هذا لا ينفي وجود صراع داخلي فيها كما في قصيدة /العازر/ لـ/خليل حاوي/(1/297)
* في دراستنا لـ/المعذب/ في شعر الحداثة، رأينا أن /المعذب/ ينقسم إلى نوعين رئيسين /المعذب حياتياً/ و/المعذب فلسفياً/، فالنوعان يمتلكان الصبغة الانفعالية التي هي أساس من أساسات الفن، بيد أن الانفعالية في /المعذب حياتياً/ تظهر بوضوح في النص الشعري ولكنها في /المعذب فلسفياً/ تظهر كخلاصة لتجربة إنسانية، تلك التجربة الممتلئة بالانفعالات أيضاً.
... ... وعادة ما تتسم صور /المعذب حياتياً/ بـ/الحسية/ ولكن صور /المعذب فلسفياً/ تتسم بـ/الذهنية/، إذ يقوم هذا /المعذب/ بالمبالغة في تجريد العناصر والأشياء.
* أما على صعيد الشكل فقد أظهرت اللغة الشعرية في قصائد العذاب التوتر القائم بين الشاعر والواقع أو ما يدعى بـ /مسافة التوتر/ التي وقفنا عندها مطولاً في حديثنا عن /التشكيل اللغوي/ حيث لا يمكن لهذه /المسافة من التوتر/ أن تظهر في تجسيد قيم جمالية أخرى كـ/البطولي/ و/الجميل/ ولا حتى /التراجيدي/ الذي يقترب في أجوائه من /المعذب/،
*إن الهوة بين الشاعر المعذب والواقع قد تجلَّت في الصورة الشعرية التي تجلَّت بدورها في أشكال عديدة:
1- ظهور الصور المركَّبة بغزارة والمكثفة في آن، والتي تعكس تأزماً على الصعيد النفسي وتعكس أيضاً تعقيدات العلاقة بين الفرد والواقع.
2- إن الحقول الدلالية المكونة للصورة الشعرية تشير في بعض الأحيان إلى أن الشاعر يقترب من الصبغة المرضية المحض.
3- التوليد في الصورة الشعرية، وهذا لا يقتصر على شعر العذاب في الحداثة، بل يتعداه ليشمل شعر الحداثة كاملاً
4- الذهنية التي وقعت بها الصورة الشعرية، والتي عادة ما ينتجها المعذب فلسفياً(1/298)
5- التناقض في الصورة بشكل واسع، وهذا التناقض الواسع يحيل على المسافة الشاسعة التي تفصل الشاعر المعذب عن واقعه، ونعني بالتناقض في الصورة التي يجسدها /المعذب/ أن الحقول الدلالية في تركيبة الصورة تعاكس بعضها بعضاً تماماً على صعيد المعنى، كما لاحظنا في /كردان العرس المشنوق/ فـ/كردان العرس/ علامة من علامات الفرح، و /المشنوق/ علامة من علامات الموت، وما التناقض في صور العذاب إلاّ جزء من التناقض الأكبر والأوسع الذي يسم الفن عامة.
أما الموسيقى الشعرية في شعر المعذب في قصيدة الحداثة، فلا تشكل نقطة انعطاف هامة في تجسيد مسألة /العذاب/ ذلك لأن التنوع الموسيقي وقصيدة النثر والإيقاعات المختلفة أيضاً موجودة في شعر الحداثة كافة، أي في الشعر الذي يجسد /الجميل/ و/التراجيدي/ و/البطولي/ أيضاً.
* ولابد من القول إن /المعذب/ كقيمة جمالية تفاوت ظهورُه أيضاً بين شاعر وآخر في قصيدة الحداثة، وهذا التفاوت يتناسب مع الضغوطات ومع واقع البيئة الاجتماعية التي تقف حائلاً دون تحقيق الحرية للذات، فجميع تجليات /المعذب/ التي وقفنا عندها /الاغتراب، السوداوي العدمي، المازوخي، الحرمان العاطفي... الخ..../ هي تجليات تقف ضد حرية الفرد وتحقيق رغباته المكبوتة.
* كذلك فإننا نرى في بعض الأحيان أن شاعراً واحداً من شعراء الحداثة يجسّد في مجموعة شعرية قيمة /المعذب/، وفي مجموعة شعرية أخرى قيمة /الجميل/ على سبيل المثال، وهذا الأمر عائد إلى تغير الموقف الفكري المرحلي من الواقع، وهذا ما يمكن رؤيته في مجموعات /محمد عمران/.
(((
( مصادر البحث
- أبو ريشة، عمر /1947/، ... الديوان /دار مجلة الأديب مطبعة الكشاف.
... /1984/ ديوان (من وحي المرأة) ط1 دار طلاس- دمشق.
... /د تا/ ديوان (غنيت في مأتمي) دار العودة بيروت.
- أبو شبكة، الياس /1962/، ... الديوان (أفاعي الفردوس) ط3، دار الحضارة(1/299)
- أبو عفش، نزيه /1968/، ... (الوجه الذي لا يغيب) ط1. (لم يذكر مكان الطبعة)
... /1982/، ديوان (بين هلاكين) ط1، العربية للدراسات والنشر، دمشق.
- أبو ماضي، إيليا (درتا)، ... الديوان، دار العودة، بيروت.
- الأخطل الصغير /1972/ ... الديوان، ط2 دار الكتاب العربي، بيروت.
- أدونيس، /1968/ (المسرح والمرايا) ... ط1 منشورات دار الآداب، بيروت، لبنان.
... /1971/ المجلد الأول (أوراق في الريح) ط1، دار العودة، بيروت.
- بدوي الجبل /1978/ ... الديوان/ البزم - محمد (درتا) الديوان ط1، دار العودة ، بيروت ج2 شرح سليم زركلي، عدنان مردم بك، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والعلوم والآداب. (لم يذكر الطبع)
- بغدادي، شوقي /1969/، ... (أشعار لا تُحب)، مطبعة الجمهورية، دمشق.
- جبري، شفيق /1984/ ... ديوان (نوح العندليب)، شرحه وأشرف على طباعته قدري الحكيم مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.
- الجندي، علي /1969/ ... (الحمى الترابية) المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت /1978/ ديوان (النزف تحت الجلد) اتحاد كتاب العرب دمشق.
- الحاج، أنسي /1982/ ... ديوان (لن) ط2 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت
- الحامد، بدر الدين /1928/ ... الديوان، مطبعة الإصلاح، حماة.
-حاوي، خليل /1972/ ... الديوان، دار العودة، بيروت لبنان.
- الحسين، رياض صالح، /1979/ ... (خراب الدورة الدموية) منشورات دار الثقافة، دمشق
... /1982/ (بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس) ط1 دار الجرمق للطباعة والنشر، دمشق.
... /1983/ (وعل في الغابة) وزارة الثقافة، دمشق،
-الحصني، عبد القادر /1976/ ... (بالنار على جسد غيمة) مطبعة ابن الوليد- دمشق.
- حموي، حسين /1981/ ... ديوان (قابيل وسفر البحر) اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
- خاطر، مروان /1994/ ... الأعمال الشعرية ط1 المطبعة العلمية. (لم يذكر مكان الطبعة)
- الخال، يوسف /1979/ ... الأعمال الكاملة (قصائد في الأربعين) ط2 دار العودة بيروت(1/300)
- خضر، مصطفى /1984/ ... (المرثية الدائمة) مطبعة وزارة الثقافة- دمشق.
... /1985/ ديوان (رماد الكائن الشعري) اتحاد الكتاب العرب- دمشق
- خضور، فايز (د/ تا) ... الديوان، ط1 دار الأدهم للطباعة والنشر.
- خيربك، كمال /1982/ ... ديوان (وداعاً أيها الشعر) ط1، باريس
- دمر، علي /1959/ ... ديوان حنين الليالي ط1، المطبعة النيرية، القاهرة (المجهولة) مطبعة الإصلاح- بيروت
... /1968/ ديوان (غيبوبة الحب) منشورات دار مجلة الثقافة، في دمشق
- دنقل، أمل /1973/ ... البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، دار العودة، بيروت
- الزركلي، خير الدين /1980/ ... الأعمال الكاملة، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت
- سليمان، ميشال /1970/، ... ديوان (النار والأقدام الجائعة)، دار لسان العرب، بيروت- لبنان.
- الصوفي، عبد الباسط ... (درتا-، آثار عبد الباسط الصوفي، وزارة الثقافة- دمشق
- عبد الصبور، صلاح، /1972/، ... ط2، المجموعة الكاملة، دار العودة، بيروت
- عدوان، ممدوح /1986/ ... الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان
- عمران، محمد /1978/ ... (أنا الذي رأيت)، وزارة الثقافة، دمشق.
... /1980/ (الملاجة)، ط1 دار المسيرة، بيروت.
... /1982/ قصيدة الطين، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق
... /1984/ ديوان (الأزرق والأحمر)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- عيون السود، عبد السلام /1968/ ... آثار عبد السلام عيون السود، وزارة الثقافة- دمشق
- الفراتي، محمد /1959- 1958م/ ... الديوان، ج1، المطبعة السليمية، دير الزور
- الفيتوري، محمد، /1979/، ... المجلد الثاني، دار العودة، بيروت
- القرنفلي، وصفي /1969/، ... ديوان (وراء السراب)، وزارة الثقافة، دمشق.
- قندقجي، سعيد (د/ تا)، ... ديوان (رحلة الضياع)، منشورات دار الثقافة، دمشق.
- كنعان، علي /1979/ ... ديوان (أعراس للهنود الحمر)، ط1، دار المسيرة، بيروت.
- لبكي، صلاح /1981/ ... المجموعة الكاملة، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت(1/301)
- الماغوط، محمد /1973/ ... المجموعة الكاملة، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت
- الماغوط، محمد /1973/ ... الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت
- محمد، نديم /1985/ ... ديوان (فراشات وعناكب)، ط2 دار الحقائق للطباعة والنشر، بيروت /1985/ ديوان (آلام)، ط2، دار الحقائق للطباعة والنشر، بيروت.
-مردم، خليل (د/ تا) ... الديوان، قدم له جميل صليبا، مطبوعات المجمع العلمي العربي، دمشق
- مطران، خليل /1967/، ... الديوان، ج2، ط3، دار الكتاب العربي، بيروت
- ميسر، أورخان /1979/، ... مجموعة (سريال)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- الناعم، عبد الكريم /1965/، ... (زهرة النار)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق
... /1979/ (تنويعات على وتر الجرح) منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- هارون، هند /1977/ ... ديوان (سارقة المعبد) دار الأنوار، للطباعة- دمشق
... /1988/ ديوان (عمار في ضمير الأمومة) ط1، دار طلاس للترجمة والنشر، دمشق
((
( مراجع البحث
-أ-
- إبراهيم، زكريا /1966/ ... فلسفة الفن في الفكر المعاصر، دار مصر للطباعة، القاهرة. مصر
- أبو حاقة، أحمد /1979/، ... الالتزام في الشعر العربي ط1، دار العلم للملايين، بيروت. لبنان
- أبو ديب، كمال /1974/، ... في البنية الإيقاعية للشعر العربي. دار الملايين، بيروت لبنان
- أدونيس /1983/ ... زمن الشعر، ط3، دار العودة، بيروت، لبنان
... /1992/ الصوفية والسوريالية ط1، دار الساقي بيروت لبنان
- اسكاف، ممدوح /1983/ ... عبد الباسط الصوفي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- إسماعيل، عز الدين /1963/ ... التفسير النفسي للأدب، دار المعارف، مصر
... /1988/ الشعر العربي المعاصر، منشورات جامعة البعث- حمص- سوريا
- آلكية، فردينان /1978/ ... فلسفة السوريالية، تر: وجيه العمر، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
- أوفيسيا نيكوف، م/1981/ ... أسس علم الجمال الماركسي، تر: جلال الماشطة، دار التقدم، موسكو(1/302)
- أيوبي، ياسين /1980/ ... مذاهب الأدب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت
-ب-
- بارت، رولان /1992/، ... لذة النص ط1، تر: منذر عياشي، مركز الانتماء الحضاري باريس
- باروت، محمد جمال /1981/ ... الشعر يكتب اسمه، دار الأنوار للطباعة، اتحاد كتاب العرب دمشق، سوريا
- بنيس، محمد /1985/ ... ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ط2، دار التنوير للطباعة والنشر الدار البيضاء، المغرب
- بيلنسكي، فيساريون غريغور يفتش /1982/ الممارسة النقدية، تر: فؤاد مرعي، أ- مالك صقور، دار الحداثة، بيروت- لبنان.
-ت-
تادييه، جان إيف /1993/ ... النقد الأدبي في القرن العشرين، تر قاسم مقداد، وزارة الثقافة، دمشق
- تيغم، بول فان /1981/ ... الرومانسية في الأدب الأوربي ج1، تر صياح الجهيم، وزارة الثقافة دمشق. سوريا
-ج-
جابر، يوسف حامد /1991/ ... قضايا الإبداع في قصيدة النثر ط1، دار الحصاد للتوزيع والنشر دمشق، سوريا
- جفرسون، آن، وروبي، ديفيد /1992/ ... النظرية الأدبية الحديثة، تر: سميرة مسعود، وزارة الثقافة دمشق، سوريا
- الجندي. درويش، (د/تا) ... الرمزية في الأدب العربي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، مصر.
-ح-
- حامد، عبد القادر /1950/ ... فلسفة أبي العلاء المعري، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة مصر
- الحسن، عبد الكريم /1983/ ... الموضوعية البنيوية، (نظرية وتطبيق) المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، لبنان
... /1990/ المنهج الموضوعي ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت، لبنان
-ر-
- رزوق، أسعد /1959/ ... الأسطورة في الشعر المعاصر، منشورات مجلة الآفاق، بيروت، لبنان
- الرزوق، صالح /1992/ ... المأساة في الأدب، ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا
-ريد، هوبرت /1957/ ... الفن والمجتمع ط1، تر: فارس متري ضاهر، دار القلم، بيروت
-ز-
- زيلسكي، جون فون /1982/ ... المأساة والخوف، تر: عارف حذيفة- وزارة الثقافة- دمشق.
-س-(1/303)
- سعيد، خالدة /1979/ ... حركية الإبداع ط1، دار العودة، بيروت، لبنان
- سواح، فراس /1976/ ... مغامرة العقل الأولى ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا
- سويف مصطفى /1959/ ... الأسس النفسية للإبداع الفني ط2، دار المعارف القاهرة مصر للتوزيع والنشر، دمشق. سوريا
-ش-
- شاخت، ريتشارد /1980/ ... الاغتراب ط1، تر: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. لبنان.
- الشرع، علي /1978/ ... بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس - اتحاد الكتاب العرب- دمشق
- شريف، جلال فاروق /1980/ ... الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سورية، اتحاد الكتاب العرب دمشق، سوريا
- الشريف، جلال فاروق /1976/ ... الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا
- شكري، غالي /1978/ ... شعرنا الحديث إلى أين ؟... دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان
- شلق، علي /1960/ ... ابن الرومي في الصورة والوجود، دار النشر للجامعيين بيروت، لبنان
- شولز، روبرت /1984/ ... البنيوية في الأدب، تر: حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب دمشق- سوريا
-ع-
- عبود، حنا /1982/ ... النحل البري والعسل المر، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
... /1988/ القصيدة والجسد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا
- عبد الجبار، فالح /1991/ ... المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب، ط1 مؤسسة عيبال للدراسات، قبرص
- عدد من الباحثين /1994/ ... سحر الرمز ط1 مقاربة وترجمة، د. عبد الهادي الرحمن، دار الحوار اللاذقية، سوريا
- عزام محمد /1989/ ... الأسلوبية منهجاً، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
... /1994/ التحليل الألسني للأدب، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
... /1995/ الحداثة الشعرية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا
... /1996/ النقد والدلالة نحو تحليل سيميائي للغة، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
- عساف، عبد الله /1996/ ... الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، دار دجلة القامشلي، سوريا(1/304)
- علي، عبد الرضا /1984/ ... الأسطورة في شعر السياب ط2، دار الرائد العربي، بيروت لبنان
- عوادات، حسين /1986/ ... الموت في الديانات الشرقية ط1، المطبعة العلمية، دمشق، سوريا
- العيد، يمنى /1985/ ... (في معرفة النص) دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان
-ف-
- فاولي، والاس /1981/ ... عصر السوريالية تر: خالدة سعيد، دار العودة بيروت، لبنان
فراي، نور ثروب /1992/ ... الماهية والخرافة، تر/ هيفاء هاشم، مرا: عبد الكريم ناصيف وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
- فرويد، سيجموند /1970/ ... الموجز في التحليل النفسي، تر: سامي محمود علي عبد السلام القفاش، راجعه، مصطفى زيور- دار المعارف القاهرة، مصر
... -/1975/ عسر الحضارة، تر: عادل العوا، وزارة الثقافة- دمشق، سوريا
... -/1979/، علم النفس الجمعي تر: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، لبنان
... -/1980/ نظرية الأحلام ط1 تر: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، لبنان
- فيدوح، عبد القادر /1992/ ... الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا.
- فينوغرادوف، إي- إي (د، تا) ... مشكلات الشكل والمضمون. تر: هشام الدجاني، لم يذكر مكان الطبعة
-ك-
- كاروج، ميشيل /1973/ ... أندريه بروتون والمعطيات الأساسية للحركة السوريالية، تر: الياس بديوي، وزارة الثقافة، دمشق.
- كامو، البير، /د: تا/، ... العبث، تر: سالم نصار، دار الاتحاد، لبنان،
- كرم، أنطون عطاس /1949/ ... الرمزية والأدب العربي الحديث، دار الكشاف، بيروت.
- كروتشه، بنديو /1963/ ... علم الجمال، تر: نزيه الحكيم، المطبعة الهاشمية.
- كليب، سعد الدين /1997/ ... وعي الحداثة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
- كوفمان، سارة /1989/ ... طفولة الفن، تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق.
- كوليير، غراهام /1983/ ... الفن والشعور الإبداعي، تر: منير صلاحي الأصبحي، وزارة الثقافة، دمشق.(1/305)
- كوهن، جان /1986/ ... بنية اللغة الشعرية ط1 تر: محمد الولي، محمد العمري، دار التوبقال للنشر، المغرب.
-ل-
- لانغيوم، روبيرت /1983/ ... شعر التجربة، تر: علي كنعان، عبد الكريم ناصيف، وزارة الثقافة، دمشق.
- لوغال، أندريه /1988/ ... القلق والحصر، تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق.
-م-
- مروة، حسين /1986/ ... دراسات في ضوء المنهج الواقعي ط3، مؤسسة الأبحاث العربية بيروتت.
- مشوَّح، وليد /1993/ ... دراسات في الشعر العربي الحديث، دار معد للنشر والتوزيع، دمشق
- المقالح، عبد العزيز /1985/ ... الشعر بين الرؤيا والتشكيل ط2، دار طلاس للترجمة والنشر دمشق.
- مكاوي، عبد الغفار /1972/ ... ثورة الشعر الحديث، ج2 الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
- الملا، سلوى سامي /1972/ ... الإبداع والتوتر النفسي، دار المعارف، مصر.
- منصور، محمد منير /1987/ ... الموت والمغامرة الروحية، دار الحكمة للطباعة والنشر، دمشق.
- موسى، خليل /1994/ ... وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- ميخائيل، امطانيوس، /1968/ ... دراسات في الشعر العربي الحديث، ط1، منشورات المكتبة العصرية، بيروت
-ن-
-نادو، موريس /1992/ ... تاريخ السوريالية، تر: نتيجة حلاق، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا
- ناظم، حسن /1994/ ... مفاهيم الشعرية ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، المغرب.
- نشاوي، نسيب /1980/ ... مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية، مطابع ألف باء، دمشق، سوريا.
- نصر، عاطف، جودة /1984/ ... الخيال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر.
- نن، أناييس /1983/ ... رواية المستقبل، تر: محمود منقذ الهاشمي، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا.
- النويهي، محمد /1971/ ... (قضية الشعر الجديد) ط2، دار الفكر، مكتبة الخانجي.
-هـ-
- هايمن، ستانلي /1958/ ... النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ج1، تر: د. إحسان عياش- محمد يوسف نجم، دار الثقافة بيروت.(1/306)
- هو مبيرت، إيلي /1991/ ... كارل غوستاف يونغ، تر: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق.
- هويغ، رينيه /1978/ ... الفن وتأويله ج1، تر: صلاح برمدا، وزارة الثقافة، دمشق.
- هيغل، /1981/، (فن الشعر)، ... تر: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت.
-و-
- ولسون، كولن /1972/ ... الشعر والصوفية ط1، تر: عمر الديراوي أبو حجلة، دار الآداب، بيروت.
... /1982/ اللامنتمي ط3، تر: أنيس زكي حسن، دار الآداب، بيروت.
- وليامز، ريموند /1985/ ... المأساة الحديثة، تر: سميرة بريك، وزارة الثقافة، دمشق.
-ي-
- اليافي، نعيم، /1981/ ... الشعر العربي الحديث- منشورات وزارة الثقافة- دمشق سوريا.
... /1993/ أوهاج الحداثة، اتحاد الكتاب العرب- دمشق- سوريا.
- اليوسف، يوسف سامي /1980/ ... الشعر العربي المعاصر، مطبعة الكتاب العربي، دمشق.
((
( الدوريات
- أبو غالي، مختار علي /1995/ ... (المدينة في الشعر العربي المعاصر)، عالم المعرفة /ع 196/ المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت
- بدوي، عبدو /1984/ ... (الغربة المكانية في الشعر العربي)، عالم الفكر(ع1/، مجلد 15/ وزارة الإعلام، الكويت.
- غاتشف، غيورغي /199/ ... (الوعي والفن)، مجلة عالم المعرفة /ع146/ تر: نوفل نيوف، مرا: د. مسعد مصلوح، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت
- فريجات، عادل /1978/ ... الآداب الأجنبية /ع3/، مقالة (الرومانتيكية)، السنة /5/ اتحاد الكتاب العرب، دمشق
- كليب، سعد الدين/1991/، ... مجلة الوحدة، /ع82/ 83 الرباط، المملكة المغربية - ماكوري، جوف/1982 ( االوجودية) عالم المعرفة /ع 58 تر: د. إمام، عبد الفتاح إمام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- الناعم، عبد الكريم /1973/ ... الموقف الأدبي /ع10- 11/ مقالة (شيء من عالم وصفي القرنفلي)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق (بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته)
( الرسائل الجامعية والمطبوعات:(1/307)
- عبد المجيد، عبد اللطيف /1990/ ... (في الشعر العربي المعاصر وتحليله) منشورات جامعة البعث، سورية.
- كليب، سعد الدين، /1986/ ... الرمز والأسطورة في الشعر العربي المعاصر في سوريا /1960- 1980/ (رسالة ماجستير) جامعة حلب.
- كليب، سعد الدين /1989/ ... (القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث)/ 1950- 1975)- حلب
- المرعي، فؤاد /1989/ ... (المدخل إلى الآداب الأوربية)، جامعة حلب.
(((
الفهرس
*التمهيد النظري ...
-نموذج المعذب في الشعر العربي الحديث: ...
-النموذج المعذب في الشعر الإحيائي في سورية ولبنان: ...
-النموذج المعذب في الشعر الرومانتيكي قبل عام 1945: ...
الباب الأول نموذج المعذب في الشعر الرومانتيكي في سوريا ولبنان ...
الفصل الأول : تجليات المعذب في الشعر الرومانتيكي ...
*مدخل: ...
عوامل نشأة الرومانتيكية وارتباطها /بالمعذب/: ...
1-العوامل الاجتماعية والسياسية: ...
2-العوامل الذاتية- النفسية: ...
تجليات المعذب في المدرسة الرومانتيكية: ...
1-النموذج المغترب العدمي: ...
أ- النموذج الوجودي المغترب روحياً: ...
ب- النموذج المغترب قيمياً (الواقع الاجتماعي): ...
جـ- علاقة المغترب العدمي بالمرأة: ...
1-الأنثى الحبيبة: ...
2-الأم حضن الطفولة: ...
2-النموذج السوداوي المازوخي: ...
أ- صور الحرمان العاطفي: ...
ب- صورة الكآبة: ...
ج- تمجيد الألم: ...
د- الملامح النفسية لتصوير المكان والزمان: ...
الفصل الثاني: السمات الفنية للمعذب في الشعر الرومانتيكي ...
- التجديد في القصيدة الرومانتيكية: ...
أ- الخلق: ...
ب- الإيحائية: ...
ج- التعبيرية: ...
رمز المرأة: ...
التشكيل اللغوي: ...
النص المفتوح والنص المغلق: ...
*التنوع الموسيقي: ...
المعجم اللغوي ...
الباب الثاني : نموذج المعذب في شعر الحداثة في سورية ولبنان ...
الفصل الأول: تجليات المعذب في شعر الحداثة ...
(-1-النموذج المغترب: ...
أ-الاغتراب عن المدينة: ...
ب-الضياع والقلق: ...
ج-الأم والعودة إلى الطفولة: ...(1/308)
د- الاغتراب الروحي..................................................153
(- 2-النموذج السوداوي العدمي: ...
أ-الموت الحضاري: ...
ب-الموت والعلاقة مع الأشياء والأماكن: ...
-ج- ترهُّل الزمن ...
د- صورة اليأس: ...
- هـ - صورة المرأة: ...
1- صورة الأنثى المنقذة: ...
2- صورة الحب: ...
3- صورة الخلل في العلاقة مع الأنثى: ...
(- 3- النموذج المقموع: ...
الفصل الثاني: السمات الفنية لصورة المعذب في شعر الحداثة ...
1- البناء الفلسفي: ...
2- الرمز والأسطورة: ...
3-النموذج الفني: ...
4- التشكيل اللغوي ...
5- الصورة الشعرية: ...
أ- السمات العامة ...
ب- الخلق: ...
ج- الرمزية: ...
د- التناقض في الصورة: ...
6- الإيقاع الموسيقي: ...
خاتمة البحث: ...
( مصادر البحث ...
( مراجع البحث ...
( الدوريات ...
( الرسائل الجامعية والمطبوعات: ...
(((
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
المعذب في الشعر العربي الحديث في سورية ولبنان:. من عام 1945 إلى عام 1985:دراسات جمالية/ ماجد قاروط -
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999- 271ص؛ 25سم.
1- 811.9561009 ق ا ر م ... ... 2-811.9562009 ق ا ر م
3 - العنوان ... ... ... ... 4- قاروط
ع -1849/11/1999 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
((
هذا الكتاب
دراسة نقدية تتابع مفهوم "المعذَّب" في الشعر العربي الحديث في سورية ولبنان من عام 1945 إلى عام 1985 وفق منهجية ترصد نشأة هذا المفهوم وتطوره من خلال شواهد موسعة من شعر القطرين السوري واللبناني، ولا تفضل المقارنة مع شعر الأقطار العربية الأخرى.
وتقدم الدراسة تأسيساً نظرياً وفرضيات تنتهي إلى نتائج يتوخاها الباحث والبحث
(((1/309)