المعجم والمصطلح
بين الاختلاف والائتلاف
ذ.سعيد الخلادي (1)
قال الحكماء قديما: "العلم لغة أحكم وَضْعُها " مفاد هذا القول المأثور الذي ينبغي أن يترسخ في الذاكرة الجماعية، أو على الأقل في ذاكرة جمهور الباحثين وطلبة العلم وسدنة الثقافة، أن العالم يفترض فيه أن ينزّل الكلم في مواضعه، أي أن يوفي صياغة أفكاره حقها من الدقة والسلاسة والوضوح وأن يتحرى ذلك قدر الإمكان وهو يلاحظ ويفترض، ويسائل ويُجيب، ويسمي ويعرف، ويستقرئ ويفسر، ويبرهن ويستنتج، ويدرس ويؤلف، ويساجل ويناظر.
ولعل من أول المتطلبات وسوابق الشروط لتحقيق مثل هذا الإحكام اعتماد مصطلحات فيها من اللطافة والدقة ما يضمن التعبير عن المفهوم والإحالة إلى المرجع إحالة تمكّن من الإحاطة معرفيا بالمفاهيم والأشياء، فمصطلحات العلوم إنما هي مفاتيح حصونها وناظمة أنساقها وكواشف مكنوناتها. ولا غرو، أن نجد لفظة "مفتاح " تتصدر عنوان أكثر من مؤلف يعالج، بهذا القدر أو ذاك من الوعي النظري والصرامة المنهجية، قضية المصطلحات في الفكر العربي قديمه وحديثه. مثال ذلك كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي، ومفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زاده. وكذا مفتاح العلوم للسكاكي، (وهو من الكتب المؤسسة في البلاغة العربية حيث يعج بالأوضاع المصطلحية المستحدثة).
__________
(1) أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة ، تطوان.(1/1)
ومعلوم أن هذه المصنفات وغيرها (ككشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب التعريفات للجرجاني) نهلت من ذخائر العلوم الأصيلة (من نحو وبلاغة وفقه وتفسير وحديث) كما استقت مادتها من العلوم الدخيلة، كالرياضيات والمنطق والفلسفة . وكان طبيعيا أن يواجه أصحابها، مثلما واجه المفكرون والعلماء، مصطلحات ومفاهيم جديدة، مفاهيم اقتحمت المجال الذهني العربي الإسلامي، فلم يكن هناك بد من أن يتصدّوا لها بالتمحيص والتعريف والترجمة، وهو ما اضطلعوا به دونما مرجع معتمدين في النقل وسائل التوليد المعروفة في لغة الضاد. ويمكن القول أن نصيب هذه الوسائل من الإعمال والتوظيف كان حسب الترتيب التالي: الاشتقاق فالمجاز فالتعريب ثم النحت.
وغني عن البيان أن نقل المصطلح العلمي الأجنبي بالذات وتوحيده على الصعيد العربي (وذلكم موضوع هذه الندوة وهاجسنا المشترك) هما مهتمان تقتضيان تضافر جهود اللغوي والمتخصص في عروة وثقى لا انفصام لها، وذلك من جهة أهمية ضبط المفهوم وتحديد خصائصه وموقعه من المنظومة المفهومية التي ينتمي إليها وعالم الأشياء الذي يحيل إليه، ومن جهة ضرورة تأصيل البحث في معجم اللغة بشتى مقوماته ومكوناته لإيجاد أنسب التسميات وأوفاها بالمقصود. فلا انفصام بين المعجم والمصطلح. ونحن إذ ننوّه بأهمية الرصيد المعجمي فإنما ننطلق بداهة- وليس في الأمر جدّة تذكر- من كونه الفضاء العام الذي ينمو ويتحرك ضمنه الرصيد المصطلحي، والنموذج المرجعي المعياري الذي تتحقق سلامة الوحدة المصطلحية وفق ضوابطه وأصوله. ومن ثم فإن العلاقات التي تنتظم الرصيدين هي علاقات قوامُها الاحتضان والامتداد والتكامل والائتلاف بيد أنها لا تخلو من بعض التوتر والاضطراب والاختلاف.
I- المعجم والمصطلح:(1/2)
مما يستوقف الناظر في أمر اللغة أن نصيباً وافراً من مفرداتها تعتريه ضروب من التداخل الدلالي والتشعب ينجم عنهما، أحياناً لدى المتلقي قلق في القراءة وتذبذبٌ بين الإمكانات التأويلية، فهذه اللفظة تتأرجح بين دلالات متعددة، وتلك يتحد فيها الدال وتفترق المدلولات (وهو الاشتراك اللفظي)، وأخرى تضطرب بين الحقيقة والمجاز، وبين التصريح والإيماء.
وليس بخافٍ أن هذه الظواهر التي تُعزى إلى طبيعة المخزون المفرداتي من حيث إنه أدنى مكونات اللغة استقراراً وثباتاً وأكثرها عرضة للتغير والتطور وذلك بحسب ظهور الحاجات التعبيرية. مثل هذه الظواهر إنما هو عنوان حيوية اللغة وقابليتها للاتساع والإثراء وأريحيتها في استقبال المعنى الطريف والدلالة الطارئة، علماً بأن الألفاظ متناهية والمفاهيم الحادثة ليست كذلك.
غير أن أسباب الاضطراب الدلالي هذه ما كانت لتحول بصفة مطلقة دون نجاح الوظيفة التواصلية، فمتى أشكلت اللفظة علينا وانبهمت كان لنا في السياق ملاذاً نلوذ به وفيصلاً نحتكم إليه في معظم الأحيان، إذ به (أي بالسياق) ينتقل المعنى من القوة إلى الفعل، وفي ضوئه تتحقق افتراضات دلالية دون أخرى.
ويختلف الأمر اختلافا ملموسا في المجال المصطلحي حيث يُراد للمصطلح الواحد أن يتمحض للمفهوم الواحد دفعاً للغموض ورفعاً للاشتراك واللبس. ومن أوائل الشروط لتحقيق هذه الأحادية الدلالية تحديد المجال المعرفي الذي ينتمي إليه المصطلح "فكثير من الوحدات المصطلحية تستعمل في أكثر من نظام مصطلحي. لكن هذا الأمر لا يعطي صفة الاشتراك للمصطلح في المستوى الدلالي (كما يقول عثمان بنطالب) لأنه يوظف كدالّ في ميادين معرفية مختلفة. والشرط الأساسي في عدم الاشتراك يبقى متوافراً لاختلاف الوظيفة المرجعية الخاصة بكل نظام". فليس سواء أن نقول:نظام اقتصادي/ نظام غذائي/ نظام ضريبي / نظام دولي أو نظام الدولة.
وليس سواء أن نقول في الفرنسية:(1/3)
جهاز عصبي ... Système nerveux
منظومة، مجموعة ... Système solaire
نسق / منظومة ... Système philosophique
نظمة معادلات ... Système d’équations
واللافت في صيغة هذه الوحدات المصطلحية أنها تتخذ شكل مركبات اسمية يقترن فيها الموصوف بالصفة أو المحدّد بالمحدِّد ( déterminé + déterminant) وذلك بالنعت وبالنسبة أو بالإضافة. وهذه طريقة دارجة جارية يتوسل بها المصطلحيون لتحديد الميدان المعرفي، ولتأمين الحصر الدلالي الذي يقوم على عزل المفهوم عن مفاهيم مجاورة عاملة في حقول معرفية أخرى، وعلى تقييده وتخصيصه بالقياس إلى مدلول اللفظة المعجمي العام، وهو تخصيص تنتقل بموجبه المفردة من دائرة المعجم إلى سجل الاصطلاح. فبالمركب الاسمي ينتفي قدر كبير من التعدد والاشتراك، وبه يتسنى للمصطلح أداءُ وظيفته المرجعية بنجاته من اللبس والغموض. ومن هنا شرف مرتبته وحظوته لدى المصطلحيين ومنهم "ألان راي". وهو إنما يستمد هذه الحظوة من طابعه التحديدي وبعده الإبلاغي في المستوى القطاعي، مستوى الثقافة العالمية، ومن بعده التبسيطي والتعليمي في مستوى الثقافة المشتركة.
غير أن الأمور ليست بهذه البساطة ، فكثيراً ما تستوقف ممارس الترجمة العلمية، بل وتحيّره مصطلحات تتقاسمها وتجتمع فيها مفاهيم ودلالات متباينة وإن تعلق الأمر بمركبات اسمية منتظمة في حقول معرفية محددة. يكفي هاهنا أن نستحضر ما ورد أمس في مداخلة الأستاذين برهون والرهوني ، فعبارة Formule chimique التي جاءت في نص مجاله علم الكيمياء – ما كان المقصود بها الصيغة الكيميائية كما يتبادر إلى الذهن أول وهلة، وإنما طريقة كيميائية معينة.
وإذا كان هذا حال الأسماء المركبة، فما بالنا بالأسماء البسيطة، تلك التي يتوفر فيها التجريد الاصطلاحي (حسب تعبير عبد السلام المسدي) و (التجريد بمعنى لمّ الأجزاء وجمع المكونات في كل واحد) وهي أعلى مراتب الاصطلاح إذ يتيسر تصغيرها والنعت بها والنسبة إليها.(1/4)
فمصطلح "حدّ " قد يُراد به في المنطق (وداخل النص نفسه) التعريف Définition، والقضية Prémisse و Proposition (الحد الأكبر = الحد الأوسط) La proposition majeure et mineure أو المقدمة الكبرى والصغرى في القياس المنطقي Prémisses d'un syllogisme ( حيث نقول طرفا قضية) Les termes propositions (limite) / والطرف terme ، كما يعني التَّخوم واللفظة الفرنسية induction قد يراد بها في المجال العلمي نفسه الاستقراء أو التحريض، ويضيف المعجم العلمي والتقني(MEN)(Lexique Scientifique- technologique ) مقابلا آخر هو التخلف. ونلاحظ في هذا المعجم بعض القلق في التعامل مع هذا المصطلح وتفريعاته:
تعدد دلالي ... تحريضية، معامل التحريض ... Inductance
اشتراك لفظي ... تحريضي ... Inductif
غياب الشقية ... محرض، مستخلص ... Induit
والاستخلاص أقرب إلى الاستنباط منه إلى الاستقراء. أما المعجم الموحد فلم نعثر فيه على أثر لهذا و لا لتفريعاته الاشتقاقية. ففي مثل هذه الحالات وغيرها كثير، يتعذر على المترجم رفع التعدد والاشتراك وإيجاد المقابل الملائم إلا أن يستند إلى القرائن السياقية التي بها ينتفي هذا التحقق المفهومي ويثبت ذاك. آنذاك فقط تنحل عقدة لسان المترجم وينطق الكلمة الضائعة العصية.
إذن فعلى السياق المعوّل، سواء في المعجم أو في المصطلح. ومع ذلك تظل الوحدة الاصطلاحية عموماً أدنى إلى الأحادية الدلالية منها إلى التعدد والاشتراك (انظر Bayloux Fabre) في الأدبيات المعجمية الفرنسية، تعد الأحادية حكراً على المصطلح العلمي والتقني).
المعجم والمصطلح أو الاعتباط والمناسبة:(1/5)
سنتناول الآن وجها آخر من أوجه الموازنة بين الرصيد المعجمي والرصيد المصطلحي، وذلك بالرجوع إلى طبيعة وضع المفردات ونشأتها والبحث في صلتها بمسمَّياتها . فلما كانت اللغة مواضعة واتفاقاً على إفراد هذا الاسم لهذا المسمى وعلى تخصيصه به تخصيصاً لا يستند إلى علاقة طبيعية، أي إلى رابط معلل، كان الاعتباط هو السمة المهيمنة على العلاقة بين الدوال والمدلولات والأشياء. فباستثناء حكاية الأصوات التي ينطبق فيها الاسم على المسمى، لا يكاد يخلو الدليل اللغوي من الاعتباط. وهذه العلاقة الاعتباطية التي لا يعضدها وجود المسوّغ إنما تقتصر على الوضع الأول أو ما يسمى في البلاغة بالحقيقة. فالحقيقة، كما يقول الجرجاني هي " كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعاً لا يستند فيه إلى غيرة (أسرار البلاغة، ص324). هي إذن وضع لا يرتكز على مستند ولا يحتكم إلى نموذج أو إطار مرجعي، فكأن الكلمة لقيطة أتت من فراغ، لذا عُدَّت اللغة اصطلاحاً من الدرجة الأولى.
أما الاصطلاح العلمي – وهو الذي يعنينا – فهو من الدرجة الثانية، إنه "مواضعة مضاعفة، على حد تعبير عبد السلام المسدي،إذ يتحول إلى اصطلاح في صلب الاصطلاح. فهو إذن نظام إبلاغي مزروع في حنايا النظام التواصلي الأول، و هو بصورة تعبيرية أخرى علامات مشتقة من جهاز علامي أوسع منه كمّا وأضيق دقة". يبدو إذن أن المصطلح يعرى من الاعتباط إذ هو مأخوذ عموماً من مفردات موجودة سلفا، وذات دلالات قائمة يتحقق بها الوصل والمناسبة.
واستحضارنا المناسبة (وتسمى أيضاً الملاحظة في البلاغة مثله مثل إشارتنا الآنفة إلى الحقيقة، لا بد أن يقودنا بالاستتباع وبمقتضى التداعي والتلازم بين هذه المفاهيم إلى الحديث عن المجاز (الذي لا يخفى دوره سواء في البلاغة أو في الاصطلاح). وحسب التعريف الذي وضعه الجرجاني: " كل كلمة أريد بها غير ما وضعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول فهي مجاز ".(1/6)
والملاحظة تعني ما يقوم من علاقات بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي. ففي لفظة "شجرة" مثلا، نلاحظ أن العلاقة بين الاسم والمسمى تقوم على الاعتباط (التسمية المرجع، أسماء مختلفة في لغات أخرى).
لكن إذا أخذنا مصطلح "شجرة النسب" وهو متواتر في علم الأنساب أو "هو من شجرة النبوة"، تبين لنا أن بين الوضع الاصطلاحي والوضع الأصلي ملاحظة تقوم على المشابهة. فالتحول في المجاز عملية واعية يعضدها وجود الرابط المعلل، وهي كما لا يخفى وسيلة تعبيرية خصبة يتجاوز بها المتكلم وكذلك المصطلحي ضيق وسائل التعبير ويطوعها لأداء المعاني الحادثة.
وتجدر الإشارة فيما يخص القضية الاصطلاحية إلى أن ما ينسحب على المجاز يصدق إلى حد بعيد على وسائل التوليد الأخرى، من اشتقاق ونحت وتعريب.
ففي كل هذه الحالات، تتأسس الأوضاع الجديدة، وإن اختلفت صيغها وطرائقها، عن أوضاع معجمية أو مصطلحية قائمة الذات سلفا، وإذن على دلالات ومفاهيم معهودة وحاضرة في الأذهان، وإن لم يكن ففي القواميس والكتب . (الاشتقاق: شجرة خلاف تشاجر ... ).
II الوضع المصطلحي وثنائية الائتلاف والاختلاف:
بما أن الاصطلاح اتفاق وتعارف، فحري بنا أن نتناول وحدة مصطلحية تجري على الألسنة والأقلام في العالم العربي مستجيبة لمعيار التوحيد المصطلحي في التداول المطرد والاستعمال الجاري. يتعلق الأمر بمصطلح "علم البيئة" المقابل العربي لـ Ecologie فهل يتبدى من جهة الدلالة اتحاد أم اختلاف جزئي بين المصطلح الأجنبي ونظيره العربي؟ وهل يسم هذا الأخير مجمل خصائص المفهوم وأوجه المرجع أم يجتزئ بعضها؟ وهذا أمر منطقي بل ضروري في الأغلب الأعم، نظراً لعدم تطابق الأنساق اللغوية وتباينها في تقطيع واقع الإنسان وتجربته في العالم؟ ثم هل تم استيحاؤه من صميم اللغة؟).(1/7)
وفي حالة الإثبات، هل يبدي هذا المصطلح خلال سفره من الوضع الأول إلى الثاني، أي عند انتقاله من فضاء المعجم إلى إطار الاصطلاح، هل يبدي امتدادا دلالياً ملموساً بين المعنى الأصلي والمفهوم الخاص الطارئ؟. وفي هذه الحالة، ما هي الصلة المنطقية والمجازية التي تؤسس هذا الامتداد؟.
في المدخل المعجمي écologie، يورد قاموس Petit Robert التعريف التالي: " هو دراسة الوسط الذي تعيش فيه الكائنات الحية وتتكاثر وبحث علاقتها بهذا الوسط".
أما المعلومات التأريخية التأثيلية (وهي ما يهم في اختيار قاموس عام) فتبين كيف أن هذا المصطلح استعمل في الفرنسية أول مرة سنة 1904، وأنه مقترض من اللغة الألمانية حيث وضعه العالم الألماني "هاكل" Haeckel بصيغة Decolgie سنة 1873 ( إحدى وثلاثون سنة تفصل بين وضع مصطلح في الألمانية واعتماده في الفرنسية).
أما أصل الكلمة، فيتكون من اللفظة الإغريقية " Oïkos" وتعني" البيت والمسكن"، ومن اللاحقة "Logie" ومن المثير للانتباه أن مشتقات من قبيل écologique النعت / النسبة و écologiste العالم والممارس المتخصص في هذا المجال – هذه المشتقات لم تنل حق المواطنة في الديار الفرنسية إلا سنة 1968 – مما قد يعني قصور الفرنسيين وتأخرهم في هذا المجال المعرفي).
غير أن الطريف حقاً هو ما يشير إليه القاموس المذكور من أن مصطلح Ecol صيغ على منوال Economie الذي يعني في أصله الإغريقي "تدبير المنزل"(حيث المكون oïkos معناه المنزل و"nomos " administer= سير تسييراً؟ ودبر تدبيراً. ولا غرابة ، إذ نجد في تصانيف العلوم لدى العلماء المسلمين القدامى مبحث تدبير المنزل بالذات، مدرجاً ضمن العلوم العملية كالطب والكيمياء وعلم الحيل وسياسة الرعية. ويبدو أن هؤلاء العلماء ترجموا اللفظ الإغريقي ترجمة حرفية بواسطة المركب الاسمي، بيد أن الاستعمال لم يلبث أن رجح لفظة اقتصاد (تجريد + متوفر في الأصول)(1/8)
Ecole : escole ; lat, schola gr skholé
تفريعات اشتقاقية: ... ; Scolarisation Scolaire,
Scolastique
البيئة في المعجم العربي:
من خلال هذا النبش الإثالي البسيط الذي تأتى به الكشف عن السمة الدلالية "بيت ومسكن" في المدلول الأصلي لمصطلح Ecologie، قد يظن الدارس أن المقابل العربي "بيئة" (مضافاً إلى علْم) وهو الذي يقترن في الأذهان ببعض الألفاظ المجاورة كالمحيط والوسط والفضاء والمناخ والجو – أقول قد يظن أن اعتماده تم انطلاقا من التعريف، أي من العبارة التحليلية الشارحة ("دراسة الوسط ... ") ولا بدعة في هذا، فالممارسة المصطلحية تنبني بكيفية مطردة على وضع وحدات جديدة باستيحاء واحدة من الخصائص المفهومية الواردة في التعريف المصطلحي (حاسوب مثلا)
الظاهر إذن أول وهلة أن ثمة شبه تغييب للمعنى الإثالي "بيت مسكن" وأن التركيز وقع على مفهوم الوسط الذي يشكل سمة دلالية جوهرية في هذا المصطلح. فهل جرت الأمور فعلا على هذا النحو؟
في القواميس العربية:
إن لفظ البيئة مشتق من المادة المعجمية "ب و أ " وصيغة الفعل من هذا الجذر هي "باء يبوء بوءاً "
المعجم الأساسي:
باء المرء بالشيء وإليه: رجع حيث نقول: باء بالفشل، وفي الآية الكريمة: و "باؤوا بغضب من الله".
لسان العرب:
يضيف اللسان استعمالا آخر: " باء بذنبه وبإثمه" احتمله، وصار المذنب مأوى الذنب. والباءة والباء: النكاح، والأصل في الباءة المنزل، ثم قيل لعقد التزويج "باءة " لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. هكذا فبوَّأ الشخص منزلاً وفيه: أنزله ومن "بَوّأ" نفضي إلى تبوَّأ".
- المكان وبه : ... نزله وأقام به
- مكانة ... : ... شغَلها
والبيئة والباءة والمباءة، كلها ألفاظ تعني المنزل، كل منزل ينزله القوم. وتختص المباءة باستعمالات أخرى:
- من الرحم: حيث تبوّأ الولد
- الغنم : منزلها الذي تأوي إليه(1/9)
وهناك معنى محدث للمباءة ينص عليه المعجم العربي الأساسي، وهو المكان المشبوه: أغلقت الشرطة هذا المنزل لأنه كان مباءة للرذيلة.
هكذا يتبين أن المعنى الأصلي للفظة "بيئة" هو المنزل ، ثم صارت تعني المكان الذي تتوافر فيه العوامل المناسبة لمعيشة كائن حي. وهذا المدلول هو الذي يتحقق في مصطلح علم البيئة (دراسة علاقة البيئة بالأحياء).
لامراء إذن في أن هذا المصطلح ينبني على امتداد دلالي ملموس بين الوضع الأول والوضع الثاني، فقد احتفظ خلال رحلته من مجال المعجم إلى مجال الاصطلاح بسمة المكانية وملازمتيها العيش والإقامة، هذه السمات التي تتجلى وتتجسد في البيئة – المنزل إطاراً محصوراً يكاد يكون على الإنسان مقصوراً وفي البيئة – الوسط فضاء أرحب وأوسع لأصناف شتى من الكائنات الحية. ويمكن وسم هذه العلاقة بعلاقة التقاطع المنطقي، ويقصد بها المناطقة الصلة بين مفهومين لهما خصائص متماثلة. وجلي أن هذا الاتصال الدلالي تأتى بالمجاز الذي قوامه المناسبة بين المعنيين. غير أنه مجاز استقر في اللغة فصار حقيقة (وهذا هو النقل) حيث طغى الوضع الثاني على الأول الذي يبدو أنه تُنوسي في التداول، وهذا شأن العديد من مفردات اللغة كالسيارة والقاطرة والصوم والزكاة والحج إلخ.
هذا فيما يخص المصطلح العربي منظوراً إليه من جهة تطوره الذاتي، أما إذا عقدنا مقارنة بينه وبين مقابله الأجنبي، فإننا نخلص إلى أن الائتلاف هو السمة المهيمنة. ففي الحالتين نكاد نلمس ذات الانتقال من المعنى الأثالي- حيث يتقارب المدلولان مفهوماً وما صدقاً – إلى المعنى الاصطلاحي الراهن. وفي الحالتين تمَّ الانسياب من الدلالة المعجمية إلى المفهوم الاصطلاحي انسيابا ً متناظراً قوامه احتفاظ المفهوم بطابعه المحسوس، ومروره من الخصوص إلى العموم (وهذه إحدى العلاقات التي تندرج ضمن ما يسمى بالملاحظة) وإبرازُهُ الخاصية المفهومية الأساس وهي المسكن.(1/10)
على أن هذا الائتلاف لا ينفي بعض الاختلاف بين المصطلحين فلَمَّا كانت الباءة في العربية تعني النكاح مثلما تعني المنزل لأن من تزوج امرأة بَوَّاَها منزلاً (ولنستحضر كذلك المعنى المحدث للمباءة : الماخور) كما أسلفنا، ولما كانت البيئة تتضمن خاصية التكاثر بين ساكنتها حسب التعريف العلمي المتعارف، ساغ لنا إلى حدٍّ ما أن نعدّ مصطلح علم البيئة أشمل وأوفى بالمقصود من نظيره الفرنسي (Ecologie)، وأقرب إلى حقيقة الأشياء ، غير أن هذا الاستنتاج ما كان ليضع ويحطّ من قيمة المصطلح الفرنسي، أوَّلاً لأن الشمولية والدقة المتناهية لا تتحققان وليس ضروريا أن تتحققا في كل الاصطلاحات، وثانيا لأن هذا المصطلح يؤدي بنجاح وظيفته التواصلية – وهي بيت القصيد – سواء على مستوى اللغة المتخصصة أو على مستوى اللغة المشتركة.(1/11)
وفي هذا الباب، باب التداول، يطالعنا فرق آخر بين المصطلحين. فنحن العرب نحافظ على البيئة، نحافظ عليها في كل الاستعمالات اللغوية بينما يلجأ الفرنسيون إلى صيغ أخرى. فنحن نقول: المحافظة على البيئة بينما يقولون Protection de l’environnement ولا يقولون *Protection de l'eco. ذلك أن هذا المكون اللغوي الإغريقي لا يحظى بالاستقلال المعجمي، فهو مجرد صدر (أو سابقة =Préfixe) دخيل على اللغة الفرنسية ، ويظل وروده محصوراً في تصدر بضع مصطلحات علمية لا تخرج عن حقلين اشتقاقيين (Economie et Ecologie) وبما أن لكل لغة آليات تعويض تحقق بها التوازن الإبلاغي وتستنجد بها لسد ثغراتها التعبيرية ، كان لِزاماً اللجوء في هذه الحالة إلى لفظة ( Environnement) التي اشتقت من environ ثم أفرزت هي الأخرى امتدادات اشتقاقية من قبيل Environnemental و " Environnementaliste" .أما لفظة بيئة فحضورها أقوى وموقعها أمكن في التداول لأنها عربية صميمة.وبذلك تبقى النسقية الاصطلاحية مَوفورة مَصُونةً ها هنا فيما تضطرب هنالك. وهذا الاختلاف إنما مَردَّه الفرق الجوهري بين نسقين لغويين يسودُ أحدَهما الاشتقاق بينما ينتظم الآخر الإلصاق.
... ... ...(1/12)