المصطلح العلمي بين التأصيل والتجديد
د. إدريس نقوري(1)
1- لا يزال التعريف المشهور الذي أورده الزبيدي في معجمه: " تاج العروس" (مستدرك مادة صلح) للمصطلح: " اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص)، صالحا ليكون منطقاً لمناقشة قضية المصطلح العلمي في تاريخنا الفكري والحضاري وفي واقعنا المتعيِّن. والواقع أننا عندما نبحث مسألة تأصيل وتجديد المصطلح العلمي في لغتنا العربية نصطدم بمجموعة أسئلة وإشكالات تتصل كلها بالموضوع الذي تقترح هذه الندوة معالجته من زوايا مختلفة. وإذا انطلقنا من تعريف الزبيدي ومن التعريفات الأخرى التي ظهرت بعده، تبدت لنا صعوبة أولى وهي أن العلماء والطوائف المعنية بأمر المصطلح لم يتفقوا دائماً على مبادئ قارة تضع الأسس العلمية الدقيقة لبناء المصطلح العلمي كما أنهم لم يتوطأوا دائما، بادئ ذي بدء، على مصطلح واحد للمدلول الواحد. فكثيرا ما نلاحظ تحيز كل عالم - أو مجموعة علماء- لمصطلحه الخاص، أو لمجموعة الاصطلاحات التي اقترحها ووضعها ثم تبناها تلامذته. وعلى الرغم من الاستقرار النسبي الذي عرفه المصطلح العلمي، فإن الخلاف بقي قائما بين العلماء حول استعمال مصطلح بعينه لأسباب كثيرة. ولعل الخلاف بين مدرستي البصرة والكوفة - في نطاق اللغة والنحو- خير دليل على ذلك.
حدث هذا قديما، أما الآن فحدّث ولا حرج، فإن تعصب كل عالم - وكل دولة عربية- للغته الاصطلاحية يثير تساؤلات كثيرة تمس قضية المصطلح في الصميم وتشيع الالتباس والغموض بدل التفاهم والوضوح، ذلك أن المتلقي يجد نفسه أحياناً أمام مفردات مختلفة يراد بها دلالة واحدة.
والحالة الثانية تتمثل في تعدد اللفظ الواحد واستعماله بدلالة مختلفة في أكثر من علم، مثل الخبر، النعت، الصناعة... وغيرها من المفردات التي تفيد دلالة محددة في النحو وفي النقد والبلاغة غير تلك التي تفيدها في علوم أخرى، كالإعلام مثلا...
__________
(1) * أستاذ باحث (المملكة المغربية)(1/1)
ومن المعروف أن كثيراً من العقبات التي تواجه المصطلح العلمي في وقتنا الراهن، واجهت أسلافنا في الماضي في عصر التدوين والترجمة واستيعاب معطيات الحضارات المعاصرة لهم.فقد اضطروا،كما هو واضح، في كتب التاريخ والأدب والحضارة، إلى النقل من السريانية والفارسية والهندية واليونانية، وكان للغة اليونان، أثر كبير في تطوير مصطلحنا العلمي والقدح المعلى في إغناء ثقافتنا وحضارتنا. واستعان أسلافنا بعدة طرق لوضع المصطلح العلمي، منها التعريب ومنها تحري لفظ عربي يؤدي معنى اللفظ الأعجمي، ومنها الترجمة ومنها الاستعانة بالاشتقاق ومنها استغلال المجاز والنحت والتركيب المزجي والمصدر الصناعي... الخ
وكل هذه الطرق وغيرها وسائل علمية لجأ إليها القدماء لتأصيل المصطلح العلمي وحل المعضلات التي واجهتهم في عصرهم، على الرغم من معارضة علماء الاحتجاج الذين حرصوا على نقاوة اللغة العربية وعلى الاحتكام إلى المقاييس التي وضعوها وطالبوا الناس والشعراء والكتاب بالالتزام بها، وعلى الرغم من الخلاف الذي أثير حول لغة القرآن الذي تضمن ألفاظا دخيلة.
2- إذا كان الأوائل قد اجتهدوا في البحث عن حلول للمشكلات اللغوية والاصطلاحية التي اعترضتهم، فإن من حق الأجيال المعاصرة الاستفادة من تجارب السابقين ومن تجارب المرحلة الحضارية الراهنة. ومن الواضح أن عنوان الندوة يركز على التجربة المعاصرة من خلال الجمع بين المصطلحية والمعجمية واستغلال الأولى في بناء الثانية؛ ذلك أن الخطاب الاصطلاحي أصبح يحتل مكانة مرموقة في وقتنا الراهن، ولا شك أنه عنصر فعال في صنع المعجم. والسؤال الذي تطرحه الندوة هو كيف السبيل إلى تأسيس معجم عربي حديث بمصطلحات حديثة؟ وهذا السؤال يفتح أمامنا ثلاثة خيارات أو حلول:(1/2)
? الأول: أن نتجه في صناعة المعجم العربي الحديث اتجاها تاريخيا يفيد من تجربة الأوائل ويحرص قبل كل شيء، على أصالة العربية ومطابقة المعجم الحديث لمقتضيات الفصاحة اللغوية والسليقة العربية؛ وهذا يعني وضع مقاييس جديدة لعصر احتجاج جديد يدعم القديم ويزكيه.
? الثاني: أن نتجه في بناء المعجم العربي الحديث اتجاها تجديدياً يحاول مواكبة التطور العلمي المتسارع واستيعاب الطفرة التكنولوجية الهائلة التي تعم العالم حاليا. وقد يتطلب منا هذا الاختيار التساهل في التعامل مع لغتنا ومع وضع مصطلحاتها.
? والثالث: اتجاه توفيقي، يحرص على الاستجابة لمتطلبات الأصالة اللغوية وعلى تكييفها، في الوقت ذاته، لشروط المرحلة الحضارية.
إن المواقف الثلاثة المشار إليها أعلاه تعكس الوضع السائد الآن في الساحة العربية في مجالات مختلفة من مجالات الحساسية العلمية التي لا تنفصل طبعاً عن الخلفيات الفكرية والاقتناعات الإيديولوجية: هناك فريق الأصالة الذي يدافع عن لغة عصور الاحتجاج وقد يتنازل ويقبل بعصر احتجاج جديد في اللغة: مصطلحاً ومعجماً...، وهناك فريق المجددين الذي لا يرى ضيراً في توسيع اللغة العربية وفي إثرائها بمفردات جديدة أثمرها التطور ودعت إليها الحاجة؛ ويعتبر لغة الإعلام، مثلا- أو لغة الجرائد، كما سماها البعض- بما تتضمنه من ألفاظ واصطلاحات جديدة، سبيلاً من سبل تطوير اللغة وتأهيلها لاستيعاب تجربة العصر المتنوعة والخصبة علميا وحضارياً.
ويوجد إلى جانب الفريقين، طائفة ثالثة تؤثر التوفيق والاعتدال وتنادي بالمصالحة بين الماضي والحاضر وتصر على التمسك بالهوية والأصالة دون أن تنسى أنها تعيش في عصر العلم والحاسوب والصورة وغير ذلك من منتجات التكنولوجيا.(1/3)
3- إن الموضوع، كما سبق القول، ينصب على الممارسة الاصطلاحية والمعجمية الحديثة ولكن هذا لا يمنع من طرح قضية المصطلح العلمي في إطارها الحقيقي ومن مناقشة العلاقة بين المصطلحية وبين المعجمية في نطاق جدلية الأصالة والتجديد، وهما، كما هو متفق عليه، وجهان لعمله واحدة.
إن تراثنا المعجمي بما يمثل من تجارب ومن اجتهادات علمية، وبما يقترح من منهجيات واتجاهات ومدارس، يُعدُ رصيداً ثميناً وأساساً متينا لصناعة المعجم العربي الحديث. فهو يشمل أنماط المعاجم التي توصل أسلافنا إلى صنعها: معجمات الألفاظ، معجمات المعاني، معاجم تأصيلية أو تأثيلية (وتسمى أيضا معاجم اشتقاقية)، معاجم تاريخية ومعاجم متخصصة: معاجم العلوم والمصطلحات، وغيرها من المؤلفات التي تكون ثروة كبيرة لغوية واصطلاحية.
تضم معجمات اللغة والمعجمات المتخصصة عدداً كبيراً من المصطلحات العلمية التي أصَّلها الأقدمون وأصبحت جزءاً من تراثنا العلمي واللغوي. وإن اعتماد هذه المصطلحات في صناعة المعجم العربي الحديث لمن شأنه رفد تجربتنا الجديدة وبناؤها على قواعد صلبة.
وهذه الخطوة تنسجم مع الاتجاه الأول الذي يدعو إلى ضرورة الارتباط بالتراث اللغوي والعلمي وتعزيز استمراره وبعثه.
أما الخطوة الثانية فتفرض دراسة وتقييم المصطلحات الحديثة، بعد إحصائها وتبويبها ورصد مظاهر الأصالة فيها، بهدف الإفادة منها في صناعة المعجم العربي الحديث الذي ينبغي أن يتحقق على مراحل ومن خلال دراسات معجمية متخصصة تتناول مختلف فروع البحث المعجمي والاصطلاحي.
ونذكر في هذا السياق، المشروع العلمي الطموح الذي دعا إلى إنجازه د. أمجد الطرابلسي، ويتعلق بالمعجم التاريخي للنقد العربي والذي تمكن الأستاذ البوشيخي بمجهوده الخاص وإصراره العلمي المشكور، من قطع شوط محمود في تحقيقه بمساعدة ثلة من طلبته.(1/4)
ولا شك أن صناعة المعجم العربي الحديث بواسطة المصطلحات الحديثة ممكنة بشروط منها تشكيل مجموعات فرق عمل تسهر على إعداد دراسات وأبحاث وتنسق عملها لبلوغ الغاية المرجوة. فعلى سبيل المثال، يلاحظ المتتبع للحركة الأدبية الفكرية في بلادنا انتشار اصطلاحات جديدة في ثقافتنا المعاصرة: في الدراسات الفلسفية، في النقد والبلاغة، وفي اللسانيات، فرضها استعمال العلوم والمناهج المعاصرة مثل البنيوية والسيميائيات والعلوم البحتة وعلوم الإعلام...، حتى إنه ليمكن القول إن اللغة المعاصرة والحديثة تحولت إلى لغة اصطلاحية بسبب كثرة العلوم وتداخلها وتعاضدها. ولذلك يجب الانتباه إلى ما تنطوي عليه صناعة المعجم العربي الحديث من مزالق إذا لم يتم الاحتراز من تفشي، مفردات وتغييرات لغوية واصطلاحية في لغتنا، تضعنا مجددا، أمام بعض المعضلات التي واجهت علماءنا ومنهم أصحاب المعجمات في المراحل السابقة.
فالتحدي الذي تطرحه صناعة المعجم (Lexicographie ) العربي الحديث من خلال إشكالية تأصيل وتجديد المصطلح العلمي، يتصل بالتدفق "المعلوماتي" وبالمنافسة الخارجية، وهي ليست لسانية فحسب، التي أخذت تغزونا، في عقر دارنا وتملأ العين والسمع في مجتمعاتنا المعاصرة.(1/5)
4- إن اللغة العربية، أو أية لغة أخرى، ليست أحرفا فقط، بل هي أبنية وصيغ وتراكيب وأساليب وأنماط تعبير تتخللها عبقرية خاصة وتدعمها شخصية متميزة هي الشخصية اللغوية التي أفاض العلماء من نحاة ولغويين وفقهاء وشعراء ومفسرين في تعداد خصائصها والتَّغني بجمالها وروعتها. ولا يكفي أن نقول إن للغتنا ربّاً يحميها ولا أن نقتصر على ترديد تمجيد ماضيها الزاهر وفتوحاتها الباهرة، ولكن يجب أن نتنبه إلى ما يحدق بها من أخطار وما يتربص بها من دوائر. وإن تفكيرنا في صناعة المعجم العربي الحديث يحتم علينا أولا وأخيراً، الوعي الكامل والعميق بالإشكاليات والرهانات التي يفجرها هذا المشروع الذي إذا أريد له النجاح الكامل فلا بد أن يدرس دراسة علمية متأنية، تفحص أبعاده المختلفة: لغوية وفكرية واستراتيجية، وترسم خطة عملية لإنجازه في إطار شروطه العلمية والحضارية وبرؤية تحرص على التوفيق بين مطلبي الأصالة والتجديد وعلى حماية اللسان العربي: لغة ومصطلحاً وتركيبياً، من الأخطار التي واجهته في العصور الماضية أيام الأمويين والعباسيين، وفي بداية النهضة العربية الحديثة.
أما وضعية اللغة العربية في مرحلتنا الراهنة فتستوجب من جميع القائمين عليها والمشتغلين بها، حرصا مضاعفا، ووعياً متواصلاً بالتحديات التي تعترضها وبالغد المشرق الذي ينتظرها إن هم اجتهدوا في خدمتها وأفادوا مما يتيحه العصر من وسائل وأدوات.(1/6)