المسيح .. وحقائق الحكمة الإلهية
تأليف
رفاعي سرور
الطبعة الأولى
1428-1429هـ
دار هادف
المسيح .. وحقائق الحكمة الإلهية
أولاً: ما هي الحكمة من خلق عيسى من غير أب؟
ثانيًا: ما هي الحكمة من التشبيه؟
ثالثًا: ما هي الحكمة من رفع عيسى؟
رابعًا: ما هي الحكمة من نزول عيسى؟
خامسًا: ما هي الحكمة من اختصاص عيسى بالمساءلة يوم القيامة؟
وهناك أساسٌ عامٌّ يُذكر قبل تفسير الحكمة في هذه الأفعال الإلهية بصورة تفصيلية ..
وهو أن الحكمة في جميع هذه الأفعال مرتبطة ببعضها ارتباطًا يجعلها حكمة واحدة .. !
فعندما نفسر الحكمة من التشبيه.. نجدها من أجل الرفع ..
وعندما نفسر الحكمة من الرفع.. نجدها من أجل النزول ..
وعندما نفسر الحكمة من النزول.. نجدها من أجل علامات الساعة..
أولاً: الحكمة من خلق عيسى من غير أب
والحكمة من خلق عيسى من غير أب لها بُعدان أساسيان:
- المشيئة ..
- القدرة ..
فالمشيئة الإلهية المطلقة هي الحكمة الثابتة في الآيات التي بشَّر الله فيها مريم بولادة عيسى: { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } [آل عمران: 47].
ومع المشيئة تكون القدرة: { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47].
والمعالجة الحقيقية لولادة عيسى عليه السلام لا تتم إلا بإدراك الدلائل الكاملة لقضية القدرة الإلهية على الخلق..
الجانب الأول: التنوع "القسمة الرباعية"
فمن أهم دلائل القدرة الإلهية.. التنوع في الخلق، وفيه يقول ابن القيم: (فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها، واجتماعها فيما اجتمعت فيه، وافتراقها فيما افترقت- على إله واحد.. ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله سبحانه وتعالى).(1/1)
وللتنوع قاعدة عامة تعرف باسم "القسمة الرباعية" وهي التي أشار إليها ابن القيم في تنوع الخلق وتنوع عملهم، فيقول عن تنوع الخلق: (ولهذا خلق سبحانه النوع الإنساني أربعة أقسام:
أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.
والثاني: من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم، من غير أن تحمل بها أنثى، ويشتمل عليها بطن.
والثالث: خلقه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح عيسى ابن مريم.
والرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.
وكل هذا ليدل على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأن الأمر ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له والكافرون به؛ من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنه ليس للنوع أب ولا أم، وأنه ليس إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وطبيعة تفعل ما يُرى ويُشاهد، ولم يعلم هؤلاء الجهال الضلال أن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى فاعل لها، وأنها من أدل الدلائل على وجود أمره بطبعها وخلقها، وأودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقًاته، ومملوك من مماليكه وعبيده، مسخرة لأمره تعالى، منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وأمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضلاً عن إسناد الكائنات إليها).
وقد أوضحت سورة النساء معنى القسمة الرباعية وعلاقته بخلق عيسى ابن مريم، فكان الموضوع الأساسي لها هو تحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجالاً كثيرًا ونساءً..
حيث أوضحت أول آية فيها ثلاثة أنواع من الخلق البشري..
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ } .. آدم.. الذي خُلق من غير أب وأم.. { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } .. حواء.. التي خُلقت لأب من غير أم..(1/2)
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1].. جميع البشر.. المخلوقين من أب وأم..
ليبقى عيسى المخلوق من أم من غير أب..!!
فتمتد السورة كلها بعد ذلك لتحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجالاً كثيرًا ونساءً، فتعالج قضايا الزواج واليتامى والمواريث والطلاق والمحرمات في الزواج، وبصورة أساسية أحكام المواريث التي تدور السورة كلها حولها.
والدليل المباشر على هذا التفسير هو تأخير حكم من أحكام المواريث "الكلالة"، وهو حالة أن يموت رجل ليس له ولد، ثم ارتباط ذكر الحكم بذكر عيسى ابن مريم، ومن هنا جاءت النهاية -كما جاءت البداية- دليلاً على ارتباط موضوع السورة بقضية عيسى ابن مريم: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [النساء: 172].
إلى قوله تعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النساء: 176].
وحقيقة التنوع -كدليل على القدرة الإلهية- يمثل بُعدًا من أبعاد القدرة؛ لأن القسمة الرباعية قائمة على التنوع البشري من ذكر وأنثى، وأن هذا التنوع هو أساس السلوك البشري من ناحية الخير والشر بدليل قول الله عز وجل:(1/3)
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل: 1-10].
فهي قاعدة كونية عامة في النوع الإنساني وفي السلوك الإنساني..
- فمن ناحية النوع الإنساني يقول الله عز وجل: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49-50].
- ومن ناحية السلوك الإنساني تظهر هذه القسمة في عدة جوانب..
ففي جانب "الإخلاص، والمتابعة" يقول ابن القيم في مدارج السالكين: (والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أربعة أقسام:
أحدهما: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للأنبياء.
والثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة.
والثالث: من هو مخلص في عمله، لكنه على غير متابعة.
والرابع: من أعماله على متابعة الأمر، بغير إخلاص لله).
وفي جانب "العلم، والعمل" يأتي قول الله عز وجل: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ص: 45].
فقسمت الآية الناس إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، والأنبياء هم أشرف الأقسام في الخَلق.
والقسم الثاني: عكس هؤلاء؛ من لا بصيرة له في الدين، ولا قدرة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخَلق.
والقسم الثالث: من له بصيرة بالحق ومعرفة به؛ لكنه ضعيف، لا قوة له على تنفيذه والدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف.
والقسم الرابع: من أعماله على متابعة الأمر بغير إخلاص لله.(1/4)
وفي جانب "العبادة، والاستعانة" يقول الإمام ابن القيم: (وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب- انتهى إلى هاتين الكلمتين:
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]).
إلى أن يقول رحمه الله: (فالناس في هذين الأصلين "العبادة والاستعانة" أربعة أقسام:
- أجلُّها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها.
- ومقابل هؤلاء القسم الثاني: وهم المعرِضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة.
- وأما القسم الثالث: فهو من له نوع عبادة بلا استعانة..
- وأما القسم الرابع: فهو من توكل على الله، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به؛ فقضيت له، سواء كانت أموالاً أو رياسة أو جاهًا عند الخلق أو أحوالاً؛ من كشفٍ وتأثيرٍ وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له، فإنها من جنس الملك الظاهر).
الجانب الثاني: المقدمات "يحيى وعيسى"
ومن دلائل القدرة الإلهية.. المقدمات التي تدل عليها..
فقد جعل الله -بمقتضى رحمته- خلق يحيى مقدمة لخلق عيسى، ومعينًا للناس على فهم حقيقة الإعجاز في خلق عيسى من غير أب، فكانت آية خلق يحيى من جنس آية خلق عيسى، وهي إظهار قدرة الله على خلق ما يشاء.(1/5)
وكان التجانس في خلق يحيى وعيسى هو أساس معنى بُشْرى يحيى بعيسى.. والتجانس بين البُشْرى والمبشَّر بها قاعدة قدرية ثابتة، جاء فيها قول الله سبحانه: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف: 57]، فلما كانت الرياح بُشْرى بين يدي المطر دل ذلك على أن البُشْرى من جنس المبشَّر به، الأمر الذي انطبق على بُشْرى يحيى بعيسى، باعتبار أن عيسى كان بكلمة الله التي ولد بها من غير أب.. وأن ولادة يحيى تقارب ولادة عيسى ومن جنسها، من حيث عدم وجود صلاحية السبب في الولادة بالنسبة ليحيى، كما قال زكريا: { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } [آل عمران: 37]، وعدم وجود السبب أصلاً بالنسبة لعيسى..!
والدليل على هذا الفهم.. هو الصيغة القرآنية للبُشْرى بعيسى: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39]، فجاءت البُشْرى بولادة يحيى، بصفته مصدقًا بـ "كلمة من الله" عيسى، وكان هذا التصديق هو أول صفات يحيى في خبر البُشْرى التي بشر الله بها زكريا بولادته.
ومعنى بُشْرى يحيى بعيسى هو نفسه معنى بُشْرى عيسى برسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } [الصف: 6].
وكما كان لخلق عيسى مقدمات تدل عليه.. كان خلق عيسى نفسه مقدمة لقدر إلهي أكبر، وهو الساعة.
الجانب الثالث: عيسى والساعة(1/6)
والحقيقة أن بين عيسى والساعة ارتباطًا قرآنيًّا من خلال معنى الإرادة والمشيئة والقدرة الإلهية المطلقة، حيث ذُكر في القرآن تعبير { كُنْ فَيَكُونُ } في ثمانية مواضع، أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم، وأربعة متعلقة بقيام الساعة(1).
ولذلك كان خلق عيسى دليلاً على قدرة الله في الخلق، ودليلاً على الساعة، ودليلاً على الصراط؛ حيث اجتمعت كل هذه الدلائل في قول الله في سورة الزخرف: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [الزخرف: 60-64].
ثانيًا: الحكمة من التشبيه
ودليل حدوث التشبيه هو قول الله عز وجل: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157].
أما الحكمة من التشبيه فهي متعلقة بأفعال الله التي يكون بها الإهلاك.. ومنها سُنَّة الاستدراج، ودليلها قوله سبحانه: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182].
__________
(1) تراجع هذه السياقات بالتفصيل في "نزول عيسى ضرورة قدرية".(1/7)
وسُنَّة الاستدراج: هي الفعل الذي يقع من العبد؛ ليقع به العذاب المستحق، وهي داخلة ضمن السنن الأصلية للإهلاك: سُنَّة الإنذار.. سُنَّة الإمهال.. سُنَّة الاستدراج.. سُنَّة الاستحقاق.. سُنَّة الكشف.. سُنَّة الميعاد.. سُنَّة الإهلاك الفعلي.
ويفصِّل ابن القيم طريقة استحقاق الهلاك فيقول: (وتَحِقُّ كلمة الهلاك بإنزال الأمر والنهي، ثم إظهار قدر اتباعهم هوى أنفسهم، ثم قيام الحجة عليهم بالعدل، ثم يكون العقاب بمثلهم)(1).
(فَعادةُ الرب تعالى -المعلومة في خلقه- أنه حينما يتحتم هلاك قومٍ بمعاصيهم فإنه يُحدثُ سببًا آخر يتحتم معه الهلاك، ألا ترى: أنَّ ثمود لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أُهلكوا، وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة.
وكذلك سائر الأمم، إن أراد الله هلاكها أحدث لهم بغيًا وعدوانًا، بحيث يأخذهم على أثره، وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلُم، ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه.. قيض له عملاً يأخذه بعقوبته، مضافًا إلى أعماله الأولى، فيظن الظان أن أخذه كان بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك، وكان قبل ذلك لم يَحِق القول بأعماله الأولى، حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب أمضى حكمه وأنفذه، قال تعالى: { فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55]..
وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم، إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم.. فحلت العقوبة، فهذا الموضوع من أسرار القرآن، ومن أسرار التقدير الإلهي).
__________
(1) مدارج السالكين (1/167) .(1/8)
ومن هنا كان حدث التشبيه هو السبب الذي قدره الله لوقوع الغضب على اليهود، فكان ادعاؤهم قتل المسيح له نفس دلالة المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه به، والتي استحق اليهود بها الغضب، ولذلك جاء هذا الادعاء ضمن أكبر الذنوب المحسوبة عليهم أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا القول -بعد المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه- دليل على القصد التام من المحاولة، والإصرار على هذا القصد.
ودليل ذلك من كلام ابن القيم قوله: (فإذا أراد إهلاكهم ولا بد.. أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك)، وكان دليلها العام في القرآن هو قول الله: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16].
قال الإمام البغوي في تفسير قوله تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ } [آل عمران: 54-55]:
(المكر من المخلوقين: الخبث والخديعة والحيلة، والمكر من الله: استدراج العبد، وأخذه بغتة من حيث لا يعلم، كما قال سبحانه: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182]، وقال الزجاج: مكر الله عز وجل: مجازاتهم على مكرهم، فسُمِّي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته، كقوله تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة: 15]، وقوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشَبه على صاحبهم(1) .
__________
(1) يراجع المسيح دراسة سلفية - فصل: الهيمنة بالتبيين النبوي.. للمؤلف .(1/9)
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (ليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صُلب كما قال تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157]، وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } [النساء: 157]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح، ومن جَوَّز قتله فهو كمن قتله، فَهُم في هذا القول كاذبون وهم آثمون.
وإذا قالوه فخرًا.. لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه..!، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما.. فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول..؟! قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"(1) فجعل الحرص على القتل كالقتل نفسه.
__________
(1) أخرجه البخاري (31، 6481، 6672) ، ومسلم (2888) كلاهما من حديث الأحنف بن قيس.(1/10)
وظنُّ من ظنَّ منهم أنه صُلِب.. لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح(1)، بل هو مقر بأنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاعتقاده بعد هذا أنه صُلِب لا يقدح في إيمانه؛ فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له، وقَتْلُ النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء، قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [آل عمران: 146]، وقال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144]).
هذه هي قضية التشبيه.. سببٌ أحدثه الله لليهود؛ ليستحقوا به الغضب والعقوبة..
وكما ترك الله ثمود يذبحون الناقة.. ترك اليهود يرتكبون محاولة قتل عيسى..
لكنَّه سبحانه وتعالى قدَّر ألا يترك المسيح لليهود.. فكان لا بد من التشبيه..
كان لا بد من أن يأتي إنسان آخر في صورة المسيح، ويقتله اليهود فعلاً؛ فيستحقون الغضب والعقوبة.
فأصبح محكومًا عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقولهم:
{ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } [النساء: 157].
والحكمة من التشبيه جاءت جامعة للحكمة من عقوبة اليهود ونجاة عيسى، وهما أمران متقابلان؛ لأن عقوبة اليهود لا تكون إلا بقتل عيسى، ونجاة عيسى لا تكون إلا بقتل الشبيه، فجمع الله بحكمته وقدرته بين الأمرين بالتشبيه.
وفي مسألة التشبيه.. يبقى قول الله عز وجل هو الحجة البالغة..
أما مناقشتها سلفيًّا فتتم من خلال عدة جوانب:
الجانب الأول: إسقاط شهادة اليهود
__________
(1) كلام الإمام هاهنا على من عاصر قضية الصلب واشتبهت عليه، أما بعد نزول القرآن ونفيه لعملية الصلب فلا يجوز هذا الاعتقاد.(1/11)
والمقرر بين المسلمين أن المشبه بالمسيح هو الذي صُلب، وأن عيسى عليه السلام رُفع، وأن جميع اليهود رأوا المشبه به وهو يُصلب، وأن تلاميذ المسيح هم وحدهم الذين رأوه يُرفع.
فكيف نغلِّب رؤية التلاميذ لعملية الرفع على رؤية جميع الخلائق على عملية الصلب..؟!
مع مراعاة أن المشبه به كان لا يختلف عنه، وأن كل من رأى المشبه به على الصليب معذورٌ في اعتقاده أن المسيح قد صُلب.
والحقيقة: أن علم الحديث -وهو من أَجَلِّ العلوم السلفية- هو الذي يحسِم المشكلة، وذلك بتعريفه للتواتر على أنه ليس بكثرة الطرق.. ولكن بالثقة في أطراف النقل، بحيث يتساوى أطراف التواتر في الثقة بهم، وبصدقهم في الأخبار.
وباعتبار كفر جميع اليهود والرومان ينتفي معنى التواتر وفقًا لقواعد الرواية وعلم الحديث، في الوقت الذي يثبت فيه معنى التواتر في رواية التلاميذ في الرفع؛ وذلك لأن شرط التواتر متوافرٌ في إيمان التلاميذ، وهو الأمر المفقود عند اليهود والرومان.. رغم كثرة عددهم وقلة عدد التلاميذ..!
ولهذا جاء إثبات التشبيه بعد إثبات فسق اليهود تأكيدًا لرد شهادتهم، حيث يقول ربنا عز وجل:
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 155].
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } [النساء: 156].
وكان كفرهم هو: { وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } والبهتان هنا له اعتبار ضخم..
ذلك لأن الكفر يُسقط عَدالتهم.. وكذلك البهتان.. مما يسقط شهادتهم في قضية عيسى؛ فلا يؤخذ بشهادتهم إذا قالوا: إن المصلوب هو عيسى.
فالآيات تصف الواقع الذي كان عليه اليهود.. والذي انتهى بهم إلى التعامل مع المسيح بهذا الأسلوب..(1/12)
قال ابن كثير: (هذا من الذنوب التي ارتكبوها؛ مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى).
فقد كانوا يعيشون أحكامًا بالتحريم؛ عقوبة لهم على ظلمهم..
{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) } [النساء:160، 161].
والمثير حقًّا أن يأتي تقرير الضوابط الأساسية لقبول أو رد الشهادة في سورة المائدة مباشرة قبل مناقشة قضية المسيح عليه السلام..!
قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [المائدة: 106-108].(1/13)
وهذه هي ضوابط الشهادة.. ثم يأتي بعقبها: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ zNtƒَ tB.. } [المائدة: 109، 110].
وهكذا يكون الإحكام القرآني.. أساسًا في التعامل مع قضية الشهادة والتشبيه.
الجانب الثاني: حكم شهادة الحواريين
وفي قوله تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } يقول الإمام ابن تيمية: (أضاف هذا القولَ إلى اليهود وذمهم عليه ولم يذكر النصارى؛ لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدًا هذا معهم.
بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود، وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صُلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود، وهم شُرَطٌ من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقًا كثيرًا يمتنع تواطؤهم على الكذب).
الجانب الثالث: حكم شهادة النصارى
والكتب الموجودة بين يدي النصارى هي الوثيقة التي تتضمن شهادتهم على الأحداث، ولكن هذه الشهادة لم تخرج عن الإطار المحكَم الذي قرره القرآن..!
فقد وصف الله حالهم: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } .
وبالفعل لم تتطابق شهادتهم على الأحداث..
وحتى روايتهم لوقائع المحاكمة تُسجِل ملاحظة خطيرة: وهي أن الشخص الذي كان يحَاكم لم يستفضْ في الكلام..! على الرغم من أنها كانت الفرصة الوحيدة الباقية لإبلاغ دعوته وشرح قضيته لو كان هو المسيح ابن مريم..!
فبحسب ما ذَكرَت كتاباتهم كانت المحاكمة كلمات مقتضبة..
(إن كنت أنت المسيح فقل لنا.. ؟! فقال لهم: إن قلتُ لكم لن تصدقوني، وإن سألتُ لا تجيبوني، ولا تطلقوني..) (لوقا: 22)..(1/14)
(فسأله بيلاطس: أنت ملك اليهود؟! فأجاب وقال له: أنت تقول..!! وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرًا.. فسأله بيلاطس أيضًا قائلاً: أما تجيبُ بشيء..؟ انظرْ كم يشهدون عليك..؟!! .. فلم يجب يسوع أيضًا بشيء.. حتى تعجب بيلاطس..!!!) (مرقس: 16/3-7).
وهذه الملاحظة المسجلة في غاية الخطورة؛ لأن حياة المسيح منذ البعثة حتى الرفع كانت دعوة، وإقامة حجة، واستفاضة بلاغ.. وقد تميَّز المسيح بخوفه الشديد من الإبطاء في دعوته..!
قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ أن يعمل بهن ويأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكاد أن يبطئ، فقال له عيسى: إنك قد أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال: لا تفعل يا أخي، فإني أخشى إن سبقتني إليهم أن أُعذب أو يُخسف بي"(1).
وروايات الكتب التي بين يدي النصارى تتفق مع تصوير الأحاديث للمسيح كداعية..
فلا تخرج حياه المسيح عن المواعظ والمعجزات.. إلى درجة أنه ظل يعِظُهم طوال النهار حتى جاع الناس واشتكوا إليه..
فكانت معجزة السمك والخبز..!
كيف للمسيح الذي لم يتوقف عن الدعوة سنوات طويلة.. ليلاً ونهارًا وفي كل مكان.. ومع جميع من يستطيع الوصول إليه..
دعوة زواج.. رحلة صيد.. حتى أنه كان يدخل على الناس في بيوتهم لدعوتهم..
كيف تكون حياته كذلك، ثم تأتي فرصته الأخيرة في الدعوة- فلا يتكلم.. إلا بألفاظ غير مفهومة..؟!
.. أنت تقول.. أنا أقول.. وفقط..!!
لقد كان الأمر الطبيعي والمنطقي أن يعتبر المسيح محاكمته فرصة لن تتكرر.. حيث اجتمع له رؤساء اليهود وجموعهم ليسمعوا الحقيقة كاملة.
الجانب الرابع: المشبه به
__________
(1) أخرجه أحمد (4/130، 202) ، والترمذي (2863) ، والحاكم (863) جميعهم من حديث الحارث الأشعري.(1/15)
والمنهج السلفي في فهم قضية المسيح يقتضي الوقوف عند حدِّ النصوص الشرعية.. فلا ننشغل بمسألة لم يرد فيها نصٌّ شرعي، مثل مسألة شخص المشبه به، وبذلك تثبت الحدود العقدية للقضية؛ فلا نُدخل فيها ما ليس منها.
وتقرير هذه القاعدة لا يمنع مناقشة أي اجتهاد إسلامي يمكن الاستئناس به، لكنه يمنع من التفرق والاختلاف حول مسألة ليست داخلة ضمن التصور السلفي لقضية المسيح.
ومن المهم أيضًا التأكيد على أن زاوية الاهتمام بالمشبه به ليست شخصَه، ولكن تفسير موقفه في ضوء حكمة الفعل الإلهي.
والرواية السلفية الثابتة في هذا الموضوع وردت عن حبر الأمة عبد الله بن عباس.. قال:
(لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت؛ اثنا عشر رجلا، ورأسه يقطر ماءً، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه فيُقتل مكاني فيكون معي في درجتي..؟
فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا، فقال: أنا..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة، فقال الشاب: أنا..! فقال عيسى عليه السلام: نعم أنت..! فَأُلقِيَ عليه شبه عيسى عليه السلام، ثم رُفِعَ عيسى من روزَنة كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه فقتلوه، ثم صلبوه)(1).
قال ابن كثير: (وهذا إسنادٌ صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غير واحد من السلف).
وبذلك ينطبق مصطلح "حواري" أول ما ينطبق على هذا الشاب، وتذكِّرنا هذه الرواية بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الخندق: "من يأتيني بخبر القوم.." فقام الزبير وقال: "أنا" ثلاث مرات فقال رسول الله: "لكل نبيٍّ حواريٌّ.. وحواريِّي الزبير.."(2).
__________
(1) أخرجه النسائي (6/489) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/339) .
(2) أخرجه مسلم (2415) ، والبخاري (6833) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله.(1/16)
ولعل ظروف غزوة الخندق التي قال الله فيها: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } [الأحزاب: 10] تشبه ظروف محاولة القبض على المسيح عليه السلام قبل وقوع التشبيه، فانتداب الرسول للزبير كان كانتداب المسيح للشَّاب.
واسم "حواريين" وإن كان لكل نبيٍّ إلا أن اختصاص الحواريين بعيسى ثابتٌ ومعروف ومشهور من النصوص.
الآثار المترتبة على التشبيه
تبين مما سبق أن التشبيه كان لوقوع الاستحقاق على اليهود بالغضب، ولم يكن لتحقيق النجاة للمسيح.. لأن النجاة قد تمت بالرفع قبل محاولة القبض على المسيح أصلاً..
وهذا الاستحقاق كان أول آثار التشبيه على اليهود..
لأن اليهود كانوا على يقين بأنه المسيح، وهذا اليقين كان أساسَ استحقاقهم لذنب المحاولة وكأنها قتل فعلي.
أما أثر التشبيه على النصارى، ففيه قول الله سبحانه وتعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ * وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157]..
فمن أين أتى الشك إلى النصارى..؟!
لا بد أن تكون هناك شواهد صنعها الله ليحتج بها من يريد القول بأنه ليس المسيح؛ لأنه لولا هذه الشواهد ما وسع النصارى إلا القول بأن المصلوب هو المسيح دون اختلاف أو شك.
وعرض الحالة الفكرية للنصارى على المدى التاريخي بخصوص قضية الصلب هو الذي يفسر معنى الآية: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التوبة: 115]، يعني: أن الله لا يضل قومًا إلا بعد أن يُبين لهم الأسباب والأشياء التي يحفظون بها أنفسهم من الضلال.
ليكون صلب المشبه به حدثًا واحدًا، له آثار متعددة..
التشبيه كان استدراجًا لأمة الغضب..(1/17)
وكان فتنةً لأمة الضلال..
وهداية للحواريين الذين حفظهم الله من الغضب والضلال.
وهذه الشواهد لا بد أنها كانت كافية عند المهتدين، الذين قالوا: إن المصلوب ليس المسيح، أما الذين قالوا: إنه المسيح { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } ما لهم بهذا القول من علم { إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } لأن الشواهد الدالة على القول بأنه ليس هو المصلوب كانت هي الشواهد الصحيحة؛ مما جعل الذين يخالفونهم متبعين للظن، الذي لا يفيد العلم.
والقول الفصل في القضية على مستوى اليهود والنصارى والمسلمين هو قول الله: { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157].
وكان يكفي أن يقول: { وَمَا قَتَلُوهُ } .. ولكن لأجل الفصل كان قول الله تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } .
ثالثًا: الحكمة من الرفع
وبعد أن نفى الله حدوث الصلب، وأكد وقوع التشبيه قال عز وجل:
{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 158].
فجاء ذكر الرفع مجملاً إثباتًا لتمام قدرة الله "العزيز" على إنجاء عيسى، وحكمته "الحكيم" من رفعه إلى السماء، بينما ذُكر الرفع مفصَّلاً في قول الله تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) } [آل عمران: 55].
حيث جاء على ثلاث مراحل:
الأولى: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ }
والثانية: { الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ }
والثالثة: { مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) }(1/18)
والعلاقة المنهجية بين هذه المراحل هي ترتيب كل مرحلة على التي قبلها..
فتمام المرحلة الثانية؛ أي: وصول الذين اتبعوا المسيح "على الحق" إلى قمة علوِّهم فوق الذين كفروا بنزوله، وتأييده لهم- لا يكون إلا بتمام المرحلة الأولى؛ أي: برفعه وتطهيره من الذين كفروا..
وكذلك المرحلة الثالثة -وهي قيام القيامة ووقوف الخلق أمام الله للحساب- لن تكون إلا بتمام نزول المسيح وقتله الدجال.. لأنه من أشراط الساعة..
والآن نناقش حكمة الرفع من خلال:
"المرحلة الأولى": { مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ }
مُتَوَفِّيك: التوفية.. انقضاء الأجل في الدنيا.
وأصل كلمة الوفاة هو: التمام والكمال، قال تعالى: { بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ } [البقرة: 40]، { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الإنسان: 7]، { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم: 37].
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (وَفَى: الواو والفاء والحرف المعتل: كلمة تدل على إكمال وإتمام. منه الوفاء: إتمام العهد وإكمال الشرط. ووفى أوفى فهو وفيٌّ، ويقولون: أوفيته الشيء إذا قضيته إياه وافيًا. وتوفيت الشيء واستوفيته، ومنه يقال للميت توفَّاه الله).
ومن معانيها: أوفى على المائة إذا زاد عليها، ووافيت العام: حججت، وتوفي فلان: توفاه الله تعالى وأدركته الوفاة.
فالمعنى: استكمال الموعد المحدد للمرء في الدنيا، وهذا قد يعني الموت بإخراج الروح، وقد يعني استيفاء المدة المؤقتة، وقبض الجسد بعد مدة معينة بغير إخراج الروح.
وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية، ويؤيده اقتران كلمة الوفاة بكلمة رافعك؛ أي: يستوفي جسده بعد إتمام المدة الأولى المقدرة قرينة على عدم قبض الروح.
كما تؤيده النصوص الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
وقد جاءت الوفاة في القرآن على معانٍ منها:(1/19)
1- النوم: قال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } [الأنعام: 60] أي: يُنيمُكم.
2- الموت: قال الله تعالى: { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } [السجدة: 11].
وقد جمع الله المعنيين في قوله سبحانه: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [الزمر: 42] فاستعمل الوفاة في الحالين: النوم والموت؛ لأن النوم أخو الموت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما سُئل: أفي الجنة نوم؟ قال: "لا.. النوم أخو الموت"(1)، والجنة لا موت فيها.
وقد جادل أقوامٌ بأن الوفاة المذكورة في حق عيسى هي الموت؛ لأنها لم تقترن بقرينة الليل أو النوم؛ وهذا باطل لأن أصل الكلمة لا يعني الموت كما تقدم، والأمر يتطلب القرينة إذا كان المعني الأصلي للفظ هو الموت.
كما أن تفسير الوفاة هنا بأحد معانيها -وهو الموت- يتصادم مع النصوص الثابتة المؤكدة لنزول عيسى عليه السلام.
فالوفاء ومشتقاته تعني -كما تقدم- الكمال والتمام، وهذا ينطبق على استيفاء المسيح عليه السلام كله بجسده وروحه من الأرض إلى السماء.
والخلاصة: أن المعنى هو استكمال مدة محددة هي الأولى له في الدنيا، أو الرفع حالة النوم؛ أي: الوفاة بالمعنى الثاني، أو التوفي بمعنى القبض من الأرض والأخذ الوافي أي: أخذه كله بجسده وروحُه فيه إلى السماء سليمًا مُعافى من أي ضرر، أو الثلاثة معًا.
وقد رُوي عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: { مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ } يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه.
وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: "إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة"(2).
قال ابن جرير: (توفيه هو رفعه)، وقال به جمهور المفسرين.
__________
(1) أخرجه الطبراني (919) .
(2) أخرجه الطبراني (5747) .(1/20)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: "الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا"(1).
قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: "إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ولَنْ يُخْزِي الله أُمَّةً أَنَا أَوَّلُهَا وَالمَسيحُ آخِرُهَا؟!"(2).
والحقيقة الإعجازية في هذه الآية هو أن معنى الرفع لغة هو النجاة..!
نقول:
"أرض نَجِيٌّ".. أي: مرتفعة لا يبلغها الماء.
"رُطَبٌ نَجِيٌّ".. أي: رُطَبٌ يؤكل من فوق النخلة بارتفاعها.
"جَبَلٌ نَجِيٌّ".. جبل مرتفع.
"سحاب نَجِيٌّ".. أي: أعلى السحاب وأرفعه.
فكانت النجاة بالرفع.. حدوثًا ولغةً.. وهذا من الإعجاز البلاغيِّ لكتاب الله في قضية عيسى..!
وكذلك جاء الرفع قرينًا للطُّهر.. كما في قول الله سبحانه: { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } [عبس: 14].
فكان رفع عيسى نجاةً له وطهرًا من بني إسرائيل.
وإدراك الحكمة من رفع عيسى يبدأ بتفسير حقيقة عيسى نفسه، فهو "جانب الخير" المقابل للدجال "جانب الشر"، وتحقيق "جانب الخير" في عيسى جاء باعتبار أن الشيطان لم يمسه، وباعتبار أنه لم يذنب قط(3).
وبذلك اقتضى الأمر أن يُرفع عيسى ابن مريم ليكون له وجود ممتد في السماء يتقابل مع الوجود الممتد للدجال على الأرض، حتى لا ينقطع وجود عيسى.. باعتباره "جانب الخير" المقابل للدجال.. باعتباره "جانب الشر".
وبذلك يفهم أن وجود عيسى بلا انقطاع أمام الدجال.. حكمٌ قدريٌّ..
وأن قتل عيسى للدجال.. حكمٌ قدريٌّ..
وأن رفع عيسى حيًّا هو فعل الله المحقق لهذه الأحكام القدرية.
__________
(1) أخرجه البخاري (6959، 6960) عن حذيفة رضي الله عنه، ومسلم (2711) عن البراء بن ع(9) رضي الله عنه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19344) .
(3) يراجع: فصل (حكمة النزول-الأداة القدرية) .(1/21)
ولعلنا نلاحظ في الآية أن الرفع جاء قبل النجاة من الذين كفروا؛ لنفهم أن العلة الأساسية من الرفع هي بقاء عيسى حيًّا حتى ينزل في آخر الزمان، وليس مجرد أسلوب نجاة بالنسبة لعيسى، ومفردات الآية تؤكد المعنى الأساسي للرفع.
إن قدر الله بنجاة أنبيائه من أعدائهم ليس مجرد إنقاذ لحياتهم، ولكنه قدر يُظهر الله به حقائق يريد من الناس أن يفهموها ويؤمنوا بها.
والكيفية التي يحقق الله بها نجاة أنبيائه هي التي تتضمن هذه الحقائق..
مثال ذلك: يونس عليه السلام، حيث كان مضمون تجربة دعوته هو القدر والأسباب..
فقد أرسل الله يونس إلى قومه؛ ليكون سبب هداية لهم.. فلم يؤمنوا، فذهب مغاضبًا يائسًا من إيمانهم.
وركب الفلك؛ لينجو من بينهم.. فاضطرب الفلك، وأصبح سبب هلاك..
واقترع ركاب الفلك ليلقوا العبد الذي عساه أن يكون سبب هلاكهم..
واقترع يونس معهم.. فكان من المدحضين..
ويُلقى في البحر ليكون سبب هلاكه ونجاتهم..
فيلتقمه الحوت.. فيصبح سبب نجاته؛ إذ يسبح الله ويتوب إليه.. فيحتفظ به في بطنه ثلاثة أيام..
ثم يلفظه إلى البَر.. ويعود إلى قومه فيؤمنوا أجمعون، ويكون سببَ نجاتهم..
فكان لنجاة يونس وعودته إلى قومه مضمونٌ واحدٌ.. هو المشيئة الإلهية المطلقة، وفوقية القدر على الأسباب.. فتجانست النجاة مع الدعوة في المضمون.
وهذه هي حكمة النجاة.. أن يكون لها نفس مضمون الدعوة.
ومثال ذلك أيضًا: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من محاولات قتله..
فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مرتبطة بتمام الرسالة: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) } [المائدة: 67].(1/22)
لذا كانت نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل محاولات قتله قدرًا تامًّا، ومحقِقةً في كل محاولة جانبًا من جوانب المضمون الأساسي لرسالته(1)..
ففي الغار تبينت معيةُ الله للنبيِّ: "ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما"(2).
وفي أُحد وكذلك في حُنين.. حينما حاول المشركون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وتكاثروا على ذلك.. صاحَ رسول الله: "أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب"(3).
وكذلك كانت نجاة عيسى.. فقد رُفع لينزل مرة أخرى، ويُتِم مضمون دعوته، باعتبار أن النزول قد تضمن الدلالات الأساسية لهذا المضمون(4).
"المرحلة الثانية": { الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ }
والذين اتبعوه هم الذين آمنوا به وعملوا بوصاياه، وأهمها الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويفسر ذلك قول الرسول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" قال: "فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تَكرِمة الله هذه الأمة"(5).
__________
(1) يراجع: شبهة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مسمومًا.
(2) أخرجه البخاري (3653، 3922، 4663) ، ومسلم (6319) كلاهما عن أبي بكر رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (2864، 2874، 2930، 3042، 4315، 4316) ، ومسلم (4715، 4716، 4717) كلاهما عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(4) يراجع: فصل (عيسى والصراط) بالباب الخامس (الهيمنة السلفية) .
(5) أخرجه مسلم (412) عن جابر بن عبد الله.(1/23)
ولذلك يقول ابن كثير في تفسير الآية: (فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي، خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبيٍّ من أمته، الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مع ما قد حرفوا وبدلوا.
ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، الذي لا يُغير ولا يُبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائمًا منصورًا ظاهرًا على كل دين.
فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].
فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح -حقًّا- سلبوا النصارى بلاد الشام وألجئوهم إلى الروم فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة).
وبعد وقت ليس ببعيد من عهد ابن كثير.. فتح العثمانيون القسطنطينية ودقوا أبواب فيينا ووصلوا إلى قلب أوروبا..
"المرحلة الثالثة": { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(1/24)
وهي المرحلة الأخيرة، ولها أهمية بالغة في قضية المسيح عيسى ابن مريم، ذلك أن النصارى يدعون أن عيسى صعد إلى السماء لتكون له الدينونة أو الحكم بين الناس؛ ولذلك تُثبت الآية بعد رفع عيسى أن الحكم لله.. لا لأحد غيره، كما أن قضية عيسى ابن مريم أخطر القضايا التي اختلف حولها البشر، مما يقتضي حسمها بحكم الله فيها.
وبذلك تقوم الحجة الإلهية على الخلق في كل مراحل هذه القضية..
ابتداءً بإقرار عيسى بعبوديته عند ولادته.. { ?tA$s% إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } [مريم: 30].
ومرورًا بجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، كما قال الله سبحانه: { الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } [الصف: 14]..
وانتهاءً بمساءلته يوم القيامة: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 116، 117].
رابعا: الحكمة من النزول
إن نزول عيسى ابن مريم ضرورة تتعلق بقضيته؛ لأن بدعة ادِّعاء الولد لله تتطلب مواجهة كونية، تقتضي أن يكون عيسى نفسه هو أداة النفي لهذا الادعاء..
وكما تكلم عيسى في المهد ليقول بنفسه: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } [مريم: 30]..(1/25)
كان لا بد من نزوله لينفي بنفسه أيضًا آثار هذا الادعاء..
كان لا بد أن ينزل ويكسِر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية..
وهذا الأسلوب المُحدد في نفي ادِّعاء الولد لله يرجع إلى طبيعة المرحلة التي سينزل فيها عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فهي مرحلة تصحيح واقعي وليست مرحلة دعوة كلامية..
ابتداءًا من كسر الصليب.. وانتهاءً بمُساءلته يوم القيامة على رءوس الأشهاد.
وكسر الصليب راجع إلى الطبيعة الكونية لآثار بدعة الادعاء..
حيث قال الله سبحانه وتعالى: { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } [مريم: 90](1).
ولذلك كان لا بد من إنهاء بدعة ادِّعاء الولد على رءوس الأشهاد وأمام جميع الخلائق.
وتتميز المرحلة الثانية من حياة المسيح بامتلائها بالدلالات المثبتة للحكمة من خلق عيسى أصلاً، ثم نزوله بعد رفعه.
وأحاديث النزول هي النصوص الجامعة لهذه الدلالات..
__________
(1) تعلمنا من القرآن والسنة طبيعة القضايا التي لا تعالج إلا بالفعل، مثل عادة التبني التي أبطلها القرآن بتزويج النبي فعلاً من زينب، حيث لم يكفِ نفي التبني بالكلام؛ لأنها قضية واقعية فلابد أن تتم معالجتها عمليًّا، ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى بين النهي عن التبني بالطبيعة الإنسانية، فقال سبحانه: { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب: 4]، فالطبيعة الإنسانية: أن لكل إنسان قلب واحد، فلا بد كذلك ألا ينتسب الابن لغير أبيه: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } .(1/26)
وأساس هذه الدلالات هو إثبات عبودية عيسى عليه السلام، وأهم هذه الدلائل هي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى حال النزول عند استفحال فتنة الدجال: "فبينما هم كذلك إذ بعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء -شرقي دمشق- بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه ينحدر منه جمان كاللؤلؤ"(1).
مكان النزول
وكما كانت الدقة في إثبات الحكمة من النزول والتعبير عن النزول كانت كذلك في كيفية النزول.. وقد تجلت هذه الدقة في تحديد مكان النزول: "عند المنارة البيضاء شرقي دمشق"، وهذا المكان موضعه اليوم في المسجد الأموي بدمشق.
يقول الإمام ابن تيمية: (كان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم -أي الصابئة- هذا هيكل المشترى، وهذا هيكل الزهرة)(2).
وهذا يثبت رمزية المكان، التي تتفق في معناها مع معنى النزول، حيث لا يبقى للصابئة ولا لليهود ولا للنصارى - الذين تناوبوا على هذا المكان - أي أثر، بعد أن ينزل عيسى ابن مريم، ويكون الدين ملة واحدة.
وقت النزول
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) ذكر الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق أن هذا المكان كان معبدًا لوثن الصابئة الأكبر: جوبيتر، ثم ملكه اليهود، ثم أقام فيه النصارى كنيسة، ثم فتحه خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبنى عليه الوليد بن عبد الملك المسجد الأموي.
ويقول عبد المسيح بن إسحاق الكندي: (ومن آثارهم -أي الصابئة- القبة التي فوق محراب، عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلاهم، كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة، إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذوها مسجدًا) .(1/27)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم عند صلاة الفجر" وبذلك يثبت التحديد الزماني للنزول بأنه وقت صلاة الفجر، هذا الوقت الذي تجتمع فيه ملائكة النهار والليل على الأرض، ولذلك قال الله في قرآن الفجر: { إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء: 78].
فكان نزول عيسى مشهودًا.. تشهده ملائكة الليل والنهار، وليصبح أول أعماله بعد النزول صلاة الصبح خلف المهدي(1).
وصلاة الصبح هي أقوى موانع الفتن؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث نزول الفتن: عن أم سلمة قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: "سبحان الله! ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فُتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحبات الحجر، فربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة"(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"(3)؛ وذلك لأن صلاة الليل حرز من الفتن، وصلاة الصبح تعدل قيام الليل، كما قال عليه الصلاة والسلام: "من صلى العشاء في جماعة كأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله"(4) هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى.. فإن صلاة الصبح تجعل صاحبها في ذمة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح في جماعة كان في ذمة الله حتى يمسي.."(5).
__________
(1) لمراجعة المزيد من دلائل عبودية عيسى عليه السلام يراجع: (الباب الخامس-فصل اختصاصات عيسى عليه السلام) .
(2) أخرجه البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069) عن أم سلمة رضي الله عنها.
(3) أخرجه البخاري (1878، 2467) ، ومسلم (7427) كلاهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(4) أخرجه مسلم (1523) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(5) أخرجه مسلم (1525) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.(1/28)
ومن ناحية ثالثة.. فإن هناك تقابلاً بين صلاة الصبح والدجال، حيث إن صلاة الصبح خير من الدنيا وما فيها، وفتنة الدجال هي شر الدنيا وما فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يتبعه اليهود والمال والنساء والشياطين"(1).
هيئة النزول
من أهم حقائق الحكمة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام.. إثبات بشريته وعبوديته؛ لذلك كان لنزوله صورة محددة تضمنتها الأحاديث التي ورد فيه ذكر النزول، حيث ظهرت في هذه الصورة عدة عناصر:
"بين مهرودتين- أو مُمَصَّرتين": أي مرتديًا ثوبين مصبوغين - أوْ حلتين تضربان إلى الصفرة، مما يشير إلى الدقة الكبيرة في وصف الثوب الذي سينزل فيه عيسى (مرتديًا ثوبين)، ووصف لونهما بنفس الدقة "تضربان إلى الصفرة"(2).
وهناك ملاحظة عامة في أحاديث آخر الزمان، وهي الوصف التفصيلي الدقيق، الذي يحقق اليقين في النفس، ومن أبرز الأمثلة عليه:
__________
(1) أخرجه أحمد (4/216) والطبراني في (الكبير) (9/51/ح8392) وذكره الهيثمي في (المجمع) (7/342) بلفظ: "فأكثر تبعه من اليهود والنساء) ) قال: فيه علي بن زيد وفيه ضعف، وقد وثق، بقية رجاله رجال الصحيح.
(2) وقد عقب الراوي على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنا أول مرة نسمع مهرودتين) مما يشير إلى الفصاحة التي تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية عيسى ابن مريم؛ ليجتمع إلى حق الوحي.. فصاحة البيان، وبهذا تكون القضية في حرز من التحريف، والحقيقة: أن استعمال الألفاظ الفصيحة غير المتواترة على ألسنة الناس تكاد تكون ظاهرة عامة في أحاديث آخر الزمان؛ لتعْلَق الألفاظ في الذهن، وتُحقق اليقين، وتمنع إمكانية إبدال لفظ مكان لفظ، حفاظًا على الأبعاد الكاملة لمعنى اللفظ.(1/29)
* قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الملحمة: "فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأسٍ هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آباءهم وألوان خيولهم؛ هم خير فوارس على ظهر الأرض أو خير فوارس يومئذ"(1).
* وفي حديث النفخ في الصور يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أول من سيسمع: "ثم ينفخ في الصور؛ فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، قال: فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيُصعق ويُصعق الناس"(2).
* وفي حديث هدم الكعبة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كأني به أسود(3) أفجح، يقلعها حجرًا حجرًا"(4).
* وفي آخر الحشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تتركون المدينة على خير ما كانت، لا تغشاها إلا العواف -يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يُحشر راعيان من مُزينة؛ يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرَّا على وجوههما"(5).
* كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ينزل عند المنارة البيضاء "واضعًا كفيه على أجنحة ملكين" وقد كان نزول عيسى ممكنًا بغير ملائكة، ولكن حمل الملائكة لعيسى إثبات لافتقار عيسى إلى الحمل، ولذلك كان الحمل من خصائص الخلق، فأصبح كل من يجري عليه الحمل مفتقرًا إلى غيره في قيامه وليس قائمًا بنفسه، وهو أيضًا الحكمة من جعل الملائكة حملة للعرش، إثباتًا لحقيقة أن العرش مخلوق.
__________
(1) أخرجه مسلم (7463) عن ابن مسعود.
(2) أخرجه مسلم (7567) عن عبد الله بن عمرو.
(3) يقصد: ذي السويقتين من الحبشة.
(4) أخرجه البخاري (1595) عن ابن عباس.
(5) أخرجه البخاري (1874) من حديث أبي هريرة.(1/30)
وقد ثبت هذا المعنى في حق عيسى عليه السلام منذ خلقه في بطن أمه، حيث قال الله في ذلك: { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } [مريم: 22]، ولفظ { حَمَلْتَهُ } يغلِّب عليه جانب عيسى بدلاً من لفظ (حَمَلَتْ بِهِ) الذي يغلِّب عليه جانب مريم، ويأتي في سياق هذا المعنى قول الله عز وجل: { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [مريم: 27] وكان يكفي أن يقول الله: (فأتت به قومها) ليعبر عن المعنى المقصود..!
* ويأتي في سياق هذا المعنى أيضًا.. وصفُ النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله: "رأيت عيسى وهو يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل"(1) وفي نفس النص يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين، وفي ذلك إثباتٌ لافتقار عيسى والدجال، نفيًا للألوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى، ونفيًا للألوهية التي ادعاها الدجال لنفسه.
ودلالة أن يكونا: "ملكين".. هي التعبير عن الإحاطة الإلهية بالخلق.. ولها شواهد كثيرة..
- ففي الدنيا: الرقيب والعتيد، كما في قول الله عز وجل: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].
- وعند الموت: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)(2).
- وفي القبر: "فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟"(3).
- ويوم القيامة قبل الحساب: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا ×,ح!$y™ وَشَهِيدٌ } [ق: 21].
__________
(1) أخرجه البخاري (5902، 6999) ومسلم (443، 1672) كلاهما عن ابن عمر.
(2) " ) ) أخرجه مسلم (7400) عن أبي هريرة مرفوعًا.
(3) أخرجه مسلم (7398) عن البراء بن عازب.(1/31)
- ويوم القيامة بعد الحساب: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ق: 24]."يقطر ماءً - إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ": ودلالة الماء على عبودية المسيح له معناه، حيث كان العرش حدَّ الخلق في الابتداء؛ لأنه أول ما خلق الله، وكان الماء تحت العرش، كما قال الله سبحانه: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7](1)..
وعندما أبطل الله بدعة ادِّعاء الولد -في سياق سورة الأنبياء- قال سبحانه: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 26-30]..
دلالةً على خضوع كل المخلوقًات لقاعدة السببية، والتي تنشأ بمقتضاها من الماء، ولذلك ختم الله السياق بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } .
فأصبح الماء سببًا للخلق عمومًا، وللبشر خصوصًا، حيث اختصهم الله بالذكر: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } [الفرقان: 54].
__________
(1) على خلافٍ فيمن كان قبل الآخر.. "القلم" أم "العرش" والخلاف غير مؤثر في الاستدلال على المعنى المقصود.(1/32)
وذِكر هذه الآية في سورة الفرقان يؤكد المعنى المطلوب فهمه؛ لأن اسم السورة "الفرقان" يتضمن -أول ما يتضمن- الفرقان بين الخالق والمخلوق، أو بين الله والعباد.
وبذلك أصبح للماء دلالة كونية عامة على العبودية لله.. باعتباره حدًّا مكانيًا للخلق، وباعتباره سببًا كونيًّا للخلق.
ومن هنا كان الوضوء مادة تعبدية.. حيث أثبت الله للماء أصل الطهر الذي يكون به التعبد، بعدمًا أثبت الزمان "الليل والنهار" الذي تتقلب فيه أحوال العباد، فقال الله في سورة الفرقان: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } [الفرقان: 47-49].
نزول عيسى ضرورة قدرية:
لا نستطيع أن نفهم الحكمة من نزول عيسى عليه السلام إلا من خلال قوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [الزخرف: 61].
يقول ابن فارس في مقاييس اللغة: (علم: العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره، من ذلك العَلامة، وهي معروفة، يقال: عَلَّمت على الشيء علامة).
وتفسير هذه الآية جاءت فيه أقوال متعددة، لكنها جميعًا تتجه نحو تصور منهجي محدد لعيسى ابن مريم، كأمارة على وقوع الساعة، وكعلامة من علاماتها(1).
أما القول بأنه أمارة ودليل على وقوع الساعة فلأن معجزته كانت تحقيقًا ظاهرًا لكل الأبعاد القدرية التي تقوم بها الساعة، وهذه الأبعاد هي الإرادة والمشيئة والقدرة الإلهية المطلقة.
__________
(1) هناك قراءة متواترة بتحريك العين واللام (لَعَلَم) ، وهي تؤكد نفس المعنى.(1/33)
والحقيقة: إن للعلاقة بين عيسى والساعة من خلال هذه الأبعاد أصلاً قرآنيًّا، حيث لم يُذكر في القرآن تعبير: { كُنْ فَيَكُونُ } إلا في ثمانية مواضع.. أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم، وأربعة متعلقة بقيام الساعة..!
ففي عيسى ابن مريم جاء قوله سبحانه: { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة: 116، 117].
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47].
{ إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59].
{ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [مريم: 35].
وفي الساعة -البعث بعد الموت- جاء قوله سبحانه:
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام: 73].
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40].(1/34)
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [غافر: 68].
هذا من حيث الأبعاد القدرية..
أما من حيث العلامات ذاتها؛ فإن عيسى ابن مريم لن يكن مجرد علامة من العلامات، بل سيكون علامة العلامات..
فكونه يصلي خلف المهدي فهذه علامة على المهدي..
وكونه يقتل الدجال فهذه علامة على الدجال..
وكونه يأوي بعباد الله -من يأجوج ومأجوج- إلى جبل الطور فهو علامة على يأجوج ومأجوج..
وباجتماع علامات الساعة في عيسى تحقق معنى "علم الساعة"، حيث يقول ابن فارس: (كلُّ جنسٍ من الخَلْق فهو في نفسه مَعْلَم وعَلَم. وقال قوم: العالَم سمِّي لاجتماعه).
وباجتماع علامات الساعة في عيسى غدا علمًا ومعلمًا للساعة، ينتفي به أي شك فيها، ولذلك قال عز وجل: { فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا } .
ومن خلال الأبعاد القدرية لعلامات الساعة والعلامات ذاتها يثبت التجانس التام بين عيسى والساعة.. ليكون عيسى عليه السلام هو أنسب أداة لتحقيق علامات الساعة باعتبار هذا التجانس.
وإثبات التناسب بين عيسى وعلامات الساعة يجب أن يبدأ بتفسير معنى التناسب القدري.
التناسب بين القدر .. والأداة المحقِّقة(1/35)
والشرط الأساسي للأداة القدرية هو التناسب مع الغاية المحددة لتلك الأداة(1)، وأن تكون أداة التحقيق من جنس القدر المحقق، ويدخل في هذا المعنى كل الأفعال التي ستكون من عيسى في آخر الزمان، وأهمها: قتل الدجال، والإيواء بعباد الله إلى جبل الطور من يأجوج ومأجوج.
ومناسبة عيسى لقتل الدجال تأتي من علاقة التقابل بين عيسى والدجال، فالشر المجتمع في الدجال.. لا يناسبه ليمحوه إلا الخير المجتمع في عيسى ابن مريم.
وتحقيق "جانب الخير" في عيسى جاء باعتبار أن الشيطان لم يمسه، وباعتبار أنه لم يذنب قط.
وباجتماع هذه الخصائص في عيسى يكون الله قد حقق فيه غلبة الخير في الواقع البشري بصفة عامة، إذ أصبح قسم من أقسام النوع الإنساني الأربعة؛ لم يمسه الشيطان ولم يذكر له ذنب.
وبذلك ينطبق على علاقة المسيح عيسى ابن مريم والمسيح الدجال كل قواعد العلاقة بين الخير والشر، وأهمها حقيقة علاقة الصفة القدرية بمقتضاها في الواقع..
__________
(1) ولتفسير معنى التناسب نذكر مثل التقابل بين الماء والشيطان، فإذا كانت النصوص تثبت الحرز في الماء باعتبار التقابل الذي بينه وبين النار- فإن هناك نصًّا يثبت هذا التقابل، باعتبار أن إبليس قد خُلق من نوع معين من النار؛ ليتحقق التقابل كاملاً ودقيقًا، فقد ثبت بالقرآن أن إبليس قد خلق { مِنْ نَارِ السَّمُومِ } [الحجر: 27] ومن { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } [ الرحمن: 15] ونار السموم والمارج من النار هما أعلى جزء من النار إذا التهبت، فكان نص الحرز هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) ) ، حيث إن البرد هو الثلج الخفيف الذي يسقط من أعلى، فيقابل البَرَد هنا اللهب المرتفع في النار التي خُلق منها إبليس.
وبذلك يتحقق التقابل التام مع الشيطان: برودة الثلج المقابلة لحرارة الماء والنار، والبرد وهو المرتفع من الثلج المقابل للمارج وهو المرتفع في النار.(1/36)
يفسر ابن القيم هذه الحقيقة فيقول في تفسير قوله عز وجل: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173].
(فكما غلبت الرحمة غلب جنودها)..
ولهذا أورد البخاري في باب: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } قول النبي: "لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي"(1).
ولما كان عيسى هو "جانب الخير" المقابل للدجال "جانب الشر" فإن القاعدة تنطبق على العلاقة بين عيسى والدجال وفقًا للعلاقة بين الخير والشر.
ويقول ابن القيم في تفسير قول النبي: "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك"(2):
(الشرُّ كله عدم، وسببه الجهل وهو عدم العلم، أو الظلم وهو عدم العدل، وما يترتب على ذلك من الآلام، فهو من عدم استعداد المحل وقبوله لأسباب الخيرات واللذات)(3).
فلما كان الشر عدمًا أمام الخير فإن الدجال ينعدم أمام عيسى، ولذلك تصف الأحاديث قتل عيسى للدجال بأنه:
"يذُوب كما يذُوب الرصاص" أو "يذوب كما يذوب الملح" أي ينعدم الدجال "الشر" أمام عيسى "الخير".
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رآه عدوُّ الله ذابَ كما يذُوب الملحُ في الماء"(4).
وأصل التجانس بين الدجال والملح هو افتقاد الشر لوجودٍ أصلي، ومن هنا كان الذوبان مثالاً للشر وعقوبة عليه، باعتبار أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك كان الذوبان والشر المطلق جنسًا واحدًا وهو "العدم".
__________
(1) أخرجه البخاري (7422، 7453، 7554) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (1848) عن علي رضي الله عنه.
(3) شفاء العليل.
(4) أخرجه مسلم (7460) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/37)
وهناك ملاحظة خطيرة خاصة بذوبان الدجال كالملح، وهي أن الذوبان عقوبة من أراد بالمدينة سوءًا أو كيدًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انماع كما ينماع الملح في الماء"(1) وقال صلى الله عليه وسلم: "من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء"(2).
وواضح من الأحاديث أن صورة الإذابة "كما يذوب الملح في الماء" هي أشد صور الجزاء؛ ولذلك ضُربت مثلاً لمن أراد سوءًا أو كيدًا بالمدينة، وهي الصورة التي سيُقتل بها الدجال، وبذلك يضاف إلى طبيعة الدجال المتجانسة مع الملح سببًا آخر للذوبان.. وهو عداؤه للمدينة..!
وقد عبَّر القرآن عن هذا المآل في مثل المشرك في قول الله سبحانه وتعالى:
{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31].
وباعتبار أن العلاقة بين الخير والشر في الأصل هي العلاقة بين الحق والباطل..
والعلاقة بين الحق والباطل هي غلبة الحق وزهوق الباطل..
كما قال سبحانه: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [الأنبياء: 18]؛ لذا سينزل عيسى ابن مريم طرفًا للحق الذي يقذف الله به الباطل، فيثبت معنى الغلبة بلا صراع عندما يفر الدجال منه حين يراه، وكذلك الكافرون من أهل الشر لا يقفون لعيسى ولا يستطيعون، بل يكون الأمر كما قال رسول الله: "لا يحل لكافر أن يجد ريح نَفَسِه -أي نَفَسَ عيسى- إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه"(3).
__________
(1) أخرجه البخاري (1877) عن سعد بن أبي وقاص.
(2) أخرجه مسلم (3385، 3427) عن سعد بن أبي وقاص، و(3424، 3425) عن
أبي هريرة، و(3429) عنهما معًا.
(3) أخرجه مسلم (7559) عن النواس بن سمعان.(1/38)
وباعتبار أن الدجال فتنة الشر -الذي اجتمعت فيه كل أسبابه- فإن هذه الأسباب تُهزم معه؛ ولذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قتل الدجال وهزيمة اليهود.. "فيدركه -أي: يدرك عيسى الدجال- عند باب اللُّدّ الشرقي فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة.. إلا الغرقدة فإنها من شجرهم- لا تنطق إلا قال: يا عبد الله المسلم!.. هذا يهودي؛ فتعالَ اقتله"(1).
وكما كان التناسب بين عيسي وقتل الدجال.. كان كذلك في النجاة بعباد الله من يأجوج ومأجوج.
فقد رُفع عيسى عليه السلام ليكون له وجود متصل في السماء، يتقابل مع الوجود المتصل للدجال على الأرض، والوجود المتصل ليأجوج ومأجوج تحت الأرض..
فلا ينقطع وجود "جانب الخير" المتمثل في عيسى في مقابل "جانب الشر" المتمثل في الدجال ويأجوج ومأجوج.
شبهة .. وردها
قال السفهاء من الناس: إن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يتعارض مع حقيقة ختم النبوة بالرسول عليه الصلاة والسلام..
لذا لزم تحديد الأسس التي تفسر الصفة التي سينزل بها عيسى ابن مريم في أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم:
أولاً: النبوة وحيٌ.. والوحي أحكام.. وعيسى لن ينزل بأحكام؛ لأن كل أفعاله ستكون أحكامًا ثابتة مسبقًا في شريعة الإسلام، فإذا كانت أهم أفعاله بعد النزول كسر الصليب، وقتل الخنزير، ووضع الجزية- فإن أحكام هذه الأفعال قد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمَّا كسر الصليب فقد روت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه)(2).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع (7875) .
(2) أخرجه البخاري (5952) عن عائشة.(1/39)
وعندما دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -قبل أن يسلم- وفي عُنقه صليب من ذهب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي.. اطرح عنك هذا الوثن"(1).
وأما قتل الخنزير فدليل على الحرمة؛ لأن ما أمر الشرع بقتله لا يؤكل، وإن كان مما يؤكل أصلاً فإن قتله دون ذبح يمنع أكله، ومن هنا كان قتل الخنزير دلالة على حرمته.
وكذلك كانت ضرورة وضع الجزية؛ لأن الجزية إقرارٌ باختلاف الأمم وتعددها، ووضعها إنهاءً لتعدد الأمم والملل، فيصبح الناس ملةً واحدةً كما كانوا في بدء الخلق؛ ولذلك جاء "كتاب بدء الخلق" في تصنيف البخاري بعد "كتاب الجزية" لأجل هذا المعنى المشار إليه، فقد بدأ الخلق أمة واحدة كما قال الله سبحانه: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213] فمعنى أن يكون الناس أمة واحدة.. هو ألا تكون هناك جزية..!
وكذلك قيام الساعة هو عودة الخلق كما بدأ؛ لقوله تعالى: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف: 29].
كما أن حكم الجزية مرتبط بالجهاد، وبمجرد قتل الدجال لن يكون جهاد، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال"(2).
__________
(1) أخرجه الترمذي (3095) .
(2) أخرجه أبو داود (2532) .(1/40)
نقل الإمام ابن حجر عن الإمام النووي قوله: (الصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام، قلت "أي ابن حجر": ويؤيده عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: "وتكون الدعوة واحدة".
ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة- أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى لما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخٍ لحكم الجزية، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، المثبت له في شريعة الإسلام ابتداءً).
ثم يقول: (إن مشروعية قبول الجزية من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب وتعلقهم بشرعٍ قديمٍ بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته، فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم، فناسب أن يُعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم).
ثانيا: الحكمة الأساسية للمعجزات بالنسبة للأنبياء .. هي إثبات للنبوة أو تعريف بالنبي، ولكن المعجزات التي ستكون على يد عيسى ابن مريم لن تكون كذلك؛ لأن الناس جميعهم سيعرفون عيسى بمجرد نزوله الأرض بين المنارتين في مسجد دمشق، بدليل أن المهدي سيقدِّمه للصلاة، فيرد عليه قائلاً: "إمامُكم منكم؛ تَكرِمة الله هذه الأمة"(1).
كما أن صلاة عيسى وراء المهدي دليلٌ على خضوعه لأحكام الشريعة الإسلامية المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن صلاته ستكون نفس صلاتِنا، وأن إمامة المهدي له تُثبت سُلطان المهدي على الأمة، وأن حكم عيسى سيكون حكم الضيف الذي يُصلي وراء صاحب البيت.
ثالثًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن الصفة التي سينزل بها عيسى فقال: "يُوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية"(2) فهو سينزل في الأمة بصفته حكمًا عدلاً وليس باعتبارٍ آخر.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه البخاري (2222، 2476، 3448) ومسلم (406) كلاهما من حديث أبي هريرة.(1/41)
رابعا: أن كل ما سيكون من أمر عيسى ابن مريم سيكون معجزةً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أخبر به قبل أن يكون.
خامسًا: أن أثر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان لن يكون محدودًا برسالته الأولى؛ لأن رسالته الأولى كانت في بني إسرائيل، أما بعد نزوله فسيكون أثره خارجَ هذه الحدود.
خامسا: الحكمة من المساءلة يوم القيامة
والحكمة من هذا الموقف ترجع إلى قاعدة عامة، وهي الإظهار الكامل للحق يوم القيامة؛ لأنه يوم كمال الإظهار لأسماء الله وصفاته..
ولذلك يقول ابن القيم: (جعل الله سبحانه وتعالى الدُّور ثلاثة: دارٌ أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور، ودارٌ أخلصها للألم والنَّصب وأنواع البلاء والشرور، ودارٌ خُلط خيرها بشرها، ومُزج نعيمها بشقائها، ومزج لذتها بألمِها، يلتقيان ويطالبان، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار، وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته وإلهيته، وعزته وحكمته، وعدله ورحمته، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء -من حين أوجدهم- لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارُها).
ويقول في موضع ثانٍ: (إن يوم الميعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها، ولهذا يقول سبحانه: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }
[غافر: 16]، وقال: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [الفرقان: 26]، وقال: { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19].(1/42)
حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده في ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار، فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى، فتأمل ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزته وعدله، وفضله ورحمته، وآثار صفاته المقدسة، التي لو خُلقوا في دار البقاء لتعطلت، وكمال سبحانه ينفي ذلك، وهذا دليلٌ مستقلٌ -لمن عرف الله تعالى وأسماءه وصفاته- على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله، فيتطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه).
ويقول في موضوع ثالث: إن الله سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع التعبدات كلها، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله، ولا يحسن ولا ينبغي إلا له وحده، ومن المعلوم أن من أنواع التعبد الحاصلة في دار البلاء والامتحان ما لا يكون في دار المجازاة، وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة، وكمالها وتمامها إنما في تلك الدار، وليست دار عمل وإنما هي جزاء ثواب وعقاب، أوجب كماله المقدس أن يجزي فيه:
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 21].
فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، ثم يعقبها دار يجازى فيها المحسن والمسيء، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل، وهو تعطيلٌ لربوبيته وإلهيته وملكه وعزته وحكمته.
فمن فُتح له بابٌ من الفقه في أحكام الأسماء والصفات وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها، واستحالة تعطيلها.. علِمَ أن الأمر كما أخبرت به الرسل، وأنه لا يجوز عليه سبحانه، ولا ينبغي لغيره، وأنه ينزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص، وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء.(1/43)
ومن هنا كان قول الله -في الحديث القدسي-: "أنا الملك.. أين ملوك الأرض؟"(1).
فيوم القيامة هو يوم ظهور أسماء الله وصفاته، ونفي كل ادِّعاء يناقض مقتضى أسماء الله وصفاته، وكمال إظهار الحق لا يكون إلا بإقرار أهل الباطل بما كانوا عليه، وفي هذا الإقرار جاء قول الله: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِن اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم: 21-22].
ومع إقرار أهل الباطل تكون مُساءلة أهل الحق، ومنها مُساءلة كل من عُبد من دون الله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } [الفرقان: 17-19].
__________
(1) أخرجه البخاري (6519، 7382) ومسلم (7227) كلاهما من حديث أبي هريرة.(1/44)
وفي إطار إظهار الحق يوم القيامة كانت مُساءلة المرسلين..
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [المائدة: 109].
لتأتي بعد مُساءلة المرسلين.. مُساءلة عيسى عليه السلام..
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ * قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ } ؟!
{ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) } [المائدة: 116].
فأكمل درجات الإقرار أن يكون بالأطراف التي يتعلق بها موضوع الإقرار، ومن هنا كان إقرار عيسى بالعبودية في يوم القيامة: { مَا قُلْتُ ِNçlm; wخ) !$tB سح_s?َگsDr& ے¾دmخ/ بbr& (#rك‰ç6ôم$# ©!$# 'خn1u' ِNن3/u'ur * àMZن.ur ِNحkِژn=tم #Y‰حky $¨B àMّBكٹ ِNحkژدù * $£Jn=sù سح_tGّٹ©ùuqs? |MYن. |MRr& |=د%چ9$# ِNحkِژn=tم * |MRr&ur 4'n?tم بe@ن. &نَسx" î‰حky } [المائدة: 117].
وكان إقرار عيسى قبل يوم القيامة بالحق، وتحقيق كل مقتضياته بالفعل في الواقع.. كما كان الباطل فعلاً وواقعًا.(1/45)