المسألة في البسملة
تأليف
منلا علي قاري
تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علما
واجعل البسملة لي براءة من عذاب الجحيم .
نقل عن فتاوى النوازل للإمام أبي الليث رحمه الله تعالى سُئل محمد بن مُقاتل الرازي عن رجل ابتدأ سورة براءة ، ولا سمّى ، هل هو خطأ ؟ فقال : هو خطأ إلاّ أن يدمجها الأنفال ، وقال أبو القاسم : الصحيح ما قال محمد بن مقاتل ؛ لأن رجلاً لو أراد أن يبتدئ قراءة آية أو سورة من السور كان مأمورا بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويُتْبِع ذلك بسم الله الرحمن الرحيم ، فكذلك إذا ابتدأ سورة التوبة ، انتهى.(1/1)
... وقد تعلق بظاهره مَنْ توهّم أنّ البسملة من أول براءة قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : وإنّ هذا هو المذهب ، وأنا أقول ، وبالله أحول : إنّ هذا قول باطل ، مخالف للكتاب والسنة ولإجماع الأمة ، وتفصيله يطول ، ومجمله أنّ الأئمة الأربعة منهم مَنْ نفى كونها من القرآن كالإمام مالك رضي الله تعالى عنه وأتباعه ، ومنهم من أثبتها ، وهو الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وأشياعه ، وعلماؤنا المحققون على أنها آية نزلت للفصل ، ولا شكّ أنّ بسملة أول براءة ، ووسط النحل خارجة عن البحث اتّفاقا ، وأمَّا إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه فليس له نص في المسألة ، هذا وقد صرح قاضي خان أنّ البسملة عندنا ليست من الفاتحة ، فإذا كان المذهب أنّها ليست منها ، مع كونها فاتحة الكتاب ، ومُثبتة في جميع المصاحف العثمانية ، وغيرها ، وقد ثبت قراءة البسملة فيها بطرق صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل الصلاة ، وخارجها ، وتقرر في / المذهب أنّ قراءتها سُنّة بالاتّفاق ، بل واجبة 2ب عند بعضهم ، في أول ركعات الصلاة ، على اختلاف في تعيينها ، وأنّ المعتمد عدم قراءتها بين الفاتحة والسورة ، فهل يتصور كونها من أول براءة ، وترك قراءتها خطأ ؟ هذا لا يقبله العقل السليم ، والذوق الفهيم ، بل في المنقول ما يدل على بطلان هذا القول السقيم ، وبيانه أنّ القرَّاء أجمعوا على أنها تُقرأ في أول كل سورة ابْتُدِئ بها إلاّ براءة ، وخيَّروا القارئ في إجزاء السورتيْن الإتيان بها وتركها إلاّ في أثناء براءة فإنهم اختلفوا فيها ، والمعتمد عدم الجواز ، نعم شرذمة قليلة منهم طائفة شاذة جوَّزوا قراءتها في أول براءة ، لكن لا لكونها منها ، بل للتبرك ، أو لغيره من العلل الآتية ، قال السخاوي (1) :
__________
(1) كتبت : قال السخاوي قال ..(1/2)
جواز التسمية في أول براءة حال الابتداء بها هو القياس ، يعني : لا المنقول المنصوص ، الذي عليه الأساس ؛ قال : لأنّ إسقاطها إمَّا لأنّ براءة نزلت بالسيف ، أو لعدم قطعهم ـ يعني الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم بأنها سورة مستقلة ، فالأول مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنَّما نُسمّي للتبرك ، وعلى الثاني نجوزها لجوازها في الإجزاء ، وقد عُلِم الغرض من إسقاطها ، فلا مانع منها ، وقال المهدوي (1) : وأمَّا براءة فالقُراء مُجمعون على ترك الفصل بينها وبين الأنفال بالبسملة ، وكذلك أجمعوا على ترك البسملة في أولها ، حال الابتداء بها ، سواء مَنْ رأى البسملة حال الابتداء بأوساط السورة ، فإنه يجوز أنْ يُبتدأ بها من أول براءة عند مَنْ جعلها هي والأنفال سورة واحدة ، ولا يُبتدأ بها عند مَنْ جعل السيف علّة لها ، وقال ابن شطا (2) : ولو أنّ قارئا ابتدأ قراءته من أول التوبة فاستعاذ ووصل الاستعاذة بالبسملة متبركا بها ، ثم تلا السورة لم يكن عليه حرج إن شاء الله / تعالى ، كما يجوز له إذا ابتدأ من بعض السور أن يفعل 3 أ ذلك ، وإنما المحذور أن يصل آخر الأنفال بأول براءة ، ثم يصل بينهما بالبسملة لأن ذلك بدعة ، وضلالة ، وخرق للإجماع ، ومخالف للمصاحف ، انتهى .
__________
(1) أحمد بن محمد،المهدوي بن عمار، بن مهدى، بن ابراهيم المهدوي،ابو القاسم المقرئ، ذكره الحميدي فقال:أصله من المهدية، من بلاد القيروان، ودخل الأندلس فى حدود الثلاثين واربعمائة، او نحوها، وكان عالماً بالقراءات والأدب متقدماً، ذكره لى بعض أهل العلم بالقراءات، وأثنى عليه ، معجم الأدباء ، ص 996 / الموسوعة الشعرية .
(2) هو أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شطا . انظر الأمالي الشجرية ، ص 1668 / الموسوعة الشعرية .(1/3)
... وهذا كله يدل على أنّ قراءتها جائزة عندهم ، ولم يقل أحد بأن تركها خطأ ، فينبغي أنْ يُحمل قوله على إرادة المبالغة ، بناء على زعمه المختار عند هذا القول الشاذ ، وعلى الخطأ في العبارة ، وقعت بطريق المشاكلة لكلام سائر المسألة ، ثم استثناؤه صريح ، منه أنه اتّبع الشرذمة ، وإنْ لم يُرد من قراءة البسملة في أولها كونها منها ، وإلاّ لاستوى الإدراج وغيره ، ويدل عليه المصحح أيضا ، لكن قد عرفتَ أنه مأمور في أول السور بها ، ومُخيّر في أثنائها ، فلا يطابق مدعاه (1) بأن تركها خطأ ، فملخص الكلام ، ومخلص المرام أنّ هذا قول شاذ ، مبني على غير قياس صحيح ، موهم أن تكون البسملة من أول براءة ، وهو مع ذلك بحمد الله سبحانه وتعالى الملك الجبّار ، ساقط عن حيِّز الاعتبار في عمل جميع أهل الديار ، حتى في كُتَّاب الصغار ، وما ذلك إلاّ بوعده تعالى حيث قال : [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (2) ، وبإخباره صلى الله عليه وسلم ( أنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها) (3) ، فافتح بصرك للإنصاف ، وأغمض عين الاعتساف ، وانظر إلى ما قال ، وتأمل ما صحّ عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا ، وقد تبعه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في هذا المقال ، بقوله : إذا صحّ الحديث فهو / مذهبي ، واضربوا في3 ب الحائط قولي ، وهذا ما ظهر لي في الجواب ، والله تعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
تمت الرسالة المذكورة بحمد الله تعالى وعونه
وحسن توفيقه ، وهذا آخر ما انتهى
إلينا من ذلك ، والله أعلم
وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله
وصحبه
وسلم
م
في 28 القعدة سنة 1276
__________
(1) أي الذي ادّعاه = ما ادعاه
(2) الحجر 9
(3) المقاصد الحسنة 1/68 ، كشف الخفاء 1/243(1/4)