المرأة
في الشعر الأموي
( دراسة )
الدكتورة فاطمة تجور
المرأة
في الشعر الأموي
( دراسة )
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
الانترنيت ... : Internet : : aru@net.sy
موقع اتحاد الكتاب العرب على شبكة الإنترنت:
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنانة: نسرين المقداد
((
المقدمة
المرأة في الشعر الأموي
جاء العصر الأموي في أعقاب مرحلة انتقالية اتسمت بتحول في منظومة القيم القديمة، وإعادة النظر في الثابت والمألوف وفي الأمور التي تقع في النفس موقع البدهيات، واعترى الشخصية العربية قدر غير قليل من القلق والتساؤل والتوزّع، وبذلك أصبحت الذات الفردية والذات الاجتماعية موضوعاً للتأمل والنظر والفحص والمراجعة ، وكانت المرأة عنصراً أساسياً في هذه الذات، فأصابها ما أصاب الذات من القلق والتساؤل وإعادة النظر.
ولم تقتصر هذه الأمور على مرآة الذات وحدها، بل تعدّتها إلى الذات الاجتماعية فإذا المجتمع يعيد من جديد النظر في مكانة المرأة من الرجل، ومن هذه الحياة الاجتماعية التي تفور وتغلي ولا ترى سوى التغيّر والتبدّل سبيلاً لها. وكانت مرحلة صدر الإسلام، بالإضافة إلى ما ذكرت، تمثل العصر البطولي في التاريخ العربي، ففي هذا العصر شهدت الفروسية العربية القديمة انطلاقتها الجبارة، فاندفعت تملؤها روح الدين الجديد تدك امبراطوريتي العالم القديم: الروم والفرس، وتقيم على أنقاضهما أول دولة مركزية للعرب في تاريخهم ويعلمنا التاريخ أن المرأة تظفر في عصور البطولة بتقدير واهتمام كبيرين.(1/1)
وحين صار الأمر إلى بني أمية ظلّت أعراق من ذلك العصر البطولي القريب حية دافقة في هذا المجتمع الجديد. وكانت منظومة القيم الجديدة قد استقرت وتوطدت على الرغم مما كان يثور في وجهها أحياناً من رواسب القيم القديمة، ولكنها ثورة الذي يدافع عن نفسه حذر الانقراض لا ثورة المسيطر المهيمن الذي لا يرضى أن ينافسه أو يضارعه أحد.
ومهما قلنا عن الرّدة الاجتماعية التي شهدها العصر الأموي فإن الذي لا ريب فيه هو أن هذا العصر قد شهد تحولاً حاسماً في تاريخ المجتمع العربي، فقد انتقل هذا المجتمع بعد أن مهّد له عصر صدر الإسلام من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضر وفي ضوء هذه النقلة الحضارية الضخمة ينبغي أن ننظر إلى مكانة المرأة في هذا المجتمع.
وبناء على ما تقدّم تبدو المرأة في العصر الأموي مختلفة اختلافاً واضحاً عن أختها في العصر الجاهلي. فمن هي المرأة في هذا المجتمع؟ وبماذا اختلفت عن أختها الجاهلية.؟ وإلى أيّ مدى غدت ذاتاً فاعلة في الذات الاجتماعية التي تعيش بين ظهرانيها.؟
ولهذا عمدت إلى دراسة "المرأة في الشعر الأموي"، وأردت أن أرصد كلّ ما كان للمرأة في هذا العصر، وبما أن بحثي في تاريخ الأدب لا في تاريخ الحضارة والمجتمع فإنه سيحاول التحقق من فرضه العلمي في ميدانه المعرفي الخاص، ميدان الشعر الأموي نفسه، مهتدياً في ذلك برؤية نقدية محددة ترى الأدب موازاة رمزية للمجتمع دون أن يعني ذلك أنه مجرد انعكاس حتمي لحركة المجتمع لا يتأخر عنها ولا يتقدم ولا يتنبأ ولا يقترح، بل هو انعكاس يعبّر عن روح المجتمع ومناخه العام ويعبر عن الراهن فيه، وعمّا يسمعه بحسه المرهف من حشرجات الموت وآلام الولادة، وعما يستشعره من أحلام غامضة وأشواق قصية. وبذلك فهو يتمتع باستقلاله الذاتي، ويكوّن بنية حيّة فاعلة في البنية الاجتماعية تخضع لقانون "التأثر والتأثير" لا بنية خاملة معزولة عاكسة فقط، ولذا فهو يواكب ويتنبأ ويقترح.(1/2)
وفي ضوء هذا التحديد الدقيق يكون قد اتضح الفرض العلمي لهذا البحث، وتحدد ميدانه المعرفي، وتحدد منهجه العلمي النقدي، أما الفرض العلمي فهو "وضع المرأة في هذا المجتمع الأموي الجديد" وأما ميدانه المعرفي فهو "الشعر العربي زمن الأمويين"، وأما منهجه النقدي فهو "المنهج الواقعي" بكل ما اغتنى به من حوار وأفكار لدى الباحثين المعاصرين.
والبحث يتألف من مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة. وألحق به مسرداً بأهم المصادر والمراجع.
أما الباب الأول فيتناول "المرأة والحياة الاجتماعية في الشعر الأموي" يضم البحث ثلاثة فصول، تناولتُ في الفصل الأول "المرأة والأسرة في الشعر الأموي" فتحدثت عن وضعها أماً وزوجاً وبنتاً.
وتناولت في الفصل الثاني "المرأة والقبيلة في الشعر الأموي" وكشفت في الفصل الثالث عن "المرأة والمجتمع في الشعر الأموي"، فميزت بين النساء في المدن والنساء في البادية، وفي حديثي عن نساء المدن ميزت بين طبقتين من النساء: النساء المغنيات وهن من الموالي، ونساء الطبقة الثرية الراقية في الحجاز ودمشق والعراق.
وأما الباب الثاني فقصرته على "هيئة المرأة وأخلاقها في الشعر الأموي" وغرض هذا الباب هو الكشف عن شكل المرأة وصورتها الواقعية كما سجلها الشعراء، وجعلته في ثلاثة فصول، تحدثت في الفصل الأول عن "أخلاق المرأة في الشعر الأموي" وفي الفصل الثاني عن "جمال المرأة في الشعر الأموي" وعرضت في الفصل الثالث "لهيئة المرأة ومظهرها" وتضمن الحديث عرضاً لملابسها وحليها وعطورها.(1/3)
وخصصت الباب الثالث للحديث عن "المرأة والاتجاهات الفنية في الشعر الأموي" فتحدثت عن "المرأة في موضوعات الشعر الأموي ومعانيه وأخيلته" في الفصل الأول، فعرضت للمرأة في الشعر السياسي على نحو ما تظهر في شعر الفرق أو الأحزاب السياسية كالشيعة والخوارج والزبيريين. وتناولت صورة المرأة في شعر المديح فكشفت عن صورتها في ذلك التمهيد الذي درج بعض الشعراء على أن يوطئوا لمديحهم به، وعن صورتها في تضاعيف المدح نفسه وتناولت صورة المرأة في النقائض. وعملت على أن أجلو صورة مزدوجة للمرأة، ولكن هذه الازدواجية تنبع من موقف واحد هو: الإيمان العميق بأهمية المرأة في الحياة. وتناولت صورة المرأة في شعر الرثاء وصورتها في شعر الحب القصصي والتحليلي.
وأما الفصل الثاني فعقدته للحديث عن "المرأة والمعاني في الشعر الأموي" وأقمت موازنة بين تيارين من المعاني خضع لهما الشعر الأموي: التيار الجاهلي القديم، والتيار الإسلامي الجديد، وكشفت عن مدى تأثر صورة المرأة بهذين التيارين. وأما الفصل الثالث فقصرته على الحديث عن "المرأة والصورة الفنية" وكان غرض هذا الفصل الكشف عن المزاوجة الماثلة في خيال الشعراء بين العالم الطبيعي والعالم الأنثوي.
وأما الخاتمة، فقد لخصتْ أبرز ما وصلتُ إليه من نتائج وبينتْ إلى أي مدى يصدق الفرض العلمي الذي انطلقت منه في هذه الدراسة.
والله أسألُ أن يسدد الرأي والقول معاً.
( ... ( ... (
الباب الأول
المرأة والحياة الاجتماعية في الشعر الأموي
? الفصل الأول ... : المرأة والأسرة في الشعر الأموي
? الفصل الثاني ... : المرأة والقبيلة في الشعر الأموي
? الفصل الثالث ... : المرأة والمجتمع في الشعر الأموي
( ... (
الفصل الأول
المرأة والأسرة في الشعر الأموي
أ-الأم
ب-المرأة الزوج
جـ-البنت
( ... (
أ-الأم:(1/4)
حافظت المرأة على سمو مكانتها وموقعها في المجتمع العربي منذ العصر الجاهلي، الذي شهد شهرة بعض النساء اللواتي كان شأنهن عظيماً، وليس ذلك في رأي أحد الباحثين لعلو منزلة المرأة على الإجمال، بل الفضل فيه، كما يرى الباحث -للأمومة، فلم تكن المرأة تبلغ منزلة العلو والرفعة إلا حين تصبح زوجاً أو أماً، وكانت العرب لا تعلي المرأة إلا أن تكون أماً، ويؤيد رأيه بالقول: "ولم يكن ذلك خاصاً بحال المرأة عند العرب، فقد كان هذا شأنها أيضاً عند اليونان لأنهم كانوا يعدون المرأة أمة يحجبونها قبل الزواج وبعده، وتشتغل بأشغال البيت كالحياكة والغزل وتمريض المرضى، وكذلك كان يفعل الفرس ببناتهم، فإذا صارت المرأة أماً علت منزلتها وصار إليها الأمر والنهي في بيتها ولا يزال دأب أهل البادية إلى اليوم ونشأت عن ذلك عصبية الخؤولة عند العرب، وهي نصرة عشيرة الأم لأولادها"(1).
وهو كلام غير دقيق، ففي المحبر لابن حبيب حديث عن نساء جاهليات كان شأنهن عظيماً يتمتعن بإرادة حازمة، وكان فيهن من تملك حق الطلاق في بعض الحالات مثل أم خارجة وسلمى بنت عمرو النجارية وغيرهما من اللواتي كن يتزوجن وأمرهن بيدهن، فإذا لم يرضين الزوج حولن باب الخباء،
أو امتنعن عن تقديم الطعام للزوج إشعاراً بطلاقه.(2).
__________
(1) تاريخ التمدن الإسامي 4/21
(2) المحبر 398(1/5)
ولكن شأن المرأة يعلو بعد أمومتها دون شك. وبلغ من شأن المرأة أن القبيلة كانت تسمى باسم الأم: كبجيلة أو بلقبها كخندف، وربما نسبت إلى الحاضنة كقبيلة باهلة(1) ومما يدل على قوة المرأة ودورها وعظيم شأنها ما يروى عن رسول الله ص عندما كان يقول لقريش: (أرأيتم إن قتلت أم قرفة، "وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان" أتؤمنون؟ فيقولون: أيكون ذلك؟ فلما قتلها زيد بن حارثة، أمر رسول الله ص برأسها فدير به في المدينة ليعلم قتلها. وكان زوجها مالك بن حذيفة فولدت له ثلاثة عشر رجلاً كلهم قد علق سيف رياسة، وكانت منيعة تؤلب على رسول الله ص وكان الاختلاف يكون بين غطفان فتبعث بخمارها فينصب بينهم فيصطلحون"(2). ولم يكن شأن هند أم معاوية مؤسس الدولة الأموية أقل من شأن هؤلاء الجاهليات، فكانت تتمتع بشخصية قوية وتعبر عن مواقفها من الحياة وأحداثها بجرأة وشجاعة، واشتهرت بمقاومة الإسلام والدعوة إلى قتال المسلمين(3) كما اشتهرت عائشة بنت طلحة التي كانت زوجة لمصعب بن الزبير وكانت منزلتها عنده كبيرة ويروى "أن نساء العراق يقصدنها طالبات وساطتها عند مصعب ليعفي أزواجهن من بعض ما عليهم من الضرائب"(4) وبرزت أم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي كان يستشيرها في أمور الدولة(5) وكما كانت المرأة في قلب الحياة كانت كذلك في قلب الشعر، فالأم مصدر الحياة بالنسبة للإنسانية جمعاء، بحملها وإرضاعها ورعايتها للطفولة، والحرص على التنشئة السليمة القويمة، وكانت تغرس في نفوس أبنائها قيم الخير والمحبة والصدق والشجاعة، فينمو الطفل على ما أخذه من والدته خاصة لأنه أكثر التصاقاً بها، يمضي جل وقته برفقتها، بسبب عمل الأب خارج البيت.
__________
(1) العصبية القبلية 15
(2) المحبر: 490
(3) الروض الأنف: 3/160،161
(4) الحضارة العربية الإسلامية 118
(5) المرجع السابق 119(1/6)
وكثيراً ما انعكست صورة المرأة -الأم- في الشعر العربي، ففي لوحة مالك بن الريب النفسية الرائعة، تجسيد لوضع الإناث في الأسرة: الأم والزوج والبنت، وبيان للارتباط العاطفي الكبير الذي يشعر به المرء تجاه هذه الأقطاب في الأسرة، ربما لأن الأم أو المرأة عامة، حاضنة العاطفة والحياة، ومخزن الحب والحنان، فكان تذكره لهن وهو في موضعه ذاك يرثي نفسه يعد مشهداً للعواطف الإنسانية الكبرى وبياناً لحب الأم خاصة لأبنائها وحرصها على توفير الرعاية والحنان لهم، إنه يحدد هؤلاء النسوة اللواتي يعز عليهن ما يشعر به من الألم والوحدة والأسى وذلك عندما قال:
ولكنْ بأكنافِ السّمينةِ نسوةٌ ... عزيزٌ عليهنَّ العَشيّةَ مابيا
فيا ليت شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ ... كما كنتُ لو عالَوا نَعيَّكِ باكيا
إذا متُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي ... على الرمسِ أُسْقيتِ السّحابَ الغواديا(1)
هل يمكن القول: إن مالك بن الريب لخص في هذه الأبيات وظيفة الأم في الحياة والأسرة التي تتمثل في تناول الحب والحزن، مع ملاحظة أن هذا الحزن مستمر إذ هي ستعتاد القبور وتصبح زيارتها واجباً كما لو أنها تزور فراش وليدها وتطمئن عليه.
ويلتقط إحساس ابن قيس الرقيات هذه الصورة لأم تحنو على ولدها وتلاعبه وتحاول أن تسكته بحركاتها اللطيفة، فتعلق عليه الخرز والودع وبعض التمائم لتقيه شر الحسد والعيون حرصاً على سلامة وليدها من بعض العادات والأفكار السائدة:
حُيِّيتِ عنا أمَّ ذي الوَدْعِ ... والطّوقِ والخرزاتِ والجَزْعِ
تحنو على طفلٍ تُلاعِبُهُ ... صَلتِ الجبينِ لسادةٍ صُلْعِ
يبكي فَتُسِكتُه ببردَتِها ... وعليهِ منها مائلُ الفَرْعِ(2)
__________
(1) شعراء أمويون: 44-47.
(2) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 265
ذو الودع: الطفل يعلق عليه الودع ليقيه شر الحسد، الطوق: العقد، الجزع: خرز أبيض وأسود، الجبين الصلت: المستوى البارز.(1/7)
ومما يلفت النظر حرص الشعراء على مناداة زوجاتهم أو تسميتهن أم فلان، فما أكثر ما ترددت هذه الصيغة في أشعارهم، فكأنما كانوا يتلذذون بها ويستمتعون لما يستشعرونه فيها من فيض العاطفة وصدق الإحساس، وهي صيغة تتشابك فيها وتتداخل مشاعر الأبوة والأمومة والزوجية، وتحيل على صلة رحم واشجة رعاها الإسلام وعمرها بالتراحم والود والتعاطف. بيد أننا ينبغي أن نحترس فلا نظن أن كل من استخدم هذه الصيغة أو هذا النداء كان يتحدث عن زوجه، فربما كان يكني -لسبب أو لآخر- بهذه الصيغة عن حبيبته.
ولكن مثل هذا المسلك لا ينفي عن هذه الصيغة عاطفيتها، ولا يجردها من حيويتها وبهائها لأن هؤلاء الشعراء يخاطبون محبوباتهم بأقرب الصيغ إلى نفوسهن، بل بأقربها إلى الذوق العربي السائد. فنسمع المتوكل الليثي يقول:
إذا ذُكِرَتْ لقلبِكَ أمُّ بكرٍ ... يَبيتُ كأنما اغتبقَ المداما(1)
ويسميّها أم أبان:
خليليَّ عوجا اليومَ وانتظراني ... فإنَّ الهوى والهمَّ أمُّ أبانِ(2)
وهي أم الصبيين:
أمَّ الصبيينِ دومي إننّي رجلٌ ... حَبْلي لأهلِ النّدى والوصلِ ممدودُ(3)
وهي في شعر العجير السلولي أم صبية أيضاً:
وما القلبُ أمْ ما ذِكرُهُ أمَّ صبية ... أريكةُ منها مَسكَنٌ فهروبُ(4)
ويناديها أم مالك:
سَلي الطارقَ المعتّر يا أمّ مالكٍ ... إذا ما أتانيْ بينَ قِدْري ومجزِري(5)
ومرة أم خالد:
تقولُ وقد غالبتُها أمّ خالدِ ... على مالِها أُغرِقتَ دَيناً فأَقصر(6)
ويحرص عمرو بن لجأ التميمي على مناداة الأم أيضاً بأسماء أبنائها، فهي مرة أم بدر:
__________
(1) شعر المتوكل: 12/ ويتكرر في 119 وهي أم خشف في 216
(2) المصدر السابق 188
(3) المصدر السابق 218
(4) شعر العجير السلولي: 213 أريكة اسم جبل بالبادية وهروب من قرى صنعاء.
(5) المصدر السابق: 209 ويتكرر في 223. المعتر: الذي يطيف بك يطلب ما عندك سألك أو سكت عن السؤال.
(6) المصدر السابق: 222 ويتكرر في: 223.(1/8)
تصدَّتْ بعد شَيبكَ أمُّ بدرٍ ... لتطردَ عنكَ حِلمَكَ حين ثابا(1)
ومرة أخرى أم بهدل:
فهل أنتَ بعدَ الصَرِم من أمِ بَهْدَلٍ ... من الموئسِ النائي المودَّةِ آيسُ(2)
وهي عند يزيد بن الطثرية أم شنبل:
ألا حبذا عيناك يا أمَّ شنبل ... إذا الكحلُ في جفنيهما جالَ جائِلُه(3)
وأكثر الشعراء كذلك من تشبيه المرأة بالظبية الأم لأنها تبدو أكثر حناناً وجمالاً ورقة:
وكأنما نظرتْ بِعَيْنَيْ ظبيةٍ ... تحنو على خِشفِ لها وتَعطَّفُ(4)
وتبدو صفحة الأمهات في ديوان المداحين نقية بيضاء، ولا سيما أمهات الخلفاء والحكام ورجال السياسة، فقد اتخذ هؤلاء الشعراء من صفاتهن الأخلاقية كالتدين والشرف والحصانة، ومن أحسابهن وأنسابهن مادة شعرية خصبة. ففي مدائح جرير لعمر بن عبد العزيز بن مروان يكرر ذكر والدته مراراً:
إليكَ رحلتُ يا عمرُ بنُ ليلى ... على ثقةٍ أزورُكَ واعتمادا(5)
ويقول فيها:
عليكم ذا الندى عمرُ بن ليلى ... جواداً سابقاً ورثَ الجيادا
إلى الفاروقِ ينتسب ابنُ ليلى ... ومروانَ الذي رَفَعَ العمادا
وتبني المجدَ يا عمرُ بن ليلى ... وتكفي الممحِلَ السّنَة الجمادا
وحسبنا أن نعرف أن من أبرز وظائف التكرار اللغوي -ولا سيما تكرار اسم العلم -بيان الأهمية وتوكيد المعنى وتقوية الإحساس به.
وفي مدح جرير لعبد العزيز بن مروان يذكر أمه وكرم محتدها ومكانتها حتى يوشك الحديث عنها أن يكون قسيماً للحديث عن ابنها، يقول:
سَمَتْ بكَ خيرُ الوالدتِ فقابلَتْ ... لليلةِ بَدْرِ كان ميقاتُها قَدْرا
فجاءَتْ بنورٍ يُستضاءُ بوجهِهِ ... لهُ حَسبٌ عالٍ وَمَنْ ينكرُ الفجرا
__________
(1) شعر عمرو بن لجأ التميمي: 47 في: 49 و61 وأم غزال في: 7.
(2) المصدر السابق 111
(3) شعر يزيد بن الطثرية:94.
(4) الأغاني: 5/47 أعشى همدان 5/146.
(5) ديوان جرير 1/117 وليلى جدته أم أبيه عبد العزيز بن الأصبغ بن زبان الكلبي وأم عمر أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.(1/9)
ومنسوبةٍ بيضاءَ في صُلبِ قومِها ... جَعَلْتَ الرَماحَ الخاطراتِ لها مَهرا(1)
وفي مدحه لهشام بن عبد الملك يمضي على سنته السابقة، ويزيد فيذكر صفة مستملحة في النساء عند العرب -وعند غيرهم أيضاً- هي الإكثار من الولد، ويقرن هذه الصفة بصفة دينية رفيعة الشأن، يقول:
بنى مروانُ بيتَكَ في المعالي ... وعائشةُ المباركةُ الولودُ(2)
وعندما مدح الأخطل الوليد بن عبد الملك مدحه بجداته جميعهن مشيراً إلى حسبهن ورفعتهن وعراقة أسرهن وأصولهن:
وإنْ أَتعرَّضْ للوليدِ فإنَهُ ... نَمَتْهُ إلى خيرِ الفروعِ مَضارِبُهْ
نساءُ بني كعبٍ وعبسٍ وَلَدْنَهُ ... فنعمَ -لعَمَرْي- الجالباتُ جَوالبُه(3)
وكان عبد العزيز بن مروان قال لا أعطي شاعراً حتى يذكر والدتي في مدحه لشرفها(4) فخاطبه الشاعر نصيب ونسبه إلى أمه قائلاً:
وإنَّ وراءَ ظهريَ يا بنَ ليلى ... أناساً ينظرونَ متى أؤوبُ(5)
ويقول فيها أيضاً:
يقولُ فَيُحِسنُ القولَ ابنُ ليلى ... ويفعلُ فوقَ أَحسنِ ما يقولُ(6)
ومدح الكميت عبد الملك بن مروان، فذكر والدته ووصفها بالعفّة، ثم ثنّى بذكر ما أورثته من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة:
أورثَتْهُ الحَصَانُ أمُّ هشامٍ ... حَسَباً ثاقباً ووجهاً نَضيرا
وتعاطى به ابنُ عائشة البد ... رَله رقيباً نظيرا(7)
وقال فيه أيضاً مشيراً إلى عراقة والدته وجداته وحسبهن الشريف:
لقد جَمَعَتْ بيني وبينكَ نسوةٌ ... عقائلُ ما إنْ مثلُهنَّ عقائل(8)
__________
(1) المصدر السابق: 2/708
(2) المصدر السابق 1/290 أراد عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص أم عبد الملك
(3) ديوان الأخطل 289
مضاربه: أي عروقه الضاربة في الثرى
كعب: أي كعب بن لؤي. أحد أجداد بني أمية وعبس قبيلة أم الوليد
(4) الأغاني 1/135
(5) المصدر السابق 1/135
(6) المصدر السابق 1/140
(7) شعر الكميت 204
ابن عائشة عبد الملك بن مروان. تعاطى به: أي رام أن يأتي به شبه البدر.
(8) شعر الكميت 12(1/10)
كما مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك بأمه، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية فأكد حسبها وكرم أهلها وعراقتهم، وذكر أنه سليل الرفعة والنسب الكريم:
وأنتَ ابنُ الخلائفِ من قريش ... نَمَوْكَ وفي عَداوتِهمْ إباءُ
وعاتكةَ التي ورِثتْ كريزاً ... وحَرْباً فالكرامُ لها حواءُ(1)
ومدحه أيضاً بقصيدة أخرى تتكرر فيها المعاني ذاتها تقريباً عندما قال:
أنتَ ابنُ عاتكةَ الميمونِ طائرُها ... أمِّ الملوكِ بني الغرِّ المناجيبِ(2)
ولم يقتصر المدح بالأم على الخلفاء وحسب وإنما امتد ليشمل طبقات مختلفة من المجتمع، فعندما مدح عبيد الله بن قيس الرقيات طلحة الطلحات أشار إلى والدته وذكر رفعة قومها وحسبها وأخلاقها:
ولَدَتْهُ نساءُ آلِ أبي طلْـ ... حَةَ أكرمْ بهنَّ من أُمّهاتِ(3)
وقد فخر الأولاد أيضاً بأمهاتهم، واعتزوا بكرامتهن وحصانتهن وعراقة أصولهن، فقد ورد في الطبري "أن عتبة وعنبسة ابني أبي سفيان قد تنازعا، وأم عتبة هند وأم عنبسة ابنة أبي أزيهر الدروسي، فأغلظ معاوية لعنبسة، وقال عنبسة: وأنت أيضاً يا أمير المؤمنين، فقال: يا عنبسة إن عتبة ابن هند،!! فقال عنبسة:
كنا بخير صالحاً ذاتُ بيننا ... قديماً فأمسَتْ فَرّقَتْ بيننا هندُ
فإنْ تَكُ هندٌ لم تَلِدْني فإنني ... لبيضاءَ يَنميها غَطارِفةٌ نُجْدُ
أبوها أبو الأضيافِ في كلِّ شتوةٍ ... ومأوى ضعافٍ لا تنوءُ من الجهدِ(4)
إنه يعّرض بهند ويشير إلى عراقة والدته وعز أهلها وكرمهم.
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني 128. كريز جد عاتكة لأمها، حرب بن أمية بن عبد شمس كانت له الرئاسة في الجاهلية. حواء أي أهلها وجمعها.
(2) المصدر السابق: 172 يريد بالملوك يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد.
(3) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات:21
(4) الطبري 5/333(1/11)
وعلى نحو ما كانت الأمهات مادة شعرية بأيدي المداحين من الشعراء كن مادة شعرية بأيدي غيرهم من الغزلين. ولم تحل هيبة الحكام والأمراء دون ذلك، فقد مضى هؤلاء الشعراء يتعرضون لأمهاتهم ويتغزلون بهن فيما عرف في تاريخ الأدب العربي باسم "الغزل الكيدي" أو الغزل السياسي"، على نحو ما صنع عبد الرحمن بن حسان حين شبب برملة بنت معاوية، أو ما صنع العرجي عندما تغزل بأم الأمير محمد بن هشام المخزومي وقال:
عُوجي علينا ربَّةَ الهودجِ ... إنَّكِ إنْ لم تَفْعلي تَحْرَجي
أَيْسرُ ما نالَ مُحِبٌ لدى ... بَيْنِ حبيبٍ قولُهُ عَرِّجِ
تُفْضَ إليه حاجةٌ أو يقُلْ ... هَلْ ليَ ممّا بيَ مِنْ مخرجِ
من حُبِّكم بِنتُمْ ولم يَنْصَرمْ ... وَجْدُ فؤادِ الهائمِ المُنضَجِ
فعاجتِ الدّهماءُ بي خيفةً ... أنْ تَسْمَعَ القوَل ولم تُعْنج
فما استطاعَتْ غيرَ أن أومأتْ ... نحوي بِعَيْنَيْ شادنٍ أدْعَجِ
يأَوي إلى أَدماءَ من حُبِّهِ ... تحنو عليهِ رائمٌ عَوْهِج(1)
أما في الهجاء فكانت الأم وما ترمز إليه من معاني الشرف والكرامة والحصانة والرفعة مجالاً خصباً أمام الشعراء لتحويل كل المعاني السابقة إلى أفكار الرذيلة والشر والقبح وكل ما يسيء،ولا سيما في شعر النقائض وكثر الهجاء بعبوديتها وخدمتها بين الشعراء، وكان عمل الأم دليل فقرها وامتهانها، فنجد الفرزدق يعيّر بالأم التي تعمل حلابة، لأن الحلب من عمل الرجل.
ويعد عمل المرأة ولا سيما حلبها الماشية عاراً ومنقصة حتى في أصغر القبائل وأفقرها وأشدّها تبدّياً يقول:
ولكنَّهُ من نَسْلِ سوداءَ جَعْدةٍ ... نُميريَّةٍ حَلاّبةٍ في المعالقِ(2)
__________
(1) ديوان العرجي 19 الحرج: الاثم. تفض: مجزوم بالطلب مبني للمجهول. المنضج: المحكم الوجد
الدهماء: الفرس السوداء. تعنج: تجذب زمامها لئلا تحيد. الشادن: ولذ الظبية إذا قوي واستغنى عن أمه العوهج: الطويلة العنق. الرائم: التي تحنو على ولدها.
(2) ديوان الفرزدق 406 المعالق: العلب.(1/12)
ويعير جريراً بأن أمه راعية:
لسؤبانَ أغنامٌ رعتهنَّ أُمُهُ ... إلى أن علاها الشيبُ فوقَ الذوائبِ(1)
وكذلك فعل جرير عندما عيّر الأخطل بأمه:
أَيفخرُ عبدٌ أُمُّهُ تَغلِبيَّةٌ ... قَدِ اُخضرَّ من أكلِ الخنابِيصِ نابُها(2)
وهو ما فعله أيضاً عمرو بن لجأ التميمي عندما علق بشباك الهجاء مع جرير فألصق بأمه أبشع الصفات، على عادة شعراء النقائض وسخر من أوصافها الجسدية والأخلاقية ونفى عنها أن تلد الكرام:
يا بنَ المراغةِ إنَّ حَمْلَ نسائكم ... ماءٌ يفصلُ آمياً وعبيدا
علقتْ بهِ أرحامُ يَرْبوعيةٍ ... نكحتْ أزلَّ من الفحولِ عتودا
غذويةٌ رضعاءُ لم تكُ أُمّها ... من قبلِ ذلك للكرامِ وَلودا(3)
وكان عقوق الوالدين سبة كبيرة، وترك الأم وعدم حمايتها عاراً على كل من يقوم به.
وقد استغل الشاعر يزيد بن مفرّغ الحميري في هجائه لعبيد الله بن زياد هذه الفكرة، وأظهر عقوق عبيد الله لأمه التي كانت جارية تدعى مرجانة:
أقَرّ بعيني أنّهُ عَقّ أُمّهُ ... دَعَتْهُ فولاها اسْتَهُ وَهْوَ يَهربُ
وقالَ عليكِ الصبرَ كوني سَبيّةً ... كما كنتِ أو موتى فذلك أقربُ(4)
وقد هتفت هندٌ بماذا أمرتني ... أبنْ لي وَخَبّرْني إلى أين أذهب(5)
ويعرّض الشاعر أيضاً بأم عباد بن زياد ساخراً من صفاتها الجسدية والجمالية:
جاءَتُ بهِ حَبشيّةٌ ... سَكّاءُ تحسبُها نَعامه
من نسوةٍ سودِ الوجو ... هِ ترى عليهنَّ الدّمامه(6)
ويعود لذكر "سميّة" معرضاً بعبيد الله بن زياد وساخراً من نسبه المضطرب يقول:
__________
(1) المصدر السابق 88
(2) ديوان جرير 93.
(3) شعر عمرو بن لجأ التميمي 72 الآمي: ج إماء
... أزل: أرسح خفيف الوركين. عتودا: ما أتى عليه حول من أولاد المعز
... غذوية: سخلة صغيرة أراد بها أم جرير. رضعاء: لئيمة.
(4) ديوان يزيد بن مفرغ 64 أقر بعينك: أي جعلها تتردد وتنقطع عن البكاء، عقّ أمه: أي لم يكن باراً بها.
(5) هند: هي هند الفزارية امرأة عبيد الله.
(6) المصدر السابق:51.(1/13)
عاشَتْ سُميّةُ ما عاشتْ وما عَلِمَتْ ... أنَّ ابنَها من قريشِ في الجماهيرِ(1)
وكانت الأم، إضافة إلى ما سبق، تعبر عما يضطرب في المجتمع من سياسة وأحداث ومواقف، فهي تعبر عن أمومتها وخوفها على أبنائها الصغار، وهي ويا لحرقتها تراهم وهم يقتلون صغاراً فيجن جنونها، وتلتاع روحها فتهتف ممزقة القلب والعقل ببعض الشعر، إنها جويرية أم ابني عبيد الله بن العباس، اللذين قتلهما بسر بن أرطأة، فراحت تدور حول البيوت ناشرة شعرها وهي تقول:
ها منْ أَحسّ من ابنيَّ اللذين هما ... كالدرّتينِ تَشَظَّى عنهما الصَدَفُ
ها من أحسّ من ابنيَ اللذين هما ... سمعي وقلبي فعقلي اليومَ مُخْتَطَفُ
ها من أحسَ من ابنيّ اللذين هما ... مخُّ العظامِ فمخي اليومَ مزدهفُ
نُبَّئْتُ بسراً وما صَدقْتُ ما زعموا ... مِنْ قولِهم وَمِنَ الإفكِ الذي وصفوا
أَنحى على وَدَجي ابنيَّ مُرْهَفَةً ... مشحوذةً وكذاكَ الإثمُ يُقْتَرَفُ(2)
إنه البكاء الذي ابتدأنا به مع مالك بن الريب، إنه البكاء الذي قدر على المرأة الأم وحدها أن تعيشه، وأن تنميه في قلبها منذ أن تلد صغارها إلى أن يهرموا وهي تترقب لحظة الخطر التي يمكن أن تحدق بمملكتها الروحية.
ولست أريد أن أبسط القول هنا في كل ما يتصل بالأم، ولكنني سأرجئ القول في ذلك إلى فصل قادم كيلا أخرج من دائرة الأسرة التي عقدت هذا الفصل لها.
ب-المرأة الزوج:
تعد صورة الحبيبة أو الزوجة الصورة الغالبة على صفة المرأة في هذا الشعر، فقد كانت مفتاحاً للحوار الشعري والمباهاة الشخصية، وملهمة الإبداع الشعري، مما يدل على المكانة الرفيعة التي وصلت إليها المرأة في هذا العصر، بعد أن تبوأت مكانة عالية في عصر صدر الإسلام، الذي يعد بحق منصف المرأة العربية.
__________
(1) المصدر السابق: 29.
(2) مروج الذهب 3/22(1/14)
"فقد رفع الإسلام مكانة المرأة وأعلى من منزلتها، وحررها من القيود والعادات التي كانت شائعة في الجاهلية، ورد لها حقها المسلوب في الحياة، وقرر لها حقوقهاً لم تكن تعرفها من قبل فجعل لها حقاً مشروعاً في الميراث وحقق لها الاستقلال الاقتصادي.
وجعل للزواج أحكاماً ووضع للطلاق وتعدد الزوجات قيوداً وقرر للزوجين من الحقوق والواجبات المتبادلة ما به تحسن المعاشرة وتقوى الرابطة(1)"
وما إن استقر العصر الأموي حتى شرعت المرأة تفيد من حقوقها وامتيازاتها التي كفل لها الدين، فمضت تشارك في مختلف مجالات الحياة ولاسيما تلك المجالات التي تمسّ شؤونها الذاتية والخاصة. فقد كانت تستشار في أمر زواجها، ويؤخذ برأيها فيه، ونراها تعترض على الزواج غير المناسب فترفضه، أو تشترط له شروطاً كأن تكون العصمة في يدها، فلا يحملها ولي أمرها على غير ما تحب، بل يرى رأيها. وقد سجل الشعراء أطرافاً من ذلك، فصوروا رفضها وما جرّه هذا الرفض عليهم من الهم والسهاد وانكسار القلب.
فها هوذا محمد بن بشير الخارجي وقد قدم البصرة في طلب ميراث له، فخطب عائشة بنت يحيى بن يعمر الخارجية من عدوان فأبت أن تتزوجه إلا أن يقيم معها بالبصرة ويترك الحجاز، ويكون أمرها في الفرقة إليها، فيأبى أن يفعل ذلك ويقول:
أرقَ الحزينُ وعادَهُ سُهُدُهْ ... لطوارقِ الهمِّ التي تَرِدُهْ
وَذَكَرْتُ مَنْ لانَتْ له كبدي ... فأبى فليسَ تَلينُ لي كَبِدُهْ
وأبى فليس بنازلٍ بَلدي ... أبداً وليس بمصلحي بَلدُهْ
فَصَدَعْتُ حين أبى -مودَّته ... صَدْعَ الزجاجةِ دائمٌ أَبَدُهْ(2)
__________
(1) مجلة عالم الفكر -مكانة المرأة في التشريع الإسلامي د. عبد الباسط محسن ص39 م7/ العدد الأول/ 1976 إبريل -مايو- يونيو.
(2) ديوان محمد بن بشير، 52.(1/15)
وكان محمد بن بشير قد صحب رفقة من قضاعة إلى مكة، وكانت فيهم امرأة جميلة يسايرها ويحادثها، فخطبها إلى نفسها فقالت: لا سبيل إلى ذلك لأنك لست لي بعشير ولا أنا ممن تطمعه رغبة عن بلده، فلم يزل يحادثها حتى انقضى الحج، وفرق بينهما نزوع كل منهما إلى وطنه، وتعلقه به. فقال يذكر ما كان من أمره معها:
أستغفرُ اللهَ ربي من مُخَدَّرةٍ ... يوماً بدا ليَ منها الكشحُ والكَتَدُ
من رفقة صاحبونا في ندائهمُ ... كُلٌّ حرامٌ فما ذُمُّوا ولا حُمِدُوا
إلى أن يقول:
أَقْبَلْتُ أسأَلُها ما بالُ رفقتِها ... وما أُبالي أغابَ القومُ أم شهدوا
فقرَّبتْ ليَ واحلولَتْ مقالتُها ... وخوَّفتْني وقالَتْ: بعضَ ما تجدُ
أنّى ينالُ حجازيٌّ بحاجتهِ ... إحدى بني القين أدنى دارِها بَرِدُ(1)
بل إن بعضهن ربما اعترضت على الزواج بعد تمامه وبدا لها فيه رأي آخر، على نحو ما كان من أمر هند بنت النعمان بن بشير الأنصارية، فقد ذكر صاحب "المستطرف" خبرها فقال: "عندما وصف للحجاج حسنها أنفذ إليها يخطبها، وبذل مالاً جزيلاً، وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم، ودخل بها ثم إنها انحدرت معه إلى بلدة أبيها المعرة. وكانت هند فصيحة فأقام بها مدة طويلة ثُم رحل إلى العراق، فأقامت معه زمناً، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وتقول:
وما هندُ إلا مهرُة عربيةٌ ... سليلةُ أَفراسٍ تَحَلَّلها بَغلُ
فإن ولدَتْ فحلاً فلّلهِ دَرُّها ... وإن ولدَتْ بغلاً فجاءَ بهِ البغلُ
فانصرف راجعاً ولم تكن علمت به، فأراد طلاقها فأنفذ إليها مائتي ألف درهم وهي التي كانت لها معه مع عبد الله بن طاهر، وقال يا بن طاهر طلقها بكلمتين ولا تزد عليهما، فدخل عليها وقال لها: يقول لك الحجاج كنتِ فبنتِ، فقالت: إعلم يا بن طاهر، إنا والله كنا فما حمدنا وبنّا فما ندمنا وهذه الأموال لك بشارة بخلاصي من كلب بني ثقيف"(2)
__________
(1) المصدر السابق 63.
(2) المستطرف في كل فن مستظرف101(1/16)
وكان التكافؤ بين الزوجين شرطاً من أهم شروط الزواج منذ العصر الجاهلي، وقد توارث العرب هذا الشرط حتى غدا تقليداً عربياً راسخاً لا في العصر الجاهلي وحده، بل في العصور التاريخية اللاحقة، فقد كانت مكانة الأسرة الاجتماعية لكلا الزوجين وحسبها ونسبها وجاهها وحالتها الاقتصادية، وسمعتها وما عرف عنها من الشمائل والأخلاق أموراً مهمة تنبغي مراعاتها وتقديرها تقديراً عالياً، بل إن قضية التكافؤ تجاوزت الأسر الصغيرة إلى القبائل الكبرى، وما أكثر ما رغب الراغبون في الشرف بالإصهار إلى أسر عريقة أو قبائل عريقة، فحال بينهم وبين ما أرادوا عدم التكافؤ بينهم وبين من رغبوا في الإصهار إليهم.
وقد عبّر "الفرزدق" عن هذا المبدأ أو التقليد تعبيراً صريحاً لا غموض فيه ولا التواء، قال:
بنو دارمٍ أكفاؤهم آلُ مسمعٍ ... وتنْكِحُ في أكفائِها الحُبَطَاتُ(1)
وحكايات عقيل بن علفة مشهورة في رفض الأزواج ترفعاً لأنه كان في بيت شرف من قومه في كلا طرفيه، وكانت قريش ترغب في مصاهرته، فتزوج إليه خلفاؤها وأشرافها، منهم يزيد بن عبد الملك تزوج ابنته الجرباء، وكانت قبله عند ابن عم لعقيل يقال له: مطيع بن قطعة بن الحرث بن معاوية وولدت ليزيد وتزوج عمرة بنته سلمة بن عبد الله بن المغيرة، وتزوج أم عمرو بنته ثلاثة نفر من بني الحكم بن أبي العاص(2).
__________
(1) ديوان الفرزدق 126
(2) الأغاني 11/86.(1/17)
وحين تزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كثر المعترضون على أبيها فاحتج بأنه أجبر على ذلك وذلك عندما أراد الحجاج الزواج "من ابنة عبد الله بن جعفر وأمهرها تسعين ألف دينار، بلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، فأمهل عبد الملك إلى أن أطبق الليل وجاء إليه وقال له: هل علمت أن أحداً كان بينه وبين حي عداوة ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام، فإنني تزوجت إليهم، فما في الأرض قبيلة من قريش أحب إليّ منهم، فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم، وقد علمت ما يقال فيهم آخر الزمان، فكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها ولا يراجعه في ذلك، فطلقها"(1)
ويخفي الاعتراض بل يظهر تخوف عبد الملك من ميل الحجاج إلى الأسرة الهاشمية وتعصبه لهم، مما قد يشكل خطراً على عبد الملك.
ونسمع الفرزدق يقول، وقد تزوج "حدراء" من آل ذي الجدين من بكر بن وائل، مخاطباً جريراً:
فلو كنت من أكفاء حدراء لم تلم ... على دارمي بين ليلى وغالب(2)
إنه يذكره بقضية التكافؤ التي يجب أن تبقى ماثلة في ذهن كل من يريد الزواج لئلا يلقى غير ما يحب، إن لم يكن كفؤاً لمن أصهر إليهم.
وكثيراً ما فخر الفرزدق بغلاء مهور نسائه ونساء قومه مما يدل على مكانتهن العالية، وأسرهن الشريفة، ويدل أيضاً على أنه الزوج الكفء لهذه الأسرة الشريفة، القادر على دفع مهور نسائها ويقول في ذلك مقارناً مع نساء قوم جرير:
فقالوا سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مئة شُمِّ الذّرى والغوارب
وفينا من المِعزى تِلادٌ كأنّها ... ظفاريةُ الجزع الذي في الترائب
بهنّ نكحنا غالياتِ نسائِنا ... وكلُّ دمٍ منا عليهنَّ واجبُ(3)
__________
(1) العقد الفريد 6/122
(2) ديوان الفرزدق: 112
(3) المصدر السابق: ص89 شم: مرتفعات الأسنام. الغوارب: واحدتها غارب: الكاحل، التلاد: المال الموروث، الظفارية المنسوبة إلى ظفار، الجزع: الخرز أبيض وفيه سواد. تريبة البعير: منحره.(1/18)
فهو يهجو قوم جرير ويعيرهم بمهور نسائهم التي تدفع من الماعز، وبديات من يقتلونهم، في حين كان مهر زوجته من الإبل الغالية.
وخطب رجل من بني تميم يقال له لقيط إلى شفاء بن نصر المنافي، من بني مناف من دارم ابنته فلم يزوّجه، وكان يريد زوجاً من الأكفاء لها. ثم تواترت عليه سنون فزوّج ابنته لرجل من نهشل، فقال الفرزدق:
أأنكحتَ ليلى نهشليّاً لمالِهِ ... هُبِلْتَ، وكانت في قريش مناكِحُ(1)
ونجد عند جرير كذلك فخراً بغلاء مهور نساء من يمدحهم من بني جعفر، وذلك عندما قال:
ميامينُ خطّارونَ يَحْمُوْنَ نسوةً ... مناجيبَ تغلو في قريشِ مُهورُها(2)
وكما افتخرت القبائل والأسر بعراقتها ومكانتها الاجتماعية، واشترطت التكافؤ على من يرغب في الإصهار إليها، افتخر الشعراء بزوجاتهم اللواتي تخيرّوهن من خير الأسر، فعندما تزوج العرجي أم عثمان بنت بكر بن عمرو ابن عثمان وأمها سكينة بنت مصعب بن الزبير لم ينس أن يشير إلى سلالتها العريقة النبيلة الضاربة في جذور المجد والفخار:
إنها بنتُ كلِّ أبيضَ قَرْمٍ ... ملكٍ نالَ من قُصيٍّ ذُراها
وبنى المجدَ صاعداً فَعَلَتْهُ ... عبد شمسٍ وهاشمٌ أبوها
فهيَ لا تُدركُ النساءَ بسعي ... أبداً حينَ يفخرون مداها
أُمُّها البدرُ: أمُّ أَروى فنالتْ ... كلَّ ما يُعْجزُ الأكفَّ يداها
وبحسبِ الفتاةِ قرباً من المجـ ... دِ قُصُّيٌ إنْ تَعدِلوا مولاها
__________
(1) أمالي ابن دريد الأزدي: 105
(2) ملحق بقصائد ديوان جرير: 880(1/19)
منهمُ الطيّبُ النبيُّ بهِ اللّـ ... هُ إلى بابِ كلِّ خيرٍ هَداها(1)
ونسمع جلبة الفرزدق وهو يفخر بزوجته، نكاية بالنوار زوجته الأخرى، التي سخرت منها، ويقول لها:
أراها نجومَ الليلِ والشمسُ حيَّةٌ ... زحامُ بنات الحارثِ بنِ عُبادِ
نساء أبوهُنَّ الأغرُّ ولم تكن ... من الحُتِّ في أجبالِها وهدادِ
ولم يكنِ الجوفُ الغموضُ محلَّها ... ولا في الهجاريِّينَ رهطِ زيادِ
عَدَلْتُ بها مَيْلَ النوارِ فأصبحتْ ... وقد رضيتْ بالنصفِ بعدَ بعادِ(2)
ويكرر معاني العزة والشرف والأسرة يزيد بن معاوية:
إنّها من بني عامرِ بن لؤي ... حينَ تُنمى وبين عبدِ منافِ
بنت عمِّ النبيِّ أكرم مَنْ ... يمشي بنعلٍ على الترابِ وحافي(3)
ولا يفوت أبا دهبل الجمحي أن يذكر حسب زوجته ونسبها الرفيع حتى في حال الفراق والخصام:
وأشفقَ قلبي من فراقِ حليلةٍ ... لها نسبٌ من فرعِ فهرِ مُتَوَّجِ(4)
وكانت قضية المهر الذي يشترطه الأهل من أجل أن يتم الزواج، قضية من أهم قضايا الزواج أيضاً، وكان ارتفاع المهور في المجتمع الأموي مبعثاً للتباهي والفخر، فكأنه رمز لشرف الأسرة والقبيلة، وتعبير عن رغبة الناس في الإصهار إليها، ولذا كانت القبائل العربية والأسرة عامة، والنساء خاصة، تفخر به فخراً مدوّياً.
__________
(1) ديوان العرجي: 51 القرم من الرجال: السيد المعظم. قصي: ابن كلاب بن مرة وهو الذي جمع قريش ووحدها. علته: سمت إليه في الرفعة والشرف، وعبد شمس وهاشم أخوان أبوهما عبد مناف بن قصي جعل الضمير في يفخرون مذكراً في موضع التأنيث لملاحظة أن شرف النساء مما يتعلق بفخر الرجال إذ النقص في شرفهن يحط من قدر رجالهن. أم أروى: اسمها البيضاء، وهي بنت عبد المطلب شقيقة عبد الله والد الرسول الكريم.
(2) ديوان الفرزدق: ص124 الحت وهداد من الأزد. الجوف: المطمئن من الأرض. ودرب الجوف بالبصرة.
(3) شعر يزيد بن معاوية 27.
(4) ديوان أبي دهبل 56.(1/20)
ولم يحدد القرآن الكريم المهر بحد، وعدّه الأجر، وكان صداق رسول الله ص، "اثنتي عشرة أوقية ونشأ، والأوقية أربعون والنش عشرون”(1) وكانت عبارة "ساق إلى المرأة صداقها" ترجع إلى وقت كان العرب يدفعون الصداق من الإبل، واحتفظ العرب في العصر الأموي بهذه العادة، فيذكر أن الفرزدق مهر النوار مئة ناقة حمراء، أو مصعب بن الزبير عندما دفع لسكينة بنت الحسين خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثلها(2) ودفع عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة مليون درهم نصفها صداقها والنصف الآخر هدية لها(3).
ويعد ارتفاع المهر مشكلة خطيرة مع ما نقرؤه عن الترف والبذخ وحالة اليسر في عدد من بيئات المجتمع الأموي كبيئة مدن الحجاز مثلاً.
ولست أغالي إذا ظننت أن هذه المشكلة دليل على التفاوت الطبقي بين أبناء هذا المجتمع، فلم يكن بوسع الكثيرين من أبنائه تقديم المهور المرتفعة كما فعل الحجاج عندما بعث إلى عروسه هند بنت أسماء بمئة ألف درهم وثياب كثيرة(4)، وأمهر ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار(5)، كما يضرب المثل في بنات الحارث بن هشام، في الحسن والشرف وغلاء المهور، و"أبوهن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وكانت بنو مخزوم تسمى ريحانة قريش لحظوة نسائها عند الرجال، وكانت الجارية تولد لأحد آل الحارث بن هشام فتتباشر النساء بها ويُرين أهلها أنهم أغنياء لرغبة الخطاب فيها"(6).
__________
(1) الطبقات الكبرى م8/161.
(2) الحضارة العربية الإسلامية 121.
(3) المرجع السابق 121
(4) المرجع السابق 121.
(5) العقد الفريد 6/122
(6) ثمار القلوب 298.(1/21)
ولم يكن التذمر والشكوى من المهور المرتفعة مقصورين على الأسر الرقيقة الحال، بل ظهر بين أبناء الطبقة الوسطى، وكانت هذه المهور المرتفعة التي تمهرها الأسر المتنفذة ورجال السياسة مَدْعاةً لاستنكار الرعيّة، ومعاتبة السلطة عتاباً يكاد يبلغ حدّ السخط فقط روى صاحب الأغاني أن عبد الله بن الزبير عاتب أخاه وقائده الحربي اللامع مصعب بن الزبير في مهر سكينة بنت الحسين.
ولم يكن عتابه له بسبب ما نسب إليه من البخل بل كان بسبب أبيات بعثها له أحد قواد جنده وهو أنس بن زنيم في أماكن الفتوح يعترض فيها على بذخ المال وهدره من أجل المتعة الشخصية، على حين كان قادات الجيوش وجنودهم في حالة جوع وقلق، قال:
أَبلْغ أَميرَ المؤمنينَ رسالةً ... من ناصحِ لكَ لا يُريكَ خِداعا
بضعُ الفتاةِ بألفِ ألفٍ كاملٍ ... وَتَبيتُ قاداتُ الجيوش جِياعا(1)
ويعلن كثير عزة شاكياً حزيناً أنه لا قبل له بهذا الذي يطلبه أهل محبوبته، فهم يغالون في مهرها، وهو لا يستطيع أن يلبي طلبهم لارتفاع المهر وسوء حاله، وهكذا يحول هذا الطلب بين العاشقين، وتتحول حكاية الغرام إلى قصيدة يائسة يندب الشاعر فيها حظه ويأسف على نفسه، ويبيّن أن أهل من يحب يطلبون في مهرها من المال مالا يمكن تحقيقه يقول في ذلك:
ولمّا رأَتْ وجدي بها وتبينتْ ... صبابةَ حرّانِ الصبابةِ صادِ
أَدَلَّتْ بصبرٍ عندها وجلادةٍ ... وتحسبُ أنَّ الناسَ غيرُ جلادِ
فيا عزُّ صادي القلبَ حتى يودّني ... فؤادُكِ أو رُدّي عليَّ فؤادي
وإنَّ الذي ينوي من المالِ أهلُها ... أواركُ لمّا تأتلفْ وعوادي(2)
__________
(1) الأغاني 3/122
(2) ديوان كثير 443
المصاداة كالمداراة أي المصانعة والمداجاة
أركت الناقة: فهي أركة أي أكلت الأراك. والعدوة: الخلفة من النبات، إبل عدوية وإبل عواد أي ليست ترعى الحمض فلا يمكن أن تجتمع هذه وتلك.(1/22)
ولما زوج الوليد بن عبد الملك ابنه عبد العزيز بأم حكيم بنت يحيى بن الحكم -وكان يقال لأمها وهي بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "الواصلة" لأنها وصلت الشرف بالجمال- أمهرها أربعين ألف دينار وقال لجرير وعدي بن الرقاع، أغدوا علي وقولا في عبد العزيز وأم حكيم، فغدوا عليه وأنشده جرير قصيدة منها:
ضَمَّ الإلهُ إليهِ أكرمَ حُرَةٍ ... في كلّ حالاتٍ منَ الأحوالِ
ثم قام عدي بن الرقاع فأنشد:
قمرُ السماءِ وشمسُها اجتمعا ... بالسعدِ ما غابا وما طلعا
ما وارتِ الأستارُ مثلَهما ... فيمَنْ رأى منهمْ وَمَنْ سمعا
دامَ السرورُ لَهُ بها ولها ... وتَهَنَّآ طولَ الحياةِ معا
فقال له الوليد: لئن أقللت فلقد أحسنت، وأمر له بضعف ما أمر لجرير، وكان أول من شبه الزوجين بالشمس والقمر(1). وكان عبيد الله بن قيس الرقيات يذكر الحسب والنسب في قصائده التي ذكر فيها زوجتي مصعب، وكأنه إشادة اجتماعية بمصعب وزجته إذ لا يليق بمصعب إلا أن يقترن بزوجات شريفات، من أرفع البيوت وأشهرها بالتقى والأخلاق الكريمة، جاء ذلك في قصيدته الرائعة التي يقول فيها:
ظعنَ الأميرُ بأحسنِ الخلقِ ... وغدا بلبِّك مَطْلع الشرقِ
وَبَدَتْ لنا من تحتِ كِلّتِها ... كالشمسِ أو كغمامةِ البرقِ
في البيتِ ذي الحسبِ الرفيع ومِنْ ... أهلِ التقى والبرِّ والصدقِ
قرشيةٌ عَبَقَ العبيرُ بها ... عَبقَ العبيرُ بعاجةِ الحُقِ(2)
أما مهر قطام فقصته قصة تحكى، فقد طلبت قتل الإمام علي كرم الله وجهه من ابن ملجم كشرط للزواج وجعلت ذلك مهراً لها فقال في ذلك ابن أبي مياس المرادي:
ولم أرَ مَهْراً ساقَهُ ذو سماحةٍ ... كمهر قَطام من فصيح وأعجمِ
ثلاثةُ آلافٍ وعبدُ وقينة ... وضربُ عليّ بالحسامِ المصمّمِ
فلا مهرَ أغلى من عليِّ وإنْ غلا ... ولا قتلَ إلا دونَ قتلِ ابنِ ملجم(3)
__________
(1) ثمار القلوب 33
(2) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات، 31 : يريد بعاجة الحق حقَّ العاج أو الوعاء.
(3) تاريخ الطبري 5/150(1/23)
لقد انعكست في هذا الشعر السياسة والحزبية والعصبية بوعي اجتماعي وسياسي شديد الحساسية والرهافة.
أما ابن ميادة فيشير إلى دور المال والثراء في رفعة الإنسان، ويظهر رغبة الآخرين في التقرب إليه والإصهار حتى ولو كان لا يستحق الشرف وليس له نسب.
يقول:
أَلمْ تَرَ قوماً ينكحونَ بمالِهم ... ولو خَطبَتْ أَنسابُهُمْ لم تُزَوَّجِ(1)
ومما يتصل بالثراء والنعيم، ويدلّ على وضع اجتماعي مرموق أن يقوم الناس على خدمة المرأة وما أكثر ما تداول الشعراء هذه المعاني وداروا حولها، وسأفصل القول في ذلك في فصل قادم.
ولم يكتف الشعراء بالحديث عن أسرة المرأة الزوج والإطناب في ذكر أوصافها، والتغني بمناقبها وحسبها ونسبها، بل استداروا إلى بيوتهم يقترب كل منهم من هذه المرأة التي بذل الكثير لتصبح في قربه وفي بيته بعد أن احتضن حلمه بها في قلبه زمناً فلنرهف السمع إلى هؤلاء الشعراء وهم يحدثوننا عن هذه الزوج في عش الزواج أو قفصه.
ونجد الفرزدق- على ما عرف عنه من غلظة وخشونة- يتغنى بأزواجه غناء عاطفياً عامراً بمشاعر العشق والغرام، ولعل "النوار" التي وسمت قلبه ووجدانه بميسم الحب، وتسربت إلى كل قصائده وموضوعاته، كانت أكثر نسائه حظاً من هذا الغناء، فهو يتأملها، ويملأ عينيه منها، فيغلبه إحساسه بالجمال، فيقول مصوّراً جمالها وبهاءها، ويقرن -على عادة الشعراء- بين جمال الأنثى ومظاهر الجمال المبثوثة في الكون لعلهُ يجلو هذا الجمال ويزيده انكشافاً، ويقوي إحساسنا به يقول:
دعتني إليها الشمسُ تحت خمارِها ... وجَعْدٌ تَثنّى في الكثيبِ غدائرُهُ
كأنَّ نواراً ترتعي رملَ عالجٍ ... إلى ربربٍ تحنو إليه جآذِرُه(2)
__________
(1) شعر ابن ميادة: 31
(2) ديوان الفرزدق: 279(1/24)
وهو حين يتحدث عن زوجه حدراء يدلّ على السامع بنعيمها وترفها، وبعض عاداتها اليومية المحبّبة، فكأننا أمام حبيبة امرئ القيس "نؤوم الضحى" وقد زادها الزمن تحضراً وغنى، ولا ينسى أن ينعت بعض محاسنها الجسدية، ويخلع عليها بُرد الحياء الجميل يقول:
إذا انتبهتْ حدراءُ من نَومةِ الضحى ... دَعَت وعليها دِرعُ خَزٍ ومِطْرَفُ
بأخضرَ من نعمانَ ثم جَلَتْ بهِ ... عذابَ الثنايا طيّباً حينَ يُرْشَفُ
يُتشَّبْهنَ من فَرط الحياءِ كأنها ... مراضُ سُلالٍ أو هوالكُ نزَّفُ(1)
وزوج هدبة بن الخشرم مضرب المثل في الوفاء والمحبة، وكانت من أجمل أهل زمانها شكلاً وقواماً، فقد جدعت أنفها وقطعت شفتيها يوم قتل، لئلا تحدثها نفسها بالزواج بعده وكان هدبة يحبها ويتشوق إليها وهو في سجنه(2) ومما يقول فيها:
أبى القلبُ إلا أمَّ عمروٍ وما أرى ... نواها وإن طالَ التذكرُ تُسْعِفُ
من البِيضِ لا يُسلي الهمومَ طلابُها ... فهل للصّبا إذا جاوزَ الهمَّ موقفُ(3)
وحديثه عنها مرتبط دائماً بالتذكر وإظهار المحبة وتأكيد الغرام:
ألا ليتَ شعري هل إلى أمّ معمر ... على ما لقينا من تناءِ ومن هَجْر
تباريحُ يلقاها الفؤادُ صَبابةً ... إليها وذكراها على حين لا ذِكْرِ
فيا قلبُ لم يألفْ كإلفكَ آلفٌ ... ويا حبَّها لم يُغْرِ شيءٌ كما يُغري(4)
ويؤكد المتوكل الليثي أيضاً حبه لزوجه ويعلن لها عن مكانتها السامية في نفسه وقلبه في قوله:
إذا ذُكِرتْ لقلبِكَ أمُّ بكرٍ ... يَبيتُ كأنما اغتبقَ المداما
خدلجةُ تَرفُّ غروبُ فيها ... وتكسو المتنَ ذا خُصَلٍ سُخاما
أبى قلبي فما يهوى سواها ... وإن كانت مودُّتُها غراما(5)
__________
(1) المصدر السابق: 383
(2) مقدمة الديوان: 6
(3) ديوان هدبة: 111
(4) المصدر السابق: 95
(5) شعر المتوكل الليثي:112.(1/25)
وكان الخارجي (محمد بن بشير) معجباً بزوجه سعدى، وكانت من أسوأ الناس خلقاً وأشده على عشير، وكان يلقى منها عنتاً، فغاضبها يوماً لقولٍ آذته به واعتزلها، وانتقل إلى زوجته الأخرى، ثم اشتاق إلى سعدى وتذكرها وبدا له الرجوع إليها وقال:
أراني إذا غالبتُ بالصبرِ حبَّها ... أبى الصبرُ ما ألقى بسعدى فأُغْلَبُ
وقد علمتْ عند التعاتبِ أننا ... إذا ظَلَمَتنْا أو ظلَمْنا سُنْعتِبُ
وأني وإنْ لم أَجنِ ذنباً سأبتغي ... رضاها وأعفو ذنَبها حين تْذنبُ
وإني إذا أذنبتُ فيها يزيدُني ... بها عجباً مَنْ كانَ فيها يؤنِّب(1)
ولعل قارئ هذا الشعر وأشباهه يجد له مذاقاً خاصاً، وحقاً قد يكون هذا المذاق لاذعاً غير مستساغ، ولكنه يبعث فينا الإحساس بصدقه، فنوشك أن نشرك هذين الزوجين في حياتهما اليومية بصفائها وكدرها وجفائها الذي تغالبه المودة والتراحم.
وقد تذكر الشعراء زوجاتهم في حالات البعد والسفر، ويقترن هذا التذكر غالباً بطيف الزوجة الذي يزور الشاعر على بعد المزار، فيثير أشواقه، ويكون محرضاً له للحديث عن الحب. ولعل حديث الفرزدق عن طيف زوجه "النوار" من أطيب الحديث وأجمل الغناء. إنه ينثر الحزن والشوق والحنين الذي في نفسه، فتسيل عواطفه في كلمات رقيقة تبين حالته، ويضاعف إحساسنا بجمال هذا الشاعر تلك العناصر البدوية التي ينثرها في أرجائه، يقول:
طرقتْ نوارُ ودونَ مطرقها ... جذبُ البُرى لنواحلٍ صُعْرِ
أدنى محلّتِها لطالبها ... خِمسُ المؤوِّبِ للقطا الكُدْرِ
وإذا أَنامُ أَلمَّ طائفُها ... حتى يُنَبِّهَ أعينَ السّفْر(2)
وفي قصيدة أخرى يكرر الصورة وينثر في أرجائها عناصر بدوية أخرى، ويضيف إلى طيف " نوار" طيب النشر، فإذا هو طيف معطر يضوع شذى:
طرقَتْ نوارُ معرّسي دويّةٍ ... نزلاً بحيثُ تَقيلُ عُفْرُ الأبَّدِ
__________
(1) شعر محمد بن بشير الخارجي: ق6
(2) ديوان الفرزدق: 220 الصعر: ميل في الخد من جذب الزمام.(1/26)
وكأنما نزلت بنا عطّارةٌ ... برياضِ مُلْتفٍ حدائقُهُ ندي(1)
وأفاض الشعراء أيضاً في الحديث عن حياتهم الزوجية وما تحفل به من حوار وخلاف يومي بينهم وبين أزواجهم حول الأبناء وتحصيل الرزق، وصوروا معظم زوجاتهم لوامات عاذلات يكثرن من التنبيه على أمور المعيشة اليومية والحث على الاقتصاد في الإنفاق وبذل المال.
فهذه أم حزرة زوجة جرير تعاتبه في تحصيل الرزق وتلهّي أولادها الجياع ببعض الماء الذي لا يزيد جوعهم إلا استعاراً، وتقرعه من أجل التصرف وتدبير أمور الأولاد، فيفكر بالخليفة الذي هو مصدر رزقه الوحيد، بعد أن يؤكد ثقته بالله وبالخليفة، جاء ذلك في مدحه لعبد الملك بن مروان:
تعزَّتْ أمُّ حزرةَ ثم قالَتْ ... رأيتُ الموردينَ ذوي لِقاحِ
تُعَلّلُ وَهْيَ ساغِبةٌ بينها ... بأنفاسٍ من الشَّبمِ القَراحِ
سأَمتاحُ البحورَ فجنّبيني ... أَذاةَ اللومِ وانتظري امتياحي
ثقي باللّه ليسَ له شَريكٌ ... ومِنْ عندِ الخليفةِ بالنجاح(2)
ونراهما أيضاً يخططان معاً للتغلب على الأيام والتفكير في المستقبل،
يقول:
تعرّضَتِ الهمومُ لنا فقالَتْ ... جعادةُ أيَّ مرتحلٍ تريدُ(3)
ونجد هذه الصيغة عند معظم شعراء المدح، فهم يكثرون في مقدماتهم من إشراك المرأة الزوج في التساؤل عن مصدر الرزق ومغالبة الدهر القاسي، فلا يجد الشاعر من ملجأ سوى الخليفة، ويكون بذلك قد أسكت الزوجة عن المطالبة واللوم والعذل، لأنها تعلم أن عطاء الخليفة هو العطاء الذي يطمئن المرء إليه ويجعله رضي البال، ففي شعر لعلباء بن منظور الليثي تظهر فيه الزوجة لوامة في الرزق والتحصيل.
يقول:
قالَتْ عليّةُ واعتزمتُ لرحلةٍ ... زوراءَ بالأذنين ذاتِ تَسدّرِ
__________
(1) المصدر السابق: 127
(2) ديوان جرير: 88 الموردون: أصحاب الإبل يوردونها الماء
الساغبة: الجائعة. النفس من الماء: ما كان مروياً كافياً. الشبم: البارد
الميح: العطاء
(3) ديوان جرير: 288(1/27)
أينَ الرحيلُ وأهلُ بيتِكَ كلُّهمْ ... كَلّ عليكَ كبيرُهُمْ كالأصغر
فأصاغرٌ أمثالُ سلكانِ القطا ... لا في ثرى مالٍ ولا في معشرِ(1)
وابن هرمة يقول في مدح إبراهيم بن عبد الله بن مطيع في العصر الأموي:
أَرّقتني تلومُني أمُّ بكرٍ ... بعد هَدْءٍ واللومُ قد يؤذيني
حَذَّرتني الزمانَ ثُمَّتَ قالَتُ ... ليسَ هذا الزمانُ بالمأمونِ
قلتُ لمّا هَبَّتْ تحذّرْني الدهرَ ... دعي اللومَ عنكِ واستبقيني(2)
وكان العجير السلولي امرأ جواداً، فلما أسرع في ماله فأتلفه، ثم أثقله الدين، مد يده إلى مال زوجته فمنعته وعاتبته، فقال لها:
تقولُ وقد غالبتُها أمُّ خالدٍ ... على مالِها أغرِقتَ دَيناً فأقْصِر(3)
ويدعو الأخطل زوجيه للكف عن لومه على البذل والعطاء ويستعرض لهما مكارمه، فتبدو حكمته التي تعلمها من الزمن والأحداث:
أعاذلتيَّ اليومَ ويحكما مهلا ... وكُفّا الأذى عني ولا تُكْثِرا عَذْلا
ذَراني تَجُدْ كَفيَ بمالي فإنني ... سأُصبحُ لا أَسْطِيعُ جُوداً ولا بُخْلا(4)
وكذلك يفعل حارثة بن بدر الغداني الذي يزجر زوجته بحكمة وتعقل عن اللوم على البذل والتبذير:
وقائلةٍ يا حار هل أنت ممسكٌ ... عليك من التبذيرِ قلتُ لها اقصدي
ولا تأمريني بالسدادِ فإنّني ... رأيتُ الكثيرَ المالِ غيرَ مخلَّدِ(5)
ونسمع هدبة بن الخشرم الذي ارتبط حديثه عن زوجته بمباهاته والفخر بشجاعته وصبره على المكاره، يطالبها بالكف عن لومه على ما فرّط من أمر نفسه فلا الدهر بمُعتب من يجزع أو يسخط، ولا اللوم بمرجع ما مضى، يقول:
أقلي عليّ اللومَ يا أمَّ بوزعا ... ولا تجزعي مما أصابَ فأوجعا
فلا تعذليني لا أرى الدهَر مُعْتِباً ... إذا ما مضى يومٌ ولا اللومَ مُرْجعا(6)
__________
(1) تاريخ الطبري: 7/206
(2) فنان البديع: 70، ابن هرمة (90-176).
(3) شعر العجير السلولي: 222
(4) ديوان الأخطل: 427
(5) شعراء أمويون: 341
(6) شعر هدبة: 95(1/28)
ويطالب النعمان بن بشير الأنصاري زوجه بالكف عن التدخل في أموره والانصراف إلى أمور نفسها وبيتها، وإلا فإنها ستشقى كثيراً:
إنى لعمرُ أبيكِ يا بنةَ هانئٍ ... لو تصحبينَ ركائبي لشقيتِ
وتُسَرُّ أُمُّكِ أننا لم نصطحب ... فدعي التبسط للقاء نُسيْتِ
واقني حياءَكِ واقعدي مكفيَّة ... إن كنتِ للرشَّدِ المُصبِّ هُدِيتِ(1)
ولعل ذلك اللوم وإجماع النساء عليه برأي الدكتور أحمد الحوفي يعود إلى "أنهن أحفل بالثروة وتنميتها، ولأنهن لا يحفلن بأحاديث الكرم، وهن أحسن تدبيراً للمال من الرجال وهن من يباشر أعمال البيوت وحاجاتها، فهن أميل إلى الجانب العملي، فلا يحفلن بثناء ينتقص المال ويسبب الخصاصة، بينما قد يغفل الرجل عن غده وهو في نشوة الثناء وأريحية العطاء"(2).
على أننا نرى في كلام الدكتور الحوفي تعميماً مرسلاً من كل قيد، إذ المشهور عن أكثر النساء البذخ والصرف والإكثار بسبب وبغير سبب، والرجل هو المدبر لمعظم المشروعات المالية، لأنه فطر على هذا، فقد خلق للعمل خارج المنزل لتدبير المال، تاركاً المرأة وراءه لترعى شؤون الأطفال وتدبير أمور معيشتهم داخل البيت ومن هنا كان التفاوت بينهما.
__________
(1) شعر النعمان بن بشير: 138 التبسط: ترك الاحتشام. اصطحب القوم: صحب بعضهم بعضاً. قني قنيت الجارية منعت من اللعب وسترت في البيت.
(2) المرأة في الشعر الجاهلي 364(1/29)
وينبغي أن أنصّ هنا على أن هذه الصور التي يرسمها الشعراء لزوجاتهم، ليست بغريبة على الشعر العربي، فقد سبقهم أسلافهم الجاهليون، وردّدوا القول في موقف المرأة من المال والكرم على ما هو شائع معروف في مقدمة "العذل أو الفروسية" وتتردد في شعر الخوارج الصورة الثانية للمرأة في هذه المقدمة، فنرى المرأة تعذل زوجها وتلومه وتعنّفه خوفاً عليه وإشفاقاً، فهو يلقي بنفسه إلى الموت دون أن يحسب للعواقب حساباً. فتحاول زوج أحد الشراة" أن تقعد به عن الخروج والقتال فيصمّ أذنيه عن سماع رأيها، ويدعوها إلى الإقصار عما هي فيه، ويعلن إصراره على الخروج دفاعاً عن المبدأ والعقيدة:
تعاتُبني عِرسي على أنْ أُطيعَها ... وقبَل سُليمى ما عصيتُ الغوانيا
فكُفَّي سليمى واتركي اللومَ إننّي ... أرى فتنةً صمّاءَ تُبْدي المخازيا
فكيفَ قعودي والشراةُ كما أرى ... عِزينَ يلاقون البلايا الدواهيا(1)
ويصور لنا عمرو بن الحصين العنبري روح المودّة والتراحم والوئام بينه وبين زوجه، فقد، أرّقها ما رأت من سوء حال زوجها وحزنه ودموعه، فهبت قبيل تبلّج الفجر تكفكف دموعه، وتسأل عما اعتراه، وتدعوه إلى الإقصار عما هو فيه، فقد عرفته صابراً جَلْداً قوياً فيما مضى، وهي في أثناء ذلك كله تبكي وتسرف في البكاء، يقول:
هبّتْ قُبيلَ تَبَلُّج الفجرِ ... هندٌ تقولُ ودمعُها يجري
إذْ أبصرت عيني وأدمُعَها ... ينهلُّ واكفُها على النحرِ
أنّى اعتراكَ وكنتَ عهديَ لا ... سَرِبَ الدموعِ وكنتَ ذا صبرِ(2)
__________
(1) شعر الخوارج: زياد الأعسم 65، عزين: جماعات وأحزاب.
(2) شعر الخوارج: 84.(1/30)
أما زوج يزيد بن حبناء فقد شغفتها الدنيا، ومالت بها النفس إليها، فإذا هي تلوم زوجها لانصرافه عن الاهتمام بأمرها، وتدعوه دعوة صريحة إلى أن يخصّها بالهدايا، فيرد عليها ردّاً هادئاً رشيداً، ويبيّن لها مكانتها في نفسه، ومعرفته لحقوقها عليه ويبصرّها -لعلها تبصر- أن العمر قصير لا يستحق كل هذا الاهتمام، وأن الحياة الصادقة الملأى بالكفاح والجهاد هي الحياة الصحيحة التي تستحق أن تعاش، مستعرضاً أمامها كفاحه ونضاله ورأيه في الحياة على طريقته:
دعي اللومَ إن العيشَ ليسَ بدائمِ ... ولا تعجلي باللومِ يا أمَّ عاصم
فإن عجلتْ منك الملامةُ فاسمعي ... مقالةَ معنيّ بحقِكِ عالمِ
ولا تعذلينا في الهديّةِ إنما ... تكونُ الهدايا من فُضولِ المغانم
فليس بمُهْدٍ مَنْ يكون نهارهُ ... جلاداً ويُمسي ليلُهُ غيرَ نائم
يريدُ ثوابَ اللهِ يوماً بطعنةٍ ... غَموسٍ كشدقِ العنبريّ ابنِ سالم(1)
وإذا كان الجهاد قد شغل هذا الشاعر عن الإهداء إلى زوجه، فإن شاعراً خارجياً آخر لا ينصرف عن الاهتمام بأمر زوجه فحسب بل يفضل عليها فرسه فيخصه باللبن دونها، ويسجل هذا الشاعر ذلك كله في أبيات طريفة ساخرة، ينقل لنا عتاب زوجه ولومها له بسبب فرسه الذي يفضله عليها ويقدم له لبن ناقته ويرد عليها بسخرية مرة منها ومن شكلها ويؤكد لها أن الفرس يستحق ما يقدمه له أكثر منها يقول:
أرى أمَّ سهلٍ ما تزالُ تَفجَّعُ ... تلومُ وما أدري عَلاَمَ تَوجَّعُ
تلومُ على أن أُعطيَ الوردَ لِقْحةً ... وما تستوي والوردَ ساعةَ تفزعُ
إذا هيَ قامت حاسراً مشمعلَّةً ... نخيبَ الفؤادِ رأسَها ما تُقَنّعُ(2)
__________
(1) المصدر السابق: 36 طعنة غموس واسعة تشبه شدق رجل اسمه العنبري.
(2) شرح الحماسة: 349 وهو الأعرج المعْني. الورد: فرسه، إنه لا يساوي بينها وبين فرسه لأنها عندما تقوم بلا قناع جادة في العدو والهرب تكون قبيحة جداً.(1/31)
ولكن العلاقة العامرة بالود والتراحم تنقلب بين أبي النجم العجلي وزوجه شرّ منقلب، ويبدو أن زواجه كان زواجاً عاثر الحظ، فهو لا يسمع من زوجه سوى اللوم والتقريع، فلا يكتفي بزجرها وكفها عن اللوم والعذل وإنما يهددها بالعقوبة المناسبة، الحبس والشتم أو الضرب، ويذكرها ويتوعدها بألا تضجر منه وأن تمسك لسانها ولا تسمعه لوماً، ويطلب إليها ألا تساورها فكرة الفراق بل إنه قدرها وعليها لزوم اليأس في هذا الأمر والالتزام برفقته على ما هما فيه فهو أحسن لها من الجزاء الذي تستحقه، يقول:
يا بْنةَ عَمّا لا تلومي واهجعي
لا تسمعيني منكِ لوماً واسمعي
أيهاتَ أيهاتَ ولا تَطلعَي
هي المقاديرُ فلومي أوْدَعي
لا تطمعي في فُرْقتي لا تطمعي
ولا تروِّعيني ولا تروّعي
واْستَشْعري اليأسَ ولا تَفجّعي
فذاك خيرٌ لك من أن تَجْزَعي
فتُحبسَي وتشتمي وتُوجَعي(1)
وفي ديوان رؤبة تصوير بارع لزوجته اللوامة العذالة وهي تحاوره في شؤون البيت والمال وفي كتاب "قصيدة المدح" دراسة وافية حول مقدمات رؤبة(2).
وكانت بعض الخلافات الزوجية تدور حول الأبناء، فينبري الشعراء للدفاع عن أبنائهم خاصة إذا كان الأولاد من زوجات أخريات، فيظهرون حق هؤلاء الأولاد بمحبتهم وعنايتهم. فهذا هو عمرو بن شأس يجادل امرأته جدالاً شاقاً في أمر ابن له من أمه سوداء يقال له عرار، وكانت زوجته تعيّره إياه وتؤذيه فأنكر عمر أذاها له وقال:
أرادت عِراراً بالهوانِ وَمَنْ يُرِدْ ... عِراراً لَعمري بالهوانِ فقد ظَلَمْ
فإن كنتِ مني أو تريدينَ صُحبتي ... فكوني له كالسمْنِ رُبّتْ له الأَدَم
وإن كنتِ تهوين الفِراق ظعينتي ... فكوني له كالذئبِ ضاعَتْ له الغنم
وإلا فسيري مثل ما سارَ راكبٌ ... تجشّمَ خِمْساً ليسَ في سيرهِ أَمَم
فإن عراراً إن يكنْ ذا شكيمةٍ ... تلاقينها منه فما أمْلِكُ الشيم
__________
(1) ديوان أبي النجم العجلي: 134 أيهات أراد هيهات فقلب.
(2) قصيدة المدح حتى نهاية العصر الأموي: 380-391.(1/32)
وإن عراراً إن يكن غيرَ واضحٍ ... فإني أحبُّ الجونَ ذا المنكِبِ العمم(1)
وهذه هي "النوار" تعاتب الفرزدق عندما ولدت له أمة زنجية بنتاً سمّاها مكية وتكنّى بها، وها هي ذي تشكوها إليه غير مرة، ويبدو أن بعض أهله، قد ظاهروها على شكواها وعتابها، فلم تقع هذه الشكوى وذاك العتاب من نفس الفرزدق موقع الرضا، وإنما ينبري يدافع عنها ويبيّن مكانتها في نفسه، وعاطفته نحوها، وحرصه عليها، ويذكر باعتداد وفخر أن ما فاتها من حسب أمها لم يفتها من حسب أبيها وأعمامها وإخوتها يقول:
كنتم زعمتم أنها ظلَمْتكمُ ... كذبتمْ وبيتِ اللهِ بل تظلمونها
فإلا تعدّوا أمَّها من نسائكم ... فإن أباها والدٌ لا يَشينُها
وإنَّ لها أعمامَ صدقٍ وإخوةً ... وشيخاً إذا شئتم تأيَّمَ دونها (2)
وقد يتخذ الشعراء أولادهم دليلاً على حبهم لنسائهم وإيثارهم لهن، فيقع كلامهم من نفوس هؤلاء النساء موقعاً طيباً جميلاً، على نحو ما فعل الطرماح عندما خاطب زوجه سليمة مؤكدّاً لها حبه عن طريق ابنه صمصام قال:
أصمصامَ إن تشفعْ لأمّكَ تلْقَها ... لها شافعٌ في الصدرِ لم يتبَّرح
إذا غِبْتَ عنا لم يَغبْ غيرَ أنّه ... يَعِنُّ لنا في كلِّ ممسى ومُصْبَحِ
هل الحبُّ إلا أنها لو تجردَّتْ ... لِذّبْحِكَ يا صمصامُ قلتُ لها اذبحي
وإن كنت عندي أنت أحلى من الجنى ... جنى النحلِ أمسى واتناً بين أجبُحِ(3)
وربما كان هؤلاء الأولاد سبباً في تعزيز مكانة أمهم لدى الشاعر وتمكنها من قلبه وحياته، على نحو ما نرى من أمر الفرزدق وزوجه سويدة، فهو يخاطبها، ويستعرض أمامها مناقبه، ويتحدث عن أولادها حديثاً مشرقاً فتاناً مفعماً بالحب والحنان والرحمة، ويعلن أن هؤلاء الأولاد هم الذين شدّوا بعد الله حبالها إلى قلبه. يقول:
__________
(1) شرح الحماسة: 280
(2) العقد الفريد: 6/95.
(3) ديوان الطرماح: 101 الجنى العسل. واتناً: مقيماً. الأجبح: مواضع النحل في الجبل تعسّل فيها واحدها جبح، يخاطب هنا ابنه.(1/33)
ألا زعمتْ عِرسي سويدةُ أنها ... سريعٌ عليها حِفْظتي للمعاتِب
ومكثرةٍ يا سود ودّتْ لو أنّها ... مكانكِ والأقوامُ عندَ الضرايب
ولو سألتْ عني سويدةُ أُنبِئتْ ... إذا كان زادُ القومِ عقرِ الركايب
بضربي بسيفي ساقَ كلِّ سمينةٍ ... وتعليقِ رَحْلي ماشياً غيرَ راكب
ولولا أبينُوها الذين أُحِبُّهم ... لقد أنكرت مني عقود الجنائب
ولكنهم ريحانُ قلبي ورحمةٌ ... من اللهِ أعطاها مليكُ العواقب
هُمُ بعدَ أمر اللهِ شدُّوا حبالَها ... وأوتادَها فينا بأبيضَ ثاقِب(1)
وكان حديث الكبر والشعر الأبيض من أكثر ما دار بين الزوجين بعد أن عركتهما الحياة وأهرمتهما الأسرة بمشكلاتها، فقدّما لها العمر والشباب لتنمو وتكبر. إنه حديث ممتدّ عالي النبرة. ولست أبالغ إذا قلت: إن "الشعر الأبيض وموقف المرأة منه" يصلح عنواناً كبيراً لقسم واسع من الشعر الأموي. فلا يكاد يخلو ديوان من دواوين شعراء هذا العصر بل أكاد أقول لا تخلو قصيدة من الإشارة إلى هذا الموضوع حتى أحسست أن الحديث عن المرأة لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن الشيب أو التقدم في السن، ولا سيما تقدم الرجل وكأن المرأة كانت بمنأى ونجوة من صروف الدهر وغِيَر الأيام.
__________
(1) ديوان الفرزدق: 28-29 عرسي: زوجتي، الحفيظة: الغضب، الضرايب: واحدتها ضريب، هو المثل: الشكل والنصيب، العقر: النحر: الركايب: الإبل السمينة: الناقة يدفعها للقرى ويعلق رحله على غيرها. ويسير ماشياً، أبينوها: مصغر أبناء، الجنائب: التي يقاد بعضها إلى جانب بعض، الأبيض هنا: السيف اللامع.(1/34)
لقد أكثر الشعراء من الإشارة إلى موقف الأنثى عامة -زوجة كانت أو فتاة- ونفورها من الرجال عندما يصبحون في سن تدل عليها ألوان شعورهم. ولا يملك الشاعر إلا أن ينظر إلى نفسه فيرى أن الدهر الذي غيرّ الناس قبله قد غيّره أيضاً، فيلقي على هذا الدهر أثقاله ومواجعه، أو نراه يكثر من الالتفات إلى الوراء، إلى الزمن الماضي يوم كان صغيراً حدثاً يضفي على أناسه النضارة والحيوية. ولا تدع المرأة هذا الأمر يفلت من قبضتها أو يمر على غفلة منها، فإذا هي تذّكر زوجها بما حلّ به وتنهاه عن التصابي وتلومه على التفتي والمغامرة. ويصور لنا الفرزدق موقف "النوار" منه بعدما كبر وكيف تتجنى عليه وتكثر من لومه، وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه لأنه يعرف ما وراء ملامتها، ولا يستطيع أن يرد عن نفسه الشيب أو الكبر يقول:
رأيتُ نوارَ قد جَعَلتْ تَجنَّى ... وتُكْثُر لي الملامةَ والعتابا
وأَحدثُ عهدِ وُدِّكَ بالغواني ... إذا ما رأسُ طالبِهِنَّ شابا
فلا أستطيعُ ردَّ الشيب عني ... ولا أرجو مع الكبرِ الشبابا(1)
وفي الفعل "تجنى" ما يكفي من الإشارة إلى براءته مما تنسبه إليه.
وفي حوار جميل بين جرير وأحد أزواجه ينقل لنا إنكارها لما هو فيه ودعوتها له للكف عن الصبابة، فيجيب بانكسار يفضح عدم قدرته على أن يدفع عن نفسه ما هو فيه، يقول:
قالَتْ بَليتَ فما نراكَ كعهدِنا ... ليتَ العهودَ تجّددَتْ بعدَ البلى
أأُمامَ غيَّرني وأنتِ غريرةٌ ... حاجاتُ ذي أربٍ وهمٌ كالجوى
قالت أمامةُ ما لجهلكَ مَالَهُ ... كيف الصبابةُ بعدما ذهبَ الصِّبا
رأت أمامةُ في العِظام تحنّياً ... بعد استقامتِها وقصْرا في الخطا
ورأت بلحيَيْهِ خضاباً راعَها ... والويلُ للفتياتِ من خضْبِ اللحّى(2)
ويقول العرجي:
رأتني خضيب الرأس شمرّت مئزري ... وقد عهدتني أسود الرأس مسبلا
__________
(1) ديوان الفرزدق: 75.
(2) ديوان جرير: 343(1/35)
صريع هوىً ما يبرح العشقُ قائدي ... لِغيِّ فلم أعدل عن الغي معدلا(1)
وليس يزيده لومها وإنكارها لما هو فيه من التصابي وطلب لذات الشباب إلا اندفاعاً في سبيل اللّذة وإقبالاً عليها غير محتفل بما تقول، بل غير محتفل بما ينبغي أن يفرضه عليه الزمن من الرصانة والوقار:
تلك عِرسي تلومُني في التّصابي ... ملَّ سمعي وما تَمَلُّ عتابي
أَهْجَرَتْ في الملامِ تزعمُ أنّي ... لاحَ شيبي وقد تولّى شبابي
أن رأتْ روعةً مَنْ الشيبِ صارتْ ... في قَذالي مبينةً كالشهاب
قلتُ مهلاً فقد علمتِ إبائي ... منكِ هذا وقد علمت جوابي
ليس ناهيَّ عن طلابِ الغواني ... وخْطُ شيبٍ بَدَا ودْرِسُ خضاب(2)
ويشكو عمرو بن أحمر الباهلي ما رأى من استخفاف زوجه به وإزرائها عليه عندما رأت شيبه وقد استيقظ شبابها ومرحت وجالت متباهية، يقول:
زعمتْ غنيَّة أنَّ أكثرَ لمَّتي ... شيبٌ وهانَ بذاك ما لم تزددِ
لما رأتْ عُرُباً هجائنَ وسْطها ... مرِحَتْ وجالَتْ في الصراخ الأبعد(3)
ولم تكن زوج ابن قيس الرقيات أخف وطأة على نفسه من الزمن فهي تهزأ به، وتسخر منه فيما لا يد له فيه، فقد وخط الشيب رأسه وعلا ذؤابته، يقول منكراً من أمرها ما يرى:
هزئت أن رأت بيَ الشيبَ عِرسي ... لا تلومي ذؤابتي أن تَشيبا(4)
ثم يبين لها أن ما صار إليه إنما كان بسبب بسالته في الحروب، ومطاعنته الأعداء، فكأنما هو ينكر كبر سّنه، ويعتذر عما صار إليه لو كان عذر ينفع!!
إن تَرَيني تَغَيَّرَ اللونُ منيّ ... وعلا الشيبُ مفرِقي وقذالي
__________
(1) ديوان العرجي: 71-72
(2) المصدر السابق: 114-115 أهجرت: استهزأت. الروعة: المسحة والعلامة القذال: جماع الرأس من مؤخره. الشهاب: الشعلة الساطعة. ناهي: زاجري.
وخط المشيب: اختلاط البياض بالسواد:درس الخضاب: نصوله وانكشافه.
(3) شعر عمرو بن أحمر الباهلي: 51
(4) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات 108.(1/36)
فظلالُ السيوفِ شيّبْنَ رأسي ... وطعاني في الحرب صُهْبَ السِّبالِ(1)
ومع ما نراه في شعر الشعراء العذريين من الشكوى المفرطة والبوح الأسيان، فإن شعرهم يكاد يخلو من الحديث عن الشيب، بل هو يخلو حقاً من تصوير مواقف نسائهم منه، لكأن تجاربهم العاطفية المخفقة وحبهم الموؤُد وقلوبهم المتعبة.. قد صرفهم عن التفكير في حياتهم الطبيعية، وبقي شعرهم يتغنى حسراته، ويجتر ذكرياته وآلامه.
ولم يكن شعراء الخوارج الذين وقفوا عمرهم وفنهم لعقيدتهم أقل انصرافاً من العذريين عن حديث الشيب وموقف نسائهم منه، فليس في أشعارهم ما يكشف عن هذه المشكلة التي طالما توجع منها الآخرون.
إن الشعراء العرب توجعوا من الشيب بل هم لم يتوجعوا من أمر كما توجعوا من الشيب وصروف الزمان، وما أكثر ما اقترن هذا التوجع بذكر النساء!
وما أكثر ما تمنى الشعراء لو كانوا يملكون زمام الدهر، إذاً لوقفوا به حيث يحبون له أن يقف، أيام كانوا فتية مغامرين يصبون العذارى، ويصيبون من اللذاذة ما يشاؤون. ولكنها أمنيات تذروها رياح العمر العاصفة فتتبدد!
ولم يكن الشيب مقصوراً على الرجال، ولم يكونوا وحدهم أغراضاً لصروف الزمان، فقد شركتهم النساء فيما شكوا منه وتوجّعوا. فكيف كان الأمر حين عمّم الشيب رأس المرأة وبدت طاعنة في السن؟ كانت اللوحة الشاملة لهذا الموقف شديدة المفارقة والحساسية. فقد وقف الشعراء يتأملونها وقد بدت عجوزاً يسربلها خجل حزين لا تملك له دفعاً أو منصرفاً.
وراح كل منهم يتفنن في رسم صورتها ساخراً بها، داعياً للنفور منها، ناصحاً النصائح المجانية لرفاق جنسه بالابتعاد عنها واتقاء شرها.
لقد رأيناه عندما كبر وسخرت منه يتهمها بالظلم ويظن بأخلاقها وعقلها الظنون، وها هو ذا الآن يفعل ما كان ينكره عليها نكراناً شديداً، فما حقيقة موقفه إذاً؟
__________
(1) المصدر السابق: صهب كأنهم عجم وله في قـ 48 فخر بشيبه ويذكر أنه لا يداريه.(1/37)
إنه يجلد هذه العجوز المسكينة بكلماته الهازئة، ويدعو إلى الابتعاد عنها فقد جفّ عودها ويبس، ولم يعد فيها بقية من خير، يقول:
لا تَنكحنَّ عجوزاً إن أُتيتَ بها ... واخلع ثيابَكَ ممعناً هَرَبا
فإنْ أتَوْكَ وقالوا إنّها نَصَفٌ ... فإنَ أمثلَ نِصفيها الذي ذهبا(1)
ويسوق رجل آخر النصيحة ذاتها منفراً ممن طعنت في السن، وكانت أرملة مجربة:
لا تنكحنَّ الدهرَ ما عشتَ أَيَّماً ... مُجرِّبةً قد مُلَّ منها وملّتِ
تحك قفاها من وراءِ خمارِها ... إذا فقدَتْ شيئاً من البيت جُنَّتِ(2)
أما العجاج فقد سخر من العجائز جميعهن، ورسم لهن صورة "كاريكاتورية" ساخرة سخرية لاذعة، فشبههن بالأفاعي، وتكثّر عليهن الطعام، ودعا عليهن دعاء طريفاً ساخراً، وخصّ واحدة منهن بالحديث فرآها لا تساوي فلساً، ثم صورها صورة فيها من المرارة والسخرية أضعاف ما فيها من الدعابة، فهي تنهس الزبدة نهساً:
لقد رأيتُ عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل الأفاعي خمسا
يأكلنَ ما في رحلِهنَّ همسا ... لا تركَ اللهُ لهُنَّ ضرسا
ولا لقينَ الدهرَ إلا تَعْسا ... فيها عجوزٌ لا تساوي فلسا
لا تأكلُ الزّبدة إلا نَهْسا(3)
وحقاً ليست هذه الأشعار في المرأة الزوج، ولكنها تدل على موقف الرجل من امرأته حين تطعن في السن، ويعمّمها الشيب.
ونرى زوج محمد بن بشير الخارجي العدوانية قد أسنّت، فضربت دونه حجاباً، لما تعرف من رأيه فيها وتوارت عنه، ودعت نسوة من عشيرتها فجلسن عندها يلهون ويتغنين فسمعهن فقال ساخراً:
لئن عانسٌ قد شاب مَا بين قرنِها ... إلى كعبِها وامْتُصَّ منها شبابُها
صَبَتْ في طِلابِ اللهوِ يوماً وعَلَّقَتْ ... حجاباً لقد كان ستيراً حجابُها
فبيني برغمٍ ثم ظليّ فربما ... ثوى الزعمُ منها حيث يثوي نقابُها(4)
__________
(1) شرح الحماسة 1873 لمجهول
(2) المصدر السابق: 1872
(3) ديوان العجاج: 269
(4) شعر محمد بن بشير: 44. بيني أي ابتعدي(1/38)
ونسمع أبا الأسود الدؤلي الوفي لامرأته العجوز يعلن أنه قد خالف قاعدة الرجال الشعراء وشبب بعجوزه على الرغم مما يتعرض له محب العجوز من لوم وتوبيخ:
أبى القلُب إلا أمّ عمروٍ وحبَّها ... عجوزاً ومن يُحْبِبْ عجوزاً يُفنّدِ
كسحق اليماني قد تقادَم عهدُهُ ... ورقْعَتُه ما شئتَ في العينِ واليدِ(1)
ولم يقتصر هجاء الزوجات على العجائز منهن فقط بل كان بعضُ الخلاف والنشوز يؤدي إلى هجاء الزوجة وتصويرها بصورة قبيحة مشوهة.
فقد هجا الفرزدق زوجته رهيمة بنت غني بن درهم النمرية عندما نشزت عليه وطلقها، فصورها صورة مضحكة بدت فيها صلعاء خشنة الملمس كالشوك:
لا تِنْكحَنْ بَعْدي، فتى، نمريةً ... مُزَمّلةً من بَعلِها لبعادِ
بيضاءَ زعراءَ المفارقِ شجنةً ... مولَعةً في خضرةٍ وسوادِ
لها بَشَرٌ شَسْنٌ كأن مضمَّه ... إذا عانقَتْ بعلاً مَضمُّ قَتادِ(2)
وهجا أبو المنهال زوجه، فرسم لها صورة هي صورة القبح عينه، فوجهها وجه قرد، وثديها متهدل يجول على بطنها كالقربة، وساقها كساق الدجاجة، صور قبيحة متلاحقة على نحو ما نرى:
لها وجهُ قرد إذا زُيّنتْ ... ووجهٌ كبيض القطا الأبرشِ
وثديٌ يجولُ على بَطنِها ... كقربةِ ذي الثُلّةِ المُعْطشِ
وساقٌ بخلخالِها خاتمٌ ... كساقِ الدجاجةِ أو أحمش(3)
أما الأقرع بن معاذ القشيري فكان أكثر جرأة أو أقل رزانة وحياء في هجاء زوجه عندما قال:
لَعَمْرُكَ إنّ المسَّ من أمِ خالدٍ ... إليَّ وإنْ ضاجعتُها لبغيضُ
إذا ابتُزَّ عنها ثوبُها فكأنما ... على الثوبِ نمْلٌ عازمٌ وبَعوضُ(4)
__________
(1) شرح الحماسة: 1344
(2) ديوان الفرزدق: 161 المزملة: الملتفة بثوبها. وقوله فتى أي يا فتى، الزعراء: القليلة الشعر. الشجنة: الغصن الملتف المشتبك. البشر: ظاهر الجلد، الشسن: الخشن. القتاد: الشوك.
(3) مجالس ثعلب: 74 (أبو المنهال هو اسماعيل بن عامر من مخضرمي الدولتين).
(4) الحيوان: 7/160 عازم: ذو عض.(1/39)
وفي خبر عن الصمة القشيري أنه "هوي امرأة من قومه ثم من بنات عمه يقال لها العامرية بنت غطيف، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وخطبها عامر بن بشير بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة فزوجه إياها.
فلما بنى بها زوجها، وجد الصمة بها وجداً شديداً وحزن عليها، فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل فأقام عليها مقاماً يسيراً ثم رحل إلى الشام غاضباً على قومه وخلف امرأته فيهم وقال لها:
كُلي التمرَ حتى تهرمَ النخلُ واضفري ... خطامَكِ ما تدرينَ ما اليومُ من أمس(1)
وزوج النابغة الجعدي كانت من بني المجنون وهم كثرة من بني جعدة، فنازعته وادعت الطلاق، فكان يراها في منامه ويقول:
وشرُّ حشوِ خباءٍ أنت مولجُهُ ... مجنونةٌ هُنّباءُ بنتُ مجنون
تستخنثُ الوطْبَ لم تنقُض مَريرتَهُ ... وتَقْضَمُ الحَبَّ صِرفاً غيرَ مطحون(2)
ولم يقتصر الهجاء على الزوج بل امتد شرره وتطاير ليصيب من كان يحتمل أن تكون زوجاً للشاعر، فقد سخر محمد بن بشير الخارجي من امرأة كان يخطبها فقال:
أُنبِئْتُ أنّ فتاةًكنتُ أخطبُها ... عرقوبُها مثلُ شهرِ الصومِ في الطول
أسنانُها مئةٌ أو زدنّ واحدةً ... كأنها حينَ يبدو وجهُهَا غُولُ(3)
وقد يتفاقم الخلاف بعد هذه المنازعات والأهاجي، ويتطور الموقف بين الزوجين إلى الفراق والطلاق فقد كان لأعشى همدان امرأة من قومه يقال لها أم الجلال، فطالت مدتها معه وأبغضها، ثم خطب امرأة من قومه يقال لها جزلة، فقالت له لا حتى تطلق أم الجلال. فطلقها، وقال:
__________
(1) الأغاني: 5/132.
(2) ديوان النابغة الجعدي 207/ هُنّباء: حمقاء: تستخنث: خنثت القربة وخنثها ثنى فاها إلى خارج فشرب منه. الوطب: سقاء اللبن وهو قربة من جلد، المريرة الحبل المفتول. والمعنى أنها من شرها ولؤمها وجفوتها تعجل إلى الوطب فتثني فمه قبل أن تحل رباطه ولا تحذر أن يكون فيه حشرة أو قذر.
(3) الحيوان 7/162(1/40)
تَقَادَمَ ودُّكِ أمَّ الجلال ... فطاشَتْ نبالُكِ عندَ النصال
وطالَ لزومُكِ ليْ حقبةَ ... فرثت قُوى الحبلِ بعدَ الوِصال
وكانَ الفؤادُ بها معجباً ... فقد أَصبحَ اليوم عن ذاكَ سالي
صحا لا مُسيئاً ولا ظالماً ... ولكنْ سلا سلوةً في جمال
ورُضْتِ خلائقَنا كلهَّا ... وَرُضْنا خلائقَكم كلَّ حال
فأعييتِنا في الذي بيننا ... تسومينني كلَّ أمرٍ عُضال
فبعضَ العتابِ فلا تهلكي ... فلا لكِ في ذاك خيرٌ ولالي
فلما بدا ليَ منها البذا ... ءُ صَبّحْتُها بثلاثٍ عجال
وبعد أن طلقها قال:
ولا تحسبيني بأني ندمـ ... تُ كلا وخالِقنا ذي الجلال(1)
وحدّث محمد بن بشير، قال: علق أبي جارية لبعض الهاشميين، فبعثت أمي تعاتبه فكتب إليها يهدئ روعها ويشرح لها كيف طمح إلى سواها فلتقبل وضعها على ما هو:
قال:
لا تَتْبَعنْ لوعةً إثري ولا هلعا ... ولا تُقاسنَّ بعدي الهمَّ والجزعا
ما تصنعينَ بعينٍ عنكِ طامحةٍ ... إلى سواكِ وقلبٍ عنكِ قد نَزَعا(2)
وربما ندم بعضهم أشد الندم، وشاقه الحب القديم بعد الطلاق، فراح يصور شوقه وحنينه إليها، ويلقي اللوم على الوشاة، ولات ساعة مندم.
فقد طلق المتوكل الليثي زوجه أم بكر حين سألته الطلاق، ثم أفاق من غفلته، فندم على ما كان منه، قال:
قفي قبلَ التفرّقِ يا أُماما ... وَرُدّي قبلَ بينكِمُ السّلاما
طربتُ وشاقَني يا أُمَّ بكرٍ ... دعاءُ حمامةٍ تدعو حماما
فبتُّ وباتَ همّيْ لي نَجيِّاً ... أُعزّي عنكِ قلباً مُستهاما
سعى الواشونَ حتى أَزعجوها ... ورثَّ الحبلُ فانجذمَ انجذاما
تَساقَطُ أَنْفُساً نفسي عليها ... إذا سخطتْ وتغتمُّ اغتماما(3)
وأشفق أبو دهبل الجمحي على زوجه، وشاقه فراقها، وهي بنت الحسب والعز، فاضطرب واعتراه حزن مقيم، وضاقت عليه سبل القول على اتساعها، قال:
وإنّي لمحزونٌ عشيَّةَ زرتُها ... وكنتُ إذا ما زرتُها لا أُعرِّجُ
__________
(1) الأغاني: 5/156
(2) الأمالي: القالي 2/22
(3) ديوان المتوكل الليثي: 110(1/41)
وأعيا عليّ القولُ والقولُ واسعٌ ... وفي القولِ مستنُ كثيرٌ ومخرجُ
وأشفق قلبي من فراقِ خليلةٍ ... لها نَسَبٌ من فرعِ فهرِ مُتَوَّجُ(1)
وتذكر محمد بن بشير الخارجي زوجه التي طلقها في البصرة بناء على رغبتها، ورحل إلى الحجاز، فغاله الشوق والأسى لما حدث بينهما:
باتَتْ لعينكَ عبرةٌ وسجومُ ... وثَوَتْ بقلبِكَ زفرةٌ وهمومُ
ولقد أراكِ غداةَ بنتِ وعهدُكُمْ ... في الوصلِ لا حرجٌ ولا مذمومُ
ولقد أردتُ الصبرَ عنكِ فعاقني ... عَلَقٌ بقلبي من هواكِ قديمُ
وعَتْبتِ حين صححتِ وهو بدائه ... شتّانَ ذاك مصّححٌ وسقيم
وأذيته زمناً فعَادَ بحِلْمِه ... إن المحبَّ عن الحبيبِ حليم
وزعمتِ أنّكِ تبخلين وَشَفّهُ ... شوقٌ إليكِ وإن بخلت أَليمْ(2)
وكانت النوار قد مكثت عند الفرزدق زماناً ترضى عنه أحياناً وأحياناً تخاصمه، وكانت تطلب منه الطلاق ويرفض ذلك، فلم تزل ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها ألا تفارقه، ولا تبرح منزله، ولا تتزوج رجلاً بعده، ولا تمنعه من مالها، ثم ندم على طلاقها قائلاً:
ندمتُ ندامةَ الكُسَعَيّ لمّا ... غَدَتْ مني مطلّقةٌ نَوارُ
وكانت جنتي فخرجتُ منها ... كآدمَ حينَ لجَّ به الضرار(3)
أما حارثة بن بدر الغداني فقد خرج مع سلم بن زياد بخراسان وأوصى رجلاً من غدانة أن يتعهد امرأته الشماء ويقوم بأمرها، فكان الغداني يأتيها فيتحدث عندها ويطيل حتى أحبها، فكتب إلى حارثة يخبره أنها فسدت عليه وتغيرت، ويشير عليه بفراقها، ويقول له أنها فضحتك، فكتب إليه بطلاقها، وكتب في آخر كتابه:
آلا آذِنا شمّاءَ بالبينِ إنَّه ... أَبى أوَدُ الشمّاءِ أن يتقوَّما
فلما طلقها وقضت عدتها خطبها الغداني فتزوجها، وكان حارثة شديد الحب لها، فبلغه ذلك، فاغتم وحزن، ثم قال:
لَعَمْرُكَ ما فارقتُ شمّاءَ عن قلىً ... ولكنْ أطلتُ النأيَ عنها فملّتِ
__________
(1) ديوان أبي دهبل: 56
(2) شعر محمد بن بشير الخارجي: 122
(3) الأغاني: 19/9(1/42)
مقيماً بمرورَوذَ لا أنا قافل ... إليها ولا تدنو إذا هي حَلَّت(1)
وتمنى بعض الأزواج لو كانت زوجاتهم من البدويات العربيات اللواتي يتميزن بالأصالة والأخلاق والفضائل الكريمة. وهم بذلك يهجون زوجاتهم الحضريات وينفرون من كثرة مشاكستهن ومخاصمتهن، بل ويعيرون هؤلاء الزوجات بأنهن لسن من البدويات الفاضلات. وممن لجأ إلى هذا الأسلوب الهجائي من الشعراء الفرزدق عندما خاصم زوجه النوار. قال:
لَعَمْري لأَعرابيّةٌ في مظلّةٍ ... تظلُّ بِرَوْقي بيتِها الريحُ تَخفقُ
كأمِّ غزالٍ أو كدّرَةِ غائصٍ ... إذا ما بدت مثلَ الغمامةِ تُشرقُ
أَحبُّ إلينا من ضِناكِ ضِفّنةٍ ... إذا رُفعتْ عنها المراويح تعرق
كبطيخة الزّراعِ يُعْجِبُ لونُها ... صحيحاً ويبدو داؤها حين تُفْلَق(2)
لم يكن المجتمع العربي يومئذ على الرغم مما أصابه من تحضر قد فارق بداوته، فقد ظلت روح البداوة تسري في عروقه، وظل حنينه إلى مثالية الصحراء حنيناً جارفاً، ولذا ظلت المرأة البدوية أعلق بنفوس الشعراء من أختها الحضرية. ونرى ذلك واضحاً لا في حديث الشعراء عن نسائهم فحسب، بل في الغزل الأموي كله، حتى في ذلك الغزل اللاهي الذي نما وازدهر في مدن الحجاز المترفة على نحو ما سنرى.
وما أكثر ما شعرت أولئك البدويات اللواتي تركن البادية بغربتهن في بلاد أزواجهن، وما أكثر ما أبدين التذمر والملل والكراهية من حياة المدنية المملة، فرشحت نفوسهن بما تكظم وانسالت أبياتاً في الحنين إلى البادية التي خرجن منها.
__________
(1) شعراء أمويون: 327
(2) ديوان الفرزدق: 411 الروق: رواق البيت. المظلة: الخيمة. الضناك: الشديدة الضفنة: الحمقاء أي لم يظهر سوء خلق نوار إلا في التعامل معها.(1/43)
ولعل أشهر هؤلاء البدويات وأبعدهن صيتاً، ميسون بنت بحدل التي كرهت زواجها والموطن الذي صارت إليه، وفضلت زوجاً من أبناء عمها يصونها ويحميها ويبقي على مشاعرها بين أهلها في تلك البادية التي ألفتها بخشونتها وفقرها، فكانت منها في سويداء القلب، فلم تقو على فراقها، ولم تطق عليها صبراً، فإذا هي تسترسل في الحديث عنها ذاكرة أشياءَها وحيوانها وأهلها وطريقة عيشها، ومقابلة بينها وبين المدينة في كل ما ذكرت في موازنة عاطفية صرف ترجح فيها كفة البادية على كفة المدينة رجحاناً يستوقف القارئ ويهزّه هزاً، تقول:
لبيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيه ... أحبُ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وبكرٌ يتبعُ الأظعانَ سَقْباً ... أحبُّ إلى من بَغلٍ زفوفِ
وكلبٌ يَنْبحُ الطُرَّاقَ عني ... أَحبُّ إلى من قطٍ أَلوفِ
ولُبسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ من لبسِ الشَفوفِ
وأَكُل كُسَيْرِة في كسر بيتي ... أَحبُّ إليَّ من أكلِ الرغيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكلَّ فجٍ ... أَحبُّ إليَّ من نَقْرِ الدّفوفِ
وخرقُ من بني عمّي نحيفٌ ... أَحبُّ إليّ من عِلجٍ عَليفِ
خشونةُ عيشتي البدوِ أشهى ... إلى نفسي من العيشِ الطريفِ
فما أبغي سوى وطني بديلاً ... فحسبي ذاكَ من وطنٍ شريفِ(1)
وميسون هذه هي زوج معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين، وأم ابنه يزيد، وكانت بدوية فضاقت نفسها لما تسرّى عليها، فعذ لها على ذلك وقال لها:
__________
(1) الخزانة 8/503 الخفق: الاضطراب. المنيف: العالي، البكر: الفتى من الإبل
... الأظعان: ج ظعينة المرأة في الهودج. السقب: ولد الناقة. الزفوف المسرع. الطراق: الطارق الذي يأتي ليلاً. تقر: تسكن. الشفوف: ج شف وهو الثوب الرقيق. والكسيرة قطعة الخبز الخِرْق: الكريم.
... العِلج: الصلب الشديد، العليف: المسمن بالعلف.(1/44)
أنت في ملك عظيم وما تدرين قدره، وكنت قبل اليوم في العباءة، فقالت الأبيات. ولما سمعها قال لها: ما رضيت يا بنة بحدلٍ حتى جعلتني علجاً عليفاً، فالحقي بأهلك فطلقها وألحقها بأهلها"(1).
وقد حرصت أسر هؤلاء الغريبات على تزويدهن بعض النصائح والوصايا من أجل الحظوة عند رجالهن وحفظاً للمودة والحب، وإيناساً للنفس في الغربة وفي بيت الزوجية، فقد أوصت أم ابنتها ليلة زفافها قائلة:
"أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي فيه خرجت، وعشك الذي فيه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً، فالأولى والثانية، الخشوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة، فالاحتراس بماله والإبقاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصين له أمراً ولا تفشين له سراً، ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً"(2).
__________
(1) المصدر السابق: 8/506
(2) العقد الفريد 6/83(1/45)
ومن أكبر المشاكل التي تعرضت لها الأسرة العربية والزوجة خاصة، مشكلة الجواري، وكان بعضهن عربيات سبايا، وكان أكثرهن أجنبيات من أجناس وعروق شتى، ولقيت هؤلاء الجواري -ولا سيما الأجنبيات منهن- حظوة لدى الرجال بجمالهن ومواهبهن، فتسرّوا بكثير منهن لأن زواج العربي بغير العربية كان أمراً غير مرغوب فيه، فعوّضوا هذا الإحساس بالتسري بالإماء والجواري حتى أصبحت العلاقة بين الرجل ومن يتسرى بها علاقة شرعية لا حرج فيها ولا إثم بنص آية قرآنية كريمة "وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"(1) وهذه التي عدت ملك اليمين التي يتسرى بها سيدها وتنجب له تدعى "أم ولد" ولها حقوق شرعية مقررة، فليس يجوز بيعها ولا هبتها، وإذا مات عنها زوجها أصبحت حرة، وقد انشغل الرجل العربي بهذه المرأة وانبهر بحسنها وجمالها وفنون دهائها وذكائها، مما أدى إلى تصدع كيان الأسرة العربية وأدى إلى ردة فعل الزوجة التي كانت تتطلع إلى شيء من التحرر، وتبحث عن أساليب تبرز أثرها في حياة الرجل العربي، بيد أننا ينبغي أن نذكر أن السرية كانت أقل منزلة من الزوجة وذلك بسبب ما شاع في العصر الأموي من عصبية تجاه العنصر الوافد على المجتمع العربي، فقد شعر الأمويون بالخطر يتهدد عروبتهم باختلاطهم الواسع بالأمم الأخرى وساسوا الناس سياسة قائمة على بث العصبية في نفوس أبناء جنسهم، مما جعل هؤلاء العرب ينظرون إلى الجواري وإلى أبنائهن نظرة احتقار ومهانة، واستنكروا الهجنة في أبنائهم ورفضوا أن يزوجوا الهجين ولو كان ابن الخليفة، على نحو ما روي من خبر عقيل بن علفة "الذي كان غيوراً جداً، فقد رفض مصاهرة عبد الملك بن مروان عندما خطب ابنة عقيل لبعض ولده، وقال: جنبّني هجناء ولدك"(2)وشعر أبناء الجواري بالمهانة وعدم المساواة في المعاملة بينهم وبين أبناء العربيات المحصنات.
__________
(1) سورة النساء: آية (3)
(2) الأغاني 11/86(1/46)
فهذا عبيد الله بن الحر وكان لأم ولد، يستنكر وضعه ويتمرد على مجتمعه ويتحول إلى الصعلكة ويعلن احتجاجه مبطناً بأمنية لعله يحظى كرامة أبناء العربيات:
فإن تَكُ أُمّي من نساءٍ أفاءها ... جيادُ القنا والمرهفاتِ الصفائحِ
فتباً لفضلِ الحُرِّ إن لم أَنَلْ بهِ ... كرائمَ أَولادِ النساءِ الصرائحِ(1)
وبسبب هذا الغض من مكانة أبناء السراري، حرم مسلمة بن عبد الملك الذي عرف بالتعقل والرزانة، الخلافة لأنه لأم ولد(2). وظل أهل المدينة يكرهون أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأمهاتهم بنات آخر ملوك الساسانيين(3).
وكانت الإماء والجواري كثيرات في المجتمع العربي منذ العصر الجاهلي الذي عرف نظام الرق من خلال الأسر أو السبي أو التجارة، وكانت هؤلاء الإماء أسهل وأيسر من النساء العربيات، فكثر الإقبال عليهن والتسري بهن وبلغن حداً خلخل نظام المجتمع العربي وكيان المرأة العربية، واشتهرت طائفة من هؤلاء الجواري ممن تعلمن الغناء والعزف، وأصبحت لهن علاقات وثيقة جداً بالخلفاء والحكام في دولة بني أمية واستطعن أن يفرضن وجودهن وذوقهن على العصر وأخلاقه، ومن أخبار الخلفاء وشغفهم بالجواري، أن عبد الملك خرج ذات ليلة فبصر في صحن داره جارية من جواريه أعزهن عليه وأحبهن فقال: ما أوقفك هذا الموقف؟ قالت: ذكرت قول الله تبارك وتعالى "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنونهم" وإذا هاتف يهتف ويقول:
محجوبة سمعَتْ صوتي فَأرّقَها ... من آخرِ الليلِ لمّا بلَّها السَّحَرُ
تُدني على الجيدِ منها من معصفرةٍ ... والحليُ منها على لَبّاتها حصرُ
فقال عبد الملك لحاجبه: عليّ برأس الرجل الساعة، ثم استطاعت الجارية أن تخلصه(4).
__________
(1) الكامل 1/312
(2) العقد الفريد 6/130
(3) العقد الفريد: 6/128
(4) الأخبار الموفقيات: 191(1/47)
وكان "هشام بن عبد الملك مشغوفاً بجارية يقال لها "صدوف" مدنية، اشتريت له بمال جزيل، فعتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها وحلف ألا يبدأها بكلام، فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك، فقال له: مالي أراك مغموماً يا أمير المؤمنين؟ فأخبره هشام القصة، فأطرق الكميت وأنشأ يقول:
أعتبتَ أم عتبتْ عليكَ صدوفُ ... وعتابُ مثلِك مثلها تشريفُ
فكانت سبب الصلح بينهما"(1)
وعلى عكس ما كان شائعاً بين الخلفاء من إيثار الجواري والتعلق بهن، كان أمر الشعراء في العصر الأموي، وقليلاً ما تغزل شعراء هذا العصر بهن.
فهذا جرير يطري بعض الجواري من ساكنات المدن والأسواق، ويصف بعض ملابسها الرقيقة الشفافة:
جاريةٌ من ساكني الأسواقِ ... لبّاسةٌ للقُمُصِ الرّقاقِ(2)
وكان ليزيد بن مفرغ الحميري جارية تدعى أراكة، وكان يهواها وحصل أن ابتعد عنها، فتذكر أيامه معها بهذه الأبيات:
أمّا الأراكُ فكانت من محارمنا ... عيشاً لذيذاً وكانت جنّةً رغدا
كانت لنا جنّةً كنا نعيشُ بها ... نَغنى بها إن خشينا الأزلَ والنّكدا(3)
وللأحوص غزل بالجواري، وتذكر لأيام المحبة واللقاءات السعيدة:
هل تذكرينَ عَقيلٌ أو أنساكِه ... بعدي تَقَلُّبُ ذا الزمانِ المفسدِ
يومي ويومَكِ بالعقيقِ إذ الهوى ... منا جميعُ الشملِ لم يتبدّدِ(4)
لقد تتبعنا حديث المرأة الزوج في هذا الشعر ما وسعنا الجهد، فرصدنا أمرها يوم كانت تهم أو تحلم بدخول بيت الزوجية، ورصدنا حياتها في هذا البيت وما كان من أمر علاقتها بزوجها: حباً ومودة كانت هذه العلاقة أو شجاراً وخلافات، ولم يبق أمامنا لنستكمل هذا الحديث إلا أن نتساءل عن وفاتها حين يطوي الموت ما كان منشوراً، فكيف برزت صورة الزوجة بعد وفاتها؟ وهل انقطعت بينها وبين الشاعر كل الأسباب؟
__________
(1) الأغاني: 15/122
(2) ديوان جرير: 457
(3) ديوان يزيد بن مفرغ: ق14 الأزل: الضيق والشدة.
(4) ديوان الأحوص: ص35(1/48)
إن مفارقة غريبة وقاسية وعجيبة تصدم الباحث وهو يتأمل هذا الموقف المهيب
ها هي ذي رفيقة العمر ترحل وترحل برحيلها قطعة غالية من العمر، وها هو الزوج ينفض من على منكبيه غبار السنين فتتردد أصداؤها قوية أو خافتة بين جوانحه، ولكنه على جلال الموقف وهيبته -يزّم شفتيه ويمضي كأن أمراً لم يقع!!
أليست مفارقة عجيبة حقاً أن ينذر الشعراء جلّ حياتهم وأشعارهم منذ أول كلمة شعر يقرضونها إلى آخر قصيدة، وهم يتغنون بهذه المرأة، المرأة المثال الأكبر، والحقيقة الثابتة في حياتهم، يتناولونها في شعرهم رمزاً عاماً: للحياة والحب والمخاطر والموت، ثم نراهم عند موتها يخجلون من ذكرها، أو يستكثرون عليها بعض النشيد؟
إن الباحث ليحار في تعليل هذا حقاً؟ أهو مجتمع الذكورة الذي لا يليق به أن يظهر بعض ضعفه في لحظة الضعف الكبرى؟ وإذا كان هذا هو السبب، فلم أكثر هؤلاء الشعراء من الشكوى وأفرطوا فيها في محراب الحب؟ هل هي علاقة ملكية صرف عارية من الود والتراحم؟ لقد أراد الله لها غير ذلك "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة "صدق الله العظيم"(1).
أهي طبيعة الحياة التي لا تعرف غير القسوة وعدم المبالاة حقاً ولا تؤمن بمنطق الالتفات إلى الوراء ولو قليلاً؟ من يدري؟ إنها دراية قاسية على كل حال فلا يكاد شاعر يذكر زوجه المتوفاة حتى يأتي بعبارة تدل على الحياء أو المداراة والخجل. هل في ذكر حبه لها بعد وفاتها ما يخجل؟!
هل في ذكر حزنه عليها منقصة وعار؟! لقد كان عمره كله هيناً رخيصاً مقابل نظرة حب ورضى من عينيها، فما الذي غيرّه كل هذا التغيير؟
وقد أحس "جرير" هذه الأحاسيس كلها فاندفع يتحدى هذا الموقف الغامض، ولكنه لم يجد مناصاً من ذكر الحياة الاجتماعية ومداراة تقاليد مجتمعه، يقول في رثاء زوجه:
لولا الحياءُ لعادَني استعبارُ ... ولزرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ
__________
(1) سورة الروم: الآية 20(1/49)
ولَّهتِ قلبي إذ عَلَتْني كبرَةٌ ... وذوو التمائم من بينكِ صِغارُ(1)
وما من ريب أن في هذه القصيدة لوعة الحزن وحرقة الدمع ونبل الإنسان، ولكنه مع الحزن الجيّاش الذي اعترى نفسه والدموع الغزار التي عرفها قلبه، والمعاني الإنسانية النبيلة التي ألمّ بها، لم يلبث أن تحوّل بهذه القصيدة إلى نقيضة، فتحولت بذلك من غاية الحزن والأسى إلى أبشع صور الهجاء والشتم والسباب بينه وبين الفرزدق!!
وليس يستحق الموقف في نظر الفرزدق أدنى التفات أو اهتمام، بل هو الجفاء والغلظة وقسوة القلب، فكأن قلب هذا الشاعر قُدّ من حجر، فقد توفيت زوجه "حدراء" فلم يفتح الله عليه إلا بمثل هذا الشعر:
يقولونَ زُرْ حدراءَ والتربُ دونها ... وكيفَ بشيء وَصْلُهُ قد تقطّعا
وأَهونُ مفقودٍ إذا الموتُ نالَهُ ... على المرءِ منْ أَصحابِهِ مَنْ تَقَنَعا
وأهونُ رُزْءٍ لامرئٍ غيرِ عاجزٍ ... رزيّةُ مرتّجِ الروادفِ أَفرعا(2)
ولكننا لا نعدم أن نجد من يتعالى على الحياء والخجل، ويعلن أسفه وحزنه الشديد لفقد زوجته الحبيبة، ويتذكر ما كان من حسبها ومجدها وطيب معاشرتها ما هو جدير بالحزن والجزع والبكاء كما في رثاء الوليد بن يزيد لزوجه:
أَلّما تعلما سلمى أقامَتْ ... مضَمَّنَةً من الصحراءِ لَحْدا
لَعَمْرُكَ يا وليدُ لقد أجنّوا ... بها حَسَباً ومكرمةً ومجدا
فلم أَرَ مَيّتاً أَبكى لعينٍ ... وأكثَر جازِعاً وأَجلَّ فقدا(3)
وأحياناً، أحياناً نادرة، تصفو النفس، ويضوع منها عبق إنساني فتّان، فيرقب الشاعر صغاره وقد أرمضهم اليتم وغالهم، فلا يملك إلا أن يسلم نفسه للبكاء والأسى تاركاً حزنه ينساب من غير أن يخجل أو يداري:
فو اللّه ما أدري إذا الليلُ جننَّي ... وذكَّرَنيها أيُّنا هوَ أَوجَعُ
__________
(1) ديوان جرير: 862
(2) ديوان الفرزدق: 364
(3) ديوان الوليد بن يزيد: 32(1/50)
أَمنفصِلٌ عن ثدي أمٍّ كريمةٍ ... أمِ العاشقُ النابي بهِ كلُّ مَضجعِ(1)
وهذه هي حال مالك بن المزموم الحارثي الذي رزئ بزوجه، فماتت عن ابنة صغيرة لها، فهو يصور هذه الابنة، وقد غابت عنها الحقيقة المرّة فليست تعرف ما حل بأمها، وهو يذكر هذه الزوج، ويصلي عليها، ويتأسى لفراقها ويذكر بعض أحوالها:
امررْ على الجدَثِ الذي حلَّتْ به ... أمُّ العلاءِ فنادِها لو تسمعُ
أنّى حَلَلْتِ وكنتِ جدَّ فروقةٍ ... بلداً يمرُّ به الشجاع فيفزَعُ
صلَّى عليكِ اللّهُ من مفقودةٍ ... إذْ لا يلائُمك المكانُ البلقعُ
فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً ... لم تَدرِ ما جزعٌ عليكِ فتجزعُ(2)
وممن قال يرثي زوجته باقياً على مودتها واحترام ذكراها، "بيهس" وهو شاعر مغمور من شعراء الدولة الأموية، ومما قاله فيها:
هل بالديار التي بالقاعِ من أَحدٍ ... باقٍ فيسمعَ صوتَ المدلجِ الساري
تلك المنازلُ من صفراءَ ليسَ بها ... نارٌ تُضيء ولا أصواتُ سُمّار
قد كان يعتادُني من ذِكرِها جزعٌ ... لولا الحياء ولولا رهبةُ العارِ
فأيّ عار هذا الذي يخافه؟ وأيّ حياء هذا الذي يتدثر به ليخفي حقيقته عن العيون؟ وهو يحيي قبرها ويدعو لها مذكراً نفسه بالمسافة التي تفصل بينهما:
ألّما على قبرٍ لصفراءَ فاقرأا السـ ... لام وقولا حيّنا أيُّها القبر
وما كان شيئاً غير أن لستُ صابراً ... دعاءَك قبراً دونه حججُ عشرُ(3)
__________
(1) العقد الفريد 3/281 لمجهول وفي البيت الثاني إقواء.
(2) ديوان الخوارج: 60
(3) الأغاني: 19/108.(1/51)
ونختم رثاء الزوجة برثاء للمرأة عامة جاء على لسان عمر بن أبي ربيعة، عندما سمع بمقتل ابنة النعمان بن بشير. روى المسعودي في مروج الذهب أن مصعب بن الزبير قتل "عدة آلاف مما طالب بدم الحسين وتتبع الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها، وأتى بحرم المختار الثقفي فدعاهن إلى البراءة منه، ففعلن إلا حرمتين إحداهما بنت سَمُرة بن جندب الفزاري، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، وقالت: كيف نتبرأ من رجل يذكر الله، وقد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله وأهل شيعته، فكتب إلى أخيه عبد الله بخبرهما وما قالتا، فكتب إليه:
إن هما رجعتا عما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما، فعرضهما مصعب على السيف فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرأت منه، وأبت بنت النعمان بن بشير وقالت: شهادة أرزقها فأتركها؟ كلا!.. إنها موتة ثم الجنة والقدوم على الرسول وأهل بيته، والله لا يكون، آتي مع ابن هند فأتبعه، وأترك ابن أبي طالب، اللهم اشهد أني تبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ثم قدّمها فقتلت صبراً وفيها يقول عمر:
إنّ من أعجبِ الأعاجيبِ عندي ... قتلَ بيضاءَ حُرّةٍ عُطبُولِ
قتلوها ظلماً على غير جُرمٍ ... إنّ للّهِ دَرّها من قتيل
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَرُّ الذيولِ(1)
ولعلنا نستطيع أن نجد في هذه الحادثة صورة الزوج الوفيّة لزوجها الوفاء كلّه، كما نتبين أهمية موقف المرأة وصلابتها في تمثل حركة مجتمعها وما يدور فيه من أحداث سياسية ومذهبية وفكرية، ويكشف لنا عن وعيها بكل ما يجري وعن صلابتها التي تفوق صلابة كثير من الرجال.
جـ-البنت:
لم نزل في رحاب الحديث عن المرأة في الأسرة العربية ولذا لا بد لنا من التعريج على "البنت" لنجلو صورتها، ونبيّن مكانتها فيها.
__________
(1) مروج الذهب 3/99(1/52)
فهل سيتاح لنا أن نراها في لوحات الشعر الأموي، أم أنها محجوبة مخبأة ممنوعة على الناظرين؟ وهل سنستطيع الكشف عن عزها ونعيمها وتربيتها، وهي ما تزال صبية صغيرة في كنف والديها؟ وهل سنقوى على معرفة أحلامها ومشاعرها وهي تنمو وتتحول إلى النضج والكمال، وهي في أحرج مرحلة من عمرها أعني هذه المرحلة التي يطلق عليها علماء النفس "سن المراهقة"؟
لن أبحث إذاً في وضع الفتاة العربية كما قدمها الشعر في رأي والدها وحسب بل سأتناول وضعها وهي تغادر سن الطفولة وتتلبس شخصية الأنثى الناضجة في هذه المرحلة المعقدة من عمر الفتاة، التي تطمح فيها إلى الحياة بعيون مشبعة بالرغبة ومشعّة بالحيوية وحب الانطلاق، وبقلب مشبوب عامر بالأماني وروح هائمة بالهمسات.
ولكنها ترى نفسها في إطار الأسرة لا تستطيع الإفلات والانطلاق وراء الحلم، وفي الوقت ذاته ترفض الطوق الذي يقيّد تطلعاتها، فإذا هي تلوذ بعالم الشعر حيث يعوضها الشعراء عن خيبتها، ويعيرونها أحلامهم وخيالاتهم، ويصورون لها عوالم مسحورة من العشق والسعادة والغرام.
وللحديث عن المرأة البنت رهافة ونعومة آسرة، وله أشجان إذا شئتم وأحزان كثيرة، أما أشجان هذا الحديث فتأتي من رواسب متراكمة في ذهن العربي عامة من كراهية مولد البنت، وما تعانيه الأم التي تلد إناثاً وتحرم الذكور، فتلقى البنت جفوة ونفوراً وهي ما تزال طفلاً يدرج، مع ما جاء به الإسلام من إنصاف لها، واسترداد لحقها الضائع في الحياة، وسَعْي لتثبيت رجلها على أرض مكينة من الحقوق والقوانين.
وأمّا رهافته فمن البنت ذاتها وهي تنعم بحب والديها وترفل بالسعادة والفرح، فقد استقرت الذات العربية، واطمأنّت إلى تعاليم القرآن الكريم وما أكدّه من ضرورة النهوض بوضع المرأة وأخذت الأسرة، أو بعض الأسر ممن أنعم الله عليها بنور العقل وحكمة المنطق، تعبر عن عاطفتها الطبيعية نحو البنات، وتقدم لهن أسباب الراحة والنعيم والمحبة والرعاية والحنان.(1/53)
ويقدم لنا الشعر الأموي صوراً شعرية يظهر فيها قلب الأب وقد كاد ينفطر قلقاً وتوتراً وجزعاً على بناته ممّا يخبئه لهن الدهر لو أن المنية وافته وهن صغيرات ضعيفات يتضورن جوعاً، فلا يلاقين من أقاربهن إلا الإهانة والنفور، ولا يلقين من الدهر إلا الجوع والعري وانقلاب الحال، ولذا ليس عجباً أن يزداد تشبثاً بالحياة لا رغبة فيها فحسب، بل رعاية لهن، وإشفاقاً عليهن.
إنها عاطفة الأبوة التي تدفع عنا رمضاء الحياة وريحها السموم، وتظلّلنا بظل القلب الواجف وجفن العين الدامعة، يقول أحدهم مصوراً هذا الموقف النفسي العامر بالمشاعر والأحاسيس الناعمة المرهفة:
لقد زادَ الحياةَ إليّ حُباً ... بناتي إنهنَّ من الضعافِ
أُحاذرُ أنْ يَذُقْنَ البؤسَ بعدي ... وأن يَشربْنَ رَنْقَاً بعد صافِ
وأن يعرينَ إن كسيَ الجواري ... فتنبو العينُ عن كُرُمٍ عجافِ
وأن يَضطرَّهُنّ الدهرُ بعدي ... إلى جلفٍ من الأعمامِ جافِ(1)
ومع ما عرف عن الفرزدق من غلظة القلب وقسوته، فإنه يصوّر ابنته وقد قامت على خدمتها وتربيتها مربيات لا همّ لهن سوى العناية بها، وتلبية مطالبها، والسهر على راحتها. ويختم حديثه عنها بفخره المعهود، فيفخر بتميّزها على أترابها وفضلها عليهن، وبأخلاقها الحميدة وبعدها عن مطامح العشاق والسامرين يقول:
ما ضرّها أنْ لم يَلدْها ابنُ عاصمٍ ... وأَنْ لم يلدْها من زُرارةَ مَعْبَدُ
ربيبةُ دأياتٍ ثلاثٍ رَبَبْنَها ... يلقِّمنها من كلِّ سُخْنِ ومُبْرِدِ
إذا انتهبت أطعمنها وسَقَيْنَها ... وإن أخذتها نعسةٌ لم تُسَهَّد
__________
(1) ديوان الخوارج: 13 والشعر لعيسى بن فاتك(1/54)
وشبَّتْ فلا الأترابُ ترجو لقاءَها ... ولا بيتُها من سامرِ الحيّ موعد(1)
وللبنت في قصيدة مالك بن الريب صورة واضحة المعالم أيضاً، أكثر الشاعر فيها من الإشارة إلى ابنته وحديثها معه وسؤالها له، مبيناً بذلك مشاعر هذه الابنة نحو والدها، وخوفها عليه من الأذى، وحدسها القوي بمستقبلها الحزين الذي ينتظرها بسبب طبيعة حياة والدها، وتنقله الدائم، وتعرضه لأزمات مختلفة:
تقولُ ابنتي لما رأَتْ وَشْكَ رحلتي ... سفارُك هذا تاركي لا اباليا(2)
ويخاطبها مستشعراً يتمها في دموعها، مصوراً كيف تحز قلبه بهذه الدموع حزّاً، وسائلاً الله تعالى أن يدفع عنه ريب الزمان، فيعود إليها، يقول:
ولقد قلتُ لا بنتي وهيَ تبكي ... بدخيلِ الهمومِ قلباً كئياً
وهي تذري من الدموعِ على الخديّنِ ... من لوعةِ الفراقِ غروبا
عبراتٍ يكدْنَ يجرحنَ ما جُزْ ... ن به أو يدعنَ فيه نُدوبا
حذرَ الحتفِ أن يُصيبَ أباها ... ويلاقي في غير أهلٍ شَعوبا
اسكتي قد حززتِ بالدمعِ قلبي ... طالما حزَّ دمعُكنَّ القلوبا
فعسى اللهُ أن يدافعَ عني ... ريبَ ما تحذرينَ حتى أؤوبا(3)
فإذا غابت الأم ندبت الفتاة نفسها لرعاية والدها، والتفكير فيما يعتريه، وحاولت أن تخفف من وطأة الحياة عليه. وها هي ذي ابنة الراعي النميري قلقة مضطربة محزونة تسأل والدها عن قلقه وهمومه، وترقبه بعين عطوف رحيم، وتنكر ما تراه من ضجره وسهده. يقول على لسانها:
ما بالُ دَفِّكَ بالفراشِ مذيلا ... أقذى بعينكَ أم أردتَ رحيلا
__________
(1) ديوان الفرزدق: 141 وفي البيت الثاني والثالث إقواء. ابن عاصم: قيس بن عاصم المنقري أحد أمراء العرب الموصوفين بالحلم والشجاعة وكان شاعراً. معبد بن زرارة: فارس جاهلي رئيس بني تميم كان واسع الثروة. الدأيات: أراد هنا من أشرفن على تربية ابنته، السامر: المحدث ليلاً أراد أنها ممنعة لا يزورها أحد.
(2) شعراء أمويون: 43
(3) المصدر السابق 15(1/55)
لما رأَتْ أرقي وطولَ تلدُّدي ... ذاتَ العشاءِ وليليَ الموصولا
قالت خليدةُ ما عراكَ ولم تكنْ ... أبداً إذا عَرتِ الشؤونُ سؤولا
أَخُليد إن أباكِ باتَ وسادَهُ ... همّانِ باتا جَنْبَةً ودخيلا(1)
وصور هؤلاء الشعراء خوفهم على بناتهم في الحرب، وفخروا بحمايتهن وحماية أمهاتهن، وتباهوا بعدم تركهن لمن يعبث بهن، على نحو ما نرى في شعر يزيد بن مفرّغ الحميري، في قصيدة يهجو فيها عبيد الله بن زياد ويفخر بنفسه وحمايته لنسائه، ويؤكد أنه لا يتركهن للفرار عجزاً عن حمايتهن:
وقد يُقْتَلُ المرءُ لم يُسْلمْ حليلَتَهُ ... ولم يقلْ لابَنتيْه استعرضا البينا
ولم يَذَرْ أُمَّهُ في الدارِ والهةً ... قد استجارَ لها إذْ هُمْ يُجارُونا(2)
وقد يُغلَبُ الشاعر على أمره، فلا يستطيع حماية بناته، ولا دفع الخطر عنهن، فلا يملك إلا أن يذكر ما كان من أمرهن كما فعل العديل بن الفرخ عندما قدم عامل للحجاج في طلب العديل فلم يقدر عليه، فاستاق إبله، وأحرق بيته، وسلب امرأته وبناته وأخذ حليهن، فقال العديل يستعرض كرامة بناته ونعمتهن ويذكر ما كن يلبسن من أنواع الزينة والحلي:
سَلبْتَ بناتي حَليَهُنَّ فلم تَدَع ... سواراً ولا طوقاً على النحرِ مُذهَباً
وما عزَّ في الآذانِ حتى كأنما ... تعطل بالبيضِ الأوانسِ ربربا
عواطلُ إلا أن تَرى بخدودِها ... قسامةَ عشقٍ أو بناناً مخضّباً
فككتَ البرينَ عن خدالٍ كأنها ... براديّ غِيْلٍ ماؤهُ قد تصبّبا
من الدرِّ والياقوتِ عن كلِّ حُرَّةٍ ... ترى سمطهَا بين الجمانِ مثقَّبا(3)
__________
(1) شعر الراعي النميري: 124 دفك: جنبك، مذل المريض مذلاً: فهو مذل إذا لم يتقارّ من الضجر تلدد تلفت وتحيرّ. خليدة: ابنته ليلى الموصول: الطويل، جنبة ودخيلا: أرادهمّا داخل القلب وآخر قريباً من ذلك كالضيف إذا حلّ بالقوم فأدخلوه فهو دخيل وإن حلّ بفنائهم فهو جنبةٌ
(2) ديوان يزيد بن مفرغ :52.
(3) شعراء أمويون: 294(1/56)
ويمكن أن أحمّل الأبيات معنى الدعاية والإعلان عن نعمة بناته ترغيباً فيهن.
وقد يغلو الأب في حرصه على مستقبل بناته، ويتشدّد في اصطفاء من يرضى بهم أزواجاً لهن، فيجلب لهن الشر من حيث أراد الخير على نحو ما نعرف من أمر نصيب الشاعر الأسود الذي أورث بناته لونه الأسود، وكان يحبهن حباً شديداً، ويربأ بهن عن العجم ولا يرغب فيهن عن العرب، فبقين عانسات، وصرن مثلاً للبنت يضن بها أبوها فلا يرضى من يخطبها ولا يرغب فيها من يرضاه لها وكان يقول فيهن:
ولولا أنُ يُقالَ صَبَا نُصيبٌ ... لقلتُ بنفسيَ النَّشَأُ الصغارُ
بنفسيَ كلُّ مهضومٍ حشاها ... إذا ظُلِمَتْ فليس لها انتصارُ(1)
ويكاد يكون أبو النجم العجلي نسيج وحده في حديثه عن ابنته، وفي وصاياه لها، وما أظنه إلا ساخراً فكهاً طريفاً قاصداً إلى الضحك والإثارة فيما قال، فهو يرسم لابنته صورة تمتزج فيها عاطفة الأبوة بروح الدعابة والمرح، فنراه يسخر من ابنته وهو تارة يهزأ من شكلها وتارة يوصيها بعض الوصايا التي تضمن لها حياة سعيدة إذا ما تزوجت. وشكلها على رأي والدها:
كأنَّ ظلاّمةَ أختَ شيبانْ
يتيمةٌ ووالداها حَيَّان
العنقُ منها عُطل والأذنان
والرأسُ قَمْلٌ كلُّه وصئبان
وليس في الرِجْلينِ إلا خيطان
وقُصّة قد شيَّطَتْها النيران(2)
وأما وصيته الفريدة فهي:
أوصيكِ يا بّنتي فإني ذاهبُ
أوصيكِ أنْ تَحمدَك القرائبُ
والجارُ والضيف الكريمُ الساغبُ
لا يرجعُ المسكينُ وهو خائبُ
ولا تني أظفارُكِ السلاهبُ
منهنَّ في وجهِ الحماةِ كاتبُ
والزوج إنَّ الزوجَ بئسَ الصاحب(3)
__________
(1) ثمار القلوب: 222
(2) ديوان أبي النجم العجلي 223 ظلامة: اسم ابنته، العاطل: التي لا حلي لها. القصُة: مقدمة الرأس وهي صورة يفاكه بها هشام بن عبد الملك.
(3) المصدر السابق 66 السلاهب: الطوال(1/57)
فأبو النجم -كما نرى- لا يكتفي بأن تظفرا بنته وجه حماتها، ولكنه يسرف في وصيته فيوصيها -وهي من هي فتنة وجمالاً!! بزوجها شرّ وصاة، ويراه "بئس الصاحب" ولست أدري من الذي ظفر بهذا الجمال، ودفع مهره الغالي.
وفي وصية أخرى يكرر على مسامع ابنته ضرورة سب الحماة والابتعاد عنها، وينبهها على وجوب ضربها بحجر ملء كفها، ويحدد لها أماكن الضرب على جبينها ومرفقيها، وتخفي الأرجوزة ضمن دعابتها الطريفة وضعاً اجتماعياً معروفاً في المجتمع العربي في عصوره المختلفة، فما أكثر ما تندّر العامة -وفي التندّر مقادير من الواقع- بعلاقة المرأة بحماتها يقول موصياً ابنته:
سُبّي الحماةَ وابهتي عليها
ثم اقرعي بالوَدِّ مِرْفقيها
وأوجعي بالفهر ركبتيها
وركبتيها واقرعي كعبيها
ومرفقيها واضربي جنبيها
وظاهري النذّر لها عليها
لا تخبري الدهرَ به ابنتيها
وأَغلقي كفَّيك في صُدغيها(1)
أما الصمة القشيري فيتناول صورة الفتاة من جانب آخر، فيظهر شدة حاجة الفتاة الصغيرة إلى والديها، بسبب ضعفها وعاطفتها التي تجعلها أكثر تعلقاً بأهلها، وذلك عندما أراد أن يصف وجده وشغفه بمحبوبته فلم يهتد لمشبه أقرب إلى حالته من صورة الفتاة التي يفارقها أهلها فتبدو حيرتها وضعفها وحاجتها، كذلك كان تعلقه بمحبوبته:
ووجدي بطيا وَجْدُ بكرٍ غريرةٍ ... على والديها فارقاها فَجنُتِ(2)
ولكن هذه الطفلة قد شبت الآن وأصبحت جويرية، فهل كانت حاجتها إلى الأسرة ورعاية الأهل كبيرة كما تصورها الصمة منذ قليل وكيف تصرفت بأمور قلبها وأحلامها بعيداً عن الأسرة وحصارها؟
__________
(1) ديوان أبي النجم: 230
(2) شعر الصمة القشيري: ق9(1/58)
إن الواقع الشعري يشير إلى أن هذه الفتاة لم تبتعد عن الأسرة وإشرافها التربوي المباشر إلا فيما ندر، إذ كانت دائماً محاطة (بعيداً عن الأسرة) بمجموعة من الأتراب والنساء الصديقات أو الجارات، وتكاد صورتها منفردة لا تبدو إلا كحلم في لوحة طيف أو خيال طارئ. وكانت الإشارة إلى الخوف من الأهل والوشاة والرقابة تتضمن تأكيد مسؤولية الأسرة والأهل في حماية الفتاة ورعايتها، والاستمرار في مراقبتها خشية الانزلاق إلى مواطن الشبهات، ومهاوي الخطر والخطيئة.
ويرسم الشعراء صورتين لهذه الفتاة الشابة، فهي مغامرة جريئة، تتحدى وتخطط وتحتال وتنفذ ما تريد، كما تبدو في بيئة المدن الحجازية، وهي خجولة خائفة مترددة لا تستطيع التحرك بعيداً عن عيون أسرتها إلا بشق الأنفس، كما تبدو في بيئة البادية.
ألم تكن عزة بنتاً غريرة عندما علقها كثّير وهام في حبها، في اعترافه هو:
وعُلّقْتُها وَسْطَ الجواري غريرةً ... وما قُلّدَتْ إلا التميمَ المنظّما(1)
ونراه ينتظر ويتابع نموها، وملاحظته لكل ذلك في قوله من القصيدة ذاتها:
إلى أَنْ دَعَتْ بالدِّرع قبلَ لِداتِها ... وعادتْ تُرى مُنهنَّ أبهى وأفخما
وتكاد صورة عزة البنت لا تفارق خيال كثّير الذي يسترسل بوصف شبابها وملابسها وأخلاقها، يبين كيف أسرعت إلى الاكتمال والأنوثة قبل رفيقاتها:
نظرتُ إليها نظرةً وَهْيَ عاتقٌ ... على حينِ أنْ شَبَّتْ وبانَ نهودُها
وقد دَرّعوها وَهْيَ ذاتُ مؤصدٍ ... مجُوبٍ ولمّا يَلْبَسِ الدِّرعَ رِيدُها(2)
ورقابة الأهل وتدخلاتهم في مصير بناتهم منتشرة على امتداد صفحات الشعر العذري والحضري على اختلاف البيئتين اجتماعياً وحضارياً ومادياً.
__________
(1) ديوان كثير: 134
(2) المصدر السابق: 200 العاتق الجارية أول ما تدرك ولم تتزوج، درعوها: ألبسوها الدرع وهو ثوب تلبسه الجارية الصغيرة في بيتها، المؤصد: من الأصدة وهي قميص صغير للفتاة الصغيرة. مجوب: مقوّر الجيب. الريد: الترب أو القرين.(1/59)
فهذه ليلى تحجب عن قيس ويحول أمره إلى السلطان بشكاية من والدها، فيأمر السلطان بهدر دمه إن هو زارها استجابة لرغبة أسرتها في حصاره ومنعه:
ألا حُجِبَتْ ليلى وآلى أَميرُها ... عليّ يميناً جاهداً لا أَزورُها
وأَوعدَني فيها رجالٌ أَبرُّهُمْ ... أبي وأبوها خُشِّنتْ لي صُدورها
على غير شيءٍ غيرَ أَنّي أُحِبّها ... وأنّ فؤادي عند ليلى أَسيرُها(1)
ويشير في قصيدة أخرى إلى موقف الأهل ونصائحهم لأبنائهم، وتوجيههم لهؤلاء الأبناء إلى الاختيار الصحيح، واتقاء المشاكل، والرضا بما قدر عليهم وكتب:
أرى أهلَ ليلى لا يريدونني لها ... بشيءٍ ولا أهلي يريدونها ليا
قضى اللهُ بالمعروفِ منها لغيرنا ... وبالشوقِ والإبعاد منها قضى ليا(2)
وتظهر بثينة في شعر جميل مرتبكة خائفة محاصرة بالأهل والأقارب، ونراه من أجل إرضائها والحفاظ عليها يتجشم أموراً ما كان يرضاها، كما يسرد لنا قائمة بالمحاذير التي يخشاها وتخشاها هي معه، بل هي تطلب ذلك منه مداراة لوضعها وسمعة أسرتها:
وأَعْرِضْ إذا لاقيتَ عيناً تخافُها ... وظاهِرْ بِبُغْضٍ إنّ ذلك أَسترُ
فإنّك إن عرّضتَ فينا مقالةً ... يزِدْ في الذي قد قلتَ واشٍ مُكَثّر
وينْشُرُ سراً في الصديق وغيرهِ ... يعزُّ علينا نشرُهُ حينَ يُنْشَرُ
ولكنني، أَهلي فِداؤك أَتّقي ... عليك عيونَ الكاشحينَ وأحذَرُ
وأخشى بَني عمّي عليكَ وإنما ... يخافُ ويتقي عرضَهُ المتفكّرُ(3)
ويكثر جميل من مداراة الناس وإظهار غير ما في قلبه حرصاً على حبيبته وشرفها.
وأشد من يخافهم أسرتها وأقاربها، فإذا التقيا فإنما يلتقيان على حذر وخوف:
أرانيَ لا ألقى بثينةَ مرةً ... من الدهرِ إلاّ خائفاً أو على رَحْلِ
وربما حرمها وهو المحب، ونأى عنها وقلبه معلّق بها، فإذا غفلت العيون عنهما عادا إلى ما يحبان:
__________
(1) ديوان قيس بن الملوح: 146.
(2) المصدر السابق: 306.
(3) ديوان جميل: 67(1/60)
فأصرمها خوفاً كأني مجانبٌ ... ويُغْفَلُ عنّا مرةً فنعودُ(1)
وسبب ذلك أن أهلها غُيرٌ يودون قتله:
ولو أنّ ألفاً دونَ بثَنة كلُّهُمْ ... غيارى وكلٌّ مزمعونَ على قتلي(2)
وهو ما لاقاه قيس في حب ليلى من أهلها وأقاربها، وتهديدهم له ووعيدهم خشية عليها وحرصاً على سمعتها:
أما تختشي من أُسْدِنا فأجبتُهُمْ ... هوى كلِّ نفسٍ أينَ حلَّ حبيبُها(3)
ومع كره أهلها له فإنهم يدارونه أحياناً مثلما يقول:
إذا ما رأوْني أظهروا لي مودّةً ... ومثل سيوفِ الهندِ حينَ أَغيبُ(4)
وفي حرصه عليها وخوفه يقول:
أُبَعِّدُ عنكِ النفسَ والنفسُ صَبَّةٌ ... بذكركِ والممشى إليكِ قريبُ
مخافة أن يسعى الوشاةُ بظنَّة ... وأُكرِمُكُمْ أنْ يَستريبَ مُريبُ(5)
وحال كثّير ليس أفضل من حال أصحابه في علاقته بأهل عزة، ولكنه يداريهم إكراماً لها:
وإنّي لأرعى قومَها من جَلالها ... وإن أظهروا غشاً نصحتُ لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنتُ لقومِها ... صديقاً ولم أحمِلْ على قومِها حقدي(6)
وكان لأسر الشعراء أنفسهم مواقف واضحة من علاقة أبنائهم بهؤلاء الفتيات وكانوا يتدخلون لوضع حد لتلك العلاقة، على نحو ما يعلن قيس ليلى:
لقد لامني في حبِّ ليلى أقاربي ... أبي وابنُ عمي وابنُ خالي وخاليا(7)
حتى إن قومه غضبوا عليه وأنكروا علاقته بها:
وأنتِ التي أغضبتٍ قومي فكلُّهُمْ ... بعيد الرضا واني الصدودِ كظيمُ(8)
__________
(1) المصدر السابق: 27
(2) المصدر السابق: 72
(3) ديوان مجنون ليلى: 72
(4) المصدر السابق: 53
(5) المصدر السابق: 51
(6) ديوان كثير: 446
(7) ديوان مجنون ليلى: 306
(8) المصدر السابق: 247(1/61)
كان هذا هو وضع الفتاة في بيئة البادية المحافظة، وقد لاحظ الباحثون هذه الروح المحافظة وعللّوها، فربط الدكتور يوسف خليف بين هذه الروح والتاريخ الاجتماعي للبادية، فقد كانت هذه البادية تعيش في عزلة نسبية عن التيارات الحضرية المتدفقة في مدن الحجاز، وكانت تحيا حياة شبيهة بحياة الجاهلية في اعتمادها على الرعي وتتبع مساقط الغيث ومنابت الكلأ، وفي أعرافها وعاداتها وتقاليدها، وقد ورثت عن الجاهلية النظرة إلى المرأة ثم عزّز الإسلام هذه النظرة، ولهذه الأسباب مجتمعة كان هذا المجتمع محافظاً شديد المحافظة(1)
أما صورة الفتاة في بيئة المدن الحجازية، فكانت تختلف عن صورة أختها البدوية بعض الاختلاف، فهي مثلها واقعة تحت رقابة الأسرة ورقابة المجتمع، ولكنها رقابة أخف وَطْأ، من رقابة المجتمع البدوي، فنحن نرى هذه الفتاة في شعر المدن الحجازية تعشق وتدافع عن عشقها وتراسل وتحتج وتعتب، ولكن كما قلت ظلت رقابة المجتمع بارزة، فهي في معظم الأحيان خارج نطاق الأهل لكنها محاطة بمجموعة من الصديقات فكأنهن يقمن بهذه الرقابة من وراءَ وراء.
وقد كان شاعر الحجاز الأول عمر بن أبي ربيعة حريصاً- على الرغم مما قيل في غزله -وفي كثير من قصصه الغرامية على هذا اللون من الرقابة، وقلّما نرى صاحبته وحدها، بل هي في مجموعة من صديقاتها:
ذكّرتني الديارُ نُعْماً وأترا ... باً حِساناً نواعماً كالصُّوارِ
آنساتٍ مثلَ التماثيلِ لُعْساً ... معَ خَودٍ خريدة مِعطارِ(2)
ويقول مصوّراً الموقف ذاته:
للّتي قالَت لأترابٍ لها ... قطُفٍ فيهن أَنْسٌ وَخَفَرْ
إذْ تَمَشّينَ بجوِّ مُوْنقٍ ... نيرّ النبتِ تغشَّاه الزّهر(3)
__________
(1) في الشعر الأموي: دراسة في البيئات 173
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 134
(3) المصدر السابق: 150(1/62)
وأنا أعلم أن هؤلاء الصديقات ربما تبادلن الأحاديث عن عمر نفسه ولكن ذلك لا ينفي أنهن وهن مجتمعات أقرب إلى التصون، وأبعد عن الشبهات في نظر المجتمع. ويصور أماني هؤلاء الفتيات وهن يخططن لزيارة أحبابهن:
ومشي ثلاثٍ إلى زائرٍ ... خرجنَ إلى عاشقٍ زُوَّرَا
سمونَ يَقُلْنَ ألا ليتنا ... نرى ليلنا دائماً أَشهُرا(1)
وهو منظر مألوف في لوحات عمر الشعرية(2) بل نحن نرى عمر أحياناً يصور حبيبته محاطة بالحراس والرقباء وقد ضربوا لها القباب الحمر، وأحاطوها من كل جانب.
وليس يخفي ما في هذا التصور الشاعري من الخيال، ولكنه موصول بالواقع بعض الوصل، فقد كان عمر حريصاً على أن تكون حبيبته من سراة الناس وأشرافهم، بعيدة عن السوقية والتبذل، وكان حريصاً أيضاً على أن يخلع على حبه روح البداوة ومثالية الصحراء، لأنه يعيش في مجتمع لا يزال نبض البداوة يجري في عروقه على الرغم من التحضر الذي أصاب هذا المجتمع يقول:
ضربوا حُمْرَ القبابِ لها ... وأُحيطَتْ حولها الحُجُرُ
حولَها حُرّاسُ ذي شرفٍ ... نوّمٌ من طولِ ما سهروا
أَشبهوا القتلى وما قُتِلوا ... ذاك إلاّ أَنّهم سمروا(3)
وربما ألح عمر على إظهار شدة الحراسة، ليفخر بالمغامرة الناجحة وليتباهى بأنه استطاع الوصول إلى هذه المحبوبة على الرغم مما يحيط بها من الحراس والخطر.
وكثيراً ما أشار إلى غيرة الأهل على ابنتهم وهي غيرة تقترن بالسخط والغضب وروح الخصومة يقول:
إذا زرتُ نعماً لم يزلْ ذو قرابةٍ ... لها كلّما لاقيتُها يتنمَّرُ
عزيزٌ عليهِ أَنْ أُلمّ ببيتها ... يسرُّ ليَ الشحناءَ والبغضَ يُظِهرُ(4)
__________
(1) ديوان عمر: 174
(2) ويتكرر ذلك في صفحات الديوان: 161-162-170-173-179-183-184-187-202-248
(3) المصدر السابق: 160
(4) المصدر السابق: ق1(1/63)
وفي قصته "ليلة ذي دوران" يصور هذا الحصار الاجتماعي الذي يحيط بنعم، ويحرص على تحقيق المغامرة بالوصول إليها وتخطي جميع الصعاب(1) وقد تحتال هذه الفتاة على ما هي فيه من الحصار، فتراسله طلباً للقاء، ولا تنسى أن تحذره الأعين التي تريدها:
دَسّتْ إليّ رسولاً لا تكنْ فَرِقاً ... واحذرْ وقيتَ وأَمرُ الحازم الحذرُ(2)
والتحذير الأخطر من أهلها وأقاربها:
إنّي سمعتُ رجالاً من ذوي رحمي ... همُ العدوّ بظهرِ الغيبِ قد نذروا
أنْ يقتلوكَ وقاكَ القتلَ قادرُهُ ... واللهُ جارُكَ مما أجمعَ النَّفَرُ
ولم يكن عمر بدعاً في أمر الرسول والزيارة، فها هو ذا الأحوص يزعم أيضاً أن صاحبته قد سعت إليه برفقة صواحبها تريد لقاءه، فإذا هو يتغزل بهن جميعاً:
خمس دسسن إليّ في لطفٍ ... حور العيون نواعمٌ زُهْرُ(3)
ولا تنسى التي تريده منهن أن تحذره العيون والرقباء، بل هي لا تكتفي بالتحذير، وإنما تسيّر أمامها من يحرسها، ويبعد الأخطار عنها:
من عاشِقَيْنِ تراسلا وتواعدا ... بلِقا إذا نجمُ الثرّيا حلّقا
بَعَثَا أمامَهما مخافةَ رقبةٍ ... رصَدَاً فمزَّقَ عنهما ما مزَّقا(4)
وليست تختلف صاحبة العرجي عن صواحب الأحوص وعمر، فهي محاطة بمجموعة من صديقاتها يدبرن معاً المجالس البهيجة، ويحتطن من الرقباء والوشاة:
حوْرٌ بعثنَ رسولاً في ملاطفةٍ ... ثقْفَاً إذا أسقط النسَّاءَةُ الوَهِمُ
إليَّ أنْ إيْتِنْا هُدءاً إذا غَفَلَتْ ... أحراسُنا افْتَضحْنا إن همُ عَلِمُوا(5)
وكان لهن ما أردن وتم اللقاء وسررن به، وأمضين وقتاً حلواً برفقته وعندما حلّ الفراق قال:
وَدَّعتُهنَّ ولا شيءٌ يُراجعُني ... إلاّ البنانُ وإلا الأعينُ السجمُ(6)
__________
(1) ديوان عمر: 95-96-97-98-99-100-101
(2) المصدر السابق: 113
(3) ديوان الأحوص: 113
(4) المصدر السابق: 162
(5) ديوان العرجي: 3
(6) المصدر السابق: 7(1/64)
ومع هذا التحرر والتفلت الجزئي من قيد الأسرة، وما نالته المرأة من ذلك التحرر والتحضر في حياتها عامة، فإن الأسرة لم تكفّ عن مراقبة بناتها، والتضييق عليهن. غير أننا نلحظ بعض المصالحة النفسية بين الفتاة وأسرتها أحياناً، فصاحبة العرجي تصرّح له بما كان منها، فقد أعلمت أهلها بما تريد منه وما يريد منها:
ثم قالت قد كنتُ آذنتُ أهلي ... قبل هذا على الذي قد هويتا(1)
ولكن هذه المصالحة كانت بحدود ضيقة على ما يبدو، فما يزال أهل الفتاة غضباباً عليه يترقبونه:
يا صاحِ هذا العجبُ ... لكلِّ أمرٍ سببُ
أهلُ سُليمى غضبوا ... فيمَ تراهم عتبوا
لم نأتِ سخطاً لهمُ ... ولا لدينا قُصبوا(2)
ولم تكن حاله خيراً من حالها فهو في اضطراب وقلق، يعصي أهله وذويه، ولا يسمع نصيحتهم في حبها:
كم قد عصيتُ إليكِ من مُتَنصِّحٍ ... داني القرابةِ أو وعيدِ أَعادي(3)
ومعاناة الأحوص لا تخرج عن هذه المعاناة ولا يبتعد حاله عن حال العشاق جميعاً فيما يكون بين أسرة الفتاة وبينه من الخصام وسوء التفاهم، وكذلك بينه وبين أهله بسببها مما يؤدي إلى توتر العلاقة بين الأسرتين والأقارب جميعهم:
خليلانِ باحا بالهوى فتشاحنتْ ... أقاربُها في وصلها وأقاربُهْ(4)
وبلغ حرصهم على الفتيات وأخلاقهن أنهم خافوا عليهن شعر عمر بن أبي ربيعة لأن فيه سحراً يمس قلوبهن وقد يكون سبباً في انحرافهن. ومما نقل عن هشام بن عروة أنه قال:
"لا ترووا فتياتكم شعر عمر أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطاً"(5)
__________
(1) المصدر السابق: 159
(2) المصدر السابق: 100 قصبوا: عيبوا.
(3) المصدر السابق: 96 ويذكر ظلم أهلها له في ص78-36-5
(4) ديوان الأحوص: 76
(5) الأغاني: 1/35/(1/65)
وكان ابن جريج أكثر دماثة في تحذيره عندما قال: "ما دخل على العواتق في حجالهن شيء أضر عليهن من شعر عمر"(1). وتحفل مصادر الأدب -ولا سيما الأغاني- بهذه الأخبار التي أكتفي منها بهذا الخبر ورد عن ظبية مولاة فاطمة بنت عمرو بن مصعب أنها قالت:
مررت بعبد الله بن مصعب وأنا داخلة منزله وهو بفنائه، ومعي دفتر ودعاني فجئته، وكان سألني ما هذا معك، فقلت شعر عمر بن أبي ربيعة فقال: ويحك تدخلين على النساء بشعر عمر، وإن لشعره لموقعا في القلوب ومدخلاً لطيفاً لو كان شعر يسحر لكان هو فارجعي به"(2).
وقد لاحظ الباحثون ما عرفته بيئة المدن الحجازية من التحرر، وبالغ به بعضهم حتى أوشك أن يجعل من القرن الثاني الهجري صورة من عصرنا الراهن، وحاول هؤلاء وأولئك تعليل هذا التحرر فربطوا بينه وبين التاريخ الاجتماعي لتلك المدن، فقد تدفقت فيها تيارات حضرية شتى، فقد ظلت تتدفق عليها أفواج السبايا والجواري الأجنبيات طوال زمن الفتوح الإسلامية وكن من أجناس شتى، فحملن معهن مواهبهن وتقاليد أقوامهن وعاداتهن، وكانت الأموال تتدفق على هذه المدن طوال عصر الرسول ص وعصر الخلفاء الراشدين، بل إن الأمويين أنفسهم كانوا حريصين على أن تصل أموالهم إلى أهل هذه المدن، وانصرف أهلها إلى التجارة بعد أن حيل بينهم وبين السياسة، ينمّون ثراءهم التليد الذي ورثوه عن آبائهم تجار العصر الجاهلي بثرائهم الطارف- على حد تعبير الدكتور يوسف خليف-(3). وارتفعت موجة اللهو والغناء في هذه المدن، وكثرت دور السماع فيها، فغرقت في الترف إلى آذانها على حد تعبير الدكتور شوقي ضيف-(4) ولن نستغرب إذا صحّ بعض هذا لا كله أن تظفر المرأة في مدن الحجاز ببعض الحرية.
__________
(1) المصدر السابق: /35/
(2) المصدر السابق: 1/37
(3) في الشعر الأموي: 144-145
(4) الشعر والغناء في المدينة ومكة: 80-94-172-187(1/66)
وكثر دوران المعاني التي رأيناها في غزل البادية والمدن، في شعر الشعراء الآخرين في البيئات المختلفة، فنرى في شعر جرير ازورار قوم صاحبته وضغنهم عليه:
وما زالَ الفؤادُ إليكِ صَبّاً ... على ضِغْنٍ لقومِكِ وازورارِ(1)
كما نراه يخشى زيارتها من كثرة العيون والرقباء:
ونرهبُ أن نزورَكُمُ عيوناً ... مصانعةً لأهِلك وارتقابا(2)
ولم يستفد من مصانعته لهم فقد آلوا عليها ألا تكلمه:
إنّ الزيارةَ لا تُرجى ودونَهُمُ ... جهْمُ المحيّا وفي أشبالِهِ غَضَفُ
آلوا عليها يميناً لا تُكَلِّمُنا ... من غير سوءٍ ولا من ريبةٍ حلفوا(3)
ويحاول اسماعيل بن يسار أن يبرر لصاحبته عدم زيارته لها، فلا يرى سبباً سوى تجهم أهلها وغلظة تعاملهم معه فيقول لها:
منعَ الزيارةَ أنَّ أهلَكِ كلَّهم ... أبدوا لزورِكِ غِلظةً وتَجَهُّما(4)
ويتساءل مستنكراً ما الذي يضرهم لو أنه زارها وحيّاها فيقول في القصيدة ذاتها:
ما ضَرّ أَهلَكِ لو تَطوَّفَ عاشقٌ ... بِفناءِ بيتِكِ أو أَلمَّ فسلَّما
وتبدو الأسرة الكبيرة مجتمعة إلى جانب الأب والأخ فيظهر دور الخال والعم في تشديد الحصار والتضييق على هذه الفتاة التي يحاول اسماعيل بن يسار زيارتها لكنه لا يفلح في ذلك على ما يعترف:
ودونَ ما حاولتُ إذا زرتُكُمْ ... أخوك والخالُ معاً والعمُ(5)
ويصرح يزيد بن الطثرية أنه يطيل الصدّ عنها حذراً عليها من العيون التي ترقب الأخطاء، والآذان التي تصغي إلى الأسرار فلا تتأنى في بثها وإذاعتها:
برغمي أطيلُ الصدَّ عنها إذا بدت ... أحاذِرُ أسماعاً علينا وأَعينا(6)
__________
(1) ديوان جرير: 622
(2) المصدر السابق: 649
(3) المصدر السابق: 168
(4) ديوان اسماعيل بن يسار: 53
(5) المصدر السابق: 51
(6) ديوان يزيد بن الطثرية: 109(1/67)
وحتى عندما ينجح في رؤيتها كانت دائماً مراقبة محروسة "وليس يرى إلا عليه رقيب"(1) وتبدو هي نفسها عالمة بما يدور حولها في أسرتها وما يحيكون ضده فتبعث إليه تحذرّه وتدعوه للتسلح ضدهم يقول:
دَسّتْ رسولاً أَنّ حوليَ عُصبةً ... همُ الحربُ فاستبطنْ سلاحَ المقاتلِ(2)
لكنه لم ينجح في الفوز بها على الرغم من تسلحه وتحذيرها له، فها هو يعترف بأنها أضحت بعيدة "وحالت أعاد دونها وحروب"(3)
ويحكي القطامي قصته مع مجموعة من العذارى اللواتي جئن لزيارته تحت جناح الظلام، ويقص عجلاً بعض ما حاوله معهن من تنازع ومعابثة، ويذكر حذرهن وتخوفهن قائلاً:
وسرب عذارى بين حيَيّن موهنا ... منَ الليلِ قد نازعتُهنّ ثيابا
وقلنا لنا أهلٌ قريبٌ فنتقي ... عيونَ يقاظى فيهمُ وكلابا
دَبيبَ القطا حتى اجتعلن نحيزةٌ ... من الليلِ دون الكاشحينَ حِجابا(4)
وطفح كيل الأهل وتدخلهم في حب أبي دهبل الجمحي، وتكثّروا عليه القول، ففاضت نفسه بوصفهم والدعاء عليهم فتمنى لو سقطوا في لجّة بحر هائج لأنهم أضرموا نار الفرقة بينهما يقول في ذلك:
فليتَ كوانيناً من أهلي وأهِلها ... بأجمعهم في لُجَّةِ البحرِ لجّجوا
هم منعونا ما نحبُّ وأوقدوا ... علينا وشبُّوا نارَ صرمٍ تَأَجَّجُ(5)
ويبدو شديد الاستغراب لما هما فيه من جفاء وصدود، بل إنه يستعظم أن يكونا ببلدة واحدة ولا يستطيعا الكلام بسبب ما فرض عليهما من حصار ورقابة:
أليس عظيماً أن نكون ببلدةٍ ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلَّمُ(6)
__________
(1) المصدر السابق: 49
(2) المصدر السابق: 102
(3) المصدر السابق: 49
(4) ديوان القطامي: 159. اجتعلن: جعلن. النحيزة: هنا ظلمة الليل.
(5) ديوان أبي دهبل: 54 الكوانين: الثقلاء من الناس، وقيل الكانون الذي يجلس حتى يتحصى الأخبار والأحاديث لنقلها.
(6) المصدر السابق: 113
... ثاوٍ: مقيم.(1/68)
وبعد، فلعلّ الصفحات السابقة كشفت لنا عن صورة المرأة في الأسرة العربية زمن الأمويين كما رسمها شعراء ذلك العصر. فقد رأيناها أمّاً ترعى أبناءها وتسهر على تنشئتهم وإعدادهم للحياة إعداداً طيباً يبعث الفخر والاعتزاز في النفس، ورأيناها زوجاً أثيرة لدى زوجها، تدبر شؤون بيته وتحاوره في شؤون حياته ورزقه على ما قد يكون في هذا الحوار من المخالفة والشجار، وهي -في أحوالها كلها- تحبه وتحرص عليه، يرمضها الشوق إذا ابتعد، ويُزهيها الحب إذا حضر، تستمع إليه وهو يستعرض مفاخره ومناقبه أمامها فتكون له خير مرآة يرى صورته فيها، وتستبد بها الغيرة حين ترى الجواري ينازعنها زوجها فلا تزداد إلا ارتباطاً به وحرصاً عليه، ورأيناها طفلاً يدرج في كنف والديه ثم جويرية في أول الصبّا تملؤها الأحلام، وتزدهيها الأماني، ويطير بها الحب إلى عوالم سحرّية ملونة، فتشكو ما هي فيه من رقابة وحصار، وتطمح إلى أن تتخفف من كل قيد، وتتحرر من كل وصاية، وهي في ذلك كله ريحانة قلب والدها وأمها، وموطن شرف أهلها.
( ... ( ... (
الفصل الثاني
المرأة والقبيلة في الشعر الأموي
( ... (
لقد ابتعدت الحياة في العصر الأمور في نمطها اليومي وفي آفاقها الفكرية عما درج عليه الأجداد فيما سلف من الزمن.
بعد أن استقر الإسلام في النفوس، وتحصنت مبادئه وأهدافه في نبذ الجاهلية ونعراتها ومفاخراتها، وتعالت أو انتصرت الذات الفردية بإثبات وجودها بعيداً عن وزن القبيلة والأسرة وشجرة النسب، وأصبح النجاح الشخصي العامل الأكبر في فضيلة الرجل وأخلاقه.(1/69)
لكن هذا التطور بشقيه الفردي والاجتماعي لم يلبث أن اصطدم بالخلافة الأموية التي جعلت وكدها أولاً في تقوية نظام الحكم وتثبيت أركانه والقضاء على الخارجين عليها والثائرين في وجهها سواء أكانوا في العراق حيث تستقر المعارضة السياسية أم في غيره حيث تثور بين الوقت والآخر الفتن والاضطرابات، فعمدت هذه الخلافة إلى انتهاج سياسة تحقق لها ماأرادت، فأضرمت في النفوس نار العصبية القبلية، ونفخت فيها لتزداد توهجاً واشتعالاً، فقرّبت بعض القبائل منها، وخاصمت بعضها، وأشعلت نار الفتنة بين هذه القبائل، فكثرت الأحلاف القبلية وعادت الحرب جذعة، فكأننا مانزال على مسمع ومرأى من العصر الجاهلي.
وبعبارة واضحة: لقد أراد الأمويون أن يصرفوا أنظار الناس عن أمور الخلافة والسياسة، وأن يكسبوا تأييد القوي، وأن يدفعوه إلى القضاء على غيره، وأن يضربوا القبائل بعضها ببعض، وكانت العصبية القبلية التي مايزال وميض نارها في النفوس خير وسيلة لتحقيق ما أرادوا، "فكان معاوية سبباً قوياً من أسباب استشعار جماعته للعصبية القبلية، فقد مضى يطالب بحق عشيرته الأموية في الأخذ بثأر عثمان وكأنه أحيا قاصداً أو غير قاصد الفكرة القديمة التي كانت تجعل حق الثأر للقبيلة والعشيرة، ومعروف أن الإسلام هدم هذا الحق وحوّله من القبائل والأفراد إلى الدولة، فهي التي تعاقب عليه بما يفرضه دستور القرآن الكريم"(1).
__________
(1) العصر الإسلامي: 230.(1/70)
وكانت هذه الخلافة ((تعمل على تألف القبائل واصطناع رؤوسها بالمال والهبات))(1) ثم أدركت السياسة الأموية ما للمرأة من دور عظيم في إذكاء العصبية وامتداد فتنتها فهي الرمز العام لمجموعة من الحقائق الكبرى: كالأرض والشرف والحياة نفسها. فعمد الأمويون إلى الإصهار إلى الأسر العريقة في الشرف والرفعة من قبائل مختلفة، وعرفوا أثر هذه المصاهرات في تأييد الأسر الحاكمة، وفي تقوية نفوذها السياسي والاجتماعي. فعقدت الأسرة الأموية مع قبيلة كلب اليمنية أقوى قبائل الشام وأكثرها عدداً، مصاهراتٍ مختلفة كان أولها وأهمها أن: "عثمان تزوج بنائلة بنت الفرافصة، وتزوج معاوية ميسون بنت بحدل الكلبية وهي أم ابنه يزيد، وكذلك تزوج مروان بن الحكم ليلى بنت زبان بن الأصبغ الكلبية وهي ابنة عم نائلة. وقد استغل معاوية ذلك في حربه لعلي، لأن الصهر عند العرب كالنسب، ووسع استغلاله إذ ضم تحت لوائه جميع القبائل اليمنية الشامية"(2).
واستمرت المرأة وقوداً للعصبية بين القبائل عن طريق الزواج الذي يعكس أمر التكافؤ بين القبائل على الزوجين، إذ كانت كل قبيلة تزعم لنفسها الشرف الأسمى، ولكنها كانت تضطر أحياناً أن تقيم علاقات بقبائل أخرى لكسب القوة منها وكانت المصاهرات خير وسيلة لتحقيق هذا المأرب.
وظهر أثر تلك المصاهرات، وما تحدثه من وئام ومحبة بين القبائل في نفس خالد بن يزيد حين أصهر إلى آل الزبير. فقد تبدّل شعوره نحو هذه الأسرة التي كانت العدو الأكبر لبني أمية، فغدت أحب أسرة إلى نفسه، وعبّر عن ذلك بقوله:
أُحبُّ بني العوَّامِ طُراً لحبِّها ... ومن أَجلِها أَحببتُ أخوالَها كلبا(3)
__________
(1) العصبية القبلية: 243.
(2) العصر الإسلامي: 203.
(3) العقد الفريد: 6/122.(1/71)
وبسبب ماجرى له من تبدل مشاعره تجاه قوم زوجته دخل على عبد الملك وخوّفه من عاقبة زواج الحجاج من بني هاشم، فأرغم عبد الملك الحجاج على تطليق ابنة عبد الله بن جعفر(1). وهذا يعني أن المرأة استخدمت لأغراض سياسية عن طريق الزواج لربط القبائل بعضها ببعض. فقد حرص الحجاج على الزواج من اليمن ومضر، وزوج ابنه محمداً ميمونة بنت محمد بن الأشعث بن قيس الكندي رغبة في شرفها وجمالها وفضلها، وأراد من ذلك استمالة أهلها إلى مصافاته، وزوج أخته زينب من ثقيف(2).
وفي الشعر الأموي إشارات كثيرة إلى مصاهرات غير متكافئة حصلت بين القبائل العربية، واحتج عليها الشعراء نتيجة حمية العصبية في نفوسهم:
فكان الأحوص شديد الاعتزاز والمباهاة بنفسه، وفي شعره عصبية قبلية واعتزاز عارم، فيرفض زواج ابنة معمر بن زيد وهو أنصاري أوسي ومن قوم الأحوص كان زوج ابنته من صاحب سلطان، ويقوده الموقف إلى استعراض مفاخر أجداده وأمجادهم، ويتذكر كيف كانوا يصهرون إلى سادة قريش وزعمائها، ويحرص والد الفتاة على التفريق بين الزوجين قبل أن تلد الفتاة ويصبح العار وصمة لاتزول:
يا معمرٌ يا بنَ زيدٍ حين تُنْكِحُها ... وتستبدُّ بأمر الغيّ والرَّشدِ
أما تذكرتَ صيفّياً فتحفظَه ... أو عاصماً أو قتيلَ الشِّعبِ من أُحُدِ
أبعدَ صهرِ بني الخطابِ تجعلهمْ ... صهراً وبعد بني العوّام من أسدِ
هبها سليلةَ خيلٍ غير مُقْرِفةٍ ... مظلومةٍ حُبستْ للقيْرفي الجَدَدِ
فكلُّ مانالَنا من عارِ منكحِها ... شوىً إذا فارقْتهُ وَهْيَ لم تلدِ(3)
__________
(1) المصدر السابق: 6/122.
(2) الحضارة العربية الإسلامية: 121.
(3) ديوان الأحوص: 110 يذكر مصاهرة بني العوام من أسد عندما تزوجت نهيسة بنت النعمان حفيد عبد الله بن الزبير وجميلة بنت ثابت حمي الدبر تزوجت عمر بن الخطاب وهي أم ولده عاصم. المقرف: ما كانت أمه عربية وأبوه غير عربي من الخيل ونحوها من البشر.(1/72)
وكانت المرأة في كثير من الأحيان محرّضاً للشعراء على الفخر والهجاء القبليين، فكأنها الشرارة التي تشعل نار العصبية فيستحطب لها الشعراء من كل واد، على نحو مانعرف من أمر النوار وحدراء زوجتي الفرزدق، فعندما خطب الفرزدق حدراء بنت زيق فخر بزواجه وبالمهر الذي قدمه لها، وتناول جريراً بالهجاء المر والسخرية اللاذعة، عندما سمع أنه سينافسه في الزواج من حدراء، ومضى إلى أمه فصورها ممتهنة راعية أغنام، وشبهها بالأتان لابتذالها، ثم صار إلى مضمار الفخر والهجاء القبليين يجري فيه طَلَقاً، فليس آل جرير أكفاء لآل حدراء، بل إنهم ليسوا أكفاء لأحد من الأحرار، فقد اشترط الناس على من يصهرون إليهم شرطاً واحداً ألا يكونوا من قبيلة جرير أو قبيلة محارب:
فلو كنت من أكفاءِ حدراءَ لم تَلُمْ ... على دار مِيّ بينَ ليلى وغالبِ
فنلْ مثلَها من مثلِهم ثم لُمْهُمُ ... بمالَكَ من مالٍ مراحٍ وعازبِ
وإني لأخشى إنْ خطبتَ إليهمٌ ... عليكَ الذي لاقى يسارُ الكواعبِ
ولو قبلوا مني عطيّةَ سُقْتُهُ ... إلى آل زيقٍ من وصيفٍ مقاربِ
هم زوّجوا قبلي ضِراراً وأنكحوا ... لقيطاً وهم أكفاؤنا في المناسبِ
ولو تُنْكِح الشمسُ النجومَ بناتِها ... إذاً لنكحناهنّ قبلَ الكواكب
وما استعهد الأقوامُ من زوجِ حُرَّةٍ ... من الناس إلا منكَ أو من محاربِ(1)
ولا يكاد جرير يسمع هذا الدويّ حتى ينبري لصاحبه مناقضاً، فيعيب على الفرزدق زواجه من حدراء ويؤكد أن هذا الزواج لا يقوم على التكافؤ القبلي، فيفخر بسادات بني تميم المشتركين بينه وبين النوار التي استنجدت به، ويحط من قدر حدراء، ويرى أن الفرزدق قد تنازل عن مكانة قومه حين خطب حدراء:
لست بُمْعطي الحكم عن شف منصبٍ ... ولا عن بناتِ الحنظلييّنَ راغبُ
__________
(1) ديوان الفرزدق: 112,
ضرار ولقيط: من زعماء بن تميم وهما من سادة الجاهلية، وقد فخر بهما الفرزدق كثيراً.
يستعهدون أي يشترطون على من يأتي لمصاهرتهم ألا يكون من قوم جرير كليب أو محارب.(1/73)
أراهُنّ ماءَ المزنِ يُشْفى به الصَّدي ... وكانت مِلاحاً غَيْرَهُنَّ المشاربُ
لقد كنتَ أهلاً إذا تسوقُ دياتِكم ... إلى أل زيقٍ أن يعيبَك عائبُ
وما عدلتْ ذاتُ الصليب ظعينة ... عُتيبْةُ والردْفان منها وحاجبُ
ألا ربما لم نُعْطِ زيقاً بحكِمهِ ... وأدى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ
جزى اللهُ زيقاً وابنَ زيقٍ ملامةً ... على أَنَني في ودِّ شيبان راغبُ
أَأَهديتَ يا زيق بنَ زيقٍ غريبةً ... إلى شرِّما تُهدى إليه الغرائبُ
فأَمثلُ ما في صهرِكم أنّ صهرَكمْ ... مجيدٌ لكم لَيَّ الكتيفِ وشاعبٌ(1)
لقد كانت المرأة في القصيدتين السابقتين -كما نلاحظ- مادة شعرية ثرّة توسّل بها كلا الشاعرين للفخر والهجاء القبليين، كما كانت منبر صراع وتزاحم بين البطون داخل القبيلة الواحدة وهي مقياس التمايز والإحساس العارم الذي يقوم على العصبية.
وبسبب هذا الإحساس العظيم بالسيادة والشرف وطلب الكفاءة في الإصهار "كان بعض الأشراف ممن يصهر إليهم يأنفون من تزويج بناتهم لمن لا يرونهم أكفاء لهم في الشرف وربما عمد الوالي إلى إرغام الرجل على تزويجه ابنته، إمعاناً في إذلال (أرستقراطية) هؤلاء الأشراف، وقمعاً لروح الاستعلاء القبلية في نفوسهم. بل ربما أرغموا الرجل العربي على تزويج ابنته ممن يختارونه لها من الرجال، فحين تزوج عبيد الله بن زياد هند بنت أسماء بن خارجة سيد فزارة عاب محمد بن عمير بن عطارد التميمي ومحمد بن الأشعث على أسماء صنيعه هذا، فما كان من ابن زياد إلا أن أرغم ابن الأشعث على تزويج ابنته، وزوج أخاه عثمان ابنة محمد بن عمير.
__________
(1) ديوان جرير: 809-المنصب الأصل والمرجع، الشف: النقصان، الصدي: العطشان.
... ذات الصليب: حدراء لأن أجدادها كانوا نصارى. ظعينة: امرأة في الهودج. حاجب: هو ابن زرارة. الردفان: هما عتاب وابنه عوف من بني يربوع وكان شأنهما كبيراً عند المناذرة.
... الكتيفة: الضبة من الحديد. وشعب: أصلها المتشعب: المثقب.(1/74)
وأراد الحجاج أن يكافئ عبد الله بن هانئ الأودي على ولائه ونصرته إياه بتزويجه ابنته لأسماء بن خارجة، فأبى أسماء ذلك أنفة، لأنه لم ير ابن هانئ كفؤاً له في الشرف والمنزلة، فما كان من الحجاج إلا أن دعا له بالسياط، وهمّ بضربه، فاضطر أسماء إلى الإذعان.(1)
وأطلت العصبية في مهاجاة بين الكميت الأسدي من مضر وحكيم بن عياش الكلبي من الشام، وتطور الهجاء إلى صورة قبلية كانت المرأة محورها أيضاً، يقول الكلبي فيها:
"ما سرَّني أنَّ أمَي من بني أَسَدٍ ... وأَنَّ ربّيَ نجّاني من النارِ
وأَنَّهم زوّجوني من بناتِهمُ ... وأَنَّ لي كلَّ يومٍ ألفَ دينارِ
فأجابه الكميت نافياً أن تكون أمه أسدية وأنزلها إلى الهوان:
يا كلبُ مالكَ أُمٍّ من بني أسَدٍ ... معروفةٌ فاحترقْ يا كلبُ بالنارِ
لكنَّ أُمَّك من قومٍ شنئت بهم ... قد قَنعوكَ قِناعَ الخزي والعارِ"(2)
وأوقدت المرأة نار العصبية القبلية بين عبد الرحمن بن حسان وبين النجاشي من بني الحارث بن كعب، وعندما تهاجيا، وذلك أن امرأة من بني الحارث بن كعب كانت ناكحاً في المدينة عند رجل من بني مخزوم، وكانت جميلة، وكان ابن حسان يشبب بها فهجاه النجاشي لعصبيته لقبيلته ونسائها(3).
وأحرقت هذه العصبية القبلية قلب بعضهم فملأته الغيرة القاتلة، على ما روى ابن سلام في طبقاته من أخبار الراعي النميري، فقد ذكر أن "امرأة من بني نمير حُسانةً، كانت تظعن مع الراعي إذا ظعن، وتحل معه إذا حلّ. فقطع بطانها لما رحلت فسقط هودجها وعَنِتَتْ، فقال الراعي:
ولم أرَ معقوراً به وَسْطَ مَعشَرٍ ... أقلَّ انتصاراً باللسانِ وباليدِ
ثم إنه ذم من وشى بها، فنسبه إلى أنه ابن أمة لا مروءة له قال:
بَكتْ عينُ مَنْ أذرى دموعَكِ إنَّما ... وشى بكِ واشٍ من بني أختِ مِسْرَدِ(4)
__________
(1) العصبية القبلية: 247.
(2) تاريخ النقائض: 195.
(3) الأخبار الموفقيات: 234.
(4) طبقات فحول الشعراء: 444.
... البطان: الخرم الذي يجعل تحت بطن البعير: يشد به القتب، وعنتت: انكسرت.
... ابن ام مسرد لابن أمه لأنها من الخوارز وخرز القرب وسواها من مهنة الإماء. والمسرد هو المخرز الذي يخرز به. يدعو على الذي فعل ذلك بها أن ينزل به مايبكيه ويحزنه.(1/75)
لقد كانت المرأة رمزاً لشرف القبيلة كما كانت رمزاً لشرف الرجل، وكان الحرص عليها آية الحرص على هذا الشرف. وربما وقعت المنازعات والحروب بين القبائل بسببها. وقد تتفاوت القبائل بعض التفاوت في موقف أبنائها، فقد ذكر صاحب الأغاني أن "الغزل في جرم جائز حسن، وهو في قشير نائرة".
ولكن ذلك لا يعني -على مايبدو في الخبر من الغرابة- أن بعض القبائل تمتهن نساءها، أولا تكترث بما يكون منهن، فمثل هذا الاستنتاج أو الحكم مجانب للصواب. فقد كانت المرأة في جرم وفي قشير وفي غيرهما من القبائل رمزاً غالياً على النفوس. ولعل القراءة المتأنية للخبر كاملاً -إذا صحّ، وفيه ما يثير الريبة في صحته، بل ما يدعو إلى إنكاره- تبيّن لنا صدق ما ذكرت من اقتران شرف القبيلة بشرف نسائها. روى أبو الفرج، قال: "نزلت جرم في جوار قشير هرباً من السنة والجدب وسالمتهم قشير وأرعتهم طرفاً من بلادها، وكان في جرم فتى يقال له "مياد" وكان غزلاً حسن الوجه، تام القامة آخذاً بقلوب النساء.
والغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة، فأصبح مياد الجرمي إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال واشتغالهم بالسقي والرعية، فدفعنه عنهن، وأسمعنه مايكره، فقال عجائز منهن: والله ماندري أرعيتم جرماً المرعى أم أرعيتموها نساءكم؟ فاشتد عليهم فقالوا: وماأدراكنّه؟ قلن رجل منذ اليوم ظل محجراً لنا مايطلع بنا رأس واحدة، يدور بين بيوتنا، فشكوه إلى جرم، فقام رجل من جرم وقالوا: ماهذا الذي نالكم؟(1/76)
قالوا: رجل منكم أمس ظل يجر أذياله بين أبياتنا، ماندري علام كان أمره؟ فقهقهت جرم من جفاء القشيريين وعجرفتهم، وقالوا: ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلاً ونبعث إلى بيوتكم إذا غدت الرجال وأخلف النساء، ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها مما دار بين القوم، فيظل كلاهما في بيوت أصحابه حتى يرد علينا عشياً الماء، وتخلى لهما البيوت ولا تبرز عليهما امرأة و لاتصادق منهما واحداً فيقبل منها حرفاً ولا وعداً إلا بموثق يأخذه عليها، وعلامة تكون معه منها، قالوا اللهم نعم. فظلوا يومهم ذلك وباتوا ليلتهم حتى إذا كان من الغد، غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لايعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل، وغدا مياد الجرمي إلى القشريات، وغدا يزيد بن الطثرية إلى الجرميات، فظل عندهن بأكرم مظل، لايصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به، وتابعته إلى المودة، وقبض منها رهناً وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها، وانصرف يزيد محكولاً مدهوناً شبعان ريان مرجل اللمة، وظل مياد الجرمي يدور بين بيوت القشيريات مرجوماً، ومضى لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل، فتهالك لهن، وجهده العطش، وأقبل يستظل فرأى أمة تذود غنماً في بعض الظعن، فأخذ برقعها وقال: هذا برقع واحدة من نسائكم فطرحه بين يدي القوم، وجاءت الأمة تعدو، فتعلقت برقعها، فردّه عليها وخجل مياد خجلاً شديداً.
وجاء يزيد ممسياً، وقد كاد القوم أن يتفرقوا، فنثر كمه بين أيديهم ملآن براقع، وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئاً إلا رفعه، فلما نثر مامعه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم، فقال قشير:
أنتم تعرفون ماكان بيننا أمس من العهود، فليمسك كل رجل يده إلى ماعرف فأخذه.. وتفرقوا عن حرب، وقالوا هذه مكيدة يا قشير، فقال في ذلك يزيد بن الطثرية:
فإنْ شئتَ ياميّادُ زُرَنا وزرتُمُ ... ولم تنفسِ الدنيا على من يُصيبُها(1/77)
أيذهبُ ميّادٌ وبالبابِ نسوتي ... ونسوةُ ميّادِ صحيحٌ قلوبُها
وقال ميّاد:
لَعَمْرُكَ إنَّ جَمْعَ بني قَشيرٍ ... لجرمٍ في يزيدَ لظالمونا(1)
إن الخبر كما سقته يكشف عن مضمون اجتماعي لا غموض فيه، فهو يوضح موقف القبيلة من المرأة ونظرتها إليها، فعلى الرغم مما ذكره الخبر من موقف جرم من الغزل وتسامحها فيه، اسودّت وجوهها ورأت أن مافعلته قشير كان مكيدة لا تحتمل. وفي قوله "تفرقوا عن حرب" إشارة صريحة إلى أنفة النفس العربية، ورفضها لكل ما يخدش مثلها الأخلاقية، واستعدادها للحرب صوناً لشرف القبيلة وسمعتها. وليس بدعاً عجباً أن تكون المرأة هي رمز هذا الشرف، فهي تحطّ منه أو تهدمه إذا لم تحسن رعايته، وهي تصونه وتحميه إذا أحسنت التصرف والسلوك.
على أن بعض الغزل كان دعاية لنساء القبيلة، فكأنه ضرب من الالتزام الاجتماعي الأخلاقي بمبادئ القبيلة ومصالحها العامة يلتزمه الشعراء، ويوظفونه توظيفاً قبلياً حيناً، وقبلياً سياسياً حيناً آخر. فقد كانت القبائل العربية تفخر بنعمة نسائها وترفهن، ولم يكن يضيرها أن يتغنى الشعراء بأوصاف النساء التي تدل على ما للقبيلة من العز والجاه وخفيض العيش -ولاسيما عيش نسائها-، مما يجعل القبائل الأخرى تنظر إلى هذه القبيلة ونسائها بعين الإجلال والمهابة.
ونجد الفرزدق الذي أصمّ الآذان بفخره القبلي العريض، يضمّ إلى هذا الفخر أو يزيد فيه نغمة جديدةً، فيصف بنات قومه مجاشع وقد سما بهنّ نسب رفيع إلى المجد التليد، وبدا جمالهن الفتّان، ولبسن أنفس الثياب وأجودها، وظهرت عليهن أمارات النعمة والثراء:
وبيض تَرقّى من بناتِ مجاشعٍ ... بهنَّ إلى المجدِ التليد مفاخرُهْ
بنات أبٍ حُورٍ كأن حمولَها ... عليها من الوحشِ الهجانِ جآذرُهْ
__________
(1) الأغاني: 7/111.(1/78)
كساهنَّ محضَ اللونِ سُفيانُ واصطفى ... لهنَّ عتيقَ البزِّ إذ جاءَ تاجرُهْ(1)
ويشير أيضاً إلى بنات بني ليث فيؤكد حسنهن ويذكر روائحهن العطرة:
من نسوة لبني ليثٍ وجيرتهم ... برَّحْنَ بالعينِ من حُسْنٍ ومن طِيبِ(2)
وله أيضاً:
بنات نعيمٍ زانَها العيشُ والغنى ... يَمِلنَ إذا ما قمنَ مثلَ الأحاقفِ(3)
وكان عدي بن الرقاع العاملي قد تغزل بمجموعة من النساء فذكر جمالهن ودلالهن، ولم ينس أن ينبه إلى قبائل هؤلاء النسوة، ومايمتزن به من خلق كريم، ورجاحة عقل وعفة وجمال، وكان هذا العرض الإعلامي أمام عبد الملك بن مروان فسأله: كيف علمك بالنساء، فقال أنا والله أعلم الناس بهن. وجعل يقول منوهاً بقبائلهن القحطانية:
قضاعيّة الكعبينِ كنديّة الحشا ... خزاعيّة الأطرافِ طائيّة الفمِ
لها حكمُ لقمانٍ وسورةُ يوسفٍ ... ومنطقُ داوودٍ وعفَّةُ مريمِ(4)
إنه خصص قبائل هؤلاء النسوة، فلم يذكر سوى القضاعية والكندية والطائية، وهو يعتز بقحطانيته، بذكر بنات قومه الجميلات أمام عبد الملك.
__________
(1) ديوان الفرزدق: 25، الحمول: الهوادج الهجان:خيار كل شيء. الوحش: أراد سفيان بن مجاشع. الجآذر: البقر الوحشي. أي بياضهن صاف ويرتدين أجمل الثياب.
(2) المصدر السابق: 322.
(3) المصدر السابق: 374. الأحاقف: ما انحنى من الرمل.
(4) ديوان عدي: 31.(1/79)
وقد سلك عبيد الله بن قيس الرقيات المسلك نفسه فمضى يتغزل بالشريفات المترفات من قريش خاصة، ولا تفوته الإشارة إلى ثرائهن والتنويه بترفهن، فهن لا يحتجن للعمل في الأسواق مثل النساء الفقيرات، فهن شريفات محصنات لا يظهرن، ولا يعرف لهن خبر، ولم يصف واحدة، بل يأتي على وصف مجموعة منهن. وليس يغيب عن الذهن أن هذا الغزل غزل قبلي سياسي، فقد كان ابن قيس الرقيات شاعر الزبيريين، وكانت نظريتهم في الحكم تنصّ صراحة على أن الخليفة يجب أن يكون من "قريش" حصراً. ولعل "همزيته" الذائعة الصيت التي يذكر فيها الديار القرشية ويعدّدها داراً داراً، ثم يتحدث عن نساء قريش لينتقل بعدئذ إلى الحديث السياسي الصريح، خير شاهد على ما أقول. يقول:
وَحِسانٌ مثلُ الدمى عبشميا ... تٌ عليهنَّ بهجةٌ وحَياءُ
لا يَبعْنَ العِيابَ في موسمِ النا ... سِ إذا طاف بالعيابِ النساءُ
ظاهراتُ الجمالِ والسّرْوِ يَنْظُرُ ... نَ كما يَنْظُرُ الأراكَ الظباءُ(1)
وهو ماقد يفهم من كثرة الإشارة إلى مواكب الظعائن ووصف ماتتحلى وتتجمل به من أفانين الزينة، ومايظهر عليها من أمارات النعيم. كما في شعر ذي الرمة:
ومن حاجتي لولا التنائي وربما ... منحتُ الهوى مَنْ ليسَ بالمتقاربِ
عطابيلُ بيضٌ من ربيعة عامرٍ ... رقاقُ الثنايا مشرفاتُ الحقائبِ
يَقظنَ الحمى والرملُ منهنّ مربعٌ ... ويشربنَ أَلبانَ الهِجانِ النجائبِ(2)
وله وصف جماعي للنساء قد يكون دعاية أو مدحاً للقبيلة ونسائها:
وقد أرى والعيشُ غيرٌ أنكدا ... مَيّاً بها والخَفِراتِ الخُرَّدا
__________
(1) ديوان عبيد الله: 88 أي لا يطفن بالثياب والعطور في المواسم للتجارة بها كما تفعل النساء الوضيعات.السرو: المروءة والشرف.
(2) ديوان ذي الرمة: 194 أراد أن حاجتي عطابيل بيض أي الطوال الأعناق.
... الحمى: موضع. النجائب الكرام الهجان: الكرام البيض.(1/80)
غرَّ الثنايا يَستبينَ الأَمردا ... والأشمطَ الرأسِ وإنْ تجلّدا(1)
وينبغي أن نتذكّر أن أكثر الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي، بل إن كثيرين منهم على امتداد العصور اللاحقة، كانوا يحرصون على أن تكون حبيباتهم ثريّات مترفات تظهر عليهن آثار النعمة والثراء، أو يحطن بالحراس والرقباء، فكأن امرأ القيس قد قيّد بذوقه أذواق الشعراء من بعده، منذ تغزل بصاحبته التي شبهها ببيضة الخدر في قصيدته المعلّقة.
فنرى ابن قيس الرقيات يشير إلى القبائل الممنعة الثرية القوية، ويذكر نساءها الجميلات، صاحبات الهوادج المزينة:
إنّ في الهودج المحفِّف بالديـ ... باجِ رِيماً مع الجواري ربيبا(2)
وها هو أميه بن أبي عائذ يمتدح نساء عمرو بن كاهل ويشير إلى نعمتهن في قوله:
تَمَدَّحتَ ليلى فامتدحْ أمَّ نافع ... بعاقبةٍ مثلِ الحبيرِ المُسَلْسَل
فلو غيرَها من وُلْدِ عمرو وَكاهلِ ... مدحتَ بقولٍ صالحٍ لم تُفِيَّل
ألا ليتَ ليلى سايرتَ أمَّ نافعٍ ... بواد تهامٍ يومَ صَيفٍ ومحفِلِ
وكلتاهما مماعدا قبلُ أهلُها ... على خير ماساقوا وردُّوا المْزحَلِ
فذلك يومٌ لن ترى أُمَّ نافعٍ ... على مَثْفرٍ من وُلْد صَعْدَةَ قَنْدلِ(3)
ويكثر في ديوان النابغة الشيباني الوصف الجماعي للنساء، فتبدو مواكبهن الزاهية البهيجة المزينة بأجمل الألوان، ولا ينسى نعت محاسنهن فيشير إلى ثرائهن وتصونهن ونعومتهن وعيونهن:
__________
(1) المصدر السابق: 292 الخفرات: المستترات.الخرد:الحييات، غر الثنايا: بيض الأشمط: الذي في رأسه سواد وبياض.
(2) .ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 107
(3) .ديوان الهذليين 193 . بعاقبة أي في عقب الأمر. ثياب الحبر: أراد مدحها مدحاً حسناً تفيّل: رجل فائل الرأي: ضعيفه، أي ليتها سايرت أم نافع على خير ماشيتهم التي ساقوا . ردوا لمزحل: أي ردوها عن الكلأ لتركب. مثفر: ثفر الدابة شدها أي لن تراها تركب حماراً.(1/81)
ألا هاجَ قلبي العامَ ظُعنٌ بواكرُ ... كما هاجَ مسحوراً إلى الشوقِ ساحرُ
سُليمى وهندٌ والربابُ وزينبٌ ... وأروى وليلى صِدْنَني وتُماضِرُ
كواعبُ أترابٌ كأن حمولَها ... من النخيلِ عُمْريُّ النخيلِ المواقرُ
تعلَّقَ ديباجٌ عليهنَّ باجلٌ ... وعقلٌ وَرَقْمٌ يملأُ العينَ فاخرُ
من الهيف قد رقَّتْ جلوداً تصونُها ... وأوجُهُهَا قد دقَّ منها المناخِرُ
كُسِينَ من الألوانِ لوناً كأنَّهُ ... تهاويلُ دُرٍّ يقبلُ الطيبَ باهرُ
لهنَّ عيونُ العِينِ في صُوَرِ الدُّمى ... وطرفٌ ضعيفٌ يَستبي العقلَ فاتِرُ(1)
وفي شعر الأخطل مدح للثريات المنعمات، كإعلان عن حياتهن الرغيدة وللترغيب فيهن:
وقد تكونُ بها هِيفٌ منعّمةٌ ... لايلتفعْنَ على سوءٍ ولا سَقَمِ
لا يَصطلينَ دخانَ النارِ شاتيةً ... إلا بِعُودِ يَلنجوجٍ على فحمِ(2)
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني: 59، الظعن: المرأة في الهودج، بواكر: باكرة: العجلى، كواعب: ج كاعب من نهد ثدياها، الأتراب المتمماثلات في السن. العمري: القديم، المواقر: من الوقر وهو الحمل يريد النخيل المثقل بما يحمل. الديباج: الحرير. الباجل: الحسن الناعم، العقل: ثوب أحمر يجلل به الهودج. الرقم: وشي يكون نقشه متسديراً. الهيف هيفاء: الضامرة البطن الرقيقة الخصر. المناخر:الأنف التهاويل الألوان المختلفة. الباهر: البارع. العِين: بقر الوحش واحدتها عيناء، الدمى: الدمية.
(2) ديوان الأخطل: 221، ويتكرر في ص 24 وص 135. يلتفعن: يلتحفن. السقم: الريبة. اليلنجوج: عود البخور.(1/82)
ولعلّي لا أخطئ إذا ظننت أن هذا الحديث عن الحسب الزاكي الرفيع، والجمال الفتّان المصون، والنعيم الظاهر والثراء العريض يخفي وراءه -بل يظهر- رغبة الشاعر في أن تكون حبيبته من سراة القوم وأشرافهم، وليست سوقية مبتذلة أو من غمار الناس، كما يدل على طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الشاعر، فهو مجتمع عربي لا يزال الإحساس بالعروبة وقيمها ومثلها يتغلغل في أعماقه، ويحدّد نظرته إلى الحياة، وتصوّره لها.
ونجد مقابل هذا المدح لنساء القبائل والدعاية لهن بالإشارة إلى نعمتهن وجمالهن أن أكثر الشعراء قد تناولوا نساء القبائل المعادية بالهجاء، ضمن هجائهم للقبائل ذاتها، وتحولت المرأة في أشعار الهجاء إلى معادل للقبيلة، عزة القبيلة من عزة المرأة وهوان هذه من هوان تلك، للعصبية بالمرأة وبالقبيلة أبشع الصفات الجسدية والأخلاقية. ففي شعر جرير تمثل عارم للعصبية والقبلية في هجائه لقوم الأخطل وقبيلته تغلب، والتعرض لنساء تغلب خاصة بالسخرية والتهكم، وإسقاط أبشع الصفات على أشكال نسائها، فهو ينفي عنهن كل مكرمة من حسب ودينٍ وحياء وجمال:
نسوانُ تغلبَ لا حِلمٌ ولا حَسَبٌ ... ولا جمالٌ ولا دِينٌ ولا خَفَرُ(1)
وبسبب قباحة نساء تغلب ودمامة نسائها فإن الكرام من الرجال لا يطمحون إلى مصاهرة هذه القبيلة، إذ لا يفخر من يصهر إلى تغلب بأخواله، وهي مذمة عامة لنساء تغلب وللقبيلة كلها:
وتَغلبُ لا يصاهِرُهُمْ كريمٌ ... ولا أخوالُ مَنْ وَلَدُوا كرامُ(2)
ويعيّر نساء تغلب بالقذارة والفقر والامتهان في الأعمال الذليلة:
قَبَحَ الإلهُ نُسّيةً من تغلب ... يَجعَلنَ من قِطَعِ العباءِ خُدورا
لم يَجرِ مُذ خُلِقَتْ على أنيابِها ... ماءُ السِّواكِ ولم تَمسَّ طهورا(3)
__________
(1) ديوان جرير: 159.
(2) المصدر السابق: 282 ويتكرر له في ف 42، ف 1475، المعاني ذاتها.
(3) نقائض جرير والأخطل: 127.(1/83)
ويجري الفرزدق في المضمار نفسه، فيهجو قبيلة "كليب" بهجاء نسائها، فهن ممتهنات كالإماء، غير متحصنات و لا مصونات:
ترى للكليبيّات، وَسْطَ بيوتِهم ... وجوهُ إماءٍ لم تَصُنْها البراقِعُ(1)
ويهجو الأخطل قوم زيد اللات معيّراً نساءهم بالقبح، فهن ضخام البطون قصار الأعناق:
لتحموا نساءً بادياً ثلباتُها ... قصاراً هواديها وأَوساطُها عُجْرُ(2)
وبالإضافة إلى هجاء نساء القبائل المعادية والتركيز على قبح وجوههن وتشوه أجسامهن وانحراف أخلاقهن، استخدمت المرأة أيضاً سلاحاً ماضياً في تمزيق القبيلة ولا سيما القبيلة الضعيفة المهزومة. وكان تاريخ القبائل العربية الحافل بالأيام والوقائع والحروب، مادة شعرية غزيرة بأيدي الشعراء، وكانت المرأة في هذا التاريخ وهذا الشعر على حد سواء -رمزاً للقوة والمنعة كما هي رمز للانهيار والضياع. ففي تركها عرضة للسبي ذلّ أيُّ ذل، ومهانة أيّة مهانة، ودليل ضعف وخور. وفي حمايتها والاستبسال في الذود عنها عزّ وشمم وإباء.
فنرى الأخطل يفخر بأن قومه سبوا نساء من غير مهر ولا هدية صداق بسبب هوان قبائل هؤلاء النسوة، مما يشكل لطخة عار في جبين هذه القبيلة التي سبيت نساؤها جهاراً، وأخذت عنوة بغير مهر:
أصبنا نسوةً منكمْ جِهاراً ... بلا مهْرٍ يُعَدُّ ولا سِياقِ(3)
ويفخر أيضاً بأنهم يعرضون نساء القبائل المعادية للفضيحة والذل:
نَسبي النساءَ فما تنفكُّ مُرْدَفةً ... قد أَنْهجَتْ عن معاريها السرابيلُ(4)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 336
(2) ديوان الأخطل: 106 وله في ص109 تعيير بالنساء.
(3) المصدر السابق: 79.
(4) المصدر السابق: 63 المردفة: التي أردفت خلف من سباها. أنهج: تمزق ويلي. المعاري معرّى: الذي لا يجوز إظهاره.السرابيل: الثياب(1/84)
ويعلو هتاف الأخطل قوياً رنّاناً وهو ينقض على جرير وقبيلته ومن والاها في نقيضة صاخبة، ويذكر زفر بن الحارث الذي استنصره قوم جرير فلم يكن بالنصير القوي، ويصوره هارباً تاركاً النساء وهن يولولن ويستصرخن ذوي الحميَّة، ويستغثن بكل غيور، ويرسم لهن صورة نفسية ناطقة بالبلبلة والهلع والاضطراب:
ونجا على جرداءَ ذاتِ عُلالةِ ... زُفَرٌ وكانَ لدى الطعانِ فَرورا
هرباً وغادرَ من نساءِ هوازنٍ ... مثلَ المها خرداً أوانسَ حُوْرَا
يهتفنَ أَينَ ذوو الحميَّةِ أينَ هُمْ ... أَمْ مَنْ يَغارُ فلم يَجِدْنَ غَيورا(1)
ثم يفخر بالهذيل بن هبيرة التغلبي:
أَيَّامَ صَبحَّكَ الهُذَيلُ بِشُزَّبٍ ... جُرْدٍ يُخَلْنَ إذا جَرَيْنَ صُقورا
فحوى نساءَ بني كُليبٍ بالقنا ... وبكلِّ أجردَ مايزالُ بَشيرا
ويعيّر جرير نساء تغلب برجالها الذين لا يغارون على نسائهم، فهم يلوذون بالهرب إذا ضاقت المنازل بالفرسان، تاركين نساءهم وراءهم، ليس لهن من يحمي شرفهن ويصون كرامتهن. وهو بذلك يهدم كل المثل الرفيعة السائدة التي تمثّل عرف القبيلة وقانونها الأخلاقي، يقول:
كذبَ الأُخيطلُ ما لنسوةِ تَغلبٍ ... حامي الذّمارِ وما يغارُ خَليلُ
تركَ الفوارسُ من سليمٍ نسوةً ... عُجُلاً لهنَّ على الرحوبِ عَويلُ(2)
ولا يكفَ هذا الشاعر عن رمي قوم خصمه الأخطل بسهام هجائه، فيعيرهم مرة أخرى بأنهم يتركون نساءهم عرضة للسبي:
ورأَتْ حسينةُ بالعذابِ فوارسي ... تسبي النساءَ وتَقسِمُ الأَنفالا(3)
ويؤكد المشهد ذاته مرة ثالثة لينال من الأخطل وقبيلته:
__________
(1) نقائض جرير والأخطل: 118. زفر بن الحارث الكلابي. الشزب: الضامرة، بشيرا يبشر بالظفر. الخرد: الحييات، جرداء: فرس قصيرة الشعر.
(2) ديوان جرير: 97. الرحوب: يوم كان للجحاف.
(3) نقائض جرير و الأخطل: 94. حسينة بنت جابر بن بجير التغلبي ادعى أنها سبيت.(1/85)
فَصَبَحْنَ نسوةَ تغلبٍ فَسبَيْنها ... ورأى الهّذيلُ لوِرْدِهنَّ رِعالا(1)
ولا يزال يردّد هذا المعنى في أرجاء واسعة من شعره دون ضجر و لا ملل، يقول:
أخزاكُمُ حينَ ضَمَّ القومُ نسوتَكُمْ ... بالزابيين وعينِ الوردةِ النَهرُ(2)
ويظاهر الفرزدق الأخطل في هذا الميدان، فيفخر ببأس تغلب وأيامها على قوم جرير، ويعيّرهم بما كان منهم يوم أثخنتهم رماح تغلب، فولّوا الأدبار مخلّفين وراءهم نساءهم سبايا بأيدي التغالبة. ويصور هؤلاء السبايا وهن يمشين حوافي تدمي أقدامهن حجارة الصوان حيناً، ويُرْدَفن خلف من سبوهن حيناً آخر. يقول:
تركوا لتغلبَ إذْ رأَوا أرماحَهُمْ ... بإرابَ كلَّ لئيمة مِدران
تَدْمي -وتغلب يمنعون بناتِهمْ ... أقدامَهُنَّ حِجارةُ الصوَّانِ
يمشينَ في أثرِ الهذيلِ وتارةً ... يُرْدَفْنَ خلفَ أَواخرِ الرُّكبانِ(3)
ففي هجاء السبي وتعيير القبائل بالضعف إحساس مقابل بقدرة قوم الشاعر أو ممدوحيه على حماية نسائهم، وصون كرامتهن من ذل السبي، بينما تفتضح نساء القبائل الأخرى، يؤكد الأخطل ذلك بقوله:
وقد علمَ النساءُ إذا التقينا ... وهُنَّ وراءَنا أنّا نَغارُ(4)
ويفخر جرير بحماية النساء ويتحدث عن لجوء نساء الآخرين إليهم في حالة الذعر، يقول:
تُفدِّينا النساءُ إذا التقينا ... ويعطي حُكْمَنا الملكُ الهمامُ(5)
ويكرر هذا المعنى، ويقلبّه على وجوهه في مواطن مختلفة من شعره، يقول:
تُفدِّينا نساؤكمُ إذا ما ... رقصنَ وقد رفعنَ عن الخِدامِ(6)
ويمدح جرير زفر بن الحارث ويفخر به، ويذكّر الأخطل بما فعله بقبيلة تغلب، يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 96. رعالا: قطع الخيل واحدتها رعلة.
(2) ديوان جرير: 175 والمعنى ذاته في 187.
(3) نقائض جرير والأخطل: 216. يعني أنهن دنسات من الدّرَن وهو الوسخ.
(4) ديوان الأخطل: 279.
(5) ديوان جرير: 282.
(6) المصدر السابق: 202.(1/86)
زُفَرُ الرئيسُ أبو الهذيلِ أبادَكم ... فسبى النساءَ وأَحرزَ الأموالا(1)
فيفزع الأخطل إلى يومٍ آخر كان لقبيلته على خصومها، فيبعثه من مرقده محاولاً أن يقلب الموقف لصالحه وصالح ممدوحه وقبيلته:
يومَ الكُلابِ وقد سقتْ نساؤكُمُ ... سوقَ الجلائبِ من عُونٍ وأبكار
مُسْتَرْدَفاتٍ أفاءتْها الرماحُ لنا ... تدعو رياحاً وتدعو رهطَ مَرّار(2)
ومدح الفرزدق الجراح بن عبد الله أمير البصرة، فصور النساء صورتين نفسيتين بديعتين: إحداهما مملوءة بالرعب والهلع، فهن خائفات مروّعات ذاهلات عن أنفسهن وعما يبدو من أجسامهن، والأخرى طافحة بالطمأنينة والسكينة والهدوء، فقد رأين الممدوح فقرّ في نفوسهن الأمان، وأخذن يخفضن أذيالهن، ويعنين بزينتهن فكأنهن في غير حرب:
إذا فزعَ النساءُ فلا تبالي ... لها سوقاً خرجْنَ ولا خمارا
خفَضْنَ إذا رأينْك كُلَّ ذيلٍ ... وأورينَ الخلاخلَ والسّوارا(3)
ويكرر هذه المشاهد الشمردل اليربوعي في أحد ممدوحيه:
إذا استعبرَتْ عُوذُ النساءِ وشمَّرَتْ ... مآزرَ يومٍ لا تُوارى خلاخلُهْ
وثقنَ به عندَ الحفيظةِ فارعوى ... إلى صوتِهِ جاراتُه وحلائلُه(4)
ويلمّ عبيد الله بن قيس بهذا المعنى أيضاً، ويشير إلى أن العذارى آمنات بهؤلاء القوم من السباء:
تُحِبُّهمُ عُوْذ النساءِ إذا ... أبدى العذارى مواضعَ الخدمِ(5)
__________
(1) نقائض جرير والأخطل: 90.
(2) ديوان الأخطل: 136. الجلائب من الجلوبة التي تجلب للبيع، أما الحلائب التي لا تحلب، إلا أن الحلائب لا تساق سوقاً عنيفاً كالجلائب.يوم الكلاب الأول من بني يربوع مستردفات: أردفها الرجال خلفهم ومرار بن منقذ الشاعر من بني العدوية بن البراجم.
(3) ديوان الفرزدق: 173 ويتكرر المعنى ذاته في ص64، 641، 395.
(4) شعراء أمويون: 544.
(5) ديوان عبيد الله: 9. الخدم: الخلخال. العوذ: العذارى اللواتي يعذن به.(1/87)
وحقاً لقد أسرف الشعراء في الحديث عن السبي أو حماية النساء منه، سواء أكن نساء قومهم أم نساء قومٍ آخرين، ووظّفوا هذه المعاني في فخرهم وهجائهم ومديحهم جميعاً، فهم يبدؤون القول فيها ويعيدون دون ملل.
ولعلّهم بذلك كله يكشفون عن المكانة الرفيعة التي تتبوؤها المرأة في نفوسهم وفي المجتمع. فنسمع الفرزدق يمدح أسد بن عبد الله فإذا هو يذكر حمايته النساء ومنعهن:
قوم أَبَوا أَنْ ينالَ الفحشُ جارتَهُمْ ... والجاعلون من الآفاتِ أَركانا
هُمُ الفوارسُ يَحمونَ النساءَ إذا ... خرجنَ يَسْعَيْنَ يومَ الرّوعِ خُفّانا(1)
وفي مدْحه لجميل بن حمران الفزاري، يفاخر الناس بقبيلته التي تسعى النساء إلى رجالها وقت الخوف والهلع، فيبلغن بهم مأمناً:
تغدو النساءُ إلى شَمْخٍ إذا فزعَتْ ... وأكلحَ البأسُ أفواهاً وأَسنانا
بهم تُواري نساءُ الحيِّ أَسوُقها ... إذا دَعَوا يومَ بأسٍ يا لذُبيانا(2)
ولا يفتأ يتحدث عن قوة القبيلة، وقدرتها على نشر الخوف بين القبائل الأخرى، وحماية نسائها، فليس يجرؤ أحد على التفكير بتعكير صفو هذه القبيلة:
والمانعونَ إذا النساءُ ترادَفَتْ ... حذَرَ السِباءِ جمالُها لا تُرْحَلُ
يحمي إذا اخترط السيوفُ نساءَنا ... ضربٌ تَخرُّ له السواعدُ أرْعَلُ(3)
وتظهر المرأة في القبيلة أيضاً وهي تكف زوجها عن هجاء، القبائل، وتلومه على ذلك حتى لا يستطير الشربين القبائل، فيجيبها مفاخراً:
تلومُ على هجاءِ بني كليبٍ ... فيا لكِ للملامةِ من نَوَارا
فقلتُ لها: أَلِّما تعرفيني ... إذا شَدَّتْ مُحافلتي الإزارا
وقالَتْ عندَ آخرِ ما نهتني ... أَتهجو بالخضارمةِ الوبارا(4)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 633.
(2) المصدر السابق: 636.
(3) المصدر السابق: 490. الأرعل: المسترخي.
(4) المصدر السابق: 308 المحافلة: المنافسة. الخضارمة: واحدته خضرم: وهو السيد. أراد قومه. الوبار: دويبة كالسنور لكنها أصغر منه لقب بها قوم جرير تحقيراً لهم.(1/88)
وبسبب ذلك الاضطراب والوقائع، كانت النساء الحرائر تتشبه بالإماء مخافة السبي حتى يزهد فيها المغيرون(1). فتكشف غطاء وجهها لأن في سبي الحرة الانهيار الكامل لقومها، وكنا لاحظنا في المدح بحماية النساء كيف تبدو النساء آمنات وقد سترن أرجلهن وأيديهن، لأنهن مطمئنات أما في حالة الهزيمة فالمشهد يوظف للسخرية والنيل من كرامة المهزوم.
يقول الكميت:
ولم أرَ مثلَ الحيِّ بكرِ بن وائل ... إذا أُنزِلَ الخلخالُ منزلةَ القلبِ(2)
وذلك عندما تحسر المرأة عن ساقها في الحرب فيبدو الخلخال من الرعب، وإنما يبدو السوار في حالة الأمن. وينال أيضاً من السبايا اللواتي أْمتُهِّن في أعمال ذليلة وأصبحن مثل الإماء المبتذلات وقد تخلين عن أخلاقهن:
وينصبنَ القدورَ مشمِّراتٍ ... يُخالسن العجاهنةَ الرئينا(3)
ويفخر جرير ببأس قبيلته وحمايتها نساء غيرها من القبائل، ويزعم أن النساء اللواتي قامت قبيلته بحمايتهن، احتفظن بكرامتهن وأخلاقهن، ولو كانت غير يربوع حمتهن لكن سبايا لدى الأعداء:
لولا حمايةُ يربوعٍ نساءَكُمُ ... كانت لغيرِكُمُ منهنَّ أَطهارُ(4)
وتستوقفنا في غير موطن من هذا الشعر صور النساء وقد اعتراهن الخوف والهلع، وتفرّق من حولهن الرجال، وتركوهن لهذا المصير القاسي الذي ينتظرهن، فإذا هن يصرخن مستنجدات مستغيثات يثرن غيرة الرجال ولا رجال!!
كما تستوقفنا صورهن وهن سبايا مردفات خلف من سبوهن على نحو يذكرّنا بتصوير النابغة الذبياني لسبايا قومه، ولكن تصوير النابغة أجمل وأبدع، وربما ساق الشعراء هذه الصور في معرض المدح لاستثارة همّة الممدوح ودفعه إلى تحريرهن من السبي.
__________
(1) خزانة الأدب: 9/505.
(2) شعر الكميت: 134.
(3) المصدر السابق: 119. العجاهن: صديق الرجل الموسر العجاهنة: المشاطة إذا لم تفارق العروس. الرئة موضع النفس.
(4) تاريخ الطبري: 6/611.(1/89)
ومن هذه الصور الصورة التي رسمها الشرعبي الطائي لنساء المسلمين في يوم الجنيد الذي كان بين الجنيد وخاقان، وهي صورة نفسية واسعة يملؤها الحزن والرعب والأسى، وتقطر أبيات هذا الشاعر مرارة وأسى لما صار إليه أمر قومه. يقول:
ألا رُبّ خَوْدٍ خَدْلةٍ قد رأيتُها ... يسوقُ بها جَهْمٌ من السغدِ أصمعُ
أحامي عليها حينَ ولَّى خليلُها ... تنادي إليها المسلمينَ فتُسمِعُ
تنادي بأعلى صوتِها صفَّ قومِها ... ألا رجلٌ منكم يَغارُ فيرجِعُ
فما جاوبوها غيرَ أَنَّ نَصِيْفَها ... بكفِّ الفتى بين البرازيقِ أَشنعُ(1)
ويمدح أعشى همدان الحجاج فيرسم صورة واسعة للنساء اللواتي تركن للسبي، فهن ينادين مستنجدات مستعبرات، ويذرين دموعهن وقد تلوّنت بلون الكحل فوق خدودهن ويدعوه إلى أن ينالهن برحمته قبل أن يكن سبايا:
فقد تركوا الأهلينَ والمالَ خلفَهم ... وبيضاً عليهنَّ الجلابيبُ خُرَّدا
يُنادينَهم مُسْتعبِرَاتٍ إليهمُ ... ويُذرينَ دمعاً في الخدودِ وإثمدا
فإلاّ تُناوِلْهُنّ منكَ برحمةٍ ... يَكنَّ سبايا والبعولةُ أَعْبُدَا(2)
وكان استخلاص السبايا مجداً يفخر به الفرسان، أما طلابهن بفدية فكان مذمة ومذلة، يؤكد ضعف القبيلة التي لاتسترد نساءها بالقوة، يشير إلى ذلك قول عمر بن لجأ التميمي:
فإنَّ التي تُحدى ويُسبى رجالُها ... نساءُ بني يربوعَ شلاَّ عَصْبصَبَا
دَعَتْ يالَ يربوعٍ فلم يلحَقُوا بها ... ولم يَكُ يربوعٌ أبوهنَّ أَنجبا
وكيفَ طِلابُ المردَفاتِ عشيةً ... وقد جاوزَ الشيخُ الغميمَ ويثربا(3)
__________
(1) تاريخ الطبري: 7/85. الجنيد بن عبد الرحمن عندما خرج يريد طخارستان سنة 112 وتقابل مع خاقان الترك في يوم الشعب.
(2) المصدر السابق: 6/377.
(3) شعر عمر بن لجأ التميمي: 39 وله المعنى ذاته في 71 و 116. شلاّ عصبصبا: أي طرداً شديداً من شلَّ الإبل إذا طردها. العصبصبا: الشديد مثل العصيب.
بنو يربوع: بطن من تميم وأراد هنا كليب بن يربوع قبيلة جرير.(1/90)
وكانت السبية تتشوق إلى أهلها وتتمنى أن تلقاهم وتبقى على أمل تحررها مهما طال بها الزمن عند زوجها، فقد "كان للنمر بن تولب أخ يقال له الحرث بن تولب، وكان سيداً معظماً، فأغار على بني أسد فسبى منهم امرأة يقال لها "حمزة بنت نوفل" وهبها لأخيه النمر، ففركته، فحبسها حتى استقرت وولدت له أولاداً، ثم قالت له في بعض أيامها: أزرني أهلي فإني قد اشتقت إليهم، فقال لها: إني أخاف إن صرت إلى أهلك أن تغلبيني على نفسك، فواثقته لترجعن إليه فخرج بها حتى أقدمها بلاد بني أسد، فلما أطل على الحي تركته واقفاً وانصرفت إلى منزل بعلها الأول فمكث طويلاً، فلم ترجع إليه، فعرف ماصنعت وأنها اختدعته، فانصرف وقال:
جزى اللهُ عنا حمزةَ بنةَ نوفلٍ ... جزاءَ مُغلٍّ بالأمانةِ كاذبِ
لهانَ عليها أمسِ موقفُ راكبٍ ... إلى جانبِ السرحاتِ أخيبِ خائب
وصدَّت كأنَّ الشمسَ تحت قناعِها ... بدا حاجبٌ منها وَضَنَّتْ بحاجبِ(1)
وقد لفت اقتران حديث المرأة بالقبيلة أنظار الباحثين، فرأى بعضهم أن هذا الحديث يصلح لحمل دلالات رمزية خصبة، ومضوا يتبعون الأدلة والشواهد على هذا الرأي على نحو ماصنع الدكتور مصطفى الجياووُك، الذي رأى أن المرأة قد تكون رمزاً من "رموز القتال الخاصة التي تثير حماسة الرجال"(2).
فيستميتون في سبيلها، ويهبون لنجدتها، وهي صورة تقليدية أثارتها وثبتتها في الأذهان صورة الظعائن اللواتي يهجن حماسة الرجال في الحرب، فيندفع هؤلاء من أجل حمايتهن، على نحو ما يظهر في شعر الأخطل الذي يتحدث فيه عن حروب تغلب وقيس بالجزيرة، ويهدد بني تميم، فقد تحول اسم المرأة في هذا الشعر إلى رمز خاص يثير الحماسة والحمية:
فإن يَكُ كوكبُ الصمعاءِ نحساً ... به وُلِدَتْ وبالشهرِ المحَاقِ(3)
ويتكرر ذلك في شعره، كما في قوله:
__________
(1) الأغاني: 19/158 وهو مخضرم.
(2) صورة المرأة في الجزيرة: 122.
(3) ديوان الأخطل: 80.(1/91)
غداةَ تحامَتْنا الحريشُ كأنَّها ... كلابٌ بَدَتْ أنيابُها لهريرِ
وجاؤوا بجمعٍ ناصرٍ أُمَّ هيثمٍ ... فما رجعوا من ذوْدِها ببعيرِ(1)
وأم هيثم من بني سليم وفيها وقعت الحرب بين قيس وتغلب وفيها يقول:
إذا ذكرتْ أنيابَها أمُّ هيثمٍ ... رَغَتْ جَيْئَلٌ مخطومةٌ بضفيرِ(2)
"وقد يشيع في شعر القبيلة علم من أعلام المرأة شيوعاً كبيراً (كليلى وسلمى) ويصبح الاسم نفسه رمزاً يتضمن بعض قيم القبيلة الأخلاقية ومشروعاتها مع القبائل الأخرى". فلا يكاد شعر شاعر من عامر بن صعصعة يخلو من غزل (بليلى)، ولا شاعر من غطفان يترك الغزل بسلمى وفي ليلى العامرية، ويشير الباحث إلى أن ليلى كنية غير واحد من بني عامر مثل النابغة الجعدي، ففي هجاء للأخطل يقول له فيه:
لقد جارى أبو ليلى بقحمٍ ... ومنتكثٍ على التقريبِ وانِ(3)
ويشير أيضاً إلى أن زفر بن الحارث الكلابي سيد قيس وقائدها في حروبها ضد تغلب هو ابن ليلى كما يقول الأخطل:
__________
(1) ديوان الأخطل: 467. الذودما بين الثلاث إلى العشر.
(2) الديوان: 70- وكان من حديث أم هيثم أن بني تغلب كانت تغزو مع عمر بن الحباب كلباً، فانصرفت قيس في بعض غاراتها فنزلوا بثني من أثناء الفرات في منازل تغلب، وفي بني تغلب امراة من بني تميم يقال بها أم دويل ناكح فيهم، وكان دوبل من فرسان تغلب، وكانت لها أعنز، فأخذ غلام من بني الحريش عنزاً لها، فقالوا لعمير، فقال معرة الجند:
... فلما رأى أصحابه ذلك وثبوا على أعنزها الباقية فأخذوها فأخبرت دوبلاً فأغار على بني الحريش فقاتلوه، فخرج رجل من الحريش وأخذوا ذوداً لامرأة من الحريش يقال لها أم الهيثم.
... معرة الجند: أن ينزلوا بقوم فيأكلوا من مالهم بغير علمهم.
... الرغاء صوت الإبل استعارة للضبع. الجيثل: الضبع وأراد بالضبع أم هيثم. مخطومة جعل على أنفها الخطام، أي إذا ذكرت إبلها فكأنها ضبع مخطومة بحبل.
(3) صورة المرأة في الجزيرة العربية: 126.(1/92)
لعمرُ أبيكَ يا زُفَرُ بنُ ليلى ... لقد أنجاكَ جدُّ بني معارِ(1)
ثم تحولت ليلى إلى رمز للقبيلة نفسها يشير الشعراء إلى معاناتها في العراق ومرضها، ويرد ذلك في قول للنابغة الجعدي:
تَأَبَّدَ من ليلى رماحٌ فعاذِبُ ... وأقفرَ مِمَّنْ حلَّهنَّ التناضبُ(2)
أما الراعي النميري فيقول:
أرى أهلَ ليلى لا يبالي أميرُهُمْ ... على حالة المحزونِ أن يتصدَّعا(3)
والصمة القشيري يذكر ليلى مع أن حبيبته ريا أو طيا فيقول:
تَحَمَّلَ أَهلي من قنين وغادروا ... به أهلَ ليلى حينَ جيدَ وأَمرعا(4)
ويقول أيضاً:
وَنبئتُ ليلى أَرسلَتْ بشفاعةٍ ... إليّ فهلاّ نفسُ ليلى شفيعُها(5)
ومنهم من يقول:
يقولونَ ليلى بالعراقِ مريضةٌ ... فأَقبلتُ من مصر إليها أَعودُها(6)
حتى أصبح التشبيب بليلى تقليداً قبلياً لدى شعراء القبيلة وغيرهم.
كما ترد سلمى في شعر القبائل الأخرى(7)، يقول الفرزدق في أول قصيدة مدح بها الوليد بن عبد الملك وأمه عبسية:
إذا عَرَضَ المنامُ لنا بسلمى ... فقلُ في ليلِ طارقةٍ قَصيرٌ(8)
ويقول جرير في شقيقه سليمان بن عبد الملك، يذكر مظالم الحجاج في نزار:
كأَنَّكَ حين تشحطُ من سُليمى ... أَميمٌ حينَ تذكرُها بتيلُ(9)
__________
(1) المرجع السابق: 127-129-130-134.
(2) صورة المرأة: 127-129-130-134.
(3) المرجع السابق: 127-129-130-134.
(4) المرجع السابق:127-129-130-134.
(5) المرجع السابق: 127-129-130-134.
(6) المرجع السابق:127-129-130-134.
(7) المرجع السابق: 134.
(8) المرجع السابق: 134.
(9) المرجع السابق: 134.(1/93)
وقد التفت إلى هذه الرمزية الدكتور البهبيتي قبل الدكتور الجياووك بزمن، ولكنه حصر حديثه في الشعر الجاهلي، ولم يتتبع هذه الرمزية تتبعاً دقيقاً كما فعل الدكتور الجياووك. يقول "فالمرأة في ذلك رمز، وأسماء النساء أسماء تقليدية تجري في الشعر عند الشعراء دون وقوع على صاحباتها"(1) ثم يقول: "وهند لقب جرى على بنات ملوك المناذرة، كانت إحداهن تسمّى باسمها الخاص، ولكنها تلقب أبداً بهند، ولذلك نجد اسم هند يكاد يقع في شعر كل شاعر اتجه إلى ملوك المناذرة بمدح أو ذم"(2).
ونخلص مما تقدم كله إلى القول: لقد كان وضع المرأة في القبيلة على درجة عالية من الحساسية والرمزية، فكان ذكرها مدحاً للقبيلة وإعلاناً عن عزها وسطوتها ونفاسة نسائها، من أجل التطلع إلى المصاهرة وكسب الدعم والقوة، كما كان دليلاً على الأنفة والكبرياء والمقدرة على حماية النساء، وصون أعراضهن من مذلة السبي ومهانة الخطف.
وانبرى الشعراء لهجاء كل من يتعرض لهذا المصير من القبائل، أو يعرض نساء قبيلته له. كما كانت رمزاً قتالياً عاماً يثير حمية المتحاربين ويختزن بعض تاريخ القبيلة الثقافي والاجتماعي من قيم وعلاقات وأخلاق، ولكن الشعر الحجازي اقتصر على الدعاية والإعلان عن نعمة النساء في الحجاز وترفهن. بينما شاع شيوعاً كبيراً في شعر شعراء العراق المدح بحماية النساء وكذلك الهجاء بتعريضهن للسبي.
( ... ( ... (
الفصل الثالث
المرأة والمجتمع في الشعر الأموي
أ- المرأة في المجتمع الحضري.
ب- المرأة في المجتمع البدوي.
إن الحديث عن المرأة والمجتمع حديث متعدد المداخل، متشعب الدروب، ولذا لابد قبل الشروع فيه من أن أخطّ له خطّة لعلها تكون عاصمة لي من التكرار والتداخل.
__________
(1) تاريخ الشعر العربي: 100.
(2) المرجع السابق ص: 101.(1/94)
وأعتقد أن طبيعة التطور الاجتماعي في العصر الأموي تسمح بتقسيم الحديث إلى قسمين، أتحدّث في الأول منهما عن المرأة في المجتمع الحضري، وأتحدث في الثاني منهما عن المرأة في المجتمع البدوي، واضعة نصب عيني أن همّي الأول هو الشعر الذي يكشف عن هاتين الصورتين للمرأة.
أ- المرأة في المجتمع الحضري:(1/95)
أجمعت الدراسات الأدبية والتاريخية التي تناولت العصر الأموي على الإشارة إلى ما أصاب المجتمع في العصر الأموي من تطور، أدى إلى تغير في النفس العربية والسلوك الشخصي للأفراد في هذا العصر، فقد دفع الترف والثراء إلى البحث عن اللهو والمتعة في مجالات الحياة المختلفة. ولم تكن الفتوح الإسلامية الواسعة مصدراً لتدفق الأموال الطائلة وحدها على العرب، بل كانت أيضاً مصدراً لتدفق عناصر بشرية كثيرة ملأت الدور والمنازل، وحملت هذه العناصر الوافدة معها عاداتها وتقاليد شعوبها وثقافتها، وفرضت ذوقها على أصحاب الدور التي احتضنتها، فكانت الهوة الكبيرة بين العرب وبساطتهم وبين هؤلاء وما يتمتعون به من رقي وتحضر، ولاسيما من ينتمي منهم إلى الحضارتين الفارسية والرومية، وقد وجد العرب في هاتين الحضارتين منهلاً غزيراً لأفانين الفخامة والأبهة ولكل من يريد الاستمتاع بحياته، ولم يبخل هؤلاء القادمون إلى الأرض العربية ببسط حضارتهم على أصحاب المال والثراء والسيادة. لقد حدث شيء في التاريخ غريب قلّما يحدث فقد كان هؤلاء العرب المسلمون أقلّ حضارة ورقياً من الأمم التي فتحوا بلادها، ونشروا دينهم ولغتهم وثقافتهم فيها(1).
__________
(1) حدث مثل ذلك في الحروب الصليبية مثلاً، فقد كان الأوروبيون أقلّ تحضراً من العرب الذين غزوهم، فأثر العرب تأثيراً قوياً في ثقافتهم على نحو ماهو معروف وحدث مثل ذلك أيضاً، فقد كان التتار الذين غزوا الدولة العباسية أقل تحضراً، ولكن ينبغي أن نلاحظ أن التتار والصليبيين لم يستطيعوا البقاء في الأرض العربية كما فعل العرب بالبلاد التي فتحوها.(1/96)
ولذا كانت العلاقة الحضارية بين الطرفين علاقة حوار شاق وطويل على الرغم مما يظهر من سيطرة العنصر العربي على مقاليد الحكم، وتصريف شؤونه، وتوجيه الحركة الاجتماعية وجهة عربية إسلامية. وحقاً لقد تقبلت تلك الشعوب رسالة السماء التي حملها العرب إليها، ولكن القانون الذي يحكم حوار الحضارات في مثل هذه الحال حكم حوار الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الأخرى أيضاً، ولم تظهر نتائج هذا الحوار فجأة، ولم تكن سريعة لأن الحوار كان شاقاً وطويلاً وهادئاً وعميقاً كما ذكرت منذ قليل، بل انتظرت عقوداً طويلة ريثما تنضج، ولم يتمّ لها النضج إلا في أواخر العصر الأموي ومطلع العصر العباسي. بيد أننا نستطيع أن نلمح بدايات هذه النتائج وإرهاصاتها المبكّرة منذ العصر الأموي في المدن الحجازية ومراكز الحضارة الأخرى كالكوفة والبصرة وغيرهما من مواطن التحضر التي شهدت حواراً أواتصالاً مبكّراً بين العرب وأولئك الوافدين من الشعوب الأخرى.
ولعل العنصر الأول الذي استرعى أنظار الباحثين، ولفتها لفتاً قوياً في هذا الحوار أو الاتصال هو العنصر الأنثوي، فإذا هم جميعاً يطيلون النظر إليه، ويتأملونه ويبنون عليه الأحكام. ولم يخطئ هؤلاء الباحثون فيما فعلوا أو قدّروا، فقد كانت "المرأة" أبرز عناصر هذا الحوار، وأقربها إلى الناظرين.(1/97)
وكان بين أولئك الوافدين على المجتمع العربي نساء جميلات فاتنات يحلمن بالسعادة والعيش الخفيض بما يملكن من جمال يعدهن بالسعادة والحياة العزيزة بالإضافة إلى فرضهن الجمال والظرف على السادة الأثرياء، فكان فيهن من تعرف الغناء والموسيقى مما ساعد على استمالة القلوب الشابة الثرية الباحثة عن اللذاذة والترف والنعيم، وعلت موجة الغناء والموسيقى في بعض المدن العربية حتى غلبت على كل نشاط آخر وأصبح الشعر يعد للغناء والألحان(1). وكان الشعر الذي تناول المرأة عشقاً وغراماً وفتنة أنسب الشعر وأفضله للألحان والغناء. وكان الغناء أبرز معالم الترف والثراء في العصر الأموي، فقد شغل مدن الحجاز، فأقبلت عليه تنميّه وتطوره فنهضت "المدينة في هذا العصر بفن الغناء نهضة واسعة وشاركتها في ذلك مكة، ولا نغلو إذا قلنا إن البلدتين جميعاً لم تبقيا إلا قليلاً للعصور التالية كي تضيفه إلى نظريته التي استحدثتاها، وقد أقبل أهل المدينة على هذا الغناء إقبالاً شديداً يشترك في ذلك عامتهم وخاصتهم وعبّادهم وزهادهم وقضاتهم"(2).
وقد اشتهر بالمدينة العديد من المغنين أمثال طويس وسائب خاثر ومعبد، ولم يقتصر الأمر على المغنين بل كانت شهرة المغنيات أكثر اتساعاً في قصور الخلفاء ودور رجال الحكم والسياسة مثل جميلة وعزة الميلاء وسلاّمة وحبابة. مما يؤكد مكانة المرأة في المجتمع الأموي، فقد كان لها مشاركة فاعلة في الأخذ من اللهو والترف والسماع والطرب، كما كانت مادة الشعر الغنائي يصف مشاعرها أو مشاعر الشعراء نحوها وتغنيهم بحبها وموقعها العام في قلوبهم وفي المجتمع.
في هذا الخضم المائج بالمغنيين والمغنيات، ومايدور فيه من لهو وقصف وثراء ونعيم، كانت المرأة في صميم المجتمع والشعر، وقد رأيت أن أنظر إليها كما يصوّرها شعر هذا العصر وأخباره، فوجدتها في طبقتين اجتماعيتين:
__________
(1) التطور والتجديد: 102.
(2) العصر الإسلامي: 141.(1/98)
طبقة المغنيات وهن من الموالي، وطبقة النساء الثريات وهن من الأسر العريقة الراقية، وكان لهن الحظ الأكبر في الأخذ من الحضارة والتقدم، وغلبت على أخبارهن أخبار العشق والغرام والتحرر. ولا غرابة في ذلك فقد كان العصر عصر المرأة العربية الحرة، الكريمة النجار ذات الحسب والنسب الرفيع والثراء العريض. وعلى رأس هذه الطبقة أميرات البيت الأموي الحاكم اللواتي تملأ أخبار قلوبهن دواوين الشعراء، وتستفيض في أخبار القصاص.
تفيض كتب التاريخ الأدبي بأخبار المغنيات، ومن أشهر هؤلاء المغنيات:
حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، وفي حكايتها تبرز زوجة الخليفة وهي تطلب وساطة المغنية الجارية في تسيير أمورها عند زوجها، وتعمل على إلغاء قلبها وغيرتها، بل إنها تتكلف المال الكثير من أجل إهدائها إليه.
إنها الإشارة الكبرى لما أصاب نفس المرأة العربية وتفكيرها بسبب الحضارة والرفاه والطموح إلى أن يكون الحكم لولدها من بعد أبيه، وتقص صاحبة الدر المنثور طرفاً من أخبارها، تقول: "حبابة مولدة مدنية كانت صبيحة الوجه مليحة النادرة، خفيفة الروح، شجية الغناء، وكان يزيد مغرماً بالنساء شديد الكلف بهن، فهام بها وانقطع إليها ليله ونهاره تاركاً بين يديها أَزِمَّة دينة ودنياه، فكانت تعزل من تشاء، وتولي من تشاء، وتحول بينه وبين الصوم والصلاة، وكان يقول فيها:
أَبلغْ حبابةَ أَسقى رَبْعَها المطرُ ... ما للفؤادِ سوى ذكراكمُ وَطَرُ
إنْ سارَ صحبيَ لم أَمِلكْ تذكُّرَهُمْ ... أوَعَرَّسوا فهمومُ النفسِ والسهرُ(1)
ويهتم صاحب "تزيين الأسواق" بها، فيقص أخبارها في شيء من التفصيل، فقد كان- فيما ذكر- سبب شراء حبابة أن يزيد قد حج أيام أخيه سليمان، فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار. وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد. فردها يزيد، فاشتراها رجل من أهل مصر.
__________
(1) الدر المنثور في طبقات ربات الخدور: 161.(1/99)
فلما أفضت الخلافة إلى يزيد، قالت له امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناهْ قال: حبابة، فأرسلت مولى لها في طلبها من المدينة، فقيل له هي بمصر، فمضى إليها، فقيل بإفريقية، فمضى حتى اجتمع بمولاها فاشتراها منه بمئة ألف درهم بعد امتناعه من بيعها(1).
فلما وصلت إلى سعدة ألبستها وصيغتها وطيبتها وأتت بها يزيدَ، فأجلستها من وراء الستر، وقالت يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟
قال: قد أعلمتك. فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة. وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وكانت عاهدت سعدة ألا تدع لها حاجة عند الخليفة إلا قضتها، وأن يجعل الخلافة لولدها ففعلت(2).
جميلة: كانت تابعة لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهي أصل في الغناء عظيم، تعلمت على سائب خاثر، وكانت لها دار تقام فيها حفلات غنائية كبرى يشارك فيها عدد من المغنين والمغنيات، ويزورها فيها الأشراف والشعراء، وزارها عبد الله بن جعفر مرة في بيتها مع صحبه لسماعها، فكانت شديدة الفرح والدهشة بمقدمه قائلة له: "يا سيدي وسيد آبائي ومولاي كيف نشطت إلى أن تنقل قدميك إلى أمتك"؟ قال: ياجميلة قد علمت ما آليت على نفسك ألا تغني أحداً، إلا في منزلك وأحببت الاستماع"(3). وكانت قد آلت على نفسها ألا تغني إلا في دارها التي قصدها فيها الناس.
كما كان لها آراء شائعة في الشعر الذي تغنيه وبعض الأحكام على غناء المغنين الذين يجتمعون للغناء في دارها(4).
وكانت تقرب الأحوص منها، وكان هو معجباً بها. ومما قاله فيها:
شَأتْكَ المنازلُ بالأَبرقِ ... دوارسَ كالعينِ في المهْرَق
لآلِ جميلةَ قَدْ أَخْلَقَتْ ... ومهما يَطُلْ عهدُهُ يَخْلِقِ(5)
__________
(1) تزيين الأسواق: 1/231.
(2) المصدر السابق: 1/231.
(3) الأغاني: 7/143، 129.
(4) المصدر السابق: 7/127.
(5) الأغاني: 7/131.(1/100)
كما غنت بأشعار عمر بن أبي ربيعة وكانت تكرمه وتقدره، على عكس العرجي الذي لم تغن بشعره لكثرة عبثه، إلا أنه أرسل إليها بعض الأبيات طالباً السماح والعفو فغنت في شعره فيما بعد(1).
سلامة القس: كانت سلامة شجية الصوت، أخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة. شغف بها أحد عباد المدينة (عبد الرحمن من بني جشم بن معاوية، وكان حبه لها تمثلاً لأفكاره ومبادئه واعتقاداته الزاهدة. فقد قالت له يوماً: أنا والله أحبك، فقال وأنا والله أحبك، قالت وأحب أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت: فما يمنعك، إن الموضع لخالٍ، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: (الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)(2) وأنا أكره أن تكون خلّة مابيني وبينك عداوة. ثم قام وانصرف وهو يقول:
إنَّ التي طرقَتْكَ بينَ ركائبٍ ... تمشي بمزهرِها وأنتَ حرامُ
لتصيدَ قلبَكَ أو جزاءَ مَودَّةٍ ... إن الرفيقَ له عليكَ ذِمامُ
حتى إذا سطَع الضياءُ لناظرٍ ... فإذا وذلكَ بيننا أَحلامُ
قد كنتُ أَعذِلُ في السفاهةِ أَهلَها ... فاعجبْ لما تأتي بهِ الأيّامُ
فاليومَ أعذرُهُمْ وأعلم إنما ... سبُلُ الضلالةِ والهدى أٌقسامُ(3)
وكان الأحوص معجباً بها أيضاً، وله فيها غزل تغنيه بصوتها ومما غنته من قول الأحوص:
أًسلامُ هل لمتيَّمٍ تَنويل ... أمْ هل صرمْتِ وغالَ ودَّكِ غُوْلُ
لا تصرفي عني دلالَكِ إِنَّهُ ... حَسنٌ لديَّ وإِنْ بخلْتِ جميلُ
أَزعمتِ أَنَّ صبابتي أكذوبةٌ ... يوماً وأَنَّ زيارتي تَعليلُ(4)
وذكرت صاحبة "الدر المنثور" أن يزيد بن عبد الملك اشتراها بثلاثة آلاف دينار ومر القس يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف، فرآه مولاها وعرّفه عليها، فشغف بها وكان شاباً جميلاً فأحبته(5).
__________
(1) المصدر السابق: 7/131.
(2) سورة الزخرف، آية 67.
(3) الأغاني: 8/7.
(4) المصدر السابق: 8/8.
(5) الدر المنثور: 250.(1/101)
ولست أحب أن أستكثر من نقل أخبار هؤلاء المغنيات، فهي مبثوثة في هذه المظان التي ذكرتها وفي غيرها، وإنما أردت من حديثي عن بعضهن أن أبيّن المكانة التي ظفرن بها في هذا المجتمع، فقد كلف بهن الخلفاء، والزهاد الفقهاء، ورغب في سماعهن أبناء الأسرة الهاشمية دون أن ينكر عليهم المجتمع هذه العلاقة التي استمدت منها هؤلاء المغنيات شرعية المهنة التي يؤدينها، وهيأ لهن ذلك فرض أصواتهن عبر أثير المجتمع الأموي. وقد استمّر المغنون والمغنيات "يضربون في الصباح والمساء على أوتارهم، وهذا الشباب المتعطل من حولهم فتياتٍ وفتياناً يجتمع بهم ويستمع إليهم"(1) ونتج عن هذه الأجواء المسحورة نوع من الحرية في حياة الإنسان العربي، يستوي في هذه التجربة الرجل والمرأة معاً.
وسجّل للمرأة في العصر الأموي صفحات دالة على النشاط الاجتماعي. ولاسيما نساء الطبقة الراقية بما توافر لهن من أسباب الترف والإحساس العارم بالكمال والمتعة، فبحثن عن أسباب أكثر إثارة للحرية الاجتماعية، فبعثن إلى الشعراء يذكرنهم بأنفسهن، وتنافسن في إظهار نعيمهن الاجتماعي وتحررهن بين أيدي الشعراء أو في مواسم الحج.
فكان هذا التحرر من مظاهر الحضارة الاجتماعية التي وصل إليها المجتمع والمرأة بشكل خاص، لأنها لم تكن تتمتع بهذا سابقاً، فأقبلت المرأة تعب من هذه الحضارة ولكن دون الإفلات التام من قبضة القيم والعادات التي نشأت عليها.
ولست أعلم لما أنا مضطرة لهذا التسويغ الأخلاقي للمرأة، ككل الباحثين الذي تناولوا قضايا التحرر الاجتماعي والتطور في العصر الأموي، إذ كانوا يشفعون كلامهم بمثل هذه العبارات (لم ينحل المجتمع، لم تتخل المرأة، لم يكن المجتمع ماجناً، جلسات بريئة إلى آخر هذه العبارات).
__________
(1) اتجاهات الشعر في العصر الأموي: 351.(1/102)
والحقيقة التي أراها هي أن المرأة في هذا العصر، قد عبرت عما في المجتمع بكامله من تطور وانسجام بين الحياة الجديدة والسلوك العام للأفراد، من غير أن ينسى الجميع التعاليم الإسلامية التي كانت قد استقرت في النفوس، وكان المعيار الأخلاقي العام هو الذي يسير عليه الجميع، مع استثناء الأسرة الحاكمة، كما يرى الدكتور طه حسين، يقول:
"رضي الفقهاء قليلاً أو كثيراً عن ظرف ابن أبي ربيعة، وعبث العرجي، ومجون ابن أبي عتيق، ولكنهم أنكروا لهو يزيد بن معاوية، وسخطوا على عبث يزيد بن عبد الملك، وكفروا الوليد بن يزيد، ومصدر ذلك أن شباب الحجاز كانوا يلهون بمقدار، وكانت مكانته الدينية والاجتماعية، وخوفه من رقابة الخلفاء يعصمانه من مجاوزة الحدود، أما شباب بني أمية فلم يكد يعرف اللهو حتى اندفع فيه إلى غير حد لا يخشى مراقبة ولا يحفل بسلطان"(1).
ولو مضينا نتتبع التيار الإسلامي وأثره في القصائد الأموية، ولاسيما قصائد الغزل، لوصلنا إلى اقتناع ببراءة هؤلاء الناس نساءً كانوا أم رجالاً. وهذا هو الذي سأتناوله بالحديث في بعض الفصول القادمة.
لقد سايرت المرأة العربية في العصر الأموي مجتمعها بكل ما يموج به من حضارة وتأثيرات ثقافية بما أتيح لها من تحرر رفع من مستواها العقلي والنفسي، وحثها على المشاركة الاجتماعية والثقافية، فكان اشتراكها الاجتماعي لهذا العصر عن طريق الشعر والشعراء، فتقربت إلى الشعراء مستمعة وراوية، وتقربوا إليها مادة خصبة لأشعارهم، وفي ذلك يكون التوازن.
واشتركت في هذا نساء الحجاز الشريفات أونساء الطبقة العليا في الحجاز والعراق وكذلك أميرات البيت الأموي في دمشق. وبين هذه البيئات تجاوب الصدى في أشعار غزلية خلدت هؤلاء النسوة في أذهان محبي الأدب والشعر على مر العصور.
__________
(1) حديث الأربعاء: 242.(1/103)
فكثر الحب في العصر الأموي وساير نشاطات المجتمع الأخرى، واشتهرت سيدات قرشيات مثل سكينة وعائشة، وهند بنت النعمان، وهند بنت أسماء وسواهن كثيرات.
وشغل الحب الرجال: الحكام ونساء هؤلاء الحكام كلاً على طريقته، ولم يجد الرجل -أية كانت مكانته- حرجاً من الخوض في هذا الحب مع الخائضين.
بل إن الحجاج الذي عرف بشدته، لم يكن بعيداً عن هذا الجو المسحور، وله أقوال في العشق والغرام والنساء. منها قوله "عندي أربع نسوة، هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير بن عبد الملك البجلي.. وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك، وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في حديثهم وأشعارهم، وأما ليلتي عند أمة الله، فليلة عالم بين العلماء والفقهاء"(1).
أما سكينة بنت الحسين "فقد تهيأ لها أن تختار أسلوبها في الحياة متحررة من النفاق الاجتماعي، دون أن ينال ذلك من مهابتها، أو يلقي عليها ظلاً من التهاون فيما يجب لمثلها من تصون وعزة، لقد تمردت على المجتمع وسخرت بأوضاعه وأكاذيبه. وربما كان من مظاهر هذا التمرد ظهورها في المجتمع الأدبي على نحو لم تألفه أختها وبنات عمها، ولكنها ظلت مع هذا الظهور بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تنس لحظة ولا نسي المجتمع أنها سكينة بنت الحسين"(2).
وأفرد لها صاحب الأغاني عدة أخبار، فكان يرى أنها تجالس الأجلة من قريش، ويجتمع إليها الشعراء، وتصغي إلى المغنين، وتسيطر على المجتمع الأدبي(3). دون أن تتخلى عن اعتزازها بشرفها العالي. وأحكامها النقدية التي تدل على ثقافتها ورهافة ذوقها الفني منثورة في كتب الأخبار والنقد والأمالي.
فعندما سمعت ""قول الفرزدق" :
__________
(1) العقد الفريد: 6/104.
(2) تراجم سيدات بيت النبوة: 961.
(3) الأغاني: 14/165.(1/104)
هما دلتّاني من ثمانينَ قامةً ... كما انحطَّ بازٍ أَقتمُ الريشِ كاسِرُهْ
قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك، هلاّ سترت عليك وعليها!
وعندما سمعت قول جرير:
طرقتْكَ صائدةُ القلوبِ وليس ذا ... وقتَ الزيارةِ فارجعي بسلامِ
قالت: أولا أخذت بيدها، وقلت لها مايقال لمثلها، أنت عفيف وفيك ضعف.
وعندما سمعت قول كثّير:
وأعجبني يا عزَّ منكِ خلائقٌ ... كرامٌ إذا عُدَّ الخلائقُ أربعُ
دُنُوُّكِ حتى يدفعَ الجاهلَ الصبا ... ودفعُكِ أسبابَ المنى حينَ يَطمعُ
فواللهِ ما يدري كريمٌ مماطل ... أينساكِ إذا باعدتِ أو يتصدَّعُ
قالت: ملحت وشكلت.
وسمعت قول نصيب:
ولولا أن يُقالَ صَبَا نُصيبٌ ... لقلتُ بنفسيَ النَشَأُ الصغارُ
بنفسي كلُّ مهضومٍ حشاها ... إذا ظُلِمَتْ فليسَ لها انتصارُ
فقالت: ربيتنا صغاراً ومدحتنا كبارا(1)
وروت قول الحارث بن خالد المخزومي:
ففرغنَ من سَبعٍ وقد جُهِدَتْ ... أحشاؤهنَّ موائلَ الخُمْرِ
ثم سألت أحسن عندكم ماقال: قالوا نعم، فقالت: وماحسنه؟
فوالله لو طافت الإبل سبعاً لجهدت أحشاؤها!(2)
ومن أخبار ظرفها وطرافتها ماكان يدور بينها وبين أشعب وبينها وبين أزواجها. فيروي صاحب الأغاني أيضاً: "كان زيد بن عمرو بن عثمان قد تزوج سكينة بنت الحسين رضي الله عنه، فعتب عليها يوماً، وخرج إلى مال له.
فذكر أشعب أن سكينة دعته وقالت: ابن عثمان خرج عاتباً عليّ: فاعلم لي حيلة.
قال: لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة. فقالت: أنا أعطيك ثلاثين ديناراً فأعطتني إياها، فأتيته ليلاً، فدخلت الدار، وقلت له: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك. فتسامرا وغناه ليطربه وينسيه. وقال له: لو أصبت مافي نفسي لك حلتي هذه، وقد اشتريتها بثلاث مئة دينار، فغنيته من شعر عمر:
علقَ القلبَ بعضُ ما قد شجاهُ ... من حبيبٍ أمسى هوانا هواهُ
__________
(1) الأغاني: 14/173.
(2) المصدر السابق: 3/327.(1/105)
فأعطاه الحلة ورجع إلى سكينة فقص عليها القصة. فقالت أين الحلة قال أشعب: هذه. فقالت ساخرة: أنت تريد أن تلبس حلة ابن عثمان، لا والله. فقال: قد أعطانيها. قالت: اشتريتها منك فبعتها إياها بثلاث مئة دينار"(1)أما عائشة بنت طلحة، فكانت سيدة قريش الجميلة الذائعة الصيت، تزوجها مصعب بن الزبير، وكانت لا تستر وجهها من أحد، أرسل إليها مصعب عزة الميلاء- وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء(2)-. يريد منها أن تنظر إلى عائشة، وتصفها له فجاءته بعد أن أتمت المهمة وقالت:
"أما والله ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، محطوطة المتنين عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، لفّاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكن ضخمة السرة، مسرولة الساق، يرتج مابين أعلاها إلى قدميها. وفيها عيبان: أما أحدهما: فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن"(3).
وكانت تلتقي عزة الميلاء، وتسمع الغناء منها في مجالس تعدها لها خاصة، وتدعو إليها نسوة من صديقاتها القرشيات يسمعن غناء عزة في دار عائشة.
وقد تناول الشعراء عائشة مادة خصبة لأشعارهم لما تتمتع به من جمال فائق، وحرية متميزة، ومنافسة شديدة مع سكينة التي أصبحت ضرة لها تنافسها على قلب مصعب، الرجل المميز في أحداث الحياة، وحياة هاتين السيدتين.
ومن أهم الشعراء الذين تناولوا عائشة مادة لأشعارهِم، عمر بن أبي ربيعة، وكان رآها تطوف بالبيت، فقال:
لعائشةَ ابنةِ التيميّ عِندي ... حمَى في القلبِ ما يُرعى حماها
يُذكِّرُني ابنةَ التيميّ ظبيٌ ... يرودُ بروضةٍ سهلٍ رُباها
فقلتُ لها وكادَ يُراعُ قلبي ... فلم أَرَ قَطُّ كاليوم اشتباها
سوى حمشٍ بساقِكِ مستبينٍ ... وأَنَّ شواكَ لم يُشبهْ شواها
__________
(1) الأغاني: 4/125.
(2) الدر الممنثور: 284.
(3) المصدر السابق: 284.(1/106)
وأَنَّكَ غيرُ أفرعَ وهي تُدْلي ... على المتنينِ أَسحمَ قَدْ كساها.(1)
وكان عمر لقي عائشة وهي تسير على بغلة لها فقال لها: قفي أسمعك ما قلت فيك، قالت أوقد قلت يافاسق؟ قال نعم فأنشدها:
ياربّةَ البغلةِ الشهباءِ هل لكِ في ... أن تنشري ميّتاً لا تُرْهقي حرجا
قالَتْ: بدائكْ مُتْ أو عِشْ تُعالجُهُ ... فما نرى لكَ فيما عِندَنا فرجا
قد كنتَ حمّلتَنا غيظاً نُعالِجُه ... فإن بُعدْنا فقد عنّيتنا حُججا
ضَنَّتْ بنائِلها عنهُ فقد تركَتْ ... في غير ذنبٍ أبا الخطّابِ مُخْتَلِجا(2)
وكل ما قاله فيها غزل رقيق، ينم على إعجابه بمثال المرأة القرشية المتكامل.
وكذلك الحارث بن خالد المخزومي، الذي كان أسير هواها، يشبب بها ويرسل إليها أشعاره، ويتوسل إليها رجاء التحدث معها، وهو من أخّر الصلاة لتتم طوافها: فقد حجت يوم كان الحارث والياً على مكة، فأرسلت إليه: أخِّر الصلاة حتى أفرغ من طوافي. فأمر المؤذنين، فأخر الصلاة حتى فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة، فصلى بالناس، فأنكر الناس فعله، وأعظموه، فعزله عبد الملك بن مروان، فكتب إليه: والله لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبّرت(3). إنه استهتار مابعده استهتار من أجل هذه الفاتنة.
وكانت على رغم تمنعها عليه، تستملحه وتحب شعره فيها، وتعرف مكانتها في قلبه، وتغزل فيها بأشعار كثيرة. لكنها عندما مات زوجها عمر بن عبد الله التيمي، وكانت قبله عند مصعب، قيل للحارث: ما يمنعك الآن منها؟ قال: لايتحدث والله رجال من قريش أن نسيبي بها كان لشيء من الباطل(4).
وهل يؤخر الصلاة من أجل فتاة كانت مادة لنسيبه فقط!! أم أنها غير هذا؟ وكان يكني عنها في أشعاره باسم جاريتها بسرة أو بشرة فيقول:
__________
(1) الأغاني: 10/60.
(2) المصدر السابق: 1/81 وفي الديوان ص469. ... أنْ ترجمي عُمَراً لا ترهقي حرجا
0@يا ربة البغلة الشهباء هل لكم
(3) الأغاني:1/81.
(4) المصدر السابق: 3/13.(1/107)
واهاً لبُسْرةَ لو يدنو الأميرُ بها ... يا ليتَ بُسْرةَ قد أمْسَتْ لنا أَمما
حلَّتْ بمكةَ لا دارٌ مصاقِبةٌ ... هيهاتَ جيرونُ مِمَّنْ يسكنُ الحرَما
يا بُسْرُ إنّكُمُ شطَّ البعادُ بكمْ ... فما تُنيلونَنا وصلاً ولا نِعما
قد قلتُ بالخيفِ إذا قالَتْ لجارتِها ... أدامَ وصلُ الذي أهدى لنا الكَلِما
لا يُرْغِمُ اللهُ أنفاً أنتَ حاملُهُ ... بل أنفُ شانيكَ فيما سرَّكُمْ رَغِما(1)
أما أخبارها مع زوجها مصعب فكانت مادة شديدة الثراء للقصاص والرواة، يتدخلون في أعمق أسرارها الزوجية معه، ويتحدثون بها، وينقلون عن مصعب أحداثاً وحكايات، منها أن الشعبي قال: "دخلت المسجد باكراً وإذا بمصعب ابن الزبير والناس حوله، فدنوت منه، وطلب مني أن أتبعه إذا نهض، فتبعته إذ توجه إلى دار موسى بن طلحة، وطلب مني الدخول فدخلت، فإذا حجلةٌ(2). فطرحت لي وسادة فجلست عليها، ورُفع سجف القبة فإذا أجمل وجه رأيته قط، فقال: يا شعبي هل تعرف هذه؟ قلت: نعم، هذه سيدة نساء العالمين عائشة بنت طلحة، ثم خرجت، فلما كان العشي التقيت بمصعب في المجسد، فقال لي: أتدري لما أدخلناك؟
قلت: لا، قال: لتحدث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة فقال:
أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوباً، فما انصرف أحد بمثل ماانصرفت به، بعشرة آلاف درهم والثياب، ونظري إلى عائشة"(3).
ولكن أيعقل أن يبحث هذا الرجل العظيم القدر، والمكانة السياسية والاجتماعية، عمن يعلن عن بضاعته، إنه أشبه بعقد دعائي، جرى بين مصعب والشعبي. إنه يطلب منه أن يتحدث عن جمال زوجته عائشة بنت طلحة، ويذكر ذلك للناس، مع أن عائشة لم تكن بحاجة إلى إعلان عنها بواسطة الشعبي، وهي التي كان سافرة يراها الناس كافة.
__________
(1) شعر الحارث بن خالد المخزومي: 95. أمما: قريبة. مصاقية: مقاربة، جيرون: من أبواب دمشق.
(2) الحجلة: بيت يزين بالثياب والستور والأسرّة.
(3) عيون الأخبار: م4/21.(1/108)
فهل شغل مصعب بالمرأة إلى حد أنه بعث لمن ينظر إليها ويتحدث بما رأى، ويعطيه جائزة مقابل إعلانه. هل أخطئ إذا ظننت أن على الباحث أن يتردد في قبول هذه الأخبار؟
وكانت أيضاً هند بنت أسماء بن خارجة الفزازي زوجة الحجاج، تحاول تقليد سكينة وعائشة، وكانت تدفع جريراً إلى الغزل فيها، وكانت قد طلبت من زوجها الاستماع إلى جرير، فأذن لها، وشارك في المجلس، وجرير لايعلم، إذ استنشدته من رواء حجاب، فقالت له: يا بن الخطفي أنشدني ما شببت به في النساء. قالت يا عدو الله وأين قولك
طرقتك صائدة القلوب....
قال: ما قلت هذا، ولكني أنا الذي أقول:
لقد جرَّدَ الحجّاجُ للحقِّ سيفّهُ ... ألا فاستقيموا لا يَميلَنَّ مائلُ
وما يستوي داعي الضلالةِ والهدى ... ولا حُجّةُ الخصمينِ حقٌ وباطلُ
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
خليليَّ لا تستغزرا الدمعَ في هند ... أعيذكما باللّهِ أَنْ تَجِدا وَجدي
ظمئتُ إلى شرْبِ الشراب وحُسْنهِ ... كذي فرْيةٍ يرجو هُداها وما يجدي
قال لها: ماقلت هذا، ولكني الذي أقول:
وَمَنْ يَأَمَنُ الحجّاجَ أمّا عقابُهُ ... فمُرٌّ وأما عَقْدُهُ فوثيقُ
يُسِرُّ لك البغضاءَ كلُّ منافقٍ ... كما كلُّ ذي بِرٍّ عليك شفيقُ
قالت: دع عنك هذا، فأين قولك:
يا عاذليَّ دعا الملامةَ واقصرا ... طالَ الهوى وأَطلتما التفنيدا
إني وجدتُ ولو أردتُ زيادةً ... في الحبّ عندي ما وجدتُ مَزيدا
فقال: باطلٌ أصلحك الله، ولكني الذي أقول:
مَنْ سَدَّ مُطَّلَعَ النفاقِ عليكمُ ... أمْ مَنْ يصولُ كصولةِ الحَجَّاجِ
أمْ مَنْ يَغارُ على النساءِ حفيظةً ... إذْ لا يثقنَ بغيرةِ الأزواجِ
فقال الحجاج: يا عدو الله، تحرض على النساء، فقال: لا والذي أكرمك أيها الأمير ما فطنت لهذا، وما علمت بمكانك فأقلني جعلني الله فداك، قال: قد فعلت، فأمرت له هند بجارية وكسوة"(1)
__________
(1) مروج الذهب: 3/152.(1/109)
ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسماء، السيدات اللواتي اشتهرن في غزل عمر بن أبي ربيعة، وأهمهن الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث. وكانت صلتها بالمغنين عظيمة وكذلك بعمر(1)فقد شغف بها، وقصة غرامهما تملأ صفحات عدة من الأغاني والديوان. وفيها يقول:
مَنْ رسولي إلى الثريّا فإني ... ضقْتُ ذرعاً بهجرِها والكتابِ
سلبتني مَجّاجةُ المسكِ عقلي ... فسَلُوها ماذا أَحلَّ اغتصابي
وَهْيَ مكنونةٌ تَحَيَّرَ منها ... في أَديمِ الخدّينِ ماءُ الشبابِ
أَبرزوها مثلَ المهاةِ تَهادى ... بينَ خمسٍ كواعبٍ أَترابِ
ثم قالوا: تُحبُّها قلتُ: بَهراً ... عددَ القطرِ والحصى والترابِ(2)
والسيدة الأخرى، كان زينب بنت موسى الجمحية، التي اقترن بها، وكانت من سيدات قريش النبيلات، جميلة برزة، تعلق بها عمر وأرسل إليها قائلاً:
لقد أَرسلتُ جاريتي ... وقلتُ لها خُذي حذّرا
وقولي في ملاطفةٍ ... لزينبَ نوِّلي عُمَرا(3)
وكانت زينب كالثريا، مترفة غاية الترف، كادت تذهب بعقله ونفسه فلحقها إلى المدينة يبثها أشعاره، ومشاعره ويقول:
أيُّها الكاشحُ المعيّرُ بالصَّرْ ... م تزحزحْ فما لَها الهِجرانُ
لا مطاعٌ في آلِ زينَب فارجعْ ... أو تَكلَّمْ حتى يَمَلَّ اللسانُ
كيف صبري على بعض نفسٍ وهل يَصْب ... ر عن بعضِ نفسِهِ الإنسانُ(4)
وكانت كغيرها من النساء في ديوان عمر تعبر عما أصاب المجتمع من تحضر وتحرر فتبدو ولها من الترف والدلال والزهو ما لم يكن لغيرها من النساء فيما سلف من الزمن.
ثم ماذا عن قلوب أميرات البيت الأموي الحاكم، فهل كن بمنأى عن الشعر والشعراء وقصص الحب والغرام؟
__________
(1) الأغاني: 1/236.
(2) االمصدر السابق: 1/222.
(3) المصدر السابق: 1/93.
(4) الأغاني: 1/102.(1/110)
إن أول من شهرت أخبارها عاتكة بنت معاوية، مؤسس الدولة الأموية. إنه معاوية الذي فاقت أخبار دهائه وحزمه وسياسته كل شيء آخر، ولكن ابنته لم تكن بمنجاة من العشق والغرام، وفارس هذه الأميرة قرشيٌ من أجمل الناس وأحسنهم، كما تقول الرواية، وتصف اللقاء بينهما على النحو التالي: "حجت عاتكة بنت معاوية، فبينا هي جالسة ذات يوم وقد اشتد الحر، وانقطع الطريق، إذ أمرت جواريها، فرفعن الستر وهي جالسة مجلسها، وعليها شفوف لها، تنظر إلى الطريق، إذ مر بها أبو دهبل، وكان من أجمل الناس وأحسنهم، فوقف طويلاً ينظر إليها، وإلى جمالها، وهي غافلة عنه، فلما فطنت له سترت وجهها، وأمرت بطرح الستر، فقال فيها:
إنّي دعاني الحَيْنُ فاقتادَني ... حتى رأيتُ الظبيَ بالبابِ
يا حُسْنَهُ إذ سبَّني مُدبِراً ... مسْتَتِراً عنّي بِجِلبابِ
سبحان من وقفها حسرة ... صب على القلب بأوصاب
يذودُ عنها إن تطلبتها ... أبٌ لها ليسَ بوهَّابِ
أَحلَّها قصراً منيعَ الذُرى ... يحمى بأبوابٍ وحُجَّابِ(1)
وعندما سمعت عاتكة الأبيات تغنى وتشتهر، ضحكت وأعجبتها وبعثت إليه بكسوة وجرت الرسائل بينهما، حتى علم معاوية وقرأ الأشعار التي أرسلها إليها. فأراد يزيد أن يرسل له أحد عماله بمكة فيقتله، فحذره معاوية من فعلته، ولجأ إلى أسلوب آخر، فكان يصله دائماً بأموال، ويأخذ عليه العهود، على أن يترك أمر ابنته عاتكة. ولكن جهوده تذهب سدىً، حتى اضطر معاوية أخيراً أن يذهب إلى مكة بحجة أن يحج، ويتفق مع أبي دهبل على تزويجه إحدى بنات عمه(2). وقال فيها أيضاً:
طالَ ليلي وَبِتُّ كالمجنونِ ... واعترتني الهمومُ بالماطرونِ
صاحَ حَيّا الإلهُ حَيّاً ودوراً ... عند أصلِ القناةِ من جيرونِ
فلتلكَ اغتريتُ في الشامِ حتى ... ظنَّ أهلي مُرْجَماتٍ الظنونِ
وَهْيَ زهراءُ مثلُ لؤلؤةٍ الغوّاص ... مِيزَتْ من جوهرٍ مَكنونِ
__________
(1) المصدر السابق: 6/158.
(2) مقدمة ديوان أبي دهبل:19.(1/111)
وإذا ما نسْبتَها لم تَجِدْها ... في سنانِ من المكارمِ دونِ
ثم خاصرتُها إلى القبّة الخضراءِ ... تمشى في مرمرٍ مسنونِ
تجعلُ المسكَ واليلنجوجَ والندَّ ... صلاء لها على الكانونِ
ثم فارقتُها على خيرِ ماكا ... ن قرينٌ مفارِقاً لقرينِ
فبكَتْ خشيةَ التفرُّقِ للبيـ ... ن بكاءَ الحزينِ نحو الحزينِ(1)
ويصف مرة أخرى موقف أبيها منه:
حمى الملكُ الجبّارُ عني لقاءَها ... فمِنْ دونِها تُخْشى المتالِفُ والقتلُ
فلا خيرَ في حبٍ يُخَافُ وَبَالُهُ ... ولا في حبيبٍ لا يكونُ لَهُ وَصْلُ
فواكبدي إنّي شُهرِتُ بحبِّها ... ولم يكُ فيما بيننا ساعةً بذْلُ(2)
وظل يردد نغمات حبه وأشواق قلبه، وكأنه عارف بأنها مسرورة تريد منه المزيد. ولمَ لا؟ أليست أنثى، وكلهن يحببن الثناء والإعجاب بهن- على رأي الشعراء- فهو يخاطبها متولهاً بحبها، متدلهاً بجمالها ومكانتها:
أَعاتِكُ هلاّ إذْ بخلتِ فلا تُرِي ... ذي صبوةٍ زُلفى لديكِ ولاحقا
رددْتِ فؤاداً قد تولّى بهِ الهوى ... وسَكّنْتِ عيناً لا تملُّ ولا تَرقا
ولكن خلعت القلبَ بالوعدِ والمنى ... ولم أرَ يوماَ منكِ جُوداً ولا صِدقاً
أتنسينَ أيّامي بربعِك مُدْنَفاً ... صريعاً بأرضِ الشامِ ذا سَقِمٍ مُلقى
وأكبرُ همّي أن أَرى لك مُرْسَلاً ... فطولَ نهاري جالسٌ أَرقُبُ الطُّرقْا(3)
__________
(1) ديوان أبي دهبل: 68. اليلنجوج، عود البخور، الند: عود يتبخر به، الكانون الموقد.
(2) المصدر السابق: 99.
(3) المصدر السابق: 100.(1/112)
وتشير الأخبار إلى أنهن أحببن ذلك من الشعراء، بل سعين إليه سعياً، فعندما حجت أم محمد بنت مروان بن الحكم، وقضت نسكها، أتت عمر بن أبي ربيعة، وقد أخفت بيتها في نسوة فحدّثها ملياً، فلما انصرفت أتبعها رسولاً عرف موضعها، وسأل عنها حتى أثبتها، فعادت إليه بعد ذلك، فأخبرها بمعرفته إياها، فقالت نشدتك الله ألا تشهرني بشعرك، وكأنها تحرضه بهذه العبارة على قول الشعر فيها وبعثت إليه ألف دينار، فقبلها وابتاع لها حللاً وطيباً، فأهداه إليها، فردته، فقال لها: والله لئن لم تقبليه لأنهبنه، فيكون مشهوراً، فقبلته ورحلت(1). ومما قاله فيها:
أيُّها الرائحُ المُجِدُّ ابتكاراً ... قد قضى من تِهامةَ الأَوطار
مَنْ يكنْ قلبُهُ صحيحاً سليما ... ففؤادي بالخيفِ أَمسى مُعارا
ليتَ ذا الحجَّ كانَ حتماً علينا ... كلَّ شهرينِ حَجَّةً واعتماراً(2)
ولما قدمت فاطمة بنت عبد الملك، مكة وجعل عمر يدور حولها، ويقول فيها الشعر، لكنه لم يذكر اسمها خوفاً من عبد الملك والحجاج(3)، فلما قضت حجها وارتحلت أنشأ يقول:
كدتُ يومَ الرحيلِ أَقضي حياتي ... ليتني متُّ قبلَ يومِ الرحيلِ
لا أُطيقُ الكلامَ من شدّةِ الوجـ ... د ودمعي يَسيلُ كلّ مَسيلِ
ذَرَفَتْ عينُها ففاضتْ دموعي ... وكلانا يَلْقَى بِلُبَّ أَصيلِ
لو خَلَتْ خُلّتي أصبتُ نُوالاً ... أو حديثاً يشفي مع التنويلِ
ولقد قالتِ الحبيبةُ: لولا ... كثرةُ الناسِ جُدْتُ بالتقبيلِ(4)
ويقول فيها أيضاً:
شاق قلبي تذكُّرُ الأحباب ... واعترتني نوائب الأطرابِ
ياخليليَّ فاعلما أن قلبي ... مسْتهامٌ بربةِ المحرابِ
علَّق القلبُ من قريش ثقالاً ... ذات دلٍ نقية الأثوابِ
ربّةً للنساء في بيت مَلْكٍ ... جدُّها حَلَّ ذروة الأحسابِ
__________
(1) الأغاني: 1/69.
(2) ديوان عمر: 493.
(3) مقدمة ديوان عمر: 50.
(4) ديوان عمر: 337.(1/113)
وكان للمرأة خارج قصور الطبقة العليا، سجل حافل دونه شعراء الحجاز، وأكدوا فيه ارتباط الحياة بالمرأة والحب معاً، فبينت أشعارهم الحاجة إلى المرأة من أجل الحياة المتكاملة، فأحبوا المرأة وأحبوا الحياة. وأقبلوا عليهما معاً يحققون بهما ضرباً من التكامل النفسي، وينشغلو عن الأمور المهّمة التي حيل بينهم وبينها، وتسربت من بين أيديهم بسبب السياسة الأموية التي أبعدتهم عن الأعمال الأساسية في الدولة الجديدة، بعد أن كانوا ركيزة الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأصبحوا فارغين إلاّ من طلب لذاذات العيش ولاسيما الحب والمرأة.
وتميزت بعض النساء بالقوة والثقافة والعقل، فكن يقابلن الرجال، ويتحادثن معهم في أمور الثقافة والأدب والفن، ونلحظ أن غالبية النساء كن واثقات بأنفسهن وثقافتهن، وكن يعملن على تدعيم تلك الثقة بلقاء الشعراء والتحادث معهم، فنطالع أخبار "امرأة برزة جزلة، كانت تقيم ندوة ثقافية في دارها، يجتمع إليها الرجال. وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، وكانت توصيه بحفظ ماكان بينهما وكتمانه، فضمن لها ذلك، فوقفت عليه زوجته، فدست إليها امرأة داهية من عجائز أهلها خربت ماكان بينهما، وكانت السبب في امتناعها عن مجلسها واحتجابها ومنع كل من كان يجالسها من المصير إليها(1). وذلك لأنه خان ثقتها به، بعد أن انطلت عليها حيلة العجوز.
وكذلك كانت كثيرة كفيلة عبيد الله بن قيس الرقيات في أزمته الشديدة.
ولم تكن خرقاء صاحبة ذي الرمة بأقل من هؤلاء مكانة ومهابة وثقافة.
وأصبحت المرأة هي التي تبرز للشعراء، وتطالب بوصفها، كما حدث مع المتوكل الليثي:
عندما أتاه غلام له، قال له بالباب امرأة تدعوك، فخرج إليها، وسفرت عن وجهها فإذا الشمس طالعة -كما يقول الخبر، وعندما سألها عن حاجتها قالت:
بلغني أنك شاعر، فأحببت أن تشبب بي في شعرك، فكرر طرفه في وجهها ثم قال:
__________
(1) الأغاني: 6/155.(1/114)
أَجدَّ اليومَ جِيرتُكَ احتمالا ... وحَثَّ حُداتُهُمْ بهمْ الجمالا
وفي الأَظعانِ آنسةٌ لَعُوْبٌ ... ترى قتلي بغيرِ دمٍ حَلالا(1)
وخبر عمر بن أبي ربيعة مع النسوة اللواتي تبالهن بعرفانه بعد أن خططن للقائه أشهر من أن يقص(2)، وفي أخبار نصيب أيضاً مايؤكد حديثنا عن تطور المرأة في المجتمع الأموي وتحضرها، وأخذها من ثقافة عصرها، وعرضها لذلك بفخر إذا لزم الأمر فعندما أتى نصيب مكة "أتى المسجد الحرام ليلاً، فبينما هو كذلك، إذ طلع ثلاث نسوة فجلسن قريباً منه، وجعلن يتحدثن ويتذاكرن الشعر والشعراء، وإذا هن من أفصح النساء وآدبهن، فقالت إحداهن: قاتل الله جميلاً حيث يقول:
وبينَ الصفا والمروتينِ ذكرتُكُمْ ... بمختلفٍ مابينَ ساع وموجفِ
وعند طوافي قد ذكرتُكِ ذكرةً ... هيَ الموتُ بل كادتْ عنِ الموتِ تَضعفُ
فقالت الأخرى: بل قاتل الله كثيّر عزة حيث يقول:
طلعنَ علينا بين مروةَ والصفا ... يمُرْنَ على البطحاءِ مَوْرَ السحائبِ
فكدْن لعمرُ اللهِ يُحْدِثْنَ فتنةً ... لمختشِعٍ من خَشية اللّهِ تائب
فقالت الأخرى: قاتل الله ابن الزانية نصيباً حيث يقول:
أُلامُ على ليلى وَلَوْ أَستطيعُها ... وحُرمةِ مابينَ البنيّةِ والسّترِ
لَمِلْتُ على ليلى بنفسيَ ميْلَةً ... ولو كانَ في يومِ التحالفِ والنحرِ
فقام نصيب إليهن فسلم عليهن، فرددن السلام، وأنشدهن قصيدته التي منها:
ويومَ ذي سَلَمٍ شاقَتْكَ نائحةٌ ... ورقاءُ في فَننٍ والريحُ تطرب
فقلن له: نسألك بالله وبحق هذه البنية من أنت؟ قال: أنا ابن المظلومة المقذوفة بغير جرم نصيب، فقمن واعتذرن إليه. وقالت:
إنما حملني الاستحسان لقولك. فضحك وجلس إليهن فحادثهن إلى أن انصرفن"(3).
__________
(1) المصدر السابق: 11/43,
(2) المصدر السابق: 1/72.
(3) الأغاني: 1/150.(1/115)
وكذلك نلتقي ليلى صاحبة المجنون هي ورفيقاتها يتحدثن إليه، وكان أكرمهن ونحر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينما هو كذلك، إذ طلع عليهن فتى عليه بردة من برود الأعراب، فلما رأينه أقبلن عليه، وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن(1).وكانت العرب ترى غير منكر أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات(2).
ولعل موقف الجارية التي حزنت على النساء بعد وفاة عمر بن أبي ربيعة، خير شاهد على ماوصلت إليه المرأة في العصر الأموي، فهي تندب حظها وحظ النساء من بعد عمر بن أبي ربيعة، وتقول وهي تبكي: من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها ووصف نسائها وحسنهن وجمالهن؟ فقيل لها: خفّضي عليك، فقد نشأ فتى من ولد عثمان يأخذ مأخذه، ويسلك مسلكه، فضحكت وقالت:
الحمد لله الذي لم يضيع حرمه(3).
وكان شعراء الحجاز قد عبروا عن ذلك بتعدد حكايات الغرام، وكثرة النساء والأسماء في أشعارهم، والتركيز على صورة المرأة التي تبادلهم الحب، وتتصرف بأمور قلبها وعشقها، فترسل طالبة اللقاء، أو تدبر معرضة من غير حساب لقلب من ينتظر، وتعاتب وترضى وتصرم وتتودد. فصوروها بكل أحوالها النفسية، راضية وساخطة، عاشقة وكارهة. وأكثر من جسد ذلك في شعره عمر بن أبي ربيعة، وحديث الرسل في شعره له دلالات حضارية مهمة، إذ ظهرت طائفة من هؤلاء الوسطاء الذين يقربون بين المرأة والرجل، ويتميزون بالذكاء والفطنة واللسان الرقيق، فيذللون الصعاب، ويرققون النفوس، وينتهي على أيديهم كل خصام إلى ما يرتضون ويتمنون. يقول في ذلك:
أَرسلَتْ نحويَ الرسولَ لألقا ... ها فأرسلتُ عند ذاكَ بأَنْ لا
لستُ أسطيعُ للرسولِ وأيقنـ ... ت يقيناً بلومِها حينَ ولّى
رَجَعَتْه إليّ لمّا أَتاها ... وبأَيمانِها عليَّ تألَّى
قالَ: أمْسَتْ عليكَ عبدةٌ غضبى ... عزَّ ذاكَ الغداةَ منها وَجَلاَّ(4)
__________
(1) المصدر السابق: 1/171.
(2) المصدر السابق: 1/183.
(3) المصدر السابق: 1/154.
(4) ديوان عمر: 364.(1/116)
وتكررت الإشارة إلى رسائلها في شعره، كأن يقول:
كتبتْ تعتبُ الربابُ وقالَتْ ... قد أَتانا ما قلتَ في الأشعارِ(1)
ويقول أيضاً:
لقد أَرسلَتْ نُعْمٌ إلينا أَنِ اُئتنا ... فأحبِبْ بها من مُرْسِلٍ مُتَغّضِّبِ(2)
ويشير إلى وعيها بالخطر المحدق بها وإصرارها في الوقت ذاته على لقائه، فتبدو لائمة غضبى، لأنه لم يعلمها بموعده المباغت، لكنها لا تلبث أن تسترضيه قائلة:
هلاّ دَسَسْتَ رسولاً منكَ يُعْلِمنُي ... ولم تَعجَّلْ إلى أَن يسقط القمرُ(3)
لقد كان الحب في شعر عمر عاطفة مشتركة بين الرجل والمرأة، وإعجاباً متبادلاً، يفصح كلاهما لصاحبه عما يعانيه من حرارة الحب وحرقة الوجد. يقول:
بنفسيَ مَنْ أشتكي حُبَّهُ ... ومَنْ إنْ شكا الحبَّ لم يكذبِ
ومَنْ إن تسخّطَ أعتبتُهُ ... وإنْ يَرَني ساخطاً يُعِتبِ
وَمَنْ لا أُبالي رضا غيرِهِ ... إذا هو سُرَّ ولم يَغضبِ(4)
وفي شعره نقرأ أفكار النساء ومايدور في أذهانهن في حالات الحب، وكيف يظهر بعضهن العون لبعضهن من أجل إتمام متطلبات القلب والأشواق:
وقالتْ لِتربَيْها غداةَ لقيتُها ... ومُقْلتُها بالماءِ والكحلِ تَدْمَعٌ
بذي الشّرْيِ هل مِنْ موقفٍ تقفانِهِ ... لعلَّ المغيريَّ الغداةَ يودِّعُ
فلّما رأَتْ كبراهما ما بأُختِها ... أرمَّتْ فما تُعطي ولاهيَ تمنعُ
وقالت لها الصغرى هداكِ لما أَرى ... هوىً غيرُ معصيٍّ ولبٌّ مُشيَّعُ
أيخفى على ظهرٍ وقوفُ مطيةٍ ... براكبها هذا من الأَمرِ أَشنعُ(5)
ويكرر عمر تعاونها مع رفيقاتها من أجل تحقيق ماتبغي في عدد من القصائد(6).
__________
(1) المصدر السابق: 126.
(2) المصدر السابق: 426.
(3) المصدر السابق: 115
(4) ديوان عمر: 434.
(5) المصدر السابق: 183. أرمت: أرم الرجل إذا سكت، فلم يتكلم وهو خاص بسكوت عن خوف. مشيع: جريء.
(6) يرد ذلك في ص184-192-202-99-130-135.(1/117)
وكثر في شعر عمر تصوير النساء وهن مقبلات عليه، وهو بذلك يشوش صورة المرأة في البيئة الحجازية، التي كانت في حقيقة أمرها وحياتها، مراقبة مراقبة شديدة ولاسيما من الأسرة، وبدت مرات كثيرة، لاتستطيع الحركة إلا ضمن الأسرة، أو مع مجموعة بديلة للأسرة تحل محلها في الرقابة كما بينت سابقاً.
لكن نساء الحجاز في شعر عمر يحتلن على الرقابة ويتساعدن وينجحن في تحقيق بعض اللقاءات الخارجية في متنزهات ورياض الحجاز:
إذْ تمشَّيْنَ بجوِّ مُوْنقٍ ... نيرِّ النبتِ تَغَشَّاه الزَّهَرْ
بدماثٍ سهلةٍ زيَّنَها ... يومُ غيمٍ لم يخالطْهُ قَتَرْ
فعرفَنَ الشوقَ في مقلتِها ... وحُبابُ الشوقِ يُبديهِ النّظرْ
قُلْنَ يسترضينها مُنْيَتُنا ... لو أتانا اليومَ في سرٍّ عُمَرْ
بينما يذكُّرْنَني أَبصرْنَني ... دونَ قِيْدِ المِيلِ يَعدو بيْ الأَغَرّ(1)
ويقول في أخرى تحتال للظفر برؤيته من غير أن يشعر بها حتى لايصرمها:
ثمَّ قالت للتي معها ... لا تُديمي نحوَهُ النّظرا
خالسيهِ أُختُ في خَفَرٍ ... فوعيتُ القولَ إذا وقرا(2)
وبدت النساء في شعره خائفات مذعورات على قلوبهن ومشاعرهن لأنه كثير التقلب والملل لا يكاد يحب واحدة حتى ينظر إلى أخرى، وتستجيب الأخرى بسرعة، فعبّر عما تحس به هؤلاء النسوة من جزع خشية فراقه لهن، وكلهن يعرفن علّته:
تقولُ إذْ أَيقنَتْ أنّي مفارقُها ... يا ليتني متُّ قبلَ اليومِ ياعمرُ(3)
وهو لاينسى هذه التي رجته أن يؤجل رحيله:
أَنْ أَرجِ رحلتَكَ الغداةَ إلى غدٍ ... وثَواءُ يومٍ إنْ ثويتَ يسير(4)
وتلك التي لاحظت ازوراره عنها:
ثم قالتْ عند العتابِ رأينا ... فيكَ عنّا تَجَلّداً وازورارا(5)
والانطباع العام عن النساء في شعر عمر أنهن مغرقات في الحب والخيال، عتابهن كثير ورضاهن عزيز حيناً وأحياناً يسير:
__________
(1) ديوان عمر: 150.
(2) المصدر السابق: 162.
(3) المصدر السابق: 123.
(4) المصدر السابق: 130.
(5) المصدر السابق: 139.(1/118)
ولاأَنسى مقالتَها ... لتِرْبَيْها ألا أنتظرا
أبا الخطّابِ نَنْظُرُ فيمَ ... بَعدَ وصالِه هَجَرا
وَقوْلا قد ظَفِرْتَ بها ... كفاكَ وَخَبِّرا الخبرا
وقوله أيضاً:
ولستُ بناسٍ مقالَ الفتاة ... غداةَ المحصّبِ إذْ جَمرَّوُا
أَلستَ مُلِمّاً بنا يا فتى ... إذا نامَ عنّا الأُلى نحذرُ(1)
ويقول في محاولته إرضاءها:
فقلتُ لمّا تَخلَّسَ الوَجْدُ عقلي ... لسليمى ادّعي رسولاً مريعا
فابعثيه فأخبريهِ بعذري ... واشفِعي لي فقد غَنيتِ شفيعا
عند هندِ وذاكَ عصرٌ تولّى ... بانَ منّا فما يريدُ رجوعا
فأتتْها فأخبرتْها بعذري ... ثم قالت أتيتِ أمراً بديعا
فاقبلي العذرَ متُّ قبلكِ مِنْه ... وهي تُذْري لِما عَنَاها الدموعا
فأصاختْ لقولِها ثم قالتْ ... عادَ منهُ هذا الحديثُ رجيعا
ارجعي نحوهُ فقولي وعَيْشي ... لا تَهنَّا بما فعلتَ ريبعا(2)
ورغم قسمه المعظم لها بحبه لها، فإنها تصدّ عنه وتتجهم:
ووالّلهِ ما أحببتُ حُبَّكِ أَيّمَاً ... ولاذاتَ بَعلٍ ياهنيدةٌ فاعلمي
فَصَدَّتْ وقالَتْ كاذبٌ وَتَجهَّمَتْ ... فنفسي فَداءُ المعرِضِ المتجهِّمِ(3)
فلم يكن إذاً تحرر المرأة في الحجاز وماحصلت عليه من امتيازات الخروج والظهور وسماع الأشعار والغناء، مظهر انحراف سلوكي واجتماعي، بل كان وسيلة للتعبير عن الروح الحضارية والذوق المترف الذي وصلت إليه المرأة والمجتمع، فجاء الشعراء وأضافوا إلى هذا النموذج أي المرأة المتحررة المتذوقة- أطيافاً من موهبتهم الفنية وصورهم الشعرية، فكانت وسيلة متعة فنية.
ومما يتعلق بهذا القول، انتظار الشعراء لمواسم الحج، وبحثهم عن النموذج النسوي، مما زاد في قصص الغرام والتجارب الفنية الجديدة، وأدى إلى اشتهار أفواج أخرى من النساء.
__________
(1) ديوان عمر: 168.
(2) المصدر السابق: 192 تخلس: استلب. ادّعى: أراد: اطلبي. مريع: أراد جريء شجاع.. غنيت شفيعاً: أراد ما أغناك نفيعاً. أصاخت: استمعت. رجيع: أي مكرر.
(3) المصدر السابق: 203.(1/119)
كانت مواسم الحج تتيح للشعراء رؤية النساء من مختلف الأمصار الإسلامية، وكان الشعراء يرون في هذه المواسم عنصراً شعرياً يلفت النظر بل يصدم الإحساس الديني ويثيره، فأكثروا في أشعارهم من ذكر المناسك وأيام الحج ومواقعه واستغلوا ذلك كله أطيب استغلال. كان العرجي يصور النساء الحواج وهن مشغولات عن فريضتهن بحديثه ومراقبته، ووصف ما تغير من صورة شبابه المشرق الجميل:
رأَتني خضيبَ الرأسِ شَمَّرْتُ مئزري ... وقد عهدتني أسودَ الرأسِ مسبلا
لدى الجمرةِ الوسطى فرِيعَتْ وهلَّلَتْ ... ومَنْ رِيْعَ في حَجٍّ من الناسِ هَللاّ
وقالتْ لأخرى عندَها تعرفينَهُ ... أليس بهِ قالتْ بلى ما تبدّلا
سوى أَنّهُ قد حالَتِ الشمسُ لوْنَهُ ... وفارقَ أشياعَ الصِّبا وتبذَّلا
فلمّا أرادَتْ أنْ تَبيَّنَ مَنْ أَنا ... وتعلمَ ماقالت لها وَتأَمَّلا
أماطتْ كِساءَ الخزِّ عن حرِّ وجهِهَا ... وأَدنْتَ على الخدّينِ بُرْداً مُهْلَهلا
من اللاءِ لم يَحجْجْنَ يبغينَ حِسْبَةً ... ولكنْ ليقتلنَ البريء المغَفُّلا(1)
فهن في رأيه قد جئن للحج لغاية غير التي يظهرن، وقد وقف على سرائر نفوسهن وكشفها. ويراهن العرجي مرة أخرى في الأماكن المقدسة يؤدين شعائر الحج، فيراقبهن عن كثب، ويصور مايدور في ذهنه حيالهن:
حتى استلمنَ الركنَ في أُنُفٍ ... من ليلِهِنَّ يطأَنَ في الأزْرِ
يَقْعُدْنَ في التطوافِ آونةً ... ويَطُفْنَ أحياناً على فَتْرِ
ففرغنَ من سبعٍ وقد جُهدتْ ... أحشاؤهن موائل الخُمْرِ(2)
__________
(1) ديوان العرجي: 71 تبذل: ترك الأناقة.
(2) ديوان العرجي: 184.(1/120)
وكان الحارث بن خالد المخزومي يرى النساء في الحج أو العمرة، عند الطواف أو في منى، فإذا ما أدين الفرائض، ورحلن، بقي الحارث يستعيد الذكرى ويتأمل المواضع، وكان مرة يقف على جمرة العقبة عندما رأى أم بكر وهي ترمي الجمرة، فرأى أحسن الناس وجهاً، وكان يرى وجهها بسبب الإحرام، فسأل عنها، وأرسل إليها، أن تأذن له في الحديث، فأذنت له وكان يأتيها ويتحدث إليها، حتى انقضت أيام الحج، وعندما أرادت الخروج إلى بلدها قال فيها:
أَلا قُلْ لذاتِ الخالِ يا صاحِ في الخدّ ... تدومُ إذا بانَتْ على أَحسنِ العهد
ومنها علاماتٌ بمجرى وِشاحِها ... وأخرى تَزينُ الجيدَ في موضعِ العِقدِ
وترعى من الودِّ الذي كانَ بيننا ... فما يستوي راعي الأمانةِ والمبدي
وقلْ قد وعدْتِ اليومَ وعداً فأنجزي ... ولا تُخلفي لا خيرَ في مُخْلِفِ الوعِدِ(1)
وكثر في شعر عمر بن أبي ربيعة أيضاً مشهد النساء وهن يؤدين المناسك، ففي نعم يقول:
جلت نُعمٌ على عَجَلٍ ... ببطنِ مِنىً وَهُمْ حُرْمُ
أسيلاً ليسَ فيه لنا ... ظرٍ عَيْبٌ ولا كَلْمُ(2)
ويذكر أنه رآها بالمحصب من منىً:
لقد عرضتْ لي بالمحصّبِ من منىً ... لحَيْنيَ شمسٌ سُتّرتْ بيمانِ(3)
ويصف مواكب النساء وهن يتهادين في عرفات:
صادَ قلبي اليومَ ظبيٌ ... مقبلٌ مِنْ عَرفَاتِ
في ظباءٍ تتهادى ... عامداً للجَمَراتِ(4)
ويؤكد أنه لايلقاها إلا في موسم الحج:
ما نلتقي إلاّ إذا ... نزلَتْ مِنىً بِقِبابِها
في النّفرِ أو في ليلةِ التحصيبِ عند حصابِها(5).
ويذكر تحية إحدى النساء إليه، والحجيج يهمون بالنزول من عرفات لإكمال مناسكهم:
أشارَتْ إلينا بالبنانِ تحيةً ... فردَّ عليها مثلَ ذاكَ بنانُ
__________
(1) ديوان الحارث: ق7.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 260.
(3) المصدر السابق: 265.
(4) ديوان عمر : 388.
(5) المصدر السابق: 383.(1/121)
فقلتُ وأهلُ الخيف قَدحان منهم ... خفوفٌ ومايبدي المقالَ لسانُ(1)
المرأة في المجتمع البدوي:
كانت التقاليد الاجتماعية أكثر بروزاً وصرامة في شعر شعراء البادية الذين عرفوا بالشعراء أو العشاق العذريين نسبة إلى قبيلة "بني عذرة" التي اشتهرت بكثرة عشاقها المتيّمين، فضمّ إليها الباحثون كل من سلك في الحب هذا المسلك وإن لم يكن منها. ولم تسمح هذه البيئة لأبنائها بالذي سمحت به الحواضر ولاسيما مدن الحجاز الطيبة، فعاش أبناء البادية في غلظة وجفاء، وتشربوا تعاليم الدين الإسلامي على ظمأ، وضاقت بهم سبل الرزق، فقد استمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأبناء البادية رعوياً فقيراً على ماكان عليه في العصر الجاهلي، وظل أبناء البادية يتحمّلون قسوة الظروف من أجل تحصيل رزقهم، وبقيت أفكارهم وأحلامهم ضمن حدود مراعيهم، بعيداً عما يدور في مدن الحجاز من صخب الحضارة والمدنية ورنين الأصوات والأموال، وعمّا يدور في الحواضر الأخرى كدمشق، حيث الحكم والثراء والترف.
وقد خرج من أهل البادية كثيرون إلى الأمصار المفتوحة مجاهدين وغير مجاهدين، واستقروا فيها، كما استشهد كثير من أهلها في الفتوحات، فخلّف ذلك كله في النفوس حزناً وكآبة ومرارة.
__________
(1) المصدر السابق: 260 الخيف من وادي منى، الخفوف: الهبوب، وهو الشروع بالارتحال بعد انتهاء المناسك.(1/122)
ضمن هذه الشروط الاجتماعية عاشت المرأة في البادية، فلم تظفر بما ظفرت به أختها الحضرية من التحرر الاجتماعي، ولم تُتح لها الفرصة للتعبير عن حياتها ونفسها تعبيراً مباشراً، وإنما انعكست حياتها في رأي الشاعر العذري وفكره، وبدت "ضرورة لاغنى عنها، ورفعت إلى مستوى المثال وبولغ في تقديرها"(1)، فكانت موضوعاً لهؤلاء العذريين ومحوراً لإبداعاتهم بل كانت ملهماً لهذا الشعر ومحرضاً عليه. وقد مثل هؤلاء الشعراء نوعاً من "المواجهة" بين الحب وتقاليد المجتمع ومفهوم ذلك المجتمع عن الحب"(2)كما سنرى، فقد كانت المرأة شديدة المنعة في هذا المجتمع، وعلى من يحبها أن يحسب ألف حساب، لأن خبر حبه لها يعني نهاية قصة الغرام، وبداية اليأس والتعاسة. وتكشف قصص هذا الحب -على الرغم مما بينها من فروق- عن تجارب عاطفية مخفقة، لا تشذّ عن ذلك قصة واحدة.
فنحن في كل قصة نرى شاعراً تغنى بحبه، فكان نصيبه منه الحرمان، وظل بقية أيامه يردد أغنية الحب الأولى ويتذكرها، ويبث عبر الذكرى أمنياته، ويبوح بسريرة نفسه، ويتجه بشكواه وذكراه إلى المرأة التي أحبها متوسلاً ومتضرعاً عسى أن يكون وراء كربه وغُمته الفرج القريب.
لكن هل أصغت محبوبات هؤلاء الشعراء إلى شكواهم؟ ومامدى استجابتهن لها؟ وماذا فعلن من أجل هذه العلاقة العاطفية؟
نستطيع تصور المرأة في شعر الحب العذري امرأة مكبلة بكبولٍ ثقيلة جداً من أعراف البيئة وتقاليدها وقيمها الأخلاقية السائدة. فليس تسمح لها هذه العادات بالتفكير مفردة أو بالتحرك خارج نطاق أسرتها. وأكبر دليل على هذا أن هؤلاء المحبوبات قد تزوجن خارج تجربة العشق التي أدت إلى اشتهارهن فكان قيد الزواج أكثر صلابة وغلظة من قيد المجتمع وعاداته، فكثر في ديوان الشاعر العذري الحديث عن الصد وعدم الاستجابة، يرد في شعر كثيّر قوله:
__________
(1) سوسيولوجيا الغزل العذري: 82.
(2) في الشعر الإسلامي والأموي: 95.(1/123)
وما أَنصفَتْ أَمّا النساءُ فبغَّضَتْ ... إلينا وأمّا بالنّوالِ فَضَنَّتِ
فقد حَلَفَتْ جهداً بما نَحَرَتْ لَهُ ... قريشٌ غَداةَ المأزمين وصَلّتِ
وكانت لقطعِ الحبلِ بيني وبينها ... كناذرةٍ نذراً وَفَتْ فَأَحَلَّتِ(1)
ويذكر أيضاً إعراضها وتمنعها في القصيدة ذاتها:
كأني أُنادي صخرةً حينَ أَعرضَتْ ... من الصُمِ لو تمشي بها العُصمْ زَلَّتِ
وفي شكواه لها تثبيت لتضرعه وامتناعها، وعدم اشتراكها في المبادلة الوجدانية والإنسانية، وهذا ما يؤكده في قوله:
أَيا عزَّ لَوْ أشكو الذي قد أَصابني ... إلى ميِّتٍ في قبرِهِ لبكى لِيا
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني ... إلى راهب في ديره لرثى ليا
ويا عزَّ لو أشكو الذي قد أصابني ... إلى جبل صعب الذرى لانحنى ليا(2)
وليس حال الصمة القشيري مع حبيبته أفضل من حال كثيّر، فإنها لاتبادله مشاعره ولا تستجيب:
لَعْمُرُكَ ما ريّا بذاتِ أَمانةٍ ... ولا عند ريّا للمحبِ جَزاءُ(3)
وهي كذلك عند عروة بن أذينة:
صرمَتْ سعيدةٌ وُدَّها وخلالَها ... منّا وأَعجبَها البعادُ فما لَها(4)
ولكن بثينة في شعر جميل تبدو على شيء من الجرأة والإحساس بالمكانة والنّدية والمبادلة مع جميل فهما كثيراً ما يبدوان في حوار عن الأهل والوشاة ومستقبل العلاقة والعتاب. وفي أبيات غير قليلة تبدو بثينة كأنها زوجة لجميل، فهل كانت حقاً كذلك فنردّ كل ما قيل عن عذرية العلاقة التي لم يتحقق فيها الزواج؟. أم أنها أحلام جميل التي صورت له بثينة على أنها زوجة أو كما يجب أن تكون في نهاية المطاف؟ إنه يعلن في البداية عن الأمنية:
فما مزنةٌ بينَ السّماكينِ أومضَتُ ... من النورِ ثم استعرضَتْها جنوبُها
بأحسنَ منها يوم قالَتْ وعندنا ... من الناسِ أوباشٌ يُخَافُ شغوبُها
تعاييتَ فاستغنيتَ عنّا بغيرِنا ... إلى يومِ يَلقى كلَّ نفسٍ حبيبُها
__________
(1) ديوان كثير: 96.
(2) المصدر السابق: 365.
(3) شعر الصمة القشيري: ق1
(4) ديوان عروة بن أذينة: 139.(1/124)
وَدِدْتُ ولا تُغني الوِدادةُ أَنَّها ... نصيبي من الدنيا وأَنيَّ نصيبُها (1)
ثم نتابع أبياته بعد هذه الأمنية، التي يصرح فيها برجاء أن تكون من نصيبه، فنراه يؤكد لها أن جلداً غير جلدها لم يمسه محاولاً التأثير فيها يقول:
حلفتُ يميناً يا بثينةُ صادقاً ... فإذا كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
إذا كانَ جلدٌ غير جلدِك مَسَّني ... وباشرَني دون الشعِّارِ شريتُ(2)
ويبدو أن مشكلة ماقد حصلت بينهما أدت إلى الخصومة التي أثمرت أشعار الفراق واليأس والحزن، فنراه يطلب وجود حكم من أهلها لتسوية الخلاف قبل أن يستفحل:
وقلتُ لها: اعتَللتِ بغيرِ ذنبٍ ... وشرُّ الناسِ ذو العِللِ البخيلُ
ففاتيني إلى حَكمٍ مِنَ أهلي ... وأهلِكِ لا يَحيفُ ولا يُميلُ
فقالت أَبتغي حَكَماً مِنَ أهلي ... ولا يدري بنا الواشي المحولُ
فولّينا الحكومةَ ذا سجوفٍ ... أخا دُنيا له طرفٌ كليلٌ
فقلنا: ماقضيتَ به رضينا ... وأنتَ بما قضيتَ بهِ كفيلُ(3)
تظهر في الأبيات بعض التعاليم القرآنية، في الاحتكام إلى الأهل في حالة نزاع الزوجين، ونلاحظ أنها فضّلت أن يكون الحكم من أهلها، فلو لم تكن العلاقة معلنة وشرعية، فهل كانت ستطلب أن يكون الحكم من أهلها؟ هل من المألوف أن تطلب هذا الطلب لو أن العلاقة علاقة حب في هذا المجتمع البدوي المحافظ الذي يحاط فيه الحب بالكتمان والسرية عن الأهل خاصة حتى لايحول الإجهار بالعلاقة وذكر المحبوبة إلى حرمان أبدي؟
ألا يحق لنا التساؤل عن هذا؟ ثم ترد بعض الأبيات التي تشير إلى أن الخصومة قد وقعت، ولم ينفع احتكامها إلى الحكم في إصلاح ماكان من خلاف بينهما، ولم يجنيا سوى الندم المرّ على ماكان، فقد تزوجت بعدئذ، ولكننا نراهما- على الرغم من زواجهما- يتراجعان ماكان بينهما:
__________
(1) ديوان جميل: 11.
(2) المصدر السابق، 18. باشرني: وصل إلي. الشعار: ضرب من الثياب، اللشري التهاب جلدي.
(3) المصدر السابق: 62.. ذو السجوف: الأستار ويقصد الحاكم.(1/125)
لقد فرح الواشونَ أَنْ صرمَتْ حبلي ... بثينةُ أو أَبْدَتْ لنا جانَب البخلِ
وكم قد رأينا ساعياً بنميمةٍ ... لآخرَ لم يعمدْ بكفٍّ ولا رِجلِ
إذا ما تراجَعْنا الذي كانَ بيننا ... جرى الدمعُ من عَيْنَي بثينةَ بالكُحْلِ
ولو تركَتْ عقلي معي ماطلبتُها ... ولكنْ طِلابيها لما فاتَ مِنْ عقلي
فيا ويحَ نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويحَ أَهلي ما أُصيبَ بهِ أهلي(1)
وفي سياق الذكرى والمراجعة للأيام الخوالي، يستطرد جميل فيتذكرها في موقف ود حميم، معلناً عن علاقته الزوجية:
يا خليليَّ إنَّ أُمَّ حسينٍ ... حينَ يدنو الضجيعُ من عِلَلِهْ
روضةٌ ذاتُ حُنْوَةٍ وخُزامى ... جادَ فيها الربيعُ من سَبِلِهْ
إلى أن يقول:
فظلْلنا بنعمةٍ واتكأْنا ... وشرْبنا الحلالَ من قُلَلِهْ(2)
وهو مرة أخرى يؤكد علاقته الحسية معها، في أبيات تصف جمال جسدها وصفاً تفصيلياً يرشح بالشهوة والرغبة الجامحة:
حلَّت بثينةُ من قلبي بمنزلةٍ ... بين الجوانحِ لم ينزلْ بها أَحدُ
رجراجةٌ رخصةُ الأطرافِ ناعمةٌ ... تكادُ من بُدْنها في البيت تَنْخَضِدُ
خَدْلٌ مخلخلُها وَعْثٌ مؤزّرُها ... هيفاءُ لم يَغْذُها بؤسٌ ولا وَبَد
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً ... تمَّتْ فليسَ يُرى في خَلْقِها أَوَدُ
نعمَ لحافُ الفتى المقرورِ يجعلُها ... شعارَهُ حينَ يُخْشى القُرُّ والصَّرَدُ(3)
وظل جميل بعد ذلك الخلاف الذي فرّق بينهما يغني حبه لبثينة الجميلة، ويصوّر شوقه إليها على الرغم مما تعرض له من نصح من إنذار من أهله وأهلها يؤكد ذلك قوله:
تعلَّق روحي روحها قبل خلِقنا ... ومنْ بعدِ ماكنّا نِطافاً وفي المهدِ
__________
(1) ديوان جميل: 66.
(2) المصدر السابق: 69. الحنوة: نبات طيب الرائحة. الخزامى: نبات فواح أيضاً.السبل المطر. القلل: الجرة الضخمة.
(3) ديوان جميل: 97: رجراجة: كبيرة الأرداف. الرخصة: الناعمة، تنخضد: تعجز عن النهوض. الخدل: الممتلئ. الوعث: الطري، الوبد: سوء العيش.. الأود: العوج.(1/126)
فزادَكما زِدنا فأصبحَ نامياً ... وليسَ إذا متنا بمنتقضِ العهدِ
وإني لمشتاقٌ إلى ريحِ جيبها ... كما اشتاقَ إدريسٌ إلى جنَّة الخُلْدِ
لقد لامني فيها أَخٌ ذو قرابةٍ ... حبيبٌ إليه في ملامتهِ رُشدي
وقال أَفق حتى متى أَنتَ هائمٌ ... ببثنةَ فيها قد تُعيدُ وقد تُبدي(1)
ويتذكر لقاء كان جرى بينهما في إحدى الليالي وهما يتبادلان القبل والأحاديث فيقول:
ذكرتُ مقامي ليلةَ البانِ قابضاً ... على كفِّ حوراءِ المدامعِ كالبدرِ
فكدتُ ولم أملِكْ إليها صبابةً ... أهيمُ وفاضَ الدمعُ منّي على نحري
فيا ليتَ شِعري هْل أَبيتنَّ ليلةً ... كليلتِنا حتى نرى ساطعَ الفجرِ
تجودَ علينا بالحديثِ وتارةً ... تجودُ علينا بالرُّضابِ وبالثّغرِ(2)
ولكن جميلاً الذي رأيناه في الشواهد السابقة يستعيد حالات من الحب والذكرى الجميلة، والعلاقة المتحققة بين رجل وامرأة، لايلبث أن يكرّ على ماقال ويبطله مبرئاً بثينة من كل ادعاءاته السابقة؟ يقول:
لا والذي تسجدُ الجِباهُ لَهُ ... مالي بمادونَ ثوبِها خَبَرُ
ولا بفيها ولا هَمَمْتُ بِهِ ... ماكانَ إلا الحديثُ والنظرُ(3)
إنه قسم عظيم يبرّئ به الشاعر بثينة من كل شبهة، فهل كان ماقاله سابقاً حلماً أفاق منه فاضطر إلى أن يقسم لنا إنه لم يكن حقيقة؟ أم هو مجرد أحلام شاعر مغامر!؟. أم هو الخوف من المجتمع الذي لايسمح له بتصوير هذه المرأة المثال مبتذلة في علاقة مباشرة مع من أحبت؟
__________
(1) المصدر السابق: 30.
(2) المصدر السابق: 42.
(3) المصدر السابق: 34.(1/127)
إن حصار المجتمع كان كما نؤكد دائماً أبرز من كل حقيقة أخرى وأقوى من الحب نفسه، ويكاد يكون مقابلاً للحياة نفسها. وليس أدلّ على حصار المجتمع، ورقابته الصارمة، ورفضه لهذه التجارب العاطفية من هذه الأمنيات البائسة الغريبة التي باح بها هؤلاء الشعراء، فكشفت عن رغبتهم العميقة في البعد عن المجتمع والإفلات من رقابته وحصاره، كما أكدوا بها فكرة إحصان المرأة ومنعتها، وغذّوا الإحساس العام بأنها مصونة محتشمة لايمكن أن تكون إلا في حماية، فليس يستطيع أي لسان أن ينال من عزها وشرفها في محيط أسرتها وقبيلتها ومجتمعها.
ولنبدأ بأمنية "كثير" التي تعبّر تعبيراً قوياً عن موقفه من المجتمع، ونفوره منه، ومخاصمته له ولكنها خصومة سلبية لا تملك الرفض أو المواجهة، بل تلوذ بالهرب منه برفقة الحبيبة. فهو يحسد الحيوانات في مراعيها لأنها متروكة وشأنها، ويتمنّى أن يكون هو وعزة بعيرين لرجل غني يرعيان القفر بعيدين عن المجتمع، ولعلّ وظيفة "الغني" ههنا ألاّ يلحَ هذا الغني في طلبهما، فيعيدهما إلى جوار الناس، بل هو يتمنى أن يكونا أجربين كي يضمن نفور الناس منهما وابتعادهم عنهما، ويوغل في الفرار من المجتمع حين يتمنى أن يرجمهما الناس بالحجارة إذا حملتهما مرارة العطش على الاقتراب من منهل ماء يملكه بعض الناس!! ثم يسرف في الأمنية ويحتمل الطرد والضرب والعطش على أن يكونا قريباً من البشر الذين يهرب منهم آخر المطاف!
إنه حصار المجتمع الذي دفع بالشاعر إلى هذه الأمنية القاسية، فإذا هو يفضل عالم البهائم على عالم البشر، بسبب ما يسود هذا المجتمع من قوانين أخلاقية وعرفية جائرة. يقول:
ألا ليتنا يا عزُّ كنا لذي غنىً ... بعيرينِ نرعى في الخَلاء ونعزُبُ
كِلانا به عَرٌّ فمن يَرَنا يقُلْ ... على حُسنِها جَرباءُ تُعدي وأَجربُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أَهْلُهُ ... علينا فما ننفكُّ نُرمى ونُضْرَبُ(1/128)
نكونُ بعيري ذي غنىً فيضيعُنا ... فلا هو يَرعانا ولا نحنُ نُطْلَب
يُطرِّدُنا الرعيانُ من كلِّ تَلعَةٍ ... ويمنعُ منا أن نُرى فيهِ نَشرب
وَدِدْتُ وبيتِ اللهِ أَنّك بَكرةٌ ... هجانُ وأنى مُصْعَبٌ ثم نَهربُ(1)
وفي شعر قيس المجنون، تطالعنا الأمنية ذاتها تقريباً، وقد تلاحقت في سلسلة من الصور الكثيفة المتتابعة المعبرة عن شيء واحد هو حدة الرقابة الاجتماعية، وشدة التضييق على المشاعر والأحاسيس، لأن قضية المرأة مرتبطة كما أشرنا بأعراف وأنماط سلوكية شديدة الأسر، والكاشفة عن رغبة عميقة واحدة هي البعد برفقة حبيبته عن البشر، فهو يتمنى أن يكون مع حبيبته شريدين في المراعي في البلدان المقفرة كالغزلان السارحة، أو أن يكونا حمامين في مفازة قفر يعيشان عيشة بسيطة مستقرة يتحقق له فيها المأوى الآمن مع من يحب، أو أن يكونا حوتين في بحر.
وفي هذه الأمنيات جميعاً تسرح عيوننا في المساحات الممتدة المفتوحة التي تشكل تعويضاً عن الطوق المجتمعي الذي يعيش فيه، وفيها جميعاً يحصّن الشاعر نفسه وحبيبته من المجتمع الإنساني تارة بالقفر وتارة بالمفازة وتارة ثالثة بالبحر، فكأن هذه كلها صور من الجرب الذي حصّن "كثيّر" نفسه وحبيبته به من الناس. ويغلو المجنون حتى يجاوز كل حدّ في أمنياته فإذا هو يرجو البعد عن الناس بعد الموت كما كان يرجوه قبله! فيتمنى أن يكون هو وحبيبته في قبر واحد معزول عن البشر!! يقول:
ألا ليتنا كنّا غزالينِ نرتعي ... رياضاً من الحَوذانِ في بَلدٍ قفرِ
ألا ليتنا كنّا حمامَيْ مفازةٍ ... نطيرُ ونأوي بالعشيِّ إلى وَكْرِ
ألا ليتنا حوتانِ في البحر نرتمي ... إذا نحن أَمسينا نُلَجِّجُ في البحرِ
ويا ليتنا نحيا جميعاً وليتنا ... نصير إذا متْنا ضجيعينِ في قبرِ
__________
(1) ديوان كثير:161 نعزب: نبعد في المرعى عن الحي. العر: الجرب. البكرة: الناقة الفتية.الهجان: الكريمة. المصعب: الفحل من الإبل.(1/129)
ضجيعينِ في قبرٍ عن الناس مُعْزَلٍ ... ونُقْرَنُ يومَ البعثِ والحشرِ والنشرِ(1)
وماذا تمنى جميل في تعبيره عن الضيق بما يلاقيه من المجتمع ورقابته الشديدة. يا لها من أمنية غريبة وعجيبة أيضاً أن يقول:
ألا ليتني أعمى أَصمّ تقودُني ... بثينةُ لا يَخْفى عليَّ كلامُها(2)
أرأيت إلى أي حد وصل إحساس هؤلاء الشعراء بالتذمر والضيق من وطأة التقاليد وجور الأعراف الاجتماعية؟
وقد لاحظ الدكتور عبد القادر القط بروز ظاهرة الشكوى من العذّال والوشاة والرقباء بروزاً يفارق ماكانت عليه في العصر الجاهلي، ويلفت النظر، قال:
"وسنرى أن الواشي والرقيب والعذول شخصيات لايكاد يغيب وجهها في شعر العذريين. وقد أفاض عروة في الحديث عن الوشاة وصوّرهم وكأنهم "شرطة" موكلّون بتعقب المحبين"(3)ثم قال:
"ومن هنا كان فشل الشعراء في حبهم برغم تقواهم، وبرغم كل الظروف المهيئة للنجاح.
وليس غريباً إذن أن تطالعنا -كما قلت- وجوه الرقباء والواشين الموكلين بتعقب هؤلاء المحبين، في كثير من قصائد الشعر العذري ومقطوعاته، بعد أن كنا لانصادفها إلا لماماً في الشعر الجاهلي"(4).
وليس إسرافاً في التأويل أن أنّمي هذه الملاحظة، وأمتد بها، فأرى هؤلاء الوشاة والرقباء والعذال رموزاً للمجتمع، وأن حصارهم لهؤلاء العشاق هو رمز لحصار المجتمع ووطأة أعرافه وتقاليده. بل أنا أعتقد أن هذا هو ما أراده الدكتور القط، وإن لم ينص عليه نصاً صريحاً، فهو يقرن حديثه عنهم بالحديث عن المجتمع وشدة وطأته وصرامة تقاليده في مواطن متفرقة.
__________
(1) ديوان المجنون: 164 الحوذان: نبات طيب الطعم.
(2) ديوان جميل: 77.
(3) في الشعر الإسلامي والأموي: 77.
(4) المرجع السابق: 84..(1/130)
وحقاً لقد أسرف العذريون في الشكوى من هؤلاء الوشاة والعذال والرقباء، فأصوات العذّال تكاد تصمّ الآذان، ووجوه الرقباء لاتكاد تخطئها العين في هذا الشعر. وما أكثر ما ضاق الشعراء ذرعاً بهم، فتحدوهم، أو دعوا عليهم، أن أنكروا عليهم أفعالهم، ولكنهم ظلّوا -في أحوالِهم كلها- يتبرمون بهم، ويشعرون بوطأتهم شعوراً عميقاً. يقول جميل:
وماذا عسى الواشونَ أن يتقوَّلوا ... سوى أَنْ يقولوا إنني لكِ وامقُ؟
نعم صَدَقَ الواشونَ أنتِ حبيبةٌ ... إليَّ، وإِنْ لم تَصْفُ منكِ الخلائقُ.(1)
أو يقول:
وقالوا: نراها ياجميلُ تبدَّلَتْ ... وَغيَّرها الواشي، فقلتُ: لعلَّها(2)
أو يقول:
وأطعتِ فيّ عواذلاً فهجرتِني ... وعصيتُ فيكِ وقد جَهدْنَ عواذلي(3)
أو يقول:
وعاذلينَ ألحُّوا في محبَّتِها ... يا ليتَهم وجدوا مثلَ الذي أَجِدْ(4)
وأما المجنون فقد حرّقته العواذل بل قطّعته تقطيعاً فكأنهم موكلّون به وحده دون الخلق جميعاً، يقول:
وعاذلةٍ تقطّعُني ملاماً ... وفي زَجْرِ العواذلِ لي بَلاءُ(5)
ويقول:
وكيفَ أُطيعُ العاذلاتِ وحبّها ... يؤرقُني والعاذلاتُ هُجُوْعُ(6)
ولم يكن حظه من الوشاة بأحسن من حظه من العاذلات، يقول:
ولو كانَ واشٍ باليمامةِ دارُهُ ... وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا
وماذا لَهُمْ لا أحسنَ اللهُ حالَهُمْ ... من الحظِّ في تصريمِ ليلى حِباليا(7)
ولست أحب أن أستكثر من الشواهد، فهي تملأ قصائد هؤلاء العذريين حتى يصعب بل يستحيل على قارئ شعرهم أن يمر بها دون أن تستوقفه، وتدعوه إلى التأمل والتفكير.
__________
(1) ديوان جميل: 143. وامق: عاشق.
(2) المصدر السابق: 192.
(3) المصدر السابق: 181.
(4) المصدر السابق: 59.
(5) ديوان المجنون: 42.
(6) ديوان المجنون: 192.
(7) المصدر السابق: 294.(1/131)
وتصادفنا في هذا الشعر إشارات كثيرة متكرّرة صريحة الدلالة على طبيعة هذا المجتمع المحافظ، وعلى علاقة التنافر وسوء التكيف بين الشاعر ومجتمعه كأن يكنى الشاعر عن حبيبته باسم غيرها خشية عليها وعلى علاقته بها، أو كأن يظهر كلا المحبين للآخر بغضاً أمام الناس، أو أن توصي الحبيبة حبيبها بألا ينظر إلى نحوها إذا مرّ بدارها، بل أن ينظر إلى جهة أخرى كي يخدع الناس أو يغالطهم أو يمكر بهم، أو أن تتقنّع الفتاة عادة فإذا خشيت على حبيبها الأرصاد سفرت عن وجهها، فأدرك أن سفورها مخالف للمألوف فأنما هي تنذره، أو أن يتوعد الأهل والأقرباء هذا الحبيب، ويتنمرّون له، ويأتمرون به وقد يستعينون بالسلطان عليه، على نحو ما يظهر في قول جميل:
سأمنح طرفي حينَ ألقاكِ غيرَكُمْ ... لكي يحسبوا أَنَّ الهوى حيث أَنظرُ
وأكني بأسماءٍ سواكِ وأتّقي ... زيارتَكُمْ والحبُّ لا يتغيَّرُ
فكم قد رأينا واجداً بحبيبهِ ... إذا خافَ يُبدي بُغْضَهَ حينَ يَظْهَرُ(1)
-عَشيَّةَ قالت: لا تُضيعَنَّ سرَّنا ... إذا غِبتَ عنّا وارعَهُ حين تُدْبرُ
وأَعرضْ إذا لاقيتَ عيناً تخافُها ... وظاهِرْ ببغضٍ، إِنَّ ذلك أَستُر(2)
-إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينيكَ غَيرنا ... لكي يحسبوا أَن الهوى حيثُ تنظرُ
-فليتَ رجالاً فيكِ قد نذروا دمي ... وهمّوا بقتلي يا بثينَ لَقُوني
إذا مارأَوْني طالعاً مِنْ ثنيةٍ ... يقولون: مَنْ هذا؟ وقد عرفوني(3)
أو في قوله وهو يربط -على نحو مالاحظ الدكتور القط- بين الرغبة والمداراة والثكل ربطاً بديعاً:
إذا جئتُها وسطَ النساءِ منحتُها ... صدوداً كأن النفسَ ليسَ تريدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصدودِ مِنَ الجوى ... كنظرةِ ثكلى قد أُصيبَ وحيدُها
أو كما في قوله:
ألا حُجِبَتْ ليلى وآلى أَميرُها ... عليّ يميناً جاهداً لا أَزورُها
__________
(1) ديوان جميل: 39.
(2) المصدر السابق: 38.
(3) ديوان جميل: 85.(1/132)
وأَوعدَني فيها رجالٌ أَبرُّهُمْ ... أبي وأبوها خُشِّنَتْ لي صدورُها(1)
أو كما في قول توبة بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية:
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقَعَتْ ... فقد رابني منها الغداةَ سفورُها(2)
وينبغي أن أنصّ هنا على أنَّ د/عبد القادر القط قد أشار إلى هذه الملاحظات وقال فيها قولاً طيباً يستحق التنويه به قال:
"نحن إذاً أمام مجتمعٍ شديد "المحافظة" تتحجب فيه المرأة عن الرجل، وتلقي على وجهها برقعاً إذا لقيت رجلاً من غير أهلها "وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت" يضطر فيه المحبون إلى أن يظهروا غير ما يبطنون، ويبدوا البغضاء لمن يحبون حتى يجنّبوا أنفسهم عداء الأهل والناس "كلانا مظهر للناس بغضاً وكل عند صاحبه مكين. وهو مجتمع تجري حياة المحبين فيه على تقاليد خاصة مرعيّة، فما ينبغي لمن يحب أن يذيع أمره بين الناس، ولا أن يقول شعراً في صاحبته يشيع بينهم، وإلا كان قد ألحق العار بصاحبته وأهلها وقبيلتها جميعاً، وحقَّ عليه أن يحرم منها إلى الأبد، وأن يستباح دمه إذا هو تعرّض لها بعد ذلك...
إلى أن يقول:
"وهكذا تقوم بينه وبين المجتمع خصومة تدور على المواجهة والتحدي، يستعين المجتمع فيها بالسلطان، ويحتمي فيها المحب بالشعر معتزاً بما يرى أهل صاحبته أنه قد جلب العار عليهم"(3).
وإذا كانت الإشارات السابقة صريحة الدلالة على طبيعة المجتمع المحافظ، ونفور الشاعر منه، وخصومته له، فإن في الشعر العذري ظاهرة أخرى تدل هذه الدلالة نفسها إذا حاولنا تفسيرها بقليل من التأمل والتريث. وهذه الظاهرة هي "ظاهرة العطش واشتهاء الرِّي". فقارئ هذا الشعر يجد هؤلاء الشعراء عِطاشاً تقتلهم مرارة العطش والماء أمامهم لايقوون على الوصول إليه لأن السبيل إليه سبيل مهلكة كما نجد في شعر كثيّر عزة، يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 146.
(2) ديوان ليلى الأخيلية: 21.
(3) في الشعر الإسلامي والأموي: 84.(1/133)
إنّي وإيّاك كالصادي رأى نَهَلاً ... وعندَهُ هُوَّةٌ يَخشى بها التلفا
رأى بعينيهِ ماءً عزَّ مورِدُهُ ... وليسَ يملِكُ دونَ الماءِ مُنْصَرَفا
لقد جفّ ريق "كثيّر" وامتلأ فمه بمرارة العطش، والماء قاب قوسين أو أدنى منه، ولكن السبيل إلى ذلك الماء مملوءة بالمخاطر، والشاعر يخشى على نفسه الهلاك إذا حاول أن ينقع غلّته من هذا الماء!! هل أسرف في التأويل إذا ظننت هذه الهوة التي يخشى الشاعر اجتيازها هي رمز للمجتمع، وأن هذا الماء هو رمز للحبيبة، وأن الصورة توحي بالذعر من الناس؟
وإذا كان "كثير" يرمز ولا يصرّح، فإن "جميل بثينة" يقرن الرمز بالتصريح، فيشير إشارة واضحة إلى الأعداء الذين حالوا دونه ودون الماء، أو دونه ودون الحبيبة. يقول:
وما صادياتٌ حُمْنَ يوماً وليلةً ... على الماء يَخْشَيْنَ العَصِيَّ حَوَاني
لواغِبٌ لا يَصْدُرنَ عنه لوجهةٍ ... ولا هنَّ من بَرْدِ الحياضِ دَواني
يَرَيْنَ حَباب الماء والموتُ دونَهُ ... فهنَّ لأصواتِ السُقاةِ رواني
بأكثرَ مني غُلّةً وصبابةً ... إليكِ ولكنّ العدوَّ عراني(1)
ونحن نجد حقاً بعض هذه العناصر العذرية مبثوثة في أرجاء متفرقة من غزل جرير وغيره من شعراء الحضر ولكن هذه العناصر لا تستفيض في أشعارهم استفاضتها في الشعر العذري.
__________
(1) ديوان جميل: 205 الصاديات: العطشى. حواني: منعطفة على الماء رغبة الشرب منه. اللواغب: ج.لاغبة: وهي الضعيفة. الرواني: ج رانية وهي التي تديم النظر في سكون أي تستمع إلى أصوات السقاة. الغلة: شدة العطش وحرارته. عراني: ألم بي.(1/134)
ونخلص من ذلك كله إلى القول: إن المرأة الحبيبة كانت دون غيرها أثيرة لدى شعراء هذا العصر، فهي ربة الحسن والدلال، وهي ملهمة الشعر والإبداع، ولذلك كثر حديثهم عنها وتشّعب. أما المرأة التي كانت تمتهن بعض المهن كالتمريض أو التي تشترك في الحرب، أو المرأة الناقدة أو الراوية فلم تظفر من شعر هؤلاء الشعراء بنصيب على الرغم من وجودها في المجتمع، أستثني من هذا الحكم بعض الإشارات التي نجدها في شعر الخوارج على نحو ما سنرى.
ولست أدري علّة لذلك إلاّ ماشاع عن موقف العرب عامة من المهن وما نعرفه من حرص الشعراء منذ الجاهلية، إلا أقلّهم كالأعشى، على أن تكون حبيباتهم عربيات حرائر ثريّات منعّمات مترفات. وإذاً لاغرابة في أن يكون شعراء العصر الأموي حريصين كأسلافهم الجاهليين على أن تكون الحبيبة من سراة العرب حرّة ثريّة منعّمة مترفة لأن المجتمع الأموي -كما ذكرت مراراً- لم يزل مجتمعاً عربياً في أعماقه وروحه.
( ... ( ... (
الباب الثاني
هيئة المرأة وأخلاقها
في الشعر الأموي
? الفصل الأول ... : أخلاق المرأة في الشعر الأموي
? الفصل الثاني ... : جمال المرأة في الشعر الأموي
? الفصل الثالث ... : هيئة المرأة في الشعر الأموي.
( ... (
الفصل الأول
أخلاق المرأة في الشعر الأموي
( ... (
لقد كرم الإسلام الإنسان رجلاً كان أو امرأة، وأضفى على المرأة وقاراً وحشمة، ورفع من مستواها الأخلاقي، وغرس الفضيلة في نفسها، وحض على مراعاتها كل من يتعامل معها. وقد تحدث القرآن الكريم عن المرأة في أكثر من عشر سور كالبقرة والمائدة والنور والأحزاب والمجادلة والممتحنة والتحريم ومريم، بل إن سورتين من سوره تعرفان بسورتي النساء (النساء الكبرى والصغرى وهي الطلاق).(1/135)
وقد أدى هذا التركيز على "المرأة" وهذه العناية الشاملة بشؤونها جميعاً إلى رسوخ الموقف الإسلامي منها في نفوس الناس عامة، وفي نفسها هي أيضاً، فقد تمثلت تعاليم الإسلام الأخلاقية التي تحض على الفضيلة والشرف والطهارة، وتصونها في أسرتها ومجتمعها.
ونتيجة لتعاليم الإسلام وأخلاقياته السامية كان أي تجاوز في مفهوم الشعراء للحرية والتحرر يؤدي إلى عقاب السلطة السياسية. ولعلي لا أخطئ إذا ظننت أن الشعراء العذريين قد فاقوا غيرهم في استيعاب الروح الإسلامية، وتمثل تعاليم الإسلام في التعامل مع المرأة فأبرزوا أخلاق المرأة المسلمة، وأفاضوا في الحديث عنها. ولست أعني بهذا أن شعراء مدن الحجاز ابتعدوا عن تمثل موقف الدين الإسلامي من المرأة وأخلاقها بل أعني أن عاملاً آخر هو العامل الحضاري امتزج بالعامل الديني، وأدى هذا الامتزاج إلى ظهور مفهوم جديد أو نظرة جديدة إلى المرأة في مدن الحجاز أو عند هذه الطائفة من شعراء تلك المدن. وليست هذه النظرة الجديدة مناقضة لنظرة العذريين بل هي مختلفة عنها ومغايرة لها فقد ظل فيها أثر الدين واضحاً أو قريباً من الوضوح وكيف لايكون الأمر كذلك وقد نشأ هؤلاء في ظلال الإسلام، وثقفوا تعاليمه، وعاشوا في أجواء تردّ عليهم ذكريات الأيام الغابرة التي كانت تعبق بأحداث الدعوة الإسلامية الأولى.(1/136)
وضمن هذا التحول الاجتماعي الكبير في العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الأموي راح الشعراء ينظرون إلى المرأة، ويحسبون الحسبة الطويلة في تصويرها وتناولها، فتراوحت معانيهم بين المعاني الأخلاقية الموروثة والسائدة في المجتمع، والتي جاء الإسلام فأكدها من حياء وإباء وعفة وبعد عن الفحش ومواطن الريبة. وابتعد الشعراء قليلاً عن العكوف في معبد الجسد، وانصرفوا إلى تصوير مشاعرهم وأحاسيسهم بعيداً عن محاور الفتنة والإغراء. على نحو مالاحظ د.وهب رومية عندما تحدث عن المقدمات الغزلية في العصر الأموي فرآها "تفصح عن ذوق حضاري جديد يغاير الذوق الإحيائي القديم، ويفترق عنه، فنحن لانجد في هذه المقدمة سوى اليسير من الحديث عن مفاتن الجسد، فكأن الحضارة كفت الرغبة الجامحة في النفوس عن الصهيل، وهذبت الأحاسيس والمشاعر، فراح الشعراء يصورون وجدهم الشديد، ومايستشعرونه من الأشواق والمواجع، ومايعتريهم من مرارة اليأس، وما يزدهيهم من بروق الأحلام والأماني، وصار الغزل حديثاً عن العواطف والأحاسيس ومعاني الحب بعد أن كان عكوفاً في معبد الجسد"(1).
لقد التفت الشعراء إلى أخلاق محبوباتهم، وصوروها كما أحبوا أن يروهن ضمن أخلاقيات المجتمع السائدة، فبدت النساء حييات على قدر كبير من العقل والحصانة والتمنع، وأبرز من ألح على إظهار هذه المعاني الشعراء العذريون، فعزة في رأي كثيّر صخرة في صلابتها، لا تكلف نفسها عناء غرامه ومواصلته، بل تبدو مفطورة على البخل والصدود والملل:
كأني أُنادي صخرةً حين أَعرضَتْ ... من الصُمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زلّتِ
صفوحٌ فما تلقاكَ إلا بخيلةً ... فَمَنْ مَلَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ(2)
__________
(1) قصيدة المدح: 619،620.
(2) ديوان كثير: 95، أعرضت: صدت. الصم: الصماء: الصخرة الصلبة. العصم: الوعول في ذراعيها بياض صفوح: معرضة هاجرة. الوصل: البخل الشديد لاتجود بغيره.(1/137)
ولايكف عن إظهار إعجابه بأخلاقها الكريمة، فيظهرها عارفة بقدر نفسها، تتصرف بحكمة وذكاء، وتجسد في تصرفاتها عقلية الأنثى المتمنعة:
وأَعجبني ياعزَ منكِ خلائقٌ ... كرامٌ إذا عُدّ الخلائقُ أربعُ
دنُوكٍ حتى يذكرَ الجاهلُ الصبا ... ودفعُكِ أسبابَ المنى حين يَطْمَعُ
بخلتِ فكان البخلُ منكِ سجيةً ... فليتَكِ ذو لونينِ يُعطي ويَمنعُ(1)
ومهما بخلت وتمنعت فإنها لاتزيده، إلا تعلقاً وهياماً، فنفسه موكلة بحب هذه البخيلة التي لاتمكنه من نفسها اعتزازاً بقيمها وأخلاقها:
وكمْ من خليلٍ قالَ: لو سألتَها ... فقلتُ: نعم ليلى أَضنُّ خليلِ
وأَبعدُهُ نيلاً وأوشكُهُ قلىً ... وإن سئلتْ عرفاً فشرُ مَسُوْلِ
وإن تبخلي ياليلَ عني فإنني ... تُوكّلُني نفسي بكلَّ بخيلِ(2)
ولا يستطيع مجنون ليلى أن يخرج على منظومة القيم السائدة في الإعجاب بأخلاق المرأة الحيية البخيل، التي تخشى على سمعتها أقوال الوشاة، وتثور أشد ثورة إذا ما سمعت كلمة تتناولها. يقول:
لعمرُ أبيها إنها لبخيلةٌ ... وَمِنْ قولِ واشٍ إِنها لغضوبُ(3)
كما أنها تعرف كيف تحافظ على نفسها، وتحتاط لسمعتها، فهي لا تشاهد خارج بيتها حتى في أهم المناسبات التي يترك للفتيات فيها الخروج والتجمع أمام الآخرين فتزداد أخلاقها في عينيه تسامياً ورفعة:
من الخَفِراتِ البيضِ لم تَدْرِ ما الخنا ... ولم تُلْفَ يوماً بعد هجعتِها تَسْري
ولا سمعُوا من سائرِ الناس مثلَها ... ولا برزَتْ في يوم أَضحى ولا فطرِ(4)
ويدور جميل في الدائرة ذاتها، فيثني على بخل بثينة وتمنعها، ويرضى منها أعذارها وإخلافها وعوده، بل يرضى بكل مايصدر عنها حتى لو استدار العالم دون أن يراها:
وإني لأرضى من بثينةَ بالذي ... لَوَ أبصره الواشي لَقَرَّتْ بلابِلُهْ
بلا وبألاّ أستطيعَ بالمنى ... وبالوعدِ حتى يسأم الوعدَ آمِلُهْ
__________
(1) المصدر السابق: 405.
(2) ديوان كثير: 109.
(3) ديوان المجنون: 61.
(4) المصدر السابق: 158.(1/138)
وبالنظرةِ العجلى وبالحولِ تنقضي ... أواخرهُ لانلتقي وأَوائلُهْ(1)
واعتنى الشعراء التقليديون بالصفات الأخلاقية والنفسية للنساء، وذكروا صفاتهن الحميدة المحببة، فكأن هذه الصفات ميراث عام تحرص النساء جميعاً على أن يكون لهن نصيب منه، فهن حييات لا يتحدثن إلا قليلاً، وإن هن تحدثن فأصواتهن لاتكاد تسمع، وهن يخفضن من أبصارهن، وينأين بأنفسهن عن مواطن الريبة. وكان الفرزدق في مقدماته الغزلية "معنياً بمحاسن المرأة النفسية يصورها تصويراً فيه رقة ورهافة ودقة حس، فقد يقف على دخيلة نفس الأنثى ويصورها فإذا هي تقول شيئاً، وتضمر آخر، وإذ هي تبذل الآماني الكاذبة لتختبل العقول، وإذا هو معلق بها. وقد يتحدث عما يحب من النساء فيصدر عن موقف جمالي يغاير القديم"(2).
وأعلن عن ذلك بقوله:
أُحِبُ منَ النساءِ وهُنّ شتَّى ... حديثَ النّزْر والحَدَقَ الكِلالا
موانع للحرامِ بغيرِ فُحْشٍ ... وتَبْذُلُ مايكونُ لها حَلالا(3)
ويعود الفرزدق فيؤكد مايحب من النساء الشريفات، اللواتي يأنس عند أزواجهن، ويحتفظن بحيائهن بين أيديهم، ويثني على حديثهن المهموس فيقول:
يَأَنَس عند بُعُولِهِنَّ إذا التَقَوْا ... وإذا هُمُ برزوا فهنّ خِفارُ
وكلامُهُنّ كأنما مَرْفوعُهُ ... بحديثِهن إذا التقينَ سِرار(4)
ويبدو شديد الإعجاب بكلامهن القليل وصوتهن الخفيض:
يُنازعْنَ مكنونَ الحديثِ كأنما ... يُنازعِنَ مسكاً بالأَكفِّ الدوائفِ
وَقُلْنَ لليلى حدّثينا فلم تكد ... تقولُ بأدّنى صوتِها المتهانفِ(5)
وتكررت في معانية القيم الإسلامية التي سيطرت على الذوق العام ورسخّت الفضيلة والأخلاق الكريمة: يقول:
يُشبّهْنَ من فرطِ الحياءِ كأنها ... مراضُ سُلالٍ أو هَوالكُ نُزّف
إذا هُنّ ساقَطْنَ الحديثَ كأنّهُ ... جنى النحلِ أَو أبكارُ كرمْ يُقَطّفُ
__________
(1) ديوان جميل: 61.
(2) قصيدة المدح: 510.
(3) ديوان الفرزدق: 445.
(4) المصدر السابق:322.
(5) المصدر السابق: 394.(1/139)
موانعُ للأسرارِ إلاّ لأَهِلها ... ويُخْلِفْنَ ما ظنّ الغيورُ المُشَفْشَفُ
يُحَدّثْن بعد اليأسِ منْ غير ريبةٍ ... أحاديثَ تَشفي المُدْنَفينَ وتَشْعَفُ(1)
ونلمح المرأة في شعر جرير عفيفة عاقلة حريصة على سمعتها ووضعها الاجتماعي، متصونة تبتعد عن كل مايريب أو يجلب لها العار والمذمة، واحتلت هذا الصفات المرتبة الأولى في منظومة القيم الأخلاقية عنده: يقول في ذلك:
حَصان لا المريبُ لها خدينٌ ... ولا تفْشى الحديثَ ولا تَرُوْدُ
فلا بخلٌ فيوئِسَ فيكِ بُخْلٌ ... ولا جودٌ فينفعَ منكِ جُوْدُ
شكونا ما علمتِ فما أَوَيْتُمْ ... وباعَدْنا فما نَفَعَ الصّدودُ(2)
ويصور سلوكها فإذا هي خفيضة الصوت، لاتفشي سر أحد، وتنأى بنفسها عن كل ما يثير الشبهات، أو يجعلها عرضة لأحاديث الآخرين:
إذا حدّثَتْ لم تُلقِ مكنونَ سرِّها ... لمن قال إنّي بالوديعةِ بائحُ
فتلكَ التي ليسَتْ بذاتِ دَمامةٍ ... ولم يَعْرهُا من منصبِ الحيِّ قادحُ(3)
ولاينسى أن يشير إلى حشمتها وتدينها، مما يزيد في وقارها ورزانتها:
تَمّتْ جمالاً وديناً ليس يَقْربُها ... قسُّ النصارى ولا مِنْ هَمّها البِيعُ(4)
ويعجب أيضاً بهدوئها، وحسن معاشرتها لجيرانها، وابتعادها عن مصاحبة الأشرار ممن ينقلون الأحاديث ويثرثرون:
أَناةٌ لا النّمومُ لها خدينٌ ... ولاتُهدي لجارتها السّبابا(5)
ويكرر المعنى ذاته في بيت آخر، فيقول:
ولا تمشي اللئامُ لها بِسِرٍّ ... ولا تُهدي لجارتِها السّبابا(6)
ويضيف أنها "من نسوة زانهن الدل والخفر"(7).
__________
(1) المصدر السابق: 383. موانع الأسرار: أي لايتزوجن إلا الكفؤ. المشفشف: المرتعد السيء الظن ويكرر صفتها في ص339 "خرجت إليك ولم تكن خراجة".
(2) ديوان جرير: 318.
(3) المصدر السابق: 266.
(4) المصدر السابق: 293.
(5) ديوان جرير: 243.
(6) المصدر السابق: 814.
(7) المصدر السابق: 210.(1/140)
ويصور جرير جانباً آخر من أخلاق المرأة ونفسيتها، فإذا هي- على الرغم من وقار الحصانة وجمال العفة، وحسن الأحدوثة -تنطوي على المكر والغدر وحب الخديعة، وتضمر الحقد لمن تريد الابتعاد عنه.
باعَدْنَ إِنَّ وصالهُنَّ خلابةٌ ... ولقد جَمَعْنَ مع العبادِ تَحَقُّدا
أنكرْنَ عَهْدَكَ بعدما يَعْرفْنَهُ ... وفقدْنَ ذا القصبِ الغُدافَ الأَسودا(1)
ويذكر أيضاً إخلافهن الوعد ومماطلتهن، وسرعة استغنائهن عمن ترك الصبا:
فقد أفنينَ عُمْرَكَ كلَّ يومٍ ... بوعدٍ ما جَزينَ به قِبالا(2)
ثم يؤكد نظريته أو رأيه في النساء، ومافطرن عليه من التقلب والإخلاف والاستغناء يقول:
وإذا وعدْنَك نائلاً أَخلَفْنَهُ ... وإذا غنيت فهنَّ عنكَ غَوانِ(3)
وأحب الأخطل في المرأة التمنع والدلال أيضاً، فأشار إلى أنها:
مرفوعة عن عيونِ الناسِ في غُرفٍ ... لا يَطْمَعُ الشُّمْطُ فيها والتّنابيلُ(4)
والتفت إلى ضحكتها فقال:
إذا ضحكتْ لم تنتهبْ وتبسَّمَتْ ... بأبيضَ لم يَكدِمْ متونَ عِظام(5)
وبيّن نفسية المرأة وأشار إلى تلعبها بذكاء وخفة بعقول الرجال، وصدودها عنهم عندما ترغب في ذلك بسهولة ويسر، فبدت كأنها من الجن بسبب ماتملكه من فنون التخفي والسحر والأساليب التي تتبعها لاصطياد من تريد اصطياده، وإيقاعه في شباكها:
وتعرَّضَت لِتروعَنا جِنّيةٌ ... والغانياتُ يُرِيْنك الأَهوالا
يَمدُدْنَ من هفواتِهنّ إلى الصّبا ... رَجَحَ الصّبا بحلومِهِنَّ فَمَالا
ما إنْ رأيتُ كمكرهِنَّ إذا جرى ... فينا ولا كحبالِهنَّ حِبالا
المهدياتُ لمَنْ هوينَ مَسَبَّةً ... والمحسِناتُ لمن قَلَيْنَ مقالا
يرعينَ عهدَك ما رأيْنكَ شاهداً ... وإذا مذِلْت يصرْنَ عنكَ مِذالا
__________
(1) المصدر السابق: 376 الغداف الأسود: الغراب الأسود الضخم أراد الشعر المعصب المرجل.
(2) المصدر السابق: 192.
(3) المصدر السابق: 199.
(4) ديوان الأخطل: 55.
(5) المصدر السابق: 492 تنتهب: تقهقه.(1/141)
وإذا وعدنَكَ نائلاً أَخلفْنَهُ ... ووجدْنَ عند عداتِهنّ مِطالا(1)
ويكرر الأخطل معرفته بنفسية المرأة واعوجاجها عندما ترغب عن الرجل وسهولة غدرها، وقلة دوام وصالها خاصة إذا ماطرأ طارئ عليه، وانقلب الزمن به، فإنها أقسى من الزمن نفسه:
وإذا هَمَمْنَ بغدرهٍ أَزْمَعْنَها ... خُلُفاً فليسَ وِصالُهنَّ يدومُ
ودعا الغواني إِذ رأين تَهشُّمي ... روقُ الشبابِ فما لهنُّ حُلُومُ(2)
ويشير إلى معرفته بأخلاقها التي تدل على بعض مافي نفسها من حب الغدر والتقلب:
صرمَتْ حِبالَكَ زينبٌ وقذورُ ... وحبالُهُنَّ إذا عُقدنَ غُرورُ
وإذا نَصَبْن قُرونَهُنَّ لغدرةٍ ... فكأنما حَلَّتْ لهنَّ نُذُوْرُ(3)
وفي تتبعنا لقيم المرأة الأخلاقية في أشعار طائفة أخرى من الشعراء الذين اختلفت اهتماماتهم الشعرية بين مدح وهجاء وفخر وأغراض أخرى أقلها أهمية بالنسبة إليهم المرأة وما يتعلق بها من غزل وحب، رأينا الصفات الأخلاقية السائدة في أشعارهم هي ذاتها التي تداولها معظم الشعراء على اختلاف بيّن في الانتباه لهذا الجانب الأخلاقي والنفسي أو ذاك، ماخلا بعض الأبيات المتفرقة التي يستعرض فيها الشعراء خبرتهم بنفسية الأنثى، حتى تكاد هذه الصورة -صورة نفسية الأنثى- أن تكون هي الأخرى قاعدة أو تقليداً شعرياً لابد للشعراء من تسجيله للتدليل على حنكتهم ومهارتهم العقلية.
فهذا القطامي يرنو إلى المرأة فيراها متقلبة متلونة كأنها من الجن لا يعرف لها حقيقة، يقول:
وأرى الغواني إنما هِيَ جِنَّةٌ ... شبهُ الرياحِ تَلَّونُ الألوانا(4)
ويظهرها أيضاً كاذبة كثيرة القسم لتسويغ أخطائها أو لتعميتها:
وإذا حَلَفْنَ فهنُّ أكثرُ واعدٍ ... خُلْفاً وأكثرُ حالفِ أَيمانا(5)
__________
(1) نقائض جرير والأخطل: 70.
(2) ديوان الأخطل: 380.
(3) المصدر السابق: 403.
(4) ديوان القطامي: 58.
(5) المصدر السابق: 59.(1/142)
ويؤكد معرفته بالنساء عامة، ويدعو عليهن دعاء المقهور المغلوب على أمره، إذ لا يراهنّ إلا وهن يخلفن الوعود:
فيا قاتَلَ اللّهُ الغواني فإنها ... قريبٌ بعيدٌ وصلُهُنَّ تَنائِفُ(1)
ويشير في عدد من الأبيات إلى بخلها وتمنعها وإخلافها الوعود، فيقول:
بخلَتْ عليكَ فما تجودُ بنائلٍ ... إلا اختلاسَ حديثِها المتُسرقِ(2)
ويكرر إعجابه بهذه الصفة أيضاً، ويضمنها معرفته ببعض أمورها النفسية كالخيانة والكذب:
وما البخيلةُ إِلاّ من صواحبها ... مِمَّنْ يخونُ وَممَّنْ يكذبُ القسما(3)
ويذكر إخلافها الوعد وماناله من ذلك إلا التعب وتحصيل الهموم والمشاكل:
ولم يكنْ ما ابْتُلينا من مواعدِها ... إلاّ السّفاهَ وإِلاّ الهمّ والسقما(4)
ويبدو القطامي مصراً على إلصاق هذه المعايب النفسية بها، فيؤكد إخلافها لوعده وبخلها، بل بخلهن جميعاً، الذي يبدو هدفاً لهن جميعاً:
بكَرْنَ فلم يُنْجِزْنَ وعداً وَعَدْنَهُ ... إلى البخلِ تَحْدو ظَعْنَهُنَّ المناصِفُ(5)
أما المتوكل الليثي فكان على كثرة توقفه عند وصف المرأة الجمالي، قد التفت إلى بعض الدقائق النفسية للمرأة التي يتغزل بها، فجاءت أوصافه نمطية تقليدية فيها الحياء والعفة والبخل والتمنع وإخلاف الوعد. وفيها أيضاً تصوير لنفسية المرأة وما يداخلها من تلعّب بقلبه وقلوب الرجال عامة بما تملك من أساليب ملتوية، وكأن الشعراء أرادوا بالإلحاح على هذه المعاني ووصف المرأة اللعوب الذكية بها أن يؤكدوا حكمة الشعوب ورأيها السلبي في المرأة.
إن المتوكل يعلن عن معرفته بدخائل نفوس النساء، وما يمتلكن من تكبر وخيلاء وكذب، ويظهر حبهن لتعذيب الآخرين إذا ما قررن القطيعة:
كواذبُ إنْ أخذْنَ بِوَصْلِ وُدّ ... أثبْنَكً بعد مُرِّ الصّرم خالا
__________
(1) المصدر السابقك 51 تنائف: التنوفه القفر من الأرض.
(2) المصدر السابق: 110.
(3) المصدر السابق: 97.
(4) المصدر السابق: 97.
(5) المصدر السابق: 52.(1/143)
فلستُ براجعٍ فيهنَّ قولاً ... إذا أَزْمَعْنَ للصَّرْم انتقالا(1)
كما أنهن كظلال متنقلة لايستقر المرء منهن على حال:
إِن الغواني لا يَدُمنَ وإنما ... موعودُهُنَّ وهُنَّ فَيْءُ ظِلالِ(2)
وكان عدم خروج المرأة من منزلها أمراً محموداً يعجب به المجتمع عامة، ويقدره تقديراً عالياً، لما يضفي عليها من الصون والابتعاد عن كل ما يثير يقول:
وإن جَلَسَتْ فدُمْيَةُ بيتِ عيدٍ ... تصانُ فلا تُرى إلاّ لِماما(3)
وأعجب منها أيضاً بالعفاف والبخل فهي لا تبادله شيئاً سوى البخل والاعتذار:
حَبَاها اللهُ وَهْيَ لذاك أَهْلٌ ... مَعَ الحسبِ العفافةَ والجمالا
دَنَتْ حتى إذا ما قلتُ جادَتْ ... أَجدَّتْ بَعْدُ بُخلاً واعتلالا(4)
و لاينسى أن يذكرنا بإخلافها وعودها، وتسويفها لكل مطالبه:
إذا وعَدَتْكَ معروفاً لَوتْهُ ... وعَجَّلتِ التُّجرم والمِطالا(5)
كما أنها تعاف كل من يريد بحديثه معها التلعب والكذب، ولا تغفل عما يريد وهو بذلك يدلّ على عقلها وفطنتها وحصافتها يقول:
صفراءُ رادعةٌ تصافي ذا الحِجى ... وتَعافُ كلَّ ممُزّحٍ بَطَّالِ(6)
وتبعث الطمأنينة في نفس من يعاشرها، لا تجلب له الهم أو الحيرة والشك بسبب ما تتمتع به من فضيلة وأخلاق كريمة.
ليسَتْ بآفكةٍ يظلُّ عشيرها ... منها وجارُ الحيّ في بَلبالِ(7)
__________
(1) ديوان المتوكل الليثي: 153 أثبنك: جازينك. الخال: الكبر والخيلاء. أزمعن: عزمن وثبتن. الصرم: القطيعة.
(2) المصدر السابق: 163.
(3) ديوان المتوكل: 118
(4) المصدر السابق: 138، أجدت: لعله الجد وهو الصرم. أو أجدت: أعطت البخل من جديد.
(5) المصدر السابق: 139، لوته: مطلته، التجرم: الذهاب، المطال: التسويف.
(6) المصدر السابق: 164، رادعة: بها لطخ الزعفران، ذو الحجى: ذو العقل، الممزح: ذو الدعابة.
(7) المصدر السابق: 165، آفكة: كاذبة، عشيرها: زوجها. البلبال: الهم والوسواس.(1/144)
وتعرف كيف تصون سمعتها وتدرأ عن نفسها مخاطر من يتصيدون أخبار الآخرين وينشرونها بين الناس فتبدو نافرة حذرة:
مثل نوارِ الوحشِ لم يَرمهِا ... رامٍ من الناسِ ولا حابِلُ(1)
ويضيف المرار الفقعسي إلى أخلاق المرأة قبساً آخر من الإسلام وتعاليمه، فيذكر تمسكها بدينها الذي يردعها عن الفاحشة والرذيلة:
يحملنَ ما شئت من دينٍ ومن حَسَبٍ ... وما تمنّينَ من خُلْقٍ وتصويرِ
لا يلتفتن ولا ينطِقْنَ فاحشةً ... ولا يُسائِلْنَ عن تلك الأخابير(2)
كما أنها لا تؤذي جيرانها، ولا تزعج أحداً بصوتها خارج دارها في شعر الشمردل اليربوعي:
مِنَ البِيْضِ لم تُوْذِ جاراتِها ... ولم يَكُ فيهم لها نيربُ
ولم يفزعِ الحيُّ مِنُ صوتها ... أمامَ بيوتِهمُ تَصْخَبُ(3)
وبدت في شعر النابغة الشيباني كما في أشعار معاصريه متمنعة بخيلاً، بعيدة كأنها النجم المحلق من بعيد:
تكونُ وإن أَعطتك عهداً كأنها ... إذا رُمْتَ منها الودَّ نجمٌ مُحلّقُ(4)
وصوّر التواء نفسيتها، واستشهد على ذلك بصرمها المباغت ودلالها الآسر، وصلابة رأيها وعنادها، فقال:
أَتصرمُ أَم تواصلُكَ النجودُ ... وليسَ لها وإنْ وَصَلتْكَ جُودُ
إذا لايَنْتَها مطلَت و لا نَتْ ... وفيها حينَ تنزُرها صُلودُ
تشيرُ إلى الحديثِ بِحُسْنِ دَلَّ ... عَنِ الفحشاءِ مُعْرضَةٌ حَيود(5)
وقد فتن الشعراء أيضاً بتصوير حديث النساء وكلامهن الذي يدل على الأخلاق الحميدة والتصون والهدوء والرزانة. فأشار غير واحد من الشعراء إلى ذلك فمحمد بن بشير الخارجي يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 233 النوار: الظبية النافرة، الحابل: الذي ينصب حباله للصيد. وللمتوكل إشارات كثيرة إلى أخلاق المرأة ونفسيتها مبثوتة في ديوانه منها: ص119- ص 137-ص163- ص174- ص232.
(2) شعراء أمويون: 455.
(3) المرجع السابق: 518.
(4) ديوان النابغة الشيباني: 43
(5) المصدر السابق 95 النجود: المرأة النبيلة، الصلود: الصلابة.(1/145)
خَوْدٌ إذا كَثُرَ الكلامُ تَعَوَّذَتْ ... بِحمى الحَياء وإنْ تَكَلَّمْ تقصدِ(1)
وعدي بن الرقاع يلتفت إلى حديثهن فيقول:
إذا ذَكَرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَهُ ... وهُنَّ عن كلّ سوءٍ يُتقى صُدُفُ(2)
وفي هاشميات الكميت نقرأ قوله:
وحديثُهُن إذا التقينَ تهانفُ البِيضِ الغرائر(3)
وفي شعره إشارة أخرى إلى حديثهن:
إذ هُنَّ لا خُضُعُ الحديـ ... ــث ولا تكشَّفَتِ المفاضل(4)
ويقول عمرو بن لجأ التميمي في حديثهن:
قصرن حديثاً بينهنُّ مُقَبّراً ... وكلٌ لكلٍّ قالَ أَهلاً ومرحبا
رقيقٌ كَمَسّ الخزّ من غير ريبةٍ ... ولا تابعٌ زورَ الحديثِ المكذّبا(5)
وأشار عروة بن أذينة إلى حديثها فقال:
وحديثَها الحسنَ الجميلَ وعقلهَا ... ذاكَ الأصيلَ إذا أردْتَ محالَها(6)
وقال أيضاً:
يُحْسَبْنَ من لِينِ الكلامِ زوانياً ... وَيَصُدُّهُنَّ عن الخَنا الإسلامُ(7)
ويقول ابن ميادة في المعنى ذاته:
موانع لا يعطينَ حَبَّةَ خَرْدلٍ ... وهنَّ زَوانٍ في الحديثِ أَوانسُ
ويكرهنَ أَنْ يسمعْنَ في اللهوِ زينةً ... كما كرهَتْ صوتَ اللّجامِ الشّوامِسُ(8)
وفتن كثير عزة بحديث محبوبته وأشار إلى عذوبته غير مرة، منها قوله:
تروك لسْقطِ القولِ لا يهتدي به ... ولا هيَ تُستَوصى الحديثَ المكتّما(9)
ويقول في حديثها أيضاً:
إذْ لا تُكلمنُا وكانَ كلامُها ... نفلاً نؤمّلُهُ من الأَنفالِ(10)
ويكرر إعجابه بحديثها:
من الخفراتِ البيضِ وَدَّ جليسُها ... إذا ما انقضَتْ أُحدوثةٌ لو تُعِيْدُها(11)
__________
(1) ديوان محمد بن بشير: 57
(2) ديوان عدي بن الرقاع: 63
(3) الهاشميات: 230/ التهانف: تضاحك في هزء، غرائر: قليلات الخبرة
(4) شعر الكميت: 97
(5) ديوان عمرو بن لجأ التميمي: 38
(6) ديوان عمرو بن أذينة: 142 محالها: مماكرتها
(7) المصدر السابق: 374
(8) شعر ابن ميادة: 68 الشوامس: النافرة التي لا تستقر
(9) ديوان كثير: 133
(10) المصدر السابق: 285
(11) المصدر السابق: 200(1/146)
أما في شعر المدن الحجازية فقد اختلفت صورة المرأة المثالية التي مررنا بها في الصفحات السابقة، وبدأت تتحول وتدخل منعطفاً جديداً بسبب مؤثرات كثيرة تداخلت في البيئة والمجتمع الحجازي، وأصبحت المرأة جريئة متحررة تعيش فراغاً يدفعها للبحث عما تشغل نفسها به وتحقق لها ذلك بالاستجابة لحياة المجتمع الجديد بمغامرات وحب وغزل، تقلبت فيه على أحوالها المختلفة، وجاء عمر بن أبي ربيعة فتلقف هذه الحالة وراح يستكثر من وصفها مضفياً عليها من خياله ورغبته أبعاداً جديدة.
فكانت المرأة في شعره متناقضة متغيرة الأحوال، بقدر ما تظهر جريئة تبدو خاضعة، وبقدر ذكائها تبدو عفوية بسيطة، وبقدر قسوتها يبدو لينها، وبقدر تلّعبها يستطيع عمر أن يخضعها ويتلعب بها، تلبي حاجته، وتصبح عرضة لأهوائه، وتخاف أن تلتقيه، وتحتال لذلك اللقاء بدهاء وخفة، كما كانت مبالغة في التعبير عن حبها، ثرثارة كثيرة الكلام والحيل، ويكثر هو من التعبير عن نفسيتها الملتوية التي تنطوي على المكر والخبث، فتحقق كل ما ترغب فيه بأقل الخسائر الممكنة، فيكشف عن ذلك المكر، ويصور ما تنطوي عليه أعماقها من مشاعر وأهواء متضاربة، ويصغي إلى ما يدور بينها وبين رفيقاتها من أحاديث وحيل من أجل إرضاء الحبيب الهاجر، يقول:
قالتْ على رقبةٍ يوماً لجارتِها ... ما تأمرينَ فإِنَّ القلبَ قد شغِلا
فجاوبَتْها حَصَانٌ غيرُ فاحشةٍ ... برَجْعِ قولٍ وأمرٍ لم يكن خِطلا
اقْنَي حياءَكِ في ستْر وفي كَرَمٍ ... فلستِ أولَ أنثى عُلّقتْ رَجُلا
لا تُظْهري حبَّه حتى أُراجِعَهُ ... إنيّ سأَكفيكِهِ إنْ لم أمتْ عجلا(1)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 358(1/147)
وفي مواقف حوارية أخرى مع قريباتها - أخواتها أو صديقاتها- تتم الحيلة، وتنجح المؤامرة، وتنال ما تريده بأقل الخسائر الممكنة، إنها صورة المرأة في شعر عمر بكل ما تنطوي عليه نفسها من خوف وحذر، وتدلل وتمنع، ومكر واحتيال، ورغبة في المغامرة، وجرأة عليها، وحضّ عليها بطريقة أنثوية خاصة كما نرى في قصيدته "أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ" فقد قصّ الشاعر بأسلوب فني بديع ما كان من أمره "ليلة ذي دوران" حتى دخل خباء نعم، ثم أمضى ليلته القصيرة بصحبتها دون أن يشعر بمرور الوقت. فلّما ارتفع صوت الحيّ، وعلت ضوضاؤهم، ولاحت تباشير الصباح أدركا أنهما في مأزق، وقد أبدع عمر في تصوير هذا الموقف من القصة الذي يطلق عليه النقاد اسم "الذروة" وصور تصويراً نفسياً عميقاً نفسية الرجل ونفسية المرأة في مثل هذه المواقف. والذي يهمنا هنا هو أن نتبين صفات الأنثى كما نراها في هذا الموقف الحرج. فقد ألقت عليه - أول الأمر- مسؤولية التصرف للخروج مما هما فيه مصطنعة في ذلك شخصية المرأة التي تشعر حبيبها بأنها ضعيفة لا تملك لشؤونها تصريفاً، وبأنه الرجل السيد الذي تعتمد عليه وحده في مواقف الخطر:
قالَتْ: أَشِرُ كيفَ تأْمُرُ؟(1/148)
ولكنها لم تلبث أن فنّدت رأيه، وبينت عُواره. فليست المواجهة من طبيعة الأنثى في مثل هذه المواقف لأن المواجهة -في أحسن أحوالها- ستجلب لها الفضيحة. إنه الحذر الذي فطرت عليه، والمكر والاحتيال اللذان عرفت بهما حواء الخالدة!! وتأتي بعدئذ لحظة "التنوير" أو بداية الحل - كما يسميها نقاد القصة- فتعرض عليه أن تستعين بأختيها لعلهما تريان لها حلاً. وتتكشف نفسية المرأة ههنا بدهائها ومكرها وخشيتها من الفضيحة لا من الزيارة نفسها، فتعرض الأختان عليها خطة ذكية ماكرة، وتطمئنانها فالخطب أيسر مما تظن. وليس على عمر إلاّ أن يرتدي ثياب إحداهما، ثم يخرج برفقة حبيبته وأختيها متنكراً بثياب امرأة!! ألم أقل إنه الحذر والمكر والدهاء والفطنة الأنثوية الخاصة، وهو الاحتيال والجرأة وتهوين ما ليس يهون!! فقد استطاعت بخبث المرأة أن تنجو من الفضيحة، وأن تخرج من مواطن الخطر محتفظة بوقارها وحشمتها أمام الآخرين!! يقول:
فقالتْ: أَتحقيقاً لما قالَ كاشحٌ ... علينا وتصديقاً لما كانَ يُؤثِرُ
فإنْ كانَ مالا بُدَّ منهُ فغيرُهُ ... مِنَ الأمرِ أَدنى للخفاءِ وأَسترُ
أقصُ على أُختيَّ بْدءَ حديثنا ... ومالي من أن تعلما مُتأَخَّر
فقالَتْ لأُختيها أَعينا على فتى ... أَتى زائراً والأمرُ للأمرِ يُقْدَرُ
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... أقلِّيِّ عليك اللومَ فالخطب أيسرٌ
يقومُ فيمشي بيننا متنكّراً ... فلا سِرُّنا يفشو ولا هُوَ يَظْهَرُ
فكان مِجَنّي دونَ من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومُعصِرُ
فلما أَجزنا ساحةَ الحيّ قلنَ لي ... أَما تتقي الأعداء والليل مَقْمرُ
وقلنَ أَهذا دَأبك الدهرَ سادراً ... أَما تستحي أو ترعوي أو تُفكّرُ(1)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 100(1/149)
وقد ضرب المثل بترس عمر أو مجنه، وطارت شهرته في الآفاق، وينبغي أن نلاحظ أن تعليق هؤلاء الفتيات على عمر ومسلكه ليس ردعاً له، ولا إنكاراً أو ما يشبه الإنكار، بل هو، في حقيقته، استثارة لفتوته، وإعجاب بها، واعتراف صريح أو كالصريح بهذا الإعجاب.
وقد أشار الدكتور شكري فيصل إلى مقدرة عمر بن أبي ربيعة في الكشف عن نفسية المرأة وأخلاقها الملتوية عندما قال: "كشف عمر عن نفسية الأنثى التي تعرف كيف تداور الأمر، وكيف تتجنب أزماتها الشداد وتعرف كيف تتقي المجتمع، وتقطع الطريق على الكاشح فتنصرف عن العنف إلى الحيلة"(1)
وقد استغلت الحيلة إلى أبعد مدى في مواقفها مع عمر، وفازت مرات كثيرة باللقاء الحذر بعد أن احتالت على الرقابة والمجتمع بأساليبها المختلفة.
قالَتْ أردتَ بذا عمداً فضيحتَنا ... وصرمَ حبلي وتحقيقَ الذي ذكروا
هلاَّ دسسْتَ رسولاً منك يُعْلِمُني ... وَلَمْ تُعجّلْ إلى أَنْ يسقطَ القمر(2)
وكان عمر برأي بعض الباحثين يعنى بوصف المرأة نفسها، ووصف أحاسيسها، وكأن غايته من ديوانه أن يصف المرأة وصفاً نفسياً(3)فها هي ذي تبدو والغيرة تنهش قلبها عندما علمت أنه قد تزوج واحدة أخرى، لكنها كتمت غيظها، وتظاهرت بعدم الاهتمام، وأخفت ما تعاني من غضب وقلق، ثم ضاق صدرها بناره، فأفضت بما فيه لصديقات لها هن موطن للسّر وأهل للتسارّ، يقول:
خَبّروها بأَنني قد تزوجْـ ... ت فظلَّتْ تكتّمُ الغيظَ سِرّاً
ثم قالت لأُختِها ولأُخرى ... جَزَعاً ليتَهُ تَزَوَّجَ عَشْرا
وأشارتْ إلى نساءٍ لديها ... ما ترى دونَهنَّ للسِّر سَتْرا
ما لقلبي كأنَّهُ ليسَ مني ... وعظامي إِخالُ فيهنَّ فتْرا
مِنْ حَديثٍ نُميْ إلىَّ فظيعٍ ... خِلتُ في القلبِ من تَلظّيْهِ جَمرا(4)
__________
(1) تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام: 420
(2) ديوان عمر: 115
(3) العصر الإسلامي: 325
(4) ديوان عمر: 492(1/150)
ويصف ما يعتري نفوس النساء من إحساس بالحسد تجاه من تفوقهن جمالاً، وما يدور في نفس هذه الجميلة من الرغبة في انتراع اعتراف صديقاتها بأنها أجمل منهن، ورغبتها في إظهار تفوقها عليهن، وإدلالها بهذا الجمال، وبتغزل عمر بها. فهو يصورها تسأل رفيقاتها عن مدى صدقه في تصوير حسنها، ولكنهن بخبثهن المعهود ومكرهن يلتوين بالجواب، ويصطنعن الضحك، ويجبن إجابة ماكرة لا تحقق لها ما أرادت، ومتى كانت المرأة تقرّ لغيرها بأنها أجمل منها؟ وليس يخفى ما في هذه الإجابة من شوك الحسد وإن بدا ملّفعاً بالسخرية والهزء
زعموها سأَلَتْ جاراتِها ... وتَعَرَّتْ ذات يومٍ تَبْتَرِدْ
أَكما ينَعتُني تُبْصِرْنَني ... عَمْرَكُنّ اللّه أَمْ لا يَقْتَصِدْ
فتضاحَكْنَ وقد قُلنَ لها ... حَسَنٌ في كلّ عَينٍ مَنْ تَوَدِّ
حسداً حُمّلْنَهُ من شأنِها ... وقديماً كانَ في الناسِ الحَسَدْ(1)
و لايملّ عمر ولا يضجر من الحديث عن احتيال النساء للقائه، وتعلقهن به، وفوزهن بما يخططن له بظرف وذكاء، فيروي لنا كيف عملن للقائه على جهل منه، ثم يكشف عن حيلتهن الظريفة بقوله:
فلما تواقَفْنا وسلمتُ أَشرقَتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أَنْ تتَقنعا
تَبَالَهْنَ بالعرفانِ لّما عرفْنني ... وقُلنَ امرؤٌ باغ أكلَّ وأَوضَعَا
وقَرَّبْنَ أسباب الصِّبا لمتيَّم ... يَقيسُ ذِراعاً كلما قِسْنَ إِصْبعا
فلما تنازعنا الأحاديثَ قلنَ لي ... أَخفتَ علينا أن نُغَرَّ ونُخدعا
فبالأمسِ أرسلنا بذلك خالداً ... إليك وبيّنا له الشأن أجمعا
فما جئتنا إلا على وفق موعدٍ ... على ملإٍ منّا خرجنا له مَعَا
رأينا خَلاءً من عيونٍ ومجلساً ... دميثَ الرُّبا سَهْل المحلَّة مُمرعا
وقلن كريمٌ نالَ وَصْلِ كرائمٍ ... فَحُقَّ له في اليومِ أَنْ يتمتّعا(2)
ويضع على لسان صاحبته خطة أخرى تلقنها لصديقاتها بحذر وذكاء، وتحمل خطتها لوماً وعتاباً له بسبب هجره لها، ولكنه يرد عليهن بمثل ذكائهن وأكثر:
__________
(1) ديوان عمر: 320
(2) المصدر السابق: 179(1/151)
ولا أَنسى مقالتَها ... لِتربيها أَلا انتظرا
أبا الخطّاب ننظرُ ... فيمَ ... بعد وِصالِهِ هَجرا
ولو ماه وقيتُكما ... على الهجران واستترا
وقولا قد ظفرتَ بها ... كفاكَ وخبِّرا الخبرا
وقولا إن سرك يو ... مَ بطنِ الخيفِ قد شُهرا
فقلتُ أغرها أني ... لها عاصيتٌ مَنْ زَجَرا
وأن أَنزلْتُها في الودّ ... مني السمعَ والبصرا
وقولا في ملاطفة ... أَزينبُ نوِّلي عمرا(1)
ونصادف في ديوانه كثيراً من الحيل والخطط للفوز بلقائه، ولست أشك في أن عمر كان يقصد بها الكشف عن نفسية المرأة وما فطرت عليه من المكر والخبث في تجاوزها كل الأخطار التي تعترضها واحتفاظها- على الرغم من كل ما تبذل لإرضائه خلال اللقاء - بإطار من العفة والاحتشام:
فقُلن لها لولا ارتقابُ صحابةٍ ... لنا خلفنا عُجْنا ولم نَتَوَرَّعِ
فقالَتْ فتاةٌ كنتُ أحسِبُ أَنها ... مُغَفَّلةٌ في مئززٍ لم تَدَرَّعِ
لَهُنّ وما شاورْنها ليس ما أرى ... بحسن جزاءٍ للكريمِ المودّع
فقُلْنَ لها لا شبّ قرنُكِ فافتحي ... لنا بابةً تخفْىَ من الأمرِ نَسْمَعِ
فقالت لهنَّ الأمرُ بادٍ طريقُهُ ... مبينٌ لذي لُبٍّ يَنوءُ بمْرِجعِ
نُهدِّم من يَخْشى فيمضي أمامَنا ... ومَنْ خفتِ من أَصحاب رَحلكِ فارجعي
وأَوْصي غلاماً بالوقوف بجانب الستار خَفيَّا شخصه يتسمَّعِ:
فإن ير مما يُتّقى غير رقْبةٍ ... علينا يُعجِّلْ ما استطاعَ ويُسْرِعِ(2)
__________
(1) ديوان عمر: 168
(2) المصدر السابق: 184 أي من تخافين أن يشي بك ممن هم معك، غير رقبة علينا: أي الحراس.(1/152)
كانت هذه مشاهد يسيرة، وغيرها كثير من شعر عمر، تصور المرأة في بيئة المدن الحجازية لهذا العصر، فتبدو -كما رأينا- مضطربة محتالة، ذكية ومحبة، تضحي بأثمن ما تملك عندما تكون عاشقة، وتدبر الصعب بأقل الخسائر، ولكنها رغم كل ذلك، حسب رأي الدكتور شوقي ضيف "ظلت تحتفظ بحجاب من الوقار كانت فيه لا تضيق بما يقال فيها من غزل، بل لعلها كانت تحب فيه أن يحظى بغير قليل من الحرارة، وعلى هذا النحو كان الناس رجالاً ونساء في مكة والمدينة على شعر الغزل. وأخذ الشعراء يخضعون ملكاتهم وعواطفهم له"(1)
ولكن عمر "استمر في طلب المرأة، والالحاح عليها، وبلغ من تيه عمر في ذلك أن رأيناه يصورها متهالكة عليه تتضرع إليه وتستعطفه"(2)
وكان عمر يراهُنَّ صواحب غدر لا يؤَتمْنَّ على شيء مع أنه قليل التصريح برأيه السلبي فيهن كيلا يخسر مودتهن، ولكننا نقع على هذا الرأي في بعض شعره، يقول:
لجَّتْ فُطيمةُ منكَ في هجرِ ... غَدراً وهنَّ صواحبُ الغدرِ(3)
وفي زحام آراء عمر بالمرأة، واهتمامه بالكشف عن التوائها وغدرها وحيلها وبراعتها، لم ينس أن يشير إلى بعض ما تتمتع به من أخلاق حميدة، وسيرة عفيفة مما تعارف عليه المجتمع بشكل عام، فبدا معجباً بأخلاقها، يعجبه منها أنها:
لم تعانِقْ رجلاً فيما مضى ... طَفْلةٌ غيداءُ في حُلَّتها(4)
ويشير إلى خلقها النبيل، وعقلها الراجح في قوله:
سيفانةٌ أوتيتْ في حسنِ صورتِها ... عَقْلاً وخُلْقاً نبيلاً كاملاً عَجَبَا(5)
ويقول في أخلاقها أيضاً:
إنها عفّةٌ عن الخُلُقِ الوا ... ضعِ والطُّعْمةِ التي هِيَ عارُ(6)
يذكر أنهما عندما يجتمعان يهجران كل فاحشة:
إذا اجتمعنا هجرنا كلّ فاحشةٍ ... عند اللقاءِ وذاكُمْ مجلسٌ حَسَنُ(7)
__________
(1) العصر الإسلامي: 348
(2) المرجع نفسه: 349
(3) ديوان عمر: 470
(4) المصدر السابق: 487
(5) المصدر السابق: 412
(6) المصدر السابق: 133
(7) المصدر السابق: 281(1/153)
ونجح عمر كما هو واضح في الدخول بين النساء، واستراق السمع إلى أحاديثهن، ونقل أمنياتهن في الحب واللقاء وسجل تصريحاتهن برغبات كثيرة فكشف عن أنفسهن اللعوب، وأخلاقهن المعوجة التي تبدو في تصرفاتهن، وشقائهن في حب من يهملهن، وخضوعهن وانكسارهن في من يتنكر لهن. ولخص هذه المعاني عبيد الله بن قيس الرقيات في قوله:
إنَّ النساءَ إذا يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ ... فكلُّ ما قيلَ لا تفعلْنَ مفعولُ
وما وعدنَكَ من شرّ وَفَيْنَ بهِ ... وما وَعَدْنَ من الخيراتِ تَضليلُ
إنَّ النساءَ كأشجار نبتن معاً ... فيهنّ مُرٌّ وبعض النبتِ مأكولُ(1)
هذا ولم يكتفِ الشعراء بتصوير أخلاق المرأة ورصد نفسيتها، بل يتوقف بعضهم ليصور أخلاقه في التعامل معها، فعلاقة الرجل بالزوجات والجارات قضية لها أبعادها العميقة في مجتمع البادية خاصة، وتمثل أخلاق الفروسية العربية يفضي بنا إلى تخيل علاقة الجوار النبيلة الضاربة في جذور المجتمع العربي. ومن أغنيات الشعراء بهذه المثل الرفيعة نقرأ قول العجاج:
ولم أكن لجارتي غَوَّالا ... ولم أكن في جَنْبها جَّهالا
ولا لبيت جارتي خَتَّالا ... بعد المنامِ أَبتغي الأدغالا(2)
ومن أبناء البادية أيضاً من أنشد هذه الأنشودة الأخلاقية الكريمة، فنسمع عقيل بن علّفة يقول:
ولست بسائلٍ جاراتِ بيتي ... أَغُيَّابٌ رجالُكِ أم شُهودُ
ولا مُلْقٍ لذي الوَدَعات سَوْطي ... ألاعِبُهُ ربيبتَهُ أُريدُ(3)
ويقول كثير في هذه المعاني الأخلاقية:
نساءُ الأخلاء المصافين محْرمٌ ... عليَّ وجاراتُ البيوتِ كنائنُ(4)
__________
(1) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 164 وله في تصوير أخلاقها في ديوانه ص 163، 48، 36
(2) ديوان العجاج: 263 ختال: خداع، الدغل: كثرة الشجر وكثرة الخيانة وطلب التخفي.
(3) الحماسة: 401
(4) ديوان كثير: 379(1/154)
ولا نعدم في أشعار الحجازيين مثل هذه المعاني السامية التي تمثل الفضيلة والقيم الإسلامية التي نبتت في أرض الحجاز فنرى الأحوص يتسامى مع هذه المرأة التي تحاوره في موقف أخلاقي شديد الحساسية، وهنا نلاحظ انقلاباً في صورة المرأة الأخلاقية في شعر شعراء مدن الحجاز لكن الأحوص يزجرها مستعرضاً مكارم أخلاقه ويبين لها أنه لا يخالف تعاليم دينه الصريحة في هذا المقام، يقول:
قالت- وقلت تحرّجي وصلي ... حبلَ امريءٍ بوصالكمْ صبٍّ
واصلْ إذنْ بعلي، فقلتُ لها ... الغدرُ شيءٌ ليس من ضربي
ثنتانِ لا أدنو لوصلهما: ... عرسُ الخليلِ وجارةُ الجنبِ
أما الخليلُ فلستُ فاجعهُ ... والجارُ أوصاني بهِ ربي(1)
وأجد نفسي هنا في منعطف حساس جداً، وهو تبين علاقة الشعراء مع المرأة المتزوجة، وإعلانهم عن هذا الموقف في أشعارهم، مما قد يخلخل بعض القيم الأخلاقية التي تتبعناها منذ بداية هذا الفصل.
فنشاهد المرأة خارج دائرة الأسرة والزوج والمجتمع تبحث عن إرواء الرغبة والمتعة بطريقة ملتوية. لكنها صورة قليلة تناولها عدد من الشعراء الذين عرفوا بالتهتك والاستهتار وقد تكون صورة متخيلة لا مرأة تثير رغبة جامحة في نفس الشاعر، فيعوض عن خيبته بالتخيل، ويثبت أمنياته في أشعاره التي تفارق الواقع، وتفترض ما يحب الشاعر أن يكون.
بيد أنني أستطيع أن أقول أيضاً: إنه لا بد من وجود مستويات أخلاقية مختلفة في المجتمع، ومن غير المعقول أن تكون كل النساء من مستوى أخلاقي واحد، وأن يكنّ جميعهن عفيفات طاهرات الذيل. كما أنه من غير المعقول أن يتحلى جميع الشعراء بالقيمة الأخلاقية ذاتها، هذه الثغرة التي كانت في المجتمع لهذا العصر هي التي استغلها بعض الشعراء المتهورين، وتجاوزوا ما فرضه المجتمع من القيم والقواعد الأخلاقية.
__________
(1) ديوان الأحوص: 82 ضربي: عادتي وشأني، العرس: امرأة الرجل.(1/155)
وهي أيضاً صورة أخرى للمرأة لا علاقة لها بصورة المرأة في الحجاز التي دخلت مسارب أخرى مفارقة لمساربها النمطية كما رأينا عند شعراء الحجاز.
فهذا ابن ميادة يعلن عن الثغرة التي قد تضع المرأة في هذا الموقف، إنه -كما يقول- نفورها من الزوج، وعدم قدرتها على التخلص من رابطة الأسرة، فيجد الشاعر فرصة للفوز بهذه المرأة التي لا تمنع راحة لامس كما يقول:
أُحِبُّ الغواني الفاركاتِ بُعُولها ... وإِنْ كُنَّ لا يمنعنَ راحةَ لامسِ(1)
ولكنه يعود في موقف آخر لالتزام أخلاق المجتمع، والتمسك بمثله، فتراه يتباهى بعفته وأخلاقه عندما يقول:
ليستْ تجودُ بنيلٍ حينَ أسألُها ... ولستُ عند خلاءِ اللهوِ أغتصبُ(2)
ثم يتكرر هذا الموقف عينه مع العرجي، فيشجع سيدة متزوجة على لقائه عندما يغيب زوجها، فيقول متسائلاً:
ماذا عليكِ وقد أهديتِ لي سقماً ... وغابَ زوجُكِ يوماً أن تعوديني(3)
لكنه سرعان ما يعود إلى رشده، وينهي نفسه عن العلاقة مع المرأة المتزوجة في قوله:
أيا قلبُ لا تكلف فليلى مزارُها ... بعيدٌ وليلى ناكُح غيرُ أيمٍّ(4)
وللفرزدق قصص ومغامرات متعددة مع نساء متزوجات يحكي فيها أخلاق هذه المرأة التي تأتيه متخفية في الظلام، وينتهي اللقاء إلى ما يريد كل منهما ويحكي ما دار بينه وبين هذه المرأة المتزوجة من رجل ثري كريم من أهل الشرف ويصف مكانتها من قلب زوجها وإيثاره لها على نسائه جميعهن ويشير الفرزدق بذكر مكانتها لدى زوجها إلى روح هذه المغامرة وما يمكن أن تحمله له من الشر والخطر أيضاً إلى فتكه وتهتكه يقول:
حليلةُ ذي ألفينِ شيخٍ يرى لها ... كثير الذي يعطي قليلاً يُحاقرهْ
نهى أهلهُ عنها الذي يعلمونه ... إليها وزالتْ عن رجاها ضرائرُهْ
أتيتُ لها من مختَلٍ كُنْتُ أدّري ... به الوحشَ ما يُخشى عليّ عواثرهُ
__________
(1) شعر ابن ميادة: 69
(2) المصدر السابق: 17
(3) ديوان العرجي: 66
(4) المصدر السابق: 88(1/156)
فلما اجتمعنا في العلاليّ بيننا ... ذكيٌّ أتى من أهل دارين تاجرهْ
نقعتُ غليلَ النفسِ إلا لُبانة ... أبتْ من فؤادي لم ترمِها ضمائِره(1)
وكثرت الإشارة إلى النساء المتزوجات، وإلى علاقتهن المزدوجة بأزواجهن وعشاقهن في أشعار العذريين. فكانت قضية نفسية أخلاقية عميقة الأثر في نفوس الشعراء العذريين، فتناولوا أزواج محبوباتهم بصور شتى. وقد سجلوا بذلك بعض التعابير الأخلاقية السائدة في المجتمع في مثل هذه الحالات.
وعلى الرغم من قوة الشعور الديني لدى هؤلاء الشعراء فإنهم لم يستطيعوا التفلت من هذه المشكلة المعقدة، فظلّوا يتأرجحون بين أمنيتهم في الحظوة بمحبوباتهم والفوز بهن، وبين الواقع المر الذي يعرفونه عنهن وهن بين أيدي أزواجهن.
وممن رشحت نفسه بتسجيل هذه المفارقة، مجنون ليلى عندما زفر باستفهام مرير يوجهه إلى زوج ليلى ويعرف الجواب عنه مقدماً، لكنه يود لو يسمع غير ما يقع في نفسه موقع اليقين:
بربّك هل ضممتَ إليكَ ليلى ... قبيل الصبحِ أو قبلتَ فاها
وهل رفَّتْ عليكَ قرونُ ليلى ... رفيف الأقحوانةِ في نداها(2)
فقال زوجها: اللهم إذ حلّفتني فنعم، ولم يكن المجنون بحاجة لسماع هذا الرد. ثم يحاول إغاظة زوجها مدافعاً عن كرامة عشقه قائلاً:
فإن كان فيكم بعلُ ليلى فإِنني ... وذي العرشِ قد قبَّلتُ فاها ثمانيا
وأشهدُ عنَد اللهِ أَني رأيتُهما ... وعشرونَ منها إصبعاً منْ ورائيا(3)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 187 الحليلة: الزوجة، حليلة ذي ألفين: أي هي امرأة شريفة، زوجها كريم يعطي ألفين وهو عطاء أهل الشرف. الذين يعلمونه: أي نهاهم عنها ما يعلمونه من كرامته لها.
... رجاها: جانبها، ضرائره: نساؤه، لم ترمها: لم تفارقها
... المختل: مكان الصياد الذي يخادع به
... الذكي: المسك. دارين قرية بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند.
... نقعت: أي رويت ظمأها، اللبانة: الحاجة.
(2) ديوان المجنون: 286
(3) المصدر السابق: 286(1/157)
وليس يخفى ما في هذين البيتين من رغبة حارقة تتحول إلى حرمان مرير، فيلجأ إلى الشعر يعوض خيبته، ويقسم الإيمان المغلظة ليؤكد لنفسه ما يقول. وللآخرين حيقيقة ما يزعم. ولم يقنع المجنون بما صارت إليه ليلى في دار زوجها بل كان يحاول زيارتها، فيضطر زوجها للدفاع عن كرامته بأساليب شتى، فينبري المجنون للدفاع عنها، والسخرية من زوجها، واستنكاره لأسلوبه في معاملتها:
أتضرب ليلى كما زرتُ دارها ... وما ذنب شاةٍ طبّقَ الأرض ذيبُها(1)
ويحاول استقراء علاقتها بزوجها، فيدعي أنها لم تنل حقها كما تناله امرأة كريمة تستحق الحياة الكريمة، بل ابتليت بزوج غبي، لا يحسن التعامل معها، وفي ظني أن في الصورة رمزية شفافة تفصح عن حال المجتمع العربي في عصر الشاعر:
أيا عمرو كم منْ مهرةٍ عربيّةٍ ... من الناس قد بليتْ بوغدٍ يقودها
يسوس وما يدري لها من سياسةٍ ... يريدُ بها أشياءَ ليست تريدها(2)
ويختتم موقفه الأخلاقي برغبة قد تكون - إذا ما تحققت- حلاً لما يعانيه بسبب زواجها، فيتمنى قائلاً:
فقد شاعتِ الأخبارُ أن قد تزوَّجتْ ... فهل يأتينّي بالطلاقِ بشيرُ(3)
ولم يكن حال كثير أفضل من حال المجنون، وله مع زوج عزة مواقف تُحكى، يقول في أحد هذه المواقف:
يُكلّفها الخنزير شتمي وما بها ... هواني ولكنْ للمليك استذلَّتِ(4)
ولا يكتفي زوجها بشتمها له، بل يتطاول عليها، ويضربها أيضاً كلما رآه قريباً من ديارها:
حليلةُ قذافِ الديار كأنه ... إذا ما تدانينا من الجيش هاربُ
إذا ما رآني بارزاً حالَ دونها ... بمْخبَطةٍ يا حُسْنَ مَنْ هو ضاربُ(5)
ويبرر لنفسه تعلقها به، ويستفز زوجها، فيتهمه بالعجز والكبر عندما يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 72
(2) المصدر السابق: 105
(3) المصدر السابق: 140
(4) ديوان كثير: ص 95
(5) المصدر السابق: 145 قذاف: بعيد أي هي زوجة رجل يتحرى الأماكن النائية خوفاً عليها، المخبطة: القضيب أي إنه يضر بها.(1/158)
فقلت لها بل أنتِ حنّةُ حوقلٍ ... جرى بالفري بيني وبينكَ طابنُ(1)
ولكنه لا ينسى أن يذكر موقفه الأخلاقي منها وهي متزوجة، فينقل رغبة أهله في الابتعاد عنها، ويذكر نصيحتهم له بتركها لأنها متزوجة، وموقف أهله منها يمثل موقف المجتمع عامة من العلاقة بالمرأة المتزوجة يقول:
يقولون ودّعْ عنك ليلى ولاتهمْ ... بقاطعةِ الأقرانِ ذاتِ حليلِ(2)
ولا يرعوي جميل ولا يهتم بكون حبيبته امرأة متزوجة، بل يغامر ويندفع ويبيت في خبائها، وفي بيتها زوج كأنه ليث الغاب، يقول:
وقالوا جميلٌ باتَ في الحيِّ عندها ... وقد جرّدوا أسيافهم ثم وقَّفوا
وفي البيتِ ليثٌ الغابِ لولا مخافةٌ ... على نفس جُمْلٍ والإله لأرعفوا(3)
وتلاقي بثينة مصير ليلى وعزة ذاته، فينتقم زوجها منها عندما يراه في ديارها، ولكنه ما إن يغفل عنهما حتى يعود النعيم بينهما إلى حاله. وهي صورة لا تعبر عن واقع جميل في علاقته مع بثينة إذا ما تذكرنا النشأة الأخلاقية والرقابة الشديدة لكل منهما:
إذا ما جئتُها يوماً من الدهر زائراً ... تَعَرَّض منفوضُ اليدينِ صَدودُ
يَصدُّ ويُغضي عن هوايَ ويجتني ... ذنوباً عليها إنّهُ لعنودُ
فأصرمها خوفاً كأني مجانبٌ ... ويغفل عنّا مرةً فنعودُ(4)
وتدافع المرأة عن أخلاقها وفضيلتها على لسان ليلى الأخيلية كما يظهر في أخبارها مع حبيبها توبة بن الحمير. ويروى أن الحجاج قال لليلى: "إن شبابك قد ذهب، واضمحل أمرك وأمر توبة، فأقسم عليك إلا صدقتني، هل كان بينكما ريبة قط... أو خاطبك في ذلك قط؟
فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:
__________
(1) المصدر السابق: 379 طابن: رقيق عالم به، الحنة: الزوجة، الحوقل: المسن الذي عجز عن النساء: الفري: القول المفترى.
(2) المصدر السابق: 109
(3) ديوان جميل: 52 أرعفوا: سارعوا إلى القتال.
(4) المصدر السابق: 27(1/159)
وذي حاجةٍ قلنا له لا تُبح بها ... فليس إليها ما حييتَ سبيلُ
لنا صاحبُ لا ينبغي أن نخونهُ ... وأنتَ لأخرى فارغٌ وحليلُ
تخالُكَ تهوى غيرها فكأنها ... لها من تَظَنّيها عليكَ دليلُ(1)
ونراها تدعو له دعوة رقيقة تضمنها مشاعر حبها له، وتظهر تعلقها به، وترفض بأسلوب لطيف ما تفصح عنه عيناه من رغبة جامحة، إلا أنها حاجة لا ينالها على ما تذكر:
وعنه عفا ربّي وأحسنَ حِفَظهُ ... عزيزٌ علينا حاجةٌ لا ينالها(2)
ولم يكن توبة يرى في زيارته لها حرجاً أو ذنباً، يقول:
عليّ دماءُ البدن إنْ كانَ زوجها ... يرى لي ذنباً غير أني أزورها(3)
وتكشف رغبة ذي الرمة عن الموقف الأخلاقي من حبيبته وزوجها، عندما يقول:
ألا ليتَ شعري هل يموتنَّ عاصمٌ ... ولم تشتعبني للمنايا شَعُوبُها(4)
ويكرر هذه الرغبة في دعائه عليه:
رمى اللّهُ من حتفِ المنيّةِ عاصماً ... بقاضيةٍ يدعى لها فيُجيبُها(5)
وقبل أن أختم الحديث عن أخلاق المرأة أحب أن أسجل ثلاث ملاحظات على هذا الحديث.
__________
(1) ديوان ليلى الأخيلية: 95
(2) المصدر السابق: 100
(3) المصدر السابق: 100. البدن: ناقة تذبح بمنى تربى وتسمن من أجل ذلك
(4) ديوان ذي الرمة: 695. عاصم: زوج مية من بني منقر.
(5) المصدر السابق: 696(1/160)
فقد تبين لي -وهذه هي الملاحظة الأولى- أن هذه الأخلاق التي ذكرها الشعراء، وأعادوا القول فيها يمكن ردّها إلى ثلاثة مصادر هي: منظومة القيم الجاهلية، أو بعبارة أدق- ما استصفاه الإسلام من تلك المنظومة، ونقحّه وهذبه، ووجّهه وجهة إسلامية خالصة كالبخل وغض الطرف والحياء والصرم والخشية من القيل والقال وغير ذلك. ومنظومة القيم الإسلامية التي جاء بها الدين الحنيف، ودعا المرأة إلى التحلي بها صوناً لها ولأسرتها، وهي كنز من القيم الخلقية الرفيعة كالتدين والطهر والعفاف والحشمة وسواها كثير. ومجموعة من القيم الإنسانية العامة التي ترافق المرأة في كل زمن وأرض، وأعني بها الأخلاق المتصلة بطبيعة الأنثى أية كانت هذه الأنثى كالدلال، والمماطلة، وتضخم الإحساس بالذات، والمكر واللجوء إلى الحيلة بدلاً من المواجهة وما يشبه هذه الطبائع أو الأخلاق وقد أظهر لي تتبعي لأخلاق المرأة في الشعر الأموي أن مسالك الشعراء قد اختلفت في الحديث عن هذه الأخلاق وهذه هي الملاحظة الثانية، فقد سار معظم الشعراء على سنة واحدة، فأنابوا أنفسهم في الحديث عن المرأة، فهم الذين يقررون صفاتها تقريراً دون أن يقرنوا هذه الصفات بأحداث الحياة اليومية، ودون أن يسمحوا لتلك المرأة بإبداء رأيها، أو بالتعبير عن حقيقتها، فبدت صامتة خرساء أو كالخرساء، ولكن عمر بن أبي ربيعة فارق هذا النهج، فأنطق المرأة، ووضعها في مواقف مختلفة، وترك لها حرية التعبير عن نفسها، فأسرفت في الحديث عن هذه النفس حتى بدت ثرثارة تبوح بأسرارها كلها فلا تكاد تبقي منها سراً في موطن السر، وهذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرأة في الشعر العربي ثرثارة لا تكفّ عن الحديث.(1/161)
ومما يلفت النظر في هذا الحديث أنه -في معظمه- لم يكن حديثاً عن الأخلاق الموروثة أو المستجدة، بل كان تصويراً لنفسية الأنثى الخالدة، وطبائعها التي فطرها الله عليها كالغيرة والمكر والمماطلة، واللجوء إلى الحيلة والدهاء، واصطناع الحياء، والإحساس بالخوف، وحسد كل من هي أجمل منها أو من طار صيتها بجمال أو سواه، وسوى ذلك من الطبائع المركوزة في نفس الأنثى مما جعل شعر عمر أقرب إلى "أدب الطبائع".
وتتصل الملاحظة الثالثة بهذا الاعوجاج الذي رأيناه أحياناً قليلة في أخلاق المرأة وسلوكها، أو في مزاعم الشعراء، وهو اعوجاج يكشف - على ندرته- عن واقع فردي واجتماعي في آن واحد، فقد أنكر المجتمع هذا الاعوجاج، ولم يسرف الشعراء في الحديث عنه كيلا يصطدموا بهذا المجتمع الذي يفرض عليهم ثقافته وأعرافه وتقاليده.
( ... ( ... (
الفصل الثاني
جمال المرأة في الشعر الأموي
( ... (
اعتمدت الصورة الجسدية للمرأة في الشعر الأموي اعتماداً كبيراً على الموروث الجاهلي، الذي كان قد أسهب في وصف المرأة الجسد، على أنها شكل في الطبيعة يعبر عن الجمال، فاستهل الشعراء قصائدهم، وفي أذهانهم هذا المثال الآخاذ الذي يخشون عليه العبث أو التجاوز، فأعجب به شعراء العصر الأموي وقلّدوا تقليداً كبيراً شعراء العصر الجاهلي في هذا الجانب من موضوعاتهم.
واستقرت صورة المرأة موضوعاً للشعر عند طائفة من الشعراء، فجعلها بعضهم موضوعاً كاملاً للقصيدة، وفي هذا بعض الانحراف عن الأسلوب الموروث، كما في شعر الحجاز الحضاري وشعر الحب العذري، بينما استمرت مقدمة للقصيدة في شعر الغزل التقليدي إحياء للمنوذج السائد في القصيدة الجاهلية.(1/162)
ومن يتتبع بعض النماذج الوصفية التي تناولت المرأة في الأصول الجاهلية يلاحظ غزارة المعاني الجاهلية في النموذج الأموي، فقد قلد الشعراء أمرأ القيس تقليداً واسعاً، ودارت أوصافه وتشبيهاته في دواوين معظم الشعراء الأمويين المشهورين منهم و المغمورين على حد سواء. وكان النقاد قد قدموا امرأ القيس على طبقته كلها لأمور منها أنه ابتدع بعض الأوصاف في غزله "فشبه النساء بالظباء والبيض"(1) وأشهر صورة بل أقدم صورة وصلت إلينا، وتناولت وصف المرأة كانت في معلقته، وقد شملت أوصافاً كثيرة، وبدت متعددة الألوان والأجزاء والتفاصيل، واعتمدت على البيئة المحيطة به في تقريب الشكل الجمالي، وإبرازه بأحسن صورة، وأصبحت هذه اللوحة مورداً عذباً للشعراء لابد لهم من وروده، والاستمداد منه من أجل التشبث بشيء من الأصولية، والاستناد المطمئن إلى الموروث الثقافي، وتبدأ الصورة بالكلمات الألوان كما يلي:
مهفهفةٌ بيضاءُ غيرُ مفاضةٍ ... ترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
كبكرِ مُقَاناةِ البياضِ بصُفرةٍ ... غذاها نميرُ الماء غيرُ المحلَّلِ
تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتّقي ... بناظرة من وحشِ وجرةَ مُطْفلِ
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصَّتهُ ولا بمُعطَّلِ
وفرعٍ يزينُ المتنَ أسودَ فاحمٍ ... أثيتْ كقنو النخلةِ المتعثكلِ
غدائرهُ مسْتَشزراتٌ إلى العلا ... تضلُّ المدارى في مثّنى ومُرْسَلِ
وكشح لطيفٍ كالجديلِ مُخصّرِ ... وساق كأنبوب السقيّ المذلّل
وتضحي فتيتُ المسكِ فوقَ فراشها ... نؤومُ الضحى لم تنتطقْ عن تفضُّلِ
وتعطو برخصِ غير شثنٍ كأنّهُ ... أساريعُ ظبي أو مساويكُ إسْحِلِ
تضيءُ الظلامَ بالعشاءِ كأنَّها ... منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتّل
إلى مثلها يرنو الحليمُ صبابةً ... إذا ما اسبكرَّتْ بين درْعٍ ومِجْوَلِ(2)
__________
(1) طبقات فحول الشعراء: / 46
(2) ديوان امرئ القيس، المعلقة- 15(1/163)
وأضحت النماذج الجمالية متشابهة، بل إن النموذج واحد، وصوره متعددة. واستقر الجمال في "الوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، وحسن الخلق،ووسامة التصوير، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر وجزالة الفروع، وجعودة الغدائر، واسترسالها على المتون كالأشطان، ونجل العيون وحور الأحداق، وبرج المقل، وكثافة نسيج الأهداب، وخلوصها من المره، وانغماسها في الكحل، وأسالة الخدود، وبهجة الصفحات كأن الماء يقطر منها، وامتزاج أحمرها بأبيضها، وتورد الوجنات بصبغة الخجل، وتصوب مائها بصفرة الوجل، وتقويس الحواجب، وتردد الأجفان بين الدلال والتفتير والغنج والتكسير، ولعس الشفاه، وصغر تقطيع الأفواه، وأشر الثنايا، وشنب اللثات، وبرد الريق، وعذوبة المذاق، وسلامة النكهة، ورخامة الصوت، ودلال الحديث، واندماج الخصور، ورقة الأوساط، وعبالة الأكفال، وامتلاء المأزر، وخدالة السوق، وشطانه الأبدان، وري العظام، واكتناز القصب، ودماثة الأكعب، وغموض المرافق وغوصها في ري المعاصم، والمأكمة الرابية والعجيزة الوثيرة".(1)
واستمرت العناية بهذه التفاصيل والجزئيات في وصف المرأة، فتناولوها من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها بالدهشة والإعجاب والافتتان. وفتن الجميع بالمرأة التي توصف بـ "الهِرْكَوْلَة اللّفاء، الممكورة الجيداء، التي يشفي السقيم كلامها، ويُبري الوصب إلمامُها، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها صبرت، الفاترة الطرف، الطفلة الكف، العميمة الردف"(2).
وتمتدّ الأوصاف فكأن الكاتب يريد استغراق ملامح الجمال كلها "الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح الوركين، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل، الرخيمة الكلام، الجماء العظام، الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام"(3).
__________
(1) المحب والمحبوب: 6
(2) أمالي القالي: 1/ 152
(3) المصدر السابق: 1/ 125(1/164)
ويتقدم الزمن إلى عهد عبد الملك بن مروان الذي يروقه أن توصف النساء له، فينصحونه بقولهم: "خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، ردماء الكعبين، ناعمة الساقين، ضخماء الركبتين، لفاء الفخدين، ضخمة الذارعين، رخصة الكفين، ناهدة الثديين، حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين، شماء العرنين، شنباء الثغر، محلولكة الشعر، غيداء العنق، مكسرة البطن"(1)وكان المطلوب في أذواقهم جميعاً النموذج الأنثوي الممتلئ، لأنه يتضمن رموزاً كثيرة منها الرفاهية والغنى، وعدم استهلاك الجسد أو الصحة في العمل، وكذلك الإثارة وإشباع الغرائز وكان هذا الوصف صورة من الجمال الذي يحلم به الشاعر ، ويجعل منه إطار الحياة التي يحبها، إذ كانت المرأة ممثلاً للحياة في نفسه، فقد كان إطارها الخارجي يمثل صورة الحياة المنشودة التي يحلم بها كل إنسان"(2)
فنجد عمر بن أبي ربيعة ينحت صورة للجمال تفتن الناظرين إليها بحسنها الباهر، ولكنه لم يستطع أن يتجاوز موروثه الجاهلي في خطوطه وألوانه:
صريع هوىً ناءَتْ بهِ شاهقيةٌ ... هضيمُ الحشا حُسّانةُ المتحسَّر
قطوفٌ ألوفٌ للحجالِ غريرةٌ ... وثيرة ما تحت اعتقادِ المؤزَّر
سبتهُ بوَحفٍ في العقاصِ مُرَجَّل ... أثيتْ كقنو النخلةِ المتكور
وخد أسيل كالوذيلةِ ناعمٍ ... متى يره راءٍ يهلّ ويُسْحَرِ
وعيْنَي مهاةٍ في الخميلة مطفلٍ ... مكحَّلةٍ تبغي مراداً لجؤذُرِ
وتبسِمُ عن غرٍّ شتيت نباته ... له أشرٌ كالأقحوان المنوَّر
وتخطو على بَرد يتّين غذاهما ... سوائلٌ من ذي جَمّةٍ مُتحيرِ
__________
(1) المستطرف في كل فن مستطرف: 744
(2) الحياة والموت في الشعر الأموي: 495(1/165)
من البيضِ مكسالُ الضحى بُختريّةٌ ... ثقالٌ متى تنهض إلى الشيء تَفْتُرِ(1)
وفي تركيز الشعراء على الجانب الجمالي الشكلي تضمين مهم يبرر تعلقهم بالمرأة، ويبين سبب هيامهم وفيض عواطفهم الانسانية الطبيعية التي تدل على توازن النفس البشرية، على نحو ما نرى في قول المجنون الذي يخص عواطفه ببعض القول، ويخصّ جمالها الحسي ببعضه، وهو -في الموطنين- يقول قولاً طيباً، ويكشف عن هذا التوازن يقول:
أيا هجرَ ليلى قد بلغتَ بيَ المدى ... وزِدتَ على مالمْ يكنْ بلغَ الهجرُ
عجبتُ لسعيِ الدهرِ بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سَكَنَ الدهرُ
فيا حُبَّها زِدني جوى كلَّ ليلةٍ ... ويا سلوة الأيامِ موعدُك الحشرُ
أَبى القلبُ إلاّ حبَّها عامريةً ... لها كنيةُ عمروٌ وليس لها عمرو
تكادُ يدي تندى إذا ما لمستُها ... وينبتُ في أطرافها الورَقُ الخُضرُ
ووجهٌ لهُ ديباجةٌ قُرَشيَّةٌ ... به تُكْشَفُ البلوى ويُسْتنزَلُ القطرُ
ويهتزُّ من تحتِ الثيابِ قوامُها ... كما اهتزّ غصنُ البانِ والفننُ النَّضْرُ(2)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 104. شاهقية: أعلى الجبل الشاهق. أي الأروى التي تمتنع في أعلى الجبل فلا يقدر على اصطيادها أحد. حسانة: شديدة الحسن. المُتحسَّر: الموضع الذي تحسر عنه ثيابها. قطوف: بطيئة السير، الحجال: حجلة: بيت يزين بالثياب والستور. غريرة: غير خبيرة. وثيرة: كبيرة الردفين. سبته:استلبت لبّه. الوحف: الكثيف الأسود أراد شعرها، أسيل: لين ناعم طويل. الوذيلة: المرآة والقطعة من الفضة، يهل: يرى الهلال كأنه رأى الهلال.
المهاة: البقرة الوحشية، الخميلة: الشجر الملتف. المراد: المكان الذي يذهب فيه ويجيء.
غر: أراد فمها أسنانها غير متلاصقة الأشر: حدة الأسنان. الجؤذر: الصغير من ولد البقر، مكسال: لا تقوم لحاجتها لأنها مخدومة . البخترية: مشية باختيال.
(2) ديوان المجنون: 130(1/166)
ولاريب في أن تعلق الشاعر بحبيبته وجمالها يكشف عن فيض إحساس عارم بالحياة واللذة والمتعة، وممارسة كل بهجة تبشر بحياة أرق وأحلى كما في تعبير ذي الرمة الآتي:
بّراقةُ الجيدِ واللباتِ واضحةٌ ... كأَنَّها ظبيةٌ أفضى بها لَبَبُ
عجزاءُ ممكورةٌ خُمصانةٌ قلقٌ ... عنها الوشاحُ وتمَّ الجسمُ والقصبُ
زينُ الثياب وإن أثوابُها استُلبَتْ ... فوق الحشية يوماً زانَها السَلَبُ
تُريكَ سَنَّة وجهٍ غيرَ مُقرفةٍ ... ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب
إذا أخو لَذّةِ الدنيا تَبَطَّنها ... والبيتُ فوقهما بالليلِ محتجِبُ(1)
وكانت الصورة في اعتقادي ذهنية متخيلة، إذ ليس من المعقول أن تكون كل النساء على صفة واحدة، وقدر واحد من الجمال، ولكنه خيال الشاعر الذي يشكله على قدر قالبه المرسوم، وها هو ذا نصيب الشاعر ويؤكد وظيفة الخيال في إسباغ صفات الحسن والجمال على من يحب، وذلك عندما "طلب منه عبد الملك بن مروان أن ينشده فأنشده:
ومضمر الكشحِ يطويه الضجيعُ به ... طيَّ الحمائلِ لا جافٍ ولا فقر
وذي روادفَ لا يلقى الإزار بها ... يلوى ولو كان سبعاً حين يأتزر
فقال له عبد الملك: من هذه يانصيب، قال: بنت عم لي نوبية لو رأيتها ما شربت من يدها الماء. فقال له: لو غير هذا قلت لضربت الذي فيه عيناك"(2).
__________
(1) ديوان ذي الرمة: 26، 30. اللب: ما استرق من الرمل، الممكورة: حسنة طيّ الخلق، خمصانة: ضامرة البطن، قلق عنها الوشاح: لضمورها. القصب: كل عظم فيه مخ، استلبت: أي خلقها حسن إن كانت مرتدية ثيابها وإن خلعتها على الفراش للنوم. السنة: الصورة، غير مقرفة: ليست بهيجة، الندب: أثار الجراح، تبطنها: علا فوقها محتجب: مستتر.
(2) الأغاني: 1/140(1/167)
فهل هي وظيفة الفن إذاً الذي يحلم دائماً بتحسين الواقع المعاش، ورفعه إلى المستوى الأفضل والأقرب إلى ذائقة الشاعر الفنان؟ فهذه التي لا يشرب الماء من يدها بسبب سوادها وقبحها جعلها خيال الشاعر أجمل الجميلات، أهي المصالحة التي يفرضها الفن؟ أم هي صورة الجمال المثالية كما كان يحلم بها الشاعر الفنان منذ اشتعلت نار الغزل العربي أول مرة؟ ويبتدع الشعراء العذريون نموذج الجمال الأسمى، هؤلاء الذين حرموا متعة الجسد، وراحوا يعوضون متعتهم الضائعة بمتعة الإبداع الفني، فوصفوا المرأة وصفاً غريزياً يتشهون فيه جسدها، ويشبعون رغباتهم المكبوتة عن طريق الشعر، ففي شعر المجنون تلوح الرغبة الجامحة في قوله:
إن الشفاء عناقُ كلّ خريدةٍ ... كالخيزرانةِ لا نَمَلُّ عناقها
بيضٌ تُشبَّهُ بالحقاقِ ثُديُّها ... من عاجةٍ حَكَتِ الثديُّ حقاقَها
زانتْ روادفها دِقاقُ خصورها ... إني أُحِبّ من الخصورِ دقاقها
إنَّ التي طرق الرّحالَ خيالُها ... ما كنتُ زائرَها ولا طَرّاقَها(1)
ويحاول جميل إرواء غريزته عن طريق جسد المرأة الذي يصوره تصويراً شديد الإثارة، عامراً بالفتنة. فالمرأة في شعره ممثلة بثينة الحبيبة تأتي على هيئة طيف عطر يطرقه ليلاً، وقد نام الصحب، ومضى الليل إلا أقله، فيتأمّلُه تأمّل المستعذب المحروم، ويثبت النظر على بعض مواطن الفتنة، وينشر ملء المكان روائح الأقحوان والخزامى وندى الطل، ويضم هذا الشذا كله إلى حبيبته، فكأنه يريد بذلك كله أن يحقق ضرباً من الإشباع العاطفي بمخاطبة الحواس شعرياً يقول:
وقامَتْ تراءى بعدما نامَ صُحبتي ... لنا وسوادُ الليلِ قد كادَ يجلحُ
بذي أُشرٍ كالأُحوانِ يَزينُهُ ... ندى الطلِّ إلاّ أَنه هوَ أملحُ
كأَنَّ خزامى عالجٍ في ثيابِها ... بعيدَ الكرى أو فأرَ مِسْكٍ تُذبّحُ
كأَنَّ الذي يبتُّزها من ثيابِها ... على رَمْلةٍ من عالجٍ مُتَبطِّحُ
__________
(1) ديوانه: 213(1/168)
إذا ضرَبتْها الريحُ في المِرط أجفلَتْ ... مآكمُها والريحُ في المرِط أَفضحُ(1)
ويعلن ابن ميادة عن رغبة جامحة تفرغ عاطفته المكبوتة، وتعبر عن حرمانه عدداً من الفضائل التي يحلم بتعويضها، فيحاول تعويضها عن طريق المرأة، (وهو المولى الذي يرى غيره يحصل على المتع واللذات بسهولة ويسر) فيحلم الشاعر بالمرأة التي سيقبض من متعها قبضاً، يأخذ منها عنوة كل ما حُرمه، على أن الشائع في أقوالهم في مثل هذه المواقف، الملامسة والمس الرقيق، يقول:
وهل أَجمعنَّ الدهرَ كفيَّ جمعةً ... بمهضومةِ الكشحينِ ذاتِ شوى عَبْلِ
محَلْلَّةٍ لي لا حراماً أَتيتُها ... من الطيّباتِ حينَ يَرْكُضْنَ بالحَجْلِ
تميلُ إذا مالَ الضجيجُ بعطفِها ... كما مالَ دِعْصٌ في ذرى عُقَدِ الرملِ(2)
فهل هو يؤكد ما ذهب إليه الدكتور عبد القادر القط عندما قال: "كان الوصف المادي لمظاهر الجمال انعكاساً لأوضاع اجتماعية".(3)
ولماذا لا يعوضون عن الواقع الذي قد لا يرضي بصورة بهيجة تشيع الفرح، وتمكن من اللذة في بعض جوانب الحياة؟.
ولكن هل ينطبق هذا القول على وصف الوليد بن يزيد؟ وعن أي واقع عبر عندما وصف المرأة الجميلة؟ إن الوصف الجمالي قليل في ديوانه إذا ما قيس بالمقطوعات التي تعبر عن العواطف الإنسانية المجردة، ومع ذلك فإن هذا القليل قد تكون له دلالة ما، يقول:
سلّ همَّ النفسِ عنها ... بعَلنداةٍ عَلاتِ
تتّقي الأرضَ وتُهْوى ... بِخفَافٍ مُدْمَجات
ذاك أمْ ما بالُ قومي ... كسَرُوا سنَّ قناتي
واستخفوا بي وصاروا ... كقرودٍ خاسئاتِ
أصبح اليومَ وليدٌ ... هائماً بالفتياتِ
__________
(1) ديوان جميل: 93. يجلح: ينكشف . عالج: موضع كثير الرمال، فأرالمسك: وعاء المسك، المرط: ثوب غير مخيط. المأكم: اللحم على رأس الورك.
(2) شعر ابن ميادة: 89، الشوى: الأطراف، العبل: الضخم، الحجل: الخلخال، الدعص: القطعة من الرمل، العقد: المتراكم من الرمل.
(3) في الشعر الإسلامي والأموي: 180(1/169)
عنده راحٌ وإبْرِ ... يقٌ وكأسٌ بالفلاةِ(1)
وأعتقد أن التعويض الذي قصده بهروبه إلى المتعة واللذة في المرأة والخمر كان بديلاً عن رفض المجتمع لسيرته القاصفة وسلوكه الغريب!!
ويعترف لاحقاً أنه أشبع نفسه من لذات الحياة، واقتنصها على رغم أعدائه، وأي لذة أفضل مما تحققه رفقة الكواعب الجميلات اللواتي أنسينه إخفاقه في كل شيء إلا من الحياة المترعة باللذائد والنعم:
ولقد قضيتُ وإنْ تَجَلَّلً لِمّتي ... شيبٌ على رغم العدى لذّاتي
من كاعباتٍ كالُّدمى ونواصِفٍ ... ومراكبٍ للصّيدِ والنَّشوات(2)
ولما كانت المرأة مجالاً رحباً للحبور والسعادة رأينا الشعراء يتمسكون بها، ويصرون على التعبير عن متعهم التي يحصلون عليها بسبب جمالها وإثارتها، فالمتوكل الليثي يجسد جمال المرأة في عدد من قصائده، وفي كل مرة يكون احتفاله بمحاسنها كأنه يراها أول مرة فتمتعه بها لا ينتهي، كما أن جمالها متوهج دائماً:
فلستُ بزائلٍ ما دمتُ حياً ... مسَراً من تذكّرِها هُياما
تُرجيها وقد شطّت نواها ... ومنَّتْكَ المُنى عاماً فعاما
خَدَلّجةٌ لها كَفَلٌ وبوصٌ ... ينوءُ بها إذا قامَتْ قِياما
مُحضّرةٌ تُرَى في الكشحِ منها ... على تثقيلِ أَسفلِها انهضاما
لها بشرٌ نقيُّ اللونِ صافٍ ... وأخلاقٌ تَشِينُ بها اللئاما
إذا ابتسمتْ تلألأ ضوءُ برقٍ ... تهَلّلَ في الدُّجنّة ثم داما
وإن مالَ الضجيعُ فدِعْصُ رملٍ ... تداعى كأَنَّ مُلْتَبداً هياما
وإن قامت تأمّلَ مَنْ رآها ... غمامةَ صَيّفٍ ولَجتْ غماما
وإن جلست فدميةُ بيتِ عيدٍ ... تصانُ فلا ترُى إلا لماما
__________
(1) ديوان الوليد بن يزيد: 25
(2) المصدر السابق: 25(1/170)
إذا تمشي تقول دبيبَ سيلٍ ... تعرجَ ساعة ثم استقاما(1)
وهي صورة حركية يسجل الشاعر فيها قيامها ومشيتها وجلوسها، ويرصد كل ما يصدر عنها، وكأنه يريد الإلمام بكل جوانب الصورة، فكانت أجمل الأوضاع لأجمل النساء.
ويستدير مرة أخرى إلى وصف الجسد الفتّان الذي يخلب العقول بحسنه ويربط بين جمالها وأثرها النفسي في من يراها، ويصوّر مواطن الفتنة فيها. يقول:
تسبي الرجالَ بذي غُروب باردٍ ... غذبٍ إذا شرعَ الضجيعُ زُلالِ
كالأُقحوانِ يَرِفُّ عن غِبِّ النّدى ... في السهلِ بين دكادِك ورمالِ
وإذا خلوتَ بها خلوتَ بحرَّةٍ ... ريَّا العظامِ دَميثةٍ مِكسال
نِعْمَ الضجيعُ إذا النجومُ تَغوَّرَتْ ... في كلِّ ليلة قَّرةٍ وشمالِ
تصبي الحليمَ بعينِ أحورَ شادنٍ ... تقرو دوافعَ روضةٍ محْلاِلِ
وبواضحِ الذِّفرى أسيلِ خدُّهُ ... صلتِ الجبينِ وفاحمٍ ميَّالِ
وبمعْصَمٍ عَبْلٍ وكفٍّ طَفْلةٍ ... وروادفٍ تحتَ النطاقِ ثِقَالِ(2)
__________
(1) ديوان المتوكل الليثي: 115. الهيام: شدة العشق، ترجيها: الرجاء الأمل. شطت نواها: بعدت وجهتها، النوى: الوجه الذي ينويه المسافر. خدلجة: ممتلئة الذراعين والساقين. لها كفل: أي عظيمة العجيزة، البوص: العجيزة، ينوء بها: يثقلها. مخصرة: دقيقة الخصر. الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع. الهضيم: اللطيفة الكشحين. تهلل: تلألأ. الدجنة: الظلمة. دام من معانيها السكون. دام الشيء سكن ومنه الماء أي الساكن. دعص رمل: قطعة الرمل مستديرة يريد عجيزتها. تداعى: تهادم وانهار تأمل نظر إليها مستبيناً لها. الدمية: الصنم. لماما: نزولا عاجلاً.
(2) ديوان المتوكل الليثي: 170، تسبي: تأسرهم. ذو غروب: فم، الغروب: الأسنان. الأقحوان: زهر طيب الرائحة يرف عن غب الندى، أي يتسع بعد نزول المطر. الدكادك، الرمال المتلبدة بالأرض غير المرتفعة.
... ريا العظام: كناية عن الامتلاء. دميثة: لينة سهلة الخلق. مكسال: لاتكاد تبرح مجلسها وهو مدح لها. تغورت النجوم: غابت. قره: باردة شديدة البرد. الشمال: الريح الباردة تهب ناحية القطب. تصبي الحليم: تغويه صبا الرجل:؛ إذا مال إلى الجهل والفتوة. أحور: أي ظبي في عينيه شدة بياض مع شدة سواد. شادن: غزال قوي استغنى عن أمه. تقرو: تتبع أي تخرج من أرض إلى أرض. الدوافع: المياه التي تجري فيها محلال: يحل بها الناس كثيراً.
... الزفري: الريح الذكية. وأصله من القفا الموضع الذي خلف الأذن. أسيل خده: أي لين طويل. الصلت: الواضح الجبين. معصم عبل: ضخم مملوء. كف طفلة: ناعمة. النطاق: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها بها.(1/171)
ويظهر تأنيه وعنايته في تناولها، ومس كل جزء منها. ولكنه كان في معظم أوصافه يكرر نموذج الجمال السائد، ويعود للقول فيها، كما في قوله:
فهاجَ الهوى والشوقَ لي ذكرُ حُرَّةٍ ... من المُرْجَحنّاتِ الثقَالِ حَصانِ
شموسٌ وِشاحاها إذا ابْتُز ثوبُها ... على متنِ خُمصْانّيةِ سلسانِ
رقود الضحى ريّا العظامِ كأنّها ... مهاةُ كُنَاسٍ من نِعاجِ قطانِ
شديدةُ إشراقِ التراقي أسيلةٌ ... عليها رقيبا مَربأٍ حَذِرَانِ
سبَتْني بجِيْدٍ لم يُعَطَّلْ وَلبَّةٍ ... عليها ردافا لؤلؤٍ وَجُمانِ
وأسحمَ مَجاجِ الدِّهانِ كأنَّهُ ... بأيدي النساءِ الماشطات مثاني(1)
ولم يستطع الشعراء التقليديون الإفلات من نموذج الوصف الجمالي السائد، وكان الأخطل أكثرهم تقليداً وعبودية للقديم، ويخلو وصفه من فسحة الخيال، فيمزج إعجابه بشكلها الخارجي مع ملامحها النفسية الأخلاقية. يقول:
وقد عهدتُ بها بِيْضاً منعَّمةً ... لا يرتدينَ على عَيبٍ ولا وَصَبِ
يمشينَ مَشْي الهجانِ الأُدْم يُوعِثُها ... أعرافُ دكداكةٍ مُنْهالةِ الكُثُبِ
__________
(1) المصدر السابق: 189. المرجحنات: المائلات المهتزات الثقال العجاز.
حصان: عفيفة. شموس: أبيه نافرة عفيفة. الوشاح: نسيج من أديم عريض يرصّع بالجواهر تشده المرأة بين عاتقيها. ابتز ثوبها: جذب، الابتزاز: الاستلاب. خمصانية: ضامرة البطن، سلسان: سهلان لينان. ريا العظام: مملوءة معتدلة. المهاة: البقرة الوحشية. الكناس: موضع الظبي أو البقر تحت = الشجر يكتن به ويستتر النعاج، بقر الوحش. قطان أرض في ديار بني تغلب. التراقي: ج. ترقوة العظم بين ثغرة النحر والعاتق.
... مربأ: المكان المشرف العالي، يعلوه المرء للمراقبة. جيد لم يعطل. أي فيه قلائد. اللبة: المنحر موضع القلاة.
... الردفان:؛ أي واحدة تتبع الأخرى. أسحم: شعر أسود. مجاج الدهان: طري لماع كناية عن الترف. المثاني: أطراف الزمام يشبه بها الشعرأي خصله طويلة كأنها زمام.(1/172)
من كلِّ بيضاءَ مِكسالٍ برهرهةٍ ... زانتْ معاطِلَها بالدرِّ والذهبِ
حوراءُ عجزاءُ لم تُقْذَفْ بفاحشةٍ ... هيفاءُ رعبوبةٌ ممكورةٌ القَصَبِ
يسقي الضجيج لديها بعد رَقدتِها ... منها ارتشافُ رُضابِ الغَرْبِ ذي الحَبَبِ(1)
ويتكرر الوصف الحسي الذي ينم على خيال غريزي في دواوين بعض الشعراء، وكل يعبر عن خيبة ما في حياته ترتد في خياله شهوة لابد أن تروى. فهذا العرجي، يؤكد شدة استمتاعه بمجموعة من النساء المحصنات، ويصرح في وصفهن بأنهن من المحصنات الحرائر. وأعتقد أنها ردة فعل نفسية لما كان يعاني منه في مجتمعه، فلم لا ينتقم من هذا المجتمع الذي أخذه بالشدة مرة وبالإهمال مرة أخرى؟ لماذا لا ينتقم منه بالتمتع بنسائه المصونات المحصنات؟ يقول في ذلك.
بِحُوْرٍ كأمثالِ الدّمى قُطُفِ الخطا ... لهونَ وهُنَّ المحصناتُ الخرائدُ
أَمِنَّ العيونَ الرامقاتِ ولم يكن ... لهُنَّ به عينٌ سوى الصبحِ ذائد
فبتُ صريعاً بينهَّن كأنّني ... أخو سَقَمٍ تحنو عليه العوائِد
أَطفنَ بمعسولِ الدُّعابةِ سادرِ ... كخوطِ الأَبالم تَهْصَرِ العودَ عاضدُ
كما طاف أبكارٌ هجانٌ بمصعبٍ ... طرْبنَ لأعلى هدرِهِ وهو سامدُ
وسَّدْنَني جُمَّ المرافقِ زانَها ... جبائرها غُصَّتْ بهنَّ المعاضِدُ
__________
(1) ديوان الأخطل: 242. العيب: الفجور. الوصب: السقم. يوعثها: يغرقها في الوعث وهو الرمل فلا تكاد تتخلص منه لثقلها. الدكداكة: الكثيرة المتراكمة السلهة. المنهالة، التي لا تتماسك. الهجان: الإبل الكريمة: الأدم: البيض البرهرهة: البراقة الصافية اللون. معاطلها: مواقع خليها، الرعبوبة: الممتلئة البدن. الممكورة المعتدلة الخلق.
... العجزاء: الكبيرة العجيزة، الهيفاء: الضامرة البطن. القصب: العظام، الحبب، الحباب، الغرب: منقع ريق السن.(1/173)
يفدِّيَنَني طوراً ويضممْن تارةٍ ... كما ضمَّ مولوداً إلى النحّرِ والدُ(1)
ويذكر مرة أخرى أنه تمتع بثغورهن جميعاً، وقضى معهن أمتع أوقاته، ولم ينس أن ينعت جمالهن الحسي المألوف، فأي تمثل للخيبة أكثر من هذا الذي هو فيه؟ يقول:
قالت كلابةُ: مَنْ هذا؟ فقلتُ لها: ... أنا الذي أنتِ مِنْ أعدائه زعموا
قالَتْ: رضيتُ ولكنْ جئتَ في قمرٍ ... هلا تلّبثْتَ حتى تَدْخُلَ الظُّلَمُ
خلَّتْ سبيلي كما خلّيتُ ذا عُذرٍ ... إذا رأته إناثُ الخيل تنتحمُ
حتى أَويتُ إلى بيضٍ ترائُبها ... منْ زَينها الحلْيُ والحَنّاءُ والكَتَمُ
فبتُ أُسقى بأكواسٍ أُعَلُّ بها ... أصناف شتّى فطابَ الطعمُ والنَّسَمُ
تكادُ مارُمْنَ نهضاً للقيام معاً ... أعجازُهُنّ من الأقطان تَنْقَصِمُ
يخونُها فوقَها مهضومةٌ صُوَيتْ ... كما تخونُ عكومَ الُمُثعِلِ الخضِمُ(2)
__________
(1) ديوان العرجي: 118. معسول الدعابة: حلو الملاعبة والممازحة. السادر: الذي لا يبالي ما صنع. الخوط: الغصن الناعم. الأبا: مقصور الأباء وهو القصب. هصر العود: أماله إليه. العاضد: الذي يقطع الشجر. الأبكار: ج بكرة الناقة الفتية. الهجان من الإبل: البيض. المصعب: الفحل الهدر: يريد الصوت. السامد من الإبل: الجاد في سيره. المرافق: ج مرفق المفصل. الجبائر: السوار والدملج، المعاضد: يطلق على السوار والمدملج.
وله مثل هذا الوصف في ص 121-157-171-193-188. من الديوان.
(2) ديوان العرجي: 4. كلابة: مولاة لبني ثقيف كان بلغها تشبيب العرجي بالنساء، وكانت تحرض العرجي على القول فيها بأسلوبها الذكي عندما تعلن عن غضبها وهي تقول: لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش لئن لقيته لأسودّن وجهه فبلغه ذلك منها فقال هذه الأبيات.
العذر: ج عذار وهو السير الذي يعلق باللجام ويسيل على خد الفرس. تنتحم: تصدر صوتاً من جوفها. الترائب: موضع القلادة على الصدر. الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به. أكواس: قد تكون محرفة عن أكواب وأعل: أشرب مرة بعد مرة. الأقطان: أسفل الظهر أراد الخصور. القصم: كسر الشيء . فوقها: فوق أعجازها. المهضومة: الضامرة. انطواؤها: ضمورها. عكوم: الحمل الثقيل. المثقل:(1/174)
وكان يرى أن جمالها لا يقاوم، فهو يسحر عقول الرجال، ويأخذ بقلوبهم لما يفيض عنها من عذوبة وأنوثة وإثارة، وهو في ذلك كله ينعت محاسنها الجسدية دون أن يفارق المعايير السائدة قيد أنملة، يقول:
ترود فيه قطوف مشيها أصلاً ... كما يرود قطوف المشي محسور
غرثى الوشاح وراب ما أحاط بها ... منها الازار وما في الحجل ممكور
بهنانة خلقت أنثى مؤنثة ... إذ في الكثير من النسوان تذكير
نعم اللحاف بليل بادر شبم ... يأوي إلى كنه بالليل مقرور
في طيبِ رّيا وريقٍ حينَ تطرقُها ... وقد دنا من نجومُ الليلِ تغويرُ(1)
ولم تكن هذه الأوصاف أو هذه المشاهد التي تحدث الشعراء فيها عن فوزهم بالمتعة مع من يحبون لتثير غضاضة في المجتمع الحجازي، إلا في حالات يخرج فيها الشاعر عن تقاليد الصون والأعراف، فيؤخذ بالشدة كما حدث للعرجي والأحوص.
لقد صقلت الحضارة الناس، وهذبت أذواقهم، ورفعت من مستواهم الثقافي، فنظروا إلى أقوال الشعراء هذه- مع وجوب الإشارة إلى قلتها- على أنها تجارب خيالية قصد بها الشاعر إلى امتاع مستمعيه، وإثارة إعجابهم وشد أسماعهم في أغلب الأحيان.
__________
(1) ديوان العرجي: 105 القطوف: مقاربة الخطو. المحسور: الذي بلغ منه الجهد والإعياء.
الغرثى: الخمصانة الدقيقة. الرابي: المرتفع أي إزارها مرتفع لضخامة عجيزتها. الممكور: الممتلئ وأراد ما يحيط به الحجل من ساقها. الشبم: البارد. المقرور: الذي أصابه البرد. الريا: الريح الطيبة. الطروق: الإتيان أواخر الليل في وقت لا تتزين فيه النساء.(1/175)
والحق أن تجارب المجاهرة بالرذيلة، والغوص في ذكر التفاصيل الجنسية تكاد تغيب عن معظم الشعر الغزلي في العصر الأموي، لأنه كان وسيلة تعويض وألهية يشغل بها الشاعر نفسه وفراغه، وقد تكون إسقاطاً لوضعه النفسي والاجتماعي لكن من غير انحدار أخلاقي نحو المحرمات على حد تعبير الدكتور يوسف خليف عندما قال: "فالمسألة تدور حول الإعجاب البريء، واللذة الحسية المجردة من نوازع الجنس وغرائز النوع، وهو إعجاب يدفع صاحبه إلى محاولة دائبة للظفر بالمرأة الجميلة"(1)
وكان هؤلاء الشعراء يصدون في سلوكهم عن تأثير عاملي الدين والدنيا في نفوسهم كما ذكرت في غير هذا الموضع، بالإضافة إلى تأثرهم بما يسود مجتمعهم من سياسات وأساليب معيشة انعكست في تصوراتهم وأفكارهم فكان الحب عندهم تعويضاً والمرأة ملاذاً. لقد رأوا في حبها النعيم، وفي جمال جسدها اللذة المفقودة، وخارج مشاهد التشهّي والفوز باللذة التي مضت، أكثر الشعراء من التركيز على مظاهر الجمال في القد واللون والوجه وما يحتويه من خدود وعيون وشفاه إلى كل التفاصيل الأخرى.
ورأوها بعين المحب، فخلعوا عليها أحسن الصفات التي سنلم بها فيما يلي:
عبروا عن ترف المرأة التي يصفونها، وأشاروا إلى ما تنعم به من ألوان التحضر والرقي بالتغني ببشرتها الرقيقة الناعمة التي قد تتجرح وتدمى من كل ما يلامسها مهما كان حجمه ونعومته. وتراوحت صورة البشرة الناعمة في قالب واحد يكاد لا يتغير عند عدد من الشعراء الأمويين، فهي عند عمر بن أبي ربيعة:
منعمة لودبَّ ذَرّ بجسمها ... لكان دبيب الذر في الجسم يكلم(2)
ويبالغ في الصورة ذاتها مرة أخرى فيجعل صغار النمل تجرح جلدها من فوق ثوبها:
__________
(1) في الشعر الأموي، دراسة في البيئات 149.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 216. الذر: صغار النمل. دبيبه: سيره.(1/176)
لو دبّ ذَرٌ رويداً فوق قرقرها ... لأثر الذر فوق الثوب في البشر(1)
وأعجب عمر بهذه الصورة على ما يبدو فلم يستطع الخروج من إطارها، فألمّ بها مرة ثالثة:
لو دّبّ ذرٌّ فوق ضاحي جلدِها ... لأبان من أثارهن حدورُ(2)
كما صوروها بيضاء اللون تشوبها صفرة لأنها لا تخرج من البيت للعمل، فهي مترفة مخدومة منعمة كما يحلو لعمر أن يراها:
مبتَّلةٌ صفراءُ مهضومةُ الحشا ... غذاها سرورٌ دائمٌ ونعيمُ(3)
ويكرر هذا المعنى ويشير إلى بعض سلوكها وأخلاقها:
بيضاءَ آنسةٍ للخِدر آلفةٍ ... ولم تكنْ تألفُ الخوخاتِ والسدرا(4)
ولم يكن عمر وحده الذي أعجب بلون النساء هذا، بل كذلك كان الأحوص الذي يقول:
وعهدي بها صفراءَ رُوداً كأنما ... نضا عرقُ منها على اللونِ عَسْجَدَا(5)
ويشير هدبة بن الخشرم إلى لون محبوبته فيقول:
من البيضِ لا يسلي الهمومَ طلابُها ... فهل للصِّبا إذ جاوزَ الهمَّ موقفُ(6)
ويشير ابن ميادة إلى لونها الأصفر المحبب وبعض محاسنها الأخرى فيقول:
من الصفرِ لا ورهاءِ سمجٍ دلالُها ... وليس من السّودِ القصارِ الحوائلِ(7)
ويمتزج البياض بالصفرة في بشرة المرأة التي يخصها العرجي بهذا الوصف:
من كلِّ صفراءَ مثلِ الريم خرِعبَةٍ ... في ناصعِ اللونِ تحتِ الرّيط كاللَّبَنِ(8)
__________
(1) ديوان عمر : 117. القرقر: ثياب المرأة. البشر: الجلد.
(2) المصدر السابق: 125 ضاحي جلدها: جلدها الظاهر للشمس. أو جلدها المضيء كالضحى . أبان: لازم وظهر. الحدور: الورم.
(3) المصدر السابق: 221 المبتلة: التامة الخلق التي انفرد كل جزء منها بحنسه.
(4) المصدر السابق: 329. الخوخات: مخترق بين دارين. السدد: باب الدار.
(5) ديوان الأحوص: 98. الرود: الشابة الرخصة. نضا: خلع وأخرج.
(6) ديوان هدبة: 111
(7) شعر ابن ميادة: 68
(8) ديوان العرجي: 340(1/177)
ويستلمح ذو الرمة صاحبة اللون الأبيض المشرق الذي يمتزج مع مجموعة ألوان أخرى في وجهها كالسواد في عينيها، والسمرة في شفتيها، فيقول فيها:
من المشرقاتِ البيضِ في غير مرهةٍ ... ذواتِ الشفاهِ الحُوِّ والأعينِ الكُحْلِ(1)
وأركان الجمال في أشعارهم متعددة وواضحة تعدد أجزاء الجسد، فقد لفت رأس المرأة بما فيه من أعضاء الحواس المختلفة اهتمامهم وقلوبهم، فتوقفوا طويلاً يتأملونه، ووزعوا اهتماماتهم بين العيون والفم والخدود والضفائر.
وسحرتهم العيون فأطالوا الوقوف في محرابها يؤدون لها طقوس السحر والتقديس أو ما يكاد يكون كذلك في هذا المجتمع الذي تكون عيون النساء فيه اختصاراً للوجود كله، وجود المرأة في عينيها، إذ بهما تطل على العالم، وفيهما بريق الاتصال مع من حولها، وفيهما ومض الحب والدلال، وفيهما اختصار لجسدها المخبأ وراء حجاب كثيف. إنهما بوح الجسد والروح، بل هما السحر ذاته، كما في قول ذي الرمة:
وعين كعينِ الرئم فيها مَلاحُةٌ ... هيَ السحرُ أو أَدهى التباساً وأعلقُ(2)
بل لهما أثر الخمرة في العقول:
وعينانِ قال اللهُ كونا فكانتا ... فعولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ(3)
وأكثر من تشبيه عيونها بعيون البقر الوحشي في اتساعها وشدة سوادها:
وأعين العينِ بأعلى خوّداً ... ألفين ضالاً ناعماً وغرقدا(4)
ويكرر المزج بين جمال عيونها وجمال طبيعة المكان من حوله، ويخص البقر الوحشي بالمقارنة في قوله:
كأنَّ عيونَهنَّ عيونُ عِيْنٍ ... ترببها بأسنُمةَ الجميمُ(5)
ويخص عيون خرقاء بهذه الصفات الرائعة فيقول:
__________
(1) ديوان ذي الرمة: 142، المره:كراهة بياض العين. الحو: الشفاه تضرب إلى السواد.
(2) ديوان ذي الرمة: 465
(3) المصدر السابق: 578
(4) المصدر السابق: 293 العين : بقر الوحش
(5) المصدر السابق: 673أسنمة: اسم موضع. الجميم: نبات.(1/178)
كأَنّها أمُ ساجي الطرفِ أخدرَها ... مستودعٌ خَمَرَ الوعساءِ مرخوم(1)
وتتمتع حبيبة العرجي بَحَورٍ محبب في عينيها، وهذه الصفات من أهم الصفات الحسن والجمال في العيون التي يشتد لون سوادها مع شدة لون بياضها، فيختلط بريق اللونين ويزيد من السحر والتأثير:
وفيهنَّ حوراءُ لها صورةٌ ... كالبدرِ قد قارن بالأسْعُدِ(2)
وبهما أصابت حبة فؤاده لا بقوس ولا سهم ولا نبل، فيشهد لعينيها الفتنة والدهاء في قوله:
رُضيّا رَمَتْ قلبي فلم تشوِ إذْ رَمَتْ ... ولم ترمِ مِن قلبي قلوبَ الزوائل
بعينَي مهاةٍ لا بقوسٍ وأَسهمٍ ... ولا نَبْلُ أَدهى من عيونِ العقائلِ(3)
وكانت عيناها هدية من إحدى الظباء الفتية النضرة التي لا تقاوم على ما يرى العرجي:
وكأنَ أحورَ من ظباءِ تبالةٍ ... يقرو الخمائلَ حينَ تمَّ شبابُهُ
أهدى لعمرةَ مُقلتيه إذْ رمَتْ ... نحوي بما لا يُستطاعُ ثوابُهُ(4)
ولم يستطع الخروج من دائرة هذا التشبيه، وبقي يلح عليه كلما ذكر جمال عينيها:
نظرتْ بمُقلةِ مغزلٍ علقَتْ ... فنَناً تنعَّمَ نبتُهُ نَضْرُ(5)
ويتحدث الأخطل عن العين النجلاء التي يقتل حسنها، يقول:
ينظرنَ من خللِ الستورِ بأَعيُنِ ... نجلٍ يُمِتنَ العاشقينَ حِسانِ(6)
__________
(1) المصدر السابق: 386. أخدرها: حبسها عن صواحبها. ساج: ساكن الطرف أي ولدها شغلها عن باقي الوحش. استودع: توارى. الخمر: كل شيء داراك وسترك. الوعساء: أرض لينة. مرخوم: الغزال.
(2) ديوان العرجي: 12
(3) ديوان العرجي: 22. لم تشو: لم تخطئ. الزوائل: الصيد. العقائل: ج عقيلة المرأة المخدرة الكريمة المولد.
(4) ديوان العرجي: 28 تبالة: بلدة باليمن. يقرو: يرعى. رماه به: ألقاه عليه. الثواب: الجزاء.
(5) المصدر السابق: 43. ويتكرر ذلك في 98-101-171-157
(6) نقائض جرير والأخطل: 220(1/179)
واعتنى الشعراء كثيراً بجزئيات الفم وما يحتويه من شفاه ولثات وأسنان وريق وعذوبة وطيب نكهة، وكان كل ذلك معرض حديث وصور في ديوان عمر بن أبي ربيعة، يجمع فيه صوراً لأفواه كل الجميلات اللواتي عرفهن، وأثنى على أفواههن بمجموعة هذه الصفات التي سنستعرضها، يقول في ثغر هذه الفاتنة:
تَنْكَلُّ عن واضحِ الأنيابِ متَّسقٍ ... عذبِ المقبَّلِ مصقولٍ لَهُ أشَرُ
كالمسكِ شيبَ بذوبِ النحل يخلطُهُ ... ثلجٌ بصهباءَ ممّا عتقتْ جَدَرُ(1)
وتسيطر نكهة الخمر وأثرها على صفته لريقتها التي يسقي منها أطيب الشراب:
فبتُ أُسقى عتيقَ الخمرِ خالطَهُ ... شهد مشار ومسك خالص ذفِر
وعنبر الهند والكافور خالطه ... قرَنْفُلُ فوتَ رقراقٍ له أشرُ
فبتُ أَلثمُها طوراً ويمنُعني ... إذا تمايلَ عنه البرد والخَصَرُ(2)
ويسترسل في صفة ريقها العذب، ويعدد أنواع الطيب الممزوجة التي تشبه نكهتها:
تغترُّ عن ذي غروبٍ طَعْمُهُ عَسَلُ ... مفَلّجِ النّبتِ رفّافٍ له أَشَرُ
كأن فاها إذا ما جئت طارقَها ... خمرُ ببيسانَ أو ما عَتَقَتْ جدَرُ
شُجَّتْ بماءِ سحاب زَلَّ عن رَصَفٍ ... من ماءِ أزهرَ لم يُخلطْ به كدرُ
والعنبرُ الأكلفُ المسحوقُ خالَطَه ... والزنجبيل وَرَنْدٌ هاجَهُ السَّحَرُ(3)
ويبقى عمر تحت تأثير هذه الصورة، فيكرر أركانها المكونة من العنبر والقرنفل والزنجبيل والعسل والخمر المعتقة في صفة ريقها، وطيب نكهتها، وتمتعه بكل ذلك:
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 112 تنكل: تضحك، شيب، خلط، ذواب النحل
(2) المصدر السابق: 115. عتيق الخمر: رضابها، مشار: أخذ من كوارة النحل. الخصر: شدة البرد.
(3) المصدر السابق: 123. تفتر: تضحك. ذي غروب: فمها محدد الأسنان. مفلج النبت: أراد أسنانها متباعدة طارقها: زائر الليل. بيسان وجدر: بلدان يصنع فيهما الخمر. شجت مزجت. زل: أنزل من أعلى. رصف: الحجارة في مسيل ماء. الرند: شجر طيب الريح.(1/180)
تشفي الضجيعَ بباردٍ ذي رونقٍ ... لو كانَ في غَلَسِ الظلامِ أنارا
فسقَتْكَ بشرةُ عنبراً وقرنْفُلاً ... والزنجبيلَ وخِلطَ ذاكَ عقارا
والذوْبَ من عَسَلِ الشّراةِ كأنّما ... غصَبَ الأميرُ تبيعَهُ المشتارا
وكأن نُطْفةَ باردٍ وطبرزداً ... ومدامة قد عتقت أعصارا
تجري على أنياب بشرة كلما ... طرقتْ ولا تدري بذاك غِرارا
يُروى به الظمآنُ حين يشوفُهُ ... لذّ المقبّل بارداً مخمارا(1)
ويزعم - كما زعم أسلافه الجاهليون- أن ريقتها طيبة المذاق، جميلة النشر بعد النوم حين تتغير طعوم الأفواه وروائحها!! بل إن فاها جرت عليه سلافة الخمر وذوب الشهد والزنجبيل وقارورة المسك. يقول:
وكأَنَّ فاها بعدما رقَدتْ ... تجرى عليه سُلافة الخمر
شرقاً بذَوبِ الشهد يخلطُهُ ... بالزنجبيلِ وفارةِ التجْرِ(2)
ويكرر هذا الزعم، ويجعل ريقتها هذه المرة مسكاً وماء بارداً شديد البرودة، يقول:
منْ يُسْق بعدَ المنامِ رِيْقَتَها ... يسْقَ بمسكٍ وباردٍ خَصرِ(3)
ويسبيه جمال الأسنان وتفليجها، فيلفتنا إلى نظافتها وثرائها وعنايتها بهذه الأسنان، فهي تجلوها بمسواكها فتزيدها بياضاً فكأنها الأقحوان غبّ مطر جلاه وزيّنه وحسّنه: يقول
تجلو بمسواكِها غُرّاً مفلَّجةً ... كأنها أقحوانٌ شافهُ مطرُ(4)
__________
(1) ديوان عمر : 128المشتار: الذي يجني النحل. طبرزد: السكر الأبيض وأصلها فارسية.
(2) المصدر السابق: 154. المدامة الخمر. عتقت أعصاراً: بقيت في دمنها زماناً.
(3) المصدر السابق: 145
(4) المصدر السابق: 119. ... هَزِمٌ أجشُّ من السّماكِ مطيرُ
يتكرر وصف الفم في أرجاء واسعة من شعر عمر:
في ص 125
0@تفتر عن مثل الأقاحي شافها
149- فأذاقتني لذيذاً خِلْتُه ... ذوبَ نحلٍ شيبَ بالماء الخصر
ومدام عُتِّقتْ في نعمةِ ... مرَّةً ألثمها غير حصر
157- مقبلها عذب كأن مذاقه خمر.....
والعنبر المسحوق خالطه ... وقرنْفُلٌ يأتي به النشر
159-لو سقي الأموات ريقتها ... بعد كأس الموت لا نتشروا
143- تفتّر عن باردٍ مفلج واضح له أشر...
160- بادنْ تجلو مفلجةً ... عذبة غراً له أشرِ
162-وشتيت النبت متسقاً ... طيباً أنيابه خصرا
168- وثغر واضح رتل: ... ترى في حَدِّة أشرا
171-تفتر عن مثل أقا ... حي الرمل فيها أشرُ
371-وإذا هي تضحك عن نيِّرٍٍ ... لذيذ المقبل عذب خصر
... وورد أيضاً في ص: 203-206-242-249-269-306-321-330-334-337-348-357-367-374-385-392-424-441-744-480.(1/181)
ومن أجزاء الوجه التي توقفوا عندها على عجل كانت الأنوف الشماء في وجوه حسناواتهم. فالنابغة الشيباني يحدد شكل الأنف الجميل الذي أعجب به فيقول:
مرض العيونِ ولم يعلَقْ بها مَرَضٌ ... شمُّ الأنوفِ فلا غِلْظٌ ولا فَطَسُ(1)
فالأنوف المرتفعة الدقيقة التي ليست غليظة هي التي أعجبت الشعراء. ويعود النابغة الشيباني إلى وصف الأنف مع أجزاء أخرى من جسدها الجميل، فيقول:
من الهيْف قد رقَّت جلوداً تصونُها ... وأوجُهُها قد دَقَ منها المناخِرُ(2)
ويعجب عمر بن أبي ربيعة بتقويس أنفها، ونعومته، وحسن ارتفاعه، فيقول:
وطريٍّ حسنٍ تقويسُهُ ... زانَها ذاكَ وعرْنينٌ أشمْ(3)
ويتأمل ذو الرمة أنف صاحبته، فيذكر جماله، ويشير إلى أنها دهنته بالعطور عندما ثنت النقاب على طرفه، فيقول:
تثني النقابَ على عرنينِ أَرنبةٍ ... شماءَ مارنُها بالمسكِ مَرثومُ(4)
ويكرر ذو الرمة أنها كانت تعطر أنفها، وتطليه بأنواع مختلفة من الطيوب:
سافَتْ بطيِّبةِ العرنينِ مارِنُها ... بالمسك والعنبرِ الهنديِّ مُختضبُ(5)
وكان عمرو بن أحمر الباهلي قد أشار إلى حاجبيها وذكر امتدادهما، وجمال تقوسهما كأنهما رسما بالقلم رسما:
وحاجب كالنونِ فيه بسطةٌ ... أجادَهُ الكاتبُ خطّاً بالقلمْ(6)
ونقل الشعراء نظرهم في وجوه حبيباتهم فشبهوها بالشمس والقمر في بهائها وحسنها، بل إن بياضها وإشراق وجهها ينزّل المطر ويخطف بصر كل من ينظر إليها، كما في قول عمر بن أبي ربيعة:
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني: 79
(2) المصدر السابق: 6
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة: /206/ العرنين قصبة الأنف. أشم: مرتفع.
(4) ديوان ذي الرمة: 395. تثني: تعطف. العرنين الأنف كله. الأرنبة: مقدم الأنف.
شماء: طويلة. المارن: مالان من الأنف. الشحم حول الأنف كله في استواء مرثوم: مطلي.
(5) ديوان ذي الرمة: 31. سافت: شمت. العرنين: الأنف. المارن: مالان من الأنف.
(6) ديوان عمرو بن أحمر: 141(1/182)
وجَلَتْ عشيَّةَ بطنِ مكّةَ إذْ بَدَتْ ... وجهاً يُضيءُ بياضهُ الأستارا
كالشمس تُعجِبُ من رأى ويَزينُها ... حسبٌ أَغرُّ إذا تُريدُ فَخارا
سُقيتْ بوجِهكِ كلُّ أرضٍ جُبْتُها ... وبمثل وجهك أستقي الأمطارا
لو يبصر الثقف البصير جبينها ... وصفاءَ خَدِّيها العتيق لحارا
وأرى جمالَكِ فوق كلِّ جميلةٍ ... وجمالَ وجهكِ يَخْطَفُ الأبصارا(1)
وتأمل وجه واحدة أخرى فرآها تشبه البدر، وتبهر من ينظر إليها:
وجَلَتْ أسيلاً يومَ ذي خُشُبٍ ... ريان مثلَ فجاءةِ البدرِ(2)
وثالثة تشبه الشمس أيضاً في سطوعها وبهائها:
وكأنَّ ضوءَ الشمسِ تحتَ قناعِها ... أو مُزنةً أدنى بها القَطْرُ(3)
ولا يكاد ينفك عن إحدى هاتين الصورتين- صورة الشمس وصورة القمر- في وصفه لجمال وجهها، فهو يبدي فيهما ويعيد لكأن الطاقة الفنية لكليتهما لا تعرف النفاد.
يقول في رابعة:
لأسيلةِ الخدّين واضحةٍ ... يعْشى بسُنّةِ وجهها البدرُ
وعندما كشفت عن وجهها تريد أن ينظر إليها، ويتأمل حسنها لم يجد أجمل من تشبيهه الآنف الذكر:
فأرتني مُسْفرِاً حسناً ... خلْتُهُ إذا أسفَرتْ قمرا(4)
وللشعر أيضاً أسطورته الخرافية في السحر والإثارة، وإلاّ فما معنى هذا الحجاب الكثيف الذي يغطي الشعر ويحجبه عن كل العيون؟ وما هذه الحرمة التي تعظم ظهور الشعر وانكشافه، وتذهل الرجل عن كل مصائبه ليداري عن صاحبته انكشاف شعرها، كما حدث مع الخليفة عثمان بن عفان على ما يروي صاحب الأغاني "فعندما دخلوا دار عثمان لقتله نشرت نائلة شعرها، فقال لها عثمان خذي خمارك، فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شَعْرك"(5)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 127 يريد أن وجهها أبيض وأنها ميمونة الطالع. جبتها: قطعتها. الثقف: الفطن. وحار: دهش.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 154. أسيلاً : الخد الناعم الطويل
المصدر السابق :158.
(3) المصدر السابق: 410
(4) المصدر السابق: 162
(5) الأغاني: 15/ 71(1/183)
واستخدم الشعر أيضاً في تثبيت حادثة كان لها أثرها العميق في الأحداث السياسية في العصر الأموي وذلك عندما "ادعى معاوية قرابة زياد بن أبيه، بعد أن كان المغيرة بن شعبة أشار عليه بذلك. وكان زياد عزم على قبول الدعوى، وأخذ برأي ابن شعبة. أرسلت جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية فأتاها، فأذنت له، وكشفت عن شَعرها بين يديه وقالت أنت أخي"(1)
وهام الشعراء بالشعر الأسود الطويل، وتاهت عيونهم بانسداله وظلاله على الجسد الجميل، وأثار عندهم أعذب الأحلام، وعثروا في طياته على بعض ما يريدون من ملاذهم المفقود.
فيتحدث العجاج عن هذه المرأة التي سبته بشعرها الفاحم المسرح الجميل بقوله:
غراء تسبي نظرَ النّظورِ ... بفاحم يُعْكَفُ أو منشور
كالكرمِ إذ نادى من الكافور ... في خُششاوَى حُرَّةِ التحرير(2)
ويؤكد أن شعرها الجميل يسبي الرجال بطوله وكثافته وتسريحته:
وإذْ سُليمى تستبي الأغرارا ... قامتْ تُريك وارداً مُنْصارا
وحْفاً وفَعْماً يملأُ السّوارا ... ومرجَحِنَّا كالنّقا مرمارا(3)
ويبرز أيضاً عناية صاحبته بشعرها، وقيامها على دهنه وغسله باستمرار:
بفاحمِ دوي حتى اعْلَنْكسا ... وبشرٍ مع البياضِ أَلعسا(4)
ويشير القطامي إلى عناية صاحبته بشعرها الأسود ودهنه، ويعد ذلك دليل ترف وثراء ونعمة:
__________
(1) مروج الذهب: 3/ 7
(2) ديوان العجاج: 338. الفاحم: الشعر الأسود. يعكف: يعطف. المنشور: المسرح. الكافور: وعاء الطلع، الخششاء: العظم خلف الأذن ويقال الخشاء أيضاً.
(3) ديوان العجاج: 88 الغر: الذي لم يجرب الأشياء، وارداً: شعراً. منصاراً: أي مائلاً. الوحف: الشعر الكثير الأصل مفعماً: يريد ساعداً يملأ السوار يعفى به. الفخم: الضخم مرجنا: كفلا ثقيلا. النقا: موضع الرمل. المرمار: الذي يتدجرج ويمور.
(4) المصدر السابق: 189 دوي: عولج بالدهن والغسل.(1/184)
وترى النعيمَ على مفارقِ فاحمٍ ... رجْلٍ تُعَلُّ أصولُهُ الأدهانا(1)
ويثني النابغة الشيباني على شعرها المرسل والأسود الطويل في قوله:
لها وجهٌ كصحنِ البدرِ فخمٌ ... ومنسجُرٌ على المتنين سود(2)
ويلتفت العديل بن الفرخ إلى شعرها الفاحم الجعد الذي يعجبه، فيقول:
ألا ياسلمى ذات الدماليجِ والعقدِ ... وذاتِ الثنايا الغُرِّ والفاحمِ الجعْدِ(3)
ويغرم العرجي بشعرها الكثيف الأسود الذي يشبه ركام العنب في قوله:
تريكَ وَحْفاً فوق جيدٍ لها ... مثل ركامِ العِنَب المُدمَجِ(4)
وهو طويل مسترسلُ يغطي عنقها أيضاً:
تدني على اللِّيتين أسحمَ وارداً ... رِجلاً يَشّفُ لناظرٍ جلبابُه(5)
وإذا ما أسدلته على كتفيها فكأنه الأفاعي السوداء:
تَعلُّ قروناً في الهواءِ كأنّها ... إذا سُدلتْ فوق المتونِ الأَساودُ(6)
ويظهر ثراء صاحبة عمرو تفننها في زينة شعرها، تسريحاته المختلفة بين مضفر ومرسل وغيرهما:
ولها أثيث كالكروم مُذيّلٌ ... حَسَنُ الغدائرِ حالِكٌ مضفورُ(7)
ويؤكد أن شعرها الجميل قد سبا فؤاده فهو في ذهول وافتتان، ولا يقوى على النسيان يقول:
فأنى سلُوُ القلبِ عنها وقد سبَا ... فؤاديَ منها ذو غدائرَ فاحمِ(8)
__________
(1) ديوان القطامي: 57
(2) ديوان النابغة الشيباني: 95 منسجر: مرسل. وله في ص 65 ذكر لشعرها وفي 200و 256
(3) شعراء أمويون 259
(4) ديوان العرجي: 18. الوحف: الشعر الأسود الحسن. المدمج: المتراكم
(5) المصدر السابق: 28 الليتان: صفحتا العنق. الأسحم: الأسود. الوارد: المسترل.الرجل المسرح.
(6) ديوان العرجي: 120. القرون: الذوائب. المتون: الأكتاف. الأساود: الأفاعي.
(7) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 125
(8) المصدر السابق: 211 ويذكر شعرها في ص 367-373-337-480(1/185)
فإذا فرغ هؤلاء الشعراء من الحديث عن وجوه حبيباتهم وشعورهن بعد أن قالوا فيها أطيب النشيد صاروا إلى أجزاء أخرى أكثر إثارة وفتنة. وسرعان ما انحدرت عين الشاعر لتتأمل جيد صاحبته، فاسترسل في صفة عنقها الطويل الجميل الأبيض المزين، كما رآه ذو الرمة:
بّراقة الجيدِ واللبّات واضحةٌ ... كأنها ظبيةٌ أفضى بها لَبَبُ(1)
ويشبه جيدها الطويل بجيد ظبية أفزعت فمدت عنقها تستطلع الآمان من حولها في قوله:
لها جِيدُ أمٍّ الخشفِ ريعَتْ فأتلعت ... ووجهٌ كقرنِ الشمسِ ريّانُ مشرِقُ(2)
ويذكر أيضاً أن أعناق الفتيات الجميلات اللواتي يشبهن الغزلان السارحة يصبن بها من يراهن فيصرعنه بحسنهن:
وشَفَّفنَ عن أجيادِ غِزلانِ رَملَةٍ ... فلاةٍ فكنَّ القتل أو شَبَهَ القتلِ(3)
ويدور عمر بن أبي ربيعة في الدائرة نفسها عندما يصف جيد صاحبته فلا يجد سوى جيد الغزال يمكن أن يضاهي جمال جيدها، لكنه يضيف إليه الزينة فيقول:
سلَبَ القلبَ دَلُّها وَنَقِيٌّ ... مثلُ جِيد الغزالِ يعلوهُ نَظْمُ(4)
ويعود سبب جمال جيدها إلى أنه هدية من ظبي فتي جميل كما يقول:
منعمة أَهدى لها الجيدَ شادِنٌ ... وأَهْدتْ لها العينَ القتولَ بَغُومُ(5)
ويكني عن طول جيدها بقوله:
بعيدة مهوى القرطِ إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم(6)
ويحاول ابن قيس الرقيات أن يصف جيدها، فلا يفتح الله عليه إلا بمثل أوصاف السابقين فيقول:
وجيد ريم مكحّلٍ ... يرتعي بالذنائب(7)
وفي شعر جميل بن معمر نقرأ الصفة ذاتها تقريباً، ولكنه يحدد أنها غزالة بيضاء جميلة ذات ولد، فيقول:
__________
(1) ديوان ذي الرمة: 26. اللب: ما استرق من الرمل.
(2) المصدر السابق: 465. أم الخشف: ظبية. ريعت: أفزعت. أتلعت: اشرفت بعنقها.
(3) المصدر السابق: 145
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة:224
(5) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 221
(6) ديوان عمر: 208
(7) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 28. الذنائب: اسم موضع(1/186)
وجيد أدماءَ تحنوه إلى رشأٍ ... أغنَّ لم يتبّعها مثْلهُ وَلَدُ(1)
ويذكر المجنون أعناق النساء الجميلات، فيشبههن بأعناق الغزلان أيضاً في قوله:
وأعناقُها أعناقُ غِزلان رمْلةٍ ... وأعيُنها من أعيُنِ البقر النّجل(2)
ولا يزيد على هذا التشبيه عروة بن أذينة في قوله:
للظبية البكر عيناها وتَلْعَتُها ... في حُسْنِ مبتسمٍ منها وعرنينِ(3)
ويلحق عمرو بن أحمر الباهلي بالسابقين في صفة جيدها عندها يقول:
وجيد أدماءَ وعينَيْ جُؤذُر ... لبَّ بأرضٍ لم تَوَطّأها الغنم(4)
وكذلك يفعل هدبة بن الخشرم عندما يقول:
خرجن بأعناقِ الظباء وأَعينِ الـ ... ـجآذرٍ وارتجَّتْ بهنَّ الروادفُ(5)
ويفلت كثير من قبضة هذه الصورة، فيشبه جيدها البراق بالسيف الصقيل المتلألئ في قوله:
وأتلعَ بّراقٍ كأنَّ اهتزازَهُ ... إذا انتصفَتْ للرَّوعِ هِزَّةُ مُنصُلِ(6)
وتردد الشعراء الأمويون كثيراً في تناول نهدي المرأة ووصفها، فمنهم من تجاهل وصفهما ومنهم من لمحهما على عجل، فلم يستغرق وصف النهود خيالهم وعنايتهم كما استغرقتهم أجزاء الجسد الأخرى، فكان كثّير يلاحظ نهود ثدييها، ويترقب نموها واكتمال أنوثتها على عجل عندما قال:
فتلك التي أصفيتُها بمودَّتي ... وليداً ولمّا يسْتبنْ لي نهودُها(7)
أما المجنون فكان أكثر تريثاً في وصف نهودها حيث يقول:
بيض تُشَبَّهُ بالحقاقِ ثديُّها ... من عاجةٍ حَكَتِ الثديُّ حقاقَها(8)
ويمر النابغة الشيباني بذكرهما مروراً سريعاً في قوله:
__________
(1) ديوان جميل : 97
(2) ديوان المجنون: 230
(3) ديوان عروة بن أذينة: 114
(4) ديوان عمرو بن أحمر: 141. الأدما: الظبية البيضاء. الجؤذر: ولد البقر الوحشية. لبّ: أقام بأرض لم توطأها الغنم: أي بعيدة منقطعة.
(5) ديوان هدبة: 116.
(6) ديوان كثير: 290. الأتلع: العنق الطويل. المنصل: السيف. اهتزازه: بريقة.
(7) المصدر السابق: 200
(8) ديوان المجنون: 213(1/187)
وبأعناقِ حِسَانٍ ... وثُديٍّ ونحورِ(1)
ويطيب للأخطل أن يشبه نهود النساء بنواعم الرمان، يقول:
ونحورُهُن دياسُقٌ من فضّةٍ ... ونواهدٌ كنواعمِ الرُّمانِ(2)
واستقرت عيون الشعراء على الخصور الضامرة التي تجعل الأوشحة قلقة حيرى لا تعرف أين تستقر، وشكلت عبارة "غرثى الوشاح" لوحة تعبيرية عامة لجمال الخصور تشي بمضامين نفسية كثيرة لدى الشعراء، فالعرجي يستمد من ايحاء هذا التعبير ويقول:
غرثى الوشاحِ ورَابٍ ما أحاط بها ... منها الإزارُ وما في الحِجْلِ ممكورُ(3)
وتبدو في شعر الحارث بن خالد المخزومي:
خمصانة قلقٌ موشّحها ... رؤد الشبابِ غلا بها عظم(4)
ويكرر وصفه مرة ثانية بقوله:
غرثانُ سمطُ وشاحها قلقٌ ... ريانُّ من أردافِها المرط(5)
وهي من ليونتها وضمور خصرها يكاد الحارث يطويها في يديه كما يطوي حمالة سيفه:
ومضّمر الكشح يطويه الضجيعُ لَهُ ... طيَّ الحمالةِ لا جافٍ ولا فقر(6)
ولا يخرج الشمردل اليربوعي عن هذه الصفة عندما يريد وصف خصرها بقوله:
غرثى الوشاح صموت الحِجل ما انصرفتْ ... إلا تضوَّعَ منها العنبرُ العبقُ(7)
ويعجب المجنون بالخصور النحيلة الرقيقة ويعبر عن هذا بقوله:
زانتْ روادفَها دقاقُ خصورِها ... إني أُحبُّ من الخصورِ دقاقَها(8)
ويشير الصمة القشيري أيضاً إلى خصرها الدقيق في قوله:
وخصران دّقا في اعتدالٍ وفتْنةٍ ... كمتنةِ مصقولٍ من الهند سُلّتِ(9)
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني: 139
(2) نقائض جرير والأخطل: 220
(3) ديوان العرجي: 106 ويكرر في 126- 187.
(4) ديوان الحارث بن خالد: 90
(5) المصدر السابق: 98.
(6) المصدر السابق: 60 الحمالة: علاقة السيف.
(7) شعراء أمويون: 535
(8) ديوان المجنون: 213
(9) شعر الصمة: 47، المتنة: لحمتان معصوبتان بينهما الظهر.(1/188)
وهي "غرثى حيث تعتقد الحقابا" في شعر عمرو بن لجأ التميمي(1) وعند عمر بن أبي ربيعة "غرثان موشحها"(2)كما أنها "لطيفة الخصر"(3)وهي عند النابغة الشيباني "وشاحها قلق"(4)
ويبدو حديث الشعراء عن "الخصور الدقيقة" مرتبطاً بحديثهم عن "البطون الضامرة"، ودالاً عليها، فقد أكثروا من الإشارة إلى البطون الخمصانة الهضيمة الضامرة. ولم تقع عين واحد منهم إلا على البطون المخطوفة من شدة ضمورها وخمصها، أو الخصور الهيفاء، فجمالها الباهر عند عمر بن أبي ربيعة يأتي من كونها:
هيفاء لفّاء مصقول عوارضُها ... تكادُ من ثِقَلِ الأردَافِ تنبترُ(5)
ويعجب مرة أخرى بهضيم الحشا في قوله: "هضيم الحشا حسانة المتحسَّر"(6)
ويعجب بوصف الأعشى لإحدى صواحبه، ويكرر صفته بألفاظها ذاتها تقريباً في قوله:
"هيفاء قباء مصقول عوارضها"(7)
وتمتعت صاحبة العرجي أيضاً بضمور عجيب، وبدت كالمهاة الرشيقة:
خمصانة كالمهاةِ آسنة ... لم يَغْذها من معيشة رَنَقُ(8)
ويلم مرة أخرى بجمال بطنها الهضيم في قوله:
أسيلة مجرى الدمعِ مهضومة الحشى ... إذا ما مشت لم تمشِ إلا تَمَيّلاً(9)
__________
(1) ديوان عمرو بن لجأ: 48.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 117
(3) المصدر السابق: 153
(4) ديوان النابغة الشيباني : 226
(5) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 111
(6) المصدر السابق: 104 وتتكرر عنده في 120و 125
(7) المصدر السابق: 119
(8) ديوان العرجي: 188
(9) المصدر السابق: 72 وتأتي هذه الصفة في شعر العرجي في ص 171، 157، 64 وص8 وعند الأحوص: 214 وكثير ص 157 والمجنون 230.(1/189)
وكان الحديث عن ضمور الخصور وخمص البطون موظفاً توظيفاً جمالياً آخر قصد منه إبراز الأرداف الممتلئة، موطن الجمال ومكمن الإثارة في أشعار الشعراء، فقد أجمعوا على أن المرأة الجميلة يجب أن تتمتع بأرداف ضخمة مرتجة كأنها الكثبان الصغيرة المتراكمة حتى بدت الصورة قاعدة عامة أومعياراً جمالياً ثابتاً من خرج عليه فقد خرج على الذوق الأصيل والمعايير الجمالية السائدة، يقول ذو الرمة في وصف أردافها، ويشبهها بالتلة الصغيرة من الرمل:
أناة كأنَّ المرطَ حين تلوثُهُ ... على دِعصةٍ عزاءَ من عُجَمِ الرّمل(1)
وتفصح الصورة ذاتها عن ذوق "ذي الرمة" فيبدو شديد الإعجاب بالمرأة التي استوفت العناصر الجمالية، فهي هضيمة الحشا، ضامرة الخصر، ضخمة العجيزة ممتلئة العظام:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق ... عنها الوشاح وتمَّ الجسمُ والقَصَبُ(2)
ويبدو عمر بن أبي ربيعة مقيداً بذوق عصره، وبما فرضه تراثه من خطوط الجمال العامة، فإذا هو كالآخرين يرى صاحبته غادة خمصانة ريّا الأرداف، فيتأملها بعين المعجب المتلبّث حيث يقول:
إني رأيتُك غادةً خُمصانةً ... ريَّا الروادفِ لذّةً مِبشارا
محطوطةَ المتنينِ أكمِلَ خَلْقُها ... مثل السبيكة بضّة معطارا(3)
وكان قد تأملها عندما رحلت، فعلقت بذهنه صورة مؤخرتها الضخمة، فقال فيها:
__________
(1) ديوان ذي الرمة: 142. تلوث: تدير المرط: الإزار. الدعصة. الرملة الصغيرة.
(2) ديوان ذي الرمة: 28.
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 128. الغادة: المرأة الناعمة اللينة الأعطاف، الخمصانة: الضامرة البطن. ريا الروادف: عبلتها، مبشاراً: طلقة الوجه تسر من ينظر إليها. محطوطة المتنين: ممدودتهما. السبيكة: الفضة. بضة: ناعمة. معطار: طيبة الريح.(1/190)
بانَوا بِهرُكولةٍ فَعْمٍ مؤزَّرها ... كأنها تحت سجفِ القُبَّةِ القمرُ(1)
ورأى عجيزتها في مشهد آخر كأنها قمة الجبل، بسبب ضخامتها وامتلائها:
قبّاء إِن أقبلتْ مُبَتَّلةٌ ... والبوصُ منها كالْقَوْرِ مُنْعَفِرُ(2)
وكانت أعجاز النساء الضخمة تميل سيرهن، فتبرز صدورهن الجميلة، وأعناقهن الطويلة في قول العرجي:
نهضن بأعجازٍ ثقالٍ تميلها ... فتسمو بأعناقٍ لها وصدورِ(3)
ويشير عروة بن أذينة إلى عجيزتها المرتفعة التي تعجبه بامتلائها وضخامتها، يقول:
وعجيزةٌ نفجٌ وساقٌ خدلةٌ ... بيضاءُ تَفْصِمُ كظةً خلخالُها(4)
كما أن هذه العجيزة الضخمة تجعل حركة صاحبته ثقيلة متأنية في قوله:
تنوء منها إذا قامت بمردفةٍ ... كأنها الغُرُّ في أنقاءِ معرونِ(5)
وفي مقابل هذا الإعجاب الشديد بالمرأة الممتلئة الضخمة الأوراك والأرداف، كانت المرأة الرسحاء مجال سخرية وهجاء. والمرأة الرسحاء هي المرأة التي تكون عجيزتها غير بادية أو ظاهرة لنحافتها وضعفها. وكانوا يعييرون النساء بالتدليس، وهو تغطية هذا العيب بارتداء بعض الملابس التي قد تساعد على إخفائه، وقد أشار جرير إلى ذلك بقوله:
مالت كميلِ النقا ليست إذا جليتْ ... من رصْعِ تيم يُنَطَّقْنَ البوَاسِينا(6)
__________
(1) المصدر السابق: 118. بانوا: بعدوا. الهركولة: الضخمة الوركين. أو الحسنة السير. فعم: ضخم. مؤزرها: موضع عقد الإزار أراد أردافها. سجن القبة: سترها.
(2) المصدر السابق: 142. قباء: ضامرة. المبتلة: التامة الجميلة كأن الجمال قد بتل على أعضائها أي وزع. البوص: العجيزة. القور: أعلى الجبل.
(3) ديوان العرجي: 76.
(4) ديوان عروة بن أذينة: 144.
(5) المصدر السابق: 114
(6) ديوان جرير: 541. الباسنة: الغلالة شيء تضعه المرأة على عجيزتها تد لّس به وتضخم عجيزتها.(1/191)
أي أنها لا تحتاج إلى أن تدلس جسمها بما يخفي عيوبها، لأنها خلقت جميلة مكتملة، فالمرغوب فيها في رأي جرير من كانت عجيزتها مثل الكثيب الذي تزيده الريح ارتفاعاً بما تجلبه له من الرمال فيبدو أكثر ارتجاجاً وثقلاً.
كنقا الكثيبِ تهيَّلَتْ أعطافُهُ ... فالريح تجبرُ متْنَهُ وتميلُ(1)
وكانت الريح عامل إثارة شعرية وجمالية، فعندما تهب تلتصق الملابس بالأجساد الجميلة، فتفخر الممتلئة المكتنزة، وتخزى الهزيلة. يقول جميل بن معمر:
إذا ضربتها الريحُ في المرطِ أجفلتْ ... مآكُمها والريحُ في المرطِ أَفضحُ(2)
ويؤكد كثيّر المعنى بقوله:
من الهيف لا تخزى إذا الريحُ ألصقَتْ ... على متنِها ذا الطرَّتينِ المنمنما(3)
وقد أسرف الشعراء حقاً في تصوير الأرداف والحديث عنها، وهم - على اختلافهم وكثرة أحاديثهم- يصدرون عن ذوق جمالي واحد لا يتغّير(4)
وتأمل الشعراء ساقي المرأة، وغرقوا في مواصفات الجمال والفتنة، وفصلوا في أجزاء الساق من أخمص القدم إلى أعلى الساق، واستكثروا من الصور، وكانت النتيجة الإجماع على جمال السوق الممتلئة البيضاء الغضة التي تشبه الغصون النضرة الخضراء، مع الإشارة إلى ما يحيط بالساق من حلي وزينة.
__________
(1) المصدر السابق: 91. النقا: الرمل. تهيلت: انهالت. أعطافه: جوانبه. تجبر متنه: أي ترفعه.
(2) ديوان جميل: 93
(3) ديوان كثير: 133.
(4) ويتكرر وصف الأرداف عند عدد من الشعراء، ففي ديوان عمر بن أبي ربيعة وصف العجيزة في ص 125-141-157-160-176-201-242 وفي شعر المجنون 230 وأثلاثها السفلى براديّ ساحل وأثلاثها الوسطى كثيب من الرمل وفي نقائض الأخطل وجرير ص 220 وفي ديوان الفرزدق 133- 374 وفي ديوان أبي دهبل 94 وفي عبيد الله بن قيس الرقيات 43-52-149 وفي ديوان العرجي: 73-60-8-76-157-146 وفي شعر عمرو بن لجأ التميمي 48-69. وفي ديوان النابغة الشيباني 70-256.(1/192)
فلنبدأ من القدم كما بدأ عمر بن أبي ربيعة، فهو ينظر إلى قدميها، ويعجب بكعب رجلها الدقيق الناعم:
زانَ ما تحت كعبِها قدماها ... حين تمشي والكعبُ غيرُ نبيلِ(1)
فالكعب إذاً يجب أن يكون دقيقاً غير ضخم ولا ممتلئ بعكس أجزاء الساق الأخرى، فعندما نرتفع قليلاً إلى موضع الخلخال يحسن الامتلاء دائماً، فجمال الأرجل أيضاً موزع إلى جزئيات تتراوح بين الضمور والامتلاء، كما في كل أجزاء الجسد الأخرى، يقول عمر أيضاً في موضع الخلخال:
ممكورة الساقِ مقصوم خلاخلُها ... فمشبع نشب منها ومنكسر(2)
ويعجب عبيد الله بن قيس الرقيات في ساقي صاحبته اكتنازُهما باللحم في موضع الخلخال:
تخطو بخلخالينِ حشوهما ... ساقانِ مارَ عليهما اللحمُ(3)
ويستملح العجاج هذه الصفة، فيقول:
بقصبٍ فعمِ العظام خدلٍ ... ريَّان لا عَشٍّ ولا مهبَّل(4)
ويتأمل الصمة القشيري صاحبته، فتستقر عيناه على فخديها اللفاوين كأنهما ناقة تحتال بهما وتتمايل:
لها فَخذا بخُتْيَّة بختّريةٍ ... وساقٌ إذا قامتْ عليها اتمهلّتِ(5)
ويشير الحارث بن خالد إلى فخديها اللفاوين أيضاً في قوله:
لفّاء مملوء مخلخلُها ... عجزاء ليس لعظمها حجمُ(6)
ويشير جرير أيضاً إلى عظامها الممتلئة النضرة التي أخرست خلاخلها في قوله:
لها قصبٌ ريَّانُ قد شجيتْ بهِ ... خلاخيلُ سلمى المصْمتاتُ وسورُها(7)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 339. أي ليس جسيماً ضخماً.
(2) المصدر السابق: 112. ممكورة الساق: ممتلئة مع دقة العظام. مقصوم خلالها: أراد أنه لا يسمع لها صوت، وذلك لعبالة موضعه.
(3) ديوان عبيد الله بن قيس: 55.
(4) ديوان العجاج: 224. الفعم: الممتلئ. العش: الضعيف. المهبل: الثقيل: المنتفخ الجبين.
(5) ديوان الصمة: 47. البختية: الإبل الخراسانية البختري: الذي يختال. اتمهلت: اعتدلت.
(6) ديوان الحارث بن خالد: 90 لفاء: ضخمة الفخدين.
(7) ديوان جرير: 89.(1/193)
ويعلن العرجي إعجابه بساقها الريّا الممتلئة في قوله:
ممكورة الساقين رعبوبة ... كالغصنِ قد مالَ ولم يخضدِ(1)
وظفرت الأيدي باهتمامهم، واتفقوا كما في وصف الأرجل على جمال الأيدي الممتلئة البيضاء، والأنامل الغضة المزينة بالخضاب الأحمر القاني، فنقرأ في شعر لأبي دهبل وصفه للمعاصم الريا التي تشبه النبات في طراوتها ونضارتها وجمالها:
خود مبتلّة ريّا معاصمُها ... قدر النباتِ فلا طولٌ ولا قِصَرُ(2)
ويشير الفرزدق إلى معصمها الريان النضر في قوله:
إذا شئتُ غناني من العاجِ قاصفٌ ... على معصمٍ ريّانَ لم يتخدَّدِ(3)
أما العرجي فيذكر مفاصلها الممتلئة التي لا تظهر عظمها:
يُوسّدنَني جُمَّ المرافق زانَها ... جبائرُها غُصّتْ بهنَّ المعاضّدُ(4)
ويشير ابن ميادة إلى مرافقها الممتلئة في قوله: "في مرفقيها إذا ما عونقت ججم"(5) ويذكر عمر بن أبي ربيعة بنانها الغض في قوله:
إذا كاعبان ورخْصُ البنانِ ... أسيلٌ مقلّدُه أحورُ(6)
وسجّل الشعراء أيضاً حركة الأيدي، وميّزوا وظيفتها في التعبير عن الحب عندما تستخدمها النساء في بعض المواقف التي يكون الكلام فيها غير مباح، فتصبح حركة اليد أبلغ من الكلام والعيون، كما حدث مع المجنون في قوله:
وعَضَّتْ على إبهامها ثم أَومأَتْ ... أخافُ عيوناً أنْ تهبَّ نِياما(7)
ويسترجع العرجي مشهد وداع فيقول:
ودَّعْتُهنَّ ولا شيءٌ يراجعُني ... إلا البنانُ وإلا الأعينُ السُّجُمُ(8)
__________
(1) ديوان العرجي 12: الممكورة: الممتلئة. الرعبوبة: الجارية البيضاء. الخضد: كسر العود ويكرر في 70 -171-187
(2) ديوان أبي دهبل: 94.
(3) ديوان الفرزدق: 139: العاج: قينة تلبس سواراً من عاج. القاصف: اللاهي. لم يتخدد: لم يتجعد.
(4) ديوان العرجي: 120 المرافق : المفاصل.الجبائر: السوار والدملج.
(5) شعر بن ميادة: 17
(6) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 173
(7) ديوان المجنون: 249.
(8) ديوان العرجي: 7.(1/194)
ويشير أبو دهبل إلى مثل هذا بقوله:
أشارَتُ بمدراها وإيايَ حاولت ... وقالت لِتْربَيْها عليَّ توقَّفا(1)
ويصور عمر بن أبي ربيعة صاحبته، وقد فجأها بالدخول إلى خبائها فخافت:
وقالَتْ وعضّتْ بالبنانِ فضحتني ... وأنتَ امرؤٌ ميسورُ أَمِركَ أَعسرُ(2)
وكانت أكف النساء وسيلة اصطياد أيضاً كما رآها النابغة الشيباني:
تُبدي أَكُفَّاً تصيدُ العاشقينَ بها ... منها خضيبٌ ومنها غيرُ مخضوبِ(3)
وكان ليدها مع عدي بن الرقاع وظيفة أخرى عندما قال:
فلقد ثنيتُ يدَ الفتاةِ وسادةً ... لي جاعلاً يسرى يديَّ وِسادَها(4)
أما العديل بن الفرخ فلم يكن ليدها من وظيفة عنده سوى التحية ساعة الفراق:
تراجعن بالأيدي السلامَ وكلّنا ... بصاحبه يومَ الفراقِ ضنينُ(5)
ويؤكد يزيد بن الطثرية أن أناملها الغضة تشفيه مما هو فيه عندما قال:
بنفسيَ مَنْ لو مرَّ بردُ بنانِهِ ... على كَبدي كانتْ شِفاءً أَناملهْ(6)
ولكن هذا الاستغراق في الجزئيات أو التفصيلات لا يحول دون النظرة الشاملة وتأمّل القامة الطويلة الممتدة. فعندما حاول ذو الرمة تأملها، رآها طويلة الظهر ممشوقة القوام في قوله:
وبين ملاثِ المرطِ والطوقِ نفنفٌ ... هضيمُ الحشا رأْدُ الوشاحينِ أَصفرُ(7)
وقسم قامتها إلى قسمين وقال فيها:
ترى خلفها نصفاً قناةً قويمةً ... ونصفاً نقاً يرتجُّ أو يتمرمرُ(8)
ويراها الأحوص طويلة ممشوقة، كلها حيوية ونشاط:
__________
(1) ديوان أبي دهبل: 75.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 96.
(3) ديوان النابغة الشيباني: 165.
(4) ديوان عدي بن الرقاع: 52.
(5) شعراء أمويون: 320.
(6) ديوان يزيد بن الطثرية: 94.
(7) ديوان ذي الرمة: 62 ملأت: مدار. موضع الإزار: اللوث: الطي، نفنف: مهواة ما بين كل شيئين يريد طويله الظهر. راد الوشاحين: أي ضامرة وشاحها يذهب ويجيء. هضيم: ضامرة. أصفر: أي خالٍ.
(8) المصدر السابق: 623 يتمرمر: حركة دون الارتجاج وقريب من الاهتزاز.(1/195)
سيفانة أَشَرُ الشبابِ بها ... رقراقة لم يُبْلِها الدّهرُ(1)
أو مجدولة القامة غير مترهلة كأنها الحبل المفتول:
مهفهفة الأعلى وأسفلُ خَلْقِها ... جرى لحمُهُ من دون أن يتخدَّدا
من المدمجات اللحمِ جدلاً كأنَّها ... عنانُ صناعٍ مدمج الفتلِ مُحْصَدا(2)
وكانت كالرمح الممشوق في شعر جميل:
قناة من المرَّانِ ما فوق حَقوِها ... وما تحته منها نقا يَتَقَصَّفُ(3)
ويلاحظ قارئ هذا الشعر أن الصورة العامة للقامة لم تسلم، فما أكثر ما قسمها الشعراء إلى أجزاء من أجل إشباع الإحساس والتعبير عنها بأحسن الصفات.
فالمجنون يرى قامتها الرشيقة، لكنه يجزئ هذه القامة إلى مجموعة أجزاء، ويقول في كل جزء منها:
هلالية الأعلى مطلّخةُ الذرا ... مرجرجة السفلى مهفهفة الخصر(4)
وشطر عمر بن أبي ربيعة قامتها شطرين في قوله:
مبتّلة صفراء مهضومة الحشا ... غذاها سرورٌ دائمٌ ونعيمُ
قدِ اعتدلَتْ فالنِّصفُ من غُصنِ بانةٍ ... ونصفٌ كثيبٌ لبَّدَتْهُ سجومُ(5)
وينظر العرجي إلى قامتها، فيراها كالغصن النضر الندي:
كخوطةِ بانٍ بَلَّهُ صوبُ ديمةٍ ... إذا حَّركتهُ الريحُ بالماءِ أَخضلا(6)
ثم عاد، ففصل أعلاها عن أسفلها في قوله:
كالغصنِ أعلاه ورا ... بٍ ما تواري النقب(7)
ويرنوا إليها هدبة بن الخشرم، فإذا هي:
رداح كأن المرطَ منها برملةٍ ... هيامٍ وما ضَّم الوشاحانِ أَهيفُ(8)
__________
(1) ديوان الأحوص: 113 سيفانه: طويلة ممشوقة ضامرة. الأشر: المرح والنشاط. رقراقة: الماء يجري في وجهها.
(2) ديوان الأحوص: 98. المهفهفة: الخميصة الدقيقة الخصر. تخدد اللحم: هزل ونقص. أدمج الحبل: أحكم فتله. الجدل: شدة الفتل أي غير مترهلة.
(3) ديوان جميل: 52.
(4) ديوان المجنون: 55. مطلخة: يريد سوداء الشعر.
(5) ديوان عمر: 221.
(6) ديوان العرجي: 73.
(7) المصدر السابق: 101 وله في ص 193-157.
(8) ديوان هدبة: 111. الرداح : المرأة الثقيلة الأوراك.(1/196)
ولا يكاد يختلف الطرماح عن هدبة، وهو يتأملها مقبلة مدبرة، يقول:
إذا أَدبرت أثّتْ وإن هيَ أقبلت ... فَرؤدُ الأعالي شختهُ المتوشّحِ(1)
وبدت تهتز من تحت الثياب كأنها الغصن النضر في شعر المجنون:
ويهتزُّ من تحتِ الثياب قوامُها ... كما اهتزَّ غصنُ البانِ والفنَنُ النَّضْرُ(2)
لكنه يجزئ المشهد في موقف آخر، فيقول:
عراضِ المطا قُبِّ البطونِ كأنما ... وعى السرَّ منهنَّ الغمامُ اللوامعُ(3)
لقد اكتملت صورة الجسد المثال. سوّاها هؤلاء الشعراء بأيديهم، وبرّؤوها من كل نقص أو عُوار، وما زالوا يعيدون النظر فيها، وينقّونها من الشوائب حتى استوت في أحسن تقويم، قطفقوا يطوفون بها عن قرب وعن بعد، ثم لم يلبثوا أن أضافوا إليها بعض الإضافات لتزداد بهاءً وإشراقاً. لقد أضافوا إلى هذا الجمال الأصيل ما جعل الصورة حية نابضة. تحدثوا عن المشية المتبخترة عند النساء، وأشاروا إلى الكسل المحبب المتضمن للدلال والغنج، والذي يقتضي منهن النوم حتى ساعة متأخرة من النهار، ثم أحاطوا الصورة بذكر من يقوم على خدمة المرأة من أتباع وخدم وجوار، وبذلك اكتملت الصورة الساحرة التي سيطرت على ذوق الشاعر العربي حتى فترة متأخرة من عصورنا الأدبية. وهم حتى في هذه الإضافات الحضارية كانوا يكرون موروثهم الثقافي، ويحلّونه في أشعارهم.
__________
(1) ديوان الطرماح: 103. أثت: عظمت عجيزتها. رؤد الأعالي: رخصة لينة. شختة المتوشح: رقيقة الخصر.
(2) ديوان المجنون: 130.
(3) المصدر السابق: 181. المطا: الظهر. قب البطون: ضوامر. وعى: حفظ.(1/197)
ووجد الشعراء في مشية النساء مجالاً رحباً للخيال الذي يرصد المرأة وهي بعيدة عن مرمى النظر، فأكثروا من وصف مشية النساء كثرة مدهشة إذا ما قيست بوصف جمال الجسد، بل أستطيع أن أقول: إن متابعة الشعراء لأسراب النساء وهن يمشين فاقت رصدهم لمفاتنها الجمالية. ولم يقلّ الحديث عن كسلهن ونعمتهن ورفاهيتهن عن الحديث عن مشيتهن وتصويرها. حقاً كان شعراء الجاهلية يتحدّثون عن هذه الأمور جميعاً ويصفونها منذ امرئ القيس، ولكن هذا الحديث أو التصوير كان قليلاً جداً، إذا ما قيس بحديث شعراء العصر الأموي. ولعل سبب ذلك فيما أعتقد -يرجع إلى النقلة الحضارية التي شهدها هذا العصر، فأنا أعتقد أن خط التطور الحضاري بدأ ينزاح في نفس الشاعر الأموي، ينزاح قليلاً عن خط الموروث الثقافي، ويؤكد إعجاب الشعراء بالنموذج الحضري المترف للمرأة. إذ لا يمكن أن نحظى بصورة امرأة فقيرة، عاملة، متعبة، إلا في صورة هجاء، ولا يمكن أن تكون كل النساء في المجتمع الأموي أو أي مجتمع على حظ واحد من الترف والنعمة والثراء، ولا أن تكون كل النساء على قدر واحد من الجمال والسحر. فهل هي الرؤية الفنية التي تنزاح عن الواقع وتفترض هذا الجمال الآسر والدلال الفتّان؟ هل هو الشعر الذي يفترض ويقترح ما يجب أن يكون؟ والشعراء إذ يصفون مشية النساء المتبخترة المتمهلة يحركون الجسد الجميل الذي صنعوه بكلماتهم الملونة، فيتكامل جمال الصورة وجمال الحركة، ويتعانقان في انسجام بديع، ويكوّنان هذا المشهد الخلاّب. فهن في تمايلهن يشبهن العيدان الطرية الناعمة التي تهزها الريح بلطف ورعاية في قول جرير:
وإذا مشينَ مشينَ غيرَ جوادفٍ ... هزَّ الجنوبِ نواعمَ العِيدانِ(1)
ويرصد الفرزدق حركتها المتأرجحة المتثاقلة في تثنٍ آخاذ لا يخلو من تكاسل وفتور:
__________
(1) نقائض جرير والأخطل : 199. الجوادف: المسرعات. العيدان: نوع من النخيل.(1/198)
حوارية تمشي الضحى مُرْجحنَّةً ... وتمشي العشيَّ الخيزلى رخوةَ اليدِ(1)
ويقرن الأخطل مشيتها بمشية النوق المتبخترة عندما تسمع هدير الفحل ينادي عزيزتها، فتزيد من تيهها وتمُّيلها لعلمها أنها تقع من نفسه الموقع الذي تريد:
يمشين مشي الهجانِ الأُدمِ روَّحَها ... عند الأصيلِ هَديرُ المصعبِ القطمِ(2)
ويضيف إلى المشهد ذاته بعض مكونات الصحراء، فتعرقل مشية هذه الإبل بالرمال المنهارة من الكثبات المنتشرة في المكان حولها:
يمشينَ مشيَ الهِجانِ الأُدمِ يُوعثُها ... أعرافُ دكداكةٍ منهالةِ الكثبِ(3)
ويحوّر العرجي المشهد السابق بعض التحوير، ويزيد فيه، فيزيده رقة وجمالاً، فيشبه مشي النساء بمشي البقر في الرياض المعشبة الساحرة، في قوله:
يمشينَ مشيَ العْينِ في متأنِّفٍ ... من نبتهٍ غرِدِ الضحاءِ ذبابُة(4)
ويوفق العرجي في صورة أخرى ترصد مشية النساء وتمايلهن مثل المها المذعورة الخائفة، وفي استخدامه للفعل "يمرن" اختصار للصورة الحركية بكل أبعادها:
يَمُرْنَ مورَ المها تُزْجي جآذرَها ... إذا تخافُ عليها موضعَ الثُكَنِ(5)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 139. المرجحنة: تترحج لثقلها. الخيزلى: التثني في المشي، رخوة اليدين من كسلها.
(2) ديوان الأخطل: 221 ويكرر في 543و 715. الهجان: الإبل الكرام. الأدم: البيض. روحّها: ردها في العشي. المصعب: الفحل من الإبل إذا هدر تبخترت.
(3) ديوان الأخطل: 242. يوعثها: يوقعها في الوعث وهو الرمل فلا تكاد تتخلص منه لثقلها. الدكداكة: الكثيرة المتراكبة السهلة، المنهالة: التي لا تتماسك.
(4) ديوان العرجي: 27. متأنف: روض أنيق. الضحاء: وقت ارتفاع النهار.
(5) المصدر السابق: 40 يمرن يتمايل. تزجي تسوق. جآذر أولاد البقر الوحشي. الثكن: الجبل.(1/199)
ويستغرق مشهد المشي خيال العرجي مرات متعددة، ويقلّب فكره وموروثه، فلا يستطيع الابتعاد كثيراً عما درج عليه الشعراء في مثل هذه المواقف، من ربط صورهم بمكونات البيئة البدوية الصحراوية بحيوانها ورمالها، فهو يصور تهاديهن كتهادي بقر الوحش في الرمال.
يقول:
فلما استوت أقدامُهُنّ ولم تكَدْ ... على هُضْمِ أكبادٍ وَلُطفِ خصورِ
تهادي نعاجِ الرّملِ مرَّتْ سواكناً ... بأجرعَ مُوْليِّ الدماثِ مطيرِ(1)
ويصف مشيتهن عندما جئن إليه متثاقلات متكاسلات كأنما هنَّ قطيع الخيل الذي اشتبك بقطيع من الماعز، وحاذر كل على نفسه الضرر في محاولته التخلص من الاشتباك، يقول:
فجئن وما يكدنُ إذا ارجحنَّتْ ... بها الأعجازُ من ثقلٍ ينونا
على خُرسٍ خلاخِلُها خدالٍ ... كمشي الخيل بالمعْزَى وجينا(2)
ويبالغ العرجي في وصف تمهلها وتأنيها وتقارب خطوها في مشيتها، وينفي أن يربكها أو يعجّل خطوها أي أمر مهما بلغت أهميته، وجلّ شأنه. يقول:
قطوف الخطا لو تُنْحل الخُلْدَ إن مشت ... سوى خذفةٍ أو قدرِها لم تَقدّم(3)
وحاول جرير أن يحوّر صورة الخيل بعض التحوير، لكنه ظل مشدوداً إلى ما هو سائد فشبه مشيتها بصغير الخيل الذي لم ينتعل بعد، ولم يزل لا يقوى على النهوض بقوائمه الضعيفة:
إذا ما مشت لم تنتهزْ وتأوَّدَتْ ... كما انآدَ من خيلٍ وجٍ غيرُ مُنْعَلِ(4)
وصنع المجنون مثل ما صنع جرير، قال: "كواعب تمشي مشية الخيل في الوحل"(5)
وهي في فتورها وضعفها تشبه ضعيف الحيوان الذي لم يشتد بعد في تشبيه لعمر بن أبي ربيعة:
__________
(1) المصدر السابق: 77 لم تكد: أي لم تكد تستوي. نعاج الرمل: بقر الوحش والعرب تكنى عن المرأة بالبقرة والنعجة. المولي: الذي يلي الموسمي من المطر. الدماث: المكان الرملي اللين.
(2) ديوان العرجي: 94.
(3) المصدر السابق: 88. ويكرر في ص 133-126-157-154-164.
(4) ديوان جرير: 945.
(5) ديوان المجنون: 230.(1/200)
وظلت تهادى ثم تمشي تأوُّداً ... وتشكو مراراً من قوائِمها فتْرا(1)
واستطاع كثّير الخروج من دائرة الحيوان إلى الماء، وكان لمشهد المشي في ذهنه بعد أخر، عندما شبه مشيتها المتثاقلة بتدافع السيل إذا تلقاه الوادي عند منعطفه:
وتمشي الهوينا إذا أقبلت ... كما بهر الجزع سيلاً ثقيلاً(2)
ومشيتها في صورة العجاج أيضاً كأنها تدافع المياه في الجدول الرقراق المنساب في استرخاء وهدوء. يقول:
في صَلبٍ لَدْنٍ ومشيٍ هوجلِ ... تدافعَ الجدولِ إثرَ الجدولِ(3)
وألم بالصورة نفسها عمر بن أبي ربيعة وقال:
قامت تهادى وأترابٌ لها معها ... هوناً تدافعَ سيل الزُّلِ إذْ مارا(4)
وترتبط صورة مشية المرأة في خيال الشاعر ومشاعره بصورة الأقدام وهي تدوس الوحل، كما عند الكميت:
وإذا أردنَ زيارةً فكأنما ... ينقلن أرجلهُنَّ بالأَوحالِ(5)
وقريب من الماء والوحل تشبيه عمر لمشيتها بأغصان النباتات المتمايلة الطرية، لكنه سرعان ما يعود إلى حظيرة الحيوان الصحراوي فيقول:
تمشي الهوينا إذا مشت فُضُلاً ... وَهيَ كمثلِ العسلوجِ في الشّجرِ
بيضاً حِساناً خرائداً قُطُفاً ... يمشينَ هَوْناً كمشيةِ البقرِ(6)
ويقع عروة بن أذينة على صورة طريفة فيها من الحسن والبهاء والحركة العذبة الليّنة شيء كثير يقول:
فقمن بطيئاً مشيُهنَّ تأوّداً ... على قصبِ قد ضاقَ عنهُ خلاخِلُهْ
كما هزّتِ المرَّانَ ريحٌ فَحَرَّكَتْ ... أعاليَ مِنْهُ وارجحنَّتْ أسافلُهْ(7)
ولأعشى همدان صورة حسيّة نفسية تلفت النظر. فيقول:
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 126.
(2) ديوان كثيّر: 391. جزع الوادي: منعطفه.
(3) ديوان العجاج: 224. الهوجل مشي فيه استرخاء.
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 120. أي تتدافع كما يتدافع السيل في حركته.
(5) شعر الكميت: 53.
(6) ديوان عمر بن أبي ربيعة 144 ويكرر في ص 157-292-392-451-464 العسلوج: مالان واخضر من قضبان الشجر.
(7) ديوان عروة بن أذينة: 356.(1/201)
وإذا تنوءُ إلى القيام تدافعتْ ... مثلَ النزيفِ ينوءُ ثُمَّتَ يضعفُ(1)
ويهتدي عمرو بن لجأ بحسه الدقيق إلى صورة غريبة مبتكرة تتجمع فيها مشاعر نفسية متناقضة لتمنحها هذه الغرابة الآسرة. فمن مشاعر الدلال والترف، ومشاعر الإعياء وقسوة الصحراء، يشكل هذا الشاعر صورته الفريدة، فإذا هؤلاء النساء بدلالهن وترفهن وإحساسهن العميق بزهو الصبا يتثاقلن ويتباطأن في مشيهن كأنهن سرب قطا يدّب فوق الرمال دبيباً، فكأنما أنهك أجنحته الطيران، وألجأه إلى ما هو فيه. يقول:
قصار الخطا تمشي الهوينا إذا مشت ... دبيبَ القطا في الرملِ يُحسَبْنَ لُغَّبا(2)
وينبغي أن نتذكر أن الموروث الجاهلي كان مصدراً لبعض هذه الصور، ولا سيما صورة البقر الوحشي التي نراها في شعر قيس بن الخطيم، وصورة الإنسان الذي يطأ الوحل في سيره، التي نراها في معلّقة الأعشى "كما يمشي الوجي الوحل".
__________
(1) الأغاني 5/ 148 وورد مشهد المشي في شعر شعراء آخرين منهم أعشى همدان/ الأغاني: 5/ 150. ... م يفزعها الصوت إذ تزجر
0@فتور القيام رخيم الكلا
ديوان المجنون: 128:
إذا أقبلت تمشي تقارب خطوها ... إلى الأقرب الأدنى تقسمها البُهْرُ
ديوان جميل: 93
"كأنها إذا ما مشت شبراً من الأرض تنزح" المرار بن سعيد الفقسي:
شعراء أمويون 455:
يمشين وهناً وبعد الوهن من خفر ... ومن حياء غضيض الطرف مستور
الشمردل اليربوعي: شعراء أمويون 518:
قطوف تهادى إذا أعتقت ... كما يطأ الموُعَث ا لمُتْعَبُ
وله أيضاً 534 "لأياً تقوم بعد اللأي تنتطق"
هدبة بن الخشرم: ديوانة 118
إذا خرقت أقدامهن بمشية ... تناهين وانباغت لهن النواصف
ينؤن بأكفال ثقال وأسوق ... خدالٍ وأعضادٍ كستها المطارف
عمر بن لجأ: ديوانه 69
(2) ديوانه: 37.(1/202)
وتوقف الشعراء طويلاً يصورون كسل المرأة وفتورها ونعمتها، مما يدل على ما أصابه المجتمع من التحضر والترف، فقد استراحت النفوس، وتطلعت إلى المتعة والجمال، ولم تكن المرأة تجد ما يضطّرها إلى العمل وكسب الرزق، بل لم تكن مضطرة للقيام والمشي بمفردها على رأي الشعراء، بل كانت منعمة مدللة، تقوم الجواري على خدمتها وتدبير أمورها، وتفرغت هي للعناية بنفسها ومراقبة جمالها ومتابعة أخبار قلبها.
لقد أعجب الشعراء بالمرأة الكسول وفتورها وغنجها، فأسرفوا في الحديث عنها وفي تصويرها، وهم بذلك يقصرون أوصافهم على المرأة العربية تحديداً، لأنها وحدها التي استمتعت بهذه الصفات، وكانت سيدة أرستقراطية مخدومة مرفهة.
وعلى أية حال فإن نموذج المرأة الأرستقراطية هو النموذج الأنثوي الذي تغنى به الشعراء عامة. فيتحدث عمر بن أبي ربيعة عن مجموعة من النساء ويزعم أنهن من أسر كريمة عريقة، لم يعشن حياة الشظف والشقاء، بل رزقهن الله بسطة في الرزق والنعيم. يقول:
عقائل لم يعشنَ بعيشِ بؤسٍ ... ولكنْ بالغضارةِ والنعيمِ(1)
وهذا الثراء الذي توافر لها جعلها كسولاً متثاقلة فاترة محببة لديه:
من البيضِ مكسالُ الضحى بختريةٌ ... ثقالٌ متى تنهضْ إلى الشيء تفتُرِ(2)
ويردّد هذا المعنى في مواقف أخرى، فكأنه عالق بشباك امرئ القيس الذي أعجب بالمرأة الكسول، التي تنام الضحى "نؤوم الضحى"، وتفتر، فلا تقوم إلى أي عمل. يقول:
ربعةٌ أو فويقَ ذاك قليلاً ... ونؤومُ الضحى وحَقّ كسول(3)
ويشير عمر إلى من يحيط بها من جوقات الخدم، والنساء المعنيات بشأنها، فلا يدعنها تبذل أي جهد، بل يسارعن للتخفيف عنها، والقيام بكل ما تريد:
لم تبلغِ البابَ حتى قال نسوتُها ... من شدة البُهرِ هذا الجهد فاتئدا
__________
(1) ديوان عمر: 224
(2) المصدر السابق: 104
(3) المصدر السابق: 337.(1/203)
أَقعدْنها وبنا ما قال ذو حَسَبٍ ... صَبٌّ بسلمى إذا ما أُقعدت قعدا(1)
وكانت بينهن كأنها الصنم تؤدى له طقوس العبادة، على ما يراها عمر في قوله:
وغضيض الطرفِ مكسال الضحى ... أحور المقلةِ كالريمِ الأَغَنْ
مرَّ بي في نَفَرٍ يحففُنْنَهُ ... مثلما حَفَّ النصارى بالوثَنْ(2)
ولم يكن واليها وكفيلها بعيداً عن الاهتمام بها، فقد كفاها كل ما يهمها، فليست تضطر لإجهاد نفسها بأي شيء. يقول:
ووالٍ كفاها كلَّ شيءٍ يُهمُّها ... فليست لشيءٍ آخرَ الليلِ تسهرُ(3)
ويبدو عمر شديد الإعجاب بما توافر لها من النعيم والثراء منذ نعومة أظفارها، فهي فتاة منعمة قد اعتادت الرفاه والدلال، ولم يشقها البؤس أو الهوان مرة:
نواعم لم يخالِطْهُنَّ بؤسٌ ... ولم يُخْلَطْ بنعمتهنَّ هونُ(4)
كما أنها خفيفة الظل، عذبة الروح، بلغت من الدلال والكسل كل مبلغ تريد، حتى إنها لا تطيق ظلها الذي يتبعها، بل تطلب من رفيقاتها أن يأخذنه عنها. هل أقول: إنها خفة ظل! عمر نفسه، وعذوبة روحه، وخياله المدهش الذي يكشف عن طفولة عابثة محببة؟. يقول:
ولقد قالت لأترابِ لها ... كا لمها يلعبنَ في حجرتِها
خذنَ عني الظَّل لا يتبعُني ... ومضت تسعى إلى قُبّتِها
لم يُصِبْها نَكَدٌ فيما مضى ... ظبيةٌ تختالُ في مشيتِها(5)
وتعاور الشعراء هذه المعاني، وقلّبوها على أوجهها المختلفة، فكشفوا عن أذواق شبيهة بذوق عمر أو قل إنهم جميعاً صدروا عن الذوق العام. لقد استملحوا عذوبة المرأة الكسول، وأبدوا إعجابهم بها. فصاحبة الفرزدق لم تكن إلا هذا النمط المكرر الجميل في قوله:
__________
(1) المصدر السابق: 319 البهر: تتابع النفس وانقطاعه من الإعياء. اتئدا: تمهلا وتريثا.
(2) المصدر السابق: 276.
(3) المصدر السابق: 95.
(4) المصدرالسابق: 278.
(5) المصدر السابق: 478.(1/204)
أناة كرئمِ الرّملِ نوّامة الضحى ... بطئ على لوثِ النطاقِ بكورُها(1)
ويذكر من يقوم على خدمة هؤلاء النساء اللواتي يتحدث عنهن، فإذا هن "ولائد" صغيرات السن، لم يهرمهن العمل، وهن لذلك أقدر على إرضائهن والعناية بهن، فيقول:
وإن نبهتُهنَّ الولائدُ بعدما ... تصعَّدَ يومُ الصيفِ أو كادَ ينصُفُ(2)
ويشيرا أيضاً إلى نعمة هؤلاء النساء وثرائهن وتحضرهن، فهن لم يرحلن وراء الماء والكلأ في البادية. وإنما هن مستقرات في بيوتهن لم يعرفن الشقاء. يقول:
نواعم لم يدرين ما أهلُ صرمةٍ ... عجاف ولم يتبعن أَحمال قائفِ(3)
ويكرر هذا المعنى في موقع آخر يؤكد فيه تحضرها ومدنيتها ونعيمها. يقول:
لبيضاءَ من أهل المدينة لم تَعِشْ ... ببؤسٍ ولم تتبعْ حمولةَ مُجْحِد(4)
ويتحدث الأخطل عن نعيم هؤلاء النساء وترفهن، يقول:
وقد تكون بها هيفٌ منعَّمَةٌ ... لا يلتفعن على سوءٍ ولا سقمِ(5)
كما أنهن لا يوقدن النار إلا للبخور في قوله:
لا يصطلينَ دخانَ النارِ شاتيةً ... إلا بعودِ يلنجوجٍ على فحمِ(6)
ويكرر هذا المعنى عبيد الله بن قيس الرقيات، عندما يصف النساء المتحضرات المنعمات اللواتي لا يقمن بالأعمال الوضيعة مثل الفقيرات من النساء:
لم يصطلينَ غضاً ولم ... يضربنَ للبُهْمِ الحظيرةْ(7)
ومن شدة كسلها وفتورها تبدو في شعر مجنون ليلى كالمريضة:
مريضة أثناء التعطّف إنّها ... تخافُ على الأرداف يثلمها الخصرُ(8)
وهي مخدومة منعمة كسولة أيضاً:
__________
(1) ديوان الفرزدق: 313. أناة: تمهل ورزانه. نوامة: لديها من يخدمها. اللوث: اللف. النطاق أو الحزام. البكور: القيام باكراً.
(2) ديوان الفرزدق: 384.
(3) المصدر السابق: 374 أي متحضرات غير بدويات.
(4) المصدر السابق: 139 المجحد: القليل الخير، الناكر.
(5) ديوان الأخطل: 221. يلتعفن. السقم: الريبة.
(6) المصدر السابق: 242.
(7) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 43.
(8) ديوان المجنون: 128.(1/205)
برهرهة كالشمسِ في يوم صحوها ... منعمة لم تخطُ شبراً من الخِدرِ(1)
ويعجب الطرماح بكل كسول رقود الضحى في قوله:
كلُّ مِكسالٍ رقودِ الضحى ... وعثةٍ ميسانِ ليلِ التّمامْ(2)
ويشير يزيد بن الطثرية إلى زهوها ونعيمها في قوله:
جرى فوقها زهوُ الشبابِ وباشرَتْ ... نعيمَ الليالي والرخاءَ من الخصبِ(3)
وهي في شعر عمرو بن أحمر الباهلي:
مِمَّن ترببه النعيمُ ولم يَخَفْ ... عُقُبَ الكتابِ ولا بناتِ المُسْنَدِ(4)
ويشيرا المرار بن سعيد الفقسي إلى نعيمها، ويبدي أعجابه بعيشها الرغد في قوله:
أَيقظتُهُنَّ وما قضَتْ نوماتِها ... نجلُ العيونِ نواعمُ الأبشارِ
بيضٌ يزيُّنها النعيم كأَنَها ... بَقَرُ الصريمِ عوانسٌ وعذاري(5)
ويؤكد العديل بن الفرخ إعجابه بالنموذج الأنثوي المتحضر في قوله:
منعمة كالريمِ لم تخشَ فاقةً ... عليها ولم تتبعْ شقياً معذّباً(6)
ويعجب بهذه الصفة ويكررها مرة أخرى مع إشارته إلى كسلها ونومها إلى وقت ارتفاع الشمس في قوله:
بكل قطوفٍ أناةِ القيا ... مِ رقودِ الضحى عبلةِ كالصَّنَمْ
منعَّمةٍ لم تُلِحْها السّمو ... مُ يَضيءُ سنا وجهها في الظُّلَمْ(7)
ويصف العرجي نعيمها، وما تلاقيه في ظلاله من حنان وعناية ورفاه، ويسجل استجابة جواريها وخدمها لها، كأنها الخليفة وحراسه بين يديه ولا هم لهم سوى الاستجابة له، والعمل على إرضائه، يقول:
حَنا أترابُها دونى عليها ... حُنُوَّ العائداتِ على السقيمِ(8)
ويتابع وصفهن قائلاً:
__________
(1) المصدر السابق: 158.
(2) ديوان الطرماح: 405 وعثة: كثيرة اللحم. ميسان: كثرة الوسن. ليل التمام: الليل الطويل في الشتاء.
(3) ديوان يزيد بن الطثرية: 56.
(4) ديوان عمرو بن أحمر: 51. العقب: العاقبة والجزاء. المسند: الدهر. يريد أنهن من الأحداث من النساء المسرورات اللواتي لا يفكرن في حوادث الدهر.
(5) شعراء أمويون: 455.
(6) المرجع السابق: 291.
(7) المرجع السابق: 313.
(8) ديوان العرجي: 98.(1/206)
كلّما صفقت وثبْنَ إليها ... كقيامِ الشرطيّ عندَ الإمامِ(1)
هذه هي صورة المرأة -الجسد- كما صورها شعراء العصر الأموي، بل هذا هو الجمال المثالي الذي كان يحلم به هؤلاء الشعراء، ويخلعون ملامحه على حبيباتهم، فيكشفون بذلك عن ذوق العصر، وإحساسه الجمالي، وصبوته إلى الجسد المكتمل أنوثة وفتنة، إنهم لا يزيفون الواقع بل ينقُّونه من الشوائب، ويرتقون به ليكون جديراً بالشعر. ومن يدري فلعل هؤلاء الشعراء- أو كثيرين منهم- كانوا يرون في حبيباتهم صورة أمينة أو كالأمينة لهذا الحلم الجمالي، فقد روى أن عبد الملك بن مروان سأل عزّة صاحبة "كثيّر" مرّة:
ماذا رأى فيك كثيّر حتى قال فيك ما قال؟ فردّت عليه: وماذا رأى فيك الناس يا أمير المؤمنين حتى جعلوك خليفة؟ "حسنٌ في كل عين من تود"!! ولعلّ هذه الصورة التي حاولت جمع أجزائها من هنا وهناك تدلّ دلالة واضحة على موقف الرجل عامة والشاعر خاصة من المرأة، فهو دائماً يعلي من قيمة الجمال الحسي، ويحتفل به، ويقيم له الشعائر، وقد تبيّن لي أن الشعراء العذريين أنفسهم لم يكونوا بمنأى عن هذا الموقف على خلاف ما توحى به أخبارهم، وكثير من الدراسات التي دارت حولهم. فقد احتفلوا -كما تبيّن نصوصهم السابقة- بالمحاسن الجسدية، وإن لم يغالوا مغالاة غيرهم. ولكن ذلك كلّه لا يعني أن الشعراء لم ينظروا إلى المرأة إلا من حيث هي جسد، فما أكثر ما تحدثوا عن المشاعر والأحاسيس والعواطف على نحو ما مرّ بنا في غير هذا الموطن، والذي أريد أن أخلص إليه هو أن هؤلاء الشعراء -على تفاوت واضح بينهم- قد نظروا إلى المرأة نظرة لا تخلو من المنطق والاتزان والإعتدال، فخصّوا حسنها الماديّ بعنايتهم، وخصّوا محاسنها النفسية ببعض هذه العناية، وكشفوا بذلك عن توازنهم النفسي.
__________
(1) المصدر السابق: 122. الإمام: الخليفة.(1/207)
وأضاف الشعراء إلى عناصر الجمال التي مرت بعض المظاهر الأخرى التي سادت بسبب التمدن الحاصل في المجتمع العربي في هذا العصر. فكثر وصف الشعراء لهيئة المرأة في ملابسها وزينتها وحليها وعطورها. وهذا ما سأحاول الحديث عنه في الفصل القادم.
( ... ( ... (
الفصل الثالث
هيئة المرأة في الشعر الأموي
( ... (
تحدثت في الفصلين السابقين عن أخلاق المرأة وجمالها الطبيعي، وأودّ في هذا الفصل أن أستكمل رسم صورتها، ولذا فإنني سأتحدث عن هيئتها وحسنها المجلوب من ملابس وحلي وعطور.
ظهر أن أكثر من تمثل الترف والنعيم في الأسرة والمجتمع الأموي كان المرأة. لأنها تعكس في أخلاقها وجمالها وزيّها مستوى الحضارة في زمنها.
وقد لفتت المرأة أنظار الباحثين كما لفتت أنظار الشعراء وقلوبهم، ومضى بعضهم يوازن بينها وبين الرجل موازنة لا تخلو من روح الدعابة، وإن أخذت مظهر الجد، فالمرأة في رأي الجاحظ أرفع حالاً من الرجل في أمور منها:
"أنها التي تخطب وتراد وتعشق وتطلب وهي التي تفدى وتحمى، ويذكر أن عنبسة بن سعيد قال للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: إن تعدونني إلا شيطاناً والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن"(1)
ويرى الجاحظ أن "عامة اكتساب الرجال وانفاقهم وهمتهم وتصنعم وتحسينهم لما يملكون إنما مصروف إلى النساء، والأسباب المتعلقة بالنساء، ولو لم يكن إلا التنمص والتطيب والتطوس والتعرس والتخضب، والذي يعد لها من الطيب والصبّغ والحلي والكساء والفرش والآنية، ولو لم يكن له إلا الاهتمام بحفظها وحراستها وخوف العار من جنايتها والجناية عليها لكان في ذلك المؤونة العظيمة والمشقة الشديدة"(2)
__________
(1) رسالة العشق والنساء: 150.
(2) الحيوان: 1/110 النمص: نتف الشعر. التنمص والتطوس: التزين. التعرس: التحبب.(1/208)
وغاب عن الجاحظ ذكر ما تفعله المرأة من أجل أن تنال إعجاب الرجل وتحوز رضاه وذلك بحرصها على التجمل بوسائل الزينة المختلفة من مجوهرات تضعها في صدرها ويديها ورجليها وعلى خصرها وفي خُمُرها، أو التفنن في ملابسها، والمبالغة في ألوانها وأنواعها، وكذلك في عطورها وبخورها وفي تعقيص شعرها، وفي حديثها ودلالها. ويروي الأزرقي في أخبار مكة "أنهم كانوا فيما مضى إذا بلغت الجارية ما تبلغ النساء، ألبسها أهلها أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وجعلوا عليها حلْياً، إن كان لهم، ثم أدخلوها المسجد الحرام مكشوفة الوجه بارزته، حتى تطوف بالبيت والناس ينظرون إليها ويبدونها أبصارهم، فيقولون من هذه حتى يعرفوها، فإذا قضت طوافها خرجت كذلك ينظر إليها الناس لكي يرغب في نكاحها إن كانت حرة وشرائها إن كانت مولدة مملوكة، فإذا صارت إلى منزلها خدرت في خدرها، فلم يرها أحد حتى تخرج إلى زوجها"(1)
وكان الزمن في العهد الأموي زمن المال والحضارة بما أتيح للمدن العربية من الثراء، وبما توافد عليها من عناصر أجنبية أدت إلى تحضرها وترفها، فبات أهلها ينعمون بألوان الطعام المختلفة، رافلين نساء ورجالاً في الثياب الحريرية، وأنواع الطيب والعطور، وبالغ النساء خاصة في اتخاذ صنوف الحلي والجواهر.(2) "وأصبح نفر من أهلها يأكلون ويشربون في صحاف الذهب والفضة، ونفر يلبسون مقطعات الخز والسندس والديباج والحلل الموشاة على كل لون، والطيب وأنواع العطور تفوح منهم، وبالغ النساء في ذلك كله"(3)
واشتهر في هذا المجتمع المترفِ الحديث عن النساء وأزيائهن وحليهن وعطورهن. إذ طالما كانت ملابس المرأة وكسوتها دليل نعيم وثراء، مما ينعكس على مستوى الأسرة والقبيلة عامة، ويدفع الأثرياء إلى الإصهار إليها مما يزيد في قوتها.
__________
(1) أخبار مكة: 4.
(2) العصر الإسلامي: 140.
(3) المرجع السابق: 145.(1/209)
وليست هذه الأمور جديدة على المجتمع، فقد تحدرت من العصر الجاهلي، وكانت تستخدم لتأكيد عزة المرأة وثرائها ونعيمها، والإعلان عن مستوى القبيلة بين القبائل الأخرى.
ولكن الجديد في الحديث هو تكثيف الصورة لتصبح ظاهرة عامة في الشعر الأموي.
إذ يكاد لا يخلو بيت شعر يتضمن وصف المرأة في شكلها وجمالها من الإشارة إلى بعض زينتها للتدليل على ترفها وتحضرها، فكانت تعد عارضة الجاه بما تلبس وتتحلى وتتعطر. وسأفصل فيما يلي القول في الملابس والحلي والعطور، كما ظهرت في الشعر الأموي.
الملابس:
عندما حاولت فتح خزانة المرأة العربية في العصر الأموي، من خلال الآثار الشعرية، وجدتها زاخرة بأنواع مختلفة من الملابس التي كانت أهم زينة تزينت بها، وأضافت إليها من ذوقها وفنونها أشياء كثيرة، فاختلفت الألوان والأقمشة، وتعددت الأسماء. وأعتقد أن الثوب العربي الذي يخص المرأة منذ العصر الجاهلي كان يراعي طبيعة البيئة الصحراوية في مراكز الاستقرار السكاني، وما يتبع طبيعة المناخ الصحراوي من حرارة عالية ورمال متطايرة وغبار. مما أدى إلى تكيف الملابس مع جو الصحراء.
فكانت طويلة تغطى بأردية واقية، مع غطاء للرأس يقي من حرارة الشمس المرتفعة، وبقيت ملابس المرأة قريبة مما رسمه الإسلام، واستمرت تؤكد الالتزام الاجتماعي، وتعبر عن مكانة المرأة الحرة، وتفرق بينها وبين الإماء، وكان من ضمن ما أكده الإسلام مراعاة بعض القواعد العامة في اللباس بالنسبة للمرأة خاصة، كمراعاة الحشمة والستر، للحفاظ على الحياء الذي يعد من أهم أركان الأخلاق العامة، وحتى لا تصبح مشاهدة المرأة سبباً للرذيلة واستنفار الغريزة.(1/210)
وجاء في التنزيل الكريم ضرورة مراعاة الملابس الطويلة التي تغطي الصدر وكل ما يثير الغريزة في قوله تعال: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"(1)كما طالب نساء المؤمنين بضرب الخمار الذي يغطي الصدر في قوله تعال: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن"(2)وكان الخمار منتشراً بين النساء بسبب ظروف البيئة الصحراوية، وكان أول سبب لارتدائه اتقاء حرارة الشمس فيما أظن، ولكن عندما تطور المجتمع، وأصبحت النظرة إلى المرأة فيها الكثير من التشهي والرغبة فرض فرضاً أخلاقياً. ثم برزت مشكلة الحجاب، وتشير الأخبار إلى أن بعض النساء كن سافرات مثل عائشة بنت طلحة التي رفضت طلب زوجها مصعب بستر وجهها، وقالت له: "إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضله، فما كنت لأستره". وشاع أن النساء كن يسفرن في بعض المناسبات كالحزن والفجيعة، وكذلك في الحروب وفي الطواف بالكعبة أيضاً. وللحجاب أنواع وأسماء منها:
1- الخمار: ما تغطي به المرأة رأسها، ومنه الرقيق والكثيف، ومن ألوانه الأصفر أو المصبوغ بالزعفران ومنه الأخضر.(3)
2- النصيف ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها يسمى نصيفاً لأنه نصف بينها وبين الناس فحجز أبصارهم عنها"
3- البرقع: تلبسه نساء الأعراب، وهو من اللباس الذي يضفي على الوجه. وليس بين نساء الحضر من تلبسه، وقد تبرقع به الدواب.
__________
(1) سورة الآحزاب: آية 59.
(2) سورة النور: آية 31.
(3) حوليات كلية الآداب: اللباس في عصر الرسول 23-35.(1/211)
4- النقاب: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينيها فتلك الوصوصة، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف فهو اللغام. وكان النقاب شائعاً في العهد النبوي، وربما كان بين الحضر أكثر شيوعاً من البرقع الذي اختصت به نساء الأعراب، وكان يستهجن لبسه في بعض المواقف، إذ لا تقبل شهادة امرأة متنقبة، كما جاء نهي الرسول الكريم النساء في الإحرام من التنقب(1)وكانت هذه الأنواع جميعاً معروفة منذ العصر الجاهلي، واستمرت في العصور اللاحقة فقد لُقّب "المثقِّب العبدي" بهذا اللقب لقوله:
علونَ بكلّةٍ وسدلنَ أخرى ... وثقبّنَ الوصاوصَ للعيونِ
و "للنابغة الذيباني" قصيدة مشهورة في "المتجردة" زوج النعمان، وفيها قوله:
سقطَ النصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطهُ ... فتناولتْهُ واتقتنا باليدِ
ولحسان بن ثابت قصيدة يصور فيها خيل المسلمين، فيقول:
"تُلطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النساءُ".
والشعر الأموي حافل بذكر أنواع الحجاب، فقد صور الشعراء محبوباتهم في حالات الحجاب والسفور كما سنرى، فهذا عمر بن أبي ربيعة يقول في إحداهن:
واشتكت شدةَ الإزار من البـ ... ـهر و ألقت عنها لدي الخمارا(2)
ويرد في شعره ذكر الخمار، عندما يصف النساء الجميلات اللواتي يغطين وجوههن خوفاً من عيون الآخرين:
يُدْنينَ من خَشيةِ العيونِ على ... مثلِ المصابيحِ زانَها الخُمُرُ(3)
ويذكر النصيف في قوله:
وَتُدني النصيفَ على واضحٍ ... جميلٍ إذا سَفَرتْ عنه حُرّ(4)
ويرد أيضاً ذكر القناع في قوله:
__________
(1) المرجع السابق: اللباس في عصر الرسول 23-35.وهو كما جاء في لسان العرب. الخمار أيضاً، وزاد في تاج العروس أن النصيف هو العمامة وكل ما غطى الرأس فهو نصيف.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 140 البهر: أن تغلب النساء في الحسن. الخمار ما تستر به وجهها.
(3) المصدر السابق: 143.
(4) المصدر السابق: 176.(1/212)
وكأنَّ ضوءَ الشمسِ تحت قناعِها ... أو مُزْنةً أدنى بها القطْرُ(1)
ويمكن أن نستشف من شعره أن بعضهن كن سافرات والبعض الآخر منهن مختمرات، ولكنني أظن أن من كان يراها سافرة لم تكن إلا زوجة أو مغنية أو امرأة مجهولة تؤدي نسكها حيث لا يفضل غطاء الوجه. ولكن خيال عمر الفني كان يجنح به فتبدو أشعاره مفارقة للحقيقة الواقعة على نحو ما نرى ونسمع في حواره مع إحداهن وهو يحاول كشف قناعها، يقول:
ما ظبيةٌ من وحشِ ذي بقرٍ ... تغذو بسقطِ صريمةٍ طِفْلا
بألذَّ منها إذْ تقولُ لنا ... وأَردتُ كشفَ قناعِها مَهْلاً(2)
ويصور بعضهن سافرات في قوله:
سوافرَ قد زانهنَّ العبيرُ ... مع المسكِ مُغْتنِماتُ الطَّفلْ(3)
وعندما نظر إلى وجهها السافر بدت في عينيه كأنها القمر:
فأرتني مُسفراً حسناً ... خِلتُه إذ أسفرتْ قمرا(4)
ويصورها العرجي سافرة ومتنقبة، ويبدي إعجابه بها في حالتيها جميعاً، يقول:
سوافر مثل صيفيّ الغمامِ جلا ... بالبرقِ عنه وجلّى طُخْيةَ الدُّجُن(5)
كالبدر صورتُها إذا انتقَبت ... وإذا سَفَرتِ فأنتِ كالشمسِ(6)
ويذكر الأحوص ما رآه من جمالها عندما سفرت لتقوم بعمل ما، ولعله رآها تؤدي نسكها، عندما قال:
سفَرتْ وما سفرت لمعرفةٍ ... وجهاً أغرَّ كأنهُ البدرُ(7)
وأكد ذو الرمة جمال صاحبته في حالتي السفور والانتقاب، فهي سافرة تبهج العين، وهي تحرج العين عندما تنتقب، فتحار في جمالها:
تزدادُ للعينِ إبهاجاً إذا سفرَتْ ... وتحرج العينُ فيها حينَ تنتقِبُ(8)
وبدت ليلى في شعر المجنون كأنها الشمس تحت الغيوم بسبب الخمار الذي لم يظهر منه سوى حاجبها، يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 158.
(2) المصدر السابق: 374.
(3) المصدر السابق: 373.
(4) المصدر السابق: 162 ذو بقر: اسم موضع. السقط: الكثيب. طفل: ولد الظبية.
(5) ديوان العرجي: 39. سوافر: المرأة البرزة.
(6) المصدر السابق: 149.
(7) ديوان الأحوص: 113.
(8) ديوان ذي الرمة: 31.(1/213)
تبدَّتْ لنا كالشمسِ تحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ(1)
ويذكر خمارها الحريري الذي غطى شعرها المجعد:
وتهتزُّ ليلى العامريّةُ فوقها ... ولا ثَتْ بسبّ القزِّذا غُدُرٍ جَعْدا(2)
ويثني جرير على جمال صاحبته عندما سفرت أمامه، فقال:
إذا سفرت فمسفرُها جميلٌ ... ويُرضي العينَ مرجعُها اللثاما(3)
كما أنها تزداد حشمة وأسراً لقلوب العاشقين في حالة سفورها في رأيه:
لياليَ تسبي القلبَ من غير ريبةٍ ... إذا سفرَتْ عن واضحِ اللونِ أزهرا(4)
ويصورالفرزدق صاحبته فيراها وقد ضربت خمارها كالشمس، يقول:
دعتني إليها الشمسُ تحتَ خمارِها ... وجَعْدٌ تَثنى في الكثيب غدائرهُ(5)
أما في شعر الأخطل فقد كانت "تسارق الطرفَ من دون الحجاب"(6)
كما أنها لاينال سفورها:
إذا أعرضت بيضاء قال لها: اسفري ... وكانت حَصاناً لا يُنالُ سُفورُها(7)
وهي أملح الناس عيناً عندما تنتقب في شعر ابن ميادة:
يا أطيبَ الناسِ ريقاً عندَ هجعتِها ... وأملحَ الناسِ عيناً حينَ تنتقِبُ(8)
وأما القطامي فيشير إلى أنها كانت سافرة:
تناولت منها مُسْفراً أقبلت به ... عليَّ وهفّافَ الغَروب عذابا(9)
__________
(1) ديوان المجنون: 70.
(2) المصدر السابق: 119 لاثت: لفت وعصبت. السب: الخمار الغدر: الذوائب. الجعد: ضد المسترسل.
(3) ديوان جرير: 221.
(4) ديوان جرير: 469.
(5) ديوان الفرزدق: 279.
(6) ديوان الأخطل: 307.
(7) المصدر السابق: 714 الحصان العفيفة. أعرضت: امتنعت.
(8) شعر بن ميادة: 17.
(9) ديوان القطامي: 159- مسفراً: وجهاً مضيئاً. الهفاف: الثغر الرقيق. الغروب: حد الأسنان.(1/214)
وصور الشعراء ملابس المرأة الأموية، فإذا نحن أمام معرض زاخر بالألوان البهيجة، والأشكال الراقية، والأنواع الفاخرة، وكانت تتكون في الغالب "من سروال فضفاض، وقميص مشقوق من الرقبة عليه رداء قصير يلبس عادة في البرد، وإذا خرجت المرأة من بيتها ترتدي الحبرة، وهي من برود اليمن، وهي ملاءة طويلة تغطي جسمها"(1)ومن أشهر أسماء الملابس الخاصة بالنساء:
1- البرد: وهو من الأكسية غير المخيطة، وقد يصنع من الحرير، وبه خطوط عريضة كالأضلاع ويُعرف بالسيراء، وهو خاص بالنساء.
2- العصب: ضرب من الثياب يأتي من اليمن غالباً.
3- الدرع: ثوب تجوب المرأة وسطه، وتجعل له يدين وتخيطه.
4- الغلالة: ضرب من اللباس تحتاجه المرأة كما يحتاجه المحارب، وهو ثوب يلبس تحت الثياب"(2)
هذه هي الملابس الضرورية التي يحتاجها المرء أثناء خروجه أمام الناس أو في بيته أيام الرسول الكريم والعهد الإسلامي الأول. أما في العصر الأموي فيطلعنا الشعر على لائحة ملأى بأسماء الملابس، وأنواعها، وأقمشتها الراقية التي تجلب من أبعد البلدان، لتليق بالنساء المتحضرات اللواتي قلدن الأميرات الفارسيات وغيرهن فيما جلبنه، أو ساعدن على انتشاره في البيئة العربية زمن بني أمية.
__________
(1) الحضارة العربية الإسلامية: 160.
(2) حوليات كلية الآداب:اللباس في عصر الرسول 51-103.(1/215)
فكان الحرير أشهر ملابسهن يتموّج فوق أجساد الأميرات في البيت الأموي، وعارضات الجاه والثروة في الحجاز، وعلى زوجات الحكام والولاة في الأقاليم الأخرى، مع ملاحظة أن هذه الطبقة الثرية هي الطبقة التي دار جلّ الغزل الأموي في دائرتها. وكم شقي التجار في سبيل الحصول على الحرير لإرضاء ذوق المرأة العربية في هذا العصر ففي ديوان شاعر واحد مثل عمر بن أبي ربيعة يرد ذكر الحرير مرات متعددة ولا نجد حديثاً عن ملابس النساء، وأناقة مظهرهن إلا كان الحرير مصدر تلك الأناقة، وذاك الترتيب والفخامة، فبدت كل نساء عمر يرتدين الخز والقز والعصب والدمقس للتدليل على المكانة التي يتمتعن بها.
وتكاد هيئة المرأة التي يرسمها عمر تبدو كأنها في معرض للأقمشة الحريرية بألوانها البديعة المزركشة، فنكاد نشعر البهجة التي يضفيها هذا الوصف على النساء، فيزيد من بهائهن، وفخامة مظهرهن، ونسمعه يصف مجموعة من النساء مفصلاً القول في أنواع أثوابهن الحريرية المختلفة:
يَرْفُلْنَ في مطْرفاتِ السوسِ آونةً ... وفي العتيقِ من الدّيباجِ والقصبِ(1)
ويصف أيضاً ملابسهن الطويلة جداً، حتى يمكنهن أن يطأن عليها. وهي إشارة أخرى إلى الترف والنعيم المبالغ فيه، فطول ملابس المرأة حتى تصل إلى الأرض وتجرها خلفها: آية ثراء ما بعده ثراء. ولكننا نجد هؤلاء النسوة يستخدمن طول ملابسهن لغرض آخر أقل نزاهة كما يصرح عمر قائلاً:
يسحبْنَ خلفي ذيولَ الخزِّ آونةً ... وناعمَ العُصْبِ كيلا يُعرفَ الأثرُ(2)
ويؤكد وظيفة ملابسهن الطويلة مرة أخرى عندما يصور مشية النساء على الرمال، فتقوم الملابس بمحو أثارهما في الرمال الحاضنة:
يمشينَ في الخزِّ والمراحلِ أَنْ ... يَعْرِفَ آثارَهُنّ مُقْتفرُ(3)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 428 المطرف: الثوب. العتيق: الكريم. الديباج: الحرير.
(2) ديوان عمر: 116 العصب: نوع من الثياب تلف خيوطه أولاً ثم تحاك.
(3) المصدر السابق: 143.(1/216)
وتلذذ عمر في الإكثار من هذه الصورة حتى لكأن مجموعة النساء المرافقات لصاحبته مالهن من عمل سوى القيام بهذه المهمة، يقول:
وقمن يُعَفيّن أثارَنا ... بأكسية الخزِّ أن تُقْفَرا(1)
لقد أهان عمر الحرير وغيره من أفخر الثياب عندما جعلها، في أغلب الأحيان، تقوم بهذه الوظيفة يقول:
فنهضنا نمشي نُعفّي بروداً ... ومروطاً وهناً على الآثارِ(2)
ونستطيع التعرف في شعره على أعمار بعض الفتيات من خلال ما يرتدين، فهذه الصغيرة التي كان يحسبها مغفلة لم تزل في مئزر لأنها لم تبلغ بعد أن تلبس الدرع الذي أصبح عنوان أنوثة الفتيات يقول:
فقالت فتاة كنت أحْسِبُ أنها ... مغفَّلَةٌ في مئزرٍ لم تَدَرَّعِ(3)
ويشير أيضاً إلى أختي صاحبته اللتين لبستا برغم صغر سنهما الحرير الأخضر المزركش بألوان ورسوم شتى. وقد استرعت ملابسهن انتباهه وهو على ما هو فيه من ترقب وخوف وحذر في أحداث الرائية:
فقامت إليها حُرّتانِ عليهما ... كساءانِ من خَزٍّ دمقسٌ وأخضرُ
فقالت لها الصغرى سأُعْطيه مُطرفي ... ودرعي وهذا البُرْدَ إن كانَ يحَذرُ(4)
وهو لكثرة ما أشار إلى ما يرتدين يبدو -بلغة عصرنا- مندوب مبيعات خاصة بملابس النساء الحريرية، فكأنه يروّج لبضاعته بين النساء، لا يحول بينه وبين هذا الترويج أمر، فهو في ظلمة الليل المكفهّر يعدّد أنواع هذه الثياب، يقول:
فلمّا اكفهّر الليلُ قالت لُخرَّدٍ ... كواعبَ في ريطٍ وعَصْبٍ مُسهَّمِ(5)
أما هي فقد:
__________
(1) المصدر السابق: 175.
(2) المصدر السابق: 135. نعفي : نطمس.
(3) المصدر السابق: 184. لم تدرع: صفة لفتاة صغيرة السن.
(4) المصدر السابق: 99. المطرف: رداء من خزفية أعلام. الدرع: القميص.
(5) المصدر السابق: 201 الخريدة: اللؤلؤة التي لم تثقب. الريطة: الملاءة. العصب: ثباب مخططه.(1/217)
شَفَّ عنها مُحَقّقٌ جَنَدِيٌّ ... فهيَ كالشمسِ من خلالِ السحابِ(1)
وبدت مرة أخرى في أحلى حللها من الثياب اليمنية الجميلة:
وعليه الخزُّ والقزُّ ووشيُ الحبرات(2)
وربما ظهرت في ثياب العصب كأنها دينار(3)
وقبل أن نغادر المدن الحجازية، وعروض أزياء نسائها، لابد من الوقوف عند شعرائها الآخرين، لنشاهد معهم عروضهم الباقية. ففي نماذج عبيد الله بن قيس الرقيات، وفي نماذج العرجي، لم تتغير هيئة المرأة كثيراً عما شاهدناه عند عمر، بل تكاد تكون النموذج ذاته. إنها المرأة المترفة الثرية التي تختال في ملابس الحرير بأنواعه المتعددة الفاخرة. فامرأة عبيد الله تبدو وقد استهلكت الكثير من الأقمشة الحريرية إدلالاً بثرائها العريض، وبجسمها المكتنز، فعجز عنها المطرف الذي سعته سبعة أذرع، وآخر قد لفق طرفاه:
يَعْجِزُ المِطْرَفُ السباعيُّ عنها ... والإزار المفوّفُ المِلْفَافُ(4)
وهي أيضاً:
تعقد المئزرَ السُّخامَ من الخـ ... ز على حَقْوِ بادنٍ مِكسال(5)
وبلغ من شدة ثراء هذه السيدة وترفها أنها كانت تتقي الشمس بستائر من الحرير جلبت لها من العراق، فأي رفاه أكثر من هذا؟ يقول:
تتقي بالحرير من وَهج الشمس وخـ ... ز العراق والأستار(6)
أما العرجي فيذكر أن ملابسها قد جلبت من بلاد فارس التي تصنع فيها الثياب المعصفرة:
__________
(1) المصدر السابق: 416. محقق جندي: ثوب من الجند في اليمن وهو رقيق لا يخفي شيئاً.
(2) المصدر السابق: 388. الحبرات: ثباب يمنية.
(3) المصدر السابق: 120.
(4) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 41 المطرف: رداء من خز، السباعي: الذي سعته سبعة أزرع المفوف: الموشى. الملفاف: الذي لفق طرفاه.
(5) المصدر السابق 112. السخام: اللين. الحقو: معقد الأزار من الكشح.
(6) المصدر السابق 23(1/218)
مستشعرين ملاحفاً هرويّةً ... بالزعفرانِ صباغُها والعُصْفُرِ(1)
وصاحبته ترتدي الملابس الفضفاضة من الحرير والخز:
أماطت كساءَ الخزِّ عن حُرِّ وجهها ... وأَدْنَتْ على الخدّينِ بُرْدَاً مُهَلْهَلا(2)
ويصف ألوان ملابس مجموعة أخرى من النساء ونقوشها:
ولا تُظْهِرا بُرْد يكما وعليكما ... كساءان من خزٍ بنقش وأخضر(3)
ويصور عروة بن أذينة مجموعة من النساء وقد خرجن على رقبة من القوم، ثم يصف ملابسهن المُزهية كزهر الرياض، وقد زادتهن بهجة وبهاءً، يقول:
خرجنَ إلينا على رقبةٍ ... خروجَ السحابِ لأمطارِها
بزيّ جميلِ كزهرِ الرّيا ... ضِ أشرقَ زاهرُ نوارها(4)
ولم يكن عمر وأصحابه من شعراء الحجاز وحدهم الذين اهتموا بوصف ملابس النساء، وذكر أنواعها وأسمائها، والإشارة إلى جودتها، بل شركهم في ذلك عدد كبير من الشعراء اهتموا بهذا الجانب من هيئة المرأة، وأحبوا استكمال صورتها الجمالية. وبعيداً عن ترف الحجاز ورفاهية ذوق شعرائه نجد الفرزدق معنياً بملابس النساء، بل هو لم يكن أقل عناية بوصف ملابس المرأة التي يحب من شعراء المدن الحجازية. ولم تكن امرأة الفرزدق أقل فخامة وبهاءً أو أقل احتفاءً بالثياب الحريرية الفضفاضة الطويلة التي تجر على الأرض من نساء تلك المدن.
فنحن نرى زوجته حدراء ترتدي الحرير والخز فور استيقاظها، لأنها غير مضطرة للعمل، بل تحافظ على مظهرها وأناقتها فور نهوضها.
إذا انتبهت حدراءُ من نومةِ الضحى ... دعَتْ وعليها دِرْعُ خزِّ ومُطْرَفُ(5)
ويصف أيضاً ملابس نومها التي حيكت لها من الحرير الخالص، الغالي الثمن:
__________
(1) ديوان العرجي: 178 مستشعرين: لابسين. الملاحف ما يلتحف به. الهروية، نسبة إلى هراة بفارس تصنع فيها الثياب المعصفرة.
(2) المصدر السابق: 74
(3) المصدر السابق 91
(4) ديوان عروة بن أذينة 219
(5) ديوان الفرزدق 383(1/219)
لا توقدُ النارَ إلا أن تثقِّبَها ... بالعُودِ في مِفْضَلِ الخزّيّةِ الغالي(1)
ويميزها عن النساء العاملات اللواتي يرتدين الملاءات المخططة، بملابسها الأنيقة من البرود الرقيقة والمجاسد الحريرية.
وقامت تخشيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ رقيق ومُجْسَدِ
وليست من اللائي العدانُ مقيظُها ... يَرُحْنَ خفافاً في المُلاءِ المعضّدِ(2)
إنه يصف ثياب النساء من حوله، ويذكر البلدان التي أنتجت هذه الثياب الفاخرة، ويبالغ في جودة أنواع الأقمشة التي يرتدينها. ولم يكتف الفرزدق بتصوير ملابس المرأة الخارجية التي كانت من الحرير، بل يمدّ عنقه إلى ملابسهن الداخلية، فإذا هي كما يزعم من خزّ العراق الرقيق المخطط يقول:
لبسن الفِرَنْدَ الخسروانيّ دونه ... مشاعرُ من خزّ العراقِ المفوّفِ(3)
وهن أيضاً يتنقلن في الديباج والحرير كأنهن النوق المسمّنة التي لا ترسل للمراعي من شدة إيثارهم لها، بل يقدمون لها الطعام بأنفسهم:
إذا رُحْنَ في الدّيباجِ والخزُّ فوقهُ ... معاً مثل أبكارِ الهجانِ العلائفِ(4)
ويسمّى أنواع ملابسهن، ويصف هذه الملابس السابغة حتى إنهن ليطأنها من سبوغها، فيخشين عليها أن تتعفر بالتراب، يقول:
تراخى بهنَّ الليلُ يتبعنَ فاركاً ... يُضيءُ سناها سابريّاً مُزعْفَرَا
تَنعَّلْنَ أطرافَ الرّياطِ وواءَلَتْ ... مخافةَ سهلِ الأرضِ أن يتعفَّرا(5)
__________
(1) المصدر السابق: 421 أي أنها لا توقد النار للطبخ بل للتطيب. المفضل: ثوب النوم. الخزية: المصنوع من الحرير.
(2) المصدر السابق 139 العدان: موضع، الملاء المعضد: الثوب الواسع المخطط.
(3) المصدر السابق 384 الفرند الخسرواني: ضرب من الثياب. المشاعر: ما يلي البدن من الملابس المفوف: الرقيق الذي فيه خطوط بيض على الطول.
(4) ديوان الفرزدق 374 العلائف: الناقة التي لم ترسل للرعي
(5) المصدر السابق: 252 السابري: ثوب رقيق: الرياط: ثوب يشبه الملحفة. تنعلن: وطئن. واءلت: هربت.(1/220)
ويرى أن ملابس النساء الفضفاضة تضرم في نفسه نار الإغراء والإثارة:
فقلت إنّ الحواريات مَعْطبةٌ ... إذا تفتَّلْنَّ من تحت الجلابيب(1)
المرأة في شعر الفرزدق إذاً ثرية متحضرة، كثيرة العناية بملابسها وزينتها، يدخل الحرير في ملابسها الخارجية التي تظهر بها أمام الآخرين، ولا تكتفي بذلك بل إن ملابسها الداخلية، وملابس نومها من الحرير الخالص النقي، فأي رفاه هذا وأي ثراء؟.. ويصور جرير امرأته وهي ترفل بثوبها الحريري المخطط الذي يهان تحت قدميها، إذ لا يليق بها أن تطأ على الأرض ما لم تكن مفروشة بالحرير، ويفخر بذلك ويتباهى:
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ... على الأرض إلا نيرَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ(2)
ويشير مرة أخرى إلى نقوش ثوبها ورسومه الجميلة، يقول:
كأنّ المِرْطَ ذا الأنيار يُكسى ... إذا اتَّزرَتْ به عَقِداً ركاما(3)
واهتم الشعراء البدو بوصف ملابس النساء، وصوروا هيئة المرأة الأنيقة المترفة، فالعجاج يراها في ربطة حريرية طويلة فضفاضة جلبت لها من العراق:
خوداً تخالُ ريطَها المدمقسا ... وميسنانياً لها مميّسا
ألبس دعصاً بين ظهري أوعسا(4)
كما أنها تطأ على الحرير من شدة رفاهيتها وثرائها: "ركاضةٌ للبُرْدِ والمرُحّل"(5)
__________
(1) المصدر السابق 25: الحواريات: الحوارية الحضرية سميت بذلك لبياضها. الجلابيب: القميص الواسع أو الثوب.
(2) ديوان جرير 945 المرط: الإزار من خز مقلم. مرحل: فيه أعلام ورسوم تشبه الرحل.
(3) المصدر السابق 776 ذا الأنيار: أراد أنه من ديباج النير: الخطوط إذا اجتمعت ومعناها القصب.
(4) ديوان العجاج 190 المدمقس: الذي فيه حرير. ميسنانيا: نسبة إلى ميسان بلد في العراق. مميسا: أي طال حتى مال.
(5) المصدر السابق: 223 ألبس دعصاً: يريد كأن ثيابها على دعص الرمل. مرحل: عليها صور الرحل(1/221)
ويزعم المجنون أن الحرير العادي لا يلائم نساء البادية في الحجاز، فهو على رقته يدمي جلودهن، ولذا كن يرتدين بدلاً منه أرق أنواع الحرير ليكون خليقاً بجلودهن الناعمة البضة:
يُدمي الحريرُ جلودَهُنّ وإنما ... يُكسيّنَ من حُللِ الحرير رقاقَها(1)
وزها جسم ليلى وازداد حسناً بهذه الثياب الجميلة المشرقة، فتمنى لو أنه بعض ثيابها:
زها جسمُ ليلى في الثيابِ تنعُّماً ... فيا ليتني لو كنتُ بعضَ بُرودِها(2)
وهن أيضاً يتقين الشمس الحارة بأنواع فاخرة من الأقمشة الحريرية والمخملية، على حد زعم جميل:
إذا حميَتْ شمسُ النهار اتّقينَها ... بأكسيةِ الدّيباجِ والخزِّذي الخَمْلِ(3)
وزعم "كثير" أن ملابس النساء اللواتي يتحدث عنهن من أرقى أنواع الأقمشة وأغلاها ثمناً، فهي تجلب لهن من اليمن، يقول:
كسونَ الرّيْطَ ذا الهُدْبِ اليماني ... خصوراً فوقَ أعجازِ ثقالِ(4)
ويخص ثوب عزة ببعض التفصيل، فيبدو ثوبها مطرزاً برسوم مختلفة تزيد جمال جسدها الممتلئ.
من الهِيفِ لا تَخزى إذا الريحُ أَلصقَتْ ... على متنِها ذا الطُرّتين المنمنما(5)
ويتذكر درعها الذي أظهر أنوثتها المبكرة، ونضجها المثير:
إلى أن دَعَتْ بالدرعِ قبلَ لِداتها ... وعادت تُرى منهنَّ أبهى وأفخما(6)
ويصور درعها مرة أخرى، وقد ضاق عنها، وجار عليها بسبب امتلاء جسدها:
وغال فضولَ الدرعِ ذي العرضِ خَلْقُها ... وأتعبتِ الحِجْلينِ حتى تقصَّما(7)
__________
(1) ديوان المجنون 213
(2) المصدر السابق 108
(3) ديوان جميل 66
(4) ديوان: كثير 228
(5) المصدر السابق 331
(6) المصدر السابق 133
(7) المصدر السابق 133(1/222)
وأجمع الشعراء على اختلاف مشاربهم على أن ملابس النساء في البيئات العربية المختلفة قد كانت من أفخر الأقمشة التي يتصدرها الحرير والقز والديباج، والذي يجلب لهن من أماكن مختلفة من العالم من الهند والعراق وفارس وسواها. وتحولت المرأة إلى إعلان مرئي في العصر الأموي تصور مدى النعيم والدعة والتحضر في حياتها. وتحول مفهوم اللباس من ستر العورة، وطلب الراحة في الحركة وفي أثناء العمل ليصبح فائض رفاهية، وإرضاء تذوق، وإهلاك أموال، من أجل مسايرة الحضارة، والعبّ منها حتى تجاوزوا كل حدّ.
فنراهن في شعر المتوكل الليثي يتخذن للأمسيات ملابس خاصة من الحرير الذي يحاك على هيئة طويلة، فيضفو تحت أقدامهن:
نواعم يَتخّذْنَ لكل مُمْسَى ... مروطَ الخزّ والنقبَ النّعالا(1)
ويبدو يزيد بن مفرغ الحميري شديد الدهشة بأثوابهن الموشاة من الحرير والكتان الفاخر:
وبرودٌ مدّنراتٌ وقزٍّ ... وملاءٌ من أعتقِ الكتّان(2)
ويرقب أعشى همدان إحداهن منصرفة تتلوى في مجاسدها الرقيقة الفاتنة تحت المئزر:
إذا انصرفتْ وتلوّتْ بها ... رقاقُ المجاسدِ والمئزر(3)
ويلحظ عمرو بن لجأ التميمي مجاسد النساء الظاعنات وبرودهن الطويلة الجميلة:
غرُّ المحاجرِ قد لبسن مجاسداً ... بين الحمولِ تجرُّها وَبُرودا(4)
وترحل صاحبة محمد بن بشير وهي ترتدي البرود الرقيقة التي تزيدها حسناً وبهاءً:
ماذا إذا برزت غداة رحيلها ... م الحسن تحت رقاق تلك الأبرد(5)
ويذكر العديل بن الفرخ النساء الأنيقات في ملابس الخز والديباج، التي جيء بها من بلاد غريبة:
فقد أستبي البيضَ مثلَ الدُّمى ... عليهن خزٌّ فريد العجم(6)
__________
(1) ديوان المتوكل الليثي 155 النقب: ج نقبة ثوب كالإزار يجعل له حجزة مخيطة.
(2) ديوان يزيد بن مفرغ الحميري 234 ثوب مدنر: وشيه كالدينار. العتق: خيار كل شيء.
(3) الأغاني 5/150
(4) شعر عمرو بن لجأ: 68
(5) شعر محمد بن بشير 57
(6) شعراء أمويون 313(1/223)
وكان الأخطل قليل العناية بوصف ملابس النساء، فلا يكاد ثوبها الأبيض الرقيق يشد انتباهه حتى يتخلص منه إلى وصف جمالها:
إذا السابريُّ الحرُّ أخلصَ لونَها ... تبينت لا جيداً قصيراً ولا عُطْلا(1)
ولا بد أن نسأل بعد هذه الجولة في معارض الحرير الأثرية التي حفظها الشعر الأموي أهي الرؤية الفنية التي اقترحها الشعر في تصوره لما يجب أن تكون عليه المرأة من ترتيب وأناقة ورفاهية، لتستطيع أن تكون ملاذاً حقيقياً للرجل ينعم بين يديها ويسترخي في حلم جميل بعيداً عن متاعب الحياة ومشاكلها؟ أم أنها حقيقة جميع النساء في البيئة العربية كما رأيناهن في الشعر، في ملابس فاخرة تؤكد الرقي والنعيم والترف في المجتمع العربي زمن الأمويين؟
لقد كانت المرأة في رأي جميع الشعراء، في البيئات العربية المختلفة ترفل في ملابس حريرية فضفاضة طويلة تجرها تحت أقدامها. وقد وُظّف ذلك للإعلان عن الجاه والملك الواسع، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بمفاهيم القوة والمنعة في القبيلة والمجتمع. ولما كان الشاعر الوسيلة الإعلامية في مجتمعه كان لا بد من أن يشير إلى هذه الأمور ويعلن عنها تدفعه إلى ذلك رغبة في الحديث عن المرأة أو رغبة في إعلاء شأن القبيلة.
ولما كانت الملابس حاجة طبيعية لكل إنسان كان لا بد من أن تميز أصحاب الثراء بفخامتها ورقيها لإبراز وضعهم الاجتماعي، وكان لا بد أيضاً من أن يضاف إلى الملابس ما يزيد بهجتها وأثرها في القلوب، فكثرت الزينة والإضافات الجمالية عند النساء، وكان على الشعراء ملاحظة كل إضافة من حلي وعطور والإشارة إليها. وهو ما سأتحدث عنه في الصفحات التالية.
الحلي وبعض ضروب الزينة الأخرى:
__________
(1) ديوان الأخطل 543 السابري: ثوب رقيق، الحر: الأبيض. العطل: العاطل من الحلي.(1/224)
إن حرص المرأة على الحسن المصطنع أمر يكاد يكون طبيعة مركوزة في نفسها، فهو يزيد في جمالها وبهائها، ويمنحها قدراً من الثقة بالنفس والطمأنينة والرضا. ولذا كان حرص النساء الدائم على التجمل والتزين بوسائل مختلفة أمراً لا يكاد يفارقهن. وكانت وسائل الزينة الشائعة زمن الأمويين هي الكحل والخضاب وتعقيص الشعر وتضفيره.
وكانت النساء تحرص أشد الحرص على التحلي بأجمل المجوهرات من الأحجار الكريمة واللؤلؤ والذهب والفضة مما كان موجوداً في البيئة العربية ومما يجلب إليها من البلدان المختلفة. واختلفت حليها باختلاف أعضاء جسمها التي أرادت تزينها من كاحلها إلى أذنيها، فكانت الخلاخل والأقراط والشنوف والأساور بالإضافة إلى الأحزمة والأوشحة، وبعض ما تزين به الأخمرة من الفضيات والمذهبات والخرزات في موضع الجبين. وكان ترف الدولة وغناها عاملاً مساعداً على توفير أصناف كثيرة من الحلي التي استعملت استعمالات شتى، ففي الخزانة خبر عن حماد الراوية أنه قال: "وصلت باب هشام فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانها كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مبثوث في أواني الذهب يقلبّه بيده فتفوح رائحته، فسلمت عليه فرد السلام، واستدناني فدنوت ، فإذا جاريتان لم أر مثلهما في أذن كل واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان توقّدان"(1)
__________
(1) الخزانة 9/447.(1/225)
وكانت أول عربية تقرطت مارية والدة امرئ القيس، وسار ذكر قرطيها في العرب، وضرب المثل بقيمتهما الثمينة، وقيل إنهما قوّماً بأربعين ألف دينار، وكان فيهما درتان كبيض الحمام(1) ومن عهد مارية وأقراطها إلى المرأة في العصر الأموي كانت صناديق المجوهرات قد غصت بأنواع كثيرة من اللؤلؤ والياقوت والجواهر الكريمة، وأثقلت النساء ليس في آذانها وحسب بل في أماكن كثيرة من جسمها بأنواع من المجوهرات التي فاقت أقراط مارية. وكانت أقراطها من الدر أيضاً، وشبه في أذنيها كأنه بيض استقر في عش صغير كما رآه النابغة الشيباني:
وكأنّ الدرّ في أخراصِها ... بَيْضُ كحلاءَ أقرّتْهُ بعُش(2)
واستخدمت في أعلى أذنيها الشنوف، وكانت من الدر أيضاً، ويكرر النابغة الشيباني صورته في وصف شنوفها قائلاً:
عليها الدرُّ نيطَ لها شنوفاً ... كَبْيضِ ضئيلةٍ في جوفِ عُشِ(3)
ويذكر هدبة بن الخشرم تحليهن بالشنوف المثيرة الجميلة:
كشفن شنوفاً عن شنوفٍ وأعرضت ... خدودٌ ومالت بالفروعِ السوالفُ(4)
وينتبه ذو الرمة إلى أقراطها، ويصور حركتها واهتزازها على جانبي عنقها الطويل:
والقرط في حرة الذّفرى معلّقُهُ ... تباعدَ الحبلُ منه فَهْوَ يضطربُ(5)
وفي أقراط صاحبة العرجي ارتفاع وقصر بسبب طول عنقها:
أبصرت وجهاً لها في جيدهِ تلعٌ ... تحت العقودِ وفي القرطين تشميرُ(6)
ويكرر كثير الصورة، فيذكر ارتفاع قرطيها فوق خدها الأسيل:
من الشمّ مشرافٌ ينيف بقرطها ... أسيلٌ إذا ما قُلّد الَحْليَ واضحُ(7)
__________
(1) المصدر السابق: 4/386 خذه ولو بقرطي مارية".
(2) ديوان النابغة الشيباني 182 الأخراص: الأقراط.
(3) المصدر السابق 70. نيط: علق. الشنف ما يعلق في أعلى الأذن.
(4) شعر هدبة 116
(5) ديوان ذي الرمة 35 حرة الذفرى: موضع مجال القرط.
(6) ديوان العرجي 105
(7) ديوان كثير 183 مشراف: طويلة تامة. ينيف: يرتفع. الواضح: النقي.(1/226)
ونخفض بصرنا قليلاً عن أقراطها فتقع عيوننا على عنقها وصدرها، ونبهر من كثرة العقود والسلاسل والأحجار المتوهجة البراقة التي تستعملها مع المرجان والخرز واللؤلؤ، فتكاد تضئ الظلام على ما رآها الأخطل:
ومتّسقٍ كالنور من كل صِبْغة ... يُضيءُ الدجى بين الترائب والنحرِ
مهاة من اللائي إذا هِيَ زُيّنتْ ... تضيءُ دجى الظلماءِ كالقمرِ البدرِ(1)
وكان الأخطل كثير الاحتفال بحليها وزينتها، وهذا لم نلحظه في وصف ملابس النساء، على عكس الفرزدق الذي احتفى بملابسهن وتصويرها أكثر مما احتفى بحليهن ويتأمل الأخطل حليها المختلفة ويصفها قائلاً:
عليها من سموطِ الدّرِّ عقدٌ ... يزينُ الوجَه في سننِ العقاقِ(2)
وتبدو في حليها مثل التماثيل المزينة في دور العبادة، وتضفي على حليها من جمالها جمالاً، وتزيدها بهاءً:
حَلْيٌ يَشُبُّ بياضَ النحر واقدُهُ ... كما تَصوّرُ في الدير التماثيلُ(3)
ونراه ينزع حليها في موقف انفعالي آخر فيقول:
إذْ بتّ أنزِعُ حَلْيَها عبثاً ... بعد اعتناقٍ وتقبيلٍ وتجريدِ(4)
أما جرير فيكتفي بوصف حلي النساء من بعيد قائلاً:
حُلَّين بالمرجان فوق ذوائبِ ... والدرُّ زانَ عوارضاً ونُحورا(5)
وصاحبة عروة بن أذينة تتحلى بالمرجان والياقوت أيضاً:
مُقْنِعةً في اعتدالِ الخلق خرعبةً ... تكسو الترائبَ ياقوتاً ومرجانا(6)
وتتحلى صاحبة محمد بن بشير بعقود من الدر أيضاً:
كأنّ سموطَ الدُّرّ منها معلَّقٌ ... بجيداءَ في ضالٍ بوجرةَ أو سِدْرِ(7)
وزادت صاحبة المتوكل الليثي الياقوت فأصبح عقدها من الدر والياقوت معاً:
__________
(1) ديوان الأخطل 715
(2) المصدر السابق 78. سننه: مجراه. أراد حيث يجري، عقاق: ج عقيقة من الخرز الأحمر.
(3) المصدر السابق 56 يشب: يظهر جماله ويزيد حسنه.
(4) المصدر السابق 554
(5) نقائض جرير والأخطل 121.
(6) ديوان عروة بن أذينة 128 خرعبة: ناعمة دقيقة.
(7) شعر محمد بشير: 70(1/227)
ونحرٌ زانَهُ دُرٌّ حَليٌّ ... وياقوتٌ يُضَمّنُهُ النظاما(1)
واستعملت في زينتها أيضاً، كما يذكر المتوكل، عقداً آخر ترادفت فيه صنوف الجواهر فكان مزدوج النظم فيه لؤلؤ وجمان:
سبتني بجيدٍ لم يُعّطلْ ولَبّةٍ ... عليها ردافا لؤلؤٍ وجُمانِ(2)
وتنوعت الأحجار في عقد صاحبة أعشى همدان ما بين جوهر وشذر ودرَّ:
كأنّ مقلّدها إذ بدت ... به الدر والشذر والجوهر
مقلّدُ أَدماءَ نجديَّةٍ ... يعنّ لها شادنٌ أَحورُ(3)
وقد فصل بين اللؤلؤ والجواهر الأخرى بالذهب، فبدا عقدها في عيني النابغة الشيباني رائع الجمال:
ترى فوق الرقابِ لها سموطاً ... مع الياقوت فصّله الفريد(4)
ويتأمل العرجي أعناق النساء المزينة بالقلائد المنوعة، ويثني على زينتهن:
لهن وأعناق الظباء استعرنها ... إذا ما كَسَتْ لبّاتِهنّ القلائِدُ(5)
وتضيء الحلي صدرها فتبدو كالصباح المشرق الجميل:
كأنما الحليُ على نحرِها ... نجومُ فجرِ ساطعٍ أبلجِ(6)
ويشير ابن قيس الرقيات إلى زينة صاحبته التي اعتنت بها جواريها، فأخرجنها بأجمل زينة:
إن في الهودج المحفّف بالدّيـ ... باج ريماً مع الجواري ربيبا
صنعته أيدي الجواري وعلّقـ ... ن عليه زبرجداً مثقوبا(7)
وكان جمالها وحسنها السبب في إشعاع مجوهراتها وتوهجها، وليس العكس كما يزعم الأحوص:
وإذا الدرُّ زانَ حسنَ وجوهٍ ... كان للدُّرّ حُسْنُ وجهِك زَينا(8)
__________
(1) ديوان المتوكل الليثي 116
(2) المصدر السابق: 192
(3) الأغاني 5/149
(4) ديوان النابغة الشيباني 95. السموط: خيط النظم. الفريد: الشذر يفصل اللؤلؤ عن الجواهر الأخرى.
(5) ديوان العرجي 120
(6) المصدر السابق 18 أيلج: مضئ مشرق.
(7) ديوان عبيد بن قيس الرقيات: 107 الزبرجد: ليس بعربي
(8) ديوان الأحوص 225(1/228)
ولا ينسى الأحوص أن يثني على من صنعوا عقود النساء وزينتهن، ويذكر إجادتهم ومهارتهم الفائقة في صناعتها، ودقتهم الشديدة في إخراجها بأشكال جميلة رائعة فكأنها من توهجها جمر الغضا المتوقد:
يزينُ لبّتها دُرٌّ تكنَّفَهُ ... نُظّامُه فأجادوا السردَ إذ سردوا
درٌّ وشذرٌ وياقوتٌ يفصِّله ... كأنه إذ بدا جمرُ الغضا يَقِدُ(1)
وبدا عمر بن أبي ربيعة وكأنه يتلمس عقدها بيديه، فيعدد أحجاره، ويصفها بدقة وتفصيل شديدين: يقول:
والزعفران على ترائبها ... شرقٌ به اللبّاتُ والنّحرُ
وزبرجدٌ ومنَ الجمانِ به ... سلْسُ النظامِ كأنه جمرُ
وبدائدُ المرجانِ في قَرَنٍ ... والدرُّ والياقوتُ والشّذْرُ(2)
ويصور مجموعة أخرى من النساء مزينات بالزبرجد والياقوت، فكأنهن الشهب الساطعة:
ترى عليهن حليَ الدُّرِّ متسقاً ... ... مع الزبرجد والياقوت كالشهب(3)
ويذكر كيف وقع في شراك إحداهن بسبب ما تزين به جيدها من أنواع الجواهر الثمينة، وهو من هو في غرامه بالحضارة والتوق إلى المزيد منها:
إذ تستبيك بجيدِ آدمَ شادنٍ ... دُرٌّ على لبّاتِهِ وشذور(4)
ويعلن عن انبهاره وتأثره بزينتها مرة أخرى:
تعلّق هذا القلبُ للحبّ معلقا ... غزالاً تحلّى عِقْد دُرٍّ ويارقا(5)
إنه يلم بشؤون المرأة وزينتها، وكل ما يتعلق بها، ويعرض ما عرفته حياتهم من أسباب الزينة والتجمل، ويبيّن أثر ذلك كله في الجذب والترغيب.(6)
واستخدمت المرأة ضروباً أخرى من الزينة لذراعيها عرفت بالدماليج والأساور ما بين الزند والساعد. فيصور عمر زينة صاحبته التي توسّد ذراعها الذي يزينه دملج وسوار:
__________
(1) المصدر السابق: 91 تكنفه أحاطوا به يصف دقة عنايتهم به. الشذر: قطع الذهب يفصل بها اللؤلؤ عن الجوهر، الغضا: من أجود الوقود.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة 141
(3) المصدر السابق 428
(4) المصدر السابق: 25
(5) المصدر السابق 456، الترائب: عظام الصدر، الجمان: اللؤلؤ.
(6) ويكرر ذكر عقودها 211-480-158(1/229)
بتُ في نعمةٍ وباتَ وسادي ... معصماً بين دُملجٍ وَسِوارِ(1)
وها هي ذي صاحبته تتباهى أمامه بزينتها، وتعدّد ضروب هذه الزينة فكأنها تريد أن تنتزع إعجابه بها انتزاعاً، إنها نفسية الأنثى التي كان عمر بارعاً في تصويرها:
فَبَهَتْ بدُرّ حُليّها ووشاحها ... وبريمِها وسوارِها فالدُّملُجِ(2)
ويحمل عبيد الله من قيس الرقيات صاحبته ربة الدملج ما هو فيه من ضنى وشقاء:
فكدتُ أموتُ وقد حُمّلَتْ ... خطيئتَهُ ربّةُ الدّملجِ(3)
ويناديها العديل بن الفرخ، فيذكر حسنها الطبيعي وحسنها المجلوب معاً، ويقرن نداءه بهذا الدعاء الجميل "ألا يا أسلمي":
ألا يا اسلمي ذاتَ الدماليج والعقدِ ... وذاتَ الثنايا الغُرّ والفاحمِ الجعدِ(4)
ويرى الخطيم المحرزي في يدها الريّا سواراً ومعضداً:
كأن من البرديّ ريَّانَ ناعماً ... بحيث ترى منها سواراً ومعضدا(5)
ويعض سوارها يدها من شدة الامتلاء كما يقول أعشى همدان:
وعضّ السوارُ وجالَ الوشاحُ ... على عُكُنٍ خصرها مُضْمَرُ(6)
وغصت الأساور في يديها أيضاً في صورة للنابغة الشيباني:
لها معاصمُ غصّ اليارقاتُ بها ... وفي الخلاخيلِ خَلْقٌ غيرُ مَعْصوبِ(7)
ورآها "كثير" بضّة ممتلئة الساعدين لا يستطيع سواراها أن يتقدما إلى الكفين. قال:
وكظّت سِوارَيْها فلا يألوانِها ... لدن جاورا الكفين أن يتقدّما(8)
أما زينة صاحبة المجنون المكونة من أساور مختلفة الأنواع والأشكال مع حلي أخرى، فقد تبعثرت في الرمال وضاع معظمها، وجرت عليه الصّبا فبددَّته:
__________
(1) المصدر السابق 135، السوار: موضعه في الزند الدملج: في المعصم.
(2) المصدر السابق: 488
(3) ديوان عبيد الله 61ـ الدملج: حلي يلبس في المعصم.
(4) شعراء أمويون 295
(5) المصدر السابق: 262
(6) الأغاني 5/150
(7) ديوان النابغة الشيباني 166، اليارقات: جمع يارق وهو السوار، فارسي معرب.
(8) ديوان كثير 134، كظت: ملأت.(1/230)
فَمَنْ يَتَّبِعْ آثارنا في محلّنا ... يَجدْ يارقاً مُلقىً وقُلْباً معُضدا
ودُرّاً وياقوتاً أَرَغْنَ التقاطَهُ ... تداعَتْ به كفُّ الصَّبا فتبدَّدا(1)
واستخدمت النساء في زينة أيديهن أيضاً الحّناء الأحمر، تلوّنّ به رؤوس أصابعهن وأكفهن كما يصور الأخطل:
ومرمَّل الحنّاءِ يصبح قانياً ... كدم الذبيحِ بأروحٍ وبنانِ(2)
وفي شعر النابغة الشيباني خضبن بعض أصابعهن وتركن بعضها من غير خضاب:
تُبدي أكّفاً تصيدُ العاشقينَ بها ... منها خضيبٌ ومنها غيرٌ مخضوبِ(3)
وكان بنانها الذي لحظه يزيد بن معاوية عندما تلاقيا ملونا بلون العندم القاني بسبب تخضبه بالحناء:
ولمّا تلاقينا وجدتُ بنانَها ... مخضبّةً تحكي عُصارةَ عَنْدَمِ(4)
ويشير ذو الرمة إلى الحناء في أطراف أصابعها وإلى لونه القانيء في قوله:
أسيلة مُسْتَنّ الوشاحين قانئ ... بأطرافها الحناءُ في سَبط طَفْلِ(5)
وهن في شعر الراعي النميري حمر الأنامل أيضاً:
حتى أضاءَ سِراجٌ دونه بَقَرٌ ... حُمُرُ الأناملِ عينٌ طرفها ساجِ(6)
وهو ما يذكره عبيد الله بن قيس الرقيات في قوله:
يُكنانِ أبشاراً رقاقاً وأوجُهاً ... حِساناً وأطرافاً مُخَضَّبةٌ مُلْسَا(7)
كما لا يفوت عمر بن أبي ربيعة الإشارة إلى كفها المخضبّ وبنانها الرخص:
__________
(1) ديوان المجنون 121. اليارق والقلب نوعان من الأساور. أرغن: طلبن.
(2) نقائض جرير والأخطل 220، الأروح: ج راح وراح ج راحة
(3) ديوان النابغة الشيباني 165
(4) ديوان يزيد بن معاوية 48
(5) ديوان ذي الرمة 142، سبط: طويل يريد الأصابع، طفل: رطب، قانئ: شديد الحمرة، أسيلة مستن الوشاحين: أي حيث تجري الوشاحان.
(6) شعر الراعي النميري: 33، يعني نساء لأن العرب تكنى عن المرأة بالبقرة والنعجة وعين: ج عيناء وهي الواسعة العين.
(7) ديوان عبيد الله بن قيس 35(1/231)
ومَخَضَّبٌ رَخْصُ البنانِ كأنه ... عَنَمٌ ومنتفجُ النطاقِ وثيرُ(1)
والملاحظ هنا أن الشعراء اكتفوا بوصف زينة الأنامل المؤلفة من الحناء وغاب عن وصفهم ذكر الخواتم، التي كانت زينة شائعة في الأصابع، كما تشير بعض الأخبار التاريخية، إذ يقول صاحب الأغاني: "إن سكينة كانت ترمي الجمار فسقطت الحصاة من يدها، فرمت بخاتمها"(2).
وشغف الشعراء بتصوير العيون الكحيلة، وما تجمل به النساء عيونها من الإثمد الذي يعد أقدم صباغ استخدمته المرأة في تجميل نفسها بالإضافة إلى الخضاب فمهما بلغ أمر المرأة في إهمال زينتها، فإنها لا تظهر من غير كحل ولا خضاب كما يقول العرجي:
شُعثٍ تَعَطّلْنَ لم يعرين من كُحُلٍ ... ولا خضاب ولا غسل ولا دُهْن(3)
واستملح الشعراء عيون النساء الكحيلة التي تشبه عيون الظباء، واستمدوا من هذا التشبيه أكثر صورهم، فنسمع عمر بن أبي ربيعة يقول:
ظبيٌ تُزينه عُوارضُهُ والعينُ زيّن لَحْظَها كَحَلُهْ(4)
وعَيْنَي مهاةٍ في الخميلة مُطْفِلٍ ... مُكَحَّلةٍ تَبْغي مَراداً لجُؤذُرِ(5)
وأعاد عبيد الله بن قيس الرقيات القول في هذه الصورة:
جيد رئمٍ مُكَحّلٍ ... يرتعي بالذنائبِ(6)
ولم يبتعد الخطيم المحرزي عن هذا التشبيه أيضاً عندما قال:
لها مقلتا مكحولةٍ أمّ جؤذرٍ ... تراعي مهاً أضحى جميعاً وفرّدا(7)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة 125، العنم: ثمر أحمر، منتفج النطاق: أردافها ممتلئة.
(2) الأغاني 14/172.
(3) ديوان العرجي39، شعثاء: لم تتعهد شعرها، أي تركن التزين لطول سفرهن تعطلت إذا خلا جيدها من القلائد.
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة 366، العوارض: ج عارض صفة الخد، الكحل: أن يكون بالعين شبه الكحل خلقة
(5) المصدر السابق 104، المهاة: البقرة الوحشية، الخميلة: الشجر الملتف. المراد المكان الذي يذهب فيه ويجيء.
(6) ديوان عبيد الله بن قيس 28، الذنائب: موضع، الرئم: الظبي.
(7) شعراء أمويون 263(1/232)
وكذلك فعل الأخطل في صفة كحلها:
"غراءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضها" ... كأنها أحورُ العينينِ مكحولُ(1)
وكانت عيناها المكحلة السبب في شقاء كثير وعذابه:
رأيتُ وعيني قربتني لما أرى ... إليها وبعضُ العاشقين قتولُ
عيوناً جلاها الكحلُ أمَّا ضميرُها ... فعفٌ وأمّا طرفُها فجَهولُ(2)
ويراها المجنون أبهى من الشمس وأكثر جمالاً، لأن الشمس لا تملك عيونها الفاترة المكحلة:
ومن أين للشمسِ المنيرة بالضحى ... بمكحولةِ العينينِ في طرفِها فَتْرُ(3)
وهي لا تحتاج إلى استخدام الإثمد، كما يزعم المجنون، لأنها خلقت مكحلة بشكل طبيعي:
وترى مدامعَها تَرقْرَقُ مُقْلَةً ... سوداءَ ترغب عن سوادِ الإثمدِ(4)
وهو ما يزعمه ابن هرمة في صفة عينيها عندما يقول:
ومن عَينٍ مكحَّلةِ المآقي ... بلا كُحلٍ وَمِنْ كشحٍ هضيمٍ(5)
وتزينت النساء أيضاً بالخلاخل في أرجلهن، وطالما أغرم الشعراء بتصوير المرأة التي تملأ الخلخال ساقها، فتخرس صوته، وتمنعه من الاهتزاز والاضطراب، وكنا لاحظنا في المبحث الجمالي أن امتلاء الأرجل من أهم صفات الحسن والكمال، وكنى الشعراء عن امتلاء ساقيها بخلخالها الصامت، كما يقول الشمردل اليربوعي:
من كلّ ميّالةٍ خرسٍ خلاخلُها ... لأياً تقومُ وبعد اللأي تنتطقُ
غرثى الوشاحِ صموتِ الحجلِ ما انصرفت ... إلاّ تضوَّعَ منها العنبُر العبقُ(6)
ويشير جرير إلى هذا المعنى، فيقول:
تُشجي خلاخلُها خِدالٌ فَعْمةٌ ... وترى السِوار تزينه والمِعْضَدا(7)
__________
(1) ديوان الأخطل 56 الفرعاء: الطولة الشعر، العوارض: الثنايا. مفردها عارض، الأحور: الظبي فيه حور
(2) ديوان كثير 331
(3) ديوان المجنون 128
(4) المصدر السابق 117
(5) فنان البديع: ابن هرمة 162، الكشح: الخصر، الهضيم: الضامر الرقيق.
(6) شعراء أمويون 534 الحجل: الخلخال
(7) ديوان جرير 376، الساق الخدلة، الغليظة، الممتلئة تشجي: تملأ.(1/233)
وهو ما رآه أيضاً عمرو بن لجأ التميمي في ساقي صاحبته وذراعيها:
ترى الخلخالَ والدّملوجَ منها ... إذا ما أكرها نشبا وهابا(1)
ويلتفت "كثيّر" إلى موضع الخلخال، فيقول:
ويجعلن الخلاخلَ حين تلوى ... بأسوقِهِنَّ في قصَب خدالِ(2)
وينظر عبيد الله بن قيس الرقيات إلى ساقيها فيراهما حشو الخلخال صحة وامتلاءً
تخطو بخلخالينِ حشوهما ... ساقانِ مارَ عليهما اللحمُ(3)
ويصف ذو الرمة يدي حبيبته وساقيها، فيراها مبّرأة من كل عيب ليس فيها دقة أو اعوجاج، وقد زادها الخلخال والأساور حسناً:
وحليُ الشوى منها إذا حُلّيتْ به ... على قصباتٍ لاشخاتٍ ولا عُصْلِ(4)
ويكرر إعجابه بامتلائها في موضع الخلخال والأساور:
وفي العاجِ منها والدماليجِ والبُرى ... قناً مالئٌ للعينِ ريّانُ عبهرُ(5)
وأعجب الشعراء أيضاً بصوت الحلي ورنينها عندما تتحرك المرأة، فكان عامل إثارة إضافياً، يجذب إليها الأسماع والأنظار، وهي إشارة قديمة التفت إليها بعض شعراء الجاهلية(6) ثم دخلت في نسيج الشعر الأموي، وتعاورها الشعراء، فعندما حاول أبو دهبل الجمحي أن يسجل صوت حليها لم يستطع الابتعاد عن النموذج التراثي، فجاءت صورته شبيهة بصورة الأعشى:
كأنّ وساويسَ الحلّي إذا مشت ... وشارفهن اللؤلؤُ المتشرّجُ
__________
(1) شعر عمرو بن لجأ 48
(2) ديوان كثيّر: 228 الأسوق ج ساق. الخدل وهو العظيم الممتلئ
(3) ديوان عبيد الله بن قيس 55
(4) ديوان ذي الرمة 143: الشوى: اليدان والرجلان، لاشخات: لادقاق، ولا عصل: ولا معوجة، القصبات: العظام التي فيها مخ.
(5) المصدر السابق: 622، العاج: السوار، البرى: الخلاخل، القنا: القامة، ريان: ممتلئ، عبهر: حسنة الخلق عظيمة.
(6) الأعشى ق6 "تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل"(1/234)
تَخشُّشَ بالي عِشْرقٍ زجلَتُ بهِ ... يَمانّيةٌ هَبَّتْ من الليل سجسجُ(1)
وهو ما وقع فيه النابغة الشيباني أيضاً عندما قال:
وللحلي وسواسٌ عليها إذا مشت ... كما اهتزّ في ريحِ من الصيفِ عشرقُ(2)
ولكن العرجي اكتفى بذكر صوت حليها عندما تتحرك، قال:
لها وساوسُ تجري في تحركها ... ما لم يكن بين أثناءٍ من العكنِ(3)
وأضاف عبيد الله بن قيس الرقيات إلى صوت حليها أثر ذلك الصوت في حواسه:
تهوي يداها بشفِّ زينتها ... يُصّمني صوتُ حَلْيهِا الهزِجِ(4)
وتوسع العجاج في وصف صوت حليها، ونوع في الأصوات التي تصدر عنه، فسمع منها الوسوسة، وصوت الأجراس، وصوت الريح التي تداعب الحصاد اليابس، وتطرحة يمنة وشمالاً، يقول:
تسمعُ للحلي إذا ما وَسْوسا
والتّج في أَجيادِها وأَجرسا
زفزفةَ الريحِ الحصادَ اليُبَّسَا(5)
العطور:
كانت العطور ضرباً مهماً من ضروب الزينة، ومظهراً من مظاهر العزّ والثراء والنعيم، فلا غرابة إذا رأيناها تشغف المرأة في العصر الأموي، وتُميل قلبها. ولا غرابة إذا رأينا هذه المرأة تستكثر منها، وتغرق نفسها بقوارير العطور المختلفة التي تركت أثرها في قلوب الكثيرين.
وقد دأب الشعراء على تصوير المرأة معطرة يضوع العبير من أردانها وشَعْرها وفمها، فكأنها روضة متنقلة تنشر حولها أزكى الروائح والطيوب.
__________
(1) ديوان أبي دهبل: 57، العشرق: شجر ناعم تصوت به الريح، سجسج: باردة معتدلة.
(2) ديوان النابغة الشيباني 43
(3) ديوان العرجي 40
(4) ديوان عبيد الله بن قيس 78، تشف: تكشف.
(5) ديوان العجاج 191- التج: صار له صوت. أجراسا: صوت الأجراس، الزفزفة، صوت الريح في الحصاد إذا هاجت به الريح طرحته وطردته.(1/235)
وكان عمر بن أبي ربيعة من أبرز الشعراء الذين صوروا المرأة عطرة فواحة، بل مبالغة في عطورها، وفي كل أمورها، وذلك بسبب حضريته وترفه وإطلاعه على كل ما تعرف الحياة الحضرية آنذاك من عطر وزهر ونبات(1). وها هو ذا يهتدي إلى خباء "نُعم" في ظلمة الليل، تهديه إليه ريّاها الفّواحة التي طالما تنسّمها من قبل، يقول:
فدلّ عليها القلبَ ريَّا عَرَفْتُها ... لها وهوى النفسِ الذي كادَ يظهرُ(2)
وبها نفسها يهنئ أهل العامرية، لأنها مثال النظافة والجاذبية والإثارة بسبب ما يفوح من عبيرها الذي لا يفارق ذاكرته:
هنيئاً لأهلِ العامريّة نشـ ... رها اللذيذُ وريّاها الذي أتذكّرُ(3)
ويلذ لعمر أن يستعرض أنواع عطورها، فكأنه يؤكد معرفته بأمور النساء وعطورهن، وما يستخدمن من أساليب الزينة، وهو في الوقت نفسه -يبرز مكانتها وعلو شأنها، ويدل على ثرائها وعيشها الخفيض، فهذه إحداهن تستخدم العنبر المسحوق مع القرنفل:
والعنبر المسحوق خالطَه ... وقرنْفُلٌ يأتي به النَشْرُ(4)
وهذه أخرى تستخدم المسك مع العنبر:
خَوْدٌ يفوحُ المسك من ... أردانِها والعنبرُ(5)
وهذه ثالثة تتطيب باليلنجوج والقرنفل والعنبر:
يفوحُ القرنْفُلُ من جيبها ... وريحُ اليلنجوج والعنبر(6)
وتلك رابعة تستخدم المسك والعنبر والكافور:
وتضّوع المسكُ الذكيُّ وعنبرٌ ... من جيبها قد شابَهُ كافورُ(7)
وخامسة تبخر نفسها بعود بخور بالإضافة إلى المسك، فيرتاع من ريحها النفاذة ويستيقظ من نومه:
لم يَرُعْني بعدَ أخذيَ هجعةً ... غيرُ ريح المسكِ منها والقُطُرْ(8)
__________
(1) تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام 483
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة 96
(3) المصدر السابق 101
(4) المصدر السابق 157
(5) ديوان عمر بن أبي ربيعة 171
(6) المصدر السابق 173
(7) المصدر السابق 130
(8) المصدر السابق 138 القطر: العود الذي تتبخر به(1/236)
ولا يكتفي عمر بما أضفاه على حضور المرأة من عبق وعبير، بل يضيف ذلك كله إلى طيفها الجميل الذي زاره، فخاله بائع عطور قد فاحت روائحه معلنة عن نفسها:
لما ألمّت بأصحابي وقد هَجَعُوا ... حَسبِتُ وَسْطَ رحال القوم عطّارا(1)
وفي زيارة ثانية لطيفها العطر يحدد أسماء معينة من العطور التي تداخلت روائحها واختلطت، وكانت السبب في تعلقه بها:
من طيبِ نشرِ التي تامَتْكَ إذ طرقت ... ونفحة المسكِ والكافورِ إذ ثارا(2)
وتكررت صفة أخرى في شعر عمر تعبر عن المرأة العطرة كقوله "خريدة معطار" مرات كثيرة(3).
ويخالف العرجي صاحبه عمر في ذكر طيوب صاحبته وعبيرها، فيؤكد أن طينتها خلقت معطرة، فهي لا تحتاج إلى أن تضيف إلى نفسها أي شيء آخر.
وما تَطَيَّتُ إلا أَنَّ طِينتَها ... من عنبرٍ خُلِقَتْ من أطيبِ الطينِ(4)
وهي في رأي الأحوص التي تمنح الطيوب طيبها، وتنشر العبير الطبيعي فيها:
وتزيدينَ أطيبَ الطيبِ طيباً ... أنْ تمسِّيه أينَ مثلُكِ أينا(5)
كما أنها تنضح المسك وريح الخزامى، فتفوح حولها أزكى العطور:
كأن زكيَّ المسكِ منها وقد بدتْ ... وريحَ الخزامى عرفُه ينضحُ الندا(6)
وتحولت إلى وعاء الطيب نفسه في تشبيه لعبيد الله بن قيس الرقيات. يقول:
قرشية عَبِق العبيرُ بها ... عَبَقَ العبيرِ بعاجةِ الحُقّ(7)
ويقترب من هذه الصورة الحارث بن خالد المخزومي، فيقول:
__________
(1) المصدر السابق: 121
(2) المصدر السابق 122 تامتك: استعبدتك: نفحة المسك ريحه.
(3) تتكرر في ص132-134-11-125-187-270-292-350-357-373-390
(4) ديوان العرجي 14
(5) ديوان الأحوص 225
(6) المصدر السابق: 98 الخزامى: عشبة طويلة العيدان صغيرة الورق حمراء الزهر طيبة الريح، العرف: الريح الطيبة كانت أو خبيثة، وأكثر استعماله في الريح الطيبة.
(7) ديوان عبيد الله بن قيس 31(1/237)
أتْرُجَةٌ عَبِقَ العبيرُ بها ... عَبَقَ الدِّهانِ بجانبِ الحُقِّ(1)
وهي في أكثر الأوقات التي تكون النساء فيها بعيدة عن الزينة والتجمل تكون معطرة فوّاحة في زعم الحارث بن خالد أيضاً:
وكأنَّ غاليةً تُباشرُها ... تحت الثياب إذا صفا النّجمُ(2)
ويذكر أبو دهبل الجمحي عطور صاحبته، ويعدد بعض أنواعها، فتبدو وقد اختلطت بأنواع أخرى من البخور، فمنها ما تستعمله لنفسها، ومنها ما تستعمله لبيتها:
تجعلُ المسكَ واليلنجوجَ والندّ ... صلاءً لها على الكانونِ(3)
وتكثر في أشعار العذريين الإشارة إلى طيوب محبوباتهم، وروائحهن العطرة، ويربط هؤلاء العشاق بين عطور هؤلاء الحبيبات ومشاهدة الطبيعة الجميلة من رياض وحدائق مزهرة يبللها الندى، فيزيد من انتشار عبيرها، ويصبح أطيب وأزكى وكان كثيّر مفتوناً بروائح حبيبته، فهي تعطرّ الحيّ الذي تمرّ به، ويدلّ عليها عطرها النّمام، يقول:
تأرَّجَ الحيُّ إذْ مَّرتْ بُظعْنِهمُ ... ليلى ونمَّ عليها العنبرُ العَبِقُ(4)
وكان يتنسّم عطورها في ريح الصَّبا الندية التي تأتيه كل ليلة:
يجيءُ بريّاها الصّبا كلّ ليلةٍ ... وتجمعُنا الأحلامُ في كلّ مرقد(5)
ويصفها وقد عطّرت أصداغها، فتضوع منه العبق "وللعبير على أصداغها عبق"(6)
ويذكر طريقة بعض النساء في استخدام العطور، فهن يدلكنها بأيديهن، ويذبنها في الماء ثم يدّهن بها:
__________
(1) ديوان الحارث بن خالد: 76 الحق: وعاء الطيب.
(2) المصدر السابق 91- الغالية: ضرب من الطيب. تباشرها: تجملها وتحسنها. صفا النجم: مال إلى الغروب.
(3) ديوان أبي دهبل 70- اليلنجوج: عود البخور، الند، عود يتبخر به، الكانون: الموقد.
(4) ديوان كثيّر: 466
(5) المصدر السابق: 433
(6) المصدر السابق 466(1/238)
يباشرن فأرَ المسكِ في كلّ مهجعٍ ... ويُشْرِقُ جاديٌّ بهنَّ مفيد(1)
وأكثر ما بدا احتفال كثيّر بعطور عزة في هذه الصورة المطولة التي يعقد فيها مقارنة بين هذه الحديقة المزهرة الندية، الغنية بالأعشاب والنباتات المختلفة، وبين بخور عزة وعطورها. على نحو يذكّرنا تذكيراً قوياً بالأعشى في حديثه عن طيب رائحة "هريرة" في قصيدته المعلّقة، يقول:
فما روضةٌ بالحَزْنِ طيبةُ الثرى ... يمجُّ الندى جثجاثُها وعرارُها
بمنخرق من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطّارةٌ وتجَارُها
أفيد عليها المسكُ حتى كأنها ... لطيمةُ داري تفتق فارُها
بأطيبَ من أردانِ عَزّة مَوْهناً ... وقد أُوقدِتْ بالمندلِ الرطبِ نارُها(2)
أما جميل فلم يتسع في صورته اتساع "كثيّر" بل اكتفى بصورة عذبة متقاربة الأطراف، فزعم أن "أم حسين" في طيبها روضة ذات حنوة وخزامى، هطل عليها مطر الربيع، ففاحت روائحها المثيرة:
يا خليليّ إن أُمّ حسين ... حين يدنو الضجيج من عِلَلِهْ
روضةٌ ذات حنوةٍ وخزامى ... جادَ فيها الربيعُ من سَبَلِهْ(3)
ويؤكد اختلاط روائحها بروائح الطبيعة الساحرة، وأكثر ما ينتشر طيبها ويحس به عندما تستيقظ من نومها، فيشعر كأنها وعاء العطر ذاته:
__________
(1) المصدر السابق: 195- الجادي الزعفران، مفيد: اسم مفعول بمعنى فاد أي داف، فادت المرأة الطيب دلكته ليذوب بالماء.
(2) ديوان كثير: 429 الحزن: الموضع الغليظ، الجثجاث والعرار: نوعان من النباتات طيبا الرائحة، فالجثجاث ريحانة برية من أحرار البقل، والعرار هو البهار البري. منخرق: متسع، يريد موضعاً تنتشر فيه هذه الرائحة. أفيد: دق ونشر، اللطيمة: المسك، الداري: منسوب إلى دارين موضع يرد إليه المسك على ساحل الخليج. تفتق: ذاع وانتشر. فأرة المسك: نافجته بأطيب: متعلق بقوله فما روضة موهناً: بعد هدء الليل. المندل: العود.
(3) ديوان جمييل 69 حنوة: نبات طيب الرائحة والخزامى أيضاً. السبل: المطر.(1/239)
كأن خُزامى عالجٍ في ثيابِها ... بُعيدَ الكرى أو فأْرَمسكِ تُذَبّحُ(1)
ولم يكن العطر في ثيابها وحسب، بل فاحت العطور وعبق العبير من ذراعيها وأكمامها:
كأنّ فتيتَ المسكِ خالطَ نشرَها ... تُغَلُّ به أردانُها والمرافقُ(2)
واختلطت روائح الطبيعة ونسائم الصباح العليلة بعطور صاحبة الصمة القشيري أيضاً، فبات يتنفس المسك ممزوجاً بالعنبر والخزامى:
إذا ما أتتنا الريحُ من نحو أرضكمْ ... أتتنا بريّاكم فطابَ هُبُوْبُها
أتتنا بريح المسكِ خالطَ عنبراً ... وريح الخزامى باكرتها جنوبُها(3)
ويشير مجنون ليلى إلى أن حبيبته كانت تطيّب شعرها، فتهب منه روائح العنبر مع الورد والريحان إذا حرّك المدرى ضفائره، يقول:
إذا حرَك المدرى ضفائَرهُ العلا ... مَجَجْنَ ندى الريحانِ والعنبرَ الوردا(4)
وكانت تطيب صدرها أيضاً على نحو ما يظهر في قوله:
وإني لمشتاقٌ إلى ريح جيبِها ... كما اشتاقَ إدريسٌ إلى جَنَّةِ الخُلدِ(5)
واقترب جرير من معاني العذريين كثيراً، عندما ذكر طيوب المرأة وعطورها، فمزج بين الطبيعة والمرأة قائلاً:
لها مثلُ لونِ البدرِ في ليلةِ الدجى ... وريحِ الخزامى في دماثِ مُسيّلِ(6)
وكان ينسى همومه إلى جانبها، ويذوق جمال الحياة ولذتها لما تثير في نفسه من الإحساس بالانتعاش والجمال:
تستافُ بالعنبر الهنديِّ قاطعةً ... هَمّ الضجيعِ فلا دنيا كدنيانا
واستُحِسن للراعي النميري قوله في طيب المرأة:
وما مزنةٌ جادَتْ فأسبلَ ودقُها ... على روضةٍ ريحانُها قد تخضّدا
__________
(1) المصدر السابق: 93 عالج: موضع كثير الرمال. فأر المسك: وعاء المسك.
(2) المصدر السابق: 55- تغل: تدخل تحت الثياب. الأردان الأكمال: المرافق: السواعد
(3) ديوان الصمة 31 المسك والعنبر: نوعان من الطيب. الخزامى: نبت طيب الرائحة.
(4) ديوان المجنون 119- العلا: العالية: المدرى: المشط: مججن: امتصصن أو نشرن
(5) المصدر السابق 115
(6) المصدر السابق: 161- تستاف: أصل السوف الشم(1/240)
كأن تجارَ الهندِ حلُّوا رِحالَهم ... عليها طروقاً ثم أضْحَوا بها الغدَا
بأطيبَ من ثوبينِ تأوي إليهما ... سعادُ إذا نجمُ السِّماكين عَرّدا(1)
وكانت هذه الصورة قد تسربت إلى أذهان الأمويين فيما تسرب إليهم من الشعر الجاهلي وتصوراته كما ذكرت، فها هو ذا القطامي أيضاً يقلب النظر فيها، ويحاول إضافة عناصر جديدة إليها، ولكنه -على الرغم مما يفعل- يظلّ مشدوداً إليها بوثاق، يقول:
وما ريحُ روضٍ ذي أقاحٍ وحَنْوةٍ ... وذي نَفَلٍ من قُلَّةِ الحّزن عازبِ
سقته سماءٌ ذاتُ ظلٍّ فنقعت ... نطافاً ولّما يأتِ سيلُ المذانبِ
بأطيب من ليلى إذا ما تمايلت ... من الليل وَسْنَى جانباً بعد جانب(2)
ويشير ابن ميادة إلى رائحة صاحبته الطيبة، فهي تضوع شذا طيباً في كل وقت ويقرنها في طيب عطرها بالرياحين، يقول:
ولكنها ريحانةٌ طابَ نَشْرُها ... وردّت عليها بالضحى والأصائل(3)
ويؤكد مبالغتها في عطورها، فكأنها وعاء المسك ذاته، أو كأنها تاجر العطور:
فبتنا كأنّا بيننا لطميّةً ... من المسكِ أو داريّةً وعِيابَها(4)
وتكاد الأنوف ترعف من كثرة ما تعطرت النساء بأنواع الطيب المختلفة في شعر هدبة بن الخشرم:
تَضَمَّخْنَ بالجاديِّ حتى كأنما ... الأنوفُ إذا استعرضْتهنَّ رواعفُ(5)
ويرى النابغة الجعدي حبيبته معطرّة في أوقاتها وأحوالها جميعاً: نائمة أو مستيقظة، مزينة أو غير مزينة، يقول:
__________
(1) ديوان الراعي النميري 58
(2) ديوان القطامي 44- الحنوة نبات طيب الريح. المذانب: المسايل.
(3) شعر ابن ميادة 86
(4) المصدر السابق: 22 اللطمية: العنبرة لطمت بالمسك فتنت به. الدراية: نسبة إلى دارين بلدة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند. العياب: وعاء من أدم توضع فيه الثياب.
(5) ديوان هدبة: 116- الجادي: الزعفران(1/241)
طيّبة النشرِ والبُداهةِ ... والعلاتِ عند الرقاد والنسم(1)
ويعدد النابغة الشيباني بعض أنواع عطورها تعداداً لا يخلو من المباهاة والإحساس بالرضا:
وقد عَبِقَ العبيرُ بها ومِسْكٌ ... يخالطُهُ من الهنديِّ عُوْدُ(2)
ويزعم -في رضا عميق وإحساس بالتميّز -أن جلود هؤلاء النساء اللواتي يتحدث عنهن مصفرة ناعمة مُلس من كثرة استعمال الطيوب والعطور. يقول:
تكسو الجلودَ عبيراً لونُها شرِقٌ ... فكلُّ أَبشارِها مصفّرةٌ مُلُسُ(3)
هذا هو الحسن المصطنع كما تصوره شعراء هذا العصر وصوّروه، وهو حسن لا يكاد ينفكّ عن الجمال الطبيعي أو يفارقه، فهو صنوه وشقيقه. وهؤلاء هم شعراء هذا العصر في المدن حيث يتفيّأ الناس ظلال الحضارة والنعيم والترف، وفي البادية حيث ينهمر الضوء، وتكون القائظة، فتتقلص ظلال الحضارة، ويعز النعيم، وينأى الترف. ولكنهم جميعاً تشابهت مزاعمهم على الرغم من الفروق الاجتماعية الضخمة في الواقع الاجتماعي. فكلهم صوّروا حبيباتهم صوراً تضج بالفتنة، وتتوهج بضروب الزينة من ملابس وحلي وعطور وخضاب وغيرها فكأننا في معرض من معارض الأناقة، أو في مسابقة من مسابقات الجمال؟؟ ولست أريد بهذا القول أن أزعم أن هؤلاء الشعراء تساووا فيما صوّروه وعرضوه، فهذا زعم لا يصحّ ولا يستقيم، فقد استكثر عمر بن أبي ربيعة من ضروب الزينة وكميتها حتى فاق الشعراء جميعاً، ثم تبعه شعراء المدن الآخرون، وجاء بعدهم بقية الشعراء، ولكنني أريد بقولي السابق أن هؤلاء الشعراء تساووا في "فكرة الزينة أو "مفهومها" على الرغم من اختلافهم في كمياتها- بعبارة أدق وأوجز: لقد اتفقوا في مفهوم "الكيف"، واختلفوا في أمر "الكم".
__________
(1) ديوان النابغة الجعدي: 150- النشر: النفس والرائحة. البداهة: أول كل شيء. العلات: على كل حال على غير صنعة
(2) ديوان النابغة الشيباني 95
(3) المصدر السابق 79(1/242)
وثمة ملاحظة أخرى على حديث هؤلاء الشعراء، وهي ملاحظة تستحق الاهتمام في نظري، فقد أسرف شعراء الحضر بالحديث عن عطور النساء، واكتفوا بما يضوع من شذاها الزكي، أما الشعراء الآخرون فقد قرنوا الحديث عن هذه العطور، وعن روائح حبيباتهم الزكية بالحديث عن الرياض وحنوتها وأقحوانها وما يصيبها من مطر أو ندى، فكانت روائح تلك الرياض غبّ المطر أو الندى أجمل وأطيب وأكثر دواماً.
وعلى الرغم مما تقدّم فإن الشك ما يزال يخامرني في أمر هؤلاء النساء، فأنا أظن أنّ امرأة تملك كل هذا الملك، وتصدر عن كل هذا الذوق في زينتها وأناقتها وحركتها، إن هي إلا صورة مثالية أراد الشعراء تجسيدها وإضفاءها على الواقع الحياتي ليكون أجمل وأحلى.
فالمرأة التي التقيناها في شعر بعض شعراء البدو كانت ترفل بالحرير، وتطأ ثوبها الطويل وتضمخ بالعطر، وتثقل حركتها بسبب ما تحمل من مجوهرات نفيسة، ويتوافر لها من يقوم على خدمتها وتجميلها وتدليلها. وهي ذاتها التي نراها في شعر الهجاء حافية شقية بائسة تسابق الضوء للقيام بأعمالها، تجمع الدرنات وبعض النباتات التي تصلح للطعام، وتعتني بالماشية وتقوم بحلبها، وتفوح منها أخبث الروائح وأنتنها بسبب إنهاكها في العمل وتعرقها. فهل الواقع المرّ هو الذي جعل الشعراء يعادلونه بصور مخيلة تضفي على وجودهم بعض الراحة والهناء؟ أم أن حب أبناء القبائل ضاع في جوف الزمن، وطوته رمال الصحراء، ولم يبق لنا منه إلاّ حب الأثرياء؟ من يدري؟ ضراوة الواقع -في ظني- هي السبب.(1/243)
ولكن الأمر يختلف بعض الاختلاف حين نتحدث عن صورة المرأة في شعر المدن الحجازية التي توافر لها النعيم والرفاهية والترف، فإن صورتها في الشعر لا تفارق صورتها في الواقع الاجتماعي مفارقة كبيرة. ولأقل مثل ذلك في الصورة التي رسمها الشعراء لسيدات الأسرة الحاكمة. ولكن ذلك كله لا يعني أننا نجد مطابقة بين الصورة الواقعية والصورة الشعرية للمرأة، فقد تدخل الخيال الفني، ومسّ بناره السحرية الصورة الواقعية، فازدادت ألقاً وتوهّجاً وفتنة، وبدت كل امرأة في شعر هؤلاء الشعراء في زي أميرة ساحرة تمتلك كل ما يبهر العين في ملابسها وحليّها، وكل ما ينعش الروح في عطورها، وما يأسر القلب بدلالها ومرحها، وكل ما يسبي العقول بأخلاقها وجمالها.
وحاولت هي في واقعها بعيداً عن الخيال الفني أن تلفت الرجل العربي إليها، وتجذبه من أحضان الجواري وفنونهن، في وقت أصبحت فيه منسية بين جدران القصور الفسيحة، لا يمكن النظر إليها لأنها تكافئ الشمس منزلة وعلو شأن.
ولما كان الشاعر صوت مجتمعة، حمّل نفسه مسؤولية وضع المرأة العربية وما صارت إليه، وجعل من شعره وسيلة إعلان تجذب الأنظار إليها ويمكن أن تنقذها مما هي فيه.
ولهذا كله يمكن القول: إن صورة المرأة في الشعر الأموي مؤهلة وصالحة لحمل دلالات تجاوز واقعها الفردي، وتتصل بالواقع الاجتماعي، ولا يمكن الكشف عن هذه الدلالات إلا إذا فسّرنا الشعر في ضوء التفسير الحضاري العام للعصر، وهذا ما حاولته في فصل "المرأة والمجتمع" وفي مواطن متفرقة من هذا البحث.
( ... ( ... (
الباب الثالث
المرأة في موضوعات الشعر الأموي
ومعانيه وأخيلته
? الفصل الأول ... : المرأة وموضوعات الشعر الأموي
? الفصل الثاني ... : المرأة والمعاني في الشعر الأموي
? الفصل الثالث ... : المرأة والصورة الفنية
( ... (
الفصل الأول
المرأة وموضوعات الشعر الأموي
1-المرأة في الشعر السياسي:
أ-شعر الزبيريين
ب- شعر الخوارج
ت- شعر الشيعة
2-المرأة في شعر المديح(1/244)
3-المرأة في شعر الهجاء والنقائض
4-المرأة في شعر الرثاء
5-المرأة في شعر الحب:
أ- القصصي
-ب- التحليلي
( ... (
استمرت موضوعات الشعر العربي التقليدية تثبت وجودها وترسخ معالمها في العصر الأموي، مع بعض الإضافات الجديدة التي استمدتها من روح هذا العصر وثقافته وأحداثه، والتي أكثر الباحثون المعاصرون من الحديث عنها حديثاً مقتضباً حيناً ومبسوطاً أكثر الأحيان، وبرزت ظاهرة "التخصص" في الشعر الأموي على نحو ما لاحظ الباحثون، فقد توافرت في كل بيئة من بيئات هذا الشعر الشروط الموضوعية الملائمة لازدهار الموضوع الشعري الذي ازدهر فيها(1) فازدهر شعر الحب العذري في بادية الحجاز ونجد، وازدهر الغزل الحضري في المدن الحجازية، وكثر المدح في الشام وتدفق عليها من كل صوب، وتطور شعر الهجاء والنقائض تطوراً واضحاً في العراق، وكانت المعارضة السياسية في العراق عاملاً مهماً في ازدهار الشعر السياسي في تلك البيئة، كما كانت عاملاً مهماً في نشاط شعر المدح الذي قيل في الأمويين.
وباختصار: لقد واكب الشعر الأموي حركة المجتمع وعبّر عنها، وشارك في توجيهها في كثير من الأحيان. وإذا كان هذا الشعر قد ارتبط بالحياة هذا الارتباط الوثيق، فقد يكون أمراً مشروعاً أن ننظر فيه لنستجلي صورة المرأة في ذلك العصر، ونتبين حقيقة مكانتها مع ملاحظة المرأة في موضوعات الشعر المختلفة، فأرصد صورتها في الشعر السياسي:
شعر الزبيريين والخوارج والشيعة، ثم أتتبعها في شعر المديح وشعر النقائض وشعر الرثاء وشعر الحب.
1-في الشعر السياسي:
__________
(1) انظر على سبيل المثال كتاب د/ خليف الشعر الأموي دراسة في البيئات وكتاب د/ فتوح في الشعر الأموي وكتابي د/ شوقي ضيف العصر الإسلامي والتطور والتجديد.(1/245)
أستطيع أن أقول إن قضية الخلافة تعد عنواناً كبيراً لهذه المرحلة من تاريخنا، فقد انقسم فيها المجتمع شيعاً وأحزاباً متخاصمة متناحرة حول نظرية الحكم في الإسلام، أو حول أحقية كل منها بخلافة المسلمين. وتحوّل كل طرف إلى داعية لنفسه يرى فيها مقومات خاصة يصلح بها لقيادة المسلمين، وينكر على غيره ادعاء هذا الحق.
ولم يقتصر الأمر على الخلاف النظري وما يتبعه من جدل وحوار، بل جاوزه إلى الحرب، فإذا كل حزب يريد أن ينتزع بالقول والفعل أحقيته بالخلافة من الآخرين، وهكذا دارت الرحى فيما بينهم تطحن وتعيد الطحن مراراً وتكراراً، ومادتهم الأساسية الحق الشرعي لكل منهم، فالشيعة يرون أن الخلافة ينبغي أن تكون في أبناء علي من فاطمة حصراً، لمكانة فاطمة من رسول الله ص، ومكانة "علي" منه أيضاً وأسبقيته إلى الإسلام وتصديق الدعوة، ولما عرف به من الشجاعة والبلاء في حرب المشركين، ومن العلم والعدل وغير ذلك.
والزبيريون يرون -لما يمثلونه من قرشية نقية وقرابة من الرسول -أن الخلافة حقاً لقريش وحدها، وأن عاصمة الخلافة هي مدينة رسول الله تحديداً. ويرى الخوارج أن الخلافة يجب أن تكون عامة في المسلمين. أما الحزب الأموي الذي أمسك بزمام الأمر، وصار إلى ما يشتهي فقد مضى يذيع نظريته في الحكم معلناً أن الله تعالى قد اختار الأمويين وخصّهم دون غيرهم بالخلافة وأيّدهم بنصره على أعدائه وأعدائهم. فكيف تبدو المرأة في شعر هذه الأحزاب؟ وما موقف الشعراء منها؟
أ-الحزب الزبيري:
لن أفصل القول في تاريخ هذه الأحزاب وأهدافها السياسية وشعاراتها، ففي كتب التاريخ ما يكفي من ذلك. وإنما الذي يهم من تلك الأحزاب إنما هو آدابها التي كانت وسيلتها المهمة في الإعلان عمّا تمثل وتريد.
ولقد استطاع الشعر برهافته وحساسيته أن يعبّر عن أعمق المشاعر السياسية والأفكار العقلية والجدل الذي علا واستطار.(1/246)
فعلى الرغم من ضحالة المبدأ في الحزب الزبيري، كان شعر داعيته الأكبر الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات قوياً محرضاً، استطاع أن يخلخل بعض المسلمات العامة في المجتمع، واستطاع أن يجمع لنفسه الأنصار والمؤيدين، لأن الكلمة في شعر عبيد الله تحولت إلى شعار ثوري يحمل الكثير من رموز التعصب القرشي والغضب والبغض للحزب الأموي الذي يمثل السلطة. وقضى عبيد الله بن قيس يوقع على قيثارة شعره أغنية قريش الخالدة منوّها بعزها وفخارها، ومشيداً بآل الزبير، ومهاجماً أعداءهم الأمويين متبعاً التصريح أحياناً وسالكاً طريق الغزل أحياناً أخرى.
وقد أثار شعره في مسلكيه الأمويين، وجعله هدفاً أساسياً لهم عليهم أن يسكتوه.
وإذاً، لقد قرّب عبيد الله بن قيس حديثي من الهدف الذي أريده، إذ ربط ربطاً وثيقاً بين السياسة والشعر بل بين السياسة وأهم موضوعات الشعر وأعرقها ألا وهو الغزل. لقد كان الغزل وسيلة ابن الرقيات المهمة للنيل من أعدائه وإنه لأمر حساس بل شديد الخطر أن يتناول شاعر إحدى نساء البيت الحاكم ويشهر بها، إنه تطاول وهجوم لا يقوم بهما إلا من نصّب نفسه لشدائد الأمور أو لمبدأ كبير.
ولم يكن عبيد الله شخصاً عادياً. بل كان الفارس القرشي الذي وضع يده بيد مصعب بن الزبير الفارس القرشي بل النجم القرشي الأكثر أهمية. وفي اعتقادي لو أن مصعباً هو الذي تزعم الحزب الزبيري لكان له شأن آخر، وذلك لما يتمتع به من صفات الفروسية والكرم والجرأة، وهي الصفات التي افتقر إليها عبد الله بن الزبير شقيقه وزعيم هذا الحزب.(1/247)
هذا التكاتف إذاً بين عبيد الله بن قيس وبين مصعب بن الزبير جعل لعبيد الله حصانة خاصة قوت في نفسه الشعور بالاحتجاج والمعارضة "فكان يخاصم الرجال دون النساء، وكان يتخذ النساء وسيلة إلى ضرب الرجال. كان يريد أن يتملق النساء، وأن يرضيهن عن نفسه، وأن يحبب إليهن هذا الغزل الهجائي الذي كان يسوء أزواجهن وأبناءهن وعصبتهن بوجه عام. وقد وصل ابن قيس الرقيات من هذا الغزل الهجائي إلى كل ما كان يريد، فأحفظ بني أمية عليه أشدّ إحفاظ حتى هدروا دمه"(1)
ولنستمع إليه في سرد قصته مع أم البنين امرأة الوليد بن عبد الملك التي أسرف في تفاصيلها:
رأَتْ بي شيبةً في الرأ ... س مِنّي ما أُغيِّبُها
فقالَتْ: أَبْنُ قيسٍ ذا؟ ... وغيرُ الشيبِ يُعْجِبُها
رأَتْني قد مضى منّي ... وغَضاتٌ صواحِبُها
ومثلكِ قد لهوتُ بها ... تمامُ الحسنِ أَعْيَبها
لها بعلٌ غَيِورٌ قا ... عدٌ بالبابِ يحجُبُّها
يراني هكذا أَمشي ... فيُوعِدُها ويضْرِبُها
ظلِلتُ على نمارِقها ... أفديِّها وأخلُبُها
فدعْ هذا ولكنْ حا ... جةٌ قد كنتُ أطلُبُها
إلى أمّ البنينَ متى ... يقرِّبُها مُقرِّبُها
أَتَتْني في المنامِ فقُلْ ... ت هذا حينَ أُعْقَبُها
فلمّا أَنْ فرِحْتُ بها ... ومالَ عليّ أعْذَبُها
شربتُ بريقها حتّى ... نهِلْتُ وبِتُّ أُشْرِبُها
وبتُ ضجِيعَها جَذْلاً ... ن تُعجِبُني وأُعْجِبُها
أُعَالُجها فتصرعُني ... فأُرْضِيَها وأُغْضِبُها
فكانت ليلةً في النّو ... م نسمُرها ونلعُبها(2)
__________
(1) حديث الأربعاء 250-251
(2) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات 121 أعيبها: أراد لا عيب فيها. النمارق: الوسائد، أعقبها: أي صارت لي. أعذبها: فمها. نهلت: رويت. أشربها: أسقيها. نلعبها: نلعب فيها.(1/248)
ولا تخفي الأبيات ما فيها من بريق الغمز واللمز الموجه إلى البيت أو السلطة التي تحتضن هذه المرأة فتقصّر عن صونها وحمايتها حتى باتت عرضة للسان هذا الشاعر وأحلامه، فكانت في خياله مبتذلة غير متصونة، لكنه زمام أمره ظلّ في يده عندما أكد في نهاية القصيدة أن اللقاء كان في حلمه وهو نائم فنال بذلك استحسان هذه المرأة وأغضب حاشيتها، وكان له ما أراد.
وهو يتغزل بسيدة أخرى هي، عاتكة بنت يزيد وزوجة عبد الملك بن مروان، ومما يقول لها:
أعاتِكَ بنتَ العبشّمية عاتكا ... أثيبي امرأً أمسى بحّبكِ هالكا
بَدَتْ ليَ في أترابِها فقتلْنَني ... كذلِكَ يَقْتُلْنَ الرجالَ كذلكا
نظرنَ إلينا بالوجوهِ كأنّما ... جلَوْنَ لنا فوقَ البِغال السّبائكا
إذا غَفَلَتْ عنّا العيونُ التي ترى ... سلَكْنَ بنا حيثُ اشتهينَ المسالِكا
وقالت لو أنا نستطيعُ لزارَكُمْ ... طبيبانِ منّا عالمانِ بدائكا
ولكنّ قومي أحدثوا بعدَ عهدِنا ... وعهدكَ أضغاناً كِلفْنَ بشانِكا(1)
إنه يحمّل هذه المرأة وعياً سياسياً عاماً، فيجعل قومها -باعترافها- مسؤولين عن الأحقاد المشبوبة في الصدور، وعن تحوّل الناس من المودة والتراحم إلى البغضاء، فكأنها رمز عام مشحون بالأسى الذي استقر في أعماق عبيد الله تجاه قريش وما آلت إليه. أو هو "غزل يختنق بالنشيج المرتخالطه مرارة الدمع وتتغلغل فيه مواجع الخيبة فتكسر حدّته إلا قليلاً وهو عابق بالحنين إلى وحدة الجماعة القرشية"(2).
__________
(1) ديوانه 128 السبائك: قطع الذهب والفضة واحدتها سبيكة. المسالكا: هنا أي ما اشتهين من الحديث الضغن: الميل.
(2) قصيدة المدح 625.(1/249)
وكان هذا الأسلوب الشعري قد نضج بين يدي عبيد الله بن قيس بعد أن راضه شعراء آخرون من قريش أيضاً كأبي دهبل الجمحي الذي تغزل بعاتكة بنت معاوية، والعرجي الذي تغزل بجيداء أم محمد بن هشام المخزومي، وكان قد سبقهم جميعاً إليه عبد الرحمن بن حسان عندما شبب برملة بنت معاوية، ولكن الفرق بين هؤلاء السابقين جميعاً وبين عبيد الله أن عبيد الله كان أكثرهم وعياً بغرضه، وأقدرهم على تصريف القول، فقد ظل حريصاً على أن ينال استحسان المرأة التي استخدمها هدفاً في شعره، فكافأته على ذلك عندما حصلت له على العفو والمغفرة، وقادت حياته في منعطف جديد يماشي فيه ركاب الأمويين.
أخلص من ذلك إلى القول: إن للمرأة في شعر عبيد الله بن قيس الرقيات مذاقاً خاصاً شديد التميز، فقد بدت فيه واعية لما يدور حولها من صراع، وبدت تحمل أسىً شفيفاً ورغبة في انهاء الاقتتال بين أبناء المجتمع العربي، كما أنها -في شعره- تنشط في المجتمع، فتقابل الرجال، وتقول الشعر على نحو ما نرى في حديثه عن "كثيرة" الكريمة النجار، الواثقة من نفسها إلى حد الصلابة. فقد تغزل بها غزلاً يفيض بالحنين "واتخذها رمزاً لأحلامه التي طواها الدهر والأيام وملأها بالحنين إلى وحدة الجماعة القرشية"(1)
عادَ له من كثيرةَ الطربُ ... فعَيْنُهُ بالدَموع تنسكبُ
كُوفيّةٌ نازحٌ محلَّتُها ... لا أَمَمٌ دارُها ولا سَقَبُ
واللّه ما إنْ صَبَتْ إلىَّ ولا ... يعْلَمُ بَيْني وبَيْنَها سبَبُ
إلاّ الذي أوْرَثَتْ كثيرةُ في الـ ... قلبِ ولِلْحُبِّ سَوْرَةٌ عَجَبُ(2)
__________
(1) قصيدة المدح: 656
(2) ديوان: عبيد الله: السقب: القريب الملاصق. نازح: بعيدة. الأمم: الوسط بين القريب والبعيد. سورة: حدة وسطوة.(1/250)
وقد روى صاحب الأغاني ما كان من خبر ابن الرقيات وهذه المرأة ما يدلّ على المكانة التي كانت تتبوؤها بعض النساء في ذلك العصر. قال: "قال عبيد الله بن قيس الرقيات، خرجتُ مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان إليه، فلما نزل مصعب بمسكن ورأى معالم الغدر دعاني فأقمت معه، حتى قتل ثم مضيت إلى الكوفة فأول بيت صرت إليه دخلته، فإذا فيه امرأة لها ابنتان كأنهما ظبيتان، فرقيت في درجة لها فقعدت فيها، فأمرت لي المرأة بما أحتاج إليه من الطعام والشراب والفرش والماء، فأقمت كذلك عندها أكثر من حول، تقيم ما يصلحني وتغدو عليّ في كل صباح فتسألني حاجتي ولا تسألني من أنا ولا أسألها من هي، وأنا في ذلك أسمع الصياح فيّ، فلما طال بي المقام وفقدت الصياح فيّ، وغرضت بمكاني غدت عليّ تسألني بالصباح فعرفتها أنني أحببت الشخوص إلى أهلي، فلما أمسيت وضرب الليل، قالت لي: إذا شئت فنزلت، وقد أعدت لي راحلتين عليهما ما أحتاج إليه، ومعهما عبد، وأعطت العبد نفقة الطريق وجئت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقال لي: سأكتب إلى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، فهي زوجة الوليد، وعبد الملك أرق شيء عليها، فكتب إليها يسألها أن تشفع له إلى عمها، حتى شفع له وأذن له بالدخول عليه(1).
وقد علّق الدكتور طه حسين على ما كان من موقف النساء من ابن قيس الرقيات وموقفه منهن، فقال "فأدان بحياته لامرأتين أوته إحداهما بالكوفة حين أهدر دمه وشفعت له الأخرى"(2).
يتضح مما سبق أن المرأة في شعر ابن قيس الرقيات قد جاوزت وجودها الأنثوي الصرف، وارتقت لتكون وسيلة للتعبير عن قضايا سياسية ساخنة، فكانت بذلك أداة شعرية مشحونة بالرموز والدلالات.
ب-الخوارج:
__________
(1) الأغاني 4/157
(2) حديث الأربعاء378(1/251)
لقد تعصب هذا الحزب للمسلمين جميعاً كما تعصب ضدهم، ونصّب دعاته من أنفسهم حماة الدين الإسلامي ضد كل طامع. وقد اعتمد أصحاب هذا الحزب أساساً على القرآن الكريم، واستمدوا مبادئهم من آياته الطاهرات، فتحولوا إلى فرقة فدائية تناضل في سبيل إعلاء كلمة الدين الإسلامي الحق، وزهدوا في الدنيا وملذاتها وأقبلوا على الموت كما لو أنه الحياة، ورسّخوا عقيدتهم، بحروب طاحنة ضد كل الفئات المسلمة، وكانوا يرون أن الحكومة القائمة في دمشق، والمعارضة في العراق بعيدتان عن الشريعة الإسلامية وتعاليم القرآن الكريم الذي يدعو إلى التقوى والعدالة والمساواة. وتتردد في شعرهم هذه المبادئ الصارمة من زهد في الدنيا وإقبال على الموت وتمجيد للشهادة، فهو مقطعات ثائرة تنبض بالرفض والاحتجاج والدعوة إلى المعارك من أجل حماية الدين وإعلاء كلمة الحق. وفي هذا البركان الثائر تبدو المرأة في وضع خاص ونلمح أثر اللهيب الفكري في وضعها ضمن هذه العقيدة، فهي ذات أثر كبير في حياة الخوارج وأدبهم كما هي متأثرة بأفكارهم وأهوائهم السياسية العامة وهي ذات وجود متميز في الحروب والمعارك التي كانت تخوضها وتصطلي نيرانها وتبلى فيها بلاء حسناً. ويلاحظ ذلك الدكتور عبد القادر القط فيراها "تتخذ في شعر الخوارج وضعاً جديداً يختلف اختلافاً تاماً عن وضعها في الشعر التقليدي حينذاك، فهي ليست موضوعاً للغزل العاطفي الذي يبث فيه الشاعر أشواقه وحرمانه وفتنته بل هي رفيق سلاح أو كفاح للشاعر تخوض معه المعارك أحياناً وتبلى بلاء لا يكاد يقل عن بلاء الرجال"(1).
فكانت منهن المناضلة مثل أم حكيم الفارسة زوجة قطري بن الفجاءة التي ارتجزت بأمنية غريبة صورت فيها وضعها الأنثوي كزوجة تتجمل وتتزين للحياة ثم تزفر بأمنية المناضلة الشرسة التي تفوق جسارتها الرجال تقول:
أَحمل رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ
وقد مللتُ دَهْنَهُ وغَسْلَهْ
__________
(1) في الشعر الإسلامي والأموي 278.(1/252)
أَلا فتىً يحملُ عنّي ثِقْلَهْ(1)
وكذلك كانت غزالة الحرورية زوجة شبيب الخارجي التي تذكر الأخبار أنها وصلت إلى مرتبة القيادة(2)وأنها روعت الحجاج عندما دخلت الكوفة على نحو ما يذكر المسعودي في مروج الذهب، يقول "فقد كانت للحجاج حروب مع شبيب الخارجي وولى منه الحجاج بعد قتل ذريع كان في أصحابه، فدخل الكوفة وتحصن في دار الإمارة، ودخل شبيب وأمه وزوجته غزالة الكوفة عند الصباح، وكانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة، وخرجت غزالة مما أوجبته على نفسها وكانت من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، وكذلك أم شبيب"(3) فهل حقاً كانت غزالة فارسة تروع الحجاج وتجعله يختبئ منها وتنفذ نذرها عنوة وتدخل مسجد الكوفة؟
إن وضع المرأة في حزب الخوارج يلفت النظر حقاً، فقد تطورت صورتها تطوراً كبيراً، وبدت مغايرة لصورتها المألوفة السائدة:
وقد سجل هذه الحادثة عمران بن حطان في أبيات يسخر فيها من الحجاج يقول:
أسَدٌ عليّ وفي الحروبِ نَعامةٌ ... ربداءُ تَجْفُلُ من صفيرِ الصافرِ
هلاَ برزتَ إلى غزالةَ في الوغى ... بلْ كان قلبُكَ في جناحَيْ طائرِ
صَدَعتْ غَزالةُ قلبَهُ بفوارس ... تركتْ منابِرَهُ كأَمسِ الدَّابرِ
أَلِق السلاحَ وخُذ وشَاحَيْ مُعْصرٍ ... واعمدْ لمنزلةِ الجبانِ الكافر(4)
وكما اشتهرت نساء الخوارج بالصلابة والثقة والإقدام والمحاربة إلى جانب رجالهن اشتهرت بعضهن بقدرتها على التأثير في زوجها، وضمّه إلى مذهبها. يقول صاحب الخزانة: "وإنما صار عمران بن حطان من القعدة، وكان سبب ابتلائه أنه تزوج امرأة منهم فكلموه فيها فقال: سأردها عن مذهبها، فأضلته ويقال إنها كانت بنت عمه بلغه أنها دخلت في رأي الخوارج فأراد أن يردها.."(5).
__________
(1) شعر الخوارج 41
(2) الأغاني 20/314
(3) مروج الذهب 3/123
(4) شعر الخوارج 25
(5) خزانة الأدب 5/351(1/253)
فالمرأة الخارجية -كما نرى- تتمثل أفكار الدعوة الخارجية ومبادئها، وتضم إليها الأنصار، على نحو ما فعلت "جمرة" بعمران بن حطان. ويقال إنها كانت ذات جمال، وكان قبيحاً دميماً فقالت له يوماً: أنا وإياك في الجنة، قال: ومن أين علمت ذلك؟
قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت وابتليت بمثلك فصبرت والشاكر والصابر في الجنة.
وكانت جمرة هذه على الرغم من زهده بالحياة وازدرائه لها -السبب الذي حبّب إليه الحياة وجعله يتعلق بها، ومما قال يصف جمالها وأخلاقها:
يا جَمْرُ إنّي على ما كان من خُلُقي ... مئْنٍ بخلاّت صدق كلُّها فيكِ
اللهُ يعلمُ أنّى لم أَقلْ كَذِباً ... فيما علمتُ وأنّي لا أُزكّيْكِ(1)
لقد أمدّ شعراء الخوارج المرأة بنسغ جديد من الحياة التي تعلموها وغذوها أيضاً بأمجادهم وأفكارهم فكان الحب مزيجاً فريداً من حب المبدأ وحب المرأة، فهم يمزجون بين المرأة كواحة جميلة في الحياة وبين العمل من أجل العقيدة. بيد أن هذه النظرة لم تحل بين شعراء الخوارج وما رسخ في الذاكرة الشعرية من صورة للمرأة التي تحاول أن تثني زوجها عن الخروج وتلومه على كرمه، وما يكون من ردّ وعقده العزم والنيّة على ما همّ به، ولا ينسى شعراء الخوارج أن يوشوا هذه المعاني بالقيم الإسلامية فتزداد تألقاً وبهاءً على نحو ما نرى في خطاب عمران بن حطان لزوجه "جمرة".
إنْ كنتِ كارهةً للموتِ فارتحلي ... ثم اطلبي أهلَ أرضٍ لا يموتونا
فلستِ واجدةً أرضاً بها بشرٌ ... إلاّ يروحونَ أفواجاً ويَغْدونا
يا جمرُ لو سلمتْ نفسٌ مطهَّرةٌ ... منْ حادثٍ لم يزل يا جمرَ يُعيينا
إذن لدامت بمرادسٍٍ سلامته ... وما نعاه بذاتٍ الغصنِ ناعونا(2)
__________
(1) شعر الخوارج 17
(2) المصدر السابق 16(1/254)
خلاصة القول: لقد تبوأت المرأة الخارجية -على نحو ما تبدو في شعر هذا الحزب -مكانة مرموقة، فهي تعي مباديء الحزب وعياً عميقاً، وتشارك في نشاطه السياسي والحربي، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة المجتمع في السلم والحرب، فهي تارة رفيقة سلاح ومناضلة جريئة تقتحم غمرات الموت، وهي تارة حبيبة يفيء إليها الشاعر، ويبوح بأسرار قلبه لها، وبما يدور في عقله فكأنما يريد منها أن تكون الشاهد الثقة الأمين عليه.
ب-الشيعة:
نستطيع أن نميز صورتين للمرأة في شعر هذا الحزب، هما صورة المرأة الشاعرة. وصورة المرأة حين تكون موضوعاً شعرياً، فهي في صورتها الأولى تعبر عن قضيتها، وتدافع عن مبادئها بلسانها، وتعلن عن عقيدتها مظهرة الثقة والاستعلاء بالقضية التي تؤمن بها، وتنم أشعارهن على صلابة وشجاعة تصدر عن قوة العقيدة. وفي خبر قدوم أم سنان المَذْحجية على معاوية تأكيد لبعض ما ذكرت، فقد حبس مروان بن الحكم وهو والٍ على المدينة غلاماً من بني ليث في جناية، فأتته جدة الغلام لأبيه وهي أم سنان، فكلمته، فأغلظ مروان لها، فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه وابتسمت "فقال مرحباً يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا؟ وقد عهدتك تشتميننا وتحضيّن علينا عدونا، قالت: إن لبني مناف أخلاقاً طاهرة وأحلاماً وافرة لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ماسنّ أباؤه لأنت، قال: صدقت نحن كذلك، فكيف قولك:
عَزَبَ الرقادُ فمقلتي لا ترقُد ... والليلُ يُصْدِرُ بالهمومِ ويورِدُ
يا آلَ مَذْحجَ لا مُقامَ فَشَمرِّوا ... إنّ العدوَ لآلِ أحمدَ يَقْصِدُ
هذا عليّ كالهلالِ تحفُّهُ ... وسطَ السماءِ من الكواكب أسْعدُ
خير الخلائف وابنُ عمِّ محمّدٍ ... إنْ يَهْدِكُمْ بالنورِ منه تهتدوا
ما زالَ مُذْ شِهدَ الحروبَ مظْفراً ... والنصرُ فوق لوائه ما يُفْقَدُ(1/255)
قالت كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفاً بعده، فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
إمّا هلكْتَ أبا الحسينِ فلم تَزَلْ ... بالحقِّ تُعْرفُ هادياً مَهْديّا
فاذهبْ عليكَ صلاةُ ربّك ما دَعَتْ ... فوق الغصونِ حمامةٌ قُمْريَّا
قد كنتَ بعدَ محمّدٍ خَلَفاً كما ... أوصى إليكَ بنا فكنتَ وَفيّا
فاليومَ لا خَلَفٌ يؤمّلُ بعدَه ... هيهاتَ نأملُ بَعْدَهُ إنسيّا
قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظننا فحظك الأوفر"(1).
ولكن صورتها الثانية مختلفة أشدّ الاختلاف عن صورتها الأولى. كيف كانت صورة المرأة في شعر الشيعة؟ هل كانت موضوعاً للقصيدة، وباعثاً على الدخول في الفكرة الأساسية؟ إن ديوان شاعر الشيعة الأول الكميت بن زيد يبدّد الصورة السابقة، لتحلّ محلّها صورة هامشية سلبية، فهو ينكر أن تكون المرأة قد استغرقت خياله أو استطاعت أن تجذبه إلى ظلالها الوارفة. وهو -فيما يقول- لا يجد الفراغ الكافي للاستمتاع بهذه الملذات التي تمثلها المرأة، لأنه مشغول بقضية أخرى تمثل الهدف الأسمى في حياته.
إنها قضية الحزب الشيعي وهي حب آل البيت الكرام والاستغراق الفلسفي والفكري في الدعوة لهم والغضب من أجلهم والتنديد بأعدائهم الذين غدروا بهم وظلموهم. فهو دائم السخط والغضب على بني أمية، ودائم الحزن والأسى لما وصل إليه حال آل البيت من قتل وتشريد واضطهاد وتعذيب، وعن هذا المزيج من حب آل البيت والإحساس بالحزن والمرارة لمآلهم والشعور بالسخط والغضب على خصومهم صدر في كثير من شعره منوّهاً بأئمة الشيعة ومعدّداً شمائلهم، ومردداً هذه الأفكار في غير ملل أو ضجر فكأنه واحد من كبار دعاة هذا الحزب. ولعل هذا المزيج النفسي الفريد المعقد من الحب والكراهية والحزن والسخط والإعجاب هو الذي جعل الكميت ينفي عن نفسه كل حب آخر على نحو ما نرى في هذه الهاشمية الذائعة الصيت؟
__________
(1) العقد الفريد 2/108-109(1/256)
طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ ... ولا لَعباً مني أذو الشّيبِ يَلْعَبُ
ويكرر نفيه مرة أخرى أن يكون طرب بسبب المرأة أو مما يثير الطرب في النفس من ملذات الحياة ومتعها الممثلة بالمرأة خاصة:
أنّى ومِنْ أينَ آبَكَ الطربُ ... منْ حيثُ لا صبوةٌ ولا ريبُ
لا منْ طِلابِ المحجبات إذا ... ألقيَ دونَ المعاصرِ الحُجُبُ(1)
__________
(1) حياة الشعر في الكوفة 717(1/257)
أستطيع أن أقول إن الكميت كان يعزز وجود المرأة من حيث لا يقصد، وكان لا يستطيع الاستغناء عما تضفيه على المقدمة الشعرية من سحر وعذوبة حتى في عرضه لأكثر الأفكار حساسية وثورية وتطرفا، وذلك من خلال نفيه السلبي والمتكرر لتأثير المرأة في حياته وسلوكه، وقد لفتت هذه الظاهرة نظر الباحثين، فسّجلوها ورأوها انحرافاً واضحاً عن تقاليد شعر الغزل العربي على نحو ما ذكر الدكتور يوسف خليف، قال "فهو يبدأ قصائده بمقدمات، ولكنها ليست تلك المقدمات التقليدية التي تدور حول الوقوف على الأطلال، وبكاء الديار، ووصف الدمن والأثار، وإنما تدور في عكس هذا الاتجاه، لقد حُبَب إلى الكميت- كما يقول فك- أن يعطي النسيب تحولاً سلبياً حينما يبرز في صورة التأكيد أن قلبه ليس ملكاً للغواني، ولا يطمح إلى حب النساء، وأن طربه لا يرجع إلى شوق أو غرام، فهو يبدأ قصائده بحديث الديار والأطلال، ولكنه ليس حديث الذي يقف عليها ليبكيها ويتحسر على ذكرياته فيها، وإنما حديث الذي يرفض الوقوف عليها أو البكاء فيها، بل الذي يرى في ذلك شيئاً لا يليق به ولا يتفق مع الهدف السامي الذي يقصد إليه في هذه القصائد، وهو مدح آل النبي ص. وهو لهذا كان يخرج من هذه المقدمة إلى موضوع قصائده مباشرة دون أن يعبر ذلك الجسر التقليدي الذي كان الشعراء القدماء يتفننون في إقامته وينتقلون عليه من مقدماتهم التقليدية إلى موضوعات قصائدهم، ومعنى هذا أن الكميت كان يدور في فلك القدماء حين يحرص على أن يجعل لقصائده مقدمات موضوعها الديار والأطلال ولكنه في داخل هذا الفلك يتجه اتجاهاً مضاداً لهم حين يصرح بأنه لا يقف على الديار، ولا يبكي الأطلال ولا يتذكر غراماً قديماً ولا يتبع قلبه ظعينة راحلة. فهي إن صحت العبارة مقدمات غزلية سلبية"(1).
__________
(1) حياة الشعر في الكوفة 717.(1/258)
وإذا لم تكن المرأة موضوعاً شعرياً أو باعثاً على الشعر والحماسة والإقدام في شعر الشيعة كما كانت في شعر الأحزاب الأخرى، لأن حب آل البيت أدى إلى تراجع في موقع المرأة على مستوى القصيدة.
ولكنها على مستوى الحياة والأحداث الاجتماعية والسياسية استطاعت أن تنصهر هي ذاتها في العقيدة الشيعية وتمثل مبادئها وتعلن بجرأة وصلابة عن رأيها وأفكارها أمام من يمثل العدو والسلطة في آن.
2-في قصائد المديح:
توج شعراء المدح المرأة أميرة لهذه القصيدة، تتصدر معظم مدائحهم، مهما كانت مناصب ممدوحيهم، فهم يدخلون إلى هذه المدائح من بوابة كبرى مادتها الاساسية المرأة على نحو ما نرى في مقدمة الأطلال، وفي الظعائن، وفي الغزل وفي مقدمة الشيب والشباب، وفي مقدمة الطيف. وحسبنا هذه المقدمات للدلالة على أهمية المرأة في الحياة عامة وحياة الرجل بشكل خاص. وكان ابن قتيبة قد أشار إلى دور المرأة أو الحب عامة في الحياة عندما علل ابتداء قصائد المديح بالنسيب والغزل فقال:
"سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كانت نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتقالهم من ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل إليه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام"(1).
__________
(1) الشعر والشعراء 1/74(1/259)
وكان كل شاعر مدح يصدر في مقدمته عن مشاعر خاصة كونتها مجموعة من المؤثرات البيئية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ففي الشعر التقليدي الذي امتهن أصحابه المدح كالفرزدق وجرير والأخطل، كانت صورة المرأة صورة ذهنية على الأغلب، لا يصدر الشاعر فيها عن واقع حقيقي وإنما يتمثل وجود المرأة في خياله، فتفقد المرأة في شعر الأخطل نضارتها وحيويتها، وتتحول إلى تمثال يعود إلى العصر الجاهلي، بينما نجد بعض اللمعان الذي أضيف على هذا التمثال الأثري في شعر الفرزدق بتأثير بعض المواد الحضارية، وكذلك جرير، أما عند الأحوص فقد كانت صورة المرأة تنبض بالحياة المعاصرة له وكذلك عبيد الله بن قيس الرقيات.
وكانت مقدمة الأطلال أكثر المقدمات دوراناً في قصائد المدح، "التي استهل بها الفحول: جرير والفرزدق والأخطل قصائدهم، مبدئين ومعيدين في معانيها وصورها ومرددين تقاليدها وعناصرها، ومكررين أشكالها المختلفة في صدور قصائدهم على تنوعها. فهم حيناً يصفون الديار ويستقصون ما بقي من آثارها، وما تعاقب عليها وغيّرها، وما نزل بها بعد هجر أهلها لها، مرجعين ذكرياتهم مع صواحبهم على أرضها، وهذا هو الشكل الأول من أشكالها وهم حيناً آخر يلمون به ويضيفون إليه وصف محبوباتهم اللائي كانت لهم صلات ومودات معهن بها وهذا هو الشكل الثاني من أشكالها، وهم حيناً ثالثاً يستبدلون وصف المحبوبة بوصف ظعائنها، وهذا هو الشكل الثالث من أشكالها وبذلك وفروا لهذه المقدمة الكثرة المطلقة من مقوماتها، ورسخوا معظم تقاليدها وأصلوا أغلب أشكالها".
ففي مقدمة قصيدة الفرزدق التي يمدح بها عبد الله بن الأعلى وبني شيبان يتوقف في أطلال صاحبته، ويطلب من رفيقيه ألا يلوماه، فيسلم على الديار الخالية، ويسألها عن أصحابها، ثم يذكر ما أصابها من تغيير حال دون معرفته لها إلا بعد حين يقول:
أَلمّا على أَطلالِ سُعدى نُسلِّمِ ... دوارسَ لمّا استنطِقَتْ لم تَكَلَّمِ(1/260)
وقوفاً بها صحبي عليَّ وإنما ... عرفْتُ رسومَ الدارِ بعدَ توهُّمِ
يقولون لا تَهِلكْ أسىً ولقد بَدَتْ ... لهم عبراتُ المسُتهام المتيَّم
فقلتُ لهم لا تعذلوني فإنّها ... منازلُ كانتْ من نَوارَ بِمَعْلَمِ(1)
وكان الأخطل كذلك يتوقف في الربوع الدارسة ويستحضر ذكر صاحبتها في مقدمات قصائده المدحية، ومنها قصيدته التي يمدح بها بشر بن مروان التي يحيى فيها كثيراً من المعاني الجاهلية في وصف الأطلال كتعداد الأماكن التي حلت صاحبته بها والعطف بينها بالفاء على عادة الجاهليين ويذكر ما حلّ فيها من الحيوان وما أصابها من أمطار وأحوال بيئية أدت إلى تغيّر معالمها يقول:
عفا الجوُّ من سلمى فبادتْ رسومُها ... فذاتُ الصفا صحراؤها فقصيمُها
فأصبحَ ما بينَ الكلابِ وحابسٍ ... قفاراً تُغنيها مع الليل بوُمُها
خَلَتْ غيرَ أُحدانٍ تلوح كأنّها ... نجومٌ بدَت وانجابَ عنها غيومُها
بمُستأسِدٍ يجري الندى في رياضهِ ... سَقَتْهُ أهاضيبُ الصَّبا ومدُيُمها
إذا قلتُ قد خفَّتْ تواليه أصبحتْ ... به الريحُ من عَيْنٍ سريعٍ جُمومُها
فما زالَ يسقي بطنَ خَبْتِ وعرعرٍ ... وأرضَهما حتى اطمأَنَّ جَسيُمها
وعمَّمها بالماءِ حتى تواضَعتْ ... رؤوسُ المِتانِ سهلُها وحُزوْمُها
سقى اللهُ منه دار سلمى برّيةٍ ... على أنّ سلمى ليس يشفى سقيمُها
من العربيات البوادي ولم تكن ... تلوّحِهُا حُمّى دمشقَ ومُوْمُها(2)
__________
(1) ديوان الفرزدق 754
(2) ديوان الأخطل 313 القصيم: ما أنبت الغضي من الرمل. الكلاب: جبل. حابس: موضع. أحدان: البقر المتفرقة. المستأسد: الملتف من الكلأ. حمومها: كثرة مائها. خبت وعرعر موضعان الموم: جنس من الجدري.(1/261)
"أما جرير فيتفوق في هذا الصدد على صاحبيه: الفرزدق والأخطل تفوقاً ظاهراً، فهو دائماً ممسك بقيثارته يستخرج منها تلك الأنغام. ويحس الإنسان إحساساً قوياً أنه كان ينهل من منهل صاف لا يجف، ينساب معه وصفه للأطلال وحديثه عن سابق عهدها انسياباً لا تكدره شائبة. وهو -بحق- لا يبارى في هذا الميدان، بشهادة القدماء"(1) ففي مدحه لعبد العزيز بن مروان يقول:
أربّتْ بعينيكَ الدموعُ السوافحُ ... فلا العهدُ منسيُّ ولا الربعُ بارحُ
محا طللاً بين المُنيفَةِ فالنَّقا ... صبا راحةٌ أو ذو حَبِيَّيْن رائح
بها كل ذيّال الأصيل كأنه ... بدارةِ رَهْبَى ذو سوارين رامح(2)
إن منظر المكان يستدر دموعه الغزار بكآبته وزوال معالمه بسبب الرياح والأمطار التي جعلته خالياً إلا من الثيران الوحشية التي تتردد فيه عند الغروب بأذنابها الطويلة وقوائمها المرصعة بدوائر سود.
ولكن أطلال النابغة الشيباني "تتميز بفتنة ساحرة، لقد خلق ككل فنان أصيل من الأطلال والخرائب الدارسة خرائب فنية عامرة بالجمال والفتنة"(3) وتلوح في أرجاء هذه الأطلال صورة صاحبته وذكرياتها فكأنها الغائبة الحاضرة على نحو ما نرى في قصيدته التي يمدح بها مسلمة بن عبد الملك نجد قوله:
بانَتْ سُليمى وأقوى بَعدَها تُبَلُ ... فالفأوُ مِنْ رُحْبِهِ البرّيتُ فالرِّجَلُ
وقفتُ في دارِها أُصلاً أُسائلُها ... فلم تُجِبْ دارُها واستعجمَ الطَّلَلُ
لمّا تذكّرتُ منها -وهيَ نازحةٌ- ... مواعداً قد طَبَتْها دوني العِلَلُ
ظلّتْ عساكرُ من حزنٍ تُراوحني ... وسَكْرَةٌ بَطَنَتْ فالقلبُ مُخْتَبلُ
__________
(1) مقدمة القصيدة العربية 50
(2) ديوان جرير 265 الإرباب: الإقامة واللزوم للشيء. الراحة: الشديدة الهبوب. الحبى: ما اتصل من السحاب بعضه ببعض. سُوار وسِوار للذي يكون في اليد والرجل أسوار لا غير شبه الثور بالأسوار من الأعاجم لاختياله له في مشيه الرجل الأسوار: الرامي.
(3) قصيدة المدح 343(1/262)
بانتْ وناءَتْ وأبكى رسمُ دِمْنَتِها ... عيناً تسيلُ كما يَنفى القذى الوَشَلُ
وقد تبدّتْ بها هوجاءُ مُعصِفَةٌ ... حنَّانةٌ فترابُ الدارِ مُنْتَخلُ
كلُّ الرياح تُسدّيها وتُلْحُمها ... وكلُّ غيثٍ رُكامٍ غَيمُه زَجَلُ(1)
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني ص193 أقوى: أقفر. تبل: واد على بعد أميال يسيرة من الكوفة. الفأو: طريق بين قارتين بناحية الدو بينهما فج واسع يقال له فأو الريات. البريت: أرض بناحية البصرة الرجل: موضع بشق اليمامة. الخب: الغامض من الأرض. أصلاً: وقت الأصيل بين =العصر والمغرب استعجم لم يفصح في كلامه وهنا لم ينطق الجواب. نازحة: مبعدة مرتحلة. طبتها: صرفتها. عساكر الحزن والهم: ما ركب بعضه بعضه الاخر وتتابع. مختبل: أصابه الخبل وهو تدله العشق. بانت وناءت: فارقت وبعدت. الرسم: ما كان لاصقاً بالأرض من أثار الديار. الدمنة أثار الديار. القذى: ما يقع في العين. الوشل: الماء القليل. الهوجاء: الريح لا تستوي في هبوبها. المعصفة: الريح الشديدة المسرعة. الحنانة: الريح المصوتة. منتخل: نخله صفاءه. تسديها: السدى من الثوب ما مد من خيوطه طولا، وهنا مجاز عما تثيره الريح من التراب والرمل فيكون أحياناً شبيهاً بالخيوط الممدودة. تلحمها: ما مد من الخيوط عرضاً. الركام: المتراكم بعضه فوق بعض. الزجل: المصوت.(1/263)
وكان ذو الرمة من أكثر الشعراء الذين وصفوا الأطلال وتوقفوا يتأملونها ويبثونها مشاعر دافقة من الحب والشوق والهيام، فتحولت لوحة الأطلال في صدور مدائحه إلى "أطلال شاعر عاشق فكانت مسرحاً ترتسم عليه صورة الحبيبة وذكرياتها ورحيلها وطيفها، ولعل هذا هو سرّ بكاء الشاعر في الأطلال كل هذا البكاء الجمّ المتصل، ولعل ذلك هو السبب في دفع ذي الرمة إلى الانتقال من الأطلال إلى صاحبتها وحدها أي الغزل، أو إلى صاحبتها في طائفة من قومها أي الظعائن، فليس في مدائحه كلها مقدمة طللية واحدة لم تنته إلى غزل واسع أو إلى حديث الظعن أو حديث الطيف، أو إليها جميعاً، وكلها تفضي إلى موضوع واحد هو الحب"(1).
ومما قال في مدح الملازم بن حريث الحنفي:
خليليّ عُوجا الناعجات فسلِّما ... على طللٍ بينَ النقا والأخارمِ
كأنْ لم يكن إلاّ حديثاً وقد أتى ... له ما أتى للمُزْمِنِ المتقادِمِ
سلامَ الذي شقّتْ عصا البين بينَهُ ... وبين الهوى من إلِفهِ غيرَ صارِمِ
وهل يرجِعُ التسليمَ رَبْعٌ كأنّهُ ... بسائفةٍ قَفْرٍ ظهورُ الأراقم
ديارٌ محْتها بعدنا كلُّ ذَبْلة ... دروج وأحوى يْهضب الماءَ ساجم
أناخَتْ بها الأشراطُ واستوفضتْ بها ... حصى الرملِ راداتُ الرياحِ الهواجمِ
ثلاثُ مُرباتٌ إذا هِجْن هيجة ... قذفنَ الحصى قذف الأكفّ الرواجم
ونكباءُ مِهيافٌ كأنّ حنينَها ... تحدُّثُ ثكلى تركبُ البوّرائمِ
حَدتْها زبانى الصيفِ حتى كأنّما ... تمُدُّ بأعناقِ الجمالِ الهوارِم
لعرفانها والعهدُ ناءٍ وقد بدا ... لذي نُهْيَةٍ أن لا إلى أُمِّ سالمِ
جرى الماءُ من عينيك حتى كأنّه ... فرائدُ خانتْها سلوكُ النواظمِ
عشيةَ لو تَلْقى الوشاةَ لبينّتْ ... عيونُ الهوى ذاتَ الصدورِ الكواتمِ
__________
(1) قصيدة المدح 340(1/264)
عَهدْنا بها لو تُسْعِفُ الدارُ بالهوى ... رقاق الثنايا واضحاتِ المعاصِمِ(1)
وحظي حديث الظعائن باهتمام واسع أيضاً وأحيا شعراء العصر الأموي أكثر مقوماته الجاهلية "وهو لون من أغاني الشعراء زاخر بالحب والحزن والحنين، وهم يحكون في هذا اللون من الأغاني قصة قصيرة ملمومة الأطراف فيها من الوصف أكثر مما فيها من القص وتتسم هذه الحكاية بمراعاة هذه المواقف:
__________
(1) ديوان ذي الرمة 745. الملازم: هو الملازم بن حريت بن جابر بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة.. من بني بكر بن وائل. وقد ذكر أن أباه الحريث كان سيداً. عوجاً: اعطفا. الأخارم: الطرق في الجبال. الناعجات: يصاد عليها واحدتها ناعجة وهي الناقة البيضاء السريعة. النقا: الرمل. غير صارم: لا يريد الصرم. العصا: عصا البين. أي سلما سلاماً كسلام الذي فرقت العصا بينه وبين إلفه. سائفة: ما استوى من الرمل . الأراقم: الحيات يشبه أثار الربع بظهورها. ذبلة: ريح ذابلة عطشاً. دروج: تدرج. أحوى: سحاب أسود ساجم يصب المطر. أناخت: نزلت. الأشراط: أراد مطر الشرطين. أول منازل القمر. مربات: مقيمات لازمات يعني الرياح. قذفن يعني الرياح. الرواجم ج راجمة. نكباء: ريح تجئ بين ريحين. مهياف: حارة. حنينها: تعطفها. أي لها حنين كحنين الناقة، التي فقدت ولدها فصيّر لها بوٌّ وهو جلد الولد يُحشى تبنأ فترأمه وتركبه حتى تلقي نفسها عليه من حبه. حدتها: أي ساقتها الريح لأنها هبت في وقت زباني الصيف. الزبانيان: قرنا العقرب هذه الريح تجر الغبار كما تجر الإبل إذا أكلت الحمض فغلظ وبرها فانتشر. الهرم: من الحمض وكل شجر فيه ملوحة فهو حمض. لعرفانها: أي لعرفان هذه الدار. ناء: بعيد لذي نهية: أي لمن يعقل أي ينتهي أي لا سبيل إليها شبه دموعه عند عرفان الدار بفرائد انقطع سكلها فتبدد من سكلها شبه لؤلؤ من فضة. لبينت: أي أظهرت العيون ما في الصدور. لو تسعف الدار بالهوى: أي تدنيه. المعصم: موضع السوار.(1/265)
1-إعلان خبر الرحيل
2-مماشاة الركب والوقوف عند معالم الطريق
3-وصف الظعائن والهوادج
4-ذكر النساء والتحدث عنهن
5-موقف الشاعر من الظعائن المحتملة"(1)
ونظفر في مدائح النابغة الشيباني بعدد من المقدمات التي تتحدث عن الظعائن يحيي فيها الشاعر النموذج الجاهلي ويبث في أحداثه خصوصية عصره. فهو يصدّر مدحه للوليد بن عبد الملك بحديث هذه الظعائن، فيقول:
بانَ الخليطُ فقلبي اليومَ مُخْتَلَسُ ... حين ازْلأمُّوا فما عاجُوا ولا حَبَسُوا
يُحدْى بهمْ كلُّ عَجْعاجٍ ويَعْملَةٍ ... ما في سوالِفِها عَيبٌ ولا قَعَسُ
تقومُ في الآلِ مُرْخاةً أزِمَّتُها ... إذا أَقولُ: وَنَوا من سيرهِمْ مَلَسوا
وفي الخدور مهاً بيضٌ محاجرُها ... تفْتَرُّ عن بَرَدٍ قد زانَهُ اللَعَسُ
يشفي القلوب عِذابٌ لو يُجادُ بهِ ... كالبرقِ لا رَوَقٌ فيه ولا كَسَسُ
مَرضى العيونِ ولم يعلقْ بها مَرَضٌ ... شمُّ الأنوفِ فلا غِلْظٌ ولا فَطَسُ
تكسو الجلودَ عبيراً لونُها شرقٌ ... فكل أبشارِها مُصْفَرَّةٌ مُلُس
فلم يبالوك إذْ ساروا لِطِيتَّهم ... وكان منهم سفاهُ الرأي والشَكَسُ(2)
__________
(1) قصيدة المدح 96
(2) ديوان النابغة الشيباني 78 الخليط: الناس الذين يخالطهم ويعايشهم. ازلأموا: ارتحلوا. عاج: عطف. حبسوا: أمسكوا عن وجههم. العجعاج: المسن من الإبل. اليعملة: الناقة النجيبة المطبوعة على العمل. السوالف: ج سالفة: وهي ما تقدم من العنق. صفحة العنق. القعس: الثبات بغير حركة الآل: السراب. الأزمة: ج زمام وهو حبل تقاد به الإبل ونوا: أعيوا. ملسوا: ساقوا الإبل سوقاً شديداً. الخدور: كل ما وارى من بيت أو نحوه. محاجرها ما دار بالعين. اللعس: سواد مستحسن في الشفة. العذاب ماء الأسنان الطيب المذاق. الروق: طول الثنايا العليا على السفلى وهو عيب فيها الكسس: قصر الأسنان. شرق: فيه كدورة لطيتهم: لوجهتهم. الشكس، المخالفة.(1/266)
ويمدح يزيد بن عبد الملك فيسلك المسلك نفسه، فيطيل في تصوير الظاعنات ويسرف مصوراً حسنهن الطبيعي وحسنهن المجلوب معاً، وهو يفصّل القول في كلا الحسنين فكأنه لا يريد أن يفرغ منه، ولذا تطول هذه المقدمة في مدائحه طولاً مسرفاً يلفت النظر.
آذنَ اليومَ جيرتي بارتحالِ ... وببينٍ مُوّدعٍ واحتمال
وانتضَوا أَيْنُقَ النجائبِ صُعْراً ... أخذوها بالسير في الإرقالِ
وعَلَوا كلَّ عَيْهمٍ دَوْسَريٍّ ... أرحبيّ يَبُذُّ وُسْعَ الجِمال
فكأنَّ الرياضَ أو زُخْرُفَ المَجْـ ... دَلِ منها على قُطوعِ الرِّحالِ
عَدَلُوا بينها وبين عِتاقٍ ... مقْربَاتٍ تُصانُ تحتَ الجِلالِ
يومَ بانُوا بكلِّ هيفاءَ بِكْرٍ ... ورَداحٍ وطَفْلَةٍ كالغزالِ
بَكَراتٌ أُدْمٌ أصَبْنَ ربيعاً ... أو ظباءٌ أو ربربٌ في رِمال
فَهْيَ بيضٌ حُوْرٌ يُبَسّمْنَ عن غُـ ... رٍّ وأنيابُهنْ شَوْكُ السّيال
جاعلاتٌ قُطْفاً من الخزِّ والبا ... غزِ حول الظباءِ فوقَ البغالِ
جازئاتٌ جَمَعْنَ حُسْناً وطيباً ... وقَواماً مثلَ القَنَا في اعتدال(1/267)
غَصَّ منها بعد الدماليج سُورٌ ... والخلاخيلُ والنحورُ حَوالِ(1)
وكانت مقدمة الطيف أيضاً من المقدمات التي مهد شعراء المدح لمدائحهم بها "ونراهم يصورون في هذا الضرب من مقدماتهم أطياف محبوباتهم، وقد سرت إليهم بآخرة من الليل البهيم، وأخذت تداعبهم وتهيج أشواقهم الساكنة، وذكرياتهم الهامدة، حتى إذا ما انتبهوا انصرفت عنهم"(2) ويعد الفرزدق من أهم الشعراء الذي اعتنوا بهذه المقدمة ونهض بها نهضة طيبة على حد تعبير الدكتور وهب رومية وازدهرت على يديه ازدهاراً ملحوظاً، وأكثر من افتتاح مدائحه بها على قلة اهتمامه بالمقدمات(3)، يقول في مقدمة مدحته للوليد بن عبد الملك:
إذا عَرَضَ المنامُ لنا بسلمى ... فقلْ في ليلِ طارقَةٍ قصيرِ
أتتنا بعدَ ما وقعَ المطايا ... بنافي ظلِّ أبيضَ مستطيرِ
__________
(1) ديوان النابغة الشيباني ص144 انتضوا: جردوا. أنيق: ج ناقة. النجائب: الأصيلات. الصعر: ج صعراء وهي التي تتمايل في سيرها عند اشتداد سرعتها أو التي تميل خدها عجباً وكبراً الإرقال: ضرب من السير السريع. العيهم: الشديد السريع. الدوسري: الضخم: الأرحبي نسبة إلى موضع يقال له الأرحب. يبذ. يغلب. المجدل: القصر. قطوع: ج قطيع ضرب من الثياب الموشاة. العتاق: الكريمة المقربات: الخيل التي يقرب مربطها ومعلقها لكرامتها. الجلال: ج جُل وهو للدابة كالثوب تغطى به وتصان: الرداح: المرأة الثقيلة الأوراك الطَفله: الناعمة البكرات الفتيات. أدم: ج أدماء التي في لونها سمرة. الربرب: القطيع من الظباء. السيال: نبات له شوك أبيض طويل يشبه بها لحدتها. القطف: ج قطيفة: وهي دثار مخمل. الخز: الحرير. الباغزية: ضرب من الثياب- الجازئات: المكتفيات بالرطب عن الماء وهو من صفات الظباء. غض: امتلأ. الدماليج ج دملج وهو حلية تلبس في المعصم. سور ج سوار وهي حلية تلبس في الزند. حوالي: من الحلي.
(2) مقدمة القصيدة العربية 86
(3) قصيدة المدح 539(1/268)
فباتتْ لي وأحسبُها حلالاً ... وبتُّ لها كَمُحتْضنِ الخُصورِ
فبتُّ معانقاً أرنُوا وأُرْنى ... ومرّات على كَفَلٍ وثيرِ
وبتنا في الرّداءِ معاً كأنا ... لنا مُلكُ الخورنقِ والسديرِ(1)
لقد سُرَّ الفرزدق بزيارة خيال صاحبته وشعر بلذة المشاهدة واللقاء الحميم حتى ظن نفسه يملك الخورنق والسدير.
واعتمد الشعراء أيضاً على مقدمة الشيب والشباب في التوطئة لمدائحهم، "وينفرد الفرزدق بافتتاح بعض مدائحه بمقدمة الشيب والشباب لكنه لا يفصل فيها، فهو يصور موقف النساء منه في انصرافهن عنه وإنكارهن لما صار إليه تصويراً رقيقاً قصيراً، ثم ينعطف إلى الماضي يبكي شبابه الغابر ويلم ببعض مباهجه إلماماً خاطفاً"(2)، يقول في مدحه للحجاج
رأيتُ نوارَ قد جعلتْ تَجنَىَّ ... وتُكْثرُ ليْ الملامةَ والعتابا
فلا أسطيعُ ردَّ الشّيبِ عني ... ولا أرجو مع الكبرِ الشبابا
فليتَ الشيبَ يوم غدا علينا ... إلى يومِ القيامةِ كانَ غابا
فلم أرَ كالشباب متاع دُنيا ... ولم أرَ مثل كسوتهِ ثيابا(3)
إنه يصف وضعه الذي آل إليه بعدما كبر، ويكشف عن معاملة زوجه له ونفورها منه، ويظهر إذعانه وانكساره لما توجهه إليه من إهانات لأنه لم يعد يملك أن يرد عن نفسه ما هو فيه ثم يتأسف على شبابه الغابر بحسرة وأسى.
وكرر الفرزدق حسراته هذه في مقدمة مدحته لبشر بن مروان فبدا هزيلاً أمام سخرية النساء منه وانصرافهن عنه، لائذاً بذكريات الشباب يستمد منها بعض العون النفسي: قال:
يا عجباً للعذارى يومَ معقلةٍ ... عيَّرْنَني تحت ظلِّ السّدرةِ الكِبَرا
فظلَّ دمعي ممّا بانَ لي سَرِباً ... على الشباب إذا كفكفْتُه انحدرا
فإن تكن لمّتي أمسَت قد انطلقت ... فقد أصيدُ بها الغزلانَ والبقرا
هل يشُتَمَنَّ كبيرُ السن أنْ ذرفتْ ... عيناه أم هو معذور إذا اعتذرا(4)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 349.
(2) قصيدة المدح 545
(3) ديوان الفرزدق: 89
(4) المصدر السابق: 286(1/269)
وحقاً تبدو المرأة في هذه المقدمة مزورة عن الشاعر زاهدة فيه منصرفة عنه، ولكنه ألا يخطر ببالنا أن نسأل: من هي هذه التي يتحدث عنها؟ أهي حبيبته القديمة أم جويرية صغيرة باعد الزمن بينه وبينها؟ إن الفرزدق يريد أن يلوي عنق الزمان ويردّه إلى الماضي، لكن الزمان شامس عسير الانقياد.
إن هذه المقدمات جميعاً -كما نرى- تفضى إلى المقدمة الغزلية وتتصل بها اتصالاً وثيقاً، فما إن يتحدث الشعراء عن الأطلال حتى يقودهم الحديث إلى وصف محبوباتهم والتغزل بجمالهن، وكذلك حالهم في حديث الظعائن وحديث الطيف وحديث الشيب وتذكر الشباب، "وقد افتتحوا عدداً كبيراً من قصائدهم بالغزل، الذي تغنوا فيه بقصص حبهم وحكايات غرامهم، وكيف أنهم كانوا غارقين في نشوة اللقاء يظنون أن الأيام لن تفرق بينهم وبين محبوباتهم، وأنه لن يكدر علاقاتهم بهن مكدر من مطل أو عذل ويخلصون من الحديث عن القرب والبعد، والوصل والمطل، وما يخلفه ذلك في نفوسهم من سعادة غامرة، وألم ممض ومن شوق وقلق، إلى وصف محاسن صواحبهم وصفاً يبينون فيه مفاتنهم الجسدية، وقد يلمون ببعض صفاتهن المعنوية"(1)
ونهض جرير بهذه المقدمة نهضة واسعة وأمدها بتيار دافق من المشاعر الرقيقة والأحاسيس الشفافة، وكل من يقرأ غزله يحس أنه يفارق صورة الغزل القديم مفارقة واضحة فهو يتناول بعض العناصر القديمة ويسرف في التحوير فيها، وهو "لا يحتفل احتفال القدماء بوصف الجسد ولا يدقق تدقيقهم به، ولكنه يولي الأوصاف النفسية من عنايته فوق ما كانوا يولونها، فيتحدث عن حلم حبيبته ورزانتها وعفة لسانها وبعدها عن النميمة(2)، ففي مدحه لعبد الملك بن مروان نرى هذه المزاوجة بين وصف الجمال الجسدي والجمال المعنوي. يقول:
أواصلٌ أنت أمّ العمرِ أم تَدَعُ ... أم تقطعُ الحبلَ منهم مثلَ ما قطعوا
__________
(1) مقدمة القصيدة العربية 59
(2) قصيدة المدح 520(1/270)
تمّتْ جمالاً وديناً ليس يقربُها ... قسُّ النصارى ولا مِنْ هَمّها البِيَعُ
من زائر زارَ لم تَرْجعْ تحيتَهُ ... ماذا الذي ضرَّهُمْ لو أنهم رجعوا
حْلأَتِ ذا غلَّةٍ هَيْمانَ عن شرع ... لو شئتِ روّى غليلَ الهائمِ الشّرَعُ
ماردُّكُمْ ذا لبانات بحاجتهِ ... قد فاتَ يومئذ من نفسه قطِعُ(1)
وما أكثر ما تحدث الباحثون عن غزل جرير، ورأوا فيه ملامح عذرية كثيرة، فكأن صورة المرأة فيه تفارق صورتها الجاهلية أو هي امتداد لصورتها لدى الشعراء المتيمين في الجاهلية كالمرقشين الأكبر والأصغر، وقد وشتها وزانتها ملامح إسلامية لم يكن لهم بها عهد من قبل.
والمقدمة الغزلية في مدائح الأحوص "كنز من المشاعر والأحاسيس الزاهية لا يعرف النفاذ. فكأنه كان موكلاً دون الناس جميعاً بالعشق والشوق والحنين. وغزل هذه المقدمات يظل عذباً رقيقاً فياضاً بالمشاعر والأحاسيس فيه لوم وصد وعذل وكاشحون وعذال وفيه مخادعة للمجتمع وضعف وشكوى مرة منه وفيه ومضات عذرية رقيقة -كمخاطبة بيت الحبيب والحديث إليه واسترحام صاحبته"(2)ونجد ذلك في مدحه لعمر بن عبد العزيز، يقول فيها:
يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... حذر العِدَى وبهِ الفؤادُ مُوَكَّلُ
أصبحتُ أمنحُكَ الصدودَ وإنني ... قسماً إليكَ مع الصدودِ لأَمْيَلُ
ولقد نزلتَ من الفؤاد بمنزلٍ ... ما كان غيرُكَ والأمانةِ يَنْزِلُ
ولقد شكوتُ إليكَ بعضَ صبابتي ... ولمَا كتمتُ من الصبابةِ أطولُ(3)
__________
(1) ديوان جرير 293
(2) قصيدة المدح 630
(3) ديوان الأحوص 166 تعزل الشيء تنحى عنه(1/271)
تلك هي صورة المرأة في مقدمات قصائد المدح، أما صورتها في تضاعيف المدح ذاته فكانت صورة لا تحتل هذه المساحة الكبيرة التي رأيناها في المقدمات. وكان الشاعر كثيّر أول من مزج بين المدح والغزل في العصر الأموي متأثراً بالحطيئة الذي كان "يلون تلوينا بديعاً في تصوير البطولة فيمزج المدح بالغزل مزجاً طريفاً فتاناً دون أن يعبث بأسلوب الصناعة الفنية الموروث أو يحور فيه، ثم جاء كثيّر وفعل ذلك في مدح عبد الملك بن مروان"(1) على نحو ما نرى في قوله:
إذا ما أراد الغزو لم تَثْنِ عزمَهُ ... حصَانٌ عليها نظْمُ دُرٍّ يزينُها
نهته فلّما لم تَرَ النهْيَ عاقَه ... بكتْ فبكى مما شجاها قطينها
ولم يَثْنِه عند الصبابةِ نَهْيُها ... غداةَ استهلَت بالدموع شؤونها(2)
وتبدو المرأة في بعض مدائح جرير شريكة للشاعر في طلب النوال صراحة، أو تبدو هي وأولادها وسيلة للاستعطاف والتكسب، فهو يوطئ لمدحه بتصويرها جائعة لا تجد ما يسدّ الرمق، وتصوير أطفالها جياعاً لا تجد ما تسدّ به أفواههم، فتحتال عليهم، وتعلّلهم بأنفاس من الماء البارد كلما تضوّروا جوعاً. وتكاد هذه الصورة تجعل جريراً شبيهاً بمهرّج الملك الذي يريد أن يضحكه أكثر مما يريد أن يثير عطفه وإشفاقه على نحو ما نرى في مدحه لعبد الملك بن مروان:
تعزّت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي لقاح
تعللّ وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
__________
(1) قصيدة المدح 255 وكان الحطيئة قد قال "إذا هم بالأعداء لم يثن همه /كعاب عليها لؤلؤ وشنوف".
(2) ديوان كثيّر 241 الحصان: المرأة العفيفة والقصة المتصلة بهذا البيت والذي يليه مشهورة. فقد خرجت عاتكة مع حشمها في وداع عبد الملك عندما خرج لغزو مصعب، فلما ودعته بكت وبكى حشمها معها فقال عبد الملك؟ قاتل الله كثيراً كأنه كان يرى يومنا هذا حيث يقول لأبيات..(1/272)
ويذكر القطامي في مدحه زفر بن الحارث ابنته "ضباعة" ويحاورها في أمور قومها وما آلت إليه أحوالهم، ويصور لها ما كان من أمر الحرب وكيف فرقت هاتين القبيلتين المتراحمتين، ويستنهض فيها صلة الرحم، ويبعث في نفسها الحزن وهو يوازن بين حال الناس وحالهم، لعلها ترى في الأمر رأياً غير استمرار الحرب. وتبدو "ضباعة" ههنا رمزاً لأبيها سيّد قومه، ومن اليسير أن نصرف حديث الشاعر إلى هذا الأب لا إلى ابنته. ولعل هذا النص من أجمل النصوص التي تبدو فيها المرأة محوراً أساسياً تدور حوله أفكار القصيدة. يقول:
قفي قبلَ التفرُّقِ يا ضُباعا ... ولا يكُ موقفٌ منك الودَاعا
قفي فادي أسيَركِ إنَّ قومي ... وقومك لا أرى لَهمُ اجتماعا
وكيف تجامُعٌ معَ ما استحلاّ ... من الحُرَمِ العِظِام وما أَضاعا
ألم يَحْزُنْكِ أنّ حبال قيسٍ ... وتَغْلبَ قد تباينتِ انقطاعا
يُطيعونَ الغُواة وكان شراً ... لمؤتمرِ الغوايةِ أنْ يُطاعا
ألم يحْزنْكِ أنَّ ابني نزارٍ ... أسالا من دمائِهما التّلاعا
وصارا ما تغُبُّهما أمورٌ ... تزيدُ سَنى حريقهما ارتفاعا
كما العظمُ الكسيرُ يُهاضُ حتى ... يُبَتَّ وإنما بدأَ انصداعا
فأصبحَ سيلُ ذلك قد ترقّى ... إلى مَنْ كانَ منزلُه يَفَاعا
وكنتُ أظنُّ أنّ لذاك يوماً ... يبُزُّ عن المخّبأةِ القِناعا
ويومَ تلاقتِ الفئتانِ ضربْاً ... وطعْناً يَبْطَحُ البطلَ الشجاعا
ترى منهُ صدورَ الخيل زُرْرَاً ... كأنَّ به نحازاً أو دُكاعا
وظلَّتْ تعْبطُ الأيدي كلوماً ... تمُجُّ عروقُها عَلَقا متاعا
قوارشَ بالرماحِ كأنّ فيها ... شواطِنَ يُنْتَزَعْن بها انتزاعا(1/273)
كأنّ الناسَ كلَّهم لأُمّ ... ونحنُ لعلّةٍ عَلت ارتفاعا(1)
3-في النقائض:
__________
(1) ديوان القطامي: 31 ضباعة: بنت الحارث الكلابي. يطيعون الغواة: كان شراً طاعة من يأمر بالغي. ابنا نزار: ربيعة ومضر. النحاز: داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها تسعل سعالاً شديداً. الدكاع: سعال يأخذ الإبل وقيل داء يأخذ الإبل والخيل في صدورها كالسعال، العبط: أن يعبط البعير من غير علة عبط الذبيحة يعبطها: نحرها من غير داء ولا كسر وهي سمينة. مج العروق: ما يخرج منها من الدم: والعلق: ما يخرج من الدم. اقترشت الرماح: إذا وقع بعضها على بعض. رمح شطون: طويل أعوج الشطن: الحبل. بنو العلات: أن يكونوا إخوة لأب والأمهات شتى.(1/274)
تحولت المرأة في النقائض إلى ملك مباح يتناهبه الشعراء كما يحلو لكل منهم، ففقدت صورتها الأنثوية العذبة الجميلة، وغاب وجودها الإنساني الدافيء، العامر بالقيم، وراح هؤلاء الشعراء يعضونها بالظفر والناب، فيجردونها من الأخلاق السامية والقيم الاجتماعية النبيلة، ويقذفونها بفاحش القول ثم لا يجدون في ذلك كله حرجاً..!! وتكاد النقائض تشبه الفن السابع في أيامنا عندما يتناول موضوعات هابطة قوامها الابتذال الذي يتضمن كماً كبيراً من التركيز الجنسي واستثارة الغرائز بأسلوب رخيص يعتمد على جذب عدد أكبر من الجمهور، وكأنه مصدر للتنفيس مسموح به أو هي كما رأى الدكتور شوقي ضيف "كانت عملاً يراد به قبل كل شيء تسلية الجماعة العربية الجديدة في البصرة، فقد تكون المجتمع العربي هناك في شكل مدينة لأول مرة في تاريخ القبائل التي نزلت البصرة، وهي قبائل أكثرها مضرية، إذ كان جمهورها من قيس وتميم وربيعة، وكانت هذه القبائل تعيش في أثناء العصر الجاهلي في البادية جاهدة في تحصيل قوتها وأسباب عيشها، فلما جاءت الفتوح واشتركت هذه القبائل فيها، أنزلها عمر في البصرة والكوفة بعد أن اختطهما على حدود فارس. وأخذت جموعها تعيش في هاتين المدينتين معيشة جديدة يخدمهم فيها الفرس وغيرهم من الموالي، وقد ملأت الفتوح حجورهم بالأموال، ونُظّم لهم عطاء في دواوين الدولة، وأتاح ذلك كله لهم حياة هادئة رخية، ليس فيها شظف العيش القديم، إنما فيها الراحة والفراغ والعطلة، وخاصة لمن لم يشتركوا في الثورات والانتقاض على بني أمية.
والمفروض أن أي جماعة يوجد فيها هذا العطل تحاول أن تقضي بعض أوقات فراغها في شيء تتلهى به، وتتسلى، وتقطع مسافة الفراغ، وكان لا بد لجماعة البصرة أن تشغل نفسها بفن من فنون اللهو وضرب من ضروب التسلية.(1/275)
ولم تكن نقائض جرير والفرزدق إلا هذا الفن الجديد الذي وجدت فيه البصرة كلّ ما تريد من لهو وتسلية وقطع وقت أو فراغ. فهي اللعبة التي يُعجب بها القوم والتي كانوا يخرجون للفُرجة عليها في هذا المسرح الكبير، مسرح المربد الكبير الذي كانت تختلف إليه القبائل والجماهير"(1).
وتبدو المرأة مادة أساسية في النقائض، يوظّفها الشعراء في موضوعي النقيضة الأساسيين "الفخر والهجاء" ولكن هذا المكان المهم الذي تخصصه النقيضة للمرأة يختلف اختلافاً كبيراً عن مكانها في موضوعات الشعر الأخرى، لأنه مرتبط بأسلوب خاص بالنقائض هو أسلوب الفحش في القول والإقذاع في تناول أعراض الأمهات والزوجات والأخوات، حتى أحسست أن النقيضة التي لا تتناول هذه المعاني يمكن أن تكون أدرجت خطأ في باب النقائض.
فهدف النقيضة الأساسي الذي يتعلق بالمرأة هو النيل من شرفها ووظيفتها في النسل، والتهكم من دورها في العلاقة الزوجية والانحراف بها عن هدفها السامي إلى الرذيلة والفجور.
وصورة المرأة في مقدمة النقيضة تفارق صورتها في تضاعيفها مفارقة شديدة، ففي مقدمة النقيضة نعثر على صورة للمرأة متوجة بالحب والغزل، تشع بأرق المشاعر وأرهفها. وتكشف عن دور المرأة في الحب والحياة والشعر.
أما صورتها في النقيضة ذاتها فتنحصر في وظيفة المرأة الجنسية، وتتسع هذه الصورة لتمسخ هذه الوظيفة وتحولها إلى رجس من عمل الشيطان. ويطور الشعراء من هذه الصورة ويمدون من طاقتها في السخرية والهجاء.
وقد تمكنت بعد جهد من انتقاء بعض الشواهد التي يمكن أن تقرأ، وانصرفت عن سواها إلاّ ما كان من إشارتي السابقة، وما سيكون من الإحالة على هذه النصوص في الهامش.
يقول الفرزدق ساخراً من والدة جرير ومن الأجنة الذين حملتهم في رحمها، ولا يكتفي بذلك، بل ينعت هذه الرحم بالخبث والقباحة:
وابنُ المراغةِ يدَّعي مِنْ دارمٍ ... والعبدُ غيرَ أَبيهِ قد يَتَنحَّلُ
__________
(1) التطور والتجديد 182-183(1/276)
أزرى بجرْيك أنّ أُمّك لم تكن ... إلا اللئيمَ من الفحولة تُفْحلُ
قَبَحَ الإلهُ مقرَّةٌ في بطنِها ... منها خرجت وكنتَ فيها تُحْمَلُ(1)
فيرد عليه جرير بنقيضة تتضمن مقدمة غزلية تبوح بشاعرية مرهفة، يقول فيها:
لمنِ الديارُ كأنّها لم تُحْلَلِ ... بين الكِناسِ وبينَ طَلْحِ الأعْزَل
ولقد أرى بكَ والجديدُ إلى بِلى ... موتَ الهوى وشفاءَ عين المُجتْلي
نظرتْ إليك بمثلِ عَيْنَي مُغْزلٍ ... قطعتْ حِبالَتها بأعلى يَلْيَل
وإذا التمستَ نوالَها بخِلَتْ بهِ ... وإذا عرضتَ بودِّها لم تَبْخَل
ولقد ذكرتُك والمطيُّ خواضعٌ ... كأنُهنّ قطا فلاةٍ مجْهَلِ
ويقول فيها أيضاً:
يا أُمَّ ناجية السلامُ عليكمُ ... قبلَ الرواحِ وقبل لومِ العُذَّلِ
لو كنتُ أعلمُ أن آخِرَ عهدِكمْ ... يومُ الرحيل فعلتُ ما لم أَفعلِ(2)
ثم يكمل في الهجاء ويتناول جعثن(3) بأحقر الصفات وأرذلها، وما إن يفرغ من جعثن حتى يوسع دائرة هتكه فيهجو بنات مجاشع جميعهن، ويلصق بهن أبشع الصفات ويسلبهن كل فضيلة أو قيمة أخلاقية(4).
ويكرّ الفرزدق ثانية على جرير، فيهجو بنات قومه، ويرميهن بالفحش والرذيلة، ويتهمهن بعلاقات غير شرعية، بسبب فجورهن وجرأتهن، ويسترسل في سلسلة هذه الاتهامات بعد مقدمة في الغزل يقول فيها:
أقولُ لصاحبيَّ من التعزّي ... وقد نكّبْنَ أكَثبةَ العقار
أعيناني على زفراتِ قلبٍ ... يحِنُّ برامتينِ إلى النَوار
__________
(1) النقائض: 202-203 مقرة: مسقر الولد في الرحم
(2) المصدر السابق: 211. الكناس موضع من بلاد غني. الأعزل: واد لبني كلب به ماء يسمى الأعزل. الطلح: شجر من العضاه المجتلي: المنتقل. مغزل: ظبية معها غزالها .. بليل: موضع. قطا فلاة أي يبادر إلى فراخه في الماء.
(3) النقائض 222
(4) المصدر السابق: 230(1/277)
إذا ذُكِرتْ نَوارُ له استهلّتْ ... مدامُع مُسْبلِ العبراتِ جارِ(1)
وما أن يصل إلى الهجاء حتى يندفع كالنار الملتهبة التي تحرق كل ما تستطيع عليه يقول:
نساء بالمضايق ما يواري ... مخازيهُنّ مُنْتَقبُ الخمار
وما أبكارُهُنّ بثِّيَباتٍ ... ولَدْنَ من البعولِ ولا عذاري(2)
ولم يكن واحدهم يهتم بما يدعي على النساء من اختلاق وافتراء، بل اشتهر عن جرير أنه كان أكثرهم إفحاشاً وإقذاعاً(3). وفي النقائض نماذج كثيرة تثبت هذا القول(4). ولست أدري كيف يستقيم هذا الأمر مع ما يردّده الباحثون من الحديث عن تأثر جرير تأثراً عميقاً بالإسلام، وعن نفسه الرقيقة الصافية؟!
وكانت المنافسة بين الشاعرين تدفعهما إلى التزيد والمغالاة في تناول الأعراض وهتك القيم، ليفوز كل على صاحبه كلما أوغل في القذف والشتيمة.
يقول جرير في قصة جعثن وقصة زواج الفرزدق من النوار التي لم يطلب بثأر أبيها بسبب جبنه ولؤمه:
ألم تَخْشَوا إذا بلغ المخازي ... على سَوْآتِ جِعْثنَ أن تثارا
فإنّ مجرَّ جعثن كان ليلاً ... وأعْينُ كانَ مقتَلُهُ نهارا
فَلَوا أيامَ جِعْثنَ كان قومي ... همُ قومُ الفرزدقِ ما استجارا
تزوجتم نوارَ ولم تُريدوا ... ليُدْرِكَ ثائرٌ بأبي نوارا(5)
__________
(1) المصدر السابق: 231 نكبن: عدلن عنها وتركنها ناحية. العقار: أرض لباهلة. استهلت: قطرت قطراً له صوت من شدة وقعه.
(2) المصدر السابق: 232 أي إن المرأة يواريها خمارها وهؤلاء لا يواريهن شيء لفجورهن. وهن لم يلدن من أزواجهن.
(3) التطور والتجديد 210
(4) النقائض 592- 691- تهتك جرير وفحشه في تناول جعثن وبنات مجاشع.
(5) النقائض 251 تثارا: تذكر ويتحدث بها. أعين: أبو النوار وهو ابن ضبيعة بن ناجبة أي كان مقتله واضحاً وتزوجها ولم يطلب بثأر أبيها.(1/278)
وكثيراً ما كان يتدحرج هذا البطلان والسفه والافتراء بعد مقدمة غزلية تفيض بأرق المشاعر وتكشف عن نفس مشرقة وصفاء روحي وعذوبة آسرة. يقول جرير في مقدمة هذه النقيّضة:
ألا حيّ الديارَ بسُعْد إنّي ... أحُبُّ لحبِّ فاطمةَ الديارا
أرادَ الظاعنون ليَحْزنوني ... فهاجوا صدعَ قلبي فاستطارا
لقد فاضَتْ دموعُكَ يومَ قوِّ ... لبَيْنٍ كان حاجته ادّكارا(1)
وكانت المعاني المكشوفة التي تتناول أعراض النساء مثار نقد ورفض عند عدد كبير من الأدباء والباحثين الذين ناقشوا قضايا الأدب الأموي، وبيّنوا أثر هذا الأسلوب في السلوك الفردي وفي أخلاق الجماعة في المجتمع الواحد. وقد سجّل ذلك الدكتور أحمد الشايب في قوله: "وإذا لاحظ بعض النقاد الأمويين خطر غزل عمر بن أبي ربيعة على نساء الحجاز إذ ذاك، فلا شك أن هذا الفحش العراقي كان مسبة شنيعة يستخذي منها النساء والرجال جميعاً. كان خطر الغزل العمري ناشئاً عن أنه يوقظ المرأة ويثير شهواتها ويغري الرجال باللهو والعبث، وكان هذا الفحش الهجائي ناشئاً عن تصوير العورات واختلاق الشناعات والإلحاح في وصفها وسرد تفاصيلها بلغة مكشوفة وأسلوب واقعي. وقد نال جعثن أخت الفرزدق وأم جرير من ذلك أذى كثير"(2)
ولم تكن نقائض جرير والأخطل أكثر تهذيباً أو بعداً عن السب والشتم والهجاء، فقد كانا يتنافسان في تناول النساء ونسبتهن إلى أنواع الفحش والرذيلة مستعرضين أكثر الألفاظ بذاءة وأكثرها بعداً عن الذوق والحياء.
يقول جرير واصفاً والدة الأخطل بأبشع الصفات الهجائية، فيعيرها الامتهان في الأعمال الحقيرة والدناءة في طلب الشهوات والمال وشرب الخمر ويين أثر الشراب على أخلاقها وحركاتها بسخرية لاذعة وتهكم مرير:
__________
(1) المصدر السابق: 249بسعد: موضع بلاد بني تميم وقيل ماء لبني قشير وبني سعد. استطار: تصدع صدعاً في طول حاجة البين: كان أن تذكرت من تهوى.
(2) تاريخ النقائض 412(1/279)
نَزَتْ أمُّ الأخيطل وَهْيَ نشوى ... على الخنزير تَحسبُه غزالا
تظلُّ الخمرُ تخلجُ أَخدعَيْها ... وتشكو في قوائمها امذلالا
من المتولّجات على النشاوى ... ولم تَلجِ الخدورَ ولا الحجالا
أتَحْسِبُ فَلْسَ أُمِّك كان مجداً ... وجزَّكُمُ عن النَّقدِ الجُفالا
إذا انْفتَقَتْ عبايتُها وراحتْ ... رأى الراؤونَ داهيةً عُضالا(1)
وكسب جرير الموقف ضد الأخطل بسبب نصرانية الأخطل التي كانت سبباً يمنعه من الخوض في أعراض المسلمات على نحو ما كان بين الفرزدق وجرير.
فكان الأخطل أقلهم فحشاً وتهتكاً، فلم يملك إلا أن يرد عليه بهذه الأبيات التي يتهم فيها قوم جرير بأنهم لا رأى لهم بل هم يأتمرون بأمر أزواجهم اللواتي يهوين الغرباء، ويسعين خلفهم، وليس لهم شرف قديم إلا أنهم أصحاب حمير:
ما زال فينا رباطُ الخيلِ معلمةً ... وفي تميم رباطُ الذُلّ والعارِ
النازلين بداءِ الذلِ إنْ نزلوا ... وتستبيح كليبٌ مَحْرَمَ الجارِ
والظاعنونَ على أهواءِ نسوتِهم ... وما لهم من قديم غيرُ أعيار(2)
واستمرت المعركة بينهما على هذه الحال حتى فصل بينهما الموت، وكأن هجاء النساء ورمي المحصنات والمغالاة في الإقذاع والفحش مقوّمات لا بد للنقيضة منها.
__________
(1) نقائض جرير والأخطل 195 الأخدعان، العنق. امذلال: استرخاء. المتولجة: الداخلة عليهم النشاوى: السكارى. الفلس: الخاتم من الرصاص يختم به عنقها. والنقد صغار الغنم وهي من المعزى خاصة قصار الآذان قليلة الألبان. الجفال: الشعر والصوف. العضال من الدواهي العظيمة ومن الأدواء الذي لا دواء له.
(2) نقائض جرير والأخطل 134 الرباط: إذا تناسلت الحجور عند القوم فذلك الرباط. أي ما زلنا أهل خيل تتناسل عندنا وفي كليب تناسل اللؤم والشنار. تسبّح: تجعله مباحاً. المحرم: الحرمة الظاعنون: السائرون.(1/280)
على هذا النحو سجل شعراء النقائض صفحة سوداء في تاريخ الشعر الأموي خلخلت ملامح المرأة الأخلاقية في هذا العصر لإرضاء نزعة الهجاء والقذف بينهم متجاوزين حدود الله وتعاليم الإسلام في هذا الصدد. على أنه ينبغي التذكير بما كانت تحتويه النقيضة ذاتها من مقدمة مشرقة ترسم صورة إيجابية للمرأة إلى جوار هذه الصورة القبيحة الشريرة المخزية التي طغت على الصورة الأولى وبدّدتها، وصارت علامة مائزة تميز النقائض جميعها من سواها من الشعر.
بيد أننا قد نظفر ببعض النقائض خارج دائرة شعر هؤلاء الفحول، فلا نرى فيها شيئاً مما رأيناه وأنكرناه في نقائض الفحول، فهي تومئ إلى الحب والإعجاب ثم لا تجاوزهما، وإلى الغضب والسخط على هذه الإيماءة وردّها ردّاً لا يخلو من غلظة جافية يدفع إليها الحرص على العرض والذود عن المحارم على نحو ما نرى في هذا الخبر الذي يرويه صاحب الخزانة عن هدبة بن الخشرم العذري وزيادة بن زيد بن مالك من بني رقاش، يقول:
"كانا يتعاقبان السوق بالإبل ومع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال:
عوجي علينا واربعي يا فاطما ... ما بين أن يُرى البعيرُ قائما
ألا تَرَيْن الدمعَ مني ساجما ... حذارَ دارٍ منك أنْ تُلائما
فعرَّجتْ مطرَداً عُراهِما ... فعماً يبذُّ القطُفَ الرواسما
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أم خازم فقال:
لقد أراني والغلاما الحازما ... نزجي المطيَّ ضُمّراً سواهِما
متى تقولُ القُلُصَ الرواسما ... والجلَّةَ الناجيةَ العيا هما
يَبلغن أُمَّ خازمٍ وخازما ... إذا هبطنَ مستحيراً قاسما
ورفّع الحادي لها الهماهما ... ألا تَرَيْنَ الحزنَ مني دائما(1/281)
فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلاً فصاح بهما القوم: إنا قوم حّجاج وخشوا أن يقع بينهما شر، فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقاً لأنه رأى زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع وكانت أخت زيادة غائبة، ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابه فقتله وهرب"(1).
ولا غرابة فيما فعل هدبة فقد كان من أمثالهم المشهورة في تلك الأونة: "كل شيء مهه ما خلا النساء"(2) ولكن أين ردة فعل المجتمع عامة على نقائض جرير والفرزدق والأخطل من هذا المثل؟
4-في قصائد الرثاء:
كنت قد فصّلت القول في رثاء المرأة (الزوج) في الفصل الأول من هذا البحث، فوقفت على عدد من نصوص الرثاء، وحاولت الكشف عن التجارب الإنسانية التي تصورها تلك النصوص، غير أنني أحب أن أستكمل القول فأتحدث عن رثاء الشعراء العذريين لحبيباتهم، والغريب في الأمر أن حبيبات الشعراء العذريين قد متن قبل عشاقهن، وقد تسنّى لهؤلاء أن يرثوهن ببعض النشيد الحزين.
وكان قيس بن ذريح قد سمع بموت لبنى وهما منفصلان، فخرج ومعه جماعة من أهله حتى وقف على قبرها، وقال:
ماتت لبينى فموتُها موتي ... هل تَنْفَعَنْ حسرة على الفَوْتِ
وسوف أبكي بكاءَ مكتئبٍ ... قضى حياةً وَجْداً على ميتِ
ثم أكب على القبر حتى أغمي عليه، ومات بعد ثلاث، فدفن إلى جانبها(3).
__________
(1) الخزانة 9/335
(2) جمهرة الأمثال: 2/139 مهه: أي يسير محتمل.
(3) ديوان قيس بن ذريح 72(1/282)
أما مجنون ليلى فكان أكثر لوعة عندما سمع بموت ليلى فنشج بأبيات عدة يصوّر فيها حزنه وجزعه وذهوله فكأنما طار لبّه من هول ما سمع فإذا هو يكرّر هذا النداء "أيا ناعيي ليلى.. ويا ناعيي ليلى.. ويا ناعيي ليلى" الذي يقوّي المعنى في النفس، ويعمق الإحساس بالفجيعة على نحو ما هو معروف من وظائف التكرار اللغوي، وهو قرن هذا النداء المتكرر بهذه الأسئلة الحائرة التي لا تنتظر جواباً لامتلاء النفس بمشاعر الهلع "أما كان.. فمن بعد.." ثم يردف هذا التكرار في النداء والسؤال بتكرار الدعاء على هذين الناعيين فكأننا أمام مفجوع ينشج نشيجاً مراً فينعقد لسانه إلا عن ألفاظ قليلة يكررها، وينوع -دون أن يدري- صياغتها، ولكنها -على اختلاف الصياغة- تجمّع المشاعر في بؤرة واحدة فتزيد إحساسنا بها:
أيا ناعِيَيْ ليلى بجانب هَضْبةٍ ... أما كانَ ينعاها إليَّ سواكُما؟
ويا ناعيَيْ ليلى بجانب هضبةٍ ... فمنْ بعدِ ليلى لا أُمرَّتْ قواكُما؟
ويا ناعيي ليلى لقد هِجْتُما لنا ... تباريح نَوْحٍ في الديار كلاكُما
فلا عِشْتُما إلا حلَيفْي مصيبةٍ ... ولا متُما حتى يطولَ بلاكما
وأسلمْتِ الأيامُ فيها عجائباً ... بموتِكما إَني أُحبُّ رُدَاكُما
أظنُّكما لا تعلمان مصيبتي ... لقد حلَّ بينُ الوصلِ فيما أراكما(1)
وفي رثاء كثير حزن شفاف وحسرة عميقة واستسلام جريح، وفيه رغبة محزونة قانطة في افتدائها بغيرها، وعودة إلى أيام الحب الغابرة واجترار مرّ لذكراها، ولكنه سرعان ما يعود ويتذكر ما يفصلها عنه من تراب وصفيح، فيترحم عليها رحمة واسعة ويسفح دموعه الغزار، يقول:
سراحُ الدُّجى صفرُ الحشا منتهى المنى ... كشمسِ الضحى نوامةٌ حين تصْبحُ
إذا ما مَشت بين البيوت تخّزلَتْ ... ومالَتْ كما مالَ النزيفُ المُرَنَّحُ
تعلَّقتُ عزَاً وَهْيَ رُؤدٌ شبابُها ... علاقة حُبٍّ كادَ بالقلب يَرْجحُ
أقولُ ونضْوى واقفٌ عند رَمْسِها ... عليكِ سلامُ الله والعينُ تسفحُ
__________
(1) ديوان المجنون 260(1/283)
فهذا فراقُ الحقِ إلا أن تُزيرَني ... بلادَك فتلاءُ الذراعين صَيْدحُ
وقد كنتُ أبكي من فراقكِ حيَّةً ... وأنتِ لَعْمري اليومَ أنأَى وأَنزحُ
فيا عزَّ أنتِ البدرُ قد حالَ دونَهُ ... رجيعُ ترابٍ والصفيحُ المضرَّحُ
فهلا فداكِ الموتَ من أنتِ زيْنُه ... ومن هو أَسوا منك دَلاّ وأَقبح
على أمّ بكرٍ رحمةٌ وتحيةٌ ... لها منكَ والنائي يودُّ وينصحُ
فإن التي أحببتُ قد حال دونَها ... طوالُ الليالي والضريحُ المُصفَّحُ
أربَّ بعينيَّ البكا كلَّ ليلةٍ ... فقد كادَ مجرى الدّمع عينيَّ يَقْرحُ(1)
وتبقى لوحة رثاء المرأة باهتة شاحبة، فنحن نرى في هذه المراثي صورة الشاعر الذي يستبطن ذاته ويحلل عواطفه ويعبّر عنها أكثر مما نرى صورة المرأة.
5-في شعر الحب:
الصلة بين الرجل والمرأة قديمة قدم الإنسان ذاته والرباط العاطفي يقوي العلاقة بينهما ويؤلف إطار الرعاية والحماية لهما، وتختلف طبيعة هذه العلاقة باختلاف المجتمعات ومستوى تطورها، فلا تكاد تنفصل في أي مجتمع عن مستوى الحضارة الذي يحكم هذا المجتمع. وقد رصدت في الفصول السابقة العلاقة بين تطور المجتمع والظواهر الأدبية، فكشفت عن العلاقة بين بيئة المدن الحجازية وما شاع فيها من الحب اللاهي القصصي، وعن العلاقة بين بيئة البادية وما شاع فيها من الحب العذري، وكذا القول في سائر بيئات الشعر الأموي الأخرى.
__________
(1) ديوان كثير 463 صفر الحشا: ضامرة البطن. نوامة يريد أنها مترفة. تخزلت: تثاقلت في مشيها. النزيف: السكران رؤد الشباب: لينة. النضو: الجمل الهزيل. الصيدح: الصياحة الرفيع صوتها. رجيع التراب: الذي أخرج من الحفرة ثم رد إليها. الصفيح: الحجر العريض الرقيق. المضرح: المشقوق المعد للضريح. أرب: لزم وأقام.(1/284)
وأتابع في هذا الفصل الكشف عن طبيعة هذا الحب وعن صورة المرأة والشاعر في كلتا البيئتين. وسأكتفي بنماذج من شعر الحب القصصي والعذري، وأترك القول في الغزل التقليدي في البيئات الأخرى لارتباطه بالشكل الفني للقصيدة أكثر من ارتباطه بالتجربة الوجدانية للشاعر، ولأنني تحدثت عنه في موضوعات الشعر الأخرى (المديح والهجاء والنقائض).
كثر الحديث عن التجديد الذي شهده الشعر العربي في المدن الحجازية وفي بادية الحجاز ونجد، وهو تجديد متشعب لم يصب جانباً واحداً من القصيدة بل أصاب معظم جوانبها فقد تغيّرت لغة الشعر ألفاظاً وتراكيب، وجنحت إلى اليسر والوضوح والقرب، كما تغيّرت موسيقاه بعض التغيّر فكثر قوله في الأوزان المجزوءة التي تصلح للغناء، وقلّ الاهتمام بالصورة الشعرية المصنوعة أو الموروثة، وتخففت القصيدة من موضوعاتها المتعددة، وأصبحت ذات موضوع واحد أو موضوعين متآخيين ولم يكن هذا الموضع غير "الحب".
وقد أوشك عدد كبير من شعراء هاتين البيئتين أن يقفوا دواوينهم على هذا الموضوع وحده على نحو ما نعرف من شعر عمر بن أبي ربيعة والمجنون وقيس لبنى وآخرين سواهم وهكذا كثرت القصائد والمقطعات التي تتحدث عن المرأة وحدها أو عنها وعمن يحبّها ويدور في فلكها، فاختلفت مكانتها في هذا الشعر عن مكانتها في القصيدة الجاهلية اختلافاً كبيراً، وبدت فيه شخصية أساسية فريدة على الرغم من اختلاف ملامحها في الشعر اللاهي عن ملامحها في الشعر العذري.
فهي في شعر المدن الحجازية امرأة جديدة جريئة محاورة متحضرة تقترح وتعبر عن نفسها بل تسرف في التعبير حتى تبدو ثرثارة ليس لها سر، وعلى الرغم من وجودها البارز في القصيدة، فإن شخصية الرجل- هي الشخصية المحورية، التي تدور في فلكها المرأة محاولة السيطرة عليها وإخضاعها.(1/285)
أما في القصيدة العذرية فتبدو الصورة معكوسة، فتبرز شخصية المرأة مهيمنة على القصيدة، وتتحول شخصية الرجل -الشاعر- إلى شخصية تابعة هامشية تحاول أن تسيطر على المرأة وتفوز بها.
وأستطيع القول: إن الشعر القصصي الحجازي اختص بوصف الشاعر المحب، المغامر، وتحدث عن المحبوبة وصفاتها النفسية بجو من الفرح والمرح والبهجة بأسلوب قصصي أخاذ.
أما الشعر العذري فتحدث عن الشاعر المحب اليائس الحزين الذي ينطوي على خيال تعويضي يقوم على وصف العشق المحروم وتحليل المشاعر الرقيقة الحالمة.
يقول الدكتور طه حسين: "كان جميل وأمثال جميل قوماً غزلين بطبيعتهم، غزلين لأنهم يحبون النساء أو يحبون امرأة بعينها من النساء، يحبونها ويكلفون بها، فيملك عليهم هذا الحب نفوسهم وحياتهم حتى لا يعيشون إلا به وله وحتى لا يصدرون إلا عنه ولا يردون إلا عليه.
وكان عمر بن أبي ربيعة ومن سار سيرته من شعراء بني أمية ينظرون إلى المرأة من حيث هي المثل الأعلى للجمال واللذة والفرق بين هاتين الوجهتين عظيم، كان عمر رجلاً يحب الحياة ويحب المرأة لأنها زينة الحياة أو لأنها اللذة في الحياة"(1).
ويتابع الدكتور طه حسين رأيه في الغزل الإسلامي قائلاً: "لم يكن غزل الإسلاميين وسيلة وإنما كان غاية، لم يكن بريئاً من المادة. إن الغزل الإسلامي العذري أضاف إلى المادة شيئاً آخر، جعله قوام الشعر، نريد به الحب نفسه وما يترك في القلب من أثر، وما يبعث في النفس من عاطفة. وقد وصف العذريون محبوباتهم ولكن هذا الوصف لم يكن الغرض منه الوصف وإنما كان وسيلة لوصف النفس وما تلقى بالحب من شقاء أو سعادة، ومن بؤس أو نعيم.
__________
(1) حديث الأربعاء 110(1/286)
انتقل الغزل في الإسلام -كان في الجاهلية جسم المرأة- فأصبح في الإسلام نفس العاشق. فكانوا يصفون المرأة كما ينبغي أن يصفها إنسان يشعر ويحس ويمتاز بشيء من الشعور والحس لا يخلو من رقة ورقي فكانت المرأة شطراً من النفس"(1).
ويرى الناظر في شعر عمر وأصحابه صدق ما لاحظه الدكتور طه حسين، ففي الشعر القصصي تظهر صورة المرأة المحبوبة وصورة الشاعر المحب على نحو ما نرى في قصيدة عمر الرائية المشهورة في "نعم"، ففيها فيض من الشاعر العارمة ومن الغيرة والعتاب، وفيها هذا التصوير العميق الدقيق لنفسية الأنثى التي تتنازعها مشاعر الوجل من ناحية ومشاعر الحب والتمكن من الحبيب من ناحية أخرى:
فحيّيْتُ إذْ فاجأتُها فتولَّهتْ ... وكادت بمخفوضِ التحيةِ تجهرُ
وقالتْ وعضَّت بالبنانِ فضحَتني ... وأنتَ امرؤٌ ميسورُ أمركَ أَعسرُ
فواللهِ ما أَدري أتعجيلُ حاجةٍ ... سرَتْ بكَ أم قد نامَ مَنْ كنتَ تحذرُ
فقلتُ لها بل قادني الشوقُ والهوى ... إليك وما نَفسٌ من الناس تشعرُ
فقالتْ وقد لانتْ وأفرخَ رَوْعُها ... كلاَكَ بحفِظِ ربُّكَ المتكبِّر
فأنتَ أبا الخطّاب غيرَ مدافعٍ ... عليَّ أميرٌ ما مكثت مؤَمَّرُ(2)
قد صارت "نعم" بين يدي حبيبها إلى الخضوع والسكينة والانكسار، فهي تخاف عليه الأعداء وتدعو له بالحفظ الرعاية، وصار "عمر" إلى أمير جبار له عليها الطاعة والظفر، ولا شك في أنّ إعلاء نعم لشخصية "عمر" على هذا النحو يكشف عن رغبتها في إرضاء نرجسيته لتتمكن من السيطرة عليه والاحتفاظ به. ويبدو عمر في موقف آخر كما بدا في صورته السابقة أميراً مؤمّراً على صاحبته، فبعد أن فاز منها بالذي يريد قامت هي ورفيقاتها يسحبن ذيولهن خلف آثاره التي تركها ومضى غير آبه بشيء مما قد تثيره هذه الأثار:
فبتُّ أَلثُمها طوراً ويمنعُني ... إذا تمايل عنه البردُ والخَصَرُ
__________
(1) المرجع السابق: 552
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة 95(1/287)
حتى إذا الليلُ ولّى قالتا زمَرَاً ... قوما بعيشِكُما قد نوّر السحر
فقمتُ أمشي وقامت وَهْيَ فاترةٌ ... كشارِب الخمر بَطّى مشْيَه الّسكَرُ
يسحبنَ خلفي ذيولَ الخزِّ آونةَ ... وناعمَ العَصْبِ كيلا يُعْرَفَ الأثرُ(1)
وتتكرر صورة هذه المرأة في شعر العرجي، فتبدو خاضعة مهمومة برضاه وحبه، ويكثف صورة ذاته حتى تطغى على صورة المرأة، وتحولها إلى شخصية تابعة لمزاجه وفراغه يقول:
فما أنسَ ملأشياء لا أنسَ مجلساً ... لنا ولها بالسفحِ دونَ ثبيرِ
ولا قولها وَهْناً وقد بلّ نحرَها ... سوابقُ دمعٍ ما يجفُّ غزيرِ
أأنت الذي حُدِّثتُ أنك راحلٌ ... غداة غدٍ أو رائحٌ بهجير(2)
حاول عمر وأصحابه أن يقدموا لنا نموذج المرأة الواقعية في البيئة الحجازية المدنية زمن الأمويين، فإذا هي تبوح بمشاعرها الدافقة، وتظهر جزعها وغيرتها وضعفها الأنثوي من غير تقنع أو ستار وذلك أمام الرجل الذي تحب فقط لأنها بدت في القصائد ذاتها كثيرة الحذر والترقب، محاولة التقنع بألف قناع أمام المجتمع الذي يقيّد مشاعرها وعلاقتها بالرجل.
وقد أكسب عمر صورة المرأة هذه الطرافة والجدة المحيّرة من خلال المزج بين واقع المرأة العربية في الحجاز وبين ما يراه في بيئة المغنيات من التحرر الجرأة.
وإذا كان عمر وأضرابه من شعراء مدن الحجاز يسرفون في تصوير مواقف المرأة منهم، فإن الشعراء العذريين يفعلون النقيض، فيسرفون في استبطان ذواتهم وتحليل مشاعرهم نحو الحبيبة، فتبدو المرأة في شعرهم مستبدّة بخيلة تملك أمور قلبها وقلب من يحبها، ويصور حرمانه من المتعة في الحياة على يديها، وتتحول أغنية عشقه إلى نشيد حزين يفيض بمشاعر حالمة رقيقة وغزل يقوم على الوصف المعنوي للعواطف المجردة. يقول المجنون:
__________
(1) المصدر السابق 115 الخصر: شدة البرد. زمرا: أراد بصوت حسن. فاترة ضعيفة لا تقوى على القيام بطى: أصله بطأ بالهمزة فقلب الهمزة ألفاً لانفتاح ما قبلها.
(2) ديوان العرجي: 75 ثبير: جبل بمكة.(1/288)
متى يشتفي منكِ الفوادُ المعذَّبُ ... وسهمُ المنايا من وصالِك أقربُ
فُبْعدٌ ووجْدٌ واشتياقٌ ورجْفةٌ ... فلا أنتِ تُدْنيني ولا أنا أقرب
كعصفورة في كفِّ طفلٍ يُزُمُّها ... تذوقُ حياض الموتِ والطفلُ يلعبُ
فلا الطفلُ ذو عقلٍ يَرِق لما بها ... ولا الطيرُ ذو ريش يطيرُ فيذهب
ولي ألفُ وجهٍ قد عرفتُ طريقَهُ ... ولكن بلا قلبٍ إلى أينَ أذهب؟(1)
ولا يمل الشاعر من ترديد هذا النشيد الحزين بل لا يجد نفسه إلا في هذا الخضوع السلبي لشخصية هذه المرأة الصلبة التي لا تلين لما به، ولا ترق لحاله، فهو حيران مهزوز لا يستطيع أن يملك من أمر قلبه ولا عقله أي شيء:
فو اللهِ ثم اللهِ إنّي لدائبٌ ... أفكّرُ ما ذنبي إليكِ فأَعجبُ
وواللهِ ما أدري عَلامَ هجرتني ... وأيَّ أموري فيكِ يا ليلَ أركبُ
أَأَقطعُ حبلَ الوصلِ فالموتُ دونَه ... أم أُشربُ كأساً منكُمُ ليس يُشْربُ
أم أُهربُ حتى لا أرى لي مجاوراً ... أم أفعلُ ماذا أم أبوحُ فأُغْلَبُ
فأيُهما يا ليلَ ما تفعلينَه ... فأولُ مهجورٌ وآخرُ مُعْتبُ
فلو تلتقي أرواحُنا بعد موتِنا ... ومن دون رَمْسَينا من الأرض مَنْكَبُ
لظلَّ صدى رَمْسي وإن كنتُ رمَّةً ... لصوتِ صدى ليلى يهشُّ ويطربُ(2)
وعلى الرغم من كل مشاعر الحب التي يحملها لها في قلبه، وإعلانه عن ذلك الحب العظيم، ومحاولته التأثير فيها، فإنها لا تزداد إلا صلابة وجفوة، فهما كل ما تجود به وتملكه. وتبهت صورة الشاعر وتتحول إلى صدى يردد هذه المرارة الخانقة، ويقنع بمصير قد لا ينفع من كان عقله سليماً:
أُحبُّكِ يا ليلى وأُفِرطُ في حبّي ... وتُبدينَ لي هجراً على البعد والقُرْب
وأهواكِ يا ليلى هوْى لو تَنسَّمتْ ... نفوسُ الورى أدناه صِحْنَ من الكرْب
شكوتُ إليها الشوق سِراً وجهرةً ... وبحتُ بما ألقاهُ من شّدةِ الحب
__________
(1) ديوان المجنون 44
(2) المصدر السابق 45 المعتب: المزال عتبه والمتروك ما كان يغضب عليه.(1/289)
ولما رأيت الصدّ منها ولم تكن ... ترقُّ لشكواتي شكوتُ إلى ربيّ(1)
ومن الملاحظ أن قصائد الشعراء العذريين تدور حول محاور ثابتة من الذكريات والأحلام والأمل، وتضمّ ذلك كلّه سلبية قاسية من الشاعر والحبيبة معاً. وتتكرر هذه الملامح النفسية في شعر جميل وكثيّر وذي الرمة، على الرغم من اختلاف تجربة ذي الرمة الفنية عن سائر الشعراء العذريين، يقول جميل:
يا بثنُ جودي وكافي عاشقاً دنِفاً ... واشْفي بذلك أَسقامي وأوجاعي
إنَّ القليلَ كثيرٌ منك ينفُعني ... وما سواه كثيرٌ غيرُ نفّاع
آليتُ لا أصطفي بالجودِ غيرَكمُ ... حتى أُغيَّبَ تحت الرَّمْس بالقاع
قد كنت عنكم بعيدَ الدار مغترباً ... حتى دعاني لحيْني منكمُ داعِ
فاهتاج قلبي لحزنٍ قد يضيِّفُه ... فما أُغمِّضُ غَمضْاً غيرَ تهجاعِ
أَصونُ سرَّكِ في قلبي وأحفظُهُ ... إذا تضايقَ صدرُ الضيِّقِ الباعِ(2)
وكان ذو الرمة يرى "الحب مغامرة خلف المرأة وصراعاً من أجلها، يسره فيه أن يسوء الغيور ويساعف حاجات الغواني ويساير ركبان الصبا التي تغريه بالاندفاع خلفها والانطلاق وراءها، يتمثله بخياله الصغير عيوناً جميلة وأجساداً ممتلئة ناعمة ونساء ظامئات إلى الشباب متعطشات إلى الحب يخفين في قلوبهن أهواءهن التي تظهر على الرغم من كل شيء في عيونهن الطامحة المتطلعة إلى بعيد"(3) يقول:
لعمركَ والأهواءُ من غيرِ واحدٍ ... ولا مُسْعفٍ بي مولعاتٌ سوانحُ
لقد منح الوُدَّ الذي ما ملكْتَهُ ... على النأي ميّاً من فؤادِك مانحُ
وإن هوى صيداءَ في ذات نفسه ... بسائرِ أسبابِ الصبابةِ راجحُ
لعمرُك ما أشواني البينُ إذ غدا ... بصيداءَ مجذوذٌ من الوصلِ جامح
__________
(1) ديوان المجنون 76
(2) ديوان جميل 122
(3) ذو الرمة شاعر الحب والصحراء 105(1/290)
ولم يبقَ ممّا كان بيني وبينها ... من الودِّ إلا ما تحنُّ الجوانح(1)
واشترك مع العذريين في معاناته الوجدانية، فكان يقاسي من هجرها فيبكي، وتسيطر على أشعاره نغمة الحيرة واليأس والحرمان ويتيه بين الحب والحنين، ويمزج بين ذكرياته مع مية وخرقاء فيوزع عاطفته على مراحل عمره كلها بين هاتين المحبوبتين اللتين ملكتا عليه حياته وقلبه، يقول:
يزيدُ التنائي وصلَ خرقاءَ جِدّةً ... إذا خانَ أرماثَ الحبالِ وَصُوْلُها
خليليّ عُدّا حاجتي من هواكُما ... ومَنْ ذا يواسي النفسَ إلاّ خليلُها
ألّمِا بميِّ قبلَ أن تطرحَ النوى ... بنا مطرحاً أو قبلَ بَيْنٍ يُزيُلها
وإن لم يكن إلا تعلُّل ساعةٍ ... قليلاً فإنّي نافعٌ لي قليلُها
لقد أشرِبَتْ نفسي لميّ موّدةً ... تقضَّى الليالي وهو باقٍ وسيلُها(2)
وخلاصة القول: كان الغزل العذري يدور حول وصف المشاعر والعشق الحزين المحروم، ويضخم الإحساس بوجود امرأة قاسية صلبة لا تلين ولا ترق لأعظم مشاعر الحب والغرام.
بينما كان الغزل القصصي يعتمد على وصف الحدث وتصوير الشخصيات في قصة طريفة تقوم على المغامرة، وهي مغامرة لا تكتمل إلا بوجود بطلين هما الرجل والمرأة، الرجل المغامر الجريء والمرأة المشدودة بين الرغبة والرهبة.
( ... ( ... (
الفصل الثاني
المرأة والمعاني في الشعر الأموي
( ... (
__________
(1) ديوان ذي الرمة 864 الأهواء تجيء من ضروب، سوانح: عوارض. غير مسعف لا يدنو. مانح: فاعل أسباب الصبابة: سبلها، أشواني: أصاب مقتلي. الجوانح: الضلوع القصار في الصدور مما يلي الفؤاد.
(2) المصدر السابق: 912 التنائي: البعد. أرماثه: خان أرماث الحبال أتاها الهلاك والقطع من قبل الوصول ألما بي: أي كونا معي قبل أن نتفرق أشربت: ألزمت. الوسيلة المنزلة.(1/291)
إلى أي مدى اختلفت المرأة في المجتمع الأموي عن أختها الجاهلية في صفاتها وملامحها وقيمها؟ وإلى أي مدى اختلفت صورة الجمال المثالي في العصر الأموي عنها في العصر الجاهلي؟ وإلى أي مدى عبّر الشعر عن هذا التطور الذي أصاب الذوق والحس الجمالي؟
لقد جاء الإسلام بكنوز من القيم الاجتماعية والخلقية والدينية وغيرها، ولكنه لم ينسخ القيم القديمة كلّها، بل نسخ بعضها، واحتضن بعضها وطبعه بطابع إسلامي، ولسنا نبعد عن الواقع إذا قلنا إن ما فعلته منظومة القيم الإسلامية في وجوه الحياة المختلفة قد فعلته أيضاً بمفهوم الجمال الأنثوي، فقد استمرت قيم جمالية جاهلية كثيرة تتردد على ألسنة الشعراء الأمويين، وقد ترددت على ألسنتهم قيم جمالية أخرى لم يكن للشعر العربي عهد بها قبل ظهور الإسلام. ولذا فإن الناظر في الشعر الأموي الذي اتخذ المرأة موضوعاً له يلاحظ بوضوح مجموعة من المعاني التقليدية التي فرضت سلطانها على الشعراء عامة وعلى من عرف منهم بإخلاصه للنموذج الجاهلي خاصة. كما يلاحظ مجموعة من المعاني والقيم الإسلامية الجديدة تتلألأ في هذا الشعر على تفاوت في مقاديرها من شاعر إلى آخر. وبناء على ما تقدم يمكنني إذاً عرض الأفكار والمعاني التي تناولت المرأة في الشعر الأموي من خلال تيارين ثقافيين تأثر بهما الشعر في العصر الأموي هما: التيار الجاهلي القديم، والتيار الإسلامي الجديد.
وموضوع الحب من أكثر الموضوعات الشعرية التي أحيت التراث الشعري الجاهلي بلغته الحية القادرة على اختزان المشاعر الدافقة وإبقائها في تدفع وإشعاع نابض في الحياة لا يكاد يخبو على تقادم الزمن.
وفي هذا الجانب من الشعر الأموي -الحب والمرأة - ظلت المعاني الجاهلية تفرض سلطانها على الحديث عن المرأة وأياً كان موقع هذه المرأة من القصيدة، وظلت خيوط الارتباط بالنموذج الجاهلي وثيقة جداً.(1/292)
ولا يتعب الباحث كثيراً في ملاحظة مدى التشابه بين امرئ القيس وشعراء العصر الأموي ولا سيما عمر بن أبي ربيعة، أو بين الأعشى وبينهم، أو بين النابغة وزهير وبينهم جميعاً.
فالمعاني التي رسمت صورة المرأة الأموية تحدرت من أصل جاهلي، ولا ينكر أن بعض الشعراء قد صاغوا تلك المعاني القديمة صياغة مطبوعة بطابع عصرهم، ومختلفة بعض الاختلاف عن الصياغة الجاهلية، فقد يشعب الشاعر في أحد المعاني، ويولد منه صورة تمتد عدة أبيات على نحو ما نرى في تصوير عمر بن أبي ربيعة للفم في قوله:
فَسَقَتْكَ بَشْرةُ عَنْبَراً وقرَنْفُلاً ... والزنجبيلَ وخِلْطَ ذاكَ عُقارا
والذوبَ من عَسَلِ الشّراةِ كأنما ... غَصَبَ الأميرُ تَبيعَهُ المُشتْارا
وكأنَّ نُطْفة باردٍ وطَبر زَداً ... ومُدامةً قد عُتّقت أَعْصارا
تجري على أنيابِ بَشْرةَ كلّما ... طرقتْ ولا تدري بذاك غرارا(1)
وليست تتمثل الجدة هنا بهذه الإطالة فحسب، بل تتمثل أيضاً في هذا الحديث المباشر عن الفم المملوء بهذه الجزئيات الكثيرة من العنبر والقرنفل والزنجبيل والعقار والعسل والماء مما يشي بروح التحضر التي يصدر عنها هذا الشاعر، وقد كان سلفه الجاهلي يستطرد حقاً في تصوير هذا الفم، ولكنه لم يحشد كل هذه الجزئيات ولم يكن -إذا حشدها- يتحدث عن الفم هذا الحديث المباشر، بل كان يلجأ إلى الاستطراد في معرض الصورة كأن يصّور طيب الريق أو الرائحة من خلال حديثه عن روضة من الرياض مثلاً. وقد يختصر الشاعر المعنى ويوجزه في بيت واحد كما في قول عمر نفسه يصف أسنانها المتباعدة التي تشبه زهر الأقحوان الندي:
__________
(1) ديوان عمر 128 بشرة اسم امرأة: خلط ذاك أي مخالطة. الذوب: الذائب المشتار الذي يجني العسل من كوراته. الطبرزد: السكر الأبيض أصلها فارسية. المدامة: الخمر عتقت أعصاراً أي بقيت في دنها زماناً طويلاً.(1/293)
وتَبْسُم عن غُرِّ شتيتٍ نباتُه ... له أشرٌ كالأقُحوانِ المُنَوّرِ(1)
وامتدت أيضاً لوحة وصف المحاسن فشملت قصائد مختلفة، وكرّر معظم الشعراء معاني الجمال الحسي المتداولة المعروفة في الشعر الجاهلي، من الإشراق في اللون إلى الخد الأسيل إلى نظرة وحش الوجرة المطفل إلى الأسنان المنورة واللثات الغامقة وجيد الرئم والفرع الأسود المتعثكل والترائب المصقولة والخصر المهفهف والبطن الضامر والروادف الريا والأصابع الرخصة والساق البردية والرائحة الفواحة والمشية المترنحة وغيرها من ملامح الحسن التي تمثلها صور المها والغزالة والشمس ودرة الغواص ودمية المحراب والكثبان وغصون البان الطرية والرياض بأزهارها ونسائمها. ولعلنا نذكر هنا ما ورد في فصل سابق من هذا البحث، عندما تحدثت عن جمال المرأة، والصفات التي أعجبت شعراء هذا العصر. وكيف أنها كانت الصفات ذاتها التي أعجب بها الشعراء في العصر الجاهلي، وأن النموذج الأول لوصف جمال المرأة كان في معلقة امرئ القيس، ثم نسخت معانيه وتكررت في أغلب صور الشعر الأموي ومعانيه. والأمثلة كثيرة جداً على ذلك، ولعل بعضها يكفي شاهداً ودليلاً، فقد تحول يوم "دارة جلجل" إلى "ليلة ذي دوران" عند عمر بن أبي ربيعة، وتقمص روح شاعره الخالدة في فكرة المغامرة ومعاني المساعاة الليلية، وفي "سّموه إليها بعدما نام أهلها" وحكى كيف "رُوّعت من قدومه" ثم "صارت إلى الحسنى ورق كلامها" وكيف "أصبح معشوقاً" على نحو ما صار عمر، فهو عليها "أمير مؤمر" وكلاهما مغامر يستيقظ في نفسه حس الفارس فيقول امرؤ القيس: "أيقتلني والمشرفي مضاجعي" ويقول عمر: "فقلت أباديهم فإما أفوتهم وإما ينال السيف ثأراً فيثأر".
وكان أستاذه قد قال "خليليّ مرّا بي على أم جندب"، فكرر وراءه: "خليليّ مرّا بي على رسم منزل"، وكان قال:
__________
(1) المصدر السابق 104 تبسم عن غر: أراد فمها. أي أسنانها غير متلاصقة. الأشر: حدة الأسنان(1/294)
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل
فقال عمر:
قليلة ازعاج الحديث يروُعها ... تعالي الضحى لم تنتطق عن تفضل
وامتد المعنى عنده إلى بيت آخر فقال:
نؤوم الضحى ممكورة الخلق غادة ... هضيم الحشا حسانة المتجمل
ويزعم عمر أنها:
لم يرعها وقد نضّت مجاسدها ... إلا سواد وراء البيت يستتر
بعد أن سمع قول أستاذه:
فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فعمر يبيح لنفسه كما هو واضح أن يقترض المعاني التي ابتدعها أستاذه، ثم لا يجد حرجاً في إعادة صياغتها صياغة تذكرنا في كثير من الأحيان بصياغة امرئ القيس نفسه.
أما عبيد الله بن قيس الرقيات فيروقه أن يقلّد أسلوب الأعشى، وينهل من معانيه، يقول الأعشى:
أتشقيكَ تيا أم تُرِكْت بدائكا ... وكانت قتولاً للرجال كذلكا
وأقصرْتَ عن ذِكْر البطالةِ والصبا ... وكانت سفاهاً ضلَّة من ضِلالكا
وما كان إلا الحَيْنَ يومَ لقيتَها ... وقَطْعَ جديدٍ حَبْلُها من حبالِكا
وقامت تُريني بعدما نامَ صحبتي ... بياضَ ثناياها وأسود حالكا(1)
هل أجازف فأقول إن بعض معاني هذه القصيدة وكلماتها قد حلّت في قصيدة عبيد الله بن قيس الرائعة التي يحملها كثيراً من شجونه وآلام خيبته عندما قال:
أعاتكَ بنتَ العبشمية عاتكا ... أَثيبي امْرأً أَمسى بحبِّك هالكا(2)
لقد حاول ابن قيس إذابة المعنى الموجود في الشطر الثاني من البيت الأول عند الأعشى، فقال:
بدتْ لَي في أترابها فقتلنني ... كذلك يقتلن الرجال كذلك
وتمعن في قول الأعشى: "وقامت تريني بعدما نام صحبتي" وحوله إلى هذا الصيغة: "إذا غفلتْ عنا العيون التي ترى"، ثم كرر كلمة"داء" واستبدل بكلمة"الشفاء" كلمة"الطيب":
وقالت لو أنا نستطيع لزاركم ... طبيبان منا عالمان بدائكا
وفي قصيدة أخرى يقول عبيد الله:
قامت تحييني فقلت لها ... ويلي عليكِ وويلتي منك(3)
__________
(1) ديوان الأعشى ق11
(2) ديوان عبيد الله 128
(3) المصدر السابق: 141.(1/295)
وهو ما وضعه الأعشى على لسان هريرة صاحبته عندما قالت: "ويلي عليك وويلي منك يا رجل".
ولم يكن العرجي بعيداً عن هذه المعاني، فقد اقترض منها ككل شعراء المغامرة معاني الخطر المحدق بمغامراتهم، وأعاد المعاني الجاهلية ذاتها عند امرئ القيس والأعشى في النجاح والوصول إلى صاحبته مع كل ما يحيط بها من حراسة مشددة ومخاطر قد تقود إلى الهلاك ثم انتهاء الأمر إلى الهدوء والطمأنينة(1)، ثم المبالغة في وصف الجمال والإسراف في معاني المبادلة العاطفية أثناء اللقاء، ووضوح العرامة النفسية القائمة على الشعور بالفتك في تجاوز الحراس والأهل والرقباء، والفوز بما يشتهون من المرأة المحصنة خاصة(2) على أنني ينبغي أن أسجل فرقاً واضحاً بين مغامرات عمر ومغامرات امرئ القيس والأعشى، فلم يكن عمر يسرف في تصوير تفاصيل اللقاء والمتعة المادية على نحو ما كان يفعل هذان الشاعران.
ودار جميع شعراء الحجاز ممن عرفوا بالحب القصصي الحضري، ضمن دائرة من المعاني الواضحة التي أصبحت معالم واضحة من معالم تجربتهم الغزلية مثل القصة الغرامية التي تصور المرأة من خلال مجموعة من المعاني الخاصة بالمجتمع المدني الحجازي كالجرأة والتحرر والتبسط في إظهار مشاعرها وعتابها وغيرتها وشكواها من هجر حبيبها، ونشوتها عند سماع إطراء لحسنها وجمالها، وتيهها على صواحبها بحسنها، وكل ذلك في إطار من القصة والحوار السلس الجميل.
__________
(1) ديوان العرجي 3.
(2) المصدر السابق 5، 6.(1/296)
أما في الشعر العذري فكانت منظومة المعاني لا تخضع إلا للتدفق العاطفي الذي يفيض بين جوانح الشاعر فيفرغه في أشعاره دونما اهتمام بعمق الفكرة وتقليبها على وجوهها، فهّمه محصور في البوح بما يحسه في نفسه بوحاً صادقاً شفافاً ريّان بالعاطفة، ولذا تبدو معاني هذا الشعر معاني بسيطة قريبة من النفس يحكمها تيار الوعي الذي تتداعى فيه المعاني على غير نظام أو ترتيب، ولكنها معان تصدر عن القلب أكثر مما تصدر عن العقل، وتعبر عن الحب والهيام.
وكان الدكتور شكري فيصل قد أشار إلى هذه الملاحظة بقوله: "لم تكن المعاني موطن اهتمام الشاعر وغاية حرصه، إنه حين يتحدث، لا يتحدث لأن فكرة ما قد تبلورت في ذهنه، ولكنما يتحدث لأن عاطفة عارمة كانت تجيش في صدره... لذلك لا يهمه أن يكون هذا المعنى طريفاً أو مطروقاً، وكل الذي يهمه هو أن يعبر عن هذا الفيض النفسي الذي ملأه كائناً ما كان من المعاني في ذلك... إن الجانب الانفعالي من نفسه الشاعرة هو الذي يستبد بكل اهتمامه"(1).
فكانت فكرة أشعارهم واحدة ومعانيها واحدة أيضاً، إنها فكرة الحب، بل إنها الحبيبة بكل ما اتصفت به في أشعارهم من معاني السلبية والجبروت والتكبر والتمنع والحصانة والبخل والأزورار، فهي التي تقرر سعادة الشاعر أو شقاءه وهي امرأة شبه مقدسة قادرة على تغيير الخصائص الموضوعية للأشياء، فماء البحر يغدو بريق بثينة عذباً فراتاً كما في قول جميل:
فلو تفلت في البحر والبحر مالح ... لعاد أُجاج البحر من ريقها عذبا(2)
وماء السيل يمرّ قريباً من ديار ليلى فيتلقى طيبها فيطيب كما يزعم المجنون(3)، وهي تهب مَنْ حولها الحياة وتمنحه السعادة وتفيض عليه حباً، فهي-فيما يزعم هؤلاء الشعراء- قادرة على ردّ الروح للشاعر، وأهلها أحباب الشاعر لا يختلفون عنها في المنزلة من النفس كما يزعم جميل:
__________
(1) تطور الغزل 326.
(2) ديوان جميل: 36.
(3) ديوان المجنون: 52.(1/297)
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب(1)
ومعنى هذا كله أن أشعار هؤلاء العذريين كانت تدور حول فكرة واحدة أو أفكار قليلة متشابهة، أو حول تجربة إنسانية واحدة أو تجارب إنسانية قليلة متشابهة، فكلهم يدور في فلك هذه التجربة العاطفية المحرومة على نحو ما يهديه حسّه أكثر مما يهديه عقله، وقد وسمت هذه المعاني العاطفية والملامح النفسية تجاربهم كما وسمت شعرهم وميزته من سائر شعر الغزل في عصره، بل وفي العصور اللاحقة أيضاً. ولكننا نستطيع بيسر أن نجد تباشير هذا التيار العاطفي الرقيق في شعر المتيمين الجاهليين كالمرقشين الأكبر والأصغر وعنترة.
ولم يخرج الشعراء الأمويون التقليديون في حديثهم عن المرأة على المعاني الجاهلية بل رددوا كثيراً منها، وعملوا على بعث التراث الجاهلي حياً من جديد في أغلب موضوعاتهم وخاصة المقدمات التي توزعت على حديث الأطلال فجاء يتضمن المعاني الجاهلية ذاتها من وصف للديار ولما بقي من آثارها وما تعاقب عليها وأدى إلى تغير ملامحها من رياح وأمطار، ثم الحديث عمن حل بها من الحيوان والطير، والعودة بالذاكرة إلى الماضي أيام كانت الديار عامرة بأصحابها تحتضن مرابع الطفولة والصبا، ثم الوقوف على تأمل هؤلاء المحبوبات واستدعاء جمالهن أيام الصفاء والمودة معهن وكذلك أسلوب التحية واستيقاف الأصحاب واستعجام الديار والبكاء فيها كما في مقدمات ذي الرمة والأخطل التي مرت في الفصل السابق.
واستمرت المعاني الجاهلية أيضاً في الشعر الأموي في مقدمة الظعن، وردّد الشعراء الحديث عن رسومها الفنية من مشهد الاستعداد للرحيل إلى وصف الهوادج وألوانها وتبصر الطرق التي تشكلها، والحداة الذين يهدونها ويغنون لها، ثم وصف جمال صواحبها والعودة إلى نفوسهم لتصوير أحزانهم لفراق هؤلاء النسوة وبعدهن عنهم.
__________
(1) ديوان جميل: 35.(1/298)
وفي حديث الطيف أيضاً أحيا شعراء العصر الأموي المعاني الجاهلية، فالطيف لا يزور إلا بآخرة من الليل، فيعجب الشاعر من اهتدائه إليه على بعد المسافة بينهما، ومن قدرته على تمييزه عن أصحابه المتعبين المنهكين من طول السفر ومشاق الرحلة، وهي زيارة قصيرة تفرّ من النفس قبل أن يستمتع الشاعر بها، ولا ينسى هؤلاء الشعراء أن يلموا بوصف صاحبة الطيف المعطرة الجميلة. فلنستمع إلى القطامي وهو يدور حول هذه المعاني في حديثه عن طيف محبوبته، ولكنه لا ينسى أن يبث في نشيده أنفاساً من الحسرة والأسى على الحياة الماضية يقول:
طرقَتْ جَنوبُ رحالَنا من مَطرقِ ... ما كنت أحسبُها قريبَ المعنقِ
قطعتْ إليكَ بمثلِ جِيْدِ جِدايةٍ ... حَسَن المعلَّقِ ترتجيه مطوَّقِ
هلاّ طرقْتِ إذِ الحياةُ لذيذةٌ ... وإذِ الشبابُ قميصُهُ لم يَخْلُقُ(1)
ويزور الخيال جريراً على بعده فيتشاغل عنه بأمور حياته الأخرى، غير أنه ما إن يراه حتى يتمسك به ويتغزل بصاحبته النظيفة الفم الجميلة العيون، فيستحضر هذه العناصر المادية من حسنها ليثبت لنفسه أن الزيارة كانت حقيقة:
طرقتكَ صائدةُ القلوب وليس ذا ... وقتُ الزيارةِ فارجعي بسلامِ
تُجري السّواكَ على أَغَرَّ كأنه ... بَرَدٌ تحدّر مِنْ متونِ غَمامِ
لولا مراقبةُ العيونِ أرَيْنَنا ... مُقَلَ المها وسوالفَ الآرامِ(2)
أما المعاني التي سادت حديث الشيب والشباب فهي المعاني الموروثة عينها من دوران حول إعراض النساء عن الشاعر وقسوتهن عليه بسبب تصابيه ونفورهن منه إلى الشبان، ثم يسرد أحوال المرأة النفسية، ويعرض خبرته بأمور دهائها ومكرها.
ففي هذا الحوار الذي يسجله جرير بينه وبين إحدى النساء ينقل لنا إنكارهن لما هو فيه ودعوتها له للكف عن الصبابة، فيجيب بانكسار يفضح عدم قدرته على أن يدفع عن نفسه ما هو فيه، يقول:
قالت بَلِيْتَ فما نراكَ كعهدِنا ... ليتَ العهودَ تَجدَّدتْ بعد البلى
__________
(1) ديوان القطامي 105.
(2) ديوان جرير 990.(1/299)
أَأُمامَ غيرّني وأنتِ غريرةٌ ... حاجاتُ ذي أَربٍ وهمٌّ كالجوى
قالت أمامةُ مالجهلِك مالَه ... كيف الصبابةُ بعدما ذهبَ الصِّبا
ورأت أُمامةُ في العظام تحنِّياً ... بعدَ استقامِتها وقَصْراً في الخطا
ورأتْ بِلِحْيته خضاباً راعَها ... والويلُ للفتياتِ من خَضْبِ اللِحَى(1)
ويرى الفرزدق أن جميع العذارى قد أصبحن يكرهن حضوره، بل أصبح حضوره مصدر سخريتهن وتسليتهن مع ملاحظة المرارة والحزن الذي تتضمنه هذه المعاني والأسف على أيام الشباب:
رأيتُ العذارى قد تكرَّهْنَ مجلسي ... وقُلْنَ تولَّى عنك كلُّ شبابِ
عتبْن على فقدِ الشباب الذي مضى ... فقلتُ لهنَّ لاتَ حينَ عِتابِ(2)
ويصر الفرزدق على ذكر موقف المرأة منه بعد أن شاب، وتبدو كأنها لا تصدق ما حلّ به وكأنه أعجوبة مسلية لم ترها من قبل:
تضاحكت أن رأت شيباً تفزَّعني ... كأنها أبصرت بعض الأعاجيب(3)
ويراهنّ العجاج قد استبدلن به شاباً جميلاً بعد أن حنى قناته الكبر، يقول:
إنَّ الغواني قد غنينَ عني ... وقُلْنَ لي عليكَ بالتغَني
عنا فقلتُ للغواني إِنيّ ... على الغنى وأنا كالمُظّنِّ
لما لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنّي ... غنينَ واستبدلن زيداً منيّ
غُرانِقاً ذا بَشَرٍ مُكْتَنِّ ... يرضى ويُرضِهنّ بالتمنيّ
أنْ شاب رأسي ورأين أَنيّ ... حنَّى قناتي الكبرُ المُحنيّ(4)
وينضم ابن قيس الرقيات إلى هؤلاء الشعراء ويؤكد أن غير الشيب هو ما يعجب المرأة، يقول:
رأت بي شيبةً في الرأ ... سِ منيِّ ما أغيبِّهُا
فقالَتْ أَبْنُ قيسٍ ذا ... وغيرُ الشيبِ يُعْجبُها(5)
ويختم موقف الشعراء من المرأة وحديث الشيب بدعاء ظريف عليهن جميعاً فيعترف بأنه لا يستطيع التخلي عن المرأة مع ما تنكره عليه من بعض المظاهر. يقول:
__________
(1) المصدر السابق: 343.
(2) ديوان الفرزدق 41 ويكرر الفرزدق هذه المعاني في ص118، 204، 298.
(3) ديون الفرزدق 25.
(4) ديوان العجاج 378، 279. المُظن: المتهم. الغرانق: الشاب الناعم
(5) ديوان عبيد الله: 121.(1/300)
لا باركَ اللهُ في الغواني فما ... يُصْبحنَ إلا لهنَّ مْطَّلَبُ
أبصرنَ شيباً علا الذؤابة ... في ... الرأسِ حديثاً كأنّه العُطُبُ
فهنَّ يُنِكرْنَ ما رأَيْنَ ولا ... يُعَرفُ لي في لِداتي اللّعِبُ(1)
وفي حديث الغزل كانت معاني الحب وحكايات الغرام، ومفاتن الحبيبات وأحوالهن النفسية ونظرتهن إلى الشيوخ أيضاً هي المتداولة غالباً. فكرر الفرزدق والأخطل معاني الجمال ذاتها، وألحّا على معاني الترف والرفاه، كالإشارة إلى من يقوم على خدمة المرأة من الخدم والحشم والولائد، وكالحديث عن نومها إلى أن ينتصف النهار ثم إحضار المساويك والملابس الفاخرة لنسوة غريبات الأطوار.
وكان جرير أيضاً أسير المعاني القديمة في وصف المشاعر والأحاسيس واستبطان الذات وغياب الوصف الحسي للمرأة أو شحوبه على نحو يذكرنا بالمتيمين من شعراء الجاهلية، فحديثه عن المرأة، تلوح فيه المعاني الآسرة التي تظهر الحب والرغبة، يقول:
بنفسي مَنْ تَجَنبُّه عزيزٌ ... عليَّ ومنْ زيارتُهُ لِمامُ
ومَنْ أُمسي وأُصبحُ لا أراه ... ويَطرقُني إذا هجعَ النيامُ
أليس لِما طلبتُ فدتِكِ نفسي ... قضاءٌ أو لحاجتي انصرامُ
فدىً نفسي لنفسِكِ من ضجيعٍ ... إذا ما التجَّ بالسِّنةِ النّيامُ
أَتنسى إذْ تودِّعُنا سُليمى ... بِفَرعِ بَشامةٍ سُقي البَشامُ(2)
ويكشف في مقطع آخر عن بعض الشكوى من الحب الذي تبادله صاحبته بدلال وتمنع مما يزيد حرقته ويعلي من صوت أنينه:
هلاّ تحرّجت مما قد فعلتِ بنا ... يا أطيبَ الناسِ يومَ الدَّجْنِ أردانا
قالتْ أَلمَّ بنا إِنْ كنتَ منطلقاً ... ولا إخالُكَ بعدَ اليومِ تَلقانا
يا طيبَ هل من مَتاعٍ تمتعينَ به ... ضيفاً لكم باكراً يا طيبَ عجلانا
__________
(1) ديوان عبيد الله: 3 الذؤابة: الناصية. وهي شعر مقدم الرأس. أي أنكرن شيبي ولعبي وليس مثلي من يلعب في هذا الوقت.
(2) ديوان جرير: 279 التج: كثر. أي إذا غلبها النوم فريحها طيبة.(1/301)
ألستِ أَحسنَ من يمشي على قدم ... يا أمَلحَ الناسِ كلِّ الناسِ إِنسانا(1)
أما هجاء المرأة فكان يعتمد على السخرية من الشكل والملامح، ويدور حول معاني البشاعة والامتهان بالعمل والرعي والدناءة والبخل والابتذال والإفحاش بعبارة صريحة مباشرة تتناول النساء بأقبح الصور وأبعدها عن الحياء والدين على نحو ما رأينا في الحديث عن النقائض في الفصل السابق.
يمكن القول الآن: إن الشعراء الأمويين قد نظروا إلى صورة المرأة في الشعر الجاهلي نظرة يملؤها الإعجاب والدهشة والحب، ولكن هذا التيار الجاهلي كأن يسير جنباً إلى جنب مع التيار الإسلامي الذي غزت معانيه الشعر منذ عصر صدر الإسلام فكانت أهم تطور طرأ على الأفكار والمعاني التي تداولها الشعراء في بيئاتهم المختلفة.
ويظهر الأثر الإسلامي في الألفاظ والصور والمعاني التي دارت حول المرأة، وقد فصلت هذا الأمر في فصل سابق عندما تحدثت عن صورة المرأة الأخلاقية في العصر الأموي، وبينت أثر الدين الإسلامي وما جاء به من مثالية عامة انتظمت الناس جميعاً نساء كانوا أم رجالاً.
__________
(1) ديوان جرير 161.(1/302)
فبرزت مواسم الحج ومناسكه وشعائره المختلفة، تصور مواكب النساء في شعر الحجازيين في المدينة والبادية على السواء. وسادت أيضاً معاني القسم والدعاء التي كان لها جذور جاهلية فتحولت إلى صورة إسلامية، وبدت شديدة الخصوبة والتأثير عندما استخدمها الشعراء لتأكيد حبهم للمرأة، والتأثير فيها، وانتشرت المؤثرات الإسلامية والأفكار الدينية في معاني الذنب والمغفرة والتوبة والنذر والوفاء به، وكذلك القتل والقصاص، وكانت هذه المعاني قسمة بين جميع الشعراء. وتكررت فكرة الوعد الممطول والدين والغريم والحياء والرقيب وفكرة القيامة والحشر والحساب في شعر العذريين خاصة، وكلها معان جديدة استمدها الشعراء الأمويون من الدين الإسلامي، وهي معان تفارق المعاني الجاهلية مفارقة كبيرة، وتعد إضافة جديدة قادت الشعر الأموي في دروب أخرى فأخرجته من معابد الجاهلية وحلّقت به في آفاق جديدة من العفة والحشمة والطهارة.
وسأذكر فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك من شعر الشعراء الأمويين: يقول المجنون:
- ولو أَنّني أستغفرُ اللهَ كلّما ... ذكرتُكِ لم تُكْتَبْ عليَّ ذنوبُ(1)
- حلفتُ لها بالمشْعَرينِ وزمزمٍ ... وذو العرش فوقَ المُقْسِمينَ رقيبُ(2)
- حلفتُ بِمَنْ صَلَّتْ قريشٌ وجَمَّرتْ ... له بمنى يومَ الإفاضةِ والنحّرِ(3)
- دعا المحرمونَ اللهَ يستغفرونَهُ ... بمكّةَ شُعْثاً كي تُمحىّ ذنوبُها
وناديتُ يا رحمنُ أولُ سُؤْلتي ... لنفسي ليلى ثمَّ أنت حسيبُها
وإن أُعْطَ ليلى في حياتي لم يتُبْ ... إلى اللهِ عبدٌ توبةً لا أتوبُها(4)
- إلى اللّهِ أشكو صَبوتي بعد كُرْبتي ... ونيرانُ شوقي ما بِهنَّ فُتورُ(5)
- وحبُّك أنساني الصلاةَ فلم أَقُمْ ... لربّيْ بتسبيحٍ ولا بقُرآنِ(6)
ونجد في ديوان قيس بن ذريح قوله:
__________
(1) ديوان المجنون 54.
(2) المصدر السابق 59.
(3) المصدر السابق 158.
(4) المصدر السابق: 67.
(5) المصدر السابق 137.
(6) المصدر السابق 277.(1/303)
- عفا اللهُ عن أُمِّ الوليدِ أَما ترى ... مساقطَ حُبيّ كيف بي تتلَّعبُ(1)
- فلا والذي مسَّحْتُ أركانَ بيتهِ ... أطوفُ به فيمنْ يطوفُ ويحْصِبُ(2)
- فواللهِ العظيمِ لَنَزْعُ نفسي ... وقطعُ الرِّجلِ مني واليمين
أحبُّ إليَّ يالبنى فراقاً ... فبكِّي للفراقِ وأسعديني(3)
- إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ... ومن حُرقٍ تعتادني وزفير(4)
واستمد جميل من وحي القرآن الكريم وتعاليمه عدداً كبيراً من المعاني التي طبعت أسلوبه من ذلك اعتماده على القسم وفكرة العهد والميثاق وفكرة التوبة والمغفرة والصلاة والحساب يقول:
فو اللّهِ ثم اللّهِ إني لصادقُ ... لَذِكْرُكِ في قلبي أَلَذُ وأَمْلَحُ
وواللّهِ ما أدري أَصرمٌ تريدُه ... بثينة أم كانتْ بذلك تمزحُ(5)
- وقلت لها بَيْني وبَيْنَك فاعلمي ... من اللهِ ميثاقٌ لنا وعُهودُ(6)
- فقلتُ له: فيها قضى اللهُ ما ترى ... عليِّ وهل فيما قضى اللهُ مِنْ رَدِّ
فقد جدَّ ميثاقُ الإله بحبِّها ... وما للّذي لا يتّقي الله مِنْ عَهْدِ(7)
- لا والذي تسجُد الجباهُ له ... مالي بمادونَ ثوبِها خَبرُ(8)
- خليليَّ هل في نظرةٍ بعد توبةٍ ... أداوي بها قلبي، عليَّ فُجُوْرُ(9)
- لا تهجريني بابثينَ وأحْسِني ... وخافي مليكَ الناسِ في البعد والهجرِ(10)
- فأُقسِمُ لا أنساكِ ما ذرَّ شارقٌ ... وما خَبَّ آلٌ في مُلَمَّعةٍ قَفْرِ(11)
- فليت إلهي قد قضى ذاك مرةً ... فيعلمَ ربّي عند ذلك ما شُكري(12)
- إلى الله أشكو لا إلى الناسِ حبَّها ... ولابدَّ من شكوى حبيبٍ يُرَوّعُ
__________
(1) ديوان قيس بن ذريح 57.
(2) المصدر السابق 59.
(3) المصدر السابق 154.
(4) المصدر السابق 97.
(5) ديوان جميل 47.
(6) المصدر السابق 63.
(7) المصدر السابق : 74.
(8) المصدر السابق 89.
(9) المصدر السابق 93.
(10) المصدر السابق 101.
(11) المصدر السابق 102.
(12) المصدر السابق 103.(1/304)
ألا تتّقين اللهَ في مَنْ قتلتِهِ ... فأمسى إليكم خاشعاً يتضرّعُ(1)
- أُعيذُكِ بالرحمن مِن عَيشِ شِقْوةٍ ... وأن تَطمْعي يوماً إلى غيرِ مَطمعِ(2)
- أُصلِّي فأبكي في الصلاةِ لذِكْرِها ... ليَ الويلُ مما يكتبُ الملَكَانِ(3)
ولم تكن هذه المعاني الدينية المستمدة من القرآن الكريم والرسالة الإسلامية الخالدة في دواوين شعراء مدن الحجاز أقل منها في دواوين الشعراء العذريين، بل إنها منتشرة بالكثافة ذاتها، وكيف لا تظهر هذه المعاني وبيئة هؤلاء الشعراء هي مهبط الوحي ومهد الرسالة السماوية؟ وفي نظرة سريعة إلى دواوين شعراء المدن يمكن ملاحظة هذه المؤثرات التي توزعت أيضاً بين معاني القسم والدعاء وذكر المناسك المقدسة ومعاني بعض الآيات القرآنية أوإيحاؤها، كما في قول الأحوص:
حلفْتُ لكِ الغداةَ فصدِّقيني ... بربِّ البيتِ والسبع الطباقِ
لأَنتِ إلى الفؤاد أشدُّ حّباً ... من الصادي إلى الكأسِ الدِّهاق(4)
ففي قوله استمداد مباشر من القرآن الكريم في قوله تعالى: "الذي خلق سبع سموات طباقاً"(5) ومن قوله تعالى: "فليعبدوا رب هذا البيت"(6) وقوله تعالى في سورة النبأ"كأساً دهاقاً"(7) ويرد قوله مستخدماً القسم بأسلوب آخر غير اسم الله تعالى، إذ يقسم ببيته الحرام يقول:
إنّني والذي تحجُّ قريشٌ ... بيتَه سالكينَ نقْب كداء
لَمُلمٌّ بها وإن أبْتُ منها ... صادراً كالذي وردتُ بداءِ(8)
وفي فكرة الذنب والمغفرة يقول:
هبيني أمرأ إمّا بريئاً ظلّمتهِ ... وإمّا مسيئاً مُذنباً فيتوبُ
__________
(1) المصدر السابق 117.
(2) المصدر السابق 123.
(3) المصدر السابق 204.
(4) ديوان الأحوص: 164 السبع الطباق: السموات السبع. كأس دهاق: مترعة ممتلئة..
(5) سورة(الملك: 3).
(6) سورة(قريش: 3).
(7) سورة(النبأ: 34).
(8) ديوان الأحوص71. كداء: موضع بمكة.(1/305)
لكِ اللّهُ إني واصلٌ ما وصلتني ... ومُثْنٍ بما أولَيْتني ومُثيبُ(1)
وكان العرجي أكثر اعتماداً على هذه الصيغ الدينية في توضيح أفكاره ومعانيه ولا سيما ذكر المناسك، يقول:
لدى الجمرة الوسطى فريعَتْ وهلَّلَتْ ... ومَنْ رِيْعَ في حجّ منَ الناسِ هلّلا(2)
ويحتفظ بذكريات لطيفة لدى الجمرة الوسطى فيعيدها إلى ذهنه مرة أخرى ويقول:
لدى الجمرة الوسطى أصيلاً وحولَها ... نواعمُ حُوْرٌ دَلُّهنَّ جميلُ(3)
ويقول:
لا نلتقي إلا ثلاثَ مِنى ... حتى يشتّتَ بيننا النَفْرُ(4)
ويستخدم القسم لتأكيد حبه للفتيات:
إذا ما كاعبٌ حلفتْ يميناً ... على حبّي حلفتُ لها يمينا(5)
ويقسم بالله أيضاً من أجل الاعتذار عن إخلاف وعده معها يقول:
لقد أرسلَتْ في السرِّ ليلى تلومُني ... وتزعمُنُي ذا ملّةٍ طَرِفاً جَلْدا
تقولُ لقد أخلفْتَنا ما وعدْتَنا ... واللهِ ما أخْلَفْتُها طائعاً وَعدا(6)
ويقسم من أجل إثبات الحب أيضاً:
فقلت له: حبُّ القتولِ وتربها ... رُضيَّا وربّ العرشِ يا صاحِ قاتلي(7)
وما أكثر ما يحلف بالله من أجل إثبات مشاعره يقول:
أحلِفُ باللّهِ أَيماناً مضاعفةً ... في كلِّ يومٍ من الأيامِ مشهودِ
ربِّ الحجيج وربّ البُدْنِ قد وجبتْ ... وأشعروها بتحليلٍ وتقليدِ
ما عَمْرَةٌ نهزَتْنا نحوَ أرضِكمُ ... ولا هوى غيرِكُمْ يا أمَّ داودِ(8)
ويستمد عبيد الله بن قيس الرقيات من أصداء الدعوة الإسلامية بعض المؤثرات، فيدعو على النساء هذا الدعاء السلبي:
__________
(1) المصدر السابق : 78 ويكرر المعنى ذاته في ص81.
(2) ديوان العرجي 73.
(3) المصدر السابق 49.
(4) المصدر السابق 43.
(5) المصدر السابق 94.
(6) المصدر السابق : 108.
(7) المصدر السابق: 12 القتول ورضيا أسماء نساء.
(8) المصدر السابق: 160 البدن: الإبل تهدي إلى مكة.. أشعروها: ميزوها بعلامة تدل على أنها من شعائر الحج. تقليد: تعليق القلائد في أعناقها.(1/306)
لا باركَ اللهُ في الغواني فما ... يُصْبحنَ إلا لُهنّ مُطّلَبُ(1)
ويستند إلى أفكار إسلامية أخرى كفكرة ا لعهد والميثاق، والصدق والأمانة في قوله:
لكُمُ اللهُ والأمانةُ لا نكـ ... ذبُ فيما نقولُ والميثاقُ(2)
ويسلم أمره لله في صدق مشاعره والدفاع عن أحاسيسه أمام رقية في قوله:
أليس الله يعلمُ أَنَّ حبي ... رُقيّةَ قد تَضَمنَّهَ الكشوحُ(3)
ويطلب من صاحبته أن تتقي الله وتخشى عقابه فيما تسبب له من هجر وقطيعة يقول:
تقنَّ اللّهَ فيَّ رُقيَّ وَاخْشَيْ ... عقوبةَ أمرِنا لا تقتُلِينا(4)
ويكرر هذا المعنى فيذكرها بالعقوبة والإثم الذي يلحق بها بسبب معاملتها له، ويطلب منها خشية الله فيه:
بالله يا أمَّ البنينَ ألمْ ... تَخْشيْ عليكِ عواقبَ الإثْمِ
للّهِ درُّكِ في ابن عِمِّك إذْ ... زوّدْته سُقْماً على سُقْمِ(5)
ويصل إلى حد التطرف والسلبية في تأكيد غرامه لها فيذكر أنه على دينها إن هي أسلمت وإن هي أشركت:
إنْ تُسلمي نُسْلمْ وإنْ تَدَعي ... الإسلامَ لا نَخْذُلْكِ في الشركِ(6)
__________
(1) ديوان عبيد الله: 3.
(2) المصدر السابق: 41.
(3) المصدر السابق 63.
(4) المصدر السابق 137..
(5) ديوان عبيد الله 149.
(6) المصدر السابق 141.(1/307)
ولم يكن أسلوب عمر بن أبي ربيعة بمعزل عن هذه المؤثرات الإسلامية، بل على العكس فقد كان من أكثر شعراء الحجاز الذين رشحت المعاني الإسلامية من خلال صيغهم مع ما عرف عنه من أسلوبه اللاهي المتحضر، ومع ما عرف عنه من تقليد واستناد إلى الموروث الجاهلي في صوره وأفكاره، ففي قراءة سريعة لديوانه يمكن الاستنتاج أن هذا الشاعر كان يرى بأم عينه وقلبه مواسم الحج وشعائره في كل عام حتى شهر عنه استغلاله لهذا الموسم الديني واستثماره بشكل كبير في معانيه التي أدارها حول النساء المترفات. كما يظهر الأثر الإسلامي في أسلوب القسم الذي يعتمد عليه كثيراً جداً في تأكيد صدقة ووفائه لمن يحب. وسأعرض بعض معانيه في مجال القسم، فهو يقسم باسم الله في مجال تأكيد الحب:
واللّهِ ما أحببتُ حُبَّكُمُ ... لا ثيبِّا خُلقتْ ولا بِكْرا(1)
ويقول مستخدماً الصيغة ذاتها:
بالله ربّكُمُ أمالكمُ ... بالمَشعْرين وأهلهِ خُبْرُ
أَوَمَا أتاكم بالمحصّب من منى ... من أمِّ عمرو وتْرِبها ذِكْرُ(2)
ويحلف أيضاً برب منى في قوله:
- حلفتُ لها بربِّ منىّ إذا ما ... تغيبَّ في عجاجَتهم ثبيرُ
لأنتمْ حبُّ شيء إن جلسنا ... وإن زُرْنا فأَوْجَه مَنْ نزور(3)
ويقسم ببيت الله ليكشف عن غاية عشقه وغرامه:
فقلت لها: يا همَّ نفسي ومُنيتي ... ألا لا، وبيتِ اللّهِ إني مهبَّرُ(4)
ويكرر القسم ببيت الله في قوله:
فأنتِ وبيتِ الله همّي ومنيتي ... وكُبْرُ منانا من فصيح وأعجم(5)
ويقسم بالبيت العتيق مقروناً إلى اسم الله تعالى إنها تساوي عنده جنة الخلد:
واللهِ والبيتِ العتيقِ لقد ... ساويتِ عندي جنَّةَ الخُلْدِ(6)
__________
(1) ديوان عمر 153.
(2) ديوان عمر: 157.
(3) المصدر السابق 164 العجاجة: التراب الذي تثيره الدواب والناس وأراد حلفت برب زوار منى وثبير جبل من جبال الحرم.
(4) المصدر السابق : 166 مهبر: مقتول مقطع قطعاً.
(5) ديوان عمر 203.
(6) المصدر السابق 325.(1/308)
ويقسم بالرحمن مرة:
فعُتْباكِ مني أنني غيرُ عائدٍ ... وأُقسِمُ بالرحمن لا نتكلّمُ(1)
ويضيف بعض أسماء الله الحسنى إلى قسمه فيذكر العزيز الجليل في قوله:
وارْضَ عنّي جُعلتُ أفْديكَ إنيّ ... والعزيز الجليل أهوى رضاكا(2)
ويقسم أيضاً بقبر النبي:
لا وقبر النّبيِّ يا عبدَ والحجِّ ... ومن كانَ مُحْرِماً ومُحِلا
ما على الأرضِ مَنْ أُحِبُّ سِواكُمْ ... مِنْ جميعِ النساءِ قالتْ: فهلاّ
قُلْتَ لمّا دخلتَ هذا ولكنْ ... غاب لمّا دخلتَ هذا وضلاّ(3)
ويمزج الشاعر دائماً من خلال القسم بين مشاعره الدينية ومشاعره العاطفية ليؤكد حبه وصدقه للفتاة التي يخاطبها، فيقسم لعثيمة بصيغ متعددة علّها تصدق ما يقول:
لا والذي بَعَثَ النبيَّ محمداً ... بالنور والإسلامِ دين القيم
وبما أَهلَّ به الحجيجُ وكبرَّوا ... عند المقام وركنِ بيتِ المحْرمِ
والمسجد الأقصى المباركِ حولَه ... والطورِ حلْفَةَ صادقٍ لم يأثمِ
ما خنتُ عهدَكِ يا عثيمُ ولا هفا ... قلبي إلى وصلٍ لغيركِ فاعلمي(4)
وكان الدعاء وسيلة أخرى يعتمد عليها لإبراز مشاعره الصادقة تجاه من يحب، فيعقد الدعاء أحياناً بتفصيل كثير الجزئيات والمشاهد، ويبتهل به إلى الله تعالى أن يسمع منه ويستجييب مرة بقوله يا رب ومرة يا ذا العرش كما في قوله:
يا ربِّ إنك قد علِمْتَ بأنّها ... أهوى عبادِك كُلِّهمْ إنسانا
وألذُّهُمْ نُعمٌ إلينا واحداً ... وأَحبُّ من نَأْتي ومَنْ حَيّانا
فاجْزِ المحبَّ تحيةً واجْزِ الذي ... يبغي قطيعةَ حبِّه هِجرانَا
آمينَ ياذا العرشِ فاسمعْ واستجبْ ... لِمَا نقولُ ولاَ يخيبُ دُعانا(5)
وقد يوجز الدعاء ويمر به سريعاً كما في قوله:
لقد ساقَني حَيْنٌ إلى الشادنِ الذي ... أضرَّ بنفسي أهلُهُ حينَ هجَّروا
__________
(1) المصدر السابق 215 عتباك: فعل ما ترضين به.
(2) المصدر السابق 400.
(3) ديوان عمر 364.
(4) المصدر السابق: 230.
(5) المصدر السابق : 267.(1/309)
ولو أَنّه لا يُبْعدِ اللّهُ دارَهُ ... ولا زلتُ منه حيثُ ألقْى وأُخْبَرُ(1)
ويأتي الدعاء على لسان صاحبته لتدوم المحبة والوصال:
فقالتْ وقد لانتْ وأَفرخَ رَوْعُها ... كَلاكَ بحفظٍ ربُّكَ المتكبِّرُ
فأنتَ أبا الخطّابِ غيرَ مدافعٍ ... عليَّ أميرٌ ما مكُثْتَ مؤمَّرُ(2)
وتدعو له بالرعاية والأمان في قوله:
اللهُ جارٌ له إذا نزحتْ ... دارٌ به أو بَدَاله سَفَرُ(3)
وتدعو ربها أن يبعث الصبر والطمأنينة في قلبها بسبب ما تعانيه من حبه:
ياربِّ إنّي قد شُغِفْتُ بهِ ... أَعْقبْ فؤادي منهمُ صَبْرا(4)
وقد يكون الدعاء سلبياً كقوله:
فأنِيلي عاشقاً دَنِفاً ... ثُمَّ أَخزَى اللّهُ مَنْ كفَرا(5)
ويذكرها بأن الله ذو عفو غفور، وهو حس إسلامي كثيراً ما تسرب إلى معانيه:
فديتُك أطلِقي حَبْلي وجُودي ... فإنّ اللّه ذُو عَفْوٍ غَفُورُ(6)
ويظهر الحس الإسلامي في ذكره الصوم والصلاة في بعض أشعاره، كقوله مازجاً بين التراث التقليدي في صورة المشي والحس الإسلامي في تحديده لغرضها من القيام والمشي:
تكادُ من ثِقلِ الأردافِ إنْ نَهَضَتْ ... إلى الصلاةِ بُعيدَ البُسْرِ تَنْبِتَرُ(7)
وتكون الصلاة أيضاً آية الموعد بينهما في قوله:
وآيةُ ذلك أنْ تسمعي ... نداء المصلِّين يا مَعْمَرُ(8)
كما يرتبط الصوم بصاحبته التي تتمثل الأركان الإسلامية في الصلاة كما مرّ منذ قليل، وفي الصوم كما في هذا القول:
أَصومُ إذا تصومُ عثيمُ نفسي ... وأُفطرُ حينَ تُفْطرُ لا أَصومُ(9)
__________
(1) ديوان عمر : 165.
(2) المصدر السابق 97.
(3) المصدر السابق 143.
(4) المصدر السابق 156.
(5) المصدر السابق 163 كفر: أي لم يعرف قدر النعمة ولم يشكرها.
(6) المصدر السابق 158.
(7) المصدر السابق 119.
(8) ديوان عمر 172.
(9) المصدر السابق 257.(1/310)
على هذا النحو ظهرت التأثيرات الإسلامية في دواوين الشعراء في العصر الأموي. فكانت الاستجابة عامة لدى جميع الشعراء وفي اتجاهاتهم ومذاهبهم الفنية المختلفة، وصدروا في معانيهم عن تأثر بالبيئة والثقافة والدين. فهم يلتقون حول المعاني ذاتها ولكنهم يختلفون في تناولها، باختلاف التجربة الشعورية لدى كل منهم، فتتلون هذه المعاني بأصباغ نفسية وشعورية خاصة. وباختصار شديد أقول: لقد مزج هؤلاء الشعراء مزجاً يثير الإعجاب بين موروثهم الجاهلي وما أمدّهم به عصرهم ومجتمعهم، وما هيأ لهم تكوينهم النفسي، وعن هذا المزيج الخصب صدرت نظرتهم إلى المرأة. وقد حاولت قدر المستطاع الكشف عن هذه النظرةكما بدت لي في أشعارهم التي تعدّ من أصدق الأدلة والشهود.
( ... ( ... (
الفصل الثالث
المرأة والصورة الفنية في الشعر الأموي
( ... (
كانت الصورة الفنية في الشعر الأموي الذي يصور المرأة تصدر عن مزاوجة متناغمة بين العالم بشطريه: الطبيعي والاجتماعي والعالم الأنثوي. إنّ الواقع بعناصره المختلفة يمثّل عالم الجمال الأرحب في ذهن الإنسان، وتشكل المرأة عنصراً إضافياً أو مكملاً لما في الوجود والكون من جمال، ولعل الكشف عن هذه المزاوجة الماثلة في خيال الشعراء بين العالمين المذكورين يُظهر بعض أسرار الجمال في الحياة، ويقوّي إحساسنا بمظاهر هذا الجمال.(1/311)
وبما أن العمل الشعري متميز من الواقع الحياتي لأنه رؤية فنية لهذا الواقع"إذ يستمد مادته من واقع الحياة من حوله ولكن هذا الواقع على الرغم من ذلك يستحيل في الشعر إلى واقع آخر متميز من الواقع الحقيقي الذي صدر عنه، لأن الفن عامة والشعر خاصة لا يقصدان إلى تصوير الحياة كما هي في ححقيقتها تصويراً فوتوغرافياً"(1) فإننا نتوقع وجود فروق واضحة بين واقع المرأة وصورتها الفنية، بل إن الشعر أو الفن عموماً يبتعد عن هذه الملاصقة وينظر من زوايا بعيدة، فيجمل الواقع ويرمز إليه، وتكون الصورة الشعرية تعبيراً عن مضامين ورؤى خاصة قصد إليها الشعراء من خلال أدواتهم الفنية.
وسأجعل حديثي عن الصورة في ثلاثة مباحث هي:
1- منابع الصورة أو مصادرها.
2- أنماطها البنائية.
3- الصورة بين التقليد والتجديد.
وسأحاول في كل مبحث من هذه المباحث أن أكشف عن الفروق بين الشعراء، وأن أعلل هذه الفروق. كما سأحاول تذوق الصور التي أمثّل بها، والكشف عن قدرتها على التعبير والإيحاء والدلالة.
1- منابع الصورة أو مصادرها:
بين الشعر العربي والطبيعة صلة رحم واشجة، فقط استمد مادته من الجميل فيها، وظل يحنو عليها ويضمها إليه حتى أصبحت مصدر حياته واستمراره، ولم ينقطع دأب الشعراء عن رعاية هذه الأم العظيمة القادرة على بعث الإلهام والمانحة للشاعرية في مختلف العصور الأدبية.
ففي الشعر الجاهلي كانت الطبيعة بكل مظاهرها: الصحراء برمالها ونباتها وحيوانها، تعانق عناصر الطبيعة الأخرى كالشمس والقمر والرياح والأمطار، فتشكل مورد الشعراء الأساسي الذي يستمدون منه صورهم، وينمّون خيالهم، ويصقلون إحساسهم الجمالي ويرتقون به فيبدعون أجمل القصائد.
__________
(1) بين القديم والجديد 8.7(1/312)
واستمر الشعراء في العصر الأموي ينهلون من الطبيعة، بل إن الشعراء الأمويين ربطوا خيالهم بخيال شعراء العصر الجاهلي، ورأوا بأعينهم كل ما وقعت عليه أخيلتهم وتصوراتهم من مشبهات بسيطة تصور حياتهم في الصحراء العربية، وحاول هؤلاء جميعاً أن يربطوا كل مظاهر الجمال في الطبيعة بتصورهم للمرأة، فاصطفوا أجمل مشاهد الطبيعة وقرنوها بجمال محبوباتهم، فاختاروا من الطبيعة الرياض المزهرة، وخصّوا من الأزهار الأقحوان والقرنفل في صفة الأسنان وطيب الفم. ومن السماء اختاروا: الغيوم والأمطار لصفة مشيتها وخصوبتها، وضمّوا إلى ذلك النجوم والأقمار في وصف جمال وجهها ولونها، ومن الصحراء اصطفوا رمالها وكثبانها لوصف بعض أجزاء من جسمها، وتخيّروا من الحيوانات أجملها: كالغزال والبقر الوحشي في صفة الرشاقة والقد والعيون والحنان.
ففي الشعر الحجازي الحضري الذي مثّل حياة الرفاه والتحضر كانت صورة المرأة تستمد ألوانها وإيحاءاتها من الطبيعة، حتى أوشكت بعض المشاهد الطبيعية أن تصبح صفة دائمة أو اسماً يغني عن صاحبته، ففمها يشبه النبات أو البرد ورائحته رائحة الأرض بعد الندى، وفي عذوبة الريق يذكر العسل والخمر، وفي تصوير وجهها تُسْتَدعى صورة الشمس أو القمر، وفي رشاقتها صورة المهاة أو الظبي، وفي شعرها تذكر العناقيد، كما تذكر في تصوير قامتها الأغصان، وفي وصف عجيزتها الكثبان إلى آخر هذه الصفات، وتتلاحق في شعر عمر بن أبي ربيعة مشاهد الطبيعة ومكوناتها مقترنة بصورة المرأة، فعندما يستدعي صورة الغزال أو الظبي أو الشادن أو الجؤذر وغيرها من المفردات التي أصبحت مرادفات طبيعية تغني عن ذكر المرأة، نراه يقدمها بسيطة من غير تعمق أو رصد دقيق لمكونات الجمال أو تفاصيله، بل هو يكتفي بذكر اسم هذه الحيوانات ويترك للصورة مجالاً حراً في إثارة إحساس الجمال في خيال المتلقي، يقول:
- إنما أنتِ ظبيةٌ ... من إكامٍ عشائب(1/313)
- ظبيةٌ من وحشِ ذي بقرٍ ... شأنها الغيطانُ والغُدُرُ
ففي الصوؤة الثانية تبدو عناية عمر بالطبيعة أكثر من الصورة الأولى فيحدد مرعى هذه الظبية ويذكر اسمه، ثم يتوسع في لوحة الطبيعة ويمد من إيحاء البيئة العشبية فيذكر الغيطان الخضراء المرتوية بالغدران الجارية مما يضفي الإحساس برطوبة هذه الظبية-المرأة- ونداها وحيويتها.
وفي صورة أخرى مستمدة من معجم الظباء ذاته اهتمام واضح بالطبيعة كلوحة رائعة فهي تضم ظبية في روضة كثيرة العشب والماء وتنشر إحساساً بالانتعاش والأمان والجمال، ويقرن إليها-مع إظهار التفوق- صورة فتاته التي تثير الإحساس نفسه بالجمال والأمان، ويظهر خدّها وحاجبها عن طريق الاستدارة التشبيهية بقول:
وما ظبيةٌ من ظباءِ الأراك ... تقرو دميثَ الرُّبي عاشِبا
بأحسنَ منها غداةَ الغميم ... إذا أبدتِ الخدَّ والحاجبا
وفي صورة رابعة يصورها كغزال يهتزّ ماشياً، ويتوقف عند عيونها الكحيلة وعنقها المزينِ يقول:
مثل غزالٍ يهزُّ مشيتَه ... أَحوى عليهِ قلائدُ الذَّهب
ويكاد يكرر هذه الصورة فيقول:
لقد كان حتفي يوم بانُوا بجُؤذَرٍ ... عليه سَخابٌ فيه سُكٌ وعنبر(1)
ومن عناصر الطبيعة الأخرى التي وردت كثيراً في شعر شعراء الحجاز-لوحة الشمس- ببهائها وجمال ألوانها، باصفرارها وزهوها ساعة الشروق أو الغروب وفي سطوعها في الأوقات الأخرى.
ونجد عمر يفصل في لوحة الشمس فيذكر لونها ساعة طلوعها، ويذكر بياض صاحبته، ثم يسترسل في صفة الحسن والجمال لديها يقول:
بيضاء مثل الشمسِ حين طلوعِها ... موسومة بالحسنِ تُعْجبُ مَنْ رأى
وفي سطوعها وإشراقها يقول:
كالشمسِ صورتُها غرّاءُ واضحةٌ ... تُعْشي إذا برزتْ من حسنِها السُّرجا
ويكثر من الاعتماد على هذه اللوحة-لوحة الشمس- مضيفاً إليها عناصر شتى من العالم الطبيعي مُحدِثاً بذلك جمالاً فنياً يشبع الحواس ويحرّك الخيال، يقول:
__________
(1) سخاب: القلادة إذا كانت من قرنفل وسك ليس فيها جوهر. والسُّك: الطيب.(1/314)
- وكأنَّ ضوءَ الشمسِ تحت قناعِها ... أو مزنةً أدنى بها القَطْرُ
- كالشمسِ بالأسْعُدِ إذا أشرقت ... في يومِ دَجْنٍ باردٍ مُقْتَم(1)
- فلما التقينا شف بُرْدٌ مُخفّقٌ ... عن الشمس جلّى يوم دجن غمامُها(2)
وقد يمدّ بصره إلى مشاهد الطبيعة الأخرى كالنباتات والأشجار المثمرة المنتشرة في البيئة العربية، فيتخذ من أشجار النخيل وكروم العنب مادة لتصوير الشعر يقول:
سَبَتْهُ بِوَحفٍ في العقاصِ كأنّه ... عناقيدُ دَلاّها من الكرمِ قاطفُ
سَبَتْهُ بوحفٍ في العقاصِ مرَّجلٍ ... أثيث كقِنوِ النخلةِ المتكوِّر
وكانت لوحة السحاب والمطر والبرق أكثر مشاهد الطبيعة جذباً لخيال الشعراء عندما يريدون وصف مشية النساء أو بريق أسنانهن أو نداوتهن وخصوبتهن. ففي شعر عمر نجد قوله:
حيَيْتها فتبسَّمت فكأَنّها ... عند التبسُّم مِزنةٌ تَتبسَّمُ
فجلا القناعُ سحابةً مشهورةً ... غَرّاءَ تُعشي الطرفَ أن يتأمّلا
- فإذا ثلاثُ بينهن عقيلةٌ ... مثلُ الغمامةِ نَشرُها يَتَضوَّعُ
ولا تكاد صور العرجي تخرج عن إطار الطبيعة المحيطة به، فنراه يحنو على صور الحيوان: الظباء والبقر الوحشي، ويهتم بمناظر الكثبان والأغصان، ويفرد مكاناً خاصاً للسحاب والمطر ويجمع ذلك كله إلى صورة المرأة التي يصفها، ويتأنى في رسم صورتها، ويوّفر لها الصياغة الملائمة، كما في الأمثلة التالية:
- يَمُرْنَ مور المها تزجي جآذرَها ... إذا تخافُ عليها موضعَ الثُكَن(3)
- نظرتْ بمقلةِ مُغزلٍ عَلَقَتْ ... فنناً تنعَّمَ نبْتُه نَضْرُ
- يُثني بنات فؤادِها رشأٌ ... طَفلٌ تَخوَّن مشيهُ فَتْرُ(4)
والعرجي يعزز في صوره وضع الأمومة لدى هذه الحيوانات(المها تزجي جآذرها- مقلة مغزل- يثني فؤادها رشا، ليخصها بالحنان والقدرة على العطاء:
__________
(1) مقتم: القتم: ريح ذات غبار والقتام: الغبار الأسود.
(2) شف البرد: نم عما تحته. مخفق: واسع مضطرب كثير الحركة.
(3) ديوان العرجي: 40.
(4) المصدر السابق: 43.(1/315)
- كأنَّ نعاجَ الرملِ أهدتْ عيونَها ... إذا مجمجت أشفارهنَّ المراودُ(1)
- ومجلس النسوةِ بعد الكرى ... في روضةٍ ذات أقاحٍ ندِ
وفيهنَّ حوراء لها صورةٌ ... كالبدر قد قارن بالأسْعُدِ(2)
- فيهنَّ بَهنانةٌ كالشمس إذْ طَلَعَتْ ... تُصبي الحليمَ بدلٍ فاخرٍ حِسَنٍ(3)
- كخوطةِ بانٍ بلَّهُ صُوبُ دِيمةٍ ... إذا حرّكَتْه الريحُ بالماءِ أخضلا(4)
- سوافر مثل صيفيّ الغمام جِلا ... بالبرقِ عنه وجلّى طُخيْةَ الدُّجنِ(5)
أماطَتْ كِساءَ الخزِّ عن حُرِّ وجهها ... وأَدْنَتْ على الخدّين بُرداً مهلهلا
فلاحَ وميضُ البرقِ في مكفّهرةٍ ... من المزنِ لمّا لاح فيها تهلَّلا(6)
تكنَّفَها من كلِّ شقٍ كأنها ... سحابةُ صَيفٍ تنجلي وتميل(7)
خرجَتْ تأطّرُ في أوانس كالدمى ... والمزنُ يبرقُ بالعَشّي ربابه(8)
وفي هذه الطبيعة ذاتها تبدو صور عبيد الله بن قيس الرقيات. وقد ظلت المرأة المصورة تحتفظ بنكهة النبات العِطر، تسلب جمال الشمس والقمر، وتُشَبّه بالظبي أو الغمامة يقول:
تفتُّر عن عذَبٍ وذي ... أشَرٍ لقلبك شائق
كالأقحوانِ مَراتُه ... ومذاقُه للذائق
صهباء صرف قرقف ... شِيْبَتْ بنُطفةِ بارق(9)
فتاتان أمّا منهما فشبيهُ الـ ... هلالِ والأُخرى منهما تُشبهُ الشمسا(10)
وفتاة كالبدرِ تحنو إليها ... حين تبدو العيونُ والأعناقُ(11)
غادروا لادَرّ درُهُمُ ... حينَ راحوا جؤذراً خرقا(12)
__________
(1) المصدر السابق: 120 مجمجت: أرخت أجفانها للتكحل. المرود الميل الذي يتكحل به.
(2) المصدر السابق: 11.
(3) المصدر السابق: 40.
(4) المصدر السابق: 72..
(5) المصدر السابق:39.
(6) ديوان العرجي:74.
(7) المصدر السابق:46.
(8) المصدر السابق:27.
(9) ديوان عبيد الله بن قيس 59 مراته أي مرآته من منظره. قرقف التي لها رعدة. النطفة: الماء قليله وكثيره.
(10) المصدر السابق:34.
(11) المصدر السابق: 41.
(12) المصدر السابق: 52: جؤذر: ولد البقرة الوحشية خرق: لاصق بالأرض.(1/316)
وسلامةُ الكبرى غديرٌ وروضةٌ ... وسلامة الصغرى غزالٌ مُرَبَّبُ(1)
وبدتْ لنا من تحت كِلَّتِها ... كالشمسِ أو كغمامةِ البرق(2)
من نسوة كالبيضِ في الـ ... أدْحيِّ بالدِّمث المطيرة(3)
أما العذريون فكانوا أقل احتفالاً بالصورة عامة، وتراجعوا إلى داخل نفوسهم يستخرجون منها شحنات عاطفية جسدت موقفهم من الحياة والمجتمع. ولكن أشعارهم لا تخلو من بعض المحاولات الفنية التي تستمد من الطبيعة وعناصرها بعض مواد الجمال وتمزج بينها وبين جمال محبوباتهم وهم لا يخرجون فيها عن الذائقة الفنية السائدة في تراثهم وبيئتهم. فالمجنون يرسم صورة فنية لليلى يقارن فيها بينها وبين الشمس، فيراها تزيد الشمس في ابتسامتها وثغرها الجميل، بل إنها ساطعة منيرة تضاهي الشمس والقمر.. وتزيد عليهما بصدرها الجميل وعينيها المكحولتين ونظرتها الفاترة وكذلك بدلالها وفتنتها: يقول:
ففيكِ من الشمسِ المنيرةِ ضوؤها ... وليسَ لها منكِ التبسُّمُ والثغرُ
بلى لكِ نورُ الشمسِ والبدرِ كلُّه ... ولا حملَتْ عينيكِ شمسٌ ولا بَدْرُ
لك الشرفةُ اللألاءُ والبدرُ طالعٌ ... وليس لها منك الترائبُ والنحرُ
ومن أينَ للشمس المنيرة بالضحى ... بمكحولةِ العينين في طرفها فَتْرُ
وأنىّ لها من دَلَّ ليلى إذا انثَنتْ ... بعيْنَيْ مهاةِ الرملِ قد مَسَّها الذعرُ(4)
ويقترن جمال الطبيعة بصورة المرأة وجمالها في خيال كثّير في هذه الصورة التي اعتمد فيها على أسلوب الاستدارة التشبيهية، وعقد فيها مقارنة بين الروضة المزهرة الغناء وبين رائحة عزة بعد هجعة من الليل، يقول:
فما روضةٌ بالحَزْنِ طيبةٌ الثرى ... يَمُجُّ الندى جَثْجاثها وعَرارُها
بمنخرقٍ في بطنِ وادٍ كأنما ... تلاقتْ به عطارةٌ وتجارُها
أفيدَ عليها المسكُ حتى كأنها ... لطيمةُ داريَّ تفتٍّقَ فارُها
__________
(1) المصدر السابق: 27.
(2) المصدر السابق: 31.
(3) المصدر السابق: 44 وهو أخصب لها. ولايبيض النعام إلا في ألين المواضع..
(4) ديوان المجنون 128.(1/317)
بأطيبَ من أردانِ عزَّة موهناً ... وقد أُوقِدَتْ بالمندلِ الرطبِ نارُها(1)
فأشاع الإحساس بالربيع والبهجة وجمال الحياة في هذه الصورة التي تتوجه إلى النفس فتغنيها ببهائها وما تفيض به من صحة ونظافة.
وارتبطت صورة المرأة عند الشعراء العذريين، بل أكاد أقول عند جميع الشعراء، بصورة مهمة تشير إلى ارتباط المرأة بالحياة ارتباطاً وثيقاً، وذلك باستدعاء صورة الماء والمطر أو السحاب والبرق، كلّما أرادوا تشبيه جمالها ونضارتها وحيويتها، وكذلك الإشارة إلى العطش والحياض والورود. فعندما أراد كثيّر أن يتحدث عن ريق عزة بعد انصرام الليل لم يجد تشبيهاً أجمل من مياه سحابة سكبت ماءها في مضيق وادٍ فهدأ واستقر وصفا، ولم يكتف بصفة هذا الماء بل استرسل فجعله ينتخب لمزج أحد أنواع الخمور الشامية، يقول:
كأنّ صبيبَ غاديةٍ بلصبٍ ... تُشَجُّ به شآميةٌ شَمولُ
على فيها إذا الجوزاءُ كانت ... محلِّقة وأَردفَها رعيلٌ(2)
__________
(1) ديوان كثير 429. الحزن: الموضع الغليظ. الجثجاث، العرار: نباتات طيبة الرائحة. منخرق: متسع: متسع أي مدى انتشار الرائحة. اللطيمة: المسك. الداري: نسبة إلى دارين في البحرين. أفيد: دق وانتشر. تفتق: ذاع. فأرة المسك: نافجته. موهناً: بعد هدوء الليل. المندل: العود.
(2) المصدر السابق: 119. الصبيب: الماء. الغادية: السحابة: لصب: مضيق الوادي يكون ماؤه شديد الصفاء، تشج: تمزح. الشآمية: الخمر من الشام.. الشمول: الخمر تشمل بريحها الناس. محلقة: مرتفعة. أردفها: أتبعها الرعيل: القطعة من النجوم.(1/318)
ويتكئ كثير على هذه الصورة أيضاً فيستخدمها لتصوير مصير علاقته بعزة، فيراها كأنها السحابة الوارفة التي يرتجيها المتعب الشديد الإرهاق، إلا أنها تخذله وتسرع في تجاوزه، بل إنها سحابة مطيرة لا يرتجيها هذا المتعب ليتفيأ ظلالها فحسب، بل لما فيها من بعث الحياة وإشاعتها في أرض قاحلة مجدبة تنتظر قطرة ماء من هذه السحابة التي تخلف ظنه فتنثر خيرها بعيداً عن هذه الأرض العطشى، وكذلك هي عزة في خيال كثير. إنه يصدر عن نفسه ويصور ما يجيش بها من الحرمان والشعور بالحسرة والأسى فأخذ يسقط مشاعره على هذه اللوحة الطبيعة التي تثير الإحساس بالجفاف والهاجرة. يقول:
وإني وتهيامي بعزّةَ بعدما ... تخلّيتُ ممّا بيننا وتخلّتِ
لكالمرتجي ظلَّ الغمامةِ كلّما ... تبوّأَ منها للمقيل اضمحلّتِ
كأني وإياها ساحبةٌ مُمْحِلٍ ... رجاها فلّما جاوزْتُه استهلَّتِ(1)
ولم تكن السحابة البيضاء الرّخية الندية الماثلة بين النجوم أجمل من بثينة في خيال جميل، ولكن جميلاً يلمّ بصورته إلماماً خاطفاً دون أن يستقصي مظاهر الجمال في السحابة وخيرها، ويمضي سريعاً إلى بثينة، يقول:
فما مزنةٌ بين السَماكين أومضَتْ ... من النورِ ثم استعرضَتْها جنوبُها
بأحسنَ منها يومَ قالتْ وعندنا ... من الناسِ أوباشٌ يُخافُ شُغوبُها
تعاتَبْتَ فاستْعتبتَ عنا بغيرنا ... إلى يوم يلقى كلَّ نفسٍ حَسِيبُها(2)
وهي في طيبها وجمالها تشبه حديقة غناء بأزهارها الفواحة المتنوعة التي ينتشر شذاها الطيب بعد أن يلامسها مطر الربيع الندي فيمدها بطاقة سحرية من الجمال والبهاء في قول جميل الآتي:
يا خليليَّ إِن أمَّ حسينٍ ... حين يدنو الضجيجُ من يحَللِهْ
__________
(1) المصدر السابق 95 التهيام: مصدر المبالغة من الهيام. تبوأ: أقام في المكان. سحابة ممحل: سحابة بلد مجدب. استهلت: أرسلت أمطارها. أي هو الممحل وهي السحابة.
(2) ديوان جميل 31 المزنة: السحابة البيضاء. السماكان: نجمان. أوباش: أخلاط. استعتب: رضي.(1/319)
روضةٌ ذات حَنوةٍ وخُزامى ... جادَ فيها الربيعُ من سَبِلَهْ(1)
ويشبه عروة بن أذينة مشهد النساء بالسحاب المثقل بالماء والخير، يقول:
خرجن إلينا على رقبةٍ ... خروج السحاب لأمطارها(2)
وفي صورة أخرى يستثني صاحبته من المجموعة فيراها سحابة بيضاء تومض فوق بحر قصي يقول:
يومَ تراءَتْ كأنها-أصُلاً- ... مُزْنَةُ بحرٍ يخفى تبسُّمُها(3)
أما مجنون ليلى فيخص وجهها بقدرة سحرية عجيبة قادرة على التأثير في الطبيعة فيتمكن من استنزال المطر بطقوس الجمال والفتنة الأخاذة، يقول:
ووجه له ديباجةٌ قرشيةٌ ... به تُكْشَفُ البلوى ويُسْتَنْزلُ القَطْرُ(4)
وكان ذو الرمة شاعر الطبيعة بلا منازع في العصر الأموي يتأملها بفتنة طاغية ويجعلها موضوع حبه وشعره، وتكاد صورة المرأة في شعره تعانق الطبيعة بحيوانها وكثبانها وأمطارها ونباتاتها حتى تفوز على المرأة لولا بعض الاستدارات التشبيهية التي يتنبه فيها من استرساله في وصف الطبيعة فيعود من ثم إلى صاحبته ليبالغ من صفة حسنها، فكثيراً ما يشبه عجيزة صاحبته بالكثيب. والكثيب لوحة صحراوية تفيد الأبعاد العمودية أو الارتفاعات البارزة في أفق شديد الاتساع والامتداد، يقول:
وفي المرطِ من ميٍّ توالي صريمةٍ ... وفي الطوق ظبيٌ واضحُ الجِيد أحورُ
وبين ملاثِ المرط والطوق نَفْنَفٌ ... هضيمُ الحشا رأْدُ الوِشاحينِ أَصفرُ(5)
__________
(1) المصدر السابق 69 العلل: الشرب مرة بعد مرة. حنوة وخزامى نباتات طيبة الرائحة.. سبله: مطره.
(2) ديوان عروة بن أذينة: 219 الرقبة: الرصد.
(3) المصدر السابق : 77 الأصيل: وقت بين العصر والمغرب. المزنة: السحابة البيضاء التبسم: البرق.
(4) ديوان المجنون 130.
(5) ديوان ذي الرمة 619، 620 المرط: الإزار، الصريمة: قطعة الرمل. توالي: مآخر. رأد الوشاحين: أي خصرها نحيل وشاحها يذهب ويجيء. أصفر: أي خالٍ.(1/320)
ففي هذين البيتين تتوالى صور عدة، أبرزها صورة العجيزة، التي تشبه الكثيب الصغير بارتفاعات متوالية، ويعترض هذا المشهد الصحراوي الأساسي بعناصر بيئية أخرى فيذكر صورة الظبي الأحور العينين بعنقه الطويل، ثم يعود فيكمل عناصر الصورة الأولى فيشبه ما بين مرطها الذي تطويه وتعقده على عجيزتها وبين صدرها بمهواة حادة كأنه انحدار جبل شاهق، ويريد من هذا تصوير طول ظهرها وجذعها الذي يتوسطه خصرها النحيل وبطنها المطيب الضامر.
وكان ذو الرمة مغرماً بهذا المشهد، يعود إليه كلما أراد تصوير المنطقة ذاتها من جسد حبيبته، يقول:
أناةٌ كأنَّ المرطَ حين تلوثُه ... على دِعْصةٍ غرّاءَ من عُجَم الرملِ(1)
فهو يشير إلى أن مرطها يطوي على كثيب صغير، وهو إلى هنا لم يخرج عن أركان الصورة السابقة، ولكنه لا يلبث أن يضيف أنّ هذا الكثيب يُشكل من كمية من الرمل تكنز وسطه وتساعد على ارتفاعه فهو ليس هشاً أو رخواً بل إنه من كثرة من الرمل المتداخل. ففي الصورة إثارة لحاسة اللمس وحاسة النظر، فلفظة واحدة هي"عُجْم" ها هنا تمدّ الصورة بإيحاءات أكثر إثارة وفتنة.
ويخرج ذو الرمة من إطار الرمال إلى الحيوان الصحراوي، ويغرم بتصوير هذا المشهد يكرر فيه ويعيد كما في أجزاء الطبيعة الأخرى، فيشبه أعين النساء بأعين البقر الوحشي المشهورة بجمالها واتساعها وشدة سوادها، يقول:
كأنَّ عيونَهنَّ عيون عِيْنٍ ... تَرببَّها بأسْنُمةَ الجميمُ(2)
ويمد من إيحاء هذا المشهد في صورة أخرى، فيهمل صفة العيون ويبرز صفة البقر الوحشي فيصوره وهو يقضم بعض النباتات البرية، فتشمل اللوحة الحيوان والنبات. يقول:
__________
(1) المصدر السابق : 142 أناة بطيئة القيام. المرط: الإزار. تلوثه: تديره حولها. الدعصة: كثبان صغيرة عجم الرمل: معظمه ووسطه.
(2) ديوان ذي الرمة: 673الجميم: النبت. أسنمة: موضع.(1/321)
وأعينَ العِين بأعلى خوّدا ... ألفين ضالاً ناعماً وغرقدا(1)
واستعان بصورة الظباء أيضاً في مقارنات مختلفة مع حبيبته، فهو يشبه مية بظبية جميلة صارت إلى فضاء مفتوح إلى جانب كثبان صغيرة وقد انتشرت حولها بعض الأوراق والنباتات في وقت سحري-ما بين الليل والنهار- هذا الوقت الذي ينشر بعض الاصفرار على الأشياء فيمنحها شحوباً فتاناً، وفي الصورة-كمعظم الصور في ديوانه- لوحة الصحراء الخالدة التي تضم: الكثبان الرملية كأرضية للصورة ثم ينثر فيها الحياة عندما يجعل الظباء متحركة تبحث عن الطعام، تستوقفها بعض الأوراق اليابسة المتناثرة على الأرض، ثم لا ينسى عنصر الزمن، إنه وقت الأصيل الذي يجعل الظبية تأنس إلى زوال الضوء الكثيف والحرارة المرتفعة فتشعر الأمان في محيطها وتكشف عن نفسها في فضاء رحب جميل. يقول:
بّراقة الجيد واللبّات واضحة ... كأنّها ظبيةٌ أَفضى بها لَبَبُ
بين النهار وبين الليلِ من عَقدٍ ... على جوانِبهِ الأسباطُ والهدُبُ(2)
ويربط الشاعر أيضاً بين المرأة وعنصر الطبيعة الأساسي ألا وهو الماء. وكان هذا الارتباط بين المرأة والماء-كما يرد في هذه الصور يتم بصور عدة كذكر السحاب والمطر والبرق أو الغدران والحياض، فيشبه ذو الرمة ا لنساء اللواتي يتهادين في مشيتهن بالسحاب الذي أفرغ نفسه من مائه فأصبح خفيف الحركة والانسياب، يقول:
وبيضاً تَهادى بالعشيِّ كأنّها ... غمامُ الثريّا الرائحُ المتهلِّلُ(3)
ويشبه ابتسامها ببرق سحابة أخفاها الظلام في قوله:
__________
(1) المصدر السابق: 463 خودا: موضع. الضال: السدر البري. الفرقد: ضرب من الشجر.
(2) المصدر السابق: 26 اللبب: منقطع الرمل. أفضى: صار إلى الفضاء. العقد: الرمل المتراكم. الأسباط: اسم نبات. الهدب: ورق الأرض.
(3) ديوان ذي الرمة 1599.(1/322)
تبسَّمُ إيماضَ الغمامةِ جَنَّها ... رِواقٌ من الظلماء في منطقٍ نَزْرِ(1)
ويلمُّ الشاعر بصورة أخرى تشمل الأمطار والرياض المزهرة ورائحة حبيبته وطيبها، ويقدمها معتمداً على الاستدارة الفنية، التي يرى من خلالها أن هذه الروضة التي تضم كريم النباتات والأزهار الفواحة والتي تعاقب عليها المطر مما جعل عبقها دائم الأريج، ليست أطيب من رائحة حبيبته بعد هجعة من الليل، بل إن بهجته بعطرها وأريجها كما بهجة الحياة والصباح برائحة الأرض والنبات يقول:
فما روضةٌ من حرّ نجدٍ تهلّلتْ ... عليها سماءٌ ليلةً والصَّبا تسري
بها ذُرَق غضُّ النبات وحنوةٌ ... تعاورها الأمطارُ كفراً على كَفْرِ
بأطيبَ منها نكهةً بعد هجعةٍ ... ونشراً ولا وعساءُ طيبةُ النشرِ(2)
ويستظل القطامي ظل الأقحوان الذي أسقي ماء المطر، ويستمد منه رطوبته وامتداد شذاه، في وصف أسنانها البيضاء النظيفة البراقة يقول:
كأنَّ ثناياها ذرى أقحوانةٍ ... علاها ندى الشؤبوبِ ساعةَ صابا(3)
ويعكس في صورة أخرى احتضانه لمخلوقات البيئة الصحراوية وحنوه عليها، فيصور صاحبته بيضة حيوان صحراوي حفر لها حفرة في الرمال اللينة التي تضم بعض النباتات البرية كالحوذان والعذم مما موّه هذا العش وأخفاه وأمده بالظل والأمان يقول:
كأنها بيضةٌ صفراءُ خَدَّ لها ... في عثعثٍ يُنْبِتُ الحَوْذانَ والعَذَما(4)
ويقرن جمال جسد صاحبته وحسنها الفتان إلى جمال سحابة باردة تستهل ماءها في أرض عطشى يقول:
__________
(1) المصدر السابق:952 الرواق: الأعالي من كل شيء. جنها: ألبسها. نزر: أي قليل.
(2) المصدر السابق: 958 من حر نجد: أي من كريمها وعتقيها. تهللت: سالت. سماء: يريد المطر. الصبا: تسري ليلاً للمطر. ذرق: نبات كفراً على كفر: أي مطرة على مطرة. تعاورها: أي تأتيها مرة بعد مرة. هجعة: نومة. النشر: الرائحة. الوعساء الرملة اللينة.
(3) ديوان القطامي: 159 الشؤبوب: أول كل شيء. ...
(4) ديوان القطامي: 98.(1/323)
قامت تُريكَ وتجلو من محاسِنها ... بَرْدَ الغمامةِ تسقي بلدةَ حرما(1)
وفي تصوير ريقها العذب يذكر ماء السحاب البارد يقول:
وكأنما جادتْ بماءِ غمامةٍ ... خَضْر تنّزل من متونِ العشرق(2)
ويسلك عمرو بن لجأ التميمي مسلك هؤلاء الشعراء الذين احتفوا بالطبيعة والبيئة البدوية فهو يحيط صوره بهذا الإطار الطبيعي الفتان، ويعتمد في إبراز نموذجه الجمالي على البقر الوحشي المنتشر في بعض الأماكن التي يسميها، يقول:
عراض القطا غرّ الثنايا كأنّها ... مها الرملِ في غُرٍّ منَ الظلِّ أَهدبا
خرجنَ عِشاءً والتقَيْنَ كما التقى ... مها ربربٍ لاقى بفيحانَ ربربا(3)
إنه يقرن صورة الحياة الهانئة والعيش العزيز الذي لا يرهق أصحابه بهذا الظل الوارف الذي تنعم به مجموعة من إناث البقر الوحشي، ويبين ما يضفيه هذا الظل الممتد على قيلولتها من رطوبة ومتعة واسترخاء ثم يقرن ذلك كله بصورة النساء اللواتي يشعر بغبطتهن ومرحهن وقت تلاقيهن، فيشبه مرحهن بمرح إناث البقر الوحشي النشيطة. ومن الملاحظ أن الشاعر لم يستطع في هذا التصوير القائم على المزج بين ما هو طبيعي واجتماعي الاستغناءَ عن هذا الحيوان الصحراوي الذي أصبح رمزاً جمالياً وافر الدلالة.
ويقول هدبة بن الخشرم مصوراً مواكب النساء الجميلات بأعناقهن التي استعرنها من الظباء الرشيقة وأعينهن التي تشبه أعين البقر الوحشي في سعتها ولونها وثقل أردافهن بالسحاب المثقل بما يحمل من خير:
خرجْنَ بأعناقِ الظباء وأعَيْنِ الـ ... جآذرِ وارتّجتْ بهنَّ الروادفُ
طلَعْنَ علينا بين بِكْرٍ غريرةٍ ... وبين عُوانٍ كالغمامةِ ناصفِ(4)
__________
(1) المصدر السابق: 98.
(2) المصدر السابق: 111 العشرق: شجر أو نبت.
(3) شعر عمرو بن لجأ التميمي: 37 عراض القطا: واسعات الأرداف. غر من الظل: أي ظل، وارف. أهدب: متدل فيحان: موضع.
(4) شعر هدبة بن الخشرم: 116 في البيت الثاني إقواء.(1/324)
ويشبه عدي بن الرقاع أسنان صاحبته بحبات البرد التي تشكلت بحجم فريد، ثم يستطرد فيذكر الأقحوان الذي سقاه مطر دائم مما زاد في طيبه وعبيره ورونقه، يقول:
كأنَّ ثناياها بناتُ سحابةٍ ... سقاهنَّ شؤبوبٌ مِنَ الليل باكرُ
فهنَّ معاً أو أقحوانٌ بروضةٍ ... تعاورَهُ صوبانِ طَلٌّ وماطرُ(1)
ويتأمل بريق أسنانها ويذكر طيب ريقها فيستعين بصورة الأقحوان في روضة سقاها مطر خفيف مما أدى إلى انتشار رائحة التراب والأعشاب، يقول:
براقة الثغر تشفي القلب لّذتُها ... إذا مقبلُّها في ريقها كرعا
كالأقحوانِ بضاحي الروضِ صَّبحَهُ ... غيثٌ أَرشَّ بتنضاحٍ وما نقعا(2)
ويشبه النعمان بن بشير رضابها بماء المطر الذي مزج بالعسل فيقول:
كأن الرضابَ وصوبَ السحا ... ب بات يذابُ بِشَوْبِ العَسَلْ(3)
أما عمرو بن أحمر الباهلي فيصور بريق أسنانها ببريق المطر في قوله:
تجلو بأخضرَ من نعمانَ ذا أُشُرٍ ... كعارضِ البرقِ لم يستشرب الحِبَرا(4)
ويوزع ابن ميادة صورته على أبيات متتالية يذكر فيها الروضة النضرة الفواحة التي أصابها المطر ويذكر بيض النعام المخبأ في الرمال الرطبة في قوله:
كأنها وَهْيَ على طيبها ... يفوح منها المسك والعنبرُ
بيضةُ أدحيٍّ لها حاضنٌ ... هجنّعٌ ذو هَدَبٍ أَزْعَرُ
في روضةٍ خضراءَ موسومةٍ ... باتَ يدنيها إذا تُمْطِرُ(5)
هذه بعض صور المرأة التي تستمد عناصرها وأركانها من الطبيعة وأجمل ما جذب أنظار الشعراء فيها من مياه وحيوان ونبات ورمال.
__________
(1) ديوان عدي بن الرقاع 55.
(2) المصدر السابق: 59.
(3) شعر النعمان بن بشير: 106 الصوب: نزول المطر. يشاب: يخلط.
(4) شعر عمرو بن أحمر: 70 العارض: السحابة تراها من ناحية السماء. الأخضر: السواك. نعمان: واد.
(5) شعر ابن ميادة: 51 الأدحي: بيض النعام في الرمل. الهجنع: الظليم الأقرع الأزعر: القليل المتفرق.(1/325)
ويضاف إلى هذا المصدر الطبيعي، الواقع الاجتماعي والثقافي الذي رأى فيه الشعراء مادة طيبة لبعض صورهم. وكانت هذه الصورة التي تستوحى من الإطار الاجتماعي والثقافي الذي يحيط بالشاعر ترتبط أيضاً بعناصر الطبيعة، كما نجد في صورة الفرزدق التالية:
كأُمِّ غزالٍ أو كدرّةِ غائصٍ ... إذا ما بدتَ مثلَ الغمامةِ تُشرقُ(1)
فضمن إطار الطبيعة التي استخلص منها الغزالة الأم والغمامة المشرقة، ورد ذكر الدرة والغائص، وفي قوله"أم" اختزان لمشاعر حنان ورقة فائضة يمدّه بها هذا اللفظ، فيمنح صورته منذ بدايتها دفقة من الإحساس بالحنان وإشاعة الجمال والحب في أنفسنا، فالغزالة عندما تكون أماً، تمدّ الشعراء برصيد ضخم من هذه المعاني، وتجعلهم قادرين-بالإضافة إلى رصد المظاهر الخارجية للحياة والكون- على إشاعة الإحساس بالجمال وتحريك الحواس وإثارتها.
أما قوله"درة غائص" فتشبيه يتضمن قيمة الدرة البعيدة التي يواجه غواصها أصعب المخاطر في سبيل الحصول عليها، والحصول عليها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية والاقتصادية للإنسان العربي حتى فترة متأخرة من حياتنا الاجتماعية، مما يضفي إحساساً بالحياة الغنية بالخير القادرة على العطاء.
ويكرر الفرزدق صورة اجتماعية أخرى ويمزج بينها وبين الواقع الطبيعي- النباتي- عندما يصور أحاديث النساء ويشبهها بالعسل ومواسم العنب وما تعد به من لذيذ الشراب يقول:
إذا هنَّ ساقطن الحديثَ كأنه ... جنى النحلِ أو أبكارُ كَرْمٍ يُقطّف(2)
__________
(1) ديوان الفرزدق: 411.
(2) ديوان الفرزدق: 374.(1/326)
ففي البيت تصوير مرهف وجميل، إذ حديثهن يتساقط لا كما تتساقط حبات اللؤلؤ من خيط النظم بغفلة ونفور وإنما يساقطن كلماتهن بخوف وحذر وإشفاق، فاللفظة ذاتها"ساقطن" تحمل معناها وتقدم الإيحاء الشاعري الجميل، ثم يقرن الشاعر جمال الحديث بالعسل وحلاوته وعذوبة مذاقه فيثير فينا حاسة السمع وحاسة الذوق بل هو لا يكتفي بمذاق العسل وطيبه وإنما يتسع في تصوير ما يثيره حديثهن في النفس من جمال وعذوبة فيشبهه بعناقيد العنب التي تقطف للمرة الأولى، وفي لفظة"البكورة" تكمن أسرار الصورة، فحديثهن مثل أبكار هذا العنب المقطوف قد اختزن حلاوة النضج المتمهل، وأخذ كفايته من احتضان الطبيعة الأم له، فكان باتزانه وكماله كهذا الموسم اللذيذ.
ويطور الفرزدق الصورة السابقة، فيصور تشعب الأحاديث بين النساء واشتراك مجموعة منهن بالكلام، بمن يعالج مسكاً ويبله بالماء ثم يسحقه، وهي صورة اجتماعية طريفة، خرج الشاعر فيها عن المألوف في صفة الحديث، وفارق النهج المادي الذي سيطر على الصورة الشعرية إلى شيء من اللامألوف حتى يوشك القارئ أن يرى الحديث بعينه ويشمه بدل أن يسمعه، وذلك في قوله:
ينازعْنَ مكنونَ الحديثِ كأنما ... ينازعنَ مسكاً بالأكفِّ الدوائف
وأكثر ما تظهر مدنية الفرزدق واطلاعه الحضاري، في هذه الصورة التي يتحدث فيها عن مساعاة ليلية لإحدى النساء، فإنه يصدر فيها عن ذوق متحضر يتفوق فيه على عمر بن أبي ربيعة تفوقاً ملحوظاً، وذلك عندما يذكر أن صاحبته تقيم في مكان مشيّد-لا شك أنه قصر- عليه حراسة شديدة، وأبوابه مصنوعة من خشب الساج، وعليه أقفال كثيرة تصرّ بأيدي البوابين الذين وكلوا بحراستها، يقول:
أحاذرُ بوَّابَيْنِ قد وُكِّلا بها ... وأسمرَ من ساجٍ تَئطُّ مسامِرُه(1/327)
فقالت: أقاليدُ الرِّتاجَيْن عنده ... وطهمان بالأبواب كيف تساوِرُهْ(1)
وكان عمر بن أبي ربيعة قد صور صاحبته في خباء أو خدر تعرّفه بعد مشقة حين هدته إليه رياها العبقة، ولكن أين خدر صاحبته من قصر صاحبه الفرزدق وأبوابه وبوابيه؟
ويحاول الشاعر عمرو بن لجأ التميمي تصوير حديث كان قد أصغى إليه بين مجموعة من النساء، فاعتمد على نقل عبارات التحية الشائعة في البيئة العربية، وفي الألفاظ ذاتها تصوير عذب يكشف عن مشاعر السرور باللقاء والرغبة في تبادل المودة، ويراه ناعماً رقيقاً-كمس الخز- مما أمدّه بطاقة إضافية من التعبير الموحي بالشفافية والجمال المستمد من البيئة الاجتماعية، يقول:
قَصَرْنَ حديثاً بينهن مقّبراً ... وكلٌّ لكلٍ قال أهلا ومرحبا
رقيق كمس الخز في غير ريبةٍ ... ولا تابع زور الحديث المكذبا(2)
ويستمد جرير من البيئة الاجتماعية إيحاء صورة طريفة فيشبه عيش النساء الخفيض والرغد والهناء الذي يستمتعن به بحاشية ثوب حريري ناعم ليشير إلى التحضر الذي تنعم به هؤلاء النسوة، يقول:
بيضاً ترببَّها النعيم وصادفتْ ... عيشاً كحاشية الفِرندِ غريرا(3)
ويتوسع القطامي في صورة الغواص الهندي الذي فاز بالدرة، ويصور هزاله وتغير لونه والشقاء المرسوم على شفتيه، ويصور كيف يمكن أن يكون إحساس بائس فقير يغوص في أعماق البحار ليلتقط رزقه وينتفع به، إنها صورة فريدة في وصف الشقاء وما يتضمنه الحصول على بعض الرزق من إحساس بالسعادة والهناء يقول:
أو درةٌ من هجانِ الدُرِّ أدركَها ... مُصَعَّرٌ من رجالِ الهندِ قد سَهَما(4)
__________
(1) المصدر السابق: 188 أسمر: أي باب من خشب الساج. تئط: تصر. الأقاليد: الواحد أقيلد: المفتاح. الطهمان: البواب.
(2) شعر عمرو بن لجأ التميمي: 38 مقبراً: أي مختلفاً متبدلاً.
(3) نقائض جرير والأخطل: 121.
(4) ديوان القطامي: 98 السهام: تغير اللون وذبول الشفتين.(1/328)
ويستخدم عبيد الله بن قيس الرقيات صورة الغائص الهندي، ولكن من غير أن يتوقف عند صفاته الجسمية ويكتفي بوصف بضاعته المؤلفة من الدّر، يشبه بها أميرتين أمويتين، يقدم لهما مال الشام ومال العراق، ويستمد الشاعر تفاصيل الصورة من البيئة الاجتماعية الأموية التي امتازت بالثراء وتوافر المال واستمتاع النساء بهذا المال في قصور الأسرة الحاكمة وفي الولايات التابعة لها، يقول:
دُرّتا غائصٍ من الهند مالُ ... الشآم يُجبْى إليهما والعراق(1)
ويعتمد على صورة الدّر في استخدام آخر يصور من خلاله عَزة صاحبته ونفاستها فيقول:
درّة من عقائلِ البحر بِكْرٌ ... لم تنلْها مثاقِبُ اللأّل(2)
بالإضافة إلى بعض الصور الثقافية والدينية التي استمدها الشعراء من حياتهم الاجتماعية والعقلية والتي سيمر ذكرها في المبحث الثالث من هذا الفصل.
2- أنماط الصورة البنائية:
التشبيه:
إن أبرز ملاحظة يمكن أن تسجل على الصور السابقة التي تمثل التمازج بين الطبيعة والمرأة، هي اعتمادها على نمط فني غالب عليها جميعاً ألا وهو التشبيه، ومنذ العصر الجاهلي كان التشبيه أكثر أساليب الصورة البلاغية استعمالاً لأنه يقوم على رصد التشابه في العلاقات الخارجية ودمجها أو تقريبها بعضها من بعض.
__________
(1) ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات: 41.
(2) المصدر السابق: 112.(1/329)
وقد ظل التشبيه في العصر الأموي أهم نمط فني في بناء الصورة التي ترصد أوجه الشبه بين عناصر الطبيعة الخارجية والجمال الحسي للمرأة، ولم يكن الشعر الحجازي مع ما عرف عنه من التطور والتجديد في منهج القصيدة والوحدة العاطفية والفنية ومن اعتماده على القصة والحدث والحوار بمنجاة من استخدام التشبيه والاتكاء عليه في كثير من الصور، مع وجوب ملاحظة أنها تشابيه بسيطة يسيرة لا تهدف إلى الإغراق في التفاصيل، كما تشير صور عمر ابن أبي ربيعة، الذي كان يعتمد على رصيد ضخم من هذه التشابيه القريبة المألوفة التي تعتمد على أداة التشبيه اعتماداً واضحاً، كما نرى في قوله:
كلما قلتُ تناسى ذكرَها ... راجعَ القلبَ الذي كانَ نسي
فَلَها وارتاح للخّوْدِ التي ... تيمّتْ قلبي بذي طَعْمٍ شهي
باردِ الطعمِ شتيتٍ نبتُه ... كالأقاحي ناعمِ النبت ثَري
واضحٍ عذبٍ إّذا ما ابتسمتْ ... لاحَ لوحَ البَرْق في وَسْطِ الحبي
طيّبِ الريقِ إذا ما ذُقْتَه ... قلتَ ثلجٌ شِيبَ بالمسك الذكي
وبطرفٍ خلْتُه حين بدتْ ... طرفَ أُمِّ الخِشف في عَرْفٍ ندي
وبفرعٍ قد تدَلّى فاحمٍ ... كتدلّي قِنْو نخلِ المُجتَنْي
وبوجهٍ حسن صورتُه ... واضحِ السُّنّةِ ذي ثغرٍ نقي
وبجيدٍ أغيد زيَّنه ... خالصُ الدُّر وياقوت بهي(1)
ويشبه بياضها وبهاء وجهها بضياء القمر في ليلة شديدة الظلمة في هذا الأسلوب البسيط:
خَوْدٌ تضيءُ ظلامَ البيتِ صورتُها ... كما يضيء ظلامَ الحِنْدِسِ القمرُ(2)
ويكنى عنها بذكر البيضة ثم يشبهها ببقرة وحشية جميلة العيون، ويختم صوره بتشبيهها بالقمر في قوله:
يا صاحبي أقِلاَّ اللوم واحتسبا ... في مُسْتَهامٍ رماهُ الشوق بالذِّكر
__________
(1) ديوان عمر: 481.
(2) المصدر السابق: 111 الخود: الشابة الناعمة.. الحندس: الليل شديد الظلمة.(1/330)
ببيضةٍ كمهاة الرّملِ آنسةٍ ... مِفْتانةٍ الدَّلِّ ريّا الخلق كالقمر(1)
ويشبهها بالمهاة الرشيقة التي تقضم الأزهار الغضة:
سيفانةٍ، فنقٍ جُمٌّ مرافقُها ... مثل المهاةِ تُراعي ناعمَ الزَّهَرِ(2)
أو يشبه فمها وطيبه بالخمر المعتقة في أشهر مناطق الخمور في قوله:
كأنّ فاها إذا ما جئت طارِقَها ... خَمْرٌ ببيسانَ أو ما عتَّقتْ جَدَرُ(3)
ويجمع تشبيهات عدة في بيت واحد فيذكر الشمس والدرة والقمر، يقول:
كأنها الشمسُ وافتْ يومَ أسْعُدِها ... أو دُرّة شُوّفَتْ للبيعِ أو قمرُ(4)
ويشبه شعرها بالكروم الغزيرة المتشابكة، يقول:
ولها أثيتٌ كالكرومِ مذّيلُ ... حَسَنُ الغدائرِ حالِك مَضْفُورُ(5)
ويشبه عجيزتها بالجبل في قوله:
قباء إنْ أقبلتْ مُبتَلَّةٌ ... والبوصُ منها كالقَوْرِ مُنْعَفِرُ(6)
ويهتدي إلى تشبيه ظريف، يستمده من بيئة الجزيرة العربية التي كانت تعتمد في تنقلها على الدواب فشبه قلبه بدابة مزمومة بحبل في يدي صاحبته وتجره أو يتبعها إلى حيث تتجه يقول:
زمّتْ فؤادي فهو يَتبعُها ... لِلْغَورِ إن غارت ولِلجلْسِ(7)
__________
(1) ديوان عمر: 116 المهاة: البقرة الوحشية. مفتانة: شديدة الفتنة.. الدل: الدلال. ريا الخلق: ممتلئة سمينة.
(2) المصدر السابق: 117 سيفانة: طويلة. فنق: ناعمة. جم: ملآن.
(3) المصدر السابق 123 بيسان وجدر: بلدان مشهورة بصناعة الخمر.
(4) المصدر السابق 123 شوفت: حسنت وجليت.
(5) المصدر السابق 125 أثيت أراد بها شعرها الكثير الضافي. وحالك: شديد السواد.
(6) المصدر السابق 142 قباء: ضامرة البطن. المبتلة: الجميلة التامة الخلق. البوص: العجيزة. القور: ج قار وهي في أعلى الجبال..
(7) المصدر السابق: 477 الغور: مكان الجلس: اسم نجد.(1/331)
ويعتمد العرجي على التشبيه في إبراز صوره الجمالية، ويقدمه في أسلوبه البسيط المباشر المعتمد على أداة التشبيه كما مرّ في تشبيهات عمر بن أبي ربيعة، فيشبه جمال وجهها بالبدر في الأوقات الميمونة السعيدة يقول:
وفيهن حوراءُ لها صورةٌ ... كالبدر قد قارن بالأسْعُدِ(1)
ويشبه نضارتها وحيوتها بالغصن الندي الرطب في قوله:
ممكورة الساقين رعبوبةٌ ... كالغصن قد مالَ ولم يَخْضَدِ(2)
ويشبه رشاقتها وجمال عيونها بريم يقرو بعض الثمار في قوله:
كأنها ريمٌ بذي مَثْوَبٍ ... أحورُ يقرو مُصَّعَ العوسج(3)
ويشبه الظعائن بالنخيل المثمر في قوله:
كأن حمولَهُمُ إِذْ غَدَوا ... نخيلٌ على نُهُرٍ دُلّحُ
من الوُقْرِ في وطنٍ ما به ... قفافُ سباخٍ ولا أَبطُحُ(4)
وهو تشبيه شائع يتضمن الإشارة إلى علاقة المرأة بالحياة وقدرتها على العطاء والإنجاب والأمومة والخير. وذلك باتفاقهم على أن النخيل مثمر مثقل بثماره.
ولم يستخدم الأحوص التشبيه كثيراً وهو حين يلجأ إليه يستخدمه بأسلوب بسيط يسير كما في هذه الصورة التي يشبه فيها لبنى بسحابة بيضاء أو دمية في معبد للنصارى يقول:
كأن لُبْنَى صبيرُ غاديةٍ ... أو دميةٌ زُينتْ بها البِيَعُ(5)
__________
(1) ديوان العرجي: 12 الأسعد: ج سعد وهو اليمن.
(2) المصدر السابق: 12 الممكورة الممتلئة الساقين الرعبوبة: الجارية البيضاء الخضد: كسر العود.
(3) المصدر السابق: 19 ذو مثوب: موضع أو بلد باليمن. مصع العوسج: ثمره.
(4) المصدر السابق 113 الحمول: الهوادج الدلح: الثقيلة الحمل. أصله السحاب الغزير الماء. الوقر: الحاملة حملاً ثقيلاً القفاف: ج قفة الأرض المرتفعة.. السباخ: مالم يحرث من الأرض ولم يزرع. الأبطح: الأرض المستوية.
(5) ديوان الأحوص: 144 الصبير: السحاب الأبيض. الغادية: السحابة التي تنشأ غدوة. البيع: واحدها بيعة وهي مكان تعبد النصارى.(1/332)
وربما حشد مجموعة من الصفات ليظهر أن لحمها مشدود غير مترهل، فشبهها بالحبل المفتول جيداً الذي أتقن الصانع صناعته في قوله:
من المدمجاتِ اللَّحْمِ جِدْلاً كأنها ... عِنَانُ صَناعٍ مُدْمَجُ الفَتْل مُحْصدا(1)
ويتكئ عبيد الله بن قيس الرقيات على التشبيه في تصوير المرأة ويستقصي أوجه الشبه فيها المرأة بظبية أم أضاعت ولدها وقصدت أرضاً سهلة تبحث عنه حزينة ملتاعة في قوله:
شِبْهُ أدماءَ مُغْزِلٍ ضلَّ عنها ... خِشُفُها فانتحت مكانا سُهوبا
فَهْيَ مشغوفةٌ تجولُ عليها ... يصدعُ الصخرَ صوتُها والقلوبا(2)
واستعاض الشعراء العذريون عن تدبيج الصور الفنية القائمة على التشبيه والمجاز بالتعبير التلقائي الذي يجسد العواطف والانفعالات التي يصدرون عنها بصياغة جديدة ولكنهم اهتدوا إلى بعض التشبيهات الجميلة البسيطة والعفوية، كما في هذا التشبيه الذي يعقده المجنون بين عينه الدامعة وبين من ينظر من خلف الزجاج، فشبه الدمع بزجاج شفاف قد حجب الرؤية بعض الشيء ثم ما إن ذرف دموعه حتى اتضحت الرؤية أمامه، واستمر على هذه الحال بين أعشى ومبصر إلى أن قرر أن دموعه إنما هي أجزاء نفسه الذائبة من الحب والغرام، يقول:
نظرتُ كأني من وراءِ زجاجةٍ ... إلى الدارِ من ماءِ الصبابةِ أنظر
فعينايَ طوراً تغرقان من البكا ... فأعشى وطوراً تَحْسِرانِ فأُبْصِرُ
وليس الذي يَهْمي من العين دمعُها ... ولكنه نفسٌ تذوبٌ فتقطُرُ(3)
__________
(1) ديوان الأحوص: 99 أدمج الحبل: إذا أحكم فتله. الجدل: شدة الفتل. العنان: الحبل. الصناع: الحاذق بالصنعة. المحصد: الشديد الفتل.
(2) ديوان عبيد الله بن قيس 108 الأدماء: الظبية في بياضها سمرة. مغزل ذات ولد. الخشف: ولد الظبية انتحت: قصدت. السهوب: ج سهب وهو المستوي من الأرض في سهولة مشغوفة: حزينة. تجول عليها: تبحث عنها.
(3) ديوان المجنون: 135.(1/333)
أما في شعر ذي الرمة فالأمر مختلف بل شديد الاختلاف، إذ يكاد في طبيعة تجربته العاطفية أن يكون من العذريين، لكنه في تعبيره عن هذه التجربة يعد مفارقاً لهم إذ: "اعتمد ذو الرمة اعتماداً شديداً على الصورة الفنية وجعلها من مقومات صنعته الأساسية"(1).
وكان التشبيه أوسع مجال حلق فيه خيال الشاعر حتى بدا مقوماً أساسياً من مقومات الصناعة الفنية لديه(2) فيشبه حبيبته بغزالة أم شغلها ولدها الصغير عن باقي القطيع، بل شغلها عن كل ما حولها في أرض سهلة لينة، ويربط بينها وبين حبيبته من خلال أداة التشبيه في قوله:
كأنها أمُّ ساجي الطرف أخدرها ... مستودعٌ خَمرَ الوعساءِ مرخومُ(3)
ومن الملاحظات التي تسجل على صورة الظبية أن معظم الشعراء حاول إظهار أمومتها وحنانها كما في هذه الصورة، أو تصويرها وهي تقضم العشب كما في الصور السابقة من أجل إشاعة الحركة والحياة في الصورة.
وكان يكثر من تشبيه الظعائن بشجر النخيل المثمر الداني القطوف، وهو على ما أعتقد ربط رمزي بين صورة المرأة وعناصر الطبيعة الحية الضرورية للحياة، فالنخيل كان من أهم الأغذية في حياة الإنسان العربي في ذلك العهد والعلاقة بين مشهد الظعائن وخلفية النخيل علاقة خصبة تفيض بالعطاء والحياة وتقوم على مزج أصيل بين عناصر الطبيعة وكشف لمّاح عن العلاقات بينها: الأرض- النبات- الحيوان- الماء- الإنسان.
__________
(1) ذو الرمة شاعر الحب والصحراء 275.
(2) المرجع السابق 376.
(3) ديوان ذي الرمة 386 ساج: ساكن الطرف وهو ولدها الذي شغلها من باقي القطيع. أخدرها: حبسها عن صواحبها. استودع: توارى. خمر الوعساء: الخمر كل ما واراك وسترك. الوعساء: أرض سهلة لينة. مرخوم: يعني الغزال.(1/334)
وسجل التشبيه تفوقاً واضحاً في دواوين الشعراء الآخرين، ولكن بعض هذه التشبيهات تنقصه الجاذبية والجمال وربما فقد التوهج والشاعرية. فعندما أراد الأخطل وصف الحنّاء في كفي صاحبته وأصابعها، ربط بين اللون الأحمر وبين الدم الذي ينزف من ذبيح وهي صورة-على ما أظن- يموت فيها الأثر الفني للصورة، لأن دم الذبيح الذي يجري بغزارة في بداية النزف ويكون لونه نضراً زاهياً لا يلبث أن يتحول إلى لون قاتم كثيف لا يثير أي إحساس بالجمال، بل هو لا يثير إلا الإحساس بالنفور والاشمئزاز، فكلمة الذبيح تحيل التشبيه إلى لوحة يابسة تقبض على إحساسنا بالجمال والشعر يقول:
ومرمَّلُ الحناء يصبح قانياً ... كدم الذبيح بأرْوُحٍ وبنان(1)
ويشبه تمنع صاحبته وحصانتها بالطيور الخرافية التي لا يمكن أن تنال، فالرخم تضع بيوضها في أعلى الأماكن وتمنعها على الطامعين تشد انتباهه فيسجلها في هذا البيت ويقول:
من الجازئاتِ الحُورِ مطلبُ سِرِّها ... كبيض الأنوقِ المستكنَّةِ في الوكر(2)
ويعتمد الفرزدق على التشبيه شأنه شأن غيره من شعراء هذا العصر، فيشبه جمال"النوار" بجمال البقر الوحشي الذي يرعى أحد المواضع وقد تجمعت أولاده حوله، وفي الصورة إثارة للنفس والحواس الإنسانية وتحريض لإحساس الأمومة والرعاية وكأن الشاعر كان يترصد الطبيعة وكل ما يدل على الترابط والحب، فيلتقطه ويسجله، فيبدو متأملاً البقر الوحشي المتجمع في قطيع أسري كل يحنو على الآخر ويترقبه ويضمه إليه، فالحيوان يمارس أمومته في أحضان الطبيعة في معظم الصور التي اخترتها، مما يثير الإحساس بدفء الحياة وجمالها. يقول:
__________
(1) نقائض جرير والأخطل: 220 القاني: الشديد الحمرة.. الأروح: ج راح وراحة.
(2) ديوان الأخطل: 12 الجازئة: التي تجتزئ الرطب عن الماء. السر: صفو المودة. الأنوق: الرخم التي لا ينال بيضها.(1/335)
كأن نواراً ترتعي رملَ عالجٍ ... إلى ربربٍ تحنو إليه جآذرُهُ(1)
ويسلك النابغة الشيباني مسلك الفرزدق في الاعتماد على التشبيه فيشبه أسنان المرأة بالأقاحي وفمها بالرياض المزهرة والظعائن بشجر النخيل كما في قوله:
ألا هاجَ قلبي العام ظعن بواكر
كواعب أتراب كأن حمولَها ... من النخلِ عُمريُّ النخيل المواقرُ(2)
ولا يبعد جرير عن غيره فهو يشبه أسنانها البراقة ببريق غيوم ماطرة، ويفيد قوله ماطرة أنها داكنة مما يزيد الإحساس بقوة البرق وشدة لمعانه يقول:
إذا ابتسمتْ أبدتْ غروباً كأنها ... عوارضُ مُزْنٍ تَسْتَهلُّ وتَلْمَحُ(3)
ثم لا يكتفي بتصويرها وهي تبتسم بل يحرّك الصورة ويتأملها وهي تنظف أسنانها بالسواك الذي صقلها وجعلها تشبه حبات البرد البيضاء التي تحدّرت من سحابة ماطرة يقول:
تُجري السِّواكَ على أغرَّ كأنه ... بَرَدٌ تحدَّرَ من متونِ غَمامِ(4)
ويشبه مشية النساء المتهادية بفرس ضعيف صغير لا يستطيع الاعتماد على قوائمه إلا قليلاً، ولا يكتفي بذلك فيتابع التشبيه في بيت آخر يصف فيه ميلان"الجل" على ظهر فرس يمنة ويسرة بسبب محاولتها الاقتراب من صغيرها لكن حبلها الطويل يقيد حركتها ويمنعها من الاقتراب، فلا تستطيع التقدم. وأعتقد أنها صورة سقيمة لم يغنها ذكر الأمومة عند الفرس ولم يستمد منه الأثر العاطفي الذي اختزنته صور الغزالة الأم أو البقرة الوحشية الأم في الصور السابقة، لأن الشاعر قيّد نفسه بذوق أسلافه وأقرانه وحاول أن يغير أسلوب الصورة قليلاً فسقط في تفصيلات ركيكة منفرة يقول:
إذا ما مشت لم تنتهز وتأَوَّدتْ ... كما انآد من خيل وَجٍ غيرُ مُنْعَلِ
__________
(1) ديوان الفرزدق 279 عالج: مكان الربرب: قطيع البقر. الجؤذر: ولد البقر الوحشي.
(2) ديوان النابغة الشيباني 59 العمري: القديم. المواقر: من الوقر وهو الحمل أي النخيل المثقل بحمله.
(3) ديوان جرير : 834..
(4) ديوان جرير: 990.(1/336)
كما مال فضلُ الحِبلِّ عن متن عائذٍ ... أطافت بمهرٍ في رباط مطوَّلِ(1)
وخرج التشبيه عن هذا الأسلوب اليسير الذي اعتمد على أداة التشبيه إلى أسلوب فني آخر كان أكثر قدرة على الإلمام بتفاصيل الصورة المقصودة إنه"التشبيه التمثيلي" أو"الاستدارة الفنية" التي يتحول فيها الشاعر عن موضوع صورته أو مشبههه إلى المشبه به محاولاً استقصاء جميع مظاهره الجمالية ليعلن بعد ذلك تفوق مشبهه عليه.
وتلقف ذو الرمة هذا الأسلوب وبرع فيه أيضاً، فكان يتناسى صاحبته ويسترسل في تصوير المشبه به حتى يستكمل عناصره الجمالية ويشبع إحساسه التصويري، ثم يعود إليها ويعلن تفوقها على كل التفاصيل التي حاول استقصاءها. يقول:
فما ظبيةٌ ترعى مساقطَ رملةٍ ... كسا الواكفُ الغادي لها ورقاً نضراً
تلاعاً هراقت عند حَوْضَي وقابلتْ ... عن الحبلِ ذي الأدعاصِ آملةً غفْراً
رأت أنساً عند الخلاء فأقبلت ... ولم تُبْد إلا في تصرُّفها ذعرا
بأحسنَ من ميٍّ عشيَّة حاولت ... لتجعل صدعاً في فؤادِكَ أو وَقْرا(2)
فهو يبدأ الصورة برصد هذه الظبية التي ترعى بين الكثبان المنتشرة حولها، ثم يستغرقه وصف المطر الذي أصاب هذه الرمال وأصبح سيلاً غزيراً يصب مثل شلال من أعلى الوادي ثم يعود إلى الظبية التي نفرت من رؤية إنسان عند خلوتها لكنها لم تذعر بحمق وغباء، وإنما كان نفارها رزيناً هادئاً، وبعد هذه الاستعراض والاستقصاء يعود إلى مية فيراها أحسن من هذه الظبية بكل محاسنها السابقة.
__________
(1) المصدر السابق: 945.
(2) ديوان ذي الرمة 1414 مساقط الرملة: منقطعها. الواكف: المطر. تلاعاً هراقت: أي كان مصبها عند حوض التلعة: مصب من مكان مشرف على الوادي. الحبل من الرمل: ما طال منه. آملة: رملة عرضها حدر نصف ميل. عفرا: بيض تضرب إلى الحمرة.. رأت أنساً أي هذه الظبية رأت إنساناً عند خلوتها فلم تذعر إلا في جولانها؛ الوقر: الهرم في العظم.(1/337)
ويكرر صيغته هذه ويقرن إلى الظبية الأم التي تراعي وليدها منفردة بين الكثبان مشبهاً آخر، إنه الشمس في يوم صحو وصفاء تتراءى بين غيوم صيفية رطبة، ثم يعلن أن هذا المشهد الخلاب الذي يضم الشمس والظبية ليس أحسن من خرقاء عندما تكون مزينة مبتهجة في يوم عيد يقول:
فما الشمسُ يومَ الدَّجن والسعدُ جارُها ... بدتْ بين أعناق الغَمام الصوائف
ولا مُخْرِفٌ فَرْدٌ بأعلى صريمةٍ ... تصدّى لأحوى مدمعِ العينِ عاطفِ
بأحسنَ من خرقاءَ لما تعرَّضتْ ... لنا يومَ عيدٍ للخرائدِ شائف(1)
ويستطرد القطامي في استدارة فنية يعقد فيها مقارنة بين روضة غناء مزهرة اسقيت ماء المطر الخفيف فأدى إلى انتشار أطيب الروائح وبين صاحبته وطيبها بعد انصرام الليل يقول فيها :
وماريح روضٍ ذي أقاح وحنوة ... وذي نَفَلٍ من قلة الحزن عازِبِ
سقَتْه سماءٌ ذاتُ طلٍّ فنقّعَتْ ... نِطافاً ولمّا يأتِ سيلُ المذانب
بأطيب من ليلى إذا ما تمايلَتْ ... من الليل وسنى جانباً بعد جانب(2)
وكان نَفَس الأحوص قصيراً في هذه الاستدارة التي يعقد فيها الشبه بين بيضة النعامة التي يعتني بها الذكر ويؤمن لها الدفء والرعاية، وبين صاحبته التي تطلب منه بتكسر ودلال تركها وشأنها يقول:
فما بيضةٌ بَاتَ الظليمُ يُحفُّها ... ويجعلها بين الجناح وحَوْصَلِهْ
بأحسنَ منها يوم قالت تدلُلاً ... تبدَّل خليلي إنني متبدِّلهْ(3)
__________
(1) المصدر السابق : 1626 السعد: يريد يوم الصحو وصفاء الجو. المخرف: الظبية تلد في الخريف. الصريمة: الرملة. عيد شائف: أي يجلو الخرائد من شاف الشيء إذا جلاه.
(2) ديوان القطامي: 44. الحنوة نبات سهلي طيب الرائحة. المذانب: المسايل.
(3) ديوان الأحوص: 176 الظليم ذكر النعام. الحوصلة من الطائر بمنزلة المعدة من الإنسان.(1/338)
ويعجب كثّير بهذا الأسلوب الفني ويستخدمه أكثر من مرة في تصويره لعزة واحتفائه بالطبيعة يظهر في صورة الروضة التي مرت في موضع سابق، أو في هذه الاستدارة التي يفاضل فيها بين ظبية أم ترعى مع وليدها في مكان وافر الغذاء ويظهر جمال شكلها ورشاقتها وطولها، وبين عزة التي تتفوق عليها في إقبالها وفي إدبارها فإنما تشبه مهاة تطلب الظل في أحد المواضع يقول:
وما أُمُّ خشفٍ ترعَّى به ... أراكاً عميماً ودَوْحاً ظليلا
وإنّ هِيَ قامت فما أثلةٌ ... بعليا تُناوحُ ريحاً أصيلا
بأحسنَ منها وإن أدبرتْ ... فإرخٌ بِجبّةَ تقرو خميلا(1)
ويدور المجنون في دائرة هذا التشبيه التمثيلي فيفاضل بين ليلى وبين الظبية الأم التي تراقب وليدها وهو يبحث عن الطعام والماء فتتفوق عليها وعلى البقرة الوحشية التي تضم قطيعها إليها.
فما مغزلٌ أدماءَ باتَ غزالُها ... بأسفلِ نهْي ذي عرارِ وحَلَّبِ
بأحسنَ من ليلى ولا أمُّ فرقدٍ ... غضيضةُ طرفٍ رعيُها وَسْطَ ربرب(2)
ولا يكاد يختلف تصور الوليد بن يزيد لريق محبوبته عما تصوره جميع الشعراء، مع ما عرفته نشأة الوليد من الرفاهية والرقي والنعيم وأساليب العيش الطري، وما مرّ عليه من أنواع المتعة وفنونها، فإننا نراه منكمشاً أمام صور أقرانه وأسلافه، فلا يخرج عن قوله إنه يشبه المسك الذي خلط بالزنجبيل والعسل والألبان أو حتى الخمر، بل كل هذه الأطايب لا تضاهي ريق سلمى عندما يرتشفه يقول:
فما مسكٌ يُعلٌّ بزنجبيلٍ ... ولا عَسَلٌ بألبانِ اللّقاحِ
__________
(1) ديوان كثّير: 388 أم خشف: ظبية. الخشف: ولدها. العميم: الطويل. الأثل: عضاه طوال شبهت بها المرأة لطولها واستوائها. تناوح: تقابل. الإرخ: الفتي من بقر الوحش جبة: موضع. تقرو: تتبع.
(2) ديوان المجنون: 79 المغزل: أم الغزال. الإدماء التي أشرب لونها بياضاً. النهي: الغدير. العرار: نبت طيب الحلب نبت تأكله الظباء. الفرقد: ولد البقرة. الربرب: قطيع البقر الوحشي(1/339)
بأشهى من مُجاجةِ ريقِ سلمى ... ولا ما في الزِقاقِ من القَراحِ(1)
ومن أنماط الصورة الأخرى، القصة أو الحدث القصصي: الذي انتشر في الشعر الحجازي الحضري، وقد اعتمد عمر بن أبي ربيعة في تصويره للمرأة على هذا الأسلوب القصصي أكثر من أساليب الصورة البلاغية الأخرى وتضافرت أدوات القصة لديه من حوار ومكان وزمان وأشخاص وحركة نفسية له وللمرأة والرفاق، وتضافرت هذه الأدوات مجتمعة لتجسم صورته بطريقة مختلفة، ففي أغلب قصصه تقوم الأحداث وتطوراتها مقام الصور التقليدية السائدة فهو يعتمد في تصويره على رصد الحدث والحركة وتصوير الأمكنة التي تقع أحداثه عليها وتحديد الزمان الذي يزيد من قدرة الإيحاء في صورته الذهنية، ويضيف إلى ذلك تصوير النفس البشرية لدى الأنثى بشكل خاص وكانت طريقة عمر هذه تسير بالشعر الأموي خطوة كبيرة بطريق التطور في أسلوب الصياغة الفنية، على أن الشعر الجاهلي قد عرف هذا الأسلوب القصصي على يد امرئ القيس والأعشى خاصة لكنه لم يكن نهجاً ثابتاً في كل القصائد كما كان في معظم قصائد عمر بن أبي ربيعة وبقية شعراء الحجاز. ومن هذا الأسلوب الفني في التصوير قوله:
فلما تقضّى الليلُ إلا أقلَّه ... وكادتْ توالي نَجْمِه تتغوَّرُ
أشارتْ بأنّ الحيَّ قد حانَ منهُم ... هُبوبٌ ولكنْ موعِدٌ منكَ عزورُ
فما راعَني إلا مُنَادٍ: تَرَحَّلوا ... وقد لاحَ معروفٌ من الصبح أشقرُ
فلما رأتْ مَنْ قد تَنبَّه منهمُ ... وأيقاظُهم قالت: أشرْ كيفَ تأمرُ
فقلتُ أباديهم فإمّا فأوتُهمْ ... وإمّا ينالُ السيفُ ثأراً فيثأرُ
__________
(1) ديوان الوليد بن يزيد: 30..(1/340)
فالشاعر يحدد إطار هذه القصة الزماني، إنه الليل، وليل عمر في هذه القصة يكاد أن ينصرم، وقد حان هبوب الصباح على الطبيعة، ثم يترصد الزمن بدقائقه ويمتد به فتشعر معه بمضي الوقت بسرعة وتغير الزمن بين حالة وحالة وما يعكسه على الإنسان من نشاط أو خمول في أوقاته المختلفة، إنها صورة تختزن الحركة وانقلاب الزمن وتغير حال العشاق وانفعالهم وخوفهم من وضوح الصباح، وتغير حال الناس من حالة النوم إلى العمل والنشاط، إنها جزئيات بسيطة تعمل مجتمعة على تأليف هذه الصورة القصصية في سرد وانسيابية قريبة من الحياة اليومية الواقعية..
ويكرر الشاعر هذه الصورة الذهنية بشيء من التفصيل مع المحافظة على العناصر الأساسية.
من تحديد الزمان والحذر والترقب من الأهل والأعداء واقتناص غفلة الحراس إلى أن يحصل اللقاء. يقول:
فلما أضاءَ الفجرُ عنّا بَدَا لنا ... ذُرا النخل والقصرُ الذي دونَ عزوَرِ
فقلتُ: اعتزلْ ذِلَّ الطريق فإننا ... متى نُرَ تعرِفْنَا العيونُ فنشهرِ
فظِلْنا لدى العَصلاءِ تلفحُنا الصَّبا ... وظلَّت مطايانا بغير مُعصَّرِ
لدنْ غُدوةً حتى تحيِنتُ منهمُ ... رَواحاً ولاَنَ اليومُ للمُتَهجِّرِ
فلما أجزْنَا الميل من بَطْنِ رابغٍ ... بَدَتْ نارُها قمراءَ للمتنوِّرِ
فقلت اقترب من سِربهم تلقَ غفلةً ... من الرَّكب والبَسْ لِبْسَةَ المُتَنكَّرِ
فإنك لا تعيا إليها مبلِّغاً ... وإن تلْقَها دون الرفاقِ فأجدِرِ(1)
__________
(1) ديوان عمر: 106 ذل الطريق: أي تجنب من الطريق ما يسلكه الناس حتى لا يرانا أحد. العصلاء: المرأة اليابسة التي لا لحم عليها. المعصر الملجأ والمنجاة.. تحين: أدرك وقته. الرواح: العودة في العشي. رابغ: اسم مكان. المتنور: الذي يتطلع إلى النار من بعيد. السرب: الجماعة من الظباء والقطا. لا تعيا مبلغاً: يريد لا يعجزك أن تجد من يبلغها انتظارنا.(1/341)
وعن هذا الأسلوب في شعر عمر يقول الدكتور شكري فيصل: "إن أسلوب القص عند عمر طغى عليه وساق شعره هذا المساق السهل المستساغ ووهبه هذه اللغة الشعرية.... إن عمر سما بالعمل الفني في قصيدته من حيث هو بناء أو هيكل جديد سمواً لم يعرفه الشعراء العرب في هذا القص الطويل الغني الذي تملؤه الحركة والحوار، وتتعاقب عليه الشخوص والمشاهد، ويتتابع فيه العرض والعقدة والحل... ولكنه من ناحية أخرى ملأ جوانب هذا الهيكل أو جزئياته بالعمل الفني القريب... لم يُبْعد في صوره ولم يغرق في تشابيهه، بل إنه استغنى عن الصور والتشابيه في كثير من المواقف بهذا القص المستساغ"(1).
ويتابع الدكتور شكري فيصل رأيه بالخيال والصورة في شعر عمر فيقول: "فلم يكن عمر كالذي نعرف من أمر الخيال عند الجاهليين، إن عمر لم يسخره حيث سخروا خيالهم في التشبيه والتصوير وإنما سخره في وجهة أخرى تتمثل في رسم الأطر والتقاط الأحداث أو ابتداعها وفي صياغة ذلك صياغة القصة، فبعض جهد عمر الفني كان منصرفاً إلى التشبيه في أقرب صورة التقاط وجه المقارنة بين الشيئين ثم إقامة هذا التشبيه بينهما، ولكن عمر لا يمتاز بذلك ولا يملك أن يسبق الجاهليين فيه، ولكن عمر إنما تابع هنا هذا المنحى الذي يسير فيه الشعر قبله، ولعله حاول أن ينصرف عن هذه التشابيه القصيرة أو المطولة وأن يدير ظهره لهذه الاستدارات التشبيهية إلا أن يقع ذلك عنده أثراً لاتصاله بالتراث الشعري وصلته به"(2).
__________
(1) تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام: 414.
(2) المرجع السابق: 526/ 527.(1/342)
ومما يثير التساؤل والحيرة في صور عمر-التي تستمد إيحاءها من البيئة العربية- انعدام الإحساس بالثراء والترف والبذخ في هذه المشبهات وذلك فيما يخص الجمال والوصف الحسي، على عكس تصويره لزينة المرأة وحليها التي عرضت لها في فصل سابق واقتصار صوره كما تؤكد الشواهد على الاستمداد من البيئة الصحراوية، وقد يكون ذلك بسبب إحساسه العميق بتقليد أسلافه في هذا الجانب من صوره.
ويرد هذا الأسلوب في شعر العرجي، فينقل قصته بتصوير المكان والزمان والرفاق برصانة أكثر من تصوير عمر الذي يلوي عنق الصورة من أجل استقصاء الحوار بينه وبين صاحبته، فتبدو عناية العرجي بتصوير الحدث أكثر من الحوار، يقول:
وضمَّنتُ حاجاتي إليها رفيقةً ... بها طَبَّةً ميمونةً حين تُرْسَلُ
من البربريات اللواتي وجوهُها ... بكُلِّ فعالٍ صالحٍ تتهلَّلُ
وزيرٌ لها إبليسُ في كلِّ حاجةٍ ... لها عندما تَهْوي له يتمثَّلُ
رآها له نِعْمَ الخدينُ فلم يزلُ ... لحاجاتِها مالم تَحُلْ يتحمَّلُ
فقالتْ: فلا تعجلْ كفيتُك مرحبا ... وللسرِّ عندي فاعلمَنْ ذاك محْملُ
تغشّتْ ثيابَ الليلِ ثم تأطّرتْ ... كما اهتزَّ عِرْقٌ من قناً مُتَذَلّلُ
فجاءت نواراً طالما قد تعلَّلتْ ... من الوحش ما يسطيعُها المُتَحِّيلُ
بدَتْها بقولٍ ليَّنٍ وتمثّلتْ ... من الشعْرِ ما يَرْقى به المتمثِّلُ
فجاءت بها تمشي عِشاءً وسامحت ... كما انقادَ بالحبلِ الجوادُ المُجَلَّلُ
تحذِّرُها في مشيها الأعينَ التي ... بها إنْ رأتها عند ذي الضَّغن تَجْمُلُ
فتسرعُ أحياناً إذا هيَ لم تَخَفْ ... وتخشى عيوناً حولها فَتَميَّلُ(1)
__________
(1) ديوان العرجي 152. الطبة: الحاذقة الماهرة بصناعتها. البربر: أقوام افريقية. تهوي إليه: تقصده المحمل: المستودع الأمين تأطرت: تثنت. القنا: العذق من النخل عرقه: أصله المتذلل: اللين. النوار: المرأة النفور الرقية: السحر المتحيل: الحاذق الفهم. تجمل: تحسن وتتقرب عند أهل الضغن.(1/343)
ففي القصة تصوير بارع لهذه المرأة التي تقوم برأب الصدع بينهما، وعناية بتفاصيل الحدث، من وصف لذكائها وقدرتها على التأثير، فكأنما هي ساحرة حتى انقادت لها انقياد الجواد الموثق بالحبل. وفي التصوير طرافة ومرح إذ يجعلها صديقة الشيطان في مكرها ودهائها، وفي قوله-تغشت ثياب الليل- صورة رائعة توحي بالغموض الشديد، وكذلك قوله: تمثلت بالشعر من أجل مزيد من التأثير في هذه المرأة، وفي الصورة كم واضح من ثقافة هذه المرأة وقدرتها الخارقة على خلخلة بعض ما في نفس صاحبته منه وكان له ما أراد، وكان لصورته أثرها الشاعري الجميل.
الاستعارة:
كان النمط الاستعاري قليل الاستخدام في الشعر الأموي-في الجانب الذي يخص المرأة- قياساً إلى التشبيه، ولكن قد يتوسل الشاعر لصورته بالاستعارة فيتخيل المجنون صورة تمثل العشاق المسهدين وقد فارق النوم عيونهم، فسهروا برفقة الليل يحرسونه ويخافون عليه لأنه ملجأ العشاق وملاذهم الأمين يقول:
رعاةَ الليلِ ما فعلَ الصَّباحُ ... وما فعلَتْ أوائلُهُ المِلاَحُ(1)
ونسجت مخيلة ذي الرمة خيوط الأحاديث التي تتجاذب النساء أطرافها يقول:
صَمْتُ الخلاخيلِ خَوْدٌ ليس يُعجبها ... نَسجُ الأحاديث بين الحيِّ والصَّخَبُ(2)
وجعل ذو الرمة أيامه الماضية مع مية جداول مياه وظلال كَرْمٍ وارفة كان يخوضها معها يقول:
فدعْ ذكر عيشٍ قد مضى ليس راجعاً ... ودنيا كظِلِّ الكَرْمِ كنا نَخُوضُها(3)
إنها أيام مرت ومضت وكأنها جداول مياه ظليلة راح يخوضها مع صاحبته ويتخيل القطامي النساء في الخدور مثل السحاب الذي يرسل برقه فيخطف الأبصار، يقول:
وفي الخدور غماماتٌ برقنَ لنا ... حتى تصيّدنَنْا من كلِّ مصطادِ(4)
3- الصورة بين التقليد والتجديد:
__________
(1) ديوان المجنون: 90.
(2) ديوان ذي الرمة: 35.
(3) المصدر السابق: 706.
(4) ديوان القطامي: 80.(1/344)
كان الشعر الجاهلي معجماً شديد الثراء والخصوبة أمام الشاعر الأموي، يستمد منه كثيراً من أفكاره ومعانيه وصوره لينتزع الاعتراف بالأصالة والنبوغ من نقاد عصره وقرائه ولعلي بيّنتُ في مصادر الصورة ومنابعها الطبيعية التشابه بين شعراء العصر الأموي وشعراء العصر الجاهلي من حيث الاصطفاء من الطبيعة واختيار أجمل موجوداتها وتسجيل الإعجاب بها من خلال ربطها مع صورة المرأة أو ربط صورة المرأة بلوحة الطبيعة الحية المعطاء في صور الأرض المعشبة أو الرياض المزهرة أو الأشجار المثمرة والغيوم الممطرة وإناث الحيوانات المرضعة من غزلان وبقر وحش. أو الشمس في أزهى ألوانها والقمر في اكتماله والجمر في اتقاده والدرة في نقائها والبيضة في عُشها-يضاف إلى هذا بهجة الإحساس بالحياة وعطر الطبيعة بعد الندى. وتشكل هذه العناصر مجتمعة لوحة الخصب في الحياة ورمز التجدد والعطاء"المرأة".
ولم يقتصر تقليد الشاعر الأموي لسلفه الجاهلي على استمداده من موروثه الثقافي وعلى اعتماده على الطبيعة في صوره وأخيلته، بل قلّده أيضاً في النمط الشائع للصورة التي كانت تقوم أساساً على التشبيه، وظل الشعراء يقلبون التشابيه الجاهلية ويستمدون منها حتى وصلت إلى مرحلة فقدت فيها قدراً غير يسير من توهجها وشاعريتها على يد مجموعة من الشعراء.
وقد يبدو تزيداً لا ضرورة له أن أسوق الشواهد على ما نراه من تقليد الشعراء الأمويين لأسلافهم الجاهليين في صورهم. ولعل النظر مرة أخرى إلى منابع الصورة يقطع بسطوة هؤلاء الجاهليين على شعراء العصر الأموي.(1/345)
ولقد أحس بعض الشعراء بوطأة التراث الجاهلي وسطوته على خيال الشاعر الأموي وفكره، وحاولوا أن يخففوا هذه الوطأة كما فعل الشاعر يزيد بن معاوية الذي طور أسلوب الصورة قليلاً وأمده بنسغ جديد استطاع أن يتسلل إلى خياله من حياة الدعة والقصور التي عرفها، فكانت صوره تفيض بروح الظرف والمرح والدعابة، وقد سجل بذلك تطوراً ملحوظاً في أسلوب الصورة السائدة في شعره. ولكنه تطور شخصي، على ما ألاحظ، لم يعمّ تأثيره إلا في العصر اللاحق لعصر الشاعر. فقد ألمّ بصورة البنان المخضب- وهي صورة تقليدية أصبحت من أساسيات معجم الصورة التي تخص المرأة- ولكنه طورها بأسلوب طريف يعتمد على حوارية بسيطة بينه وبين صاحبته يحكي فيها حكاية حب ملمومة الأحداث دافقة المشاعر.
إذ تبين له صاحبته أن اللون الأحمر الذي يلون كفيها وأصابعها لم يكن بفعل الزينة والخضاب، وإنما كان بسبب ما ذرفت من الدم بدل الدموع فأدى إلى تلون كفيها، يقول:
ولما تلاقينا وجدتُ بنانَها ... مُخضَّبةً تحكي عُصارةَ عَنْدَمِ
فقلتُ خضبتِ الكفّ بعدي أهكذا ... يكونُ جزاءُ المُستهامِ المتيّمِ
فقالتْ وألقتْ في الحشا لاعجَ الجوى ... مقالةَ مَنْ بالحبّ لم يتبَّرمِ
بكيتُ دماً يومَ النوى فمنعْتُه ... بكفيَّ فاحمرّت بناني من دم؟(1)
وقدّم لنا في حوارية أخرى بينه وبين صاحبته صورة طريفة يتكئ فيها أيضاً على تشبيه موروث-وهو تشبيه الجمال بالبدر- ولكنه تصرّف بهذه الصورة وأمدّها بنسغ جديد جعلها أكثر حيوية ونضارة بعد أن كادت تجف من كثرة ما تعاورها الشعراء. لقد كشف عن احتجاج صاحبته على تشبيهها بالبدر وعن عدم انتشائها بهذا المدح والثناء السخي حين اعترضت بأن البدر لا يكاد يشبه سوارها أو مبسمها. وفي الصورة على ما أعتقد سخرية الشاعر من التشبيه واحتجاج ضمني على القوالب الجامدة للصورة الشعرية ومحاولة لتجاوز قيده الثقافي الفني بهذا الأسلوب، يقول:
__________
(1) شعر يزيد بن معاوية: 48.(1/346)
وقائلةٍ لي حين شبَّهتُ وجهَها ... ببدرِ الدجى يوماً وقد ضاق منهجي
تُشبِّهني بالبدرِ هذا تناقصٌ ... بقدري ولكنْ لستُ أوَّلَ من هُجي
ألم تَرَ أَنَّ البدرَ عند كمالِهِ ... إذا بلغ التشبيه عادَ كدمْلُجي
فلا فخرَ إن شَبَّهْتَ بالبدرِ مبسمي ... وبالسحرِ أجفاني وبالليل مدعجي(1)
وأوشك أن أجزم أن شعوراً خاصاً كان ينتظم صور هذا الشاعر فيه جدة وطرافة وغرابة وفيه احتجاج واعتراض على قوالب الصورة التي جمدت عند. مواصفات معينة، فهو يحاول الانحراف بها عمّا تدلّ عليه، فيرفض أن ينظر إلى صاحبته بعين قد رأت امرأة غيرها، قبل أن يؤدي شعيرة التطهر، وكذلك يحاول أن يطهر حواسه التي رأت أو سمعت ما صدر عن أعضائه بشكل عفوي، إنه يريد من حواسه التفتح على عالم عذري آخر يكون أول من يفوز بلذاته، وأعتقد أن الأبيات تكشف برفق عن إحساس الشاعر بوطأة القالب الفني الذي جعل لوحة المرأة لوحة باهتة فقدت إثارتها وبريقها يقول:
وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها ... سواها وما طهّرتَها بالمدفع
وتلتذُّ منها بالحديثِ وقد جرى ... حديثُ سواها في خروق المسامع(2)
ويفارق القطامي في إحدى صوره عادة اجتماعية غنية الدلالة في المجتمع العربي، إذ يظهر إعجابه بامرأة لا تكثر من الإنجاب خوفاً على جمالها وصحة جسدها من الترهل، مع أن الثقافة العربية كثيرة الاعتزاز بالمرأة المنجبة وذلك بسبب حاجتهم الدائمة إلى التوالد من أجل الحصول على القوة في حالة الدفاع عن الأرض أو في حالة الهجوم على مناطق جديدة، ويقدم صورته بالشكل التقليدي، لكنه يختمها بوصف نادر فيما يخص المرأة، يقول:
بيضاء محطوطة المتنين بهنكة ... ريا الروادف لم تُمْغِل بأولادِ(3)
__________
(1) المصدر السابق: 52.
(2) شعر يزيد بن معاوية: 20
(3) ديوان القطامي: 79 امرأة بهنكة: غضة. الممغل من النساء التي تلد كل سنة وتحمل قبل فطام الصبي.(1/347)
وضمن هذا الإطار المعتمد على الصياغة الموروثة للصورة، قول يزيد بن الطثرية، يذكر البرق والمطر ويربط بينه وبين المرأة، لكنه يجدد الصورة من خلال العلاقة الجديدة التي يقيمها بين البرق وبين عيني صاحبته والسحر الذي يشعّ منهما مع أن الشعراء قبله درجوا على تشبيه بريق الأسنان والابتسامة بلمعان البرق، فيؤكد أن أثر البريق الذي يشع من عينيها كأثر المطر الذي يعقب البرق فيمد الطبيعة بالمروج والرياض المزهرة فيمتزج إحساسه بالجمال ويغتبط به كما تغتبط الطبيعة بعد المطر، يقول:
ولمع بعينيها كأنَّ وميضَهُ ... وميضُ الحَيا تهدى لنجدٍ شقائقه(1)
وقد يكون التجديد بالإكثار من ذكر الأماكن المقدسة التي تتواجد فيها المرأة لتمارس شعائر دينها وتعاليمه، كاستخدام عمر للأراضي المقدسة في الكثير من صوره، كأن يقول:
رأيتُ بجنب الخَيْفِ هِنْداً فراقَني ... لها جيدُ ريمٍ زيّنَتْه الصرائمُ
وذو أشرٍ عَذْبٌ كأن نباتَه ... جَنى أُقحُوانٍ نبتهُ متناعمُ
نظرتُ إليها بالمحصَّبِ منْ منىً ... ولي نظرٌ لولا التحرُّجُ عارمُ(2)
__________
(1) شعر يزيد بن الطثرية: 91.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 207 الخيف: وادي منى. الصرائم: ج صريمة وهي قطعة ضخمة من الرمال تنقطع عن بقية الرمال. الأشر: تخريز الأسنان. عارم: خارج عن القصد.(1/348)
واهتمام عمر بن أبي ربيعة بالأطر المكانية لأحداث قصائده ظاهرة واضحة وإضافة مهمة كما يرى الدكتور شكري فيصل، يقول: "كذلك تبدو قدرة عمر في العمل الفني على أن يعرض شعره في هذه الأطر والمشاهد... وإذا كان التشبيه والوصف ملاك العمل الفني في الشعر الجاهلي، فقد انصرف عمر عن ذلك، ولم يرد أن يجعل من موهبة الشاعر سبيلا إلى أن يتحدث عن أشياء بعينها تحدثاً مباشراً. إنه قد يتحدث عن البرق في إطار من حديثه عن واقع ما، وقد يصف الأطلال في مشهد من حادثة أو في تمهيد لها ولكنه لا يمكن أن يصف هذا البرق وصفاً مباشراً. ومن هنا كان فرق ما بينه وبين الشعراء الذين سبقوه وعاصروه"(1).
وقد جدّد الشعراء العذريون في أسلوب الشعر عن طريق صياغتهم الخاصة لبعض الألفاظ ومفارقتهم لنهج الصورة الموروث غالباً"فلم تكن البراعة الفنية عند جميل وعند أمثاله من الشعراء العذريين في أساليبهم البيانية، وإنما كانت قبل كل شيء وأكثر من كل شيء في تعرفهم لسرائر النفوس وعرضهم لها عرضاً يسيراً"(2)..
وكان الدكتور عبد القادر القط قد أسهب في تتبع هذه الظاهرة في الشعر العذري وتوصل إلى أن"هؤلاء الشعراء يبثون في ألفاظهم من الحرارة واللوعة ما يجعلها تبدو كأنها"صياغة" جديدة غير معهودة في الشعر القديم. ذلك لأن الشاعر لا يتحرج من أن يكشف عن كل ما يعتلج في باطنه من حرقة أو يثقلها من يأس وهكذا تتخذ صيغ"الندبة" و"النداء" في شعرهم وضعاً جديداً وتكتسب"القلوب والأكباد" قدرات جديدة على الرمز والإيحاء"(3).
- فواحسرتا إِنْ حِيلَ بيني وبينها ... وياحَيْنَ نفسي كيف فيكِ تحين
- فياحسرتا ما أشبهَ اليأسَ بالغنى ... وإن لم يكونا عندنا بسواءِ
- فويلي من العذّالِ ما يتركونني ... بغميّ أما في العاذلينَ لبيبُ؟
- فواكبدا من حبّ مَنْ لا يحبني ... ومن زفراتٍ ما لهنَّ فناء
__________
(1) تطور الغزل: 531.
(2) المرجع السابق: 328.
(3) في الشعر الإسلامي والأموي: 145.(1/349)
- ألا أيها القلب اللجوج المعذَّلُ ... أفقْ عن طِلابِ البيضِ إن كنتَ تعقِلُ
أفق قد أفاق العاشقون من الهوى ... وأنت بليلي هائمُ القلبِ مُقْبل
- ولي كبد مقروحةٌ من يبيعُني ... بها كبداً ليستْ بذات قُروحِ
أئنُّ من الشوقِ الذي في جوانحي ... أَنينَ غصيصٍ بالشرابِ جريحِ
ويتابع الدكتور عبد القادر ملاحظاته فيقول: "يحاول الشاعر بتكرار تلك الألفاظ أن يخلق منها صورة بيانية تجسم الإحساس وتبرزه مستعيضاً بها عن المجازات والتشبيهات، وقد يكون التكرار"بسيطاً" لا يقصد به إلا تأكيد الانفعال أو الاستمتاع بترديد اسم حبيب أو مكان أو ذكرى، وقد يصاحبه شيء من"الصنعة" البيانية اليسيرة التي أصبحت من سمات الشعر العربي المعروفة، فيذكر الشاعر في موضع من البيت لفظاً ما يعد تمهيداً للقافية التي يمكن أن تكون كاللفظ نفسه أو أحد مشتقاته أو صوره اللغوية..
وقد يتخذ التكرار مظهر"الصيغة" الشعرية الجديدة عند هؤلاء الشعراء عن طريق تكرار أدوات النداء أو التعجب أو التمني في أكثر من بيت"(1).
ومن أمثلة تكرار الصيغة الشعرية التي تعكس الحركة النفسية الداخلية لدى الشاعر والتي يؤكد الإحساس بامتداد الحب على مدى الزمن قول المجنون:(2)
أيا حب ليلى داخلاً متولجاً ... شعوبَ الحشا هذا عليّ شديدُ
ويا حب ليلى عافِني قد قتلتني ... وكيف تعافيني وأنت تزيد
ويا حب ليلى أعطني الحكم واحتكم ... عليَّ فما تُبغَى عليّ شهود.
ومن صيغ التمني قول جميل:
فياليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... كليلتنا حتى نرى ساطع الفجر
فياليت ربي قد قضى ذلك مرةً ... فيعلم ربي عند ذلك ما شكري
__________
(1) المرجع السابق: 146
(2) المرجع السابق 156.(1/350)
ولكن هذه الضروب من التجديد الشعري ليست كل ما أضافه العذريون إلى الشعر، ولا هي موصولة بهذا المبحث إلا بسبب ضعيف. ولذا فإنني سأعود بالحديث إلى سياقه، فأنا أظن أن هؤلاء الشعراء-على قلة اهتمامهم بالصورة- قد اهتدوا بحسهم الصادق العميق إلى كثير من الصور الفنية المبتكرة النابضة بالمشاعر والأحاسيس على نحو ما نرى في هذه الصورة النفسية البديعة التي يصور فيها إحساسه بالسعادة والغبطة إثر لقائه بليلى فيحس أن راحة يده أصبحت كالأرض الخصبة المعطاء قد أمدتها الطبيعة بالماء والرطوبة من أجل مواسم الخصب والنماء فنبت في أطرافها الورق الأخضر، يقول:
تكادُ يدي تندى إذا ما لمسْتها ... وينبتُ في أطرافها الوَرَقُ الخُضْرُ(1)
إنه يتجاوز وجوده الحسي ويهيم في عالم الحب والمشاعر فيتحول بقدرة سحرية خاصة استمدها من لمسة حبيبته إلى عالم من البهجة والإشراق والاخضرار.
ويهتدي بحسه المرهف إلى صورة نفسية أخرى تجتمع فيها المتاقضات من البراءة والقسوة ولهو الحياة الغافل وصرامة الموت القاسية، فهو يصور عبثها به وقلة اهتمامها فيراها كطفلٍ بريء يلعب بعصفورة مزمومة توشك أن تموت مما هي فيه، وليس يستطيع هذا الطفل بسبب شغفه بهذه اللعبة أن يتأنّى أو يعطف على هذه العصفورة الضعيفة ولا هي تستطيع أن تنقذ نفسها فتفرّ من يده، ويسقط الشاعر مشاعره الخاصة على هذه العصفورة ويجعل منها معادلاً له. يقول:
كعصفورةٍ في كَفِّ طفلٍ يزمُّها ... تذوقُ حياضَ الموتِ والطفلُ يلعبُ
فلا الطفلُ ذو عقلٍ يرقُّ لما بها ... ولا الطيرُ ذو ريشٍ يطيرُ فيذهب(2)
__________
(1) ديوان المجنون: 130.
(2) ديوان المجنون: 44 يذمها: يربطها.(1/351)
كما يعمد في تصويره إلى إشراك عناصر الطبيعة الحية في معاناته النفسية ويجعل من بعض الطيور مَعادِلَ لشخصه يسقط عليها مشاعره ويقيم معها علاقات يفرغ فيها تساؤلاته وقلقه النفسي لعلّه يجد مخرجاً مما يعاني، فتارة يجعل سرب القطا رفيقاً له يبثه أوجاعه وشكواه، ويستعين به على ما هو فيه، فإذا هو يجد عند هذه القطوات كل ما يحلم به من التواصل والتفاهم والمساعدة، يقول:
أسربَ القطا هل من معيرٍ جناحَهُ ... لعليّ إلى من قد هويتُ أطيرُ
فجاوبنني من فوقِ غصنِ أراكةٍ ... أّلاّ كلُّنا يا مستعيرُ مُعيرُ
وأيُّ قطاةٍ لم تُعِرْك جناحَها ... فعاشتْ بضُرٍّ والجناحُ كسيرُ(1)
وتارة أخرى يجري محادثة باكية مع بعض حمامات كان قد سمع هديلهن الحزين فأصغى إليهن بشغف لما أثاره صوتهن في نفسه من مواجع وأشواق، ورأى أنهن مثله يضنيهن الدهر بمصائبه، يقول:
دعاني الهوى والشوق لما ترنّمت ... هتوف الضحى بين الغصون طروبُ
تُجاوبُ وُرْقاً قد أصْخنَ لصوتِها ... فكُلٌ لِكُلٍّ مُسْعدٌ ومجيبُ
فقلتُ حمامَ الأيكِ مالكَ باكياً ... أفارقَتَ إلفاً أم جفاكَ حبيب
فقال رماني الدهرُ منه بقوسِهِ ... وأعرض إلفي فالفؤادُ يذوب(2)
ويهتدي قيس بن ذريح إلى ابتكار بعض الصور النفسية الغنية بدلالاتها الاجتماعية والرمزية بأسلوب بسيط قريب مباشر كما في قوله يشبه شدة حبه للبنى وثباته على هذا الحب بثبوت الأصابع في راحة اليد:
وقد نشأت في القلب منكم مودةٌ ... كما نشأت في الراحتين الأصابع(3)
وفي قوله:
كأنّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغدى ... بليلى العامرّية أو يُراحُ
قطاةٌ عزَّها شرَكٌ فباتَتْ ... تجاذِبُهُ وقد علقَ الجناحُ(4)
__________
(1) المصدر السابق: 137.
(2) المصدر السابق: 58.
(3) ديوان قيس بن ذريح: 107
(4) المصدر السابق: 73 عزها: منعها(1/352)
تصوير نفسي يستمد إيحاءه من عالم الطير الضعيف وعالم القلق والخوف والاضطراب، فقلبه من شدة خفقانه واضطرابه عندما سمع بمغادرة صاحبته كأنه هذا الطائر الضعيف الذي وقع في الشرك، فهو يحاول جاهداً-دون جدوى- التخلص وإنقاذ نفسه من هذا الشرك.
ويصور تعلقه بها كأنه تعلق بالحياة ذاتها، فيربط بين حاجته لها وحاجة الرضيع إلى ثدي أمه يقول:
فإن ذكرت لبنى هششتُ لذكرها ... كما هشَّ للثدي الدرورِ وليدُ(1)
ويستعين جميل بصورة اجتماعية ونفسية يصور فيها انكسار الفقراء وأمانيهم وأحلامهم، ويقابلها بصورة الغني صاحب المال والثراء، ويربط هذا التصور النفسي الاجتماعي بمشاعره نحو بثينة ووعودها بتسديد ديونه، ولكنها وعود تذروها الرياح، أو هي-على حد تصويره البديع- كبرق سحابة تخلف آملها وراجيها. يقول:
إني إليك بما وعدتِ لناظرٌ ... نظرَ الفقير إلى الغنيِّ المُكثِر
يَعِدُ الديونَ وليس يُنْجزُ موعداً ... هذا الغريمُ لنا وليس بمُعسِر
ما أنتِ والوعدَ الذي تعدينَني ... إلا كبرقِ سحابةٍ لم تُمْطِر(2)
ويستخدم جميل كغيره من الشعراء العذريين صورة الماء والعطش التي تحمل دلالة رمزية تنم على العلاقات الاجتماعية في بيئة البادية وتمتد هذه الدلالة الرمزية فتشمل الحالة النفسية للشاعر التي تعبر عن حاجته إلى هذه الحبيبة التي غدت رمزاً للحياة كلها، وهل يرمز شيء إلى الحياة أكثر مما يرمز الماء؟ يقول:
وما صادياتٌ حُمْنَ يوماً وليلةً ... على الماء يَخْشَيْنَ العِصيَّ حَواني
لواغب لا يصدُرنَ عنه لوجهةٍ ... ولا هنَّ من بَرْدِ الحِياضِ دواني
يَريْنَ حَبابَ الماءِ والموتُ دونه ... فهنَّ لأصواتِ السقاةِ رَواني
__________
(1) المصدر السابق: 80 هش: نشط وارتاح. الدرور: الغزير اللبن
(2) ديوان جميل: 109(1/353)
بأكثرَ مني غُلّةً وصبابةً ... إليك ولكنّ العدوَّ عراني(1)
ولا يكاد كثيّر عزة يختلف عن جميل في التعبير عن قيظه النفسي وإحساسه بالجفاف، فهو مثله يلجأ إلى صورة العطش والخوف والموت والماء لعلّها بعناصرها المختلفة تكفل له التعبير عن واقعه النفسي:
إنّي وإياكِ كالصادي رأى نهلاً ... وعندَه هوَّةٌ يخشَى بها التَّلفا
رأى بعينيهِ ماءً عزَّ مورِدُهُ ... وليسَ يملكُ دونَ الماءِ مُنْصَرفا
ويضطر الشاعر كثّير إلى أمنيات غريبة تصور نفسه الباطنة وما يموج بخاطره من وطأة المجتمع وظلمه فيبتكر صورة نفسية واجتماعية وبيئية شديدة الخصوبة والثراء، فيتمنى أن يكون هو وصاحبته بعيرين أجربين لرجل غني يرعيان القفر بعيداً عن الناس، ويمتد بالصورة، ويملؤها بمشاعر قاتمة كئيبة كمرارة العطش والجرب وعدوى المرض والضرب والقذف بالحجارة، يقول:
ألا ليتنا ياعزَّ كنّا لذي غنىً ... بعيرينِ نرعى في الخلاءِ ونعزُبُ
كِلانا به عَرٌّ فَمَنْ يرَنَا يقُل ... على حسِنها جرباءُ تُعدي وأجربُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أهلُه ... علينا فما ننفكُّ نُرمى ونُضرب(2)
وتتلاحق الأمانيّ البائسة في شعر المجنون في صور غريبة متلاحقة كلها ناطقة بالنفور من المجتمع وعدم القدرة على التكيف معه أو على مواجهته بالخصومة، وكلّها صور قريبة من الذهن والقلب، ولكنها جميعاً صور مبتكرة لا عهد للشعر العربي بها من قبل، يقول:
ألا ليتنا كنا بعيرين نرتعي ... رياضاً من الحَوْذَانِ في بلَدٍ قَفْرِ
ألا ليتنا كنا حَمَامَيْ مفازَةٍ ... نطيرُ ونأْوي بالعَشيِّ إلى وكر
__________
(1) ديوان جميل: 205 حواني منقطعة على الماء رغبة بالشرب منه اللواغب: ج لاغبة وهي الضعيفة الرواني التي تديم النظر في سكون. الغلة: شدة العطش. عراني: ألم بي.
(2) ديوان كثير: 161 نعزب: نبعد في المرعى عن الحي. العر: الجرب(1/354)
ألا ليتنا حُوتَانِ في البَحْر نَرْتمي ... إذا نحنُ أمسَيْنَا نُلَجِّجُ في البَحْرِ(1)
وما أكثر ما اهتدى هؤلاء العذريون إلى هذه الصور الجديدة البسيطة الفيّاضة الدلالة والثرّية الإيحاء للتعبير عما في نفوسهم على نحو ما نرى في قول المجنون وهو يصور تسرّب الآمال من اليد:
فأصبحتُ من ليلى الغداة كقابضٍ ... على الماءِ خانَتْه فروجُ الأصابعِ(2)
أو في قوله:
فأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ ... مع الصبحِ في أعقاب نجمٍ مغرّب(3)
وحقاً لم يكن هؤلاء العذريون ذوي طاقات شعرية ضخمة كالشعراء الفحول، ولكنهم استطاعوا أن يجّددوا في الشعر العربي أكثر مما استطاع أولئك الفحول الذين أرهقتهم معايير النقد السائدة في عصرهم والمتمثلة في فكرة"مضاهاة القدماء".
وأخلص من هذا كله إلى القول: لقد أسرف الشعراء الأمويون في تصوير المرأة، وكانت صورهم تتأرجح بين التقليد والتجديد، ولكن علينا أن نتذكّر أن هذا التقليد كان يحاول الانتفاع بالموروث والإضافة إليه في كثير من الأحيان، وأن هذا التجديد لم يكن تجديداً مطلقاً بل كان يكثر من الالتفات إلى الكنوز الجاهلية ويقترض منها ويعيد صياغتها، وكان أحياناً يشق له دروباً جديدة لا عهد للشعر بها من قبل، وأغلب الظن أن هذه المزاوجة بين القديم والجديد لم تكن سمة خاصة بالصورة الشعرية، بل كانت سمة عامة تطبع الشعر الأموي كله في معانيه وأساليبه وصوره.
الخاتمة
__________
(1) ديوان المجنون: 164.
(2) المصدر السابق: 197.
(3) المصدر السابق: 79.(1/355)
حاولت في هذا البحث الكشف عن موقع المرأة في المجتمع العربي زمن الأمويين، كما ظهرت في شعر شعرائه، فرأيتها في الفصل الأول من هذا البحث أماً ترعى أبناءها وتسهر على تنشئتهم وإعدادهم للحياة إعداداً طيباً يبعث الفخر والاعتزاز بالنفس، ورأيتها مادة شعرية في أيدي شعراء المديح ولا سيما أمهات الخلفاء ورجال السياسة، وكذلك كانت في أيدي الهجائين، ولم تحل هيبة الأمراء والحكام دون ذلك، إذ مضى بعض الشعراء يتعرضون لأمهات هؤلاء الحكام ويتغزلون بهن.
ثم رأيتها زوجاً أثيرة لدى زوجها تدبر شؤون بيته وتحاوره في شؤون حياته ورزقه، على ما قد يكون في هذا الحوار من المخالفة والشجار وهي-في أحوالها كلها- تحبه وتحرص عليه، يرمضها الشوق إذا ابتعد ويزهيها الحب إذا حضر، تستمع إليه وهو يستعرض مفاخره ومناقبه أمامها فتكون خير مرآة يرى صورته فيها، وبينتُ مكانتها وبعض حقوقها فكانت ترفض بعض عقود الزواج التي لا ترى نفسها فيها، كما أشرت إلى أهمية التكافؤ بين الزوجين من حيث مكانة الأسرة الاجتماعية ونسبها وجاهها وحالتها الاقتصادية وسمعتها.
وبالإضافة إلى التكافؤ كانت قضية المهر تُعلي من صيت بعض الزوجات وتدلّ على مكانتهن ونسبهن، وبيّنْتُ أن المهور المرتفعة كانت مشكلة لا يجد كثير من الناس سبيلاً لحلها. ونظرت في العلاقة بين الزوجين فرأيت الطلاق ربما يفرق بينهما ولكن الزوج قد يبقي في قلبه حب ومودة لزوجته فيندم على فراقها ويستمر في تذكر أيامه معها ويتمنى لو تعود الأيام بينهما.
وتحدثت عن موقف المرأة من الشيب وموقف الرجل من المرأة المسنة وكشفت في هذا الحديث عن المفارقة العجيبة التي يلتزمها الرجال تجاه النساء المسنات ودفاعهم عن أنفسهم أمام النساء الشابات.(1/356)
وكشفت عن قضية الجواري ومشكلاتهن مع الشعراء وبينت موقف الزوجة التي تستبد بها الغيرة حين ترى الجواري ينازعنها زوجها فلا تزداد إلا ارتباطاً به وحرصاً عليه، وسجلت التناقض الظاهر في موقف الشعراء الخجول من الجواري وموقف الخلفاء المستميت في الحصول عليهن والحظوة بهن.
وكشفت عن موقف الشاعر الزوج عندما تغادر المرأة بيت الزوجية منقلبة إلى بارئها، فأحسست مفارقة غريبة وقاسية، وأنا أتأمل رحيل رفيقة الشاعر فلا يملك رفيقها إلا أن يزم شفتيه ويمضي كأن أمراً لم يقع.
وبعد أن تتبعت المرأة الأم والمرأة الزوج في لوحة الشعر الأموي، رأيتها أيضاً طفلاً يدرج في كنف والديه ثم جويرية في أول الصبا تملؤها الأحلام، وتزدهيها الأماني، ويطير بها الحب إلى عوالم سحرية ملونة، فتشكو ما هي فيه من رقابة وحصار، وتطمح إلى أن تتخفف من كل قيد وتتحرر من كل وصاية وهي في ذلك كله ريحانة قلب والدها وأمها وموطن شرف أهلها.(1/357)
كان هذا موقع المرأة على صعيد الأسرة، أما موقعها في القبيلة وهو موضوع الفصل الثاني من الباب الأول فتميز بكونها وقوداً للعصبية بين القبائل، استخدمت عن طريق الزواج لأغراض سياسية أهمها ربط القبائل بعضها ببعض واستخدمت مادة شعرية ثرة للفخر القبلي أو الهجاء القبلي كما كانت منبر صراع وتزاحم بين البطون داخل القبيلة، فكانت رمزاً لشرف القبيلة وشرف الرجل. وكان ذكرها مدحاً للقبيلة وإعلاناً عن عزها وسطوتها ونفاسة نسائها من أجل التطلع إلى المصاهرة وكسب الدعم والقوة، كما كانت دليلاً على الأنفة والكبرياء والمقدرة على حماية النساء وصون أعراضهن من مذلة السبي ومهانة الخطف، فكان بعض الغزل دعاية لنساء القبيلة وضرباً من الالتزام الاجتماعي الأخلاقي بمبادئ القبيلة، فقد كانت القبائل العربية تفخر بنعمة نسائها وترفهن. كما تحولت المرأة في أشعار الهجاء إلى معادل للقبيلة، فعزّة القبيلة من عزة المرأة وهوان هذه من هوان تلك، يلصقون بالمرأة والقبيلة أبشع الصفات الأخلاقية والجسدية، كما استخدمت سلاحاً ماضياً في تمزيق القبيلة ولا سيما القبيلة الضعيفة المهزومة، فكانت المرأة رمزاً للقوة والمنعة كما هي رمز للانهيار والضياع، ففي تركها للسبي ذل أي ذل ومهانة وضعف وخور وفي حمايتها والذود عنها عز وشمم وإباء. كما كانت رمزاً قتالياً يثير حمية المتحاربين ويختزن بعض تاريخ القبيلة الثقافي والاجتماعي من قيم وعلاقات. هذه هي المعاني التي شاعت شيوعاً كبيراً في شعر شعراء العراق أي(المدح بحماية النساء والهجاء بتعريضهن للسبي) في حين اقتصر شعر المدن الحجازية على الدعاية والإعلان عن نعمة النساء وترفهن.(1/358)
وعلى صعيد المجتمع الأموي-وهو موضوع الفصل الثالث من الباب الأول- وازنت بين مكانة المرأة في المدن الحجازية، ومكانتها في البادية، واستطعت التمييز بين طبقتين من النساء في المجتمع الراقي، طبقة المغنيات، وكن من الموالي، وبينت المكانة التي ظفرن بها في هذا المجتمع لدى الخلفاء والفقهاء وأبناء الأسر، وانحدار هذه المكانة لدى الشعراء. ثم طبقة النساء الثريات اللواتي انحدرن من الأسر العريقة وعلى رأس هذه الطبقة أميرات البيت الأموي الحاكم، ويصور الشعر نساء هذه الطبقة بما توافر لهن من أسباب الترف والإحساس العارم بالكمال والمتعة، فإذا هن يبحثن عن أسباب أكثر إثارة للحرية الاجتماعية، ويتنافسن في إظهار نعيمهن الاجتماعي وتحررهن بين أيدي الشعراء أو في مواسم الحج.
وكشفت عن وضع المرأة في المجتمع البدوي الذي كان شديد المنعة، فلم تظفر بما ظفرت به أختها الحضرية من التحرر الاجتماعي، ولم تسمح لها البيئة بعاداتها وتقاليدها بالتفكير مفردة أو التحرك خارج نطاق أسرتها، وقد تزوجن جميعهن خارج تجربة العشق التي أدت إلى اشتهارهن فكان قيد الزواج أكثر صلابة وغلظة من قيد المجتمع وعاداته.
وقادني تتبع صورة المرأة في الشعر إلى أن المرأة الحبيبة كانت دون غيرها أثيرة لدى شعراء هذا العصر، فهي ربة الحسن والدلال، وهي ملهمة الشعر والإبداع. فأكثر صور المرأة ظهوراً في ديوان الشعر الأموي هي صورة المرأة المحبوبة.
وعندما درست أخلاق المرأة في العصر الأموي-في الفصل الأول من الباب الثاني لاحظت أن هذه الأخلاق التي ذكرها الشعراء وأعادوا القول فيها يمكن ردها إلى ثلاثة مصادر هي: منظومة القيم الجاهلية، أو ما استصفاه الإسلام من تلك المنظومة، ونقّحه وهذّبه ووجهّه وجهة إسلامية خالصة كالبخل وغض الطرف والحياء والصرم، والخشية من التقول عليهن وغير ذلك.(1/359)
ومنظومة القيم الإسلامية التي جاء بها الدين الحنيف ودعا المرأة إلى التحلي بها صوناً لها ولأسرتها وهي كنز من القيم الخلقية الرفيعة كالتدين والطهر والعفاف والحشمة وسواها كثير. ومجموعة من القيم الإنسانية العامة التي ترافق المرأة في كل زمن وأرض، وأعني بها الأخلاق المتصلة بطبيعة الأنثى أياً كانت هذه الأنثى، كالدلال والمماطلة وتضخم الإحساس بالذات، والمكر واللجوء إلى الحيلة بدلاً من المواجهة أو ما يشبه هذه الطبائع أو الأخلاق.
وقد أظهر لي تتبعي لأخلاق المرأة في الشعر الأموي أن مسالك الشعراء قد اختلفت في الحديث عن هذه الأخلاق، فقد سار معظم الشعراء على سنة واحدة فأنابوا أنفسهم في الحديث عن المرأة، فهم الذين يقررون صفاتها تقريراً دون أن يقرنوا هذه الصفات بأحداث الحياة اليومية، ودون أن يسمحوا لتلك المرأة بإبداء رأيها أو بالتعبير عن حقيقتها فبدت خرساء أو كالخرساء، ولكن عمر بن أبي ربيعة فارق هذا النهج فأنطق المرأة ووضعها في مواقف مختلفة وترك لها حرية التعبير عن نفسها، فأسرفت في الحديث عن هذه النفس حتى بدت ثرثارة تبوح بأسرارها كلها فلا تكاد تبقي منها سراً في موطن السر. وهذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها المرأة في الشعر العربي ثرثارة لا تكف عن الحديث.(1/360)
وعندما تحدثت عن جمال المرأة- في الفصل الثاني من الباب الثاني- كشفت عن الجمال المثالي الذي كان يحلم به هؤلاء الشعراء ويخلعون ملامحه على حبيباتهم، فيكشفون بذلك عن ذوق العصر، وإحساسه الجمالي وصبوته إلى الجسد المكتمل أنوثة وفتنة، فكانوا ينقّون الواقع من الشوائب ويرتقون به ليكون جديراً بالشعر. ولعل الصورة التي حاولت جمع أجزائها من شعر هذا العصر تدل دلالة واضحة على موقف الرجل عامة والشاعر خاصة من المرأة، فهو يعلي دائماً من قيمة الجمال الحسي ويحتفل به، وقد تبين لي أن الشعراء العذريين أنفسهم لم يكونوا بمنأى عن هذا الموقف على خلاف ما توحي به أخبارهم وكثير من الدراسات التي دارت حولهم فقد احتفلوا-كما تبيّن نصوصهم- بالمحاسن الجسدية، وإن لم يغالوا مغالاة غيرهم.
ولكن ذلك كله لا يعني أن الشعراء لم ينظروا إلى المرأة إلا من حيث هي جسد، فما أكثر ما تحدثوا عن المشاعر والأحاسيس والعواطف. وخلصت من ذلك إلى أن هؤلاء الشعراء-على تفاوت واضح بينهم- قد نظروا إلى المرأة نظرة لا تخلو من المنطق والاتزان والاعتدال، فخصوا حسنها المادي بعنايتهم وخصوا محاسنها النفسية ببعض هذه العناية، وكشفوا بذلك عن توازنهم النفسي.
وأضاف الشعراء إلى عناصر الجمال الجسدية بعض المظاهر الأخرى التي سادت وكثرت بسبب الترف في بعض مواقع المجتمع العربي، فكثر وصف بعض الشعراء لهيئة المرأة في ملابسها وزينتها وحليها وعطورها-وهو ما تناولته في الفصل الثاني من الباب الثاني وقد تبيّن لي أن الأقمشة الحريرية كانت أحب أنواع الأقمشة وأكثرها استعمالاً بين النساء. فكانت المرأة لدى جميع الشعراء في أكثر البيئات العربية المختلفة ترفل في ملابس حريرية فضفاضة تجرها تحت أقدامها. وقد وظف هذا الترف للإعلان عن الجاه والملك الواسع، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بمفاهيم القوة والمنعة في القبيلة والمجتمع.(1/361)
وحرصت المرأة-بالإضافة إلى العناية بملابسها- على الحسن المصطنع، لأنه يزيد جمالها وبهاءها ويمنحها قدراً من الثقة بالنفس والطمأنينة والرضا، ولذا كان حرص النساء الدائم على التجمل والتزين بوسائل مختلفة أمراً لا يكاد يفارقهن، وتوصلت إلى معرفة بعض أنواع الزينة التي شاعت زمن الأمويين من الكحل والخضاب وتعقيص الشعر وتضفيره، والحرص أشد الحرص على التحلي بأجمل المجوهرات من الأحجار الكريمة واللؤلؤ والذهب والفضة مما كان موجوداً في البيئة العربية ومما يجلب إليها من البلدان المختلفة، ووجدت أن أنواع حليها اختلفت باختلاف أعضاء جسمها من كاحلها إلى أذنيها، فكانت الخلاخل والأقراط والشنوف والعقود والقلائد والأساور بالإضافة إلى الأحزمة والأوشحة وبالإضافة إلى الملابس والحلي كانت العطور ضرباً مهماً من ضروب الزينة ومظهراً من مظاهر العز والثراء والنعيم، فتحدث الشعراء عن طيوب محبوباتهم المستخلصة من المسك والعنبر والقرنفل والكافور والبخور ولاحظت أن شعراء الحضر قد أسرفوا في الحديث عن عطور النساء وما يضوع من شذاها.
أما الشعراء الآخرون من عذريين وغيرهم فقد قرنوا الحديث عن هذه العطور وعن روائح حبيباتهم بالحديث عن الرياض وحنوتها وأقحوانها وما يصيبها من مطر أو ندى مما يجعل روائحها غب المطر أو الندى أجمل وأطيب وأكثر دواماً.
وفي الفصل الأول من الباب الثالث-كشف تتبعي لصورة المرأة في موضوعات الشعر المختلفة عن تفاوت ظاهر الوضوح في موقع المرأة وأهميتها باختلاف الموضوعات الشعرية.(1/362)
ففي الشعر السياسي اختلفت صورة المرأة بين حزب وآخر وتحولت في شعر عبيد الله ابن قيس الرقيات ممثل الحزب الزبيري إلى أداة شعرية مشحونة بالرموز والدلالات جعلها الشاعر تتجاوز وجودها الأنثوي وترتقي لتكون وسيلة للتعبير عن قضايا سياسية ساخنة. كما تبوأت المرأة الخارجية مكانة مرموقة في شعر هذا الحزب، وبدت واعية لمبادئ حزبها ومشاركة في نشاطه السياسي والحربي، فكانت رفيقة سلاح ومناضلة جريئة تقتحم غمرات الموت، وهي تارة حبيبة يفيء إليها الشاعر ويبوح لها بأسرار قلبه وفكره، وقد بدت لي صورتها مغايرة لصورة المرأة المألوفة السائدة، وشهد موقع المرأة على مستوى القصيدة تراجعاً ملحوظاً في شعر الكميت بن زيد، شاعر الشيعة الأول، فلم تكن المرأة موضوعاً شعرياً أو باعثاً على الشعر والحماسة في ديوانه، وانحرف الشاعر بمقدمته عن الطريقة المألوفة، وحوّل صورة المرأة إلى صورة هامشية سلبية، وفي قصائد المديح كانت المرأة أميرة متوّجة على صدر هذه القصيدة، تحتل مساحة كبيرة من مقدماتها، فيمتزج المديح بالغزل في مقدمة الأطلال والظعائن وفي وصف المحاسن ومقدمة الشيب والشباب، وفي مقدمة الطيف.
وبدت المرأة مادة أساسية في النقائض، وظفها الشعراء في موضوعي النقيضة الأساسيين: الفخر والهجاء، ولكن هذا المكان الذي خصصته النقيضة للمرأة يختلف اختلافاً كبيراً عن مكانها في موضوعات الشعر الأخرى، إذ تحولت المرأة في النقائض إلى مُلك مباح يتناهبه جميع الشعراء، فأفقدوها صورتها العذبة الجميلة، وغاب وجودها الإنساني العامر بالقيم، وراحوا يجردونها من الأخلاق السامية والقيم الاجتماعية النبيلة، ويقذفونها بفاحش القول، ثم لا يجدون في ذلك كله حرجاً، وأصبح هدف النقيضة الأساسي الذي يتعلق بالمرأة النيل من شرفها ووظيفتها في النسل والتهكم بدورها في العلاقة الزوجية والانحراف بها عن هدفها السامي إلى الرذيلة والفجور.(1/363)
واختلفت صورة المرأة في شعر الحب باختلاف المؤثرات البيئية والثقافية والحضارية فهي في شعر المدن الحجازية امرأة جديدة جريئة متحضرة، تعبر عن وجودها البارز في القصيدة، لكن شخصية الرجل الشاعر-هي الشخصية المحورية التي تدور في فلكها المرأة، أما في القصيدة العذرية فتبدوا الصورة معكوسة، إذ تبرز شخصية المرأة-رغم حصارها الاجتماعي والنفسي- شخصية مهيمنة على القصيدة، وتتحول شخصية الرجل-الشاعر- إلى شخصية تابعة وهامشية تحاول أن تسترضي المرأة وتفوز بها.
ثم بيّنت-في الفصل الثاني من الباب الثالث- أن الناظر في الشعر الأموي الذي اتخذ المرأة موضوعاً له يلاحظ بوضوح مجموعة من المعاني التقليدية التي فرضت سلطانها على الشعراء عامة، ولا سيما معاني الجمال الحسي المتداولة في الشعر الجاهلي كالإشراق في اللون والخد الأسيل ونظرة الغزال المطفل والأسنان البراقة واللثات الداكنة وجيد الرئم والخصر المهفهف والبطن الضامر والروادف الريا وغيرها من صفات الحسن التي تمثلها صور المها والغزالة والشمس ودرة الغواص ودمية المحراب.
كما يلاحظ مجموعة من المعاني الإسلامية والقيم الجديدة تتلألأ في هذا الشعر على تفاوت في مقاديرها من شاعر إلى آخر. وعن هذا المزيج الخصب بين الموروث الجاهلي والتأثير الثقافي الديني صدرت نظرتهم إلى المرأة.(1/364)
وختمت البحث-بالفصل الثالث الذي يتضمن الحديث عن المرأة والصورة الفنية، فرأيت أن الطبيعة كانت الملهم الأول للشعراء يستمدون منها كل جميل ويبوحون لها بأعذب المشاعر فيتعانق الجمال والحب ويشكلان معاً صورة المرأة واعتمد الشعراء لبناء هذه الصورة على وسائل فنية مختلفة من أهمها التشبيه الذي سيطر على الصورة منذ العصر الجاهلي، واستمر الشعراء الأمويون يعنون به ويمدون من طاقته وينوّعون في ضروبه حتى بدا اللون الفني المسيطر على الصناعة الفنية في أكثر هذا الشعر. وكما أكثر الشعر من الاعتماد على هذه الوسيلة الفنية الجاهلية أكثروا من الاعتماد على المادة الشعرية التي يشكّلونها بهذه الوسيلة، ولذا كثر التفاتهم إلى كنوز التراث الجاهلي ينقّبون فيها عن الصور والأخيلة كما نقّبوا من قبل عن المعاني، وقد أمدّهم هذا التراث بسيل من الصور فإذا هم يتعاورونها في غير حرج أو تردد وكأنها ملك مشاع نصيب كل واحد فيه كنصيب الآخر، وقد حاول كثير منهم أن يطبع هذا الإرث الفني بطابعه الخاص فمضى يبدل فيه حذفاً وإضافة حتى صار إلى ما يريد.
وقد مضى شعراء آخرون-والعذريون على رأسهم- يحاولون شق دروب فنية جديدة تختلف اختلافاً واضحاً عن الدروب القديمة المذلّلة المعبدّة، واهتدوا بإحساسهم الصادق العميق إلى كثير من الصور الفنيّة المبتكرة، وهي-في معظمها- صور نفسية رامزة فيّاضة بالدلالة وثريّة بالإيحاء، وبذلك اتخذت الصورة عندهم وضعاً خاصاً يجعل منها أداة"للتعبير" أكثر مما هي أداة"للمشابهة"، فكأننا أمام صورة من الأدب الرومانسي. وبذلك اكتمل بناء الرسالة وتضافرت فصولها لتبين كل ما يتصل بأحوال المرأة في الشعر الأموي لأن الموثق من هذا الشعر كان يمثل وثائق أدبية وتاريخية ترصد المجتمع الأموي وتحدد أهم معالمه.
( ... ( ... (
المصادر والمراجع
المصادر:(1/365)
- أخبار مكة المشرفة: كتاب المنتقى في أخبار أم القرى الإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي مكتبة خياط- بيروت بدون تاريخ.
- الأخبار الموفقيات: الزبير بن بكار- تحقيق سامي مكي العاني- مطبعة العاني- بغداد بدون تاريخ.
- الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني عن طبعة بولاق الأصلية- بيروت- دار صعب بدون تاريخ.
- أمالي ابن دريد: تحقيق السيد مصطفى السنوسي، قسم التراث العربي الطبعة الأولى 1984.
- أمالي- القالي: أبو علي القالي- مراجعة لجنة إحياء التراث دار الجيل- دار الآفاق بيروت الطبعة الثانية 1987.
- تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الثانية- دار المعارف بمصر بدون تاريخ.
- تزيين الأسواق في أخبار العشاق. داود الأنطاكي. دار مكتبة الهلال بيروت 1984.
- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور عبد الملك محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- دار المعارف.
- جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- عبد المجيد قطامش دار الجيل بيروت لبنان ط2/1988.
- الحيوان للجاحظ. تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون دار الجيل بيروت 1988.
- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب- عبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق عبد السلام محمد هارون مكتبة الخانجي للطبع والنشر الطبعة الثالثة 1989.
- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور- زينب بنت فواز العاملي مكتبة ابن قتيبة الكويت.
- ديوان أبي دهبل الجمحي رواية أبي عمرو الشيباني- تحقيق عبد العظيم عبد المحسن الطبعة الأولى مطبعة القضاء النجف 1972.
- ديوان أبي النجم العجلي: صنعه علاء الدين آغا النادي الأدبي الرياض 1981.
- ديوان الأخطل: صنعة السكري تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة دار الأصمعي حلب ط1/ 1971.
- ديوان امرئ القيس تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الثالثة دار المارف بمصر 1969م.(1/366)
- ديوان جرير تحقيق د. محمد نعمان أمين طه دار المعارف بمصر 1969.
- ديوان جميل شرح وتصنيف مهدي محمد ناصر الدين دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1987.
- ديوان ذي الرمة رواية أبي العباس ثعلب حققه وقدم وعلق عليه د. عبد القدوس أبو صالح مؤسسة الإيمان بيروت 1982.
- ديوان الطرماح: حققه د. عزة حسن مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم دمشق 1967.
- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات تحقيق وشرح د. محمد يوسف نجم دار صادر بيروت 1958.
- ديوان العجاج رواية الأصمعي تحقيق الدكتور-عبد الحفيظ السطلي-مكتبة أطلس- دمشق المطبعة التعاونية 1971.
- ديوان عدي بن الرقاع العاملي جمع وتحقيق د. الشريف عبد الله الحسيني البركاتي المكتبة الفيصلية مكة 1985.
- ديوان العرجي رواية أبي الفتح عثمان بن جني شرحه وحققه خضر الطائي- رشيد العبيدي- الشركة الإسلامية للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1956.
- ديوان عروة بن أذينة د. يحيى الجبوري دار القلم الكويت الطبعة الثالثة 1983.
- ديوان عمر بن أبي ربيعة تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد دار الأندلس الطبعة الرابعة 1988.
- ديوان الفرزدق شرحه وضبطه وقدم له الأستاذ علي فاعور دار المكتبة العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1987.
- ديوان القطامي تحقيق د. إبراهيم السامرائي- أحمد مطلوب- دار الثقافة- بيروت الطبعة الأولى 1960.
- ديوان قيس بن الملوح جمع وتحقيق د. حسين نصار-مكتبة مصر- دار مصر للطباعة 1960.
- ديوان كثّير د. إحسان عباس دار الثقافة بيروت 1971.
- ديوان ليلى الأخيلية جمع وتحقيق وشرح خليل إبراهيم العطية وجليل العطية- الدار الوطنية للنشر والتوزيع بغداد الطبعة الثانية 1977.
- ديوان مجنون ليلى جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج الناشر مكتبة مصر دار مصر للطباعة 1977.
- ديوان النابغة الشيباني تحقيق د. عبد الكريم يعقوب وزارة الثقافة دمشق 1987.(1/367)
- ديوان الهذليين دار الكتب المصرية الطبعة الأولى 1945.
- ديوان الوليد بن يزيد جمعه وحققه غابريلي جامعة روما- دار الكتاب الجديد الطبعة 3 بيروت 1967.
- ديوان يزيد بن مفرغ الحميري جمعه وحققه د. عبد القدوس أبو صالح مؤسسة الرسالة بيروت 1975.
- رسالة العشق والنساء- رسائل الجاحظ. دار النهضة الحديثة بيروت 1972.
- الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية- لابن هشام- للفقيه أبي القاسم بن عبد الخثعمي السهيلي- دار الفكر قدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد. بدون تاريخ.
- شرح ديوان الحماسة المرزوقي(أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن) نشره أحمد أمين عبد السلام هارون- الطبعة الثانية مطبعة لجنة التأليف والنشر 1967.
- شرح هاشميات الكميت بن زيد الأسدي تفسير أبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي تحقيق د. داود سلوم. د. نوري حمودي القيسي- عالم الكتب- مكتبة النهضة العربية الطبعة الأولى 1984.
- الشعر والشعراء لابن قتيبة تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر- دار المعارف القاهرة 1966.
- شعر ابن ميادة جمع وتحقيق محمد نايف الدليمي مطبعة الجمهورية الموصل بدون تاريخ.
- شعر الأحوص الأنصاري جمعه وحققه عادل سليمان جمال الهيئة المصرية العامة للتأليف 1970.
- شعر إسماعيل بن يسار: د. يوسف حسين بكار-دار الأندلس- الطبعة الأولى 1985.
- شعر الحارث بن خالد المخزومي د. يحيى الجبوري منشورات مكتبة الأندلس بغداد الطبعة الأولى 1972.
- شعر الخوارج تحقيق د. إحسان عباس دار الثقافة بيروت. ط3 1974.
- شعر الراعي النميري وأخباره جمعه وقدم له ناصر الحاني راجعه عز الدين التنوخي، مطبوعات المجتمع العلمي العربي بدمشق 1964.
- شعر الصمة القشيري جمعه د. عبد العزيز محمد الفيصل، النادي الأدبي الرياض 1981.
- شعر العجير السلولي: صنعة محمد نايف الدليمي.
- شعر عمرو بن أحمر الباهلي: جمعه وحققه د. حسين عطوان مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.(1/368)
- شعر عمرو بن لجأ التميمي د. يحيى الجبوري ساعدت جامعة بغداد على نشره 1976.
- شعر الكميت بن زيد الأسدي جمع وتحقيق د. داود سلوم مكتبة الأندلس مطبعة النعمان النجف بغداد 1969.
- شعر المتوكل الليثي د. يحيى الجبوري. مكتبة الأندلس- بغداد بدون تاريخ.
- شعر محمد بن بشير الخارجي جمعه وحققه محمد خير البقاعي دار قتيبة دمشق الطبعة الأولى 1985.
- شعر النابغة الجعدي منشورات المكتب الإسلامي دمشق الطبعة الأولى 1964.
- شعر النعمان بن بشير الأنصاري حققه وقدم له د. يحيى الجبوري مطبعة دار المعارف بغداد الطبعة الأولى 1968.
- شعر هدبة بن الخشرم جمعه وحققه د. يحيى الجبوري وزارة الثقافة الإرشاد دمشق 1976.
- شعر يزيد بن الطثرية د. ناصر الرشيد دار الوثبة دمشق بدون تاريخ.
- شعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان جمعه وحققه صلاح الدين المنجد دار الكتاب الجديد بيروت الطبعة الأولى 1982.
- الطبقات الكبرى لابن سعد دار الفكر المجلد الثامن من النساء بدون تاريخ.
- طبقات فحول الشعراء محمد بن سلام الجمحي شرح د. محمود محمد شاكر دار المعارف بمصر.
- العقد الفريد لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي: شرحه وضبطه ورتب فهارسه أحمد أمين- إبراهيم الأبياري- عبد السلام هارون- الناشر دار الكتاب العربي بيروت 1983.
- عيون الأخبار: أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري- كتاب النساء- المجلد الرابع- نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب- المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر بدون تاريخ.
- الكامل في اللغة والأدب لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد مكتبة المعارف- بيروت بدون تاريخ.
- كتاب النقائض نقائض جرير والفرزدق طبع في مدينة ليدن بمطبعة بريل سنة 1907(أبو عبيدة معمر بن المثنى).
- المحب والمحبوب. السري بن أحمد الرفاء- تحقيق مصباح غلاونجي- مطبوعات مجمع اللغة العربية- دمشق بدون تاريخ.(1/369)
- المحبّر أبو جعفر محمد بن حبيب منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت- اعتنى بتصحيحه د. ايلزه ليختين شتيتر بدون تاريخ.
- مجالس ثعلب لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب- شرح وتحقيق عبد السلام محمد هارون دار المعارف بمصر 1949.
- مروج الذهب ومعادن الجوهر المسعودي(أبي الحسن علي بن الحسن بن علي) دار الأندلس للطباعة بيروت بدون تاريخ.
- المستطرف في كل فن مستظرف شهاب الدين بن محمد الأبشيهي. طبعة جديدة منقحة الطبعة الأولى 1991 مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر.
- نقائض جرير والأخطل تأليف الشاعر أبي تمام عني بطبعها وعلق حواشيها انطون صالحاني اليسوعي المكتبة الكاثوليكية بيروت دار المشرق 1922.
المعاجم:
تاج العروس. محمد مرتض الزبيدي- تحقيق مصطفى حجازي مطبعة حكومة الكويت 1987م.
لسان العرب: ابن منظور- دار صادر بيروت.
المراجع:
- اتجاهات الشعر في العصر الأموي د. صلاح الدين الهادي الطبعة الأولى 1986 مكتبة الخانجي القاهرة.
- بين القديم والجديد د. إبراهيم عبد الرحمن- مكتبة الشباب 1987.
- تاريخ التمدن الإسلامي جورجي زيدان طبعة جديدة راجعها حسين مؤنس دار الهلال بدون تاريخ.
- تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري: نجيب محمد البهبيتي- دار الفكر- مكتبة الخانجي 1970.
- تاريخ النقائض في الشعر العربي أحمد الشايب الطبعة الثالثة مكتبة النهضة المصرية 1993.
- تراجم سيدات بيت النبوة د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ دار الكتاب العربي بيروت 1988.
- تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام. د. شكري فيصل الطبعة الرابعة دار العلم للملايين بيروت بدون تاريخ.
- التطور والتجديد في الشعر الأموي د. شوقي ضيف دار المعارف 1959.
- حديث الأربعاء طه حسين دار المعارف 1954.
- الحضارة العربية الإسلامية د. علي حسن الخربوطلي. مكتبة الخانجي القاهرة. بدون تاريخ.(1/370)
- حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة د. يوسف خليف دار الكتاب العربي للطباعة- القاهرة 1968.
- الحياة والموت في الشعر الأموي د. محمد بن حسن الزبير دار أمية للنشر والتوزيع الرياض الطبعة الأولى 1989.
- ذو الرمة شاعر الحب والصحراء د. يوسف خليف دار المعارف بمصر 1970.
- سوسيولوجيا الغزل العربي ترجمة مصطفى المسنْاوي الطبعة الثانية بيروت دار الطليعة 1988.
- شعراء أمويون دراسة وتحقيق د. نوري حمودي القيسي جامعة بغداد 1976.
- الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية د. شوقي ضيف دار المعارف 1976.
- الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري د. علي البطل دار الأندلس الطبعة الأولى 1980.
- صورة المرأة في الجزيرة العربية في القرن الأول الهجري مصطفى الجياووك- رسالة دكتوراة مخطوطة بجامعة الاسكندرية 1975.
- العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي د, إحسان النص منشورات دار اليقظة العربية بيروت بدون تاريخ.
- العصر الإسلامي د. شوقي ضيف الطبعة الثانية عشرة دارة المعارف بمصر بدون تاريخ.
- فنان البديع(ابن هرمة) د. رجاء الجوهري منشأة المعارف بالاسكندرية بدون تاريخ.
- في الشعر الإسلامي والأموي د. عبد القادر القط دار النهضة العربية بيروت 1979.
- في الشعر الأموي دراسة في البيئات د. يوسف خليف مكتبة غريب القاهرة بدون تاريخ.
- قصيدة المدح حتى نهاية العصر الأموي د. وهب رومية منشورات وزارة الثقافة دمشق 1981.
- المرأة في الشعر الجاهلي د. أحمد الحوفي- دار نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة بدون تاريخ.
- مقدمة القصيدة العربية في العصر الأموي د. حسين عطوان- دار المعارف بمصر 1974.
الدوريات:
- حوليات كلية الآداب: اللباس في عصر الرسول، د. محمد فارس الجميل تصدر عن مجلس النشر العلمي- جامعة الكويت 1994 الحولية الرابعة عشرة.(1/371)
- مجلة عالم الفكر: مكانة المرأة في التشريع الإسلامي، د. عبد الباسط محسن والمرأة والحضارة أحمد أبو زيد. المجلد السابع- العدد الأول. إبريل- مايو- يونيو- 1976- الكويت.
( ... ( ... (
الفهرس
المقدمة: المرأة في الشعر الأموي ...
الباب الأول: المرأة والحياة الاجتماعية في الشعر الأموي ...
الفصل الأول: المرأة والأسرة في الشعر الأموي ...
أ-الأم: ...
ب-المرأة الزوج: ...
جـ-البنت: ...
الفصل الثاني: المرأة والقبيلة في الشعر الأموي ...
الفصل الثالث: المرأة والمجتمع في الشعر الأموي ...
أ- المرأة في المجتمع الحضري: ...
المرأة في المجتمع البدوي: ...
الباب الثاني: هيئة المرأة وأخلاقها في الشعر الأموي ...
الفصل الأول: أخلاق المرأة في الشعر الأموي ...
الفصل الثاني: جمال المرأة في الشعر الأموي ...
الفصل الثالث: هيئة المرأة في الشعر الأموي ...
الملابس: ...
الحلي وبعض ضروب الزينة الأخرى: ...
الباب الثاني: هيئة المرأة وأخلاقها في الشعر الأموي ...
الفصل الأول: أخلاق المرأة في الشعر الأموي ...
الفصل الثاني: جمال المرأة في الشعر الأموي ...
الفصل الثالث: هيئة المرأة في الشعر الأموي ...
الملابس: ...
الحلي وبعض ضروب الزينة الأخرى: ...
الباب الثالث: المرأة في موضوعات الشعر الأموي ومعانيه وأخيلته ...
الفصل الأول: المرأة وموضوعات الشعر الأموي ...
1-في الشعر السياسي: ...
أ-الحزب الزبيري: ...
ب-الخوارج: ...
ب-الشيعة: ...
2-في قصائد المديح: ...
3-في النقائض: ...
4-في قصائد الرثاء: ...
5-في شعر الحب: ...
الفصل الثاني: المرأة والمعاني في الشعر الأموي ...
الفصل الثالث: المرأة والصورة الفنية في الشعر الأموي ...
1- منابع الصورة أو مصادرها: ...
2- أنماط الصورة البنائية: ...
التشبيه: ...
الاستعارة: ...
3- الصورة بين التقليد والتجديد: ...
الخاتمة ...
المصادر والمراجع ...
( ... ( ... (
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
المرأة في الشعر الأموي:.دراسة / فاطمة تجور- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000- 392 ص ؛ 25 سم .
1- 811.4009 ت ج و م ... ... 2- 810.4 ت ج و م(1/372)
3- العنوان ... ... ... ... 4- تجور
ع -39/1/2000 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
تتناول الدراسة (المرأة في الشعر الأموي) الوجود الأنثوي في الشعر الأموي من خلال مكانة المرأة وجودياً، وعقيدياً، وروحياً، حاولت الكاتبة أن تكشف عن موقع المرأة في المجتمع العربي زمن الأمويين، كما ظهرت في شعر شعرائه، فوجدتها أماً وأختاً وحبيبة وملهمة ثم رأتها زوجاً أثيراً لدى زوجها، وعرضت لمستلزمات الإعجاب والحب والزواج وعادات المجتمع وتقاليده حول المرأة وخلصت إلى رسم صورة المرأة الحبيبة التي طغت على جوهر الشعر كونها الأثيرة دون سواها لدى شعراء هذا العصر.
((((1/373)