المثل والتعبير الاصطلاحي
في التراث العربي
د/علاء الحمزاوي
يهدف هذا البحث إلى الإجابة عن سؤالين:
هل عرف تراثنا اللغوي العربي مصطلح التعبير الاصطلاحي؟
ما الفرق المثل والتعبير الاصطلاحي؟ وأيهما أشمل من الآخر؟
المثل مفهومه وسماته وأنواعه
مفهوم المثل:
أفاض العلماء فى الحديث عن المثل(1)، ومن ثم فلسنا بحاجة أن نردد ما قيل، إنما حسبنا أن نشير إلى ما يمكن به أن نعقد موازنة بين المثل والتعبير الاصطلاحى؛ لنقف على أوجه الوفاق والخلاف بينهما.
أولا : فى الفرنسية(2):
تشير المعاجم إلى أن المثل proverbe هو جملة خيالية ذائعة الاستخدام ، تدل على صدق التجربة أو النصيحة أو الحكمة ، يرجع إليها المتكلم . وقديما عرفوا المثل بأنه حكمة شعبية قصيرة تتداول على الألسنة ، أو هو جملة غالبا ما تكون قصيرة ، تعبر عن حدث ذى مدلول خاص ، لكن يبقى على المستمع تخمينه .
__________
(1) حول مفهوم المثل انظر : مقدمات كتب الأمثال الواردة فى البحث والسيوطى: المزهر في علوم اللغة (النوع الخامس والثلاثين) ولسان العرب (ضرب) وزلهايم: الأمثال العربية القديمة: المقدمة وعبد المجيد قطامش الأمثال: المقدمة العربية وتوفيق أبو على : الأمثال: المقدمة. وانظر أيضا: جواد على: المفصل فى تاريخ العرب: الجزء الثامن، فصل الأمثال .
(2) انظر : Trésor : Dictionnaire de la langue française du x1x e xx siècle (proverbe) ويذكر د/عبد المجيد عابدين أن الأوربيين يصفون المثل "بأنه العبارة التى تتصف بالشيوع والإيجاز وحدة المعنى " الأمثال ص 9 وهذا الوصف قد خلا من صفة التشبيه، وهى صفة أساسية فى الأصل ، وقد وافق ديشى على خلو المثل من التشبيه ، وساق المثل (سلامة الإنسان فى حفظ اللسان) و المثل (اعمل تنجح) ، والباحث يرى أن المثل فى الأصل قام على التشبيه ، ولامانع أن ترد أمثال خالية من هذه الصفة غير أن هذا لايخلع عنها صفة التشبيه .(1/1)
والمؤرخون للمثل يرجعون كلمة proverbe إلى نهاية القرن الثانى عشر، وهى مستعارة من اللغة اللاتينية proverbium وكان معناها لغزا أو مقارنة.
ويذكر المهتمون بالأدب أن المثل جملة لها محتوى، تعبر عن حقيقة عامة، ثم ساقوا بيتا شعريا للشاعر فولتير Voltaire: من يخدم بلده ليس بحاجة إلى أجداد Qui sera bien son pays n’a pas besoin d’aieux وعدوه مثلا. ويقولون: (سفر الأمثال le livre des proverbes ) و(أمثال سليمان les proverbes de Saloman ) ويعنون به أحد أسفار الكتاب المقدس bible ، يتضمن مجموعة من الحكم الأخلاقية التى وردت فى الكتب السماوية . ويتردد على اللسان كثيرا عبارة (comme dit le prover)(1).
هذا .. وذكروا أن من مرادفات الـ proverbe : adage , maxime , diction وهى مصطلحات تعبر الحكمة والعبرة والموعظة . وذكروا أن ثمة أشخاصا تُذكر الأمثال بأسمائهم personages proverbiaum(2).
ثانيا: فى العربية:
يدل الأصل الثلاثى (م ث ل) على معنى الشبه والنظير، يقول الزمخشرى: "..والمثل فى أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير.."(3)، وذكر أحد الباحثين أن كلمة "المثل من المماثلة وهو الشئ المثيل لشئ يشابهه ، والشئ الذى يضرب لشئ مثلا ، فيجعل مثله ، والأصل فيه التشبيه، ويقابله فى العبرانية mashal وفى اليونانية parable ومعناهما المماثلة والمشابهة"(4).
__________
(1) انظر : المرجع السابق
(2) وهذا يقابل فى العربية : أحلم من الأحنف ، أسخى من حاتم ، والأمثال العربية حافلة بهذا النوع .
(3) انظر الزمخشرى : مقدمة المستقصى .
(4) انظر جواد على : المفصل 8/354(1/2)
وينقل زلهايم عن أبى عبيد القاسم بن سلام قوله فى مقدمة أمثاله: "..هذا كتاب الأمثال وهى حكمة العرب فى الجاهلية والإسلام ، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها فى المنطق بكناية غير تصريح ، فيجتمع لها بذلك ثلاث خصال: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه"(1).
ويقول المرزوقى: "المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها فى لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعانى، فلذلك تضرب، وإن جهلت أسبابها التى خرجت عليها"(2).
فى هذا التعريف توضيح لحقيقة المثل ، فهو يضرب فى حالات مشابهة لمورده الأصلى، كما يظل مثلا يضرب ، وإن جهل أصله ، ولايغير لفظه فى أية حالة من حالة استعماله(3).
فإذا ما انتقلنا للمحدثين الذين اهتموا بدراسة المثل نجدهم لايكادون يختلفون مع القدماء فى مفهوم المثل فمثلا يقول أميل يعقوب :" المثل هو عبارة موجزة بليغة شائعة الاستعمال، يتوارثها الخلف عن السلف ، تمتاز بالإيجاز وصحة المعنى وسهولة اللغة وجمال جرسها"(4).
ويصف باحث آخر المثل بأنه" قول موجز سائر ، صائب المعنى تشبه به حالة حادثة بحالة سالفة"(5)
ومن خلال هذا العرض يمكن أن نقدم تعريفا للمثل ، يخلص فى أنه " هو تركيب ثابت شائع موجز ، يستخدم مجازيا صائب المعنى ، يعتمد كثيرا على التشبيه " . وبناء على ذلك فهو يتسم بهذه السمات :
ـ الإيجاز البليغ ـ الاستعمال الشائع .
ـ التشبيه ـ جمال اللغة .
ـ الثبات ـ الاستعمال المجازى .
ـ جودة الكناية
__________
(1) انظر : زلهايم : الأمثال العربية 23 ، السيوطى : المزهر 1/486
(2) انظر : السيوطى : سابق 1/486
(3) انظر : زلهايم : 25
(4) انظر : توفيق أبوعلى : الأمثال 41 نقلا عن أميل يعقوب : الأمثال الشعبية اللبنانية .
(5) انظر : قطامش : 11(1/3)
هذا .. وأضاف البروفسيرجوزيف ديشى صفات أخرى للمثل منها(1):
ـ أن المثل من المسكوكات ( الثبات فى بنيته ) .
ـ وأنه قابل للاستخدام فى سياقات مختلفة ، إلا أن علاقته بتلك السياقات خاضعة لقواعد دلالية خاصة .
ـ وأنه كذلك يتسم ببلاغته (قوة التعبير) .
ويحاول الباحث أن يفصح عن هذه السمات بالمناقشة والتحليل على النحو التالى:
ـ الإيجاز :
هو أبرز سمات الأمثال وأخص خصائصها، وبه تمتاز على ما عداها من فنون الأدب، يقول البكرى: "والأمثال مبنية على الإيجاز والاختصار والحذف والاقتصار"، ويقول فى موضع آخر: "والأمثال موضع إيجاز واختصار، وقد ورد فيها من الحذف والتوسع ما لم يجئ فى أشعارهم"(2).
والإيجاز يعمل على إشباع المعنى وهذا ما نلمسه فى قول الزمخشرى "..أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى وقصرت العبارة فأطالت المغزى، ولوحت فأغرقت فى التصريح، وكنت فأغنت عن الإيضاح"(3).
ويقول القلقشندى :".. وأما الأمثال الواردة نثرا، فإنها كلمات مختصرة، تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة .. وليس فى كلامهم أوجز منها ، ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التى يلوح بها على المعانى تلويحا صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا"(4).
__________
(1) انظر : مناقشة مع الباحث بجامعة ليون
(2) انظر : قطامش : 256 نقلا عن فصل المقال .
(3) انظر : الزمخشرى : المستقصى : مقدمة
(4) انظر : القلقشندى : صبح الأعشى 1/295(1/4)
وقد تبين للباحث حقا أن الإيجاز سمة أصيلة فى الأمثال من خلال الدراسة التركيبية فى هذه الدراسة ؛ حيث خصص عدة أنماط من الأنماط النحوية تدل بجلاء على وسم الأمثال بالإيجاز ، ولم يحصر الباحث كل الأمثال الموجزة ، بل اختار مجموعة كنماذج ، وتتمثل هذه الأنماط فىكل الأنماط التى تحتوى على عنصرى الجملة النواة phrase noyau ، خالية من العناصر التوسيعية extensions ، إضافة إلى الأنماط التى تحتوى على أحد العنصرين والآخر محذوف ، وكذلك الأنماط التى تحتوى على عنصر توسيعى مع تقدير الجملة النواة.
إصابة المعنى :
تعد الأمثال من الأشكال الأدبية التى تعبر عن الواقع بشكل يقترب من الصدق ؛ لأنها تعد نتاج فكر وأحداث وتجارب للحياة اليومية ـ لم يوافق البروفسير ديشى على هذا ـ وهذا يعنى أنها تصيب المعنى ، وحاولنا أن نلتمس دليلا لتعضيد هذا الرأى ، فالتمسناه فى بعض الجوانب التركيبية للأمثال ، فى صيغة الجملة الاسمية التى تفيد العموم والتى تدل على الثبات لاسيما صيغة أفعل ، والجملة الشرطية التى ترتب شيئا على شئ ، وجملة الأمر والنهى التى تحث على خير وتزجر شرا ، أو تسدى موعظة ونصيحة ، قد تكون عامة وقد تكون خاصة بالمخاطب(1).
حسن التشبيه :
__________
(1) من النوع الأول : كل امرئ فى بيته صبى ، كل فتاة بأبيها معجبة . ومن الثانى أول الحزم المشورة، الحق أبلج ، أكرم من حاتم ، أحلم من الأحنف . ومن الثالث : إذا عز أخوك فهن ، تطعم تطعم . ومن الرابع : انصر أخاك ظالما او مظلوما عش ولاتغتر ، اشتر لنفسك وللسوق ، لاتهرف بما لاتعرف ، أعط القوس باريها .....(1/5)
من سمات المثل التشبيه ، بل إن المادة (م ث ل) تدل على المشابهة ، ومن ثم جعل بعض العلماء التشبيه سمة أساسية فى المثل ـ عرضنا لذلك حينما تحدثنا عن مفهوم المثل ـ ويرى البروفسير جويف ديشى أن هذه السمة صالحة لعددمن الأمثال ، وليس شرطا توافرها فى كل الأمثال(1).
بيد أن هذا لايمنع أن نتحدث عن هذه السمة بإيجاز ، فللتشبيه مكانته فىكلام العرب ، يقول قدامة : "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وبه تكون الفطنة والبراعة عندهم"(2). ويشرح عبد القاهر وظيفة التشبيه فى قوله: ".. وهل تشك فى أنه يعمل عمل السحر فى تأليف المتباينين حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق ، وهو يريك للمعانى الممثلة بالأوهام شبها فى الأشخاص الماثلة ، والأشباح القائمة ، ينطق لك الأخرس ، ويعطيك البيان من الأعجم ، ويريك الحياة فى الجماد ، ويريك التئام عين الأضداد ، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين"(3).
وإذا كان التشبيه بجميع صوره وأشكاله من أساليب البيان المتفق على بلاغتها، فإنه فى الأمثال يبلغ قمة البلاغة ، ويحتل ذروتها ، ذلك أن مضارب الأمثال تكون عادة من المعانى المعقولة التى قد يصعب تصورها واستكناه حقيقتها ، ومن ثم يلجأ الناس إلى ضرب الأمثال لها بأمور حسية ، وأحداث واقعية ، فلا تلبث هذه المعانى المعقولة أن تبرز من الخفاء حتى تكون فى متناول الحواس الظاهرة .
__________
(1) مناقشة بين الباحث والمشرف بجامعة ليون 1997 والباحث يوافقه الرأى .
(2) انظر : قدامة بن جعفر : نقد النثر 58
(3) انظر : عبد القاهر : أسرار البلاغة 111(1/6)
وتوضيحا لسمة التشبيه فى الأمثال نسوق هذا المثل (قبل الرماء تملأ الكنائن) ؛ إذ هو يضرب فى الاستعداد للأمر قبل حلوله ، وهو معنى معقول شبه بحالة حسية ، هى حالة الرجل يستعد للرمى قبل أوانه ، فيملأ جعبته سهاما . فالمضرب هنا وهو المراد أمر معقول لايدرك إلا بالفكر والنظر ، وهذا يعنى أن العرب لجأوا إلى صورة حسية منتزعة من البيئة ، فشبهوا بها تلك المعانى المعقولة وأخرجوها بهذا التشبيه من الخفاء والإبهام إلى الوضوح والجلاء .
الكناية والتعريض :
إن أسلوب المثل يتسم بجودة الكناية والتعريض ؛ لأن المتمثل به لايصرح بالمعنى الذى يريده وهو مضرب المثل ولايعبر عنه بالألفاظ الموضوعة له فى اللغة ، إنما يخفى هذا المعنى ويعبر عنه بألفاظ أخرى هى ألفاظ المثل وهذا هو معنى الكناية والتعريض لغويا ، يقول ابن منظور :".. والكناية أن تتكلم بشئ وتريد غيره وكنى عن الأمر بغيره يكنى كناية ، يعنى أن تتكلم بغيره مما يستدل به عليه .. وكنى الرؤيا هى الأمثال التى يضربها ملك الرؤيا، يكنى بها عن أعيان الأمور"، ويقول فى موضع آخر: "والتعريض خلاف التصريح والمعاريض التورية بالشئ عن الشئ والتعريض قد يكون مضرب الأمثال ، وذكر الألغاز فى جملة المقال"(1).
وقيل : الكناية أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى فلا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة ولكن يجئ إلى معنى هو تاليه وردفه فى الوجود فيومئ به إليه ، ويجعله دليلا عليه مثل (طويل النجاد) أى طويل القامة(2).
وتوضيحا لمفهوم الكناية نسوق هذا المثل (بلغ السيل الزبى) ، فهذا المثل يراد به الأمر يبلغ غايته فى الشدة والصعوبة ، لكن المتكلم أخفى هذا المعنى ، ولم يستخدم الألفاظ التى وضعت له فى اللغة ، وكنى عنه بالألفاظ التى جاء عليها المثل .
__________
(1) انظر : ابن منظور : اللسان : كنى ـ عرض
(2) انظر : عبد القاهر : دلائل الإعجاز 52(1/7)
ويذكر أحد الباحثين أن كل الأمثال هكذا لايصرح بالمعانى المرادة ، وهى مضاربها ، وإنما يكنى عنها بعبارات أو ألفاظ تفيد معانى أخرى ، وتكتسب المعانى المرادة من الأمثال بهذه الكناية وضوحا وإشراقا ، وتكتسى حللا زاهية من الجمال والبهاء(1).
الذيوع والانتشار :
لعل السمات التى يتسم بها المثل من الإيجاز والوضوح وإصابة المعنى وقمة البلاغة وغيرها .. أضفت عليه صفة الذيوع والسيرورة، وقد لفت هذا أذهان العرب، فشبهوا بالمثل كل شئ يشيع وينتشر فقالوا: (أسيرمن مثل) ، وقال الشاعر(2):
ما أنت إلا مثل سائر يعرفه الجاهل والخابر
هذا .. وقد نوه مدونوالأمثال إلى هذه السمة ، فمثلا يقول الزمخشرى: "ولأمر ما سبقت أراعيل الرياح وتركتها كالراسنة فى القيود ، بتدارك سيرها فى البلاد ، مصعدة ومصوبة، واختراقها الآفاق، مشرقة ومغربة حتى شبهوا بها كل سائر أمعنوا فى وصفه وشارد لم يألوا فى نعته"(3).
ووصف ابن عبد ربه الأمثال بأنها " وشى الكلام ، وجوهر اللفظ ، وحلى المعانى تخيرتها العرب وقدمتها العجم ، ونطق بها فى كل زمان ، وعلى كل لسان ، فهى أبقى من الشعر ، وأشرف من الخطابة ، لم يسر شئ سيرها ، ولاعم عمومها"(4).
الثبات :
من سمات المثل الثبات ـ يرى د.ديشى أنه ثبات نسبى ـ فى التركيب والدلالة؛ إذ يقال كما ورد ؛ لأن القاعدة فى الأمثال ألا تغير، بل تجرى كما جاءت ، وقد جاء الكلام بالمثل وأخذ به وإن كان ملحونا، لأن العرب تجرى الأمثال على ما جاءت، وقد تستعمل فيها الإعراب ، والأمثال قد تخرج عن القياس ، فتحكى كما سمعت، ولايطرد فيها القياس ، فتخرج عن طريقة الأمثال؛ لأن من شرط المثل ألا يغير عما يقع فى الأصل عليه(5).
__________
(1) انظر : قطامش 269
(2) انظر : ابن عبد ربه : الجوهرة فى الأمثال : المقدمة
(3) انظر الزمخشرى : مقدمة المستقصى .
(4) انظر : ابن عبد ربه : مقدمة الجوهرة .
(5) انظر : السيوطى : المزهر 1/487 ـ 488(1/8)
ويؤكد المرزوقى ما سبق بقوله: "من شرط المثل ألا يغير عما يقع فى الأصل عليه، ألا ترى أن قولهم (أعط القوس باريها) تسكن ياؤه ، وإن كان التحريك هو الأصل؛ لوقوع المثل فى الأصل على ذلك ، وكذلك قولهم (الصيف ضيعت اللبن) لما وقع فى الأصل للمؤنث لم يغير من بعد ، وإن ضرب للمذكر"(1). ويعلق التبريزى على المثل الأخير بقوله : "..نقول :الصيف ضيعت اللبن مكسورة التاء ، إذا خوطب بها المذكر والمؤنث والاثنان والجمع ؛ لأن أصل المثل خوطبت به امرأة ، وكذلك قولهم (أطرى فإنك ناعلة ) يضرب للمذكر والمؤنث والاثنين والجمع على لفظ التأنيث"(2).
ويفصح الزمخشرى عن السر فى المحافظة على ألفاظ المثل وحمايته من التغيير، بأنه متمثل فى نفاسة المثل وغرابته ، حيث يقول :"..ولم يضربوا مثلا ، ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا جديرا بالتداول والقبول إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه ، ومن ثم حوفظ عليه ، وحمى من التغيير"(3).
ومن السر أيضا أن الأمثال من قبيل الحكاية ، يفصح عن هذا العسكرى بقوله: "ويقولون :الأمثال تحكى ، يعنون بذلك أنها تضرب على ما جاء عن العرب ، ولاتغير صيغتها ، فتقول (الصيف ضيعت اللبن) ، فتكسر التاء ؛ لأنها حكاية"(4).
__________
(1) انظر : المرجع السابق
(2) انظر : المرجع السابق
(3) انظر : الزمخشرى : الكشاف 1/38
(4) انظر العسكرى : مقدمة الجمهرة .(1/9)
مما سبق يمكن القول بأن من حق المثل أن تحمى صيغته وألفاظه من التغيير وأن يبقى على ما جاء عليه مهما اختلفت المضارب والأحوال ؛ لأن المساس به يخل بمدلوله، ويخرجه من باب الاستعارة وجودة الكناية من ناحية، ومن ناحية أخرى تفقد الأمثال كثيرا من قيمتها الأدبية واللغوية والتاريخية، إذا تعرضت للتغيير، ومن ثم أجازت العرب لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة بدعوى الضرورة كالشعر، لأنه قد يصدر شعرا أو سجعا، وقد يصدر عن أفواه أناس لا يبالون بالقواعد(1)؛ ذلك لأنه لا تغير صورته مهما كان مخالفا لقواعد اللغة؛ حفاظا على سمة الثبات.
أنواع المثل :
يقسم زلهايم المادة التى احتشدت بها كتب الأمثال إلى عدة أنماط ، واضعا لكل نمط مصطلحا يدل عليه ـ من وجهة نظره ـ على النحو التالى :
المثل proverbe(2):
هو ما يتحقق معناه ومفهومه فى إحدى خبرات الحياة التى تحدث كثيرا فى أجيال متكررة، ممثلة لكل الحالات الأخرى ، فالمثل ليس تعبيرا لغويا فى شكل جملة تجريدية مصيبة تنصب على كل حالة على سواء لأن هذه الصياغة الفكرية تخرج عن القدرة التجريدية للشعب البدائى ، فالتفكير الواضح للشعب يفوق فى التأثير النفسى طريقة التعبير التجريدية بكثير . ومن أمثلة ذلك :
عشب ولابعير ، استنسر البغاث ، أبى الحقين العذرة ، قد بين الصبح لذى عينين، التمرة إلى التمرة تمر .
التعبير المثلى expression proverbiale(3):
__________
(1) انظر : جواد على : المفصل فى تاريخ العرب 8/359
(2) انظر : زلهايم : الأمثال العربية 27 : 29
(3) انظر : السابق : 30 : 31(1/10)
يفرق زلهايم التعبير المثلى عن المثل بأنه لا يعرض أخبارا معينة عن طريق حالة بعينها ، لكنه يبرز أحوال الحياة المتكررة والعلاقات الإنسانية فى صورة يمكن أن تكون جزءا من جملة. والتعبيرات المثلية عبارات قائمة بذاتها تثرى التعبير وتوضحه؛ بسبب ما فيها من بيان عظيم، وهى مشهورة متداولة على العموم، كقولهم: سواسية كأسنان المشط ، فلان لايعوى ولاينبح، سكت ألفا ونطق خلفا، إنباض بغير توتير.
يرى الباحث أن الفرق الملموس بين المثل والتعبير المثلى عند زلهايم أن الأول يعتمد على التشبيه، أى يصور موقفا ما، ثم يساق فى المواقف المماثلة، أما الثانى فليس شرطا أن يعتمد على التشبيه. وإذا ما نظرنا فى النماذج التى استشهد بها صاحبنا للنوعين، فلانكاد نلمس فرقا بينها، إذ لو وضعنا نماذج المثل تحت التعبير المثلى وكذلك الأخرى، فلا يغير ذلك من مفهوم المصطلح الذى أشار إليه زلهايم، فما الفرق بين قولهم (سواسية كأسنان المشط) و(عشب ولابعير)؟! كلاهما يحمل السمات ذاتها التى عرضنا لها من قبل.
وهذا الأمر يجيز للباحث الحكم على زلهايم بأنه اضطرب فى تحديد مفهوم المصطلح ، ويبدوله أن الفرق بين المثل والتعبير المثلى أن الثانى يعتمد على المجاز، وأنه أحد أنواع التعبير الاصطلاحى ، فى حين أن الأول قد يخلو منه مثل قولهم: (الجار قبل الدار)، فإن لم يخل منه فهو تعبير مثلى أو تعبير اصطلاحى.
الحكمة maxime(1):
__________
(1) انظر: نفسه 32(1/11)
يذكر زلهايم أن الحكمة تجمع كل ما يتصل بالعادات والتقاليد والتدبير والأقوال السائرة والعبارات النادرة ، فهى تعبر عن خبرات الحياة مباشرة فى صيغة تجريدية. وإنه ليس من قبيل الصدفة أن تنسب أمثال هذا النوع إلى الحكماء والفلاسفة الذين وهبوا المقدرة على التعبير التجريدى ، وهى من الأمثال أو من التعبيرات المثلية التى لم يعرف قائلها، ولم يفعل هؤلاء الحكماء أكثر من أن يضفوا على المثل معنى مجردا، ويحوّروا محتواه باستعمال كلمات عامة فلسفية . ولهذه الأمثال مقابل حرفى فىكثير من الأحيان.
ويعرف أحد الباحثين الحكمة بأنها " تلك العبارة التجريدية التى تصيب المعنى الصحيح وتعبر عن تجربة من تجارب الحياة ، أو خبرة من خبراتها ، ويكون هدفها عادة الموعظة والنصيحة"(1).
ومن الحكم التى احتشدت بها كتب الأمثال وعدت أمثالا لذيوعها وإفشائها : (السر أمانة، العدة عطية، إن الكذوب قد يصدق، إياك أن يضرب لسانك عنقك، انصر أخاك ظالما أو مظلوما(2).
العبارة التقليدية louction figée(3):
هى تلك العبارة التى توجد فى الدعاء واللعن وفى الخطاب والتحية وفى الصلاة، وما أشبه ذلك ، ويوجد من هذا النوع الكثبر فى كتب الأمثال ، وإن لم يكن فى الأصل من الأمثال . ويقدم لها عموما أبوعبيدة بقوله: "ومن دعائهم.."، وفى النادر بقوله: "ومن أمثالهم فى الدعاء" . ثم سلكت هذه العبارات مع الأمثال فى مسلك واحد، دون ملاحظة ما بينهما من فروق ... ومن أمثلة ذلك :"رماه بأقحاف رأسه ، بلغ الله به أكلأ العمر، على بدء الخير واليمن، بالرفاء والبنين".
__________
(1) انظر: قطامش 18
(2) انظر : زلهايم 33
(3) انظر : نفسه 35(1/12)
ويذكر أحد الباحثين أن المثل أساسه التشبيه ، فإن استوفت العبارة السائرة هذا الشرط ـ بجانب شروط المثل الأخرى ـ كانت مثلا ، وإن فقدت شرط التشبيه، لم تكن مثلا، إنما تكون عبارة جارية مجرى الأمثال لاستحسانها وإيجازها وكثرة دورانها على الألسنة(1).
هذه هى الأنواع الأربعة التى احتشدت بها كتب الأمثال(2)؛ حيث عدها العلماء أمثالا، والباحث يوافق على ذلك إذا انطبق عليها جميعها المفهوم الذى قدمه آنفا للمثل.
التعبير الاصطلاحى مفهومه وسماته وأنواعه
من خلال البحث والدراسة تبين أن ظاهرة التعبير الاصطلاحى من الظواهر اللغوية التى لم تحظ باهتمام كبير من الدرس اللغوى ، بل كانت منذ عهد قريب بمثابة منطقة مهجورة من حقل الدراسات اللغوية ولعل اللغويين الروس كانوا هم الرواد فى علم دراسة التعبيرات الاصطلاحية ؛ إذ بدأوا ارتياده فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، ويعد فى نظرهم جزءا شرعيا من الدرس اللغوى(3).
ثم أخذ بعد ذلك حظا لا بأس به من الدراسات اللغوية الغربية ، وأضحت له مصطلحات وسمات خاصة تميزه عن غيره من الظواهر اللغوية ، ويمكننا أن نتبين ذلك من خلال الوقوف على بعض المعاجم الأجنبية والدراسات المتخصصة فى اللسانيات linguistique فى الإنجليزية والفرنسية.
أولا فى اللغة الإنجليزية(4):
__________
(1) انظر : قطامش 32
(2) هذا بالإضافة إلى ما يسمى بالمكنى والمبنى والمثنى ، وشاع شيوع الأمثال ، حتى عده العلماء من الأمثال ، من ذلك : أبوالحارث للذئب ، أم القرى لمكة ، ابن الأيام للرجل المجرب ، بنت شفة) .انظر العسكرى : الجمهرة : الفصل المعنون بذلك
(3) انظر د.كريم حسام الدين : التعبير الاصطلاحى 15
(4) انظر فى ذلك : Harry Shaw : Dictionary of literary terms
Long man : Dictionary of english idioms
Long man : New dictionary Magdi Whba : Dictionary of literary terms
Ntc’s American idioms dictionary
Oxford : Dictionary oxford
Webster’s dictionary(1/13)
تدلنا المعاجم الإنجليزية المتخصصة على أن اللغة الإنجليزية استعملت مصطلحين للدلالة على التعبير الاصطلاحى هما :Idiom و Idiomatic expression وسجلت له مجموعة سمات تحدده ، نوجزها فى أنه :
ـ هو أسلوب لغوى خاص بجماعة من الناس فى لغة ما .
ـ لا يمكن نقله إلى لغة أخرى .
ـ له قوانين لغوية خاصة به يخضع لها ، ربما تتفق أو تختلف وقواعد اللغة العامة .
ـ لا يستمد معناه من مجموع ألفاظه ؛ لأن ظاهر ألفاظه يؤدى معنى مخالفا لمعناها داخل التعبير ، ومن ثم ينبغى أن يدرس كوحدة دلالية متكاملة .
ـ يشمل كثيرا من الأمثال proverbs والعبارات الثابتة clichés والعبارات المأثورة common sayings والعبارات السوقية slang phrases والأفعال المرتبطة بحروف الجر أو الظروف phrasal verbs .
ـ ينفرد معجم "Harry Shaw " بخاصية ، مؤداها أن اللغة الإنجليزية توسعت فى مفهوم التعبير الاصطلاحى ليشمل المصطلح الحديث كمصطلح الوجودية existentialism ومصطلح الطبيعة naturalism . والباحث يرى أن هنا خلطا بين المصطلح term والتعبير الاصطلاحى idiom ، فالوجودية والطبيعية مصطلحات terms وليست تعبيرات اصطلاحية idioms ، وثمة فرق بينهما(1).
__________
(1) حول الفرق بينهما انظر : د.القاسمى : التعابير السياقبة والاصطلاحية ومعجم عربى لها 32(1/14)
ويعرف لوريتود التعبير الاصطلاحى بأنه "مجموعة من الكلمات التى لايمكن أن يتبين معناها من خلال المعانى المألوفة للكلمات التى تؤلف قطعة من اللغة، فالعبارة fly off the handle التى تعنى (ينفذ صبره) لا يمكن أن تفهم من خلال معانى الكلمات fly وoff وhandle. وتتضمن العبارات الاصطلاحية الاستخدام غير الحرفى للغة، وهى تختلف وفقا للقواعد الشكلية فى التعامل ، وتوجد فى الكلام المنطوق أكثر من المكتوب؛ وذلك لأن هذه العبارات من الأقوال المأثورة. وتتصف بالغموض، ويفضل تجنبها فى السياقات الرسمية، ومع أنها موجودة فى كل اللغات إلا أنه نادرا ما يمكن ترجمتها من لغة إلى لغة أخرى(1)ومن نماذج التعبير الاصطلاحى:
ممتاز good as gold
يوم لا ينسى a red letter day
بلا نظام ولا ترتيب at sixes and sevens
يموت kick the bucket
لتكن فى راحة ويسر be in clover
__________
(1) انظر لوريتوتود : مدخل إلى علم اللغة 98 : 100(1/15)
ويعرض أحد الباحثين العرب لمفهوم التعبير الاصطلاحى فى الإنجليزية ، مقسما إياه إلى نوعين : الأول منهما يشير إليه بمصطلح pure idiom ويعرفه بأنه المصطلح الذى لا يمكن تبريره منطقيا ؛ لأنه لاينقسم ولا يتفتت إلى العناصر التى يتكون منها ، أو هو مجموعة الكلمات التى تدل على معنى لا تدل عليه مفرداتها ، كل على حدة(1). ويسوق مثالا لهذا النوع بالتعبير to blow the gaff بمعنى (يفشى السر) فالفعل blow يعنى (ينفخ) وgaff بمعنى (عمود خشبى)، ومن ثم فمثل هذا التعبير لا يعتمد فى معناه على المعانى المعجمية لمفرداته، وإنما ينبغى أن يعالج معالجة كلية لا جزئية(2)، وذكر أن هذا النوع يصعب علينا إدراك تراكيبه فى اللغة العربية ، ويندر أن يوجد فيها ؛ لأن اللغة العربية لغة منطق وثبات(3).
أما النوع الثانى فلم يصطلح عليه ، وإنما ذكر أنه قريب الصلة من سابقه ، لكنه يتضمن كلمة ما أو إشارة إلى المعنى العام الذى يرمى إليه ، بل قد يوحى به من طرف خفى، ومن أمثلته: to spill the beans بمعنى (إفشاء السر) والمعنى الحرفى (ينثر حبات الفاصوليا على الأرض)، ومثله to let the cat out of the bag أى (يفشى السر) وحرفيته (يخرج القطة من الكيس)، ونظيره to kick the bucket أى (يموت) والمعنى الظاهرى (يركل الدلو)(4).
ثانيا فى اللغة الفرنسية(5):
__________
(1) انظر د.محمد عنانى : فن الترجمة 113
(2) انظر : نفس المرجع
(3) انظر : نفسه . ولا نوافقه على هذا ، فالعربية تحفل بشواهد كثيرة من هذا النمط من التعبيرات . انظر المعجم .
(4) انظر : نفسه 113 : 114 . نلحظ أن المثال الأخير لايستقيم مع النوع الثانى ، فلا علاقة بين الموت وركل الدلو .
(5) انظر : المصطلح expression idiomatique , idiome فى هذه المعاجم :
Alain Rey : Dictionnaire historique de la langue française
George Moumin : Dictionnaire de la linguistique
Jean Dubois : Dictionnaire de la linguistique
Jean Dubois : Dictionnaire de linguistique et des sciences du langue ...
Paul Robert : Dictinnaire de la langue française
Trésor : Dictionnaire de la langue française du X1Xe XX siècle (1789:1960)(1/16)
إذا ما فتشنا فى المعاجم اللغوية الفرنسية نجد أن مفهوم التعبير الاصطلاحى expression idiomatique وسماته لا يختلف عنه فى اللغة الإنجليزية، وقد أشارت المعاجم الفرنسية لهذا المفهوم تحت مصطلحات ثلاثة expression idiomatique , idiome و idiotisme وكلها ترتد إلى أصل واحد مشتق من idioma (هى كلمة لاتينية من أصل يونانى . ديشى)، وكان المصطلح فى البداية يعنى اللهجة الخاصة بمنطقة ما ثم انتقلت دلالته فأصبح يطلق على كل ما هو خاص بلغة ما، ثم ناله التطور اللغوى، فأصبح يعنى طريقة التعبير، ثم أطلق بعد تأثير تطور لغوى آخر على طريقة التعبير الخاصة بفترة زمنية ما أو الخاصة بجماعة ما من الناس، ثم تطور دلاليا فأضحى يعنى (نمطا خاصا بلغة ما). وذكر اللغوى De Saussure أن مصطلح idiome يعنى اللغة التى تعكس الملامح الذاتية لمجتمع ما(1).
ويمكن أن يستخدم المصطلح مرادفا للغةlangue(2)وقيل: يأتى بمعنى langue تستخدمه مجموعة من الناس فى موقف ما، مثلما حدث فى الحرب العالمية الثانية فى الجيش الفرنسى حينما كانت ثمة تعبيرات expressions idiomatiques مختلفة يتفاهم بها الجنود رغم اختلاف لغاتهم(3).
وقد ميزت المعاجم الفرنسية التعبير الاصطلاحى عن غيره من التعابير اللغوية بهذه السمات :
ـ هو نمط من الكلام خاص بجماعة ما من الناس .
ـ ليس له مقابل شكلى أو نحوى عند ترجمته إلى لغة أخرى
ـ تتم دراسته كوحدة لغوية متكاملة ؛ وفقا لقوانين لغوية خاصة به ، فلا يدخل ضمن النمط اللغوى العام .
ـ لا تستنبط دلالته من خلال تركيبه المورفيمى .
ومن التعبيرات الاصطلاحية الفرنسية :il y a (يوجد) وje n’en reviens pas (تعبير للدهشة)
__________
(1) Trésor : Dictionnaire de la langue française du X1Xe XX siècle (1789:1960
(2) انظر : :Trésor : Ibid (idiome
(3) انظر :Jean Dubois : Dictionnaire de la linguistique(1/17)
هذا..وقد عرفت الفرنسية مصطلحات ـ يمكن أن تعد ـ مترادفة للتعبير الاصطلاحى expression idiomatiquمثل : التعبير المسكوك أو الجامد(1)expression figée ، ومصطلح cliché الذى يعنى الذى يعنى الاستخدام المتكررلتعبير ما(2).
يقول الشاعر(3)Max Jacob فى كتاب (نصائح إلى شاعر شاب conseils à un jeune poét) " الكليشه cliché هو كلمة ثابتة ، تستخدم فى المحادثة ؛ لإبعاد الذات عن الشعور بالأشياء " .
ويصف رفاتيرRiffatirre الكليشه بأنه يثير فى القارئ الإحساس بأنه شاهده من قبل، فهو ممضوغ ومتحجر.. واستخدامه استخدام تعبيرى مثله مثل الأشكال البلاغية، وقد يكون هذا الاستخدام لدى بعض الكتاب استخداما آليا ، لا وظيفة فنية له، ولذلك يكتسب معنى مبتذلا باعتباره عبارة ممضوغة(4).
__________
(1) ثمة رسالة دكتوراه بالسربون بعنوان les expressios figées dans mille et une nui
د..مسرى جورج بجامعة حلب
(2) ظهر هذا المصطلح 1809 مستخدما فى مجال الطباعة ، ثم فى مجال التصوير الفوتوغرافى photographie وكان يعنى الصورة الانعكاسية التى نحصل عليها فى غرفة التحميض وذلك عام 1865 ثم أخذ المصطلح دلالة مجازية ، فأطلق على (الجملة أو الفكرة المكررة) عام 1896 ، وقد استخلص هذا المعنى من الجزء الأول من التعبير (نظام الطباعة) ثم انتشرت الكلمة ـ لما لها من شكل ثابت ـ بمعنى الاستخدام المتكرر للجمل . انظر Alain Rey : Ibid - cliché
(3) انظر : Paul Robert : Ibid - cliché
(4) انظر د.سيزا قاسم : البنيات التراثية فى رواية وليد بن مسعود 195:196(1/18)
وينقل د.كريم عن أحد الباحثين الغربيين أن كل تعبير اصطلاحى expression idiomatique يعد كليشه cliché وليس العكس(1)، وهذا رأى قابل للمناقشة ، حيث إنه يسوقنا لأن نعد كثيرا من الأمثال والعبارات المأثورة والعبارات السوقية والأفعال المرتبطة بحروف الجر كليشهات ؛ لأنها تندرج ضمن التعبير الاصطلاحى expression idiomatique ولعل الكليشه يندرج تحت التعبير الاصطلاحى، وهذا مايؤكده (American idioms dictionary ) حيث أورد كثيرا من التعابير الاصطلاحية ونص على أنها كليشهات(2)
ثالثا فى العربية :
إذا ما انتقلنا إلى اللغة العربية بحثا عن مصطلح التعبير الاصطلاحى ومفهومه ومصادره نجد أنها تفتقر إلى ذلك(3)، وقد حاول د.كريم أن يؤصل للمصطلح من خلال التفتيش والتنقيب فى المصادر العربية عن أية مصطلحات تقترب فى مدلولاتها من التعبير الاصطلاحى ، فانتهى إلى نتائج طيبة ؛ حيث رصد عدة مصطلحات وردت فى دراسات القدماء والمحدثين ، بعضها جاء يشكل عرضى فى ثنايا كتبهم، وأخرى جاءت قصدا أثناء معالجتهم لبعض القضايا اللغوية أو الأدبية.
__________
(1) انظر : التعبير الاصطلاحى : 18 هامش
(2) انظر :American idioms dictionary حيث أورد هذا المعجم كثيرا من التعبيرات الاصطلاحية ونص على أنها كليشهات clichés ومن تلك التعبيرات : (انظر هذه التعبيرات فى مواضعها من المعجم)
صدق ولا تصدق believe it or not
يموت bite the dust
ما يأتى سهلا يذهب سهلا easy come easy go
أول الأشياء أولا first things frirst
سامح وانسى forgive and forget
لا تبالى never mind
أمطرت بغزارة it rained cats and do
تمطر أو تبرق rain or shine
(3) يجدر الذكر بأنه ليست ثمة دراسات سابقة فى التعبير الاصطلاحى سوى دراسة د.كريم التى أشرنا إليها سابقا ، ومقال للدكتور على القاسمى بعنوان (التعابير السياقية والاصطلاحية ومعجم عربى لها) .(1/19)
أما التى جاءت عرضا فمثل : العبارة المأثورة، الكلام الماثور، القول المأثور، والقول السائر(1)، وأما الأخرى التى جاءت قصدا فمثل: التعبير الأدبى والتعبير البالى والتعبير المبتذل ، والثلاثة استعملها د.ذكى مبارك(2)وهو يعنى بالتعبير الأدبى التعبير الاصطلاحى، إذ يقول: "..لابن فارس رأى فى التعابير الأدبية ، فقد نقل لنا تعابير كثيرة ضاعت مغازيها من أذهان المتكلمين(3)، أما التعبير المبتذل فهو ترجمة للمصطلح الفرنسى cliché حيث يقول عن الكليشه: "وقد بحثنا فيما يقابل هذه الكلمة فى العربية، فرأينا كلمة (مبتذل) تؤدى معناها أفصح أداء، وهى كلمة استعملها علماء البلاغة حين قسموا التشبيه باعتبار الوجه إلى مبتذل وغريب، وعرّفوا المبتذل بأنه ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به من غير احتياج إلى شدة نظر لظهور وجهه، وعرّفوا الغريب بأنه ما احتاج فى الانتقال من المشبه إلى المشبه به إلى فكر ودقة نظر؛ لخفاء وجهه. وفى هذا التفسير بُعدٌ قليل بين كلمة (مبتذل) وكلمة (كليشه)؛ لأن الكليشه هو الصورة التى تكون لأول وضعها جميلة ثم تُستخفّ بكثرة الاستعمال، فلنقرر إذن أن كلمة (مبتذل) اصطلاح أردنا وضعه مقابل (كليشه)؛ لأنها أصلح الألفاظ لأداء المعنى الذى نريده فى وصف التعابير التى هجنها طول الاستعمال(4)، وأما التعبير البالى فهو مرادف للتعبير المبتذل، حيث يصف المبتذلات مثل (يحرقون الأرم) بأنها من التعابير البالية(5).
__________
(1) انظر كريم : التعبير الاصطلاحى 19
(2) أفرد ذكى مبارك فصلا بعنوان "المبتذل والطريف فى التعابير الأدبية" ردا على الفرنسى ديمومبين في رؤيته بأن التعابير الأدبية عند العرب أكثرها مبتذلات. انظر : النثر الفنى 1/21
(3) انظر : كريم 20
(4) انظر : ذكى مبارك 1/221
(5) انظر : المرجع السابق 1/228(1/20)
ويصف هذه التعابير بصفات التعبير الاصطلاحى من حيث الاتفاق والاصطلاح والاستمرارية، يقول "..ولو نظرنا لرأينا النقاد فى أكثر اللغات يحاكمون الكتاب والشعراء إلى المصطلح عليه من الألفاظ والتعابير.. والمعول عليه فى التعابير الأدبية هو حياتها فى أنفس قائليها ولاعبرة بالقدوم والحدوث"(1).
ومن المحدثين د.حسين نصار الذى استعمل مصطلح " التعبير الخاص" وذلك فى معرض تحليله لمنهج الزمخشرى فى أساس البلاغة الذى يعد من أهم المصادر اللغوية للتعبيرات الاصطلاحية ، يقول :" وضع الزمخشرى فى المجاز نوعين من التعبيرات هما: التعبيرات الخاصة التى فقدت معناها الحرفى من ألفاظها المؤلفة منها، وصار لها معان جديدة لا تمت للقديمة ، والأمثال .. أما التعبيرات الخاصة فتظهر فى مثل قوله فى (أبى): "ومن المجاز : لا أبا لك ولا أبا لغيرك ولا أبا لشانئك ، يقولونه فى الحث حتى أمر بعضهم لجفائه بقوله : أمطر علينا الغيث لا أبا لكما"(2).
نصل بعد ذلك إلى د.تمام حسان الذى استخدم خمسة مصطلحات تتقارب من التعبير الاصطلاحى وهى: التركيب المسكوك، والتعبير المسكوك، والصيغ المسكوكة، والعبارة المعيارية، والعبارة الشائعة(3)، ويقصد د.تمام بالمصطلحات الثلاثة الأولى التعبيرات الثابتة التى لا تتغير صورتها، والتعبيران الأخيران وصف بهما عبارات الوداع والاستقبال والتحية والتهنئة والرجاء والترحم والتعجب.
__________
(1) انظر : نفسه 1/229،231 ويرى ديشى أن هذه الصفات هى أهم صفات المثل والتعبير الاصطلاحى
(2) انظر: الزمخشرى: أساس البلاغة (أبى) ود.حسين نصار: المعجم العربى 2/701 وانظر كذلك: د.كريم : التعبير الاصطلاحى 21
(3) انظر : اللغة العربية مبناها ومعناها 114 ، 115 ، 117 ، 364 ، 372 وانظر د.كريم 23(1/21)
واستعارت د.سيزا قاسم مصطلح "التراكيب المسكوكة" وعرفتها بأنها "بنيات لغوية ثابتة ذات قوالب مستقرة، ويطلق عليها أحيانا اسم "الكليشه cliché" أو "العبارة الجاهزة" فى اللغة مثل صيغة التعجب أو اقتران بعض الكلمات ببعض"(1)، وأضافت مصطلحا آخر هو "العبارة الدارجة"(2).
كذلك من المحدثين الذين استخدموا مصطلحات قريبة الدلالة من التعبير الاصطلاحى د.شوقى ضيف فقد استخدم مصطلح "المثل proverbe" وهو المصطلح التراثى الذى استعمله القدماء، وقد جاء هذا المصطلح بصيغة الجمع فى قوله عن بعض أحاديث رسول الله: "وقد تداول العرب والمسلمون من كلماته الجامعة بعض أمثال لم يتقدمه فيها أحد، ومن ذلك قوله: مات حتف أنفه، كل الصيد فى جوف الفرا، لا ينتطح فيها عنزان، جماعة على أقذاء، إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، إياكم وخضراء الدمن"(3).
__________
(1) انظر : سيزا قاسم : البنيات التراثية 195 وانظر :كريم 24
(2) انظر : البنيات التراثية 193
(3) انظر : الفن ومذاهبه فى النثر 75 وانظر : د.كريم 24(1/22)
فكلمة (أمثال) هنا بمعنى التعبير الاصطلاحى؛ لأنها تدل فى الاستعمال على القول المأثور كما تذكر دائرة المعارف الإسلامية(1)، وقد تنبه بعض القدماء إلى هذه الدلالة، فيذكر التهانوى "أن المثل فى الأصل النظير، ثم نقل إلى القول السائر أى الفاشى"(2)، وينقل لنا ابن منظور(3)مجموعة من أقوال اللغويين تؤكد على أن من القدماء من استخدم مصطلح المثل بدلالة التعبير الاصطلاحى ومنهم أبوعبيدة؛ إذ يقول : "جاءوا على بكرة أبيهم، معناه جاءوا بعضهم فى إثر بعض، وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهى التى يستقى عليها الماء العذب ، فاستعيرت فى هذا الموضع، وإنما هو مثل". وأبوزيد الذى يقول: ".. ومن أمثالهم: إنه واسع الحبل، وإنه لضيق الحبل، كقولك: هو ضيق الخلق وواسع الخلق"، ويقول الأصمعى: "فى المثل هو على حبل ذراعك أى فى القرب منك، وهذا على حبل ذراعك أى ممكن لك وهو على المثل"، ويقول الأزهرى: "ومن أمثالهم: أتيته حين شد الظبى ظله، وذلك إذا كنس نصف النهار، فلا يبرح مكنسه، ويقال: أتيته حين ينشد الظبى ظله أى حين يشتد الحر فيطلب كناسا يكن فيه من شدة الحر". ويقول ابن سيده: "جاع إلى لقائه اشتهاه وتعطش على المثل".
كذلك نجد مصطلح (المثل) بمعنى التعبير الاصطلاحى يتردد فى كتب اللغة والبلاغة، فمثلا يقول ابن فارس واصفا كتابه (متخير الألفاظ): "إنما ألفت كتابى هذا على الطريقة المثلى والرتبة الوسطى، وجعلت مفاتيح أبوابه الألفاظ المفردة السهلة وختمته بالألفاظ المركبة الجارية مجرى الأمثال والتشبيهات"(4).
__________
(1) انظر : مادة "مثل" فى المرجع المذكور
(2) انظر : كشاف اصطلاحات الفنون (مثل) وانظر : كريم 25
(3) انظر : اللسان مواد ( بكر ، حبل ، ظبا ، جوع )
(4) انظر : ابن فارس : متخير الألفاظ 43(1/23)
وعلى النسق ذاته يصف الثعالبى كتابه (الفرائد والقلائد) بقوله: "جمعنا من إنشائنا فى كتابنا هذا ألفاظا وجيزة أجريناها مجرى الأمثال..وقصدنا فيما ألفناه من ذلك وجه الاختصار"(1).
ويعلق عبد القاهر الجرجانى على قول النبى ـ ص ـ (إياكم وخضراء الدمن) بقوله: "إنه ضرب عليه السلام خضراء الدمن للمرأة الحسناء فى المنبت السوء"(2)، ويفصح عن مفهوم المثل بدلالة التعبير الاصطلاحى بقوله: ".. يقال : ضرب الاسم مثلا لكذا، كقولنا ضرب النور مثلا للقرآن، والحياة مثلا للعلم، فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يعمد إلى نقل اللفظ من أصله فى اللغة إلى غيره ، ويجوز به من مكانه الأصلى إلى مكان آخر"(3). وبدقة بالغة يصف ابن رشيق صفات المثل بمعنى التعبير الاصطلاحى فى "إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى وحسن التشبيه"(4).
يذكر د.كريم أن القدماء استعملوا مصطلحين آخرين يقتربان دلاليا من مصطلح التعبير الاصطلاحى هما التمثيل والمماثلة(5)، أما الأول فقد استعمله الثعالبى فى مقدمة (ثمار القلوب)، يقول: "وبناء هذا الكتاب على ذكر أشياء مضافة ومنسوبة إلى أشياء مختلفة يتمثل بها، ويكثر فى النثر والنظم ، وعلى ألسن الخاصة والعامة استعمالها، كقولهم: غراب نوح، نار إبراهيم، ذئب يوسف عصا موسى"(6).
__________
(1) انظر : د.كريم 27 نقلا عن الفرائد والقلائد ـ المقدمة
(2) انظر : دلائل الإعجاز
(3) انظر : أسرار البلاغة
(4) انظر : العمدة 1/180
(5) نظر : التعبير الاصطلاحى 28 جدير ذكره أن البروفسير جوزيف ديشى يرى أن هذين المصطلحين بعيدان كل البعد عن معنى المثل والتعبير الاصطلاحى . والباحث يرى أن بينها صفات مشتركة، كالطبيعة المجازية ، والتشبيه
(6) انظر : ثمار القلوب 3(1/24)
إضافة إلى هذا فقد ألف الثعالبى كتابا، جعل المصطلح جزءا من عنوانه، هو (التمثيل والمحاضرة)، ويقول فى مقدمته: "إن فيه ما يتمثل به من القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وجوامع كلم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلام الأنبياء وكلام الصحابة والتابعين"(1).
ويسجل الزمخشرى المصطلح ، وذلك فى معرض تفسيره للتعبير الاصطلاحى (ظلعت الأرض بأهلها) فيقول ".. ضاقت بهم من كثرتهم ، وهذا تمثيل ، ومعناه : لا تحملهم لكثرتهم، فهى كالدابة تظلع بحملها لثقله"(2). ويقول ابن منظور: "يقال: أخذت بحقو فلان، الحقو فيه مجاز تمثيل، يقال: رمى فلان بحقوه إذا رمى بإزائه"، ويقول فى موضع آخر: "الصفا صخرة ملساء، يقال فى المثل: (ما تندى صفاته)، وفى حديث معاوية: يضرب صفاتها بمعوله وهو تمثيل، أى اجتهد عليه وبالغ فى استحسانه واختباره"(3).
أما المصطلح الآخر ـ وهو المماثلة ـ فقد ورد فى دراسات القدماء كسابقه بمعنى التعبير الاصطلاحى، غير أن استعماله كان أقل شيوعا، وممن تعرض له العسكرى فقد عرفه بقوله: "إن المتكلم يريد العبارة فيأتى بلفظة تكون موضوعة لمعنى آخر إلا أنه ينبئ إذا أورده عن المعنى الذى أراده ، كقولهم: فلان نقى الثوب، يريدون أنه لا عيب فيه، وليس موضوع نقاء الثوب البراء من العيوب، وإنما استعمل تمثيلا"(4).
__________
(1) انظر : د.كريم 29 نقلا عن التمثيل والمحاضرة : المقدمة
(2) انظر : أساس البلاغة ـ ظلع
(3) انظر : لسان العرب حقو ، صفو
(4) انظر : د.كريم 30 نقلا عن العسكرى فى الصناعتين(1/25)
هذه هى المصطلحات التى وردت فى دراسات اللغويين عرضا أو قصدا، حاملة دلالات تقترب من دلالة التعبير الاصطلاحى وليست مترادفة؛ لأن هذه المصطلحات نفسها ليس بينها ترادف، فكيف تترادف مع التعبير الاصطلاحى(1)؟!
التعبير الاصطلاحى والمعاجم :
تفتقر لغتنا العربية إلى معاجم متخصصة للتعبيرات الاصطلاحية(2)، غير أن بعض المعاجم الثنائية (إنجليزى ـ عربى أو فرنسى ـ عربى) ذكرت مجموعة من التعبيرات الاصطلاحية expression idiomatique ، من تلك المعاجم معجم إلياس يقول صاحبه: "..كذلك أدرجت طائفة كبيرة من العبارات والجمل الاصطلاحية علمية كانت أو فنية أو عامية ، ووصفت ما يقابلها من الاصطلاح العربى المألوف"(3).
__________
(1) يقول :"ولقد حاولنا فى عدد لابأس به من الدراسات اللغوية والأدبية عند المحدثين والقدماء البحث عن مصطلح التعبير الاصطلاحى أو ما يرادفه من المصطلحات .. " وربما أحس بضعف الترادف، فعاد فذكر "أن هذه المصطلحات لا تعطينا تصورا دقيقا لمفهوم ظاهرة التعبير الاصطلاحى" انظر: التعبير الاصطلاحى 18 ، 31
(2) لم يوجد ـ على حد علم الباحث ـ معجم يحمل عنوانه (التعبيرات الاصطلاحية) ، غير أننا نمتلك بين أيدينا معجما لسليمان فياض بعنوان ( التعبيرات الأدبية والمأثورات اللغوية) ، وهو معجم ثرى بالتعبيرات الاصطلاحية لاسيما التعبيرات المثلية ، وهذا يشير إلى جهد مشكور لصاحبه . فى المقابل نجد أن الإنجليزية والفرنسية غنيتان بالتعبيرات الاصطلاحية :
من المعاجم المتخصصة فى الإنجليزية: Dictionary Englich Idioms: Longman’s Ntc’s american idiom dictyiona ومن المعاجم الفرنسية :
Denis miannay : Dictionnaire des expressions idiomatiques françaises
(3) انظر : مقدمة معجم إلياس(1/26)
فضلا عن ذلك فقد عثرنا على معجمين متخصصين فى التعبيرات الاصطلاحية أحدهما (إنجليزى ـ عربى) ألفه إسماعيل مظهر الذى يصفه بقوله: " هذا أول معجم من نوعه فى اللغتين الإنجليزية والعربية ، قصدت به أن يكون مرجعا للجمل والعبارات الاصطلاحية التى تعرف فى الإنجليزية idioms ، كما لاحظت فيه حصر الجمل التى تستعمل فيها بعض الألفاظ بطريق مجازى"(1).
ويحسن بنا أن نعرض لمادة من مواد القاموس؛ لتبيان غرض المؤلف من تأليفه، ولتكن مادة clear يقول(2):
سماء صافية A clear sky
أمان The streets are clear
الابتعاد للأمن To keep clear off
تباع (يتخلص منها) These goods must be cleared
يثبت براءته Clear one’s character
يغطى نفقاته To clear one’s costs
يتم عملا Clear off (work)
انصرف Clear out
__________
(1) انظر : إسماعيل مظهر : قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية : المقدمة وتجدر الملاحظة أن د.كريم ذكر أنه " معجم مغمور لم يلتفت إليه أحد ولم يوجد فى المكتبات الكبرى " التعبير الاصطلاحى 32 ومن الجدير بالذكر أننا حصلنا على نسخة منه فى المكتبة الإنجليزية بكلية الآداب بالمنيا ط أولى 1950 وقد تم تصويرها .
(2) انظر :Ismail Mazhar : A dictionary of sentences and idioms p. 71(1/27)
وإذا كان للدكتور كريم فضل الإشارة إلى قاموس إسماعيل مظهر وعده فريدا من نوعه، فإن الباحث يضيف إليه قاموسا آخر يتميز عليه بأنه مزدوج bilingue عربى فرنسى ـ فرنسى عربى) ويفوقه فى المادة اللغوية ؛ حيث إنه جمع بين الأمثال proverbes والحكم maximes والتعبيرات الاصطلاحية expressions idiomatiqu وهو قاموس المنجد لجوزيف نعوم(1)، ونقف على بعض مواد المعجم لنلقى مزيدا من الضوء على منهج المؤلف ، وقد اخترنا من المواد الفرنسية كلمة chaque يقول(2):
لكل يوم من العناء ما يكفيه A chaque jour suffit sa peine
كل فتاة بأبيها معجبة A chaque oiseau son nid est beau
لكل مقام مقال A chaque saint sa chandelle
واخترنا من المواد العربية كلمة أخ ، يقول:
إذا عز أخوك فهن
lorsque ton frère devient trop puissant fais , toi humble ou soumets -
رب أخ لك لم تلده أمك
parfois un frère pour toi est quelqu’un que ta mère n’a pas mis au monde - bonne amitée est un seconde . إن أخاك من إن أخاك من آساك
On connait le veritable ami dans le besoin
حد المصطلح وسماته :
بعد ما عرضنا بموجز من القول لمفهوم التعبير الاصطلاحى وسماته فى الإنجليزية والفرنسية نعرض له فى العربية . والحق أن العربية تفتقر إلى هذا الدرس اللغوى ، حيث إنه لم يتعرض له باحث عربى غير د.القاسمى ود.كريم ، وقد سلفت الإشارة إليهما .
__________
(1) انظر J. Naoum : Mounged des proverbes, sentences et expressions idiomatiques:
(2) انظر هذه المواد فى مواضعها من المعجم السالف الذكر(1/28)
أما الأول فقد ذكر أن التعابير الاصطلاحية هى جزء من ظاهرة لغوية عالمية لفتت انتباه الدارسين، وأطلقت عليها أسماء عديدة كالتضام والتوارد والقرائن اللفظية، وهى عبارة عن تطلب الكلمات لكلمات معينة واستدعائها إياها .. ومعظم كتب تدريس اللغة العربية لم تتطرق لهذا النوع من التعابير، كما أن المعاجم العربية تكاد تخلو مداخلها منها ويضيف أن اللغة العربية قديما وحديثا تحفل بالتعابير الاصطلاحية، فمثلا الفعل (أطلق) الذى يعنى (حرر) يدخل فى بنيات عدد من التعابير الاصطلاحية مثل: أطلق سراحه: أخلى سبيله، أطلق له العنان: جعله يتصرف على هواه، أطلق ساقيه للريح: فر مسرعا. وكذلك الفعل (مال) الذى يعنى (زال عن استوائه) فهو يظهر فى عدة تعابير اصطلاحية مثل: مال إلى : أحب .....مال عن حاد(1).
أما د.كريم فقد عرف التعبير الاصطلاحى بأنه "نمط تعبيرى خاص بلغة ما، يتميز بالثبات، ويتكون من كلمة أو أكثر، تحولت عن معناها الحرفى إلى معنى مغاير، اصطلحت عليه الجماعة اللغوية".
ونلحظ أن هذا التعريف أكثر سعة من سابقه ، وإذا ما قارناهما بتعريف لوريتوتود المذكور سالفا نجد أنه أكثر منهما دقة وشمولا .
ويمكن للباحث من خلال ما تقدم أن يضع تعريفا للتعبير الاصطلاحى يخلص فى أنه "نمط من الكلام خاص بلغة ما موجز ثابت يتصف بالمجاز لا يترجم يدرس كوحدة لغوية واحدة وفقا لقواعد لغوية خاصة تتفق أو تختلف مع القواعد اللغوية العامة"(2).
__________
(1) انظر : د.القاسمى : التعابير السياقية والاصطلاحية 18 ، 19 ، 25
(2) جدير بالذكر أن الباحث ناقش هذا التعريف مع د. أسمهان صالح أستاذة علم اللغة بجامعة حلب ، ووصفت هذا التعريف بأنه جامع مانع . كما أشارت بجدية الموضوع وحداثته على الساحة اللغوية المعاصرة ، وأن التعبير الاصطلاحى هو حقل لم يحظ بقسط واف من الدرس الحديث الغربى والعربى . تمت هذه المناقشة فى جامعة ليون 1997 .(1/29)
ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نسجل له هذه السمات:
ـ هو وحدة دلالية مغايرة لمعانى ألفاظه
ـ لا يجوز التغيير كالتقديم والتأخير فى ألفاظه؛ لأنه يتسم بالثبات فى تركيبه ودلالته.
ـ لا يترجم إلى لغة أخرى ترجمة حرفية؛ لعدم وجود مقابل حرفى أو شكلى، إنما يراعى فى الترجمة الطبيعة المجازية والبيئة الجغرافية والثقافية التى شاع فيها التعبير.
ـ يتسم بالإيجاز فى لفظه ، فقد يصل إلى كلمتين أو كلمة واحدة(1)وقد يكون موجزا فى دلالته.
أنواع التعبيرات الاصطلاحية :
يمكن تصنيف التعبيرات الاصطلاحية أربعة أصناف(2):
الأول: يعتمد على أسماء أعلام أو أماكن كعناصر دلالية يقوم عليها التعبير الاصطلاحى مثل: مواعيد عرقوب، يوم حليمة. إضافة إلى ما جاء من تعبيرات على صيغة (أفعل من).
الثانى: يعتمد على تعبيرات معروفة المعنى مجهولة التواضع، وقد حفلت مصادر الأمثال بكثير من هذا النوع.
الثالث: يرتبط فى صياغته وتشكيله بأفراد آحاد متميزين ، نطقوا بها فى ظروف ما، ثم كتب لها الشيوع، وأصبحت ملكا للجميع، وقد امتلأت كتب الأمثال بهذا النوع من التعبيرات.
__________
(1) من النمط الثنائى فى العربية قولهم : سحابة صيف ، ابن السبيل ، عصا موسى ، سفينة نوح .. وفى الانجليزية قولهم كذبة بيضاء white lie ، نصيب الأسد lion’s share ، صريح open-hearted، كريم open-handed . ومن النمط الأحادى فى العربية : القارورة ، النعجة ، آية (كامل الخلق)، عرفت العربية مثل هذه الكلمات وأدرجتها تحت باب الكنايات . وفى الإنجليزية lemon التى تعنى نوعا من الثمار وتعنى أيضا المراة المشاكسة ، وcat التى تعنى القطة والمرأة البذيئة انظر هذه التعابير فى مواضعها من : الثعالبى : ثمار القلوب ، و Ismail Mazhar : dictionnaire..
(2) انظر : د.كريم : مرجع سابق125(1/30)
الرابع: التعبير المثلىl’expression proverbale وهذا النوع يتمتع بالانتشار، وهو يعد أساسا كأمثال proverbes من مأثورات البيئة، ثم تحولت إلى مقولات صالحة للتعبير عن مواقف مشابهة ومتكررة، وأصبحت من المعجم اللغوى للتعبيرات الاصطلاحية(1).
ويذكر د.كريم أن هذا النوع يتضمن حكمة أو حقيقة عامة تتضمنها التعبيرات الاصطلاحية المعهودة كما أنه يعكس فى نفس الوقت أفكار الجماعة اللغوية وتجاربها ومعتقداتها(2).
__________
(1) من المعاجم التى اعتنت بالتعبير المثلىفى العربية معجم التعابير الأدبية والماثورات اللغوية لسليمان فياض . وفى الإنجليزية : المعجم الأمريكى Ntc’s american dictionary idioms ، أورد هذا المعجم العديد من الأمثال الأمريكية التى تعد من وجهة نظر صاحبه ـ ونحن على وفاق ـ تعبيرات اصطلاحية مثلية مثل : ( انظر هذه التعبيرات فى مواضعها من المعجم )
خير الأمور أحمدها مغبة All’s well that ends well
ليس لضعيف رأى Beggars can not be choosers
الطيور على أشكالها تقع Birds a of feather flock together
الدهر مرة عيش ومرة جيش Every has his day
لكل سحابة من فضة Every cloud has a silver lining
تحت السواهى دواهى Still waters run deep
وجدير بالإشارة أن المعجم خاص باللغة الإنجليزية ، وقد حاولنا ـ إلىحد كبير ـ أن نضع المقابل العربى لهذه التعبيرات من خلال كتب الأمثال العربية .
(2) انظر : التعبير الاصطلاحى 129 والباحث ليس على وفاق تام فى أن التعبير الاصطلاحى يتضمن حكمة ؛ لأننا إذا نظرنا للتعبيرات الاصطلاحية الواردة فى البحث نجد أن قليلا منها ما يمكن أن يعد حكمة . وانظر كذلك د.القاسمى 31(1/31)
والتعبيرات المثلية ارتبطت بآحاد معينين، وتناقلتها الجماعة اللغوية، وتميزت بالتكرار والصيرورة، وأصبحت من التعبيرات الاصطلاحية الشائعة، كما تميزت أيضا بأنها تركيبات نحوية كاملة قائمة على الجملة النواة حتى لو كان التعبير كلمة واحدة، فهو جملة نواة تحتوى على عنصريها المسند prédicat والمسند إليه sujet محذوف أحد عنصريها (غالبا المسند)، وهذه الصورة لا نجدها إلا فى النمط الاسمى.
كذلك يتميز هذا النوع بالثبات وعدم التغير فى فى بنيته ودلالته، ومن أمثلته: (لا ينتطح فيها عنزان، إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، إياكم وخضراء الدمن، الصيف ضيعت اللبن رمتنى بدائها وانسلت ، لا تعدم الحسناء ذاما ، تجوع الحرة ولا تاكل بثدييها..)(1).
التعبير الاصطلاحى والمثل
سلف الذكر لمفهوم المثل وسماته وأنواعه ، وكذلك الأمر بالنسبة للتعبير الاصطلاحى ، ونحاول هنا أن نرصد ما بدا لنا من أوجه وفاق وخلاف فيما بينهما ، وسننطلق من مجموعة النقاط التى ذكرها د.القاسمى(2).
ـ ذكر أن كليهما يتألف من كلمات قليلة، ولكن المثل يشتمل على حكمة تعبر عن حقيقة عامة أو أزلية، فى حين يخلو التعبير الاصطلاحى من الحكمة العامة. والباحث لا يوافقه على ذلك؛ لأن المثل عدة أنواع أحدها المثل الحكمى، وثمة كثير من الأمثال لاتعبر عن الحكمة، خصوصا ما جاء منها على صيغة (أفعل من) وقد حفلت بها مصادر الأمثال، وكذلك التعبير الاصطلاحى عدة أنواع منها التعبير المثلى، فضلا عن أن كل الأمثال التى جاءت على وزن (أفعل من) هى تعبيرات اصطلاحية.
ـ ذكر أن القرائن النحوية كالإعراب أو الرتبة أو المطابقة أو التضام لا تتغير فى المثل، فى حين أنها تتغير فى التعبير الاصطلاحى، ولسنا على وفاق فى ذلك، فكلاهما يتسم بالثبات فى بنيته ودلالته.
__________
(1) انظر هذه التعبيرات فى المعجم الشامل للتعبيرات الواردة فى هذه الرسالة .
(2) انظر : التعابير السياقية والاصطلاحية 31(1/32)
ـ المثل جملة تامة، أما التعبير الاصطلاحى فقلما أن يكون جملة مستقلة، إنما غالبا هو جزء من جملة. ونحن نرى أن هذا الرأى قد جانبه الصواب، وسنفصح عن ذلك فى الدراسة التركيبية من هذا البحث ، ونكتفى هنا أن نشير إلى أن نسبة الأمثال التى على صيغة (أفعل من) تشكل أعلى نسبة تردد فى كتب الأمثال، بل ثمة كتاب مخصص لهذا النمط المثلى هو كتاب الدرة الفاخرة لحمزة الأصفهانى، وكذلك كتاب ثمار القلوب للثعالبى اشتمل على عدد كثير من الأمثال التى على نمط: (سفينة نوح، عصا موسى، خاتم سليمان). وكلاا هذين النمطين ناقص فى ظاهر تركيبه، لكنه جملة تامة وليس جزءا من جملة؛ لأنه يفيد معنى تاما، ومن ثمة فهو جملة، وأدنى أنواع الجمل الجملة الدنيا phrase minimale وهى لاتخلو من عنصريها النواة(1).
ـ ذكر أن المثل يمكن ترجمته من خلال فهم ألفاظه ، ولا يمكن هذا فى التعبير الاصطلاحى . ولا نوافقه على هذا ؛ لأن كلا منهما ذو استعمال مجازى ، لا يترجم من خلال ألفاظه ، وإنما تنقل دلالته .
ـ ذكر أنه بينما يمكن الاستعاضة عن التعبير الاصطلاحى بكلمة واحدة ، لايمكن هذا فى المثل. ونحن لا نوافقه فى هذا؛ لأن المثل يمكن أن نستعيض عنه بكلمة، فنقول:
إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ........ الوسطية (أو الاعتدال)
إن من البيان لسحرا ............................. البلاغة (أو الفصاحة)
سبق السيف العذل ................................. نفاذ الأمر (انتهاؤه)
ـ نضيف إلى ذلك أن كلا منهما يدرس بوصفه وحدة لغوية واحدة ، ومن ثم فلا يكاد الفرق بينهما يُلمَس.
التعبير الاصطلاحى والتعبير السياقى(2):
__________
(1) انظر: Roman : Grammaire de l’arabe p 86: 88
(2) انظر : د.القاسمى : مرجع سابق 28(1/33)
كشفنا فيما سبق عن مفهوم التعبير الاصطلاحى، ومن ثم نقصر القول على التعبير السياقى، وهو توارد أو تلازم كلمتين أو أكثر بصورة شائعة فى اللغة، وذلك للتماثل بين الملامح المعجمية المكونة لكل منهما ولا يكون هذا التلازم إجباريا، كما لايشكل وحدة لغوية كاملة، ومن أمثلته قولهم: مكة المكرمة، المدينة المنورة، القدس الشريف، صديق حميم .. وهو ذو سمات خاصة تميزه عن غيره من التعبيرات، نوجزها فيما يلى:
ـ نستشف معناه من خلال الكلمات المكونة له .
ـ يمكن أن يرد أحد عناصره منفردا فى سياق آخر ، فنقول مثلا : (القدس) دون أن نردفها بالشريف .
ـ لا يمكن الاستعاضة عنه بكلمة واحدة .
ـ يخضع للتغيير والتبديل فى تركيبه.
التعبير الاصطلاحى والمصطلح(1)terme :
ما الفرق بين التعبير الاصطلاحى والمصطلح ؟ أما الأول فقد عرضنا له من قبل، وأما الثانى فهو اسم يطلق على شئ أو مفهوم معين فى حقل ما من حقول العلم والمعرفة ، وقد يتألف من كلمة مثل مصطلح (النحو) ، (الصرف) .. وقد يتألف من أكثر من كلمة مثل : (الحساب الجارى )، (الحاسوب الآلى) ، ويستعمل فى نصوص الموضوعات المتخصصة ، كمصطلحات (النحو) فى اللغة العربية . ويمكن إدراك معناه من لفظه. وهو يبدأ باسم ، على عكس التعبير الاصطلاحى فهو متنوع ما بين الاسم والفعل والحرف.
__________
(1) انظر : مادة (terme) فى المعاجم الأجنبية المذكورة سالفا فى مفهوم التعبير الاصطلاحى فى اللغات الأجنبية .
وانظر : د.محمود فهمى حجازى : الأسس اللغوية لعلم المصطلح ـ المقدمة 7 : 27
د.على القاسمى : مرجع سابق 32(1/34)