بسم الله الرحمن الرحيم
إن أفضل ما تحلت به جياد المعاني والبيان وتباهت ببديع أنسه قلوب أهل العرفان، الثناء على الله المختص على الحقيقة بالكمال المنزه في ذاته وصفاته عن شائبة المثال، والصلاة والسلام على أفصح الأنام، محمد الذي بلغ المسند إليه غاية المرام، وعلى آله وأصحابه الطيبين الباذلين نفوسهم في تشييد قواعد الدين،(وبعد) فيقول العبد الفقير الحقير، الراجي من مولاه الخروج من سجن التقصير، أحمد الدمنهوري متعه الله بحصول آماله، ومنّ عليه بكمال التوفيق في أقواله وأفعاله: هذا بيان للرسالة الموسومة (( بالجوهر المكنون)) في علم البيان للعارف بالله تعالى سيدي عبد الرّحمن الأخضري رحمه الله تعالى ونفعنا به، قد التمسه مني العلامة النبيل، والنحرير الدرّاكة الجليل، سيدي عبد الرّحمن السوسي، أفاض الله علينا وعليه من بحر النوال، ورزقنا وإياه النسج على أحسن منوال، طالبا مني السهولة في البيان، لينتفع به المبتدئون في علم البيان، فأجبته وإن كنت لست أهلا لذلك، ولا من رجال تلك المهامه والمسالك ولكن حسن ظني بمفيض الإنعام، هو الذي حملنيعلى الحلول في هذا المقام، راجيا منه سبحانه وتعالى حسن القبول، والفوز برضاه بمحض فضله فإنه المأمول، وسميته ((حلية اللب المصون بشرح الجوهر المكنون)) والله أسأل من فيضه العميم، أن ينفع به من تلقاه بقلب سليم، إنه مفيض الخير والجود وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم(1/1)
أقول: ابتدأ بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بخبر ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر)) وفي رواية ((كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)) ولا تعذر في العمل بالحديثين لحمل الابتداء فيهما على الأعم من الحقيقي والإضافي أو لحمله في الأوّل على الأوّل وفي الثاني على الثاني كما في القرآن المبين كيفية العمل بهما على أن اشتراط تحصيل البركة بالابتداء بهما معا محمول على الكمال وأما أصلها فحاصل بأحدهما بل بكل ذكر غيرهما كما يدل له رواية بذكر الله الدالة على اعتبار جهة عمومها وفي وصف الأمر بما بعده فائدتان: الأولى تعظيم اسم الله تعالى حيث لا يبدأ به إلا في الأمور التي لها شأن وخطر، الثانية التيسير على الناس في محقرات الأمور. وأورد أن كلا من البسملة والحمدلة من أفراد موضوع قضية الحديث فيحتاج كل منهما حينئذ إلى سبق مثله ويتسلسل. وأجيب بأن كلاً منهما كما يحصل البركة لغيره ويمنع نقصه كذلك يجب أن يحصل مثل ذلك لنفسه كالشاة من الأربعين تزكى نفسها وغيرها والباء في البسملة متعلقة بمقدّر وكونه فعلا ومن مادة التأليف هنا ومتأخرا أولى. أما الأول فلأصالة الفعل في العمل. وأما الثاني فلأنه أمسّ بالمقام إذ لا يشعر تقدير خلافه بما جعلت البسملة مبتدأ له. وأما الثالث فلأن تقديم المعمول هنا أدخل في التعظيم ودالّ على الاختصاص كما في – إياك نعبد -.
والاسم عند البصريين أحد الأسماء التي كثر استعمالها فخفف بحذف أعجازها وتسكين أوائلها ثم اجتلبت همزة الوصل عند الابتداء بها توصلا للنطق بالساكن واشتقاقه من السموّ فأصله عند البصريين سمو ووزنه فعل وبعد التغيير أفع وعند الكوفيين أصله وسم حذفت الواو وعوض عنها همزة الوصل واشتقاقه من السمة وهي العلامة فالوزن قبل التغيير فعل وبعده أعل .(1/2)
والله علم على الذات الواجب الوجود ووصف الذات بما بعدها بيان للمسمى لا لاعتباره فيه وإلا لكان المسمى مجموع الذات والصفة وليس كذلك بل هي وحدها وقيل مع الصفة واعترض على جعل الله علما بأن وضع العلم بإزاء ذاته تعالى فرع تعقله ولا تعقل فلا وضع وأجيب بتعقله تعالى بصفاته والمنفي تعقله بكنه حقيقته وهو غير لازم في وضع العلم على أن الواضع مطلقا أو واضع هذا الاسم وهو الله تعالى علمه لغيره بوحي أو إلهام.
والرحمن الرحيم اسمان بنيا للمبالغة مشتقان من رحم أي من مصدر ذلك والرحمة رقة في القلب وانعطاف تقتضي التفضل والإحسان وأسماؤه المماثلة لهذه مأخوذة باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات لاستحالة الكيفيات النفسانية عليه تعالى فالرحمة هنا مجاز مرسل عن الإحسان أو إرادته استعمالا لاسم السبب في المسبب والأول أبلغ من الثاني لزيادة بنائه كما في قطع وقطع ولا نقض بحذر وحاذر لعدم التلاقي في الاشتقاق وقدّم الله على تالييه لأنه اسم ذات وهي مقدّمة على الصفة فقدم ما يدلّ عليها وهذا التقديم تعقلي وإلا فذات الله تعالى وصفاته ليس فيها تقديم ولا تأخير بحسب الواقع وقدم الرحمن على تاليه لأنه صار علما بالغلبة التقديرية من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى وأما قوله* وأنت غيث الورى لازلت رحمانا * فخطأ نشأ عن التعنت في الكفر واعترض بأن الصناعة تقتضي الترقي للأبلغ من غيره كما في عالم نحرير. وأجيب بجعل الثاني كالتتمة للأول باعتبار جلالة النعم فيه دون الثاني ومن أراد تحقيق الكلام على البسملة فعليه برسالتنا (كشف اللثام عن مخدرات الأفهام) فإنها من أجل ما ألف في هذا المقام. قال:
الحَمْدُ لِلَّهِ البَدِيع الهَادِي = إلى بيَانِ مَهيَع الرشاد(1/3)
أقول: الحمد لغة هو الثناء بالكلام على المحمود بجميل صفاته، واصطلاحا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه ومعنى الشكر لغة هو معنى الحمد اصطلاحا بإبدال لفظ الحامد بالشاكر واصطلاحا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله وجملة الحمد مفيدة له ولو كانت خبرية لأن الإخبار بالثناء ثناء ولاختصاص جميع أفراده به تعالى وإن أشير بأل إلى غير كل الأفراد لكون الحمد صفة ذات أو صفة فعل وقدم المسند إليه للأصل والبلاغة وعرّف بأل ليتأتى ما يصلح أن يراد بها وتحقيق الكلام على الحمد والشكر والمدح لغة واصطلاحا والنسبة بين أفراد الجميع في الرسالة المتقدمة والبديع المبدع للشيء على غير مثال فهو فعيل بمعنى فاعل ويطلق على الشيء المبدع فهو بمعنى مفعول وإطلاقه على الله تعالى صحيح بالمعنى الأوّل مستحيل بالمعنى الثاني. والهادي يطلق على الدّال على الطريقة الموصلة إلى المطلوب وعلى خالق الهداية في القلب وهو بالمعنى الأول مشترك بين الله وأنبيائه وأوليائه وكل داع إليه تعالى من خلقه وهو المراد هنا وبالمعنى الثاني خاص به تعالى والبيان الإيضاح والمهيع الطريق والرشاد الصواب وفي ذكر البديع وبيان براعة استهلال وهي أن يذكر المتكلم في أول كلامه ما يشعر بمقصوده كما يأتي في الفنّ الثالث. قال:
أمدَّ أَرباَب النُّهَى ورَسمَا = شمَس البَيَان في صدُورِ العُلَمَا(1/4)
أقول: الإمداد إعطاء المدد. وهو الزيادة في الخير والأرباب جمع رب والمراد به هنا الصاحب والنهى جمع نهية وهي العقل. والرسم هنا عبارة عن الإثبات والبيان المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير وإضافته لما قبله من قبيل لجين الماء ويحتمل تشبيه البيان بالنهار ففيه مكنية وتخييلية. ويحتمل استعارة الشمس لقواعد علم البيان فالاستعارة تحقيقية. ومعنى كون البيان كالشمس أنه يظهر به غيره، وهو المعاني كما أن الشمس يظهر بها غيرها وإن كان الظهور الأول معنويا والثاني حسيا أي باعتبار المتعلق فيهما والرسم لمعنى البيان لا له والصدور جمع صدر مرادا به هنا القلب أي اللطيفة فهو مجاز بمرتبتين وأل في العلماء للكمال أي العاملين وفيه تنبيه على أن العلم لا يستقر ولا يثبت إلا في قلب تخلى عن الرذائل لمصادفته قلبا خاليا فيتمكن فإن الحكمة إذا لم تجد القلب كذلك فإنها ترجع من حيث أتت .
قال:
فأبصروا معجزة القُرْآنِ = واضحةً بساطعِ البرهانِ
أقول: الفاء تفريعيّة والمراد بالإبصار هنا القلبي أي النظر بعين البصيرة والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي فإضافته لما بعده بيانية إذ المراد به النظم المعجز وإن كان يطلق بالاشتراك اللفظي على الصفة القديمة أيضا فالإضافة قرينة معينة، وقوله بساطع البرهان من إضافة الصفة للموصوف أي البرهان الساطع أي الظاهر والبرهان العقلي قياس مركب من قضايا يقينية والمراد به هنا ما يعم النقلي، ولا شك أن كون القرآن من كلام الله تعالى الناشئ عن الإعجاز المفهوم من معجزة ثابت بالبراهين. أما الأول فكقولنا هذا الكلام معجز وكل معجز ليس من تأليف المخلوق فيكون من تأليف الخالق إذ لا واسطة. وأما الثاني وإن ترتب على الأول فكقوله تعالى- {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن}- الآية. قال:
وَشَاهَدُوا مَطَالعَ الأنوارِ = وما احتوتْ عليهِ منْ أسرارِ(1/5)
أقول: شاهدوا معطوف على أبصروا فهو من ثمرات رسم البيان أيضا والمراد بالمشاهدة بعين البصيرة والمطالع جمع مطلع وهو محل الطلوع والأنوار جمع نور وهو ما به ظهور الأشياء والمراد به هنا العلم لأنه به تظهر المعلومات والأسرار جمع سرّ وهو المعنى الخفي ومعنى البيت أنهم بواسطة إمعان النظر الناشئ عما رسم في قلوبهم شاهدوا معاني كلمات القرآن التي هي كمطالع الأنوار الحسية بجامع ما ينشأ عن كلّ من النور محسوسا في الثاني ومعقولا في الأول وشاهدوا ما اشتملت عليه تلك الأنوار أي العلوم من أسرار أي نكات خفية إذ خبايا القرآن وخفاياه تقف دون آخرها العقول بدليل وما يعلم تأويله إلا الله وإدراك بعضها إنما يكون بالتنوير جعلنا الله من أهله قال:
فنزَّهوا القلوبَ في رياضِه= وأورَدُوا الفِكْرَ على حِيَاضهِ
أقول: الرياض جمع روضة والمضاف إليه ضمير القرآن على تقدير مضاف هو معاني ولما كانت النفوس الناطقة تنتعش باقتناص المعاني كما تنتعش بالأقوات الأشباح والمباني شبه معاني القرآن بالرياض بجامع تنزه النفس الناطقة بملابستها كتنزهه القالب الجسماني بالرياض المحسوسة فإضافة رياضه من قبيل لجين الماء مع مراعاة المضاف المتقدّم كإضافة حياض بعده لما بعده وإن كان المقصود نوعا من المتوسط بين المتضايفين. والفكر حركة النفس في المعقولات وحركتها في المحسوسات تخييل والحياض جمع حوض وقعت واوه بعد كسرة قلبت ياء أي على معانيه التي هي كالحيض المحسوسة بجامع شفاء الصدر في كل منهما ولا يخفى عليك تفريع هذا البيت على ما قبله قال:
ثم صلاةُ اللهِ ماترنمَّا= حادٍ يسوقُ العيسَ في أرضِ الحِمَا
على نبيٍّنا الحبيبِ الهَادِي = أجلِّ كلِّ ناطقٍ بالضَّادِ
محمدٍ سيّدِ خلقِ اللهِ = العربيٍّ الطاهرِ الأوًّاهِ(1/6)
أقول: الصلاة لغة العطف فإن أضيف إلى الله تعالى سمي رحمة أو إلى الملائكة سمي استغفارا أو إلى غيرهما سمي دعاء فهي مقولة على هذه المعاني بالاشتراك المعنوي والترنم التغني والعيس الإبل وحاديها سائقها المغني لها ليحصل لها نشاط في السير والحمى الممنوع من قربه والمراد به أرض الحجاز لمنع الكفار من الإقامة بها والمقصود طلب تأبيد الصلاة بجملتها لا التأقيت والنبي إنسان أوحي إليه بشرع فإن أمر بتبليغه سمي رسولا أيضا وهو بالهمز من النبأ أي الخبر فيصح أن يكون بمعنى فاعل باعتبار أنه مخبر بكسر الباء عن الله عز وجل أو بمعنى مفعول باعتبار أن جبريل أخبره عن الله تعالى وبالياء من النبوة وهي الرفعة فيصح أن يكون بمعنى مفعول لأنه مرفوع الرتبة عن غيره أو فاعل لرفعه غيره إذ ما من مرفوع إلا وباب رفعته النبي - صلى الله عليه وسلم - والحبيب يصح أن يكون بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول والهادي المرشد غيره وأجل بمعنى أعظم وكل ناطق بالضاد أشار به لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه متكلما فيه بالوضع ((أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش)) ومقصوده الثناء على المصطفى صلى الله عليه وسلم بكمال فصاحته وفي بعض النسخ *على نبي اصطفاه الهادي* أجل إلخ ومحمد علم على ذاته - صلى الله عليه وسلم - وسيد خلق الله أي أفضلهم وأشرفهم على الإطلاق بتفضيل من المولى سبحانه وتعالى بدليل ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) وأما ما ورد من الأحاديث الدالة على نهيه عن تفضيله على غيره من الأنبياء فأجابوا عنها بأجوبة منها أنه قال ذلك تواضعا منه - صلى الله عليه وسلم - والعربي نسبة إلى العرب والطاهر المنزه حسا ومعنى عن شائبة وصف مخلّ بشيء من كماله - صلى الله عليه وسلم - صغيرا كان أو كبيرا قبل النبوّة وبعدها عمدا أو سهوا والأوّاه كثير التأوّه من خشية الله تعالى وقد ورد أنه كان يسمع لصدره - صلى الله عليه وسلم - أزيز كأزيز المرجل أي غليان كغليان(1/7)
القدر لأن الخوف على قدر المعرفة وهو أعرف خلق الله تعالى بالله. قال:
ثم على صاحبهِ الصِّدِّيقِ = حبيبهِ وعمرَ الفاروقِ
ثم أبي عمروٍ إمامِ العابدين = وسطوةِ اللهِ إمامِ الزاهدين
أقول : صاحب بمعنى صحابي وهو من اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به بعد نبوّته حال حياته اجتماعا متعارفا وأما قولهم ومات على ذلك فبيان لثمرة الصحبة إذ تحققها لا يتوقف على ذلك والصدّيق لقب لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه - واسمه عبد الله وهو قرشي يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب من كلامه - رضي الله عنه - أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وأصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة وكان - رضي الله عنه - يأخذ بطرف لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد وكان يشمّ من فيه رائحة الكبد المشويِّ لشدّة خوفه - رضي الله عنه - وعمر الفاروق هو سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقب بالفاروق لفرقه بين الحق والباطل يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب من كلامه - رضي الله عنه - من خاف من الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد وكان يأخذ اللبنة من الأرض ويقول يا ليتني كنت هذه اللبنة ليتني لم أخلق ليت أمي لم تلدني ليتني لم أك شيئا ليتني كنت نسيا منسيّا وكان يحمل جراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال له بعضهم دعني أحمله عنك فقال ومن يحمل عني يوم القيامة ذنوبي .(1/8)
وأبو عمرو المراد به سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف وكان - رضي الله عنه - شديد الحياء وكان يصوم النهار ويقوم الليل إلا هجعة من أوّله وكان يختم القرآن في ركعة واحدة كثيرا وكان إذا مرّ على المقبرة بكى حتى يبلّ لحيته - رضي الله عنه - وسطوة الله إمام الزاهدين المراد به سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وعبّر عنه بالسطوة لشدّة بأسه على أهل الزيغ وبما بعده لشدّة إعراضه عن الدنيا وكان رضي الله عنه يقول: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر علة مخالطة الكلاب وكان يخاطب الدنيا ويقول يا دنيا غرّي بغيري فقد طلّقتك ثلاثا عمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وكان يقول ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنا وليكن همك فيما بعد الموت رضي الله عنه. قال:
ثم على بقيةِ الصحابة= ذوِي التُّقَى والفضلِ والإنابة
والمجدِ والفُرصَةِ والبَراعة = والحزمِ والنجدةِ والشجاعة
ما عكفَ القلبُ على القرآنِ = مرتِقيًا لحَِضرةِ العِرْفَان(1/9)
أقول: التقى من قولهم وقاه فاتقى والوقاية الحفظ والمتقي من يقي نفسه أي يحفظها عما يضرها في الآخرة وللتقوى مراتب الأولى التوقي عن العذاب الأبدي وهي حاصلة بعدم الشرك بالله تعالى والثانية التنزه عن كل مأثم فعلا أو تركا والثالثة التنزه عما يشغل السر من الأكوان عن الحق - جل جلاله - وهذا القسم مطلوب للمولى من عبيده بقوله اتقوا الله حق تقاته لأنه تعالى لا يقبل على القلب المشترك والفضل الزيادة في الخير والإنابة الرجوع إليه سبحانه وتعالى والمجد الكرم والفرصة من قولهم فرصت الرجل وأفرصته إذا أعطيته فهي بمعنى العطية والبراعة من برع الرجل بالفتح والضم براعة إذا فاق أصحابه في العلم وغيره والحزم ضبط الأمر بالاتفاق وحسن التدبير والنجدة الإعانة بسرعة وتطلق على الشجاعة فعطف ما بعدها على هذا عطف مرادف ومغاير على الأول والشجاعة شدة القلب عند البأس والعكوف الإقامة والقرآن يطلق على الصفة القديمة وليس مرادا هنا وعلى النظم المعجز الدال على متعلق الصفة القديمة لا عليها نفسها على التحقيق خلافا لظاهر عبارات جمهور المتكلمين وهو المراد هنا وبين على والقرآن مضاف وهو معاني ومعنى الإقامة على المعاني الإقامة على التأمل فيها فإن ذلك هو العروة الوثقى في الوصول إلى حالة يقف دون أولها سليمو العقول وهو ما أشار إليها بقوله مرتقيا إلخ وليس مقصوده بما عكف التقييد بل المقصود هنا التأبيد. قال:
هذا وإنَّ دُرَرَ البيانِ= وغُرَرَ البديعِ والمعانِي
تهدِي إلى مواردٍ شريفة = ونُبَذٍ بديعةٍ لطيفة
مِن علمِ أسرارِ اللِّسانِ العربي = ودَرْكِ ما خُصَّ بهِ من عجَبِ
لأنَّه كالروحِ للإعرابِ = وهْوَ لعِلمِ النحوِ كاللُّبابِ(1/10)
أقول: لفظة هذا خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر هذا أو مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كما ذكر وهو للانتقال من كلام إلى آخر ويسمى الاقتضاب لعدم الملائمة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه فإن كانت مناسبة سمي تخلصا كما يأتي الكلام على ذلك في فن البديع إن شاء الله تعالى والواو في وإنَّ واو الحال ودرر البيان أراد بها مسائل علم البيان المعنيّ به إدراك المسائل على سبيل الاستعارة المصرحة وغرر البديع والمعاني كذلك نظرا للأصل في معنى الغرة ويحتمل أن يكون المراد بالبيان وتالييه المسائل فالإضافة من قبيل لجين الماء وسيأتي تحقيق معنى العلم في أول الفن الأول وتهدي توصل والموارد جمع مورد مرادا به المعنى سمي بذلك لورود الأفكار عليه لتشتفي من ظمأ الجهل كالورد المحسوس الشافي من حرارة الكبد فالموراد استعارة مصرحة ونبذ جمع نبذة مرادا بها بعض المعنى وبديعة بمعنى حسنة ولطيفة دقيقة ومن تبعيضية وعلم اللسان العربي علم اللغة وأسراره دقائقه ودرك بمعنى إدراك معطوف على موارد وما واقعة على المعاني الدقيقة التي خص بها اللسان العربي ومن عجب بيان لها والعجب بمعنى العجيب أي ما يتعجب منه للطافته وقوله لأنه أي المذكور من البيان وتالييه ومراده بالإعراب المعرب ولباب كل شيء خالصه ومعنى كون هذه الفنون أي مؤداها كالروح للمعرب من الكلمات أنها موصلة إلى معرفة المزايا الزائدة على معاني الكلمات الأصلية التي هي من خواص التراكيب كالمطابقة لمقتضى الحال وهذا هو محط نظر البلغاء فالكلمات المعربة المجردة عن هذه الخواص كالأشباح الخالية عن الأرواح فليست معتبرة بدونها كما أن الجسم لا يعتبر بدون الروح فالخواص للكلمات بمنزلة الأرواح للأشباح ففي كلامه الحكم على الشيء بحكم مؤداه ويحتمل أن يكون المراد بالإعراب العلم الباحث عنه وهو النحو فيكون الحكم على البيان وما معه لا على المؤدى ويكون المصنف قد جعل له منزلتين الأولى منزلة الروح من الجسم والثانية(1/11)
منزلة اللباب من القشر ومراده بهذه الأبيات مدح هذا الفن المتضمن مدح كتابه وهذا الفن جدير بذلك إذ لا تدرك دقائق التفسير وما اشتمل عليه من الاعتبارات اللطيفة إلا بواسطة مراعاة هذا الفن فهو من أعظم آلات العلوم الشرعية ولذلك كان الاشتغال به فرض كفاية. واعلم أن تعريف كل علم يأتي في أوله وموضوعه الكلمات العربية من الحيثيات الآتية والواضع له الشيخ عبد القاهر والاسم يأتي في آخر المقدمة ومادته من أسرار العربية وتقدم حكمه وستأتي مسائل كل، وفضيلته إدراك معجزة القرآن به، ونسبته تقدمت في قوله لأنه كالروح الخ، وفائدته تأتي عند قوله وحافظ الخ. قال:
وقد دعا بعض من الطلابِ = لرَجَزٍ يهدي إلى الصوابِ
فجئته برجَزٍ مفيدِ = مهذّبٍ منقَّحٍ سديدِ
ملتقِطا من دُررِ التلخيص = جواهرا بديعةَ التخليصِ
سلكتُ ما أبْدَى منَ الترتيبِ = وما ألوتَ الجهد في التهذيبِ(1/12)
أقول: دعا بمعنى طلب فاللام في قوله لرجز زائدة والرجز نوع من الشعر أجزاؤه مستفعلن ستّ مرات تأتي دائرة المشتبه منفكا عن أوّلها من سببي مفاعيلن وهذه المنظومة وما أشبهها من مشطور الرجز وفي كونه عروضا أو ضربا أقوال تعلم من علم العروض. والصواب كلام طابق حكمه الواقع من غير اعتبار المطابقة من جانب بخصوصه بخلاف الحقّ فّإنه ما طابق الواقع باعتبار نسبة الواقع إليه وبخلاف الصدق فإنه ما طابق الواقع باعتبار نسبته إلى الواقع ويقابل الأول الخطأ والثاني الباطل والثالث الكذب ورجز مفيد يحتمل أنه مجاز عقلي مما بني الفعل فيه للفاعل وأسند إلى المفعول كعيشة راضية لأن الرجز مفاد لا مفيد ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة بالكناية والتخييلية بأن جعل الإنسان المضمر المرموز إليه بمفيد أو التشبيه المضمر في النفس أو الرجز المدّعى أنه من أفراد الإنسان المشبه به استعارة بالكناية على المذاهب فيها وإثبات اللازم وهو مفيد استعارة تخييلية ومهذب أي مصفى من شائبة ما لا فائدة فيه ومنقح بعده بمعناه وسديد بمعنى أنه لا خلل فيه وأتى به لدفع توهم خلل في المعنى ناشئ عن الإيجاز الناشئ عن هذه الأوصاف المصرّح بها فيما بعد وفيه مدح لتأليفه ليقبل فيحصل به النفع وهذه عادة المصنفين ولا بأس بذلك لصحة الغرض. والتلخيص هو مختصر الخطيب القزويني للقسم الثالث من المفتاح للسكاكي ودرره مسائله التي يشتمل عليها فالدرر أي الجواهر أو استعمالها استعارة تصريحية ومن تبعيضية وجواهر معمول لملتقطا وبديعة التخليص حسنته. ومعنى البيت أنه لم يأخذ جميع مسائل التلخيص وإنما أخذ بعضها وقوله : سلكت ما أبدى من الترتيب. يعني أنه رتب مؤلفه ترتيبا مثل ترتيب تلخيص المفتاح وقوله وما ألوت الجهد أي ما منعته والجهد بالضم الطاقة والتهذيب التصفية. قال:
سمّيته بالجوهرِ المكنونِ = في صدف الثّلاثة الفنونِ
واللهَ أرجوا أن يكونَ نافِعا = لكل من يقرؤه ورافِعا(1/13)
وأن يكون فاتحا للبابِ = لجملةِ الإخوانِ والأصحابِ
أقول: ضمير سميته يرجع إلى المؤلف المفهوم من السياق وسمى يتعدّى لمفعولين تارة بنفسه وتارة للثاني بالباء كما هنا والجوهر إلى آخر البيت هو اسم هذا الكتاب والمكنون المستور والصدف وعاء الجوهر والثلاثة بدل مما قبله والفنون جمع فنّ وهو النوع من كلّ شيء والمراد هنا علم المعاني والبيان والبديع والرجاء الأمل وقدّم المعمول للاختصاص وقوله يقرؤه أي على غيره أو لغيره ورافعا له على غيره من أقرانه وقوله للباب أي باب الفهم للكتب المطولة في هذا العلم ولا يخفى ما فيه من التواضع حيث جعل كتابه وسيلة غير مقصود والإخوان جمع أخ في الله لا من النسب وجمعه من النسب إخوة والأصحاب جمع صاحب ومقصوده تعميم النفع وقد أخبرنا شيخنا سيدي عبد الله المغربي القصري عن أشياخه أن المصنف كان مجاب الدعوة وقد شاهدنا ذلك نفعنا الله به.(1/14)
[المقدمة] أقول رتب المصنف كتابه كأصله على مقدمة وثلاثة فنون فجعل الخاتمة داخلة في فن البديع وهو الوجه بدليل كلام صاحب الأصل في الإيضاح وقال بعض شارحي الأصل بعدم الدخول فوجه الحصر على الأول أن المذكور في الكتاب إما أن يكون من قبيل المقاصد في هذا الفن أو لا. الثاني المقدمة والأول إن كان الغرض منه الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد فهو الفن الأول وإلا فإن كان الغرض منه الاحتراز عن التعقيد المعنوي فهو الفن الثاني وإلا فهو الفن الثالث ووجهه على الثاني أن المذكور في الكتاب إما من قبيل المقاصد أو لا فإن كان من قبيل المقاصد فإن كان الغرض منه الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد فهو الفن الأول وإن كان الغرض منه الاحتراز عن التعقيد المعنوي فهو الفن الثاني وإن كان الغرض منه معرفة وجوه تحسين الكلام فهو الفن الثالث وإن لم يكن من قبيل المقاصد فإما أن يتعلق بها تعلق السابق باللاحق أو تعلق اللاحق بالسابق فالأول هو المقدمة والثاني هو الخاتمة. فإن قلت هذا التقسيم غير شامل للخطبة والتراجم لظهور عدم دخولها في شيء من الأقسام مع أنها من جملة ما ذكر في الكتاب. فالجواب أن المراد بالمذكور في الكتاب المذكور في التقسيم ماله مدخل وخصوصية بهذا الفن فحينئذ لا تكون الخطبة ونحوها داخلة في المقسم حتى يلزم عدم شمول الأقسام لها. والمقدمة بالكسر مأخوذة من مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه أي منقولة من ذلك لمناسبة بينهما لأن هذه المقدمة تقدم الإنسان لمقصوده كما أن مقدمة الجيش تقدمه أي تجسره على التقدم فيكون استعمال لفظ المقدمة في مقدمة العلم ومقدمة الكتاب حقيقة عرفية ويحتمل أنها مأخوذة منها أي (غير واضح في الأصل) وبالفتح من الأول لا غير لأن المؤلف قدمها أمام مقصوده وهي قسمان: مقدمة علم ومقدمة كتاب.(1/15)
فمقدمة العلم ما يتوقف عليها الشروع في ذلك العلم وهو تصوره بوجه ما إن أريد مجرد الشروع أو تصوره برسمه أو حده وتصور موضوعه وغايته إن أريد الشروع على بصيرة وهذه معان محضة وذكر الألفاظ لتوقف الأنباء عنها عليها لا أنها مقصودة لذاتها حتى لو تيسر فهم المعنى من غير ألفاظ لم يحتج إليها أصلا ومقدمة الكتاب اسم لطائفة من كلامه قدمت أمام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه فالأولى معان والثانية ألفاظ فبين المقدمتين تباين والمقدمة هنا مقدمة كتاب لا علم خلافا لصاحب المنن في شرحه لأنها طائفة من الكتاب وهي ألفاظ ذكرت أمام المقصود وهو المعاني والبيان والبديع لارتباط كل بما ذكره هنا من معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان وما يلائم ذلك ولو عبر المصنف بمقدمة بالتنكير كما عبر أصله لكان صوابا إذ لا وجه للتعريف لأن طرقه أربعة العهد الخارجي أو الذهني أو الجنس أو الاستغراق ولا يصلح المقام لشيء من ذلك بخلاف التعريف في الفنون الثلاثة فله وجه وهو تقدم العلم بها من قوله: ومن التعقيد البيتين فناسب الإيراد بالتعريف. قال:
فصاحة المفرد أن يخلص من = تنافر غرابة خلف زكن(1/16)
أقول: الفصاحة في اللغة تنبئ عن الظهور والإبانة يقال فصح الأعجمي إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللكنة وقال تعالى حكاية عن سيدنا موسى- وأخي هرون هو أفصح مني لسانا- أي أبين مني قولا، ومعناها اصطلاحا يختلف باختلاف موصوفها وموصوفها الكلمة والكلام والمتكلم يقال كلمة فصيحة وكلام فصيح في النار وقصيدة فصيحة في النظم ومتكلم فصيح. وأما البلاغة فيوصف بها المتكلم والكلام فقط فيقال كلام بليغ ومتكلم بليغ ولا يقال كلمة بليغة، وذكر المصنف فصاحة الكلمة وهي مقصوده بالمفرد في هذا البيت فذكر أنها عبارة عن خلوصه من ثلاثة أمور- الأول التنافر وهو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها فمنه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل كالهعخع بضم الهاء والخاء المعجمة وسكون العين المهملة الأولى من قول أعرابي وقد سئل عن ناقته فقال تركتها ترعى الهعخع والهاء والعين لا يكادان يجتمعان من غير فصل وهو شجر مستحدث قيل ولا أصل له في كلامهم وإنما هو الخعخع بخاءين معجمتين ومنه ما دون ذلك كمستشزرات من قول امرئ القيس:
*غدائره مستشزرات إلى العلى*(1/17)
أي ذوائبه جمع غديرة والضمير للفرع قبله والفرع الشعر التام ومستشزرات أي مرتفعات إن قرئ بكسر الزاي أو مرفوعات إن قرئ بفتحها. وضابط التنافر كل ما عده الذوق السليم الصحيح ثقيلا معسر النطق سواء كان من قرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك. الثاني الغرابة وهي كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مألوفة الاستعمال فتحتاج معرفتها إلى تفتيش عنها في كتب اللغة المبسوطة كما روي عن بعضهم أنه سقط عن حماره فاجتمع عليه ناس فقال مالكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة أفرنقعوا أي اجتمعتم تنحوا عني أو تخريج لها على معنى بعيد نحو مسرج في قوله العجاج*وفاحما ومرسنا مسرجا*فإنه لم يعرف ما أراد بقوله مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل هو من قولهم في السيوف سريجية منسوبة إلى قين أي حداد يقال له سريج يريد أنه في الدقة والاستواء كالسيف السريجي وقيل من السراج يريد أنه في البريق واللمعان كالسراج وهذا يقرب من قولهم سرج الله وجهه أي بهجه وحسنه وفاحما أي شعرا أسود كالفحم معطوف على منصوب قبله والمرسن بفتح الميم مع فتح السين وكسرها الأنف الثالث المخالفة للقواعد بأن تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الألفاظ الموضوعة كالفك فيما يجب إدغامه وعكسه نحو قول أبي النجم: الحمد لله العلي الأجلل الواحد الفرد القديم الأول.
والقياس الأجل بالإدغام لاجتماع مثلين مع تحريك الثاني فنحو ماء وآل وعور وقطط فصيح لأنه ثبت عن الواضع كذلك فهو في حكم الاستثناء من القياس وزاد بعضهم أمرا رابعا وهو الخلوص من الكراهة في السمع بأن تكون الكلمة بحيث يمجها السمع نحو الجرشي أي النفس في قول أبي الطيب*كريم الجرشي شريف النسب*ورد ذلك بأن الكراهة في السمع*من قبيل الغرابة فلا زيادة على الثلاثة وزكن علم.قال:
وفي الكلام من تنافر الكلم = وضعف تأليف وتعقيد سلم(1/18)
أقول المراد بالكلام المركب مجازا من باب إطلاق اسم الخاص على العام ومقابلته بالمفرد قرينة لذلك فيشمل المركب الناقص كان قام زيد والتام كزيد قائم فالتعميم في جانبه أي الكلام ما ليس بمفرد وقيل إن المركب الناقص داخل في المفرد والتعميم فيه أي المفرد ما ليس بكلام أي مركب تام وهو مختار السعد في شرح الأصل والمرجح الأول. قوله من تنافر الخ أي خلوصه من هذه الأمور الثلاثة وترك رابعا ذكره أصله هو فصاحة كلماته احترازا من نحو زيد أجلل فليس بفصيح فالتنافر أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان وإن كان كل منها أسأي تاافصيحا والثقل يكون متناهيا كما في قوله:
وليس قرب قبر حرب قبر
وغير متناه كما في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى = معي وإذا ما لمته لمته وحدي.
ومنشأ الثقل في الأول نفس اجتماع الكلمات وفي الثاني حروف منها وهو في تكرار أمدحه دون مجرد الجمع بين الحاء والهاء لوقوعه في التنزيل نحو فسبحه فلا يقال إن مثل هذا الثقل مخل بالفصاحة وضعف التأليف أن يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النحوي كالإضمار قبل الذكر لفظا ومعنى وحكما نحو ضرب غلامه زيدا بخلاف ضرب زيد غلامه قوله وضرب غلامه زيد وهو زيد قائم. والتعقيد أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى المراد لخلل واقع إما في نظم الكلام بسبب تقديم أو تأخير فيه أو حذف أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المعنى المراد وإما في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود فالأول كقول الفرزدق في خال هشام بن عبد الملك وهو إبراهيم:
وما مثله في الناس إلا مملكا(1/19)
أبو أمه حي أبوه يقاربه أي ليس مثله في الناس أحد يقاربه أي يشبهه في الفضائل إلا مملكا أي رجلا أعطي الملك يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم ذلك المملك أبوه أي أبو إبراهيم الممدوح أي لا يماثله أحد إلا ابن أخته وهو هشام ففيه فصل بين المبتدأ والخبر أعني أبو أمه أبوه بالأجنبي الذي هو حي وفصل بين الموصوف وصفته أعني حي يقاربه بالأجنبي الذي هو أبوه وتقديم المستثنى أعني مملكا على المستثنى منه أعني حي وفصل كثير بين البدل وهو حي والمبدل منه وهو مثله فمثله اسم ما وفي الناس خبره وإلا مملكا منصوب لتقدمه على المستثنى منه .و الثاني كقول الآخر:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا = وتسكب عيناء الدموع لتجمد
جعل سكب الدموع كناية عما يلزم فراق الأحبة من الكآبة والحزن وأصاب لكنه أخطأ في جعل جمود العين كناية عما يوجبه التلاقي من الفرح والسرور فإن الإنتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع حال إرادة البكاء وهي حالة الحزن لا إلى ما قصده من السرور الحاصل بالملاقاة وزاد بعضهم الخلوص من كثرة التكرار وتتابع الإضافات فالأول كقوله:
سبوح لها منها عليها شواهد
والثاني كقوله:حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي
ورد بأن ذلك إن ثقل اللفظ بسببه على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بالتنافر وإلا فلا يخل بالفصاحة كيف وقد وقع في القرآن قال الله تعالى –والشمس وضحاها-الخ فكرر الضمائر وقال-ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك-وقال-واعف عنا واغفر لنا وارحمنا- وقال تعالى في تكرير الأضافات –ذكر رحمة ربك عبده زكريا. كدأب آل فرعون.(1/20)
[فائدة] ذكر بعض الفضلاء أن من خصائص القرآن أنه اجتمع فيه ثمان ميمات متواليات ولم يحصل بسببها ثقل على اللسان أصلا بل إزدادت خفة وذلك في قوله تعالى –وعلى أمم ممن معك- فإن التنوين في أمم والنون في ممن معك يدغمان في الميم بعدهما فيصيران في حكم ميم أخرى والميم المشددة في ممن بميمين وفيه أربع أخر فهذه ثمانية وقوله سلم أي خلص خبر مبتدأ معلوم من المقام وهو مؤول بمصدر ومن تنافر متعلق به أي والفصاحة في الكلام خلوصه من تنافر الكلم.
قال:
وذي الكلام صفة بها يطيق = تأدية المقصود باللفظ الأنيق
أقول: ذي الكلام معطوف على الكلام في البيت قبله أي والفصاحة في ذي الكلام أي صاحبه وهو المتكلم صفة الخ والمراد بالصفة الملكة.ومعنى البيت والفصاحة في المتكلم ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح والملكة هي الكيفية الراسخة في النفس والكيفية عرض لا يتوقف تعقله على تعقل غيره ولا يقتضي القسمة واللاقسمة اقتضاء أوليًّا فخرج بالقيد الأول الأعراض النسبية وهي الإضافة والملك والفعل والانفعال والأين والمنى والوضع وبالقيد الثاني الكم متصلا كان أو منفصلا وبالثالث النقطة. وبالقيد الرابع دخل مثل العلم بالمعلومات المقتضية للقسمة واللاقسمة فإن اقتضاء العلم لذلك ثانوي بواسطة المعلوم فعلم أن من تكلم بالفصيح وليس له ملكة غير فصيح متكلم أو لا، قال:
وجعلوا بلاغة الكلام = طباقه لمقتضى المقام(1/21)
أقول: بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته وأسقط المصنف هذا القيد لضيق النظم واحترز به عن نحو شعره مستشزر إذا ألقى إلى خالي الذهن ويقيد المطابقة عن نحو إن زيدا قائم إذا ألقي لخالي الذهن. والحال هو الأمر الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما وهي أي موصوفها مقتضى الحال، مثلا كون المخاطب منكرا للحكم حال يقتضي كلاما مؤكدا وهو كلي وهذا الكلي مقتضى الحال وإن زيدا قائم فرد من أفراد ذلك الكلي مطابق له بمعنى أنه مصدوق لذلك الكلي وفرد من أفراده وهذا عكس مطابقة الكلي لجزئياته إذ هي صدقه على كل واحد منها ولم يتكلم المصنف على البلاغة في المتكلم للعلم بها من الفصاحة فيه فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ فعلم مما ذكر في حد البلاغة أن كل بليغ كلاما كان أو متكلما فصيح لجعل الفصاحة شرطا للبلاغة وليس كل فصيح بليغا كلاما كان أو متكلما لأن الفصيح قد يعرى عن المطابقة كما تقدم ولبلاغة الكلام طرفان أعلى وهو ما يقرب من حد الإعجاز هو أن يرتفع الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته وخص البشر لأنهم أقوى أصناف المخلوقين على ذلك فإذا عجزوا فغيرهم أولى أو لأنه لم يوجد معاند إلا منهم. وأسفل وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما دونه أي إلى مرتبة هي أدنى منه التحق وإن كان صحيح الإعراب عند البلغاء بأصوات الحيوانات. وبين الطرفين مراتب كثيرة بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الإعتبارات ويتبعها وجوه أخر غير المطابقة والفصاحة تورث الكلام حسنا وهي أنواع البديع قال:
وحافظ تأدية المعاني = عن خطأ يعرف بالمعاني
وما من التعقيد في المعنى يقي = له البيان عندهم قد انتقي
وما به وجوه تحسين الكلام = تعرف يدعى بالبديع والسلام(1/22)
أقول : قد علم مما تقدم أن البلاغة مرجعها أي ما يجب حصوله لتحصل أمران: الأول تمييز الكلام الفصيح من غيره وإلا لربما أدى الكلام المطابق لمقتضى الحال غير فصيح فلا يكون بليغا لوجوب الفصاحة في البلاغة.
الثاني الإحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلا لربما أدى المعنى المراد بلفظ فصيح غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغا أما الأول فبعضه يعرف من علم اللغة وهي الغرابة وبعضه من علم التصريف وهو مخالفة القياس وبعضه من علم النحو وهو ضعف التأليف والتعقيد اللفظي وبعضه يدرك بالحس وهو التنافر فاستغنى عن ذكر ما يعرف به في هذا الكتاب وغيره من كتب البلاغة وهذا الذي يعرف من هذه العلوم ويدرك بالحس ما عدا التعقيد المعنوي فلم يبق مما ترجع إليه البلاغة إلا الثاني وكذلك ما يحترز به عن التعقيد المعنوي على ما تقدم فوضع للثاني أعني ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد علم المعاني، ولما يحترز به عن التعقيد المعنوي علم البيان، وللوجوه التابعة للبلاغة علم البديع. وأشار إلى الأول بقوله: وحافظ البيت وليس في المعاني الأول والثاني الإيطاء لاختلاف المعنى لأن الأول جمع والثاني مفرد والثاني بقوله: وما من التعقيد البيت فقوله يقي أي يحفظ ومن التعقيد يتعلق به وانتقي اختير والثالث بقوله: وما به البيت وما مبتدأ وبه متعلق بتعرف ويدعى أي يسمى خبر ما وقوله والسلام أي على من اتبع الهدى تكميل ولما كان هذا التأليف في علم البلاغة وتوابعها انحصر مقصوده في ثلاثة فنون وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان وبعضهم يسمي الأول علم المعاني ويسمي الأخيرين أي البيان والبديع علم البيان والثلاثة علم البديع. أما تسمية الأول بالمعاني فلتعلقه بالمعاني لأن به الاحتراز عن الخطأ في المعنى وتسمية الثاني بالبيان فلتعلقه بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة لأجل بيان المعنى وإيضاحه.(1/23)
وأما تسمية الثالث بالبديع فلبحثه عن المحسنات ولا شك في بداعتها وظرافتها.
وأما تسمية الفنون الثلاثة بالبيان فلأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ولا شك في تعلق الثلاثة به تصحيحا وتحسينا. وأما تسمية الفنين الأخيرين بالبيان فلتغليب حال الفن الثاني على الثالث والأول بالمعاني لما تقدم. وأما تسمية الفنون الثلاثة بالبديع فلأنه لا خفاء في بداعتها وظرافة لطائفها والله أعلم.
الفن الأول
علم المعاني
قدمه على علم البيان لكونه منه بمنزلة المفرد من المركب، لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني معتبرة في علم البيان مع شيء آخر، وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة كالتعبير عن اتصاف زيد بالكرم بزيد كثير الرماد، جبان الكلب مهزول الفصيل قال :
علم به لمقتضى الحال يرى = لفظ مطابقا وفيه ذكرا
إسناد مسند إليه مسند = ومتعلقات فعل تورد
قصر وإنشاء وفصل وصل او = إيجاز اطناب مساواة رأوا(1/24)
أقول: العلم يطلق على ملكة يقتدر بها على إدراك المسائل ويطلق على نفس الإدراك ويطلق على نفس المسائل والأنسب بما هنا المعنى الثالث، فقوله علم إلى قوله مطابقا تعريف لعلم المعاني، وقوله يرى: أي يعلم، وبه يتعلق به، ولفظ نائب فاعل يرى وهو المفعول الأول ومطابقا مفعول ثان، وهنا مضاف محذوف: أي هو أحوال: أي علم يعلم به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال، ومقصوده أنه علم يعلم به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال، فعلم جنس، ويعلم به أحوال اللفظ مخرج لما يعلم به أحوال غير اللفظ كالحساب، فإن به يعلم أحوال العدد جمعا وتفريقا، وقوله التي بها يطابق مقتضى الحال: أي من حيث إن اللفظ يطابق بها، لا من حيث ذاتها كالتقديم والتأخير والتعريف والتنكير، مخرج للأحوال التي ليست بهذه الصفة كالرفع والنصب ولعلم البيان؛ لأن البحث فيه عن أحوال اللفظ لا من الحيثية المذكورة، وكذلك المحسنات البديعية كالتجنيس ونحوه مما يعتبر بعد رعاية المطابقة، والتحقيق في مقتضى الحال أنه ذو الأحوال، وقوله وفيه ذكرا الخ أشار به إلى أن هذا العلم بجملته منحصر في ثمانية أبواب انحصار الكل في أجزائه ووجه الانحصار أن الكلام إما خبر أو إنشاء الأول لابد له من إسناد ومسند إليه ومسند فهذه ثلاثة أبواب والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو ما في معناه وهو الباب الرابع، وكل من التعلق والإسناد قد يكون بقصر وقد لا يكون وهو الباب الخامس، والثاني هو الباب السادس، والجملة إن قرنت بأخرى فالثانية إما معطوفة على الأولى أو لا، وهما الفصل والوصل وهو الباب السابع، والكلام البليغ إما ناقص عن أصل المراد أو زائد أو مساو والأول الإيجاز والثاني الإطناب والثالث المساواة، وهو الباب الثامن، وأما وجه إفراد كل واحد من هذه بباب ففي المطول على الأصل الكلام إما خبر وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته، كزيد قائم، وإما إنشاء وهو بخلافه، كاعلم واعمل، ولا(1/25)
ثالث لهما خلافاً لبعض النحاة القائل بأن الطلب قسم ثالث لدخوله في الإنشاء.قال:
الباب الأول : أحوال الإسناد الخبري
أقول: الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنها، فقولنا أو ما يجري مجراها لإدخال نحو زيد قام أبوه وبحيث يفيد الحكم الخ لإخراج الإسناد الإنشائي والمراد بالمفهوم ما يفهم من الكلمة فلا يرد أن المعتبر من جانب الموضوع الذات، ومن جانب المحمول المفهوم، لأن الذات أيضاً مما يفهم من اللفظ، وقدم بحث الخبر على بحث الإنشاء لعظم شأنه ولتفرع الإنشاء عليه في نحو زيد في الدار وأزيد فيها وقدم أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع تأخير النسبة عن الطرفين لأن البحث إنما هو عن أحوال اللفظ الموصوف بكونه مسندا إليه أو مسندا وهذا الوصف إنما يتحقق بعد تحقق الإسناد والمتقدم على النسبة ذات الطرفين ولا بحث لهم عنها، والخبري نسبة للخبر، وتقدم أنه ما احتمل الصدق والكذب وفي حد الصدق والكذب أقوال أربعة:
الأول وهو أصحها أن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له، ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين.
الثاني: وهو للنظام أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر ولو خطأ، والكذب عدم مطابقته للاعتقاد ولو صواباً، وما لا اعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب لا واسطة.
الثالث: وهو للجاحظ أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب أي واسطة بينهما وهو أربع صور: المطابق ولا اعتقاد لشيء، والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة، وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة وغيره ولا اعتقاد.(1/26)
القول الرابع للراغب وهو مثل قول الجاحظ غير أنه وصف الأربع صور بالصدق والكذب باعتبارين: فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد واستدل النظام بقوله تعالى إن المنافقين لكاذبون أي في قولهم إنك لرسول الله لعدم مطابقته لاعتقادهم ورد استدلاله بأن المراد لكاذبون في الشهادة أي في ادعائهم مواطأة القلب للسان لتضمن قولهم إنك الخ شهادتنا من صميم القلب، وهذا كذب واستدل الجاحظ بقوله تعالى أفترى على الله كذباً أم به جنة لأن الإخبار حال الجنة غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم يعتقدون عدم صدقه فثبتت الواسطة ورد بأن المعنى أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة من جهة أن المجنون لا افتراء له لأن الافتراء الكذب عن عمد، فهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه: أي الكذب عن عمد ولا عن عمد،
قال :
الحُكْمُ بالسلبِ أوِ الإيجابِ = إِسْنادُهمْ. وَقَصْدُ ذي الخِطابِ
إفادةُ السامعِ نَفْسَ الحكْمِ = أوْ كَوْنَ مُخْبِرٍ به ذا عِلْم
فأولٌ فائدةٌ والثاني = لازِمُها عِنْدَ ذوي الأذهانِ(1/27)
أقول: إسنادهم أي الخبري بدليل ما في الترجمة معرف، والحكم بالسلب أو الإيجاب تعريف، والمراد الحكم بأن النسبة واقعة كزيد قائم أو ليست بواقعة كزيد ليس بقائم، ولا مخالفة بين هذا التعريف وما تقدم لمراعاة المعنى هنا، واللفظ هناك لأن الخبر يكون معقولا وملفوظاً، فالتعريفان بالاعتبارين وقوله: وقصد إلى آخر البيت الثاني المراد بذي الخطاب المخبر أي الذي هو بصدد الإخبار والإعلام لا كل مخبر، إذ قد يكون مقصود المخبر إظهار الضعف نحو رب إني وهن العظم مني أو التحزن والتحسر نحو رب إني وضعتها أنثى إذ المولى سبحانه عالم بالفائدة ولازمها في الخبرين أي قصد المخبر بخبره أحد أمرين إما الحكم أي النسبة بين الطرفين المحكوم بها كقولك زيد قائم لمن لم يعلم قيامه أو كونه عالماً به كقولك ذلك للعالم به قاصدا إعلامه بأنك عالم بذلك، ويسمى الأول فائدة الخبر؛ لأن من شأنه أن يستفاد من الخبر وان استفيد من غيره، والثاني لازمها لأنه كلما أفاد الحكم أفاد أنه عالم به، وليس كلما أفاد أنه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم لجواز أن يكون الحكم معلوماً قبل الإخبار كما تقدم، قال:
وربما أُجْرِيَ مُجْرَى الجاهِلِ = مُخاطَبٌ إِنْ كانَ غيرَ عاملِ
كقولنا لعالمٍ ذي غفلةِ = الذكرُ مفتاحٌ لبابِ الحضرةِ(1/28)
أقول: قد ينزل المخاطب العالم بفائدة الخبر ولازمها أو بأحدهما منزلة الجاهل كقولك لتارك الصلاة وهو يعتقد وجوبها الصلاة واجبة لعدم جريه على موجب العلم لأن من لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء، وكقولنا للعالم الغافل عن ذكر الله تعالى مع علمه بأنه وسيلة إلى حضرة المذكور: الذكر مفتاح لباب الحضرة، أي الإلهية، والمراد بالحضرة ويعبر عنها بحضرة القدس وهي الحالة الذي إذا وصل إليها السالك سمي عارفاً وواصلا أن يكون في حالة لا يرى فيها إلا المولى سبحانه وتعالى فانيا عن الأكوان متوجها بقلبه إلى الرحمن، متلقفا ما يلقيه المولى سبحانه وتعالى في قلبه من لطائف العرفان، ولا شك أن الوسيلة إلى هذه الحالة ذكر المولى سبحانه وتعالى، قال المصنف في شرحه: والغرض من المثال المذكور في البيت: ترغيب طالب العلم في الدخول في حضرة المنقطعين إلى الله تعالى الذين تلذذوا بعبادة ربهم وهم في الدنيا متنعمون بما يرد على قلوبهم من المعارف، وما يتجلى لهم من صفات الجلال والجمال، وفي الآخرة أسعد وأفضل وتحذيره من الغفلة التي قطعت ظهور كثير من طلبة العلم وطمست بصائرهم حتى توهموا أن العلم مقصود بالذات، وما هو مطلوب إلا للعمل إذ لا يصح إلا به، فليحذر طالب العلم من الغفلة، وليأخذ نصيبه من الأوراد من بدايته إلى نهايته بقدر ما لا يشغله عن العلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فمن زعم أن الأوراد وإن قلت تشغله فذلك من تسويل الشيطان ومن علامات الطرد والخذلان اهـ. قال:
فينبغي اقتصارُ ذي الإِخبارِ = على المفيد خَشْيةَ الإكثارِ
فيُخْبِرُ الخالي بلا توكيدِ = ما لَمْ يَكُنْ في الحُكْمِ ذا تَرْديدِ
فَحَسَنٌ ومُنْكِرُ الأَخبارِ = حَتِّمْ له بِحَسَبِ الإنكارِ
كقوله: (إنّا إليكم مُرْسَلونْ) = فزاد بعدَ ما اقتضاهُ المنكِرونْ
لِلَّفظِ الابتداءِ ثمَّ الطلبِ = ثُمَّتَ الاْنكارِ الثلاثةَ اْنسُبِ(1/29)
أقول: الفاء تفريعية أي إن كان قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب فينبغي له أن يقتصر في التركيب على قدر الحاجة فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم والتردد فيه أي غير عالم بوقوع النسبة أو لا وقوعها ولا مترددا في أنها واقعة أو غير واقعة يلقى له الخبر غير مؤكد فيقول له زيد قائم مثلا ولا يزيد على ذلك لئلا يكون مكثراً عليه بلا فائدة وإن كان مترددا في الخبر طالبا له حسن الإتيان بمؤكد واحد نحو لزيد قائم، وإن كان منكرا وجب توكيده بحسب الإنكار، أي بقدره قوة وضعفاً، فكلما زاد الإنكار زاد في التوكيد كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأول إنا إليكم مرسلون بإن واسمية الجملة وفي المرة الثانية ربنا يعمل إنا إليكم لمرسلون فأكد بالقسم المشار إليه بربنا يعلم، وإن واللام واسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون، ويسمى الضرب الأول ابتدائيا والثاني طلبياً والثالث إنكارياً وهذا معنى قوله للفظ الابتداء ثم الطلب البيت، ويسمى إخراج الكلام على هذه الوجوه أي الخلو عن التوكيد في الأول والتقوية بمؤكد استحساناً في الثاني، ووجوب التوكيد بحسب الإنكار في الثالث إخراجا على مقتضى الظاهر وهو أخص مطلقاً من مقتضى الحال.
قال:
واسْتَحْسِنِ التَّوْكيدَ إِنْ لَوَّحْتَ لَهْ = بِخَبَرٍ كَسائِلٍ في الْمَنْزِلَةْ
وألحقوا أَمارةَ الإِنكار بِهْ = كَعَكْسِهِ لِنُكْتَةٍ لَمْ تَشْتَبِهْ(1/30)
أقول تقدم أن إخراج الكلام على الوجوه المتقدمة إخراج على مقتضى الظاهر، وقد يخرج الكلام على خلافه، فيؤتى بمؤكد استحساناً لخالي الذهن إذا قدم إليه ما يلوح بالخبر فيستشرف له استشراف المتردد الطالب نحو ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، لأن النهي مشوف للنفس عادة إلى طلب السبب فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكوماً عليهم بالإغراق أم لا؟ فقيل: إنهم مغرقون بالتأكيد وهذا معنى قوله: واستحسن البيت والضمير في له للمخاطب وقوله كسائل أي كطالب في المنزلة أي منزلا له منزلة الطالب للخبر، ويجعل المقر كالمنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الكلام تأكيد المنكر نحو:
جاء شقيقٌ عارضا رمحِهِ = إن بني عمِّك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحا لكن مجيئه واضع الرمح على العرض من غير التفات وتهيؤ أمارة أنه يعتقد أن لا رمح فيهم بل كلهم عزل: أي لا سلاح معهم، فنزل منزلة المنكر، وأكد له الخطاب، وهذا معنى قوله: وألحقوا أمارة الإنكار به، أي بالإنكار: أي ألحقوا عدم الإنكار المصاحب لأمارة الإنكار بالإنكار، وقوله كعكسه: أي جعل المنكر كالمقر إذا كان معه دلائل وشواهد لو تأملها ارتدع عن إنكاره، فلا يؤكد له، وهو المراد بقوله: لنكتة لم تشتبه، كقولك لمنكر الإسلام: الإسلام حق بلا تأكيد لأن مع المنكر دلائل دالة على حقيقة الإسلام، وأما تمثيل الأصل بقوله تعالى لا ريب فيه، فليس من هذا القبيل بل تنظير للمسألة بتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه بناء على وجود ما يزيله فإنه نزل ريب المرتابين منزلة عدمه تعويلاً على ما يزيله، حتى صح نفي الريب على سبيل الاستغراق كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك حتى صح ترك التأكيد .
قال:
بِقَسَمٍ قَدْ إِنَّ لامِ الاْبْتِدا = ونُونَيِ الْتَّوْكيدِ وَاْسْمٍ أَكِّدا(1/31)
والنَّفْيُ كالإثباتِ في ذا الْبابِ = يَجْري على الثلاثةِ الأَلْقابِ
بِإِنْ وَكانَ لامٍ أَوْ بَاءٍ يَمينْ = كَـ "ما جليسُ الفاسقين بالأمين
أقول: بين بعض ما يؤكد به الخبر، فالقسم نحو: والله زيد قائم، وقد نحو: قد قام زيد، وإنَّ نحو إن زيداً قائم، ولام الابتداء نحو: لزيد قائم، ونونا التوكيد نحو: ليقومن زيد بتشديد النون وتخفيفها، والاسم أي اسمية الجملة نحو زيد عالم، فقوله بقسم متعلق بـ"أكدا" آخر البيت، وألفه للإطلاق أو مبدلة من نون التوكيد الخفيفة: أي أكدن بقسم، وقد إلى آخر المعطوفات بحرف العطف المحذوف، وقوله والنفي البيت: يعني أن الخبر المنفي كالخبر المثبت في وجوهه الثلاثة المتقدمة من التجريد عن المؤكدات في الابتدائي وتقويته بمؤكد استحسانا في الطلبي ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الإنكاري، وفي الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر تقول لخالي الذهن: ما زيد قائماً، وللطالب: ما زيد بقائم، وللمنكر: والله ما زيد بقائم، ومن هذه تعلم أمثلة الخروج عن مقتضى الظاهر في النفي، والألقاب: الأنواع.وقوله: بأن وكان البيت إشارة إلى بعض مؤكدات الخبر في النفي، وهي إن الزائدة نحو: ما إن زيد قائم، وكان نحو: ما كان زيد قائماً، ولام الجحود نحو: ما كان زيد ليقوم والباء نحو: ما زيد بقائم، ومنه مثال الكتاب وهو: ما جليس الفاسقين بالأمين: أي على الشريعة، لأن من تخلق بحالة لا يخلو حاضره منها، واليمين نحو: والله ما زيد قائماً.
قال: فصل: في الإسناد العقلي
ولحقيقةٍ مجازٍ وردا = للعقلِ منسوبين أمّا المُبتدا
إسنادُ فِعْلٍ أو مضاهيهِ إلى = صاحِبِهِ كَـ "فاز من تَبَتَّلا"
أقسامُه مِنْ حيثُ الاعتقادُ = وواقعٌ أربعةٌ تفادُ(1/32)
أقول: الفصل معناه لغة: القطع، واصطلاحاً: جملة من الكلام، ويعبر عنها تارة بالكتاب وتارة بالباب فإن جمع بين الثلاثة كان الأول والثالث مندرجين تحت الثاني والأول مندرجًا تحت الثالث، وهذا الفصل معقود لبيان أن الإسناد مطلقاً ينقسم إلى الحقيقة العقلية، والمجاز العقلي، وأقسام كل فالحقيقة العقلية: إسناد الفعل أو ما في معناه كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر كالفاعل فيما بني له نحو: ضرب زيد عمراً، والمفعول فيما بني له نحو: ضُرب عمرو، فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو، بخلاف نحو: نهاره صائم.
فـ"عند المتكلم" مُدخلٌ لما يطابق الاعتقاد دون الواقع، و"في الظاهر" مدخلٌ لما لا يطابق الاعتقاد، وكل منهما متعلق بله، ومعنى كونه له أن معناه قائم به وحقه أن يسند إليه، سواء كان صادراً عنه باختياره أو بغير اختياره نحو: ضرب زيد، ومات عمرو على ما فيه، ومنه مثال الكتاب، وبمقتضى هذا التعريف تكون أقسام الحقيقة العقلية من جهة الواقع والاعتقاد أربعة: الأول: ما طابق الواقع والاعتقاد، كقولنا معاشر المؤمنين: أنبت الله البقل، الثاني: ما طابق الاعتقاد فقط كقول الجاهل أي الكافر: أنبت الربيع البقل.
الثالث: ما طابق الواقع فقط كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها عنه: خلق الله الأفعال كلها.
الرابع: ما لا يطابق واحداً منهما كقولك: جاء زيد، وأنت تعلم أنه لم يجيء دون المخاطب.(1/33)
فقوله ولحقيقة الظاهر أنه متعلق بـ"اثبتن" محذوفا ومجاز معطوف بعاطف محذوف ومنسوبين حال من ضمير ورد البارز وللعقل متعلق به أي فيقال حقيقة عقلية ومجاز عقلي، ويصح تعليقه بوردا العائد ضميره للإسناد وألفه للإطلاق، ومنسوبين صفة لهما، وللعقل متعلق به: أي ورد الإسناد إلى حقيقة وإلى مجاز منسوبين للعقل، وقوله أما المبتدأ أي الحقيقة العقلية، وقوله أو مضاهيه: أي مشابهه في الدلالة على الحدث، وفاز من تبتلا: أي أفلح من انقطع إلى مولاه، والتبتل قسمان: تبتل البداية، وهو الانقطاع عن الخلق بالعزلة، وهو وصف المريدين، وتبتل النهاية وهو خلو القلب وانقطاعه عن السوى، وهو وصف الواصلين، وقوله أقسامه الضمير للمبتدأ، ولو نظر للمراد به وهو الحقيقة لأنث الضمير كما هو ببعض النسخ ولم يأت المصنف بأداة حصر ليفيد أن بعض الإسناد ليس بحقيقة ولا مجاز، نحو الإنسان حيوان، لعدم كون المسند فعلاً أو ما في معناه.
واعلم أن الحقيقة والمجاز يتصف بهما الإسناد أولا وبالذات واللفظ ثانياً وبالعرض، وبذلك ناسب ذكرهما في فن المعاني الباحث عن أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال، وقد تبع الأصل في إيرادهما هنا، وفيه نظر يعلم من المطول، وأن الحقيقة تنقسم أربعة أقسام باعتبار الطرفين، لأنهما إما مستعملان في حقيقتهما اللغوية، أو مجازهما، أو المسند إليه في حقيقته والمسند في مجازه أو عكسه، فالأول نحو: خلق الله زيداً، والثاني نحو: أحيا البحر زيداً، تريد أعطى الكريم زيداً، والثالث نحو: أحيا الإله البقل، والرابع نحو: جاء زيد، وأنت تريد غلامه.قال:
والثانِ أَنْ يُسْنَد للملابَسِ = ليسَ لَهُ يُبْنى كَـ"ثوبٍ لابِسِ
أقسامُه بِحَسَبِ النَّوْعَيْنِ فيْ = جُزْأيهِ أَرْبَعٌ بلا تَكَلُّفِ(1/34)
أقول: مراده بالثاني المجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو شبهه إلى ملابس بالفتح له غير ما هو له بتأويل: أي غير الملابس الذي ذلك الفعل أو ما في معناه مبني له، أي غير الفاعل في المبني للفاعل، وغير المفعول به في المبني للمفعول به، ومعنى التأويل نصب قرينة صارفة عن كون الإسناد إلى ما هو له، فخرج قول الكافر: أنبت الربيع البقل؛ لأنه معتقده، وكذا الأقوال الكاذبة وهذا معنى قوله: والثان أن يسند: أي الفعل الخ.(1/35)
وللفعل ملابسات شتى واقتصر الأصل عليه، وإن كان ما في معناه كاسم الفاعل كذلك لأنه الأصل، يلابس الفاعل لوقوعه منه، والمفعول به لوقوعه عليه، والمصدر لأنه جزء معناه، والزمان والمكان لوقوعه فيهما، والسبب لأنه يحصل به، فإسناده إلى الفاعل أو المفعول إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر وإلى غيرهما: أي غير الفاعل في المبني للفاعل وغير المفعول به في المبني للمفعول الجامع بينهما، وهو ملابسة كل منهما للفعل مجازاً كقولهم: عيشة راضية، فيما بني للفاعل وأسند للمفعول به إذ العيشة مرضية، وحقيقة الكلام رضي المرء عيشته ثم أسند الفعل إلى المفعول من غير أن يبنى له، فبقي رضيت العيشة، وهو معنى كونه مجازاً، ثم سبك من الفعل المبني للفاعل اسم فاعل وأسند إلى ضمير العيشة، فآل الأمر إلى أن صار المفعول فاعلاً، ومنه مثال الكتاب، وهو ثوب لابس، والأصل لبس زيد ثوباً ثم اسند الفعل إلى المفعول في التقدير من غير أن يبنى له فصار لبس ثوب ثم سبك من الفعل اسم فاعل، وقيل ثوب لابس، وسيل مفعم فيما بني للمفعول وأسند إلى الفاعل، وحقيقة الكلام أفعم السيل الوادي: أي ملأه، فأسند الفعل إلى المفعول في التقدير من غير أن يبنى له، فصار الكلام هكذا: أفعم الوادي السيل، ثم حذف الفاعل وأقيم المفعول مقامه وبني الفعل له فصار: أفعم السيل، وهو معنى كونه مجازاً نظراً إلى التركيب الأول، ثم سبك منه اسم مفعول، وقيل: سيل مفعم بفتح العين، فأسند اسم المفعول إلى ضمير المفعول الذي كان في الأصل فاعلا، وجد جده في المصدر حقيقته جد الرجل في جده، فحذف الفاعل وأسند الفعل المبني له إلى المصدر مبالغة فصار جد جده مجازاً، لأن الجاد هو صاحب الجد: أي من قام به الجد لا نفس الجد، ونهاره صائم في الزمان حقيقته صام المرء نهاره، أي في نهاره، ثم حذف الفاعل وأسند الفعل المبني له إلى الزمان فصار: صام نهاره، وهذا معنى كونه مجازاً، ثم سبك من الفعل اسم فاعل وأخبر به عن(1/36)
النهار فقيل: نهاره صائم فإسناد الصوم إلى ضمير النهار مجاز، لأن الصائم هو الشخص، ونهر جار في المكان وحقيقته جرى ماء النهر، أي في النهر فحذف الفاعل وأسند فعله إلى المكان وقيل: جرى النهر، وهذا معنى كونه مجازاً، ثم سبك من الفعل اسم فاعل، وأسند إلى ضمير النهر إسناداً مجازياً، لان الجاري الماء في النهر لا النهر، وبنى الأمير المدينة في السبب، وحقيقته: بنت الفعلة المدينة بسبب أمر الأمير، فحذف الفاعل وأسند فعله إلى الأمير فقيل: بنى الأمير المدينة، وهذا معنى كونه مجازاً، والمجاز العقلي يجري أيضاً في النسبة الإضافية نحو: أعجبني إنبات الربيع البقل، وفي الإيقاعية نحو ولا تطيعوا أمر المسرفين، فيكون معنى قوله أن يسند الخ مطلق النسبة إسنادية كانت أو إضافية أو إيقاعية، ولا يضرنا اقتصاره على التمثيل بالنسبة الإسنادية لإتيانه بالكاف التي لا تفيد الحصر.(1/37)
وقوله أقسامه الخ: يعني أن المجاز ينقسم إلى أربعة أقسام باعتبار طرفيه لأنهما إما حقيقتان لغويتان، أو مجازان، أو المسند إليه حقيقة والمسند مجاز، أو عكسه، مثال الأول: أنبت الربيع البقل، ومثال الثاني: أحيا الأرض شباب الزمان، لأن المراد بإحيائها نضارتها بأنواع الرياحين والنبات والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة، وهو صفة تقتضي الحس والحركة، وكذلك المراد بشباب الزمان زمان ازدياد قواها النامية، وهو في الحقيقة عبارة عن كون الحيوان في زمان كون حرارته الغريزية مشبوبة: أي قوية مشتعلة، ومثال الثالث أحيا الأرض الربيع، ومثال الرابع: أنبت البقل شباب الزمان، ومراد المصنف بالنوعين الحقيقة والمجاز، وبالجزأين المسند إليه والمسند، واختلف في المجاز العقلي، وفي المفرد هل وقعا في القرآن أم لا؟ فذهب قوم إلى الأول، وآخرون إلى الثاني، والصحيح الأول، وهو مختار الأصل: قال تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم، يذبح أبناءهم، يوما يجعل الولدان شيباً، ويكون في الإنشاء كقوله تعالى يا هامان ابن لي صرحاً، ولينبت الربيع ما شاء، وليصم نهارك ونحو ذلك قال:
وَوَجَبَتْ قرينةٌ لفظيَّةْ = أَوْ معنَوِيَّةٌ وَإِنْ عادِيَّةْ
أقول: المجاز العقلي لابد له من قرينة، وهي ما دل على المراد لا بالوضع.
وهي إما لفظية كقولك: شيب رأسي توالي الهموم والأحزان ولكن الله يفعل ما يشاء
وإما معنوية، وهي أنواع:
كاستحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلاً نحو: محبتك جاءت بي إليك، لظهور استحالة قيام المجيء بالمحبة، لان العرض لا يقوم بالعرض.(1/38)
أو عادة نحو: هزم الأمير الجند؛ لاستحالة قيام هزم الجند بالأمير وحده عادة وإن كان ممكنا عقلا.أو صدوره من الموحد في مثل أنبت الربيع البقل.ثم الفعل في المجاز العقلي يجب أن يكون له فاعل، أو مفعول به إذا أسند إليه يكون حقيقة فمعرفة ذلك قد تكون ظاهرة كقوله تعالى فما ربحت تجارتهم، أي فما ربحوا في تجارتهم، وقد تكون خفية لا تظهر إلا بعد نظر وتأمل نحو: سرتني رؤيتك، أي سرني الله وقت رؤيتك وهذا مذهب الأصل، وقال الشيخ عبد القاهر: لا يجب في المجاز العقلي أن يكون الفعل له فاعل إذا أسند إليه يكون الإسناد حقيقة فإنه ليس لسرتني ونحوه فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة وبيان مراده مذكور في المطولات.وأنكر السكاكي المجاز العقلي، وقال الذي عند نظمه في سلك الاستعارة بالكناية يجعل الربيع مثلا في المثال استعارة عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه وجعل نسبة الإنبات إليه الذي هو من لوازم الفاعل الحقيقي قرينة الاستعارة، ورده الأصل بوجوه لم تسلم له، ليس هذا الاختصار محل بسطها، فليرجع إلى الأصل وشرحه للسعد من أراد الوقوف على ذلك.
قال:الباب الثاني: في المسند إليه
أي بيان أحوال المسند إليه: أي الأمور العارضة له من حيث إنه مسند إليه كالحذف والذكر والتعريف والتنكير وغير ذلك، وقدمه على المسند لأنه كالموصوف والمسند كالصفة والموصوف أجدر بالتقديم لأنه الموضوع والصفة هي المحمول والأول أشرف من الثاني؛ ولأنه الركن الأعظم في الكلام.قال:
يُحْذَفُ لِلْعِلْمِ وَلاخْتِبارِ = مُسْتَمِعٍ وَصَحَّةِ الإِنْكارِ
سَتْرٍ وَضِيقِ فُرْصَةٍ إِجْلالِ = وعَكْسِهِ وَنَظْمٍ اسْتِعْمالِ
كَـ"حبذا طريقةُ الصوفيَّةْ = تهدي إلى المرتَبَةِ العليَّةْ
أقول: قدم حذف المسند إليه على سائر أحواله لكون الحذف عبارة عن عدم الإتيان به، وعدم الحادث سابق على وجوده، وفي المسند إليه باعتبار أحواله أبحاث:(1/39)
البحث الأول في حذفه، وحذفه يتوقف على أمرين:أحدهما: قابلية المقام له بأن يكون السامع عارفا به بقرينة.ثانيهما: ما يقتضي رجحان الحذف على الذكر.والأول معلوم من النحو، وأشار إلى تفصيل الثاني بقوله يحذف إلخ، فمن مرجحات الحذف:
العلم بالمسند إليه بالقرينة كقولك عابد في جواب من قال لك: ما حرفة زيد.
ومنها اختبار تنبه السامع عند القرينة هل يتنبه أم لا؟ ومنها اختبار مقدار تنبهه هل يتنبه بالقرائن الخفية أم لا؟ومنها صحة الإنكار عند الحاجة نحو: فاجر فاسق عند قيام القرينة على إرادة زيد ليتأتى أن تقول: ما أردت زيداً بل غيره.ومنها قصد ستره وإخفائه على غير المخاطب من الحاضرين نحو: جاء تريد زيداً لمن عرفه معك.
ومنها ضيق الفرصة وهي المبادرة: أي ضيق زمانها كقول الصياد: غزال: أي هذا غزال.
ومنها إجلاله وتعظيمه بصونه عن لسانك.ومنها تحقيره بصون لسانك عنه.ومنها ضرورة النظم من جهة الوزن أو القافية، وفي معناه ضرورة السجع.(1/40)
ومنها اتباع استعمال العرب كقولهم: رمية من غير رام: أي هذه رمية، وهو مثل يضرب لمن يقع منه الفعل وهو غير أهل له.ومن ذلك المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ، وذكر المصنف منها موضعاً، وهو ما إذا كان الخبر مخصوص نعم نحو: نعم الرجل زيد، فزيد خبر مبتدأ محذوف وجوباً في بعض الأوجه، ومنه طريقة في قوله: كحبذا طريقة الصوفية، فإنه خبر لمبتدأ محذوف وجوباً.وإنما كانت طريقة الصوفية محمودة؛ لأنها توصل إلى المرتبة العلية، وهو مقام الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه؛ لأن طريقتهم عبارة عن صفاء الباطن، والوقوف عند الأمر والنهي فينبغي لكل طالب علم أن يسلكها، فإنه وإن لم يصل إلى غايتها العظمي وهي معرفة الله جل جلاله، فلا أقل من الدخول في دائرة الورع ورقة القلب والتخلق بالأخلاق المحمودة والسلامة من حظوظ النفس والتهاون بالحقوق الشرعية، قال المصنف في شرحه: وكل من أعرض عن هذا العلم جملة لا يخلو من الفسق وضيعة العمر والرغبة في الدنيا، ومن لا قدم له في علم التصوف يخشى عليه من سوء الخاتمة اهـ. قال:
واذكُرْهُ لِلأَصْلِ والاحْتِياطِ = غَباوَةٍ إِيضاحٍ انْبِساطِ
تلذُّذٍ تَبَرُّكٍ إِعْظامِ = إِهانَةٍ تَشَوُّقٍ نِظامِ
تَعَبُّدٍ تَعَجُّبٍ تَهْويلِ = تَقْريرٍ اْو إِشْهادٍ اْوْ تَسْجيلِ
أقول: البحث الثاني في ذكره.
وله مرجحات:
منها أن ذكره الأصل ولا مقتضى للعدول عنه من قرينة أو غيرها.
ومنها الاحتياط لضعف التعويل على القرينة بسبب ضعفها أو ضعف فهم المخاطَب.
ومنها غباوة السامع كقولك لعابد الصنم، الصنم لا يضر ولا ينفع.
ومنها الإيضاح كقولك: زيد عندي لمن قال أين زيد.
ومنها الانبساط أي بسط الكلام في مقام يكون إصغاء السامع مطلوباً للمتكلم لعظمته وشرفه في نحو {هي عصاي}.
ومنها التلذذ نحو الحبيب راض.
ومنها التبرك نحو محمد وسيلتنا إلى ربنا.
ومنها التعظيم نحو محمد شفيعنا.
ومنها الإهانة نحو: العاصي ذليل.(1/41)
ومنها التشوق إلى مسماه نحو محمد أفلح من رآه.
ومنها ضرورة النظم إلى وزن أو قافية، وفي معناه ضرورة السجع.
ومنها التعبد بذكره كالله أكبر في النحر ونحوه.
ومنها التعجب نحو: زيد يقاوم الأسد.
ومنها التهويل والتخويف كقولك لمن تعظه الله ربنا أمر بهذا.
ومنها التقرير أي التمكن في نفس السامع نحو {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}، ففي تكرير اسم الإشارة تنبيه على أنه كما خصصهم بالهدى في الدنيا خصصهم بالفلاح في الآخرة.
ومنها الإشهاد في قضية نحو: زيد تسلف مني، أو التسجيل: أي الضبط على السامع في وثيقة حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار كقول الموثقين: باع فلان، وأجر فلان ونحوه، هذا حاصل ما في هذه الأبيات.
والنظام في كلامه جمع نظم، وغباوة وما بعده معطوف بحرف العطف المحذوف إلا الأخيرين
قال:
وَكَوْنِهِ مُعَرَّفاً بِمُضْمَرِ = بِحَسَب المقام في النحوِ دُري
والأَصْلُ في المخاطَبِ التَّعْيينُ = والتَّرْكُ لِلشُّمولِ مسْتَبينُ
أقول: البحث الثاني(*) في تعريفه، أي إيراده معرفة، وهو ما وضع ليستعمل في شيء بعينه.
وقدم المصنف هنا التعريف وفي المسند التنكير؛ لأن الأصل في المسند إليه التعريف وفي المسند التنكير والإتيان بالمسند إليه معرفة لإفادة المخاطب أتم فائدة؛ لأن النكرة وإن أمكن أن تخصص بالوصف بحيث لا يشاركها فيه غيرها كقولك أعبد إلها خلق السماء والأرض، لا يكون في قوة تخصيص المعرفة، لأنه وضعي بخلاف تخصيص النكرة.(1/42)
والتعريف يكون على وجوه متفاوتة تتعلق بها أغراض مختلفة، أما تعريفه بالإضمار فلكون المقام مقام تكلم نحو: أنا ضربت، أو خطاب نحو: أنت ضربت، أو غيبة نحو: هو ضرب لتقدم ذكره إما لفظاً تحقيقاً نحو: جاء زيد وهو راكب، أو تقديراً نحو: جاء وهو راكب زيد، وإما معنى لدلالة لفظ عليه نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى، فضمير هو راجع للعدل المفهوم من اعدلوا أو قرينة حال نحو حتى توارت بالحجاب فسياق الكلام الدال على فوات وقت الصلاة مع قرينة ذكر العشي والتواري بالحجاب يدل على أن الضمير راجع للشمس وإما حكما نحو ضمير الشأن وضمير رب نحو قل هو الله أحد، وربه وجلا.
وأصل الخطاب أن يكون لمعين واحدًا كان أو أكثر؛ لأن وضع المعارف على أن تستعمل لمعين، وقد لا يقصد به معين ليعم كل مخاطب على سبيل البدل نحو: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، لا تريد به مخاطباً بعينه بل تريد إن أكرم أو أحسن إليه، ومنه قوله تعالى {ولو ترى إذ وقفوا على النار} ونحوه أخرج على صورة الخطاب ليعم، إذ المراد أن حالهم تناهت في الظهور بحيث لا تختص براء دون آخر فلا يختص بالخطاب مخاطب دون مخاطب بل كل من تتأتى منه الرؤية فله مدخل فيه .
فإن قلت: إن هذا مشكل من جهة أنه يزيل اختصاص الضمير ويجعله شائعاً فيكون نكرة، والضمير لا يكون إلا معرفة.
الجواب: أنه جمع بين الحقيقة والمجاز فخوطب الجميع ليكون الخطاب لواحد حقيقة ولغيره مجازاً، ولا يضرنا عدم التعين في الخارج، لأن التعين مطلق، وقوله والترك: أي ترك التعين مستبين: أي ظاهر لأجل الشمول
قال:
وكونُهُ بِعَلَمٍ لِيَحْصُلا = بِذِهْنِ سامِعٍ بِشَخْصٍ أوَّلا
تَبَرُّكٌ تَلَذُّذٌ عِنايَةْ = إِجْلالٌ او إِهانَةٌ كِنايَةْ
أقول: من مرجحات كون المسند إليه علما -أي شخصياً-:(1/43)
إحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص به، فاحترز بعينه أي شخصه عن إحضاره باسم جنسه نحو: رجل عابد زارني، وبابتداء: أي أول مرة عن نحو جاءني زيد وهو راكب: فإنه وإن حصل فيه الإحضار في ذهن السامع بواسطة العلم أيضاً، لكن لا ابتداء بل ثانيا وباسمه الخاص به عن إحضاره بضميره أو إشارته أو غير ذلك نحو قوله تعالى {قل هو الله أحد}.
ومنها التبرك نحو محمد رسول الله.
ومنها التلذذ بذكره نحو: محمد يجب على كل أحد محبته.
ومنها الاعتناء بشأنه إما لترغيب أو تحذير أو تنبيه، وهو المراد بقوله عناية، مثال الأول زيد صديقك فلا تهمله، ومثال الثاني: زيد مخادع فلا تركن إليه، ومثال الثالث: زيد لا ينبغي الاجتماع عليه.
ومن ذلك التفاؤل نحو سعد في دارك والتطير أي التشاؤم نحو السفاح في دارك، أو التسجيل على السامع وغيره كما تقدم.
ومنها التعظيم نحو محمد سيد الأنام، ومنها الإهانة نحو مسيلمة كذاب، ومنه الكناية عن معنى يصلح له العلم نحو أبو لهب فعل كذا كناية عن كونه جهنميا بالنظر إلى الوضع الأول الإضافي لا الثاني اللقبي؛ لأن معناه ملازم النار وملابسها، ويلزمه أنه جهنمي، فيكون انتقالا من الملزوم إلى اللازم، وهذا القدر كاف في الكناية، وليس المراد أن واضع هذه الكنية لحظ من المكنى بها ذلك المعنى لغة، لأن الظاهر خلافه؛ إذ قيل: إنما سمي بذلك لأن لونه كان ملتهباً، والمراد بأبي لهب في المثال: الشخص المعلوم، ومن فهم خلاف ما تلوته عليك فيكفيه رد السعد عليه في شرح الأصل.
قال:
وكونُهُ بِالوَصْلِ لِلتَّفْخيمِ = تَقْريرٍ اوْ هُجْنَةٍ اوْ تَوْهيمِ
إيماءٍ او توجُّهِ السامِعِ لَهْ = أوْ فَقْدِ عِلْمِ سامِعٍ غَيْرِ الصِّلةْ(1/44)
أقول من مرجحات كون المسند إليه اسماً موصولاً التفخيم، وقدمه على اسم الإشارة مع أن اسم الإشارة أعرف منه؛ لمعرفة السامع مدلوله بالقلب والبصر بخلاف الموصول؛ عملاً بقوله في الخطبة سلكت ما أبدى من الترتيب، فهو تابع ولا لوم على التابع نحو {فغشيهم من اليم ما غشيهم} أي موج عظيم لا يكتنه كنهه ولا يمكن وصفه، فإن في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يخفى فلو قيل: فغشيهم الغرق لم يفد هذا التفخيم.
ومنها تقرير الغرض المسوق له الكلام: أي زيادة التقرير والتقوية، وقيل تقرير المسند وقيل المسند إليه، نحو {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} فإن الغرض المسوق له الكلام هو نزاهة يوسف عليه الصلاة والسلام، فلو قيل: راودته امرأة العزيز أو زليخا لم يفد ما أفاده الموصول باعتبار صلته، فهو أدل على الغرض المسوق له، وهو النزاهة؛ لأنه إذا كان في بيتها وتمكن من نيل المراد منها ومع ذلك عف عنها ولم يفعل كان ذلك غاية في النزاهة عن الفحشاء، وقيل: معناه زيادة تقرير المسند، أعني المراودة لما فيه من فرط الاختلاط والألفة، فلو قال: زليخا أو امرأة العزيز لم يفد ما أفاده الموصول من ذكر السبب الذي هو قرينة في تقرير المراودة باعتبار كونه في بيتها، وقيل: هو تقرير للمسند إليه لإمكان وقوع الإبهام، والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا لو ذكر أحدهما ولا يتأتى ذلك في التي هو في بيتها، لأنها واحدة معينة مشخصة.
ومنها الهجنة: أي استقباح ذكر المسند إليه، نحو: جاء الذي لقيك أمس، تريد رجلاً اسمه الكلب.
ومنها التوهيم: أي إظهار وهم المخاطب: أي غلطه وخطئه في اعتقاده نحو {إن الذي تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً} ومنه قول الشاعر:
إن الذين ترونهم إخوانكم = يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا(1/45)
ومنها الإيماء إلى وجه بناء الخبر: أي الإشارة إلى أن بناء المسند عليه من أي طريق من ثواب أو عقاب أو مدح أو ذم أو غير ذلك نحو {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جنهم داخرين} فإن الاستكبار الذي تضمنته الصلة مناسب لإسناد {سيدخلون جهنم داخرين} أي ذليلين إلى الموصول وربما جعل ذريعة إلى التعريض بتعظيم شأن المسند نحو:
إن الذي سمك السماء بنى لنا = بيتا دعائمه أعز وأطول
فإن ذكر الصلة التي هي سمك السماء مشعرة بتعظيم المبنى عليه، وهو البيت الذي بناه سامك السماء ورافعها، أو بتعظيم غيره نحو: الذي يوافقك يستحق الإجلال، وقد يكون ذريعة للإهانة نحو: الذي يخالفك يستحق الإذلال. ومنها توجه ذهن السامع واستفراغه لما يرد بعده فيقع منه موقعا ما إذا ورد نحو:
والذي حارت البرية فيه = حيوان مستحدث من جماد
ومنها عدم علم السامع بالأحوال المختصة به سوى الصلة نحو: الذي أطعمناه أمس جاءنا اليوم. وفي معناه عدم علم المتكلم وحده أو مع المخاطب نحو: الذي حولنا من الجن لا أعرفهم أو لا نعرفهم.
قال:
وَبِإِشارَةٍ لِكَشْفِ الحالِ = مِنْ قُرْبٍ اوْ بُعْدٍ أَوِ اسْتِجْهالِ
أوْ غايةِ التّمْييزِ والتعظيمِ = والحَطِّ والتنبيهِ والتفخيمِ
أقول: من مرجحات كون المسند إليه اسم إشارة:
بيان حال المشار إليه من قرب نحو: هذا زيد، أو بعد نحو: ذاك زيد أو ذلك زيد.
فلاسم الإشارة مرتبتان عند المصنِّف تبعاً لسيبويه وابن مالك، والأصل جعل المراتب ثلاثاً فيكون اسم الإشارة: للمتوسط ذاك، وللبعيد ذلك.
ومنها استجهال المخاطب: أي تجهيله والتعريض بغباوته، حتى أنه لا يتميز له الشيء إلا بالإشارة إليه كقول الفرزدق يخاطِب جريراً:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم = إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ومنها تمييزه غاية التمييز لإحضاره في ذهن السامع حسا بالإشارة كقول ابن الرومي:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه = من نسل شيبان بين الضال والسلم(1/46)
ومنها التعظيم: أي قصد تعظيمه بالقرب نحو {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أو البعد نحو {ذلك الكتاب} نزل بعد درجته ورفعة قدره منزلة بعد المسافة، ومنه {تلك آيات الله}{وتلك آيات الكتاب} وغير ذلك ومنها الحط: أي التحقير بالقرب نحو {وما هذه الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} نزلت دناءتها وخسة قدرها منزلة قرب المسافة، وبالبعد نحو: ذلك الفاسق فعل كذا، ومنها التنبيه عند ذكر أوصاف بعد المشار إليه، على أن المشار إليه حقيق بما يرد بعد اسم الإشارة بسبب تلك الأوصاف نحو، {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} فأتى بعد المشار إليه وهو {الذين يؤمنون} بأوصاف متعددة من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وغير ذلك، ثم عرف المسند إليه بالإشارة إليه؛ تنبيها على أن المشار إليهم أحقاء بما يرد بعد أولئك، وهو كونهم على الهدى عاجلا والفوز بالفلاح آجلا من أجل اتصافهم بالأوصاف المذكورة.
ومنها التفخيم ولم يذكره الأصل اكتفاء بالتعظيم وزاده المصنف لأن فيه زيادة التعظيم نحو: هذا زيد الذي تسمع به.
قال:
وكونُهُ باللاّمِ في النّحوِ عُلِمْ = لكِنَّ الاسْتِغْراقَ فِيهِ يَنْقَسِمْ
إلى حقيقيٍّ وَعُرْفيٍّ وَفي = فَردٍ مِنَ الجَمْعِ أَعَمَّ فَاقْتَفي
أقول: من مرجحات كون المسند إليه معرفاً باللام: الإشارة بها إلى معهود أو حقيقة.
فالأول ثلاثة أقسام:
الأول: معهود في الذكر صريحا أو كناية نحو {وليس الذكر كالأنثى} فالأنثى تقدم ذكرها صريحاً في قوله: {إني وضعتها أنثى} والذكر تقدم في قوله: {ما في بطني محرراً} لأن ما كناية عنه؛ لأن التحرير إنما كان للذكور.
الثاني معهود في الذهن نحو {إذ هما في الغار}.
الثالث معهود في الحضور نحو {اليوم أكملت لكم دينكم} ومنه الواقعة بعد اسم الإشارة وأي في النداء.
والثاني ثلاثة أقسام أيضاً:(1/47)
الأول: الإشارة إلى الحقيقة من حيث هي نحو: الرجل خير من المرأة، ومنه أل الداخلة على المعرَّف بفتح الراء نحو: الإنسان حيوان ناطق، إذ التعريف إنما هو للماهية لا للأفراد.
الثاني: الإشارة إلى الحقيقة باعتبار وجودها في بعض الأفراد غير معين كقولك: ادخل السوق حيث لا عهد في الخارج، ومنه قوله تعالى {وأخاف أن يأكله الذئب} وهذا المعرف في المعنى كالنكرة ولذا عومل معاملتها في الوصل بالجملة نحو:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وإن كان في اللفظ يجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا للمعرفة وموصوفا بها ونحو ذلك، وإنما قيل كالنكرة لما بينهما من تفاوت ما، وهو أن النكرة معناه بعض غير معين من جملة الحقيقة، وهذا معناه نفس الحقيقة وإنما تستفاد البعضية من القرينة كالدخول والأكل فيما مر، فالمجرد وذو اللام بالنظر إلى القرينة سواء، وبالنظر إلى أنفسهما مختلفان.
الثالث: الإشارة إلى الحقيقة باعتبار وجودها في كل فرد من الأفراد فيفيد الاستغراق نحو {إن الإنسان لفي خسر} بدليل صحة الاستثناء الذي شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكره،
وهو ضربان:
حقيقي: وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم اللغة نحو {عالم الغيب والشهادة} أي كل غيب وكل شهادة.(1/48)
وعرفي: وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف نحو جمع الأمير الصاغة أي صاغة بلده، لا كل الصاغة، واستغراق المفرد أشمل من الجمع، فقولك لا رجال في الدار يصدق إذا كان فيها رجل أو رجلان بخلاف قولك لا رجل فيها، وهذا في النكرة المنفية مسلم وأما المعرف باللام فلا، بل الجمع المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد على ما ذكره جمهور الأصوليين، ودل عليه الاستغراق في نحو {والله يحب المحسنين} أي كل محسن فإن قيل إفراد الاسم يدل على الوحدة والاستغراق يدل على التعدد فيتنافيان فالجواب أن الحرف إنما يدخل عليه عند إرادة الاستغراق مجرداً عن الوحدة والتعدد.
وقوله في النحو علم أشار به إلى الأقسام المتقدمة، وإلى الخلاف في كون المعرف أل بتمامها وهمزتها همزة قطع أو وصل أو اللام وحدها، وهو مذهب علماء المعاني، ولذا يقولون: وأما تعريفه باللام كالمصنف في قوله باللام أو الهمزة واللام للفرق بينها وبين همزة الاستفهام وإلى ما يتفرع على ذلك.وقوله فاقتفى تكملة
قال:
وَبِإضافَةٍ لِحَصْرٍ وَاخْتِصارْ = تَشْريفِ أَوَّلٍ وَثانٍ وَاحْتِقارْ
تَكافؤٍ سآمةٍ إِخْفاءِ = وَحَثٌٍّ اوْ مَجَازٍ اسْتِهْزاءِ
أقول: من مرجحات كون المسند إليه مضافا لما بعده:
الحصر حيث لا تضبط أفراد المسند إليه إلا بإضافة نحو: أهل الله ساكنون تحت مجاري الأقدار، ومنها الاختصار، نحو:
هواي مع الركب اليمانين مصعد = جنيب وجثماني بمكة موثق
فهو أخصر من الذي أهواه وأولى لضيق المقام بسبب كونه في السجن وحبيبه على الرحيل.
ومنها تشريف المضاف نحو: أمة محمد مرحومة، أو المضاف إليه نحو: نبينا محمد أفضل الأنام.
ومنها تحقير المضاف نحو: ولد الحجام حاضر، أو المضاف إليه نحو: أخو أخوك اللئيم حاضر.فقوله واحتقار أي احتقار كل من الأول والثاني أي المضاف والمضاف إليه.(1/49)
ومنها التكافؤ: أي التماثل في الرتبة بحيث لا مرجح للبداءة بأحد أفراد المسند إليه نحو: علماء البلد حضروا.ومنها سآمة المتكلم أو السامع من ذكر أفراد المسند إليه لكثرتها نحو: أهل البلد حضروا.
ومنها إخفاء المسند إليه وستره عن غير المخاطب من السامعين نحو صاحبك تغير حاله.
ومنها حث السامع وتحريضه على إكرام أو إذلال، فالأول نحو صديقك أتى إليك والثاني نحو عدوك يريد أن يظهر عليك، ومنها تضمن الإضافة مجازاً لطيفاً نحو {ولنعم دار المتقين} أضيفت الدار للمتقين مع أنها دار المتقين وغيرهم لاختصاصهم بنعيمها.
ومنها الاستهزاء كقولك لمن يعتقد صلاح ذي بدعة: صاحبك تارك الصلاة.
ومنها غير ذلك كالاستغراق نحو: فعل الله جميل أي كل فرد من أفراد فعله {لا يسأل عما يفعل}.وبهذا الحال تمت أنواع المعرفة .
قال:
وَنَكّروا إِفراداً اوْ تَكْثيرا = تَنْويعاً اوْ تعظيماً او تَحْقيرا
كَجَهْلٍ اوْ تجاهُلٍ تَهْويلِ = تَهْوينٍ اوْ تَلْبيسٍ اوْ تَقْليلِ
أقول: البحث الرابع في تنكيره، فمن مرجحاته:
القصد إلى فرد مما يصدق عليه اسم الجنس نحو {وجاء رجل من أقصى المدينة} أي رجل واحد.
ومنها التكثير بمعنى أن ذلك الشيء لكثرته لا يحتاج إلى تعريف نحو إن له لإبلا.
ومنها التنويع بأن يراد بالمسند إليه نوع مخالف للأنواع المعهودة نحو {وعلى أبصارهم غشاوة} أي نوع غريب من الغشاوة، وهو ما يتعامى به عن الحق.
ومنها التعظيم نحو {وجاءهم رسول كريم}.
ومنها التحقير نحو قولك عند ملاقاة حجام لقيني رجل، وقد اجتمعا في قوله:
له حاجب عن كل أمر يشينه = وليس له عن طالب العرف حاجب
فتنكير حاجب الأول للتعظيم والثاني للتحقير.
ومنها الجهل به نحو جاءني رجل إذا كنت لا تعرفه.
ومنها التجاهل كقولك ذلك وأنت تعرفه.
ومنها التهويل كقولك لمن أردت تفزيعه وتخويفه وراءك حساب.
ومنها التهوين بالنون كقولك لمن عليه بقية دين: بقي شيء أي قليل.(1/50)
ومنها التلبيس: أي الإخفاء على السامع نحو: قال لي قائل إنك خائن.
ومنها التقليل كقولك للظمآن هنا شيء من الماء.
ومما له مناسبة بالتعريف والتنكير قاعدة وهي أن الاسم إذا كرر مرتين، فإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول، أو معرفتين أو الثاني فقط فهو عينه أو الأول معرفة، والثاني نكرة فقولان، فالأول والثاني كالعسر واليسر في قوله تعالى {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} والثالث نحو {فيها مصباح المصباح} والرابع كقوله:
صفحنا عن بني ذهل = وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجعـ = ـن قوما كالذي كانوا
وهذه القاعدة أغلبية كما يعلم من المطولات.قال:
وَوَصْفِهِ لِكَشْفٍ اوْ تَخْصِيصِ = ذَمٍ ثَنا تَوكيدٍ اوْ تَنْصيصِ
أقول: البحث الخامس في إتباعه.أما وصفه فلأمور:
منها كشف معناه نحو: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله، فكل من هذه الأوصاف الثلاثة يبين الجسم بوجه ما، والمجموع وصف كاشف بالغ مرتبة الحد على مذهب المعتزلة، وأما على مذهب أهل السنة فهو الجوهر القابل للقسمة، فإن لم يقبلها فهو الجوهر الفرد.
ومنها تخصيصه بتقليل الاشتراك أو رفع الاحتمال، فالأول نحو: زيد العابد عندنا، إذا كان هناك مشارك له في العبادة، والثاني نحو: زيد العالم عندنا، إذا لم يكن عالم غيره.
ومنها الذم نحو زيد الجاهل في السوق.
ومنها الثناء أي المدح نحو زيد العابد في المسجد إذا كان الموصوف معيناً بدون الوصف فيهما.
ومنها التوكيد نحو أمس الدابر كان يوماً عظيما.
ومنها التنصيص أي البسط والبيان لكون دلالة المنطوق أقوى نحو جاءني رجل واحد.
واعلم أن المسند إليه إذا كان ضميراً لا يصح وصفه كما هو مقرر في محله
قال:
وأكدوا تقريراً اوْ قصدَ الخُلوصْ = مِنْ ظنِّ سَهْوٍ اوْ مجازٍ اوْ خُصوصْ
أقول: أما توكيده فلأمور:
منها التقرير أي تقرير المسند إليه، وتحقيق مفهومه بحيث لا يظن به غيره نحو جاءني زيد زيد.(1/51)
ومنها دفع توهم السهو إذا خاف المتكلم أن السامع ظن به السهو، فأسند الحكم إلى غير من هو له نحو المثال المتقدم.
ومنها دفع توهم المجاز نحو جاء الأمير نفسه دفعا لتوهم أن إسناد المجيء إلى الأمير مجاز، وإنما الجائي بعض خدمه.
ومنها دفع توهم التخصيص وعدم الشمول نحو جاء القوم كلهم، دفعا لتوهم أن الجائي
لبعض وعبر عنه باللفظ الدال على الكل.قال:
وَعَطفوا عَلَيْهِ بالبَيانِ = بِاسْمٍ بِهِ يَخْتَصُّ للبيانِ
أقول: وأما تعقيب المسند إليه بعطف البيان فلإيضاحه باسم مختص به نحو: قدم صديقك خالد، ولا يلزم أن يكون الثاني أوضح لجواز أن يحصل الإيضاح من اجتماعهما.والفرق بين النعت وعطف البيان أن الأول يدل على معنى في متبوعه، والثاني يكشف حقيقته.وقد يكون عطف البيان للمدح لا للإيضاح نحو {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} فالبيت الحرام جيء به للمدح لا للإيضاح.والبيان الأول في البيت المراد به التابع المخصوص، والثاني اسم مصدر بين، فلا إيطاء في البيت.
قال:
وأبدَلوا تقريراً أو تحصيلا = وعطفوا بِنَسَقٍ تفصيلا
لأَحَدِ الجُزْأينِ أَوْ رَدٍّ إِلى = حَقٍ وَصَرْفِ الحُكْمِ لِلّذي تَلا
والشكِ والتشكيكِ والإِبهامِ = وَغَيْرِ ذلِكَ مِنَ الأَحْكامِ
أقول: وأما البدل من المسند إليه فلتقرير الحكم بسبب تقديم التوطئة لذكر البدل فتتشوف النفس إليه فيتقرر الحكم ويثبت، وذلك في بدل الكل نحو جاء أخوك زيد.أو لتحصيل الحقيقة، وذلك في بدل البعض نحو مات العلماء أكثرهم، والاشتمال نحو: سلب الناس عقولهم.وأما بدل الغلط فلا دخل له هنا، لأنه لا يقع في فصيح الكلام.وأما العطف أي جعل الشيء معطوفاً على المسند إليه بحرف فلأمور:(1/52)
منها تفصيل المسند إليه مع الاختصار نحو: جاء زيد وعمرو، فإن فيه تفصيلا للفاعل بأنه زيد وعمرو من غير دلالة على تفصيل الفعل بأن المجيئين كانا معا أو مرتبين مع مهلة أو بلا مهلة.ومنها تفصيل المسند كذلك نحو: جاءني زيد فعمرو أو ثم عمرو أو جاء القوم حتى خالد، فالثلاثة تشترك في تفصيل المسند إلا أن الفاء تدل على التعقيب من غير تراخ، وثم على التراخي وحتى على أن أجزاء ما قبلها مرتبة في الذهن من الأضعف إلى الأقوى أو بالعكس، فمعنى تفصيل المسند فيها أي حتى أن يعتبر تعلقه بالمتبوع أولا، وبالتابع ثانيا من حيث إنه أقوى أجزاء المتبوع أو أضعفها، ولا يشترط فيها الترتيب الخارجي لجواز أن يكون ملابسة الفعل لما بعدها قبل ملابسته للأجزاء الأخر التي قبلها نحو: مات كل أب لي حتى آدم، وهذا معنى قوله تفصيلاً لأحد الجزأين: أي المسند إليه، أو المسند.
ومنها رد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب نحو: جاءني زيد لا عمرو لمن اعتقد أن عمراً جاءك دون زيد، أو أنهما جاءاك جميعا فيكون على الأول قصر قلب، وعلى الثاني قصر إفراد ومراده بالحق الصواب.
ومنها صرف الحكم عن محكوم عليه إلى محكوم عليه آخر نحو جاء زيد بل عمرو، وما جاء زيد بل عمرو فإن بل للإضراب عن المتبوع وصرف الحكم إلى التابع ومعنى الإضراب عن المتبوع أن يجعل في حكم المسكوت عنه لا أن ينفى عنه الحكم قطعا.
ومنها الشك من المتكلم في المسند إليه نحو: جاء زيد أو عمرو إذا علم بمجيء أحدهما لا بعينه.ومنها التشكيك: أي إيقاع المتكلم السامع في الشك بأن يكون المتكلم عالماً لكنه يريد تشكيك المخاطب كالمثال المتقدم.ومنها الإبهام وهو أن يكون المتكلم عالماً بالنسبة ولكنه أبهم على المخاطب لنكتة نحو {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} والنكتة في الآية أن لا يزيد إنكار المخاطبين ولجاجهم.وقوله وغير ذلك من الأحكام كالتخيير والإباحة، والمثال ظاهر، والفرق بينهما مثله.قال:(1/53)
وَفَصْلُه يُفيدُ قَصْرَ المُسْنَدِ = عَليه كـ"الصوفيُّ هُوَ المهتدي"
أقول: من أحوال المسند إليه فصله: أي تعقيبه بضمير فصل، ويكون لنكتة منها تخصيصه بالمسند، وعليها اقتصر المصنف كأصله نحو: زيد هو العالم: أي لا غيره، ولذا يمتنع أن تقول وغيره، ومنه مثال المصنف باعتبار الكمال في الاهتداء، ومنها الدلالة على أن ما بعده خبر لما قبله لا صفة، ومنها التأكيد وذكرهما في الكشاف مع الأول في قوله تعالى {وأولئك هم المفلحون}
قال:
وقدَّموا للأصلِ أوْ تشويفِ = لخبرٍ تلذذٍ تشريفِ
وَحَطٍ اهْتِمامٍ اوْ تنظيمِ = تفاؤلٍ تخصيصٍ اوْ تعميمِ
إِنْ صاحَبَ المُسْندَ حَرْفُ السَّلبِ = إِذْ ذاكَ يَقتضي عُمومَ السَّلْبِ
أقول: البحث السادس في تقديمه للاهتمام وله مرجحات:
منها أن تقديمه الأصل لأنه المحكوم عليه، ولابد من تحققه قبل الحكم فقصدوا أن يكون في الذكر أيضاً مقدماً ولا مقتضى للعدول عنه، إذ لو كان أمر يقتضي العدول عنه فلا يقدم كما في الفاعل، فإن مرتبة العامل التقدم على المعمول.
ومنها تمكن الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشوفاً إليه كقوله:
والذي حارت البرية فيه = حيوان مستحدث من جماد
أي الإنسان من حيث عوده بعد الفناء، يعني تحيرت الخلائق في المعاد الجسماني، وليس المراد آدم ولا غيره مما قيل.
ومنها التلذذ بذكره نحو محمد حبيبنا.
ومنها التشريف أي التعظيم نحو محمد نبينا.
ومنها الحط، أي التحقير نحو مسيلمة كذاب.
ومنها الاهتمام، وهو أعم الجهات: أي جهات التقديم وكلها من أفراده فكان ينبغي له أن يسلك ما سلكه الأصل من جعله الاهتمام سبباً في التقديم، وجعل هذه الجهات من أفراده.
ومنها التنظيم أي النظم أي ضرورته من وزن أو قافية، وفي معناه السجع.
ومنها تعجيل المسرة بسبب التفاؤل نحو سعد في دارك، ومثله تعجيل المساءة بسبب التطير والتشاؤم نحو: السفاح في دار صديقك.(1/54)
ومنها التخصيص أي تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي: أي جعل المسند الفعلي مقصورا على المسند إليه إن تقدم على المسند إليه حرف السلب نحو ما أنا قلت هذا أي لم أقله مع أنه مقول لغيري، إذ لا يقال ذلك إلا في شيء ثبت في الجملة لغير المسند إليه فالتقديم يفيد نفي الفعل عن المتكلم وثبوته لغيره على الوجه الذي نفي عنه من العموم أو الخصوص، ولهذا لا يصح ما أنا قلت هذا ولا غيري، لأن مفهوم ما أنا قلت يناقض منطوق لا غيري، ولا ما أنا رأيت كل واحد لاقتضائه أن غيره رأى كل أحد لقصر سلب الرؤية على وجه العموم وهو يقتضي ثبوتها للغير كذلك، ولا ما أنا ضربت إلا زيداً لأنه يقتضي أن إنساناً غيره قد ضرب كل أحد سوى زيد، فهذه ثلاث صور ممتنعة للجهة المذكورة، فإن لم يل المسند إليه حرف النفي بأن يفقد من الكلام أصلاً أو يتأخر عنه فتارة يكون التقديم للتخصيص والرد على من زعم انفراد غير المسند إليه بالفعل أو مشاركته له نحو: أنا سعيت في حاجتك لا غيري، إن قصد الرد على من زعم انفراد غيري، أو وحدي إن قصد الرد على من زعم المشاركة.
وتارة يرد لتقوية الحكم وتقريره عند السامع دون التخصيص نحو هو يعطي الجزيل بقصد أن يقرر في ذهن السامع أنه يفعل ذلك لا أن غيره لا يفعله، وكذلك إذا كان الفعل منفيا نحو أنت لا تكذب، فإنه أبلغ في نفي التكذيب من لا تكذب لما في الأول من تكرير الإسناد المفقود في الثاني ومن لا تكذب أنت وإن كان فيه تأكيد بلفظ أنت، لأنه لتأكيد المحكوم عليه بأنه ضمير المخاطب تحقيقاً لا لتأكيد الحكم لعدم تكرار الإسناد، وهذا المذكور من التخصيص والتقوي إذا بنى الفعل على معرف، فإن بنى على منكر فإنه يفيد تخصيص الجنس أو الواحد به نحو: رجل جاءني لا امرأة إن أريد الأول ولا أكثر إن أريد الثاني.
ومن أراد زيادة على ذلك فعليه بالأصل وشرحه.(1/55)
ومنها عموم السلب، وهو مراده بالتعميم وذلك إذا كان لفظ كل مضافا إلى المسند إليه، واقترن بالمسند حرف السلب نحو كل إنسان لم يقم أي لم يقع قيام من فرد من أفراده فهو من عموم السلب ومنه الحديث كل ذلك لم يكن أي لم يقع قصر ولا نسيان كما في الحديث الآخر لم أنس ولم تقصر وأما إذا تقدم حرف السلب على كل فإنها لسلب العموم نحو:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه = تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وسلب العموم مقتض لثبوت الحكم للبعض.
ومن أراد زيادة في هذا المقام فعليه بالأصل وشرحه:
فصل: في الخروج عن مقتضى الظاهر
وخرجوا عن مقتضى الظواهرِ = كَوَضْعِ مُضْمَرٍ المَكانَ ظاهِرِ
لِنُكْتَةٍ كَبَعْثٍ اوْ كَمالِ = تَمْييزٍ وسُخْرِيَةٍ إِجْهالِ
أَوْ عَكْسٍ اوْ دَعوى الظّهورِ وَالمَدَدْ = لِنُكْتَةِ التّمكينِ كَـ"اللهُ الصَّمَدْ"
وقصدِ الاستعطافِ والإرهابِ = نحوُ "الأَميرُ واقِفٌ بالبابِ"
أقول: جميع ما تقدم من المقامات المذكورة من الحذف والذكر وغير ذلك مقتضى ظاهر الحال، وذكر في هذا الفصل الخروج عن مقتضى ظاهر الحال إلى مقتضى الحال وهو المشار إليه بنكتة ومن المعلوم أن مقتضى ظاهر الحال أخص من مقتضاه، وصور الخروج عن مقتضى ظاهر الحال كثيرة ذكر المصنف بعضها:
فمنها وضع المضمر موضع المظهر نحو {كل من عليها فان} يعني الأرض ومنه هو زيد عالم لبعث الإضمار على توجه نفس السامع إلى الخبر.
ومنها وضع المظهر موضع المضمر، فإن كان المظهر اسم إشارة فالنكتة كمال العناية بتمييز المسند إليه لاختصاصه بحكم بديع كقول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه = وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة = وصير العالم النحرير زنديقا(1/56)
والأصل هو : أي ما تقدم من إعياء مذاهب العاقل ورزق الجاهل، فعدل إلى الإشارة لكمال العناية بتمييزه ليرى السامعين أن هذا المعنى المتميز هو الذي له الحكم العجيب، وهو جعل الأوهام حائرة والعالم النحرير زنديقا أو السخرية والتهكم كما إذا كان السامع أعمى فقال:
من قام؟ فقلت له هذا مشيراً إلى مجهول أو مفقود تهكما به، أو إجهال السامع: أي نسبته إلى الجهل والبلادة حتى إنه لا يدرك إلا المحسوس كقول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم = إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ومقتضى الظاهر هم.أو عكس ذلك وهو التعريض بفطانة السامع وذكائه حتى إن غير المحسوس عنده بمنزلة المحسوس كقولك مشيراً إلى معنى معقول: هذا مرادي. أو ادعاء كمال ظهور المسند إليه حتى كأنه محسوس كالمثال المتقدم باعتبار ادعاء كمال الظهور، وإن كان غير اسم الإشارة فالنكتة المدد أي الزيادة بنكتة هي التمكن أي زيادة تمكن المسند إليه وتقريره في نفس السامع نحو: جاء زيد وزيد فاضل، ومنه مثال المتن.
والصمد: هو الذي يصمد إليه ويقصد في الحوائج، أو لاستعطاف: أي طلب العطف والرحمة كقول الداعي: إلهي عبدك العاصي دعاك معترفا بذنبه فتب عليه توبة تمحو الأغيار من قلبه ومقتضى الظاهر أنا العاصي.
أو الإرهاب أي التخويف نحو {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} لم يقل أنا آمركم لأن في إظهار الاسم ترهيبا، ومنه مثال المتن لم يقل أنا واقف ترهيبا بإظهار لفظ الأمير.قال:
وَمِنْ خِلافِ المُقتَضى صَرْفُ مُرادْ = ذي نُطْقٍ اوْ سُؤْلٍ لِغَيْرِ ما أَرادْ
لِكَوْنِهِ أَوْلى بِهِ وَأَجْدَرا = كَقِصَّةِ الحَجَّاجِ وَالقَبَعْثَرى(1/57)
أقول: من خلاف مقتضى الظاهر مجاوبة المتكلم بغير ما يترقب وسماها عبد القاهر المغالطة، والسكاكي الأسلوب الحكيم، وذلك بحمل كلامه على خلاف قصده تنبيها على أنه أولى بالقصد من ذلك ما يحكى أن الحجاج توعد شاعراً يقال له القبعثرى بأن قال له: لأحملنك على الأدهم يعني القيد فقال له القبعثرى مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، فحمل وعيده على الوعد فقال له الحجاج: إنه حديد، فقال القبعثرى: لأن يكون حديداً خير من يكون بليداً، ومنها إجابة السائل بغير ما سأل عنه تنبيها على أنه اللائق بسؤاله كقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} سألوا عن الهلال لم [يبدو] دقيقا ثم يتزايد حتى يستوي ثم ينقص حتى يعود كما بدا؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك، وهي معرفة المواقيت والحلول والآجال ومعالم الحج يعرف بها وقته للتنبيه على أن اللائق السؤال عن الحكمة، قال السعد: لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على دقائق علم الهيئة، قال السيوطي في شرح عقود الجمان: وهذه قلة أدب منه وجهل بمقدار الصحابة رضي الله عنهم، وشنع عليه بكلام يراجعه من أراد الوقوف عليه، وذكر أنه ورد ما يدل على أن المسؤول عنه هو الحكمة في خلق الأهلة لا سبب الزيادة والنقصان، ونص السؤال: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فعلى هذا لا تكون المسألة من خلاف مقتضى الظاهر.وقوله سؤل على وزن قفل لغة في السؤال
قال:
والالتفاتُ وَهْوَ الانْتِقالُ مِنْ = بَعْضِ الأساليبِ إِلى بَعْضٍ قُمِنْ
والوَجْهُ الاسْتِجلابُ لِلْخِطابِ = وَنُكْتَةٍ تَخُصُّ بَعْضَ البابِ(1/58)
أقول: من خلاف مقتضى الظاهر الالتفات وهو عند الجمهور التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة أعني التكلم والخطاب والغيبة بعد التعبير عنه بغيره منها ولا يشترط التعبير عنه بالغير على مذهب السكاكي، فهو عنده أعم منه عند الجمهور فقول الخليفة أمير المؤمنين نأمرك بكذا التفات على مذهبه لأنه منقول عن أنا لا على مذهب الجمهور لعدم تقدم خلافه، فأقسامه ستة حاصلة من ضرب اثنين في ثلاثة، لأن كل قسم من الثلاثة ينقل إلى قسمين:
الأول من التكلم إلى الخطاب نحو {ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} الأصل وإليه أرجع.
الثاني منه إلى الغيبة نحو {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر} الأصل فصل لنا.
الثالث: من الخطاب إلى التكلم نحو قوله:
طحا بك قلب في الحسان طروب = بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وليها = وعادت عواد بيننا وخطوب
الشاهد في بك ويكلفني بالياء التحتية والأصل يكلفك. الرابع منه إلى الغيبة نحو {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} الأصل بكم.
الخامس من الغيبة إلى الخطاب نحو {مالك يوم الدين إياك نعبد} الأصل إياه نعبد.
السادس منها إلى التكلم نحو {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه} الأصل فساقه ووجه الالتفات ونكتته استجلاب نفس السامع للخطاب: أي الكلام المخاطب به لأن النفس مجبولة على حب المتجدد، فإذا تجدد الكلام إلى أسلوب كان أدعى للإصغاء إليه، وهذه النكتة عامة في جميع أقسام الالتفات وربما اختص كل موضع منه بلطائف ونكت كالفاتحة، فإن العبد إذا ذكر الله وحده ثم ذكر صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها مالك يوم الديني المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء فحينئذ يوجب الإقبال عليه والخطاب بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات وهو معنى قوله ونكتة الخ.
ومما هو شبيه بالالتفات وليس منه مسألتان ذكرهما السيوطي في عقود الجمان:(1/59)
الأول التعبير بواحد من المفرد والمثنى والمجموع عن آخر منها، وهو من أنواع المجاز بخلاف الالتفات والمسألة الآتية فإنهما حقيقتان مثال المفرد عن المثنى قول الأعشى:
فرجى الخير وانتظري إيابي = إذا ما القارظ العنزى آبا
وإنما هما القارظان لأن المثل: حتى يثوب القارظان، ومثاله على الجمع:
وذبيان قد ذلت بأقدامها النعل أي النعال، ومثال المثنى عن المفرد {ألقيا في جهنم} أي ألق وعن الجمع {ثم ارجع البصر كرتين} إذ المراد التكثير لا مرتان، ومثال الجمع عن المفرد {رب ارجعون} أي ارجعني وعن المثنى {فقد صغت قلوبكما} أي قلباكما.
الثانية الانتقال من خطاب واحد من ا لثلاثة إلى آخر منها، مثاله من الخطاب لواحد إلى الاثنين {لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض} وإلى الجمع {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} ومثاله من الاثنين إلى الواحد {فمن ربكما يا موسى} ومثاله من الاثنين إلى الجمع {أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة} ومثاله من الجمع إلى الواحد {وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} وإلى الاثنين {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم} إلى قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} والنكتة في هذه المسألة كالنكتة في الالتفات. قال:
وَصيغةُ الماضي لآتٍ أَوْردوا = وَقَلَبوا لِنُكْتَةٍ وَأَنْشَدوا
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجاؤهُ = كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَماؤهُ(1/60)
أقول: من خلاف مقتضى الظاهر التعبير عن المعنى المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه نحو {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض} أي يفزع ونحو {أتى أمر الله} أي يأتي ومنه التعبير باسم الفاعل أو المفعول نحو {وإن الدين لواقع} {ذلك يوم مجموع له الناس} لأن الوصفين المذكورين حقيقة في الحال مجاز فيما سواه، ومن خلاف المقتضى القلب: وهو أن يجعل أحد جزأي الكلام مكان الآخر نحو عرضت الناقة على الحوض أي أظهرته عليها لتشرب مكان عرضت الحوض على الناقة لأن القاعدة أن المعروض عليه يكون له ميل إلى المعروض، والحوض مما يميل إليه الحيوان فيعرض هو على الحيوان لا الحيوان عليه، واختلف في قبوله فقيل يقبل مطلقاً لأنه يورث الكلام ملاحة، وقيل لا يقبل مطلقا لأنه عكس المطلوب ونقيض المقصود، والحق ما عليه الأصل، وهو التفصيل، فإن تضمن معنى لطيفاً قبل، وإلا فلا، فالأول نحو قوله:
ومهمه مغبرة أرجاؤه = كأن لون أرضه سماؤه
والأصل: كأن لون سمائه لغبرته لون أرضه أي كلونها، والنكتة فيه المبالغة في وصف لون السماء بالغبرة حتى صار بحيث يشبه به لون الأرض في ذلك مع أن الأرض أصل فيه، والمهمه المفازة، والمغبرة المملوءة غبارا والأرجاء: النواحي جمع رجى بالقصر كرحى، والثاني نحو قوله:
فلما أن جرى سمن عليها = كما طينت بالفدن السياعا
يصف ناقة بالسمن والفدن القصر والسياع الطين المخلوط بالتبن، والأصل كما طينت بالسياع الفدن، وليس في هذا القلب معنى لطيف.
قال: الباب الثالث : المسند
أقول: أخره عن المسند إليه لأنه فرع عنه ومسوق لأجله، لأن المسند إليه محكوم عليه، والمسند حكم، والثاني مؤخر عن الأول.والمقصود من هذا الباب بيان الأحوال العارضة للمسند من حيث كونه مسندا، كالحذف والذكر وغير ذلك. قال:
يحذف مسندٌ لما تقدما = والتزموا قرينةً لِيُعْلَما(1/61)
أقول: يتعلق بالمسند أبحاث، البحث الأول في حذفه، ويكون للنكت الماضية في حذف المسند إليه، فمنها الاحتراز عن العبث أي الإتيان بما لا فائدة فيه للعلم به نحو: زيد في جواب من قام، وقوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله = فإني وقيار بها لغريب
الرحل: هو المنزل والمأوى وقيار اسم فرس للشاعر، وهو ضابئ بن الحرث فالمسند إلى قيار محذوف لدلالة خبر ما قبله عليه، ولضيق المقام بسبب التوجع والاختصار، ولحفظ الوزن أيضاً، ومن ذلك {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} والأصل لو تملكون تملكون فحذف الفعل احترازاً عن العبث لوجود المفسر فانفصل الضمير، وليس أنتم مبتدأ وما بعده خبر بل فاعل لفعل محذوف كما رأيت، لأن لو لا تدخل على الاسم، ويشترط للحذف قرينة تدل على المحذوف كوقوع الكلام جواباً لسؤال محقق أو مقدر فالأول نحو {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} أي خلقهن الله، فحذف المسند بدليل التصريح به في الآية الأخرى في قوله {ليقولن خلقهن العزيز العليم} فهو فاعل لا مبتدأ، والثاني نحو:
ليبك يزيد ضارع لخصومة = ومختبط مما تطيح الطوائح
والمختبط الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة، وتطيح من الإطاحة وهي الإذهاب والإهلاك، فالطوائح جمع مطيحة على غير قياس فمختبط معطوف على ضارع، ومقصود الشاعر أنه ينبغي أن يبكي على يزيد رجلان ذليل لكونه الناصر له، وفقير أصابته حوادث الزمان فأهلكت ماله وأذهبته، لأنه كان ناصر كل ذليل وجابر فقر كل فقير، وهذا على قراءة ليبك بصيغة المبني للمجهول، ولو قرئ بصيغة المبني للفاعل، ويزيد مفعول مقدم، وضارع فاعل مؤخر لم يكن مما نحن بصدده. قال:
وذِكْرُه لِمَا مَضى أَوْ لِيُرى = فِعْلاً أَوِ اسْماً فَيُفيدُ المُخْبَرا
أقول: البحث الثاني في ذكره، وذلك للنكت الماضية في ذكر المسند إليه من كون الذكر الأصل مع عدم المقتضي للعدول عنه.ومن الاحتياط لضعف التعويل على القرينة.(1/62)
ومن التعريض بغباوة السامع وغير ذلك نحو: جاء زيد في جواب من جاء؟
ويراد هنا أنه يذكر ليرى أي يعلم أنه فعل، فيفيد التجدد والحدوث، أو اسم فيفيد الثبوت، فيفيد المخبَر بفتح الباء أي السامع فائدة زائدة على ما تقدم، لأنه إذا حذف لا يدري هل هو اسم أو فعل، مثال الأول زيد قائم، فهذه الجملة تدل على ثبوت القيام لزيد لأن أصل الاسم مشتقاً كان أو لا الدلالة على الثبوت لعدم دلالته على الاقتران بالزمان، ومثال الثاني: زيد قام، فإنها تدل على تجدد القيام وحدوثه لزيد لدلالة الفعل على الاقتران بالزمان، فلو كان المسند ظرفاً نحو: الفوز لمن رضي عنه مولاه احتمل الثبوت والتجدد بحسب المتعلق، أي حاصل أو حصل، فإن قلت: المشهور أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، فكيف جعلتها في نحو: زيد قام دالة على الحدوث؟ قلت: دلالتها على الحدوث باعتبار أحد جزءيها وهو الفعل : أي الدال على الحدوث الفعل وأما الجملة فهي دالة على ثبوت نسبة المسند المتجدد معناه، فالقيام متجدد وحصوله لزيد ووصفه به ثابت مستقر. قال:
وأفردوهُ لانعدامِ التقوِيَةْ = وَسَبَبٍ كَـ"الزهدُ رأسُ التزكيةْ"
أقول: البحث الثالث في إفراده: أي كونه اسما مفردا، والمفرد عند النحاة يطلق على معانٍ ففي باب الإعراب ما ليس مثنى ولا مجموعاً وفي باب العلم ما ليس مركباً، وفي باب لا والمنادى ما ليس مضافا ولا شبيها به، وفي باب الخبر ما ليس جملة ولا شبيها وهو المراد هنا، فيؤتى به اسماً مفرداً لعدم إفادة تقوية الحكم، وكونه غير سببي نحو زيد قائم، ومنه مثال المصنف وإنما كان الزهد رأس التزكية: أي الخلوص من الكدرات لاستعداد صاحبه للحضرة الإلهية فإن أريد التقوية أو كان سببا أتى به جملة كما سيأتي، والسببي جملة علقت على مبتدأ بعائد غير مسند إليه فيها، فخرج المسند في نحو زيد منطلق أبوه لأنه مفرد، وفي نحو {قل هل الله أحد} لعدم العائد، وفي نحو زيد قام لأن العائد مسند إليه. قال:(1/63)
وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتقييدِ = بِالوَقْتِ مَعْ إِفادَةِ التَّجْديدِ
وَكَوْنُهُ اسْماً لِلثّبوتِ والدَّوامْ = ................
أقول: المسند المفرد يكون فعلاً ويكون اسماً، أما الأول فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال على أخصر وجه لدلالة الفعل على الزمان بصيغته ولا يتأتى ذلك في الاسم إلا بقيد أمس، أو الآن أو غدا مع إفادة التجدد والحدوث أي التكرار والوقوع مرة بعد أخرى للزوم ذلك للزمان الذي هو جزء مفهوم للفعل، ولازم الجزء لازم الكل، إذ الزمان عرض غير قار الذات: أي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود كقوله:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة = بعثوا إلى عريفهم يتوسم
أي يصدر عنه تفرس الوجوه وتأملها شيئاً فشيئاً ولحظة فلحظةً، وأما الثاني فلعدم ما ذكر من التقييد والتجدد وإرادة الثبوت والدوام لأغراض تتعلق بذلك كقوله:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا = لكن يمر عليها وهو منطلق
يعني الانطلاق من الصرة ثابت للدرهم من غير اعتبار تجدد. قال:
وَقَيَّدوا كَالفِعْلِ رَعْياً لِلتَّمامْ
وَتَركوا تَقييدَهُ لِنُكْتَةِ = كَسُتْرَةٍ أَوِ انْتهازِ فُرْصَةِ(1/64)
أقول: البحث الرابع في تقييده سواء كان اسماً أو فعلاً يعمل عمله بواحد من المفاعيل الخمسة، أو شبهها كالحال والتمييز والاستثناء، وذلك لتتميم الفائدة وتقويتها، لأنه كلما ازداد خصوصاً زاد بعدا عن الاحتمال، وكلما بعد عن الاحتمال قويت الفائدة، فإن قولك: ضربت زيداً أخص من ضربت وأقوى فائدة وكذا ضربته ضراً شديداً أخص من الفعل وحده لإفادة نوع من الضرب، وقس بقية المقيدات، فقوله كالفعل: أي شبه الفعل: أي الفعل وشبهه من اسم فاعل أو مفعول أو غير ذلك من كل ما يعمل عمله، ولم يبين المقيد به للعلم به من علم النحو ويستثنى من شبه المفعول به خبر كان في نحو كان زيد قائماً فإن التقييد به ليس لتمام الفائدة لعدمها بدونه لأنه هو المسند فهو ليس قيداً للفعل بل مقيد به فالمعنى تقييد نسبة القيام لزيد بالزمان الماضي المدلول لكان فقط، وإن دلت وضعا على الحدث ففي كل من الفعل وخبره فائدة مفقودة في الآخر، فإن الأول يدل وضعا على حدث مطلق يعينه خبره، والثاني يدل عقلا على زمن مطلق يعينه الفعل.وأما ترك تقييده فلأمور:
منها ستر القيد من زمان الفعل أو مكانه أو سببه أو نحو ذلك عن المخاطب أو غيره من الحاضرين.ومنها انتهاز الفرصة أي المبادرة أي انقضاؤها.ومنها الجهل بالقيود.ومنها عدم الحاجة إليها.
قال:
وَخَصّصوا بالوَصْفِ وَالإِضافَةْ = وَتَركوا لِمُقْتَضٍ خِلافَهْ
أقول: قد يكون تقييد المسند بالوصف كقولك أخوك رجل صالح أو لإضافة نحو: أخوك غلام زيد لقصد التخصيص، وقد ترك تقييده لغرض اقتضى خلاف التخصيص كستر أو انتهاز فرصة ونحو ذلك مما تقدم من مقتضى ترك تقييد الفعل بمفعول ونحو ذلك.
قال:
وَكَوْنَهُ مُعَلَّقاً بِالشَّرْطِ = فَلِمعاني أَدَواتِ الشَّرْطِ(1/65)
أقول: قد يقيد المسند بالشرك لتحصيل معنى أداته نحو: إن تكرمني أكرمك ففيه تقييد إكرام المتكلم بإكرام المخاطب المفاد بإن، لأن الشرط قيد في الجزاء مع الإشعار بأنه سبب فيه، ولما دعت الحاجة إلى معاني أدوات الشرط تكلم عليها أهل المعاني وإن كانت من مباحث علم النحو، وأكثر ما وقع بحثهم على معاني إذا وإن ولو وبيان ذلك في الأصل وشرحه.
قال:
وَنَكَّروا اتّباعاً اوْ تفخيما = حَطّاً وَفَقْدَ عَهْدٍ اوْ تعميما
أقول: البحث الخامس في تنكير المسند، وأسباب تنكيره كثيرة منها إتباع المسند إليه في التنكير نحو رجل من الكرام حاضر، إذ لا يكون المسند معرفة مع تنكير المسند إليه إلا في نحو كم مالك؟ ومنها التفخيم نحو {هدى للمتقين} ومنها الحط أي التحقير نحو ما زيد شيئاً ومنها أن لا يكون معهودا نحو زيد شاعر ومنها إرادة التعميم بأن لا يكون خاصاً بالمسند إليه كهذا المثال. قال:
وَعَرَّفوا إِفادَةً لِلْعِلْمِ = بِنِسْبَةٍ أَوْ لازمٍ لِلْحُكْمِ
أقول: البحث السادس في تعريفه فيؤتى به معرفة ليستفيد السامع العلم بأن ذلك المسند المعلوم حاصل لذلك المسند إليه المعلوم له، إذ لا يلزم من العلم بالطرفين العلم بنسبة أحدهما للآخر، فإذا كان السامع يعلم زيداً ويعلم أن له أخاً ولا يعرف اسمه، فقيل له زيد أخوك حصل له العلم بالنسبة التي كان يجهلها ولا يشترط اتحاد طريق تعريفهما بل تغاير المفهومين ولذلك أول نحو: شعري شعري بشعري الآن مثل شعري الماضي المشهور بالحسن، ويؤتى به معرفة أيضاً لإفادة السامع العلم بأن المتكلم عالم بلازم الحكم كقولك زيد أخوك لمن يعلم أنه أخوه لتفيده أنك عالم بذلك فلازم معطوف على نسبة.قال:
وَقَصَروا تحقيقاً اوْ مُبالَغَةْ = بِعَرْفِ جِنْسِهِ كَـ"هِنْدٌ البالغةْ"(1/66)
أقول: المسند قد يعرف لقصد قصره على المسند إليه تحقيقاً كقولك زيد الأمير إذا لم يكن أمير غيره، أو مبالغة كقولك زيد الفقه أي الكامل في الفقه كأنك لم تعتد بفقه غيره، ومنه مثال المصنف.
قال:
وجملة لِسَبَبٍ أَوْ تَقْوِيَةْ = كـ"الذكرُ يهدي لطريقِ التصفيةْ"
أقول: البحث السابع في كون المسند جملة، وذلك إما لكونه سببا أو مشتملا على السبب وهو ضمير المسند إليه، لأنه سبب لربط الجملة به نحو زيد قام أبوه، وإما لتقوية الحكم بنفس التركيب أي لا بالتكرير والأداة نحو أنا قمت، ومنه مثال المصنف، ولا يشترط في الجملة أن تكون خبرية، وجملة معطوف على معلقا.قال:
واسمية الجملة والفعلية = وشرطها لنكتة جلية
أقول: اسمية الجملة وفعليتها وشرطيتها لما مضى من أن الاسمية للدوام والثبوت، والفعلية للتجدد والحدوث، والشرطية للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط إلى آخر ما تقدم.قال:
وأخروا أصالة وقدموا = لقصْر ما به عليه يُحْكَمُ
تنبيهٍ اوْ تفاؤلٍ تشوُّفِ = كَـ"فازَ بالحضرةِ ذو تصوُّفِ"
أقول: البحث الثامن في تقديمه وتأخيره، فتأخيره للأصل، وينبغي إذا كان ذكر المسند إليه أهم، وتقديمه إما لقصره على المسند إليه نحو {لا فيها غول} بخلاف خمر الدنيا ولذا لم يقدم في قوله {لا ريب فيه} بان يقال لا فيه ريب لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى أو للتنبيه على أنه خبر من أول وهلة لا نعت نحو:
له همم لا منتهى لكبارها
إذ لو قيل همم له توهم أنه نعت لشدة طلب النكرة للنعت.
أو للتفاؤل نحو: سعدت بغرة وجهك الأيام
أو لتشوق النفس إلى ذكر المسند إليه بأن يكون في المسند طول يقتضي ذلك نحو:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها = شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ومنه مثال المتن، وتقدم الكلام عليه.
قال: الباب الرابع في متعلقات الفعل(1/67)
أقول: المتعلقات جمع متعلق بكسر اللام وفتحها: المعمولات التي تتعلق بالفعل أي يرتبط معناها به كالمفاعيل وشبهها من حال وتمييز، والمقصود من هذا الباب بيان أحوالها من ذكر وحذف وتقديم وتأخير ونحو ذلك، وحكم أحوال معمولات ما يعمل عمله كاسم الفاعل كذلك، واقتصروا في الترجمة على الفعل لأصالته في العمل.قال:
والفعلُ مَعْ مفعولهِ كَالفِعْلِ مَعْ = فاعِلِهِ فيما لَهُ مَعْهُ اجْتَمَعْ
وَالغَرَضُ الإِشْعارُ بِالتَّلَبُّسِ = بواحدٍ مِنْ صاحبيهِ فَائْتَسِ
أقول: الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل في أن الغرض من كل منهما إفادة التلبس به لا إفادة وجوده فقط، وإلا لقيل وجد الضرب مثلاً، إلا أن جهة التلبس مختلفة، ففي الفاعل من جهة وقوعه منه وفي المفعول من جهة وقوعه عليه، والمميز لذلك الرفع في الأول والنصب في الثاني، فقوله فيما له معه اجتمع أي في الغرض الذي لأجله اجتمع، فضمير له عائد على الموصول واللام للتعليل وضمير له معه عائد إلى الفعل أو الفاعل وفاعل اجتمع إما يعود إلى الفعل أو الفاعل على التقديرين أيضاً وصاحبيه أي الفعل المراد بهما الفاعل والمفعول.قال:
وغيرُ قاصرٍ كقاصِرٍ يُعَدْ = مَهْما يَكُ المَقْصودُ نِسْبَةً فَقَدْ
أقول: الفعل إما أن يكون قاصراً أي غير متعد أو لا الأول يقتصر على ذكر فاعله معه نحو قام زيد والثاني أي المتعدي إما أن يقصد الإخبار بالحدث في المفعول دون الفاعل فيبنى للمفعول نحو ضرب عمرو، أو يقصد إثباته لفاعله أو نفيه عنه من غير اعتبار تعلقه بمفعول، فينزل منزلة القاصر ولا يقدر المفعول، لأن المقدر كالموجود نحو قوله تعالى {قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون} أي هل يستوي من ثبتت له حقيقة العلم ومن لم تثبت له؟ والاستفهام إنكاري أي لا يستوي، وقوله فقد بمعنى حسب.قال:
ويُحذفُ المفعولُ للتعميمِ = وهُجْنةٍ وفاصِلَةٍ تَفْهيمِ
من بعد إبهامٍ ولاختصارِ = كـ"بلِّغِ المولعَ بالأذكارِ"(1/68)
أقول: يحذف المفعول لإرادة العموم في أفراده نحو قد كان منك ما يؤلم أي كل أحد، ومنه {والله يدعو إلى دار السلام} أي كل أحد، ويحذف لاستهجان الذكر كقول عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني، أي الفرج، ويحذف لرعاية الفاصلة كقوله تعالى {ما ودعك ربك وما قلى} أي وما قلاك، حذف لأن فواصل الآي على الألف، ويحذف للتفهيم أي البيان بعد الإبهام كما إذا وقع فعل المشيئة شرطاً، فإن الجواب يدل عليه نحو {ولو شاء لهداكم أجمعين} أي ولو شاء هدايتكم، فإنه لما قيل لو شاء علم السامع أن هناك متعلقاً للمشيئة مبهما، فإذا سمع الجواب تعين عنده، وهو أوقع في النفس من ذكره أولاً، ويحذف أيضاً للاختصار نحو {رب أرني أنظر إليك} أي ذاتك، ومنه بلغ المولع بالأذكار أي الدرجة العليا.قال:
وجاء للتخصيص قبل الفِعْلِ = تَهَمُّمٍ تبرّكٍ وفَصْلِ
أقول: الأصل في المفعول التأخير عن الفعل نحو أكرم زيد عمراً، وقد يتقدم لأغراض منها التخصيص أي قصر الحكم على ما يتعلق به الفعل نحو زيداً عرفت أي لا غيره جوابا لأنك عرفت غير زيد، ومنه {إياك نعبد} أي لا غيرك، ولذا لا يقال زيداً عرفت وغيره، ولا ما زيداً عرفت ولا غيره لاقتضائه في الأول قصر المعرفة على زيد وسلبها عن غيره، والعطف ينافي ذلك، وفي الثاني سلبها عن زيد وثبوتها لغيره، والعطف ينافي ذلك.
ومنها الاهتمام به نحو: محمداً اتبعت ولذلك كان الأولى عند الجمهور تقدير العامل في بسم الله متأخيراً، فإن قيل قد ذكر مقدما في قوله تعالى {اقرأ باسم ربك} أجيب عن ذلك بأن الأهم ثم القراءة لأنها أول سورة نزلت إلى {ما لم يعلم}.
ومنها التبرك كالمثال المتقدم، فهو صالح له كسابقه، ومنها رعاية الفاصلة كقوله تعالى {ثم الجحيم صلوه}.قال:
واحكم لمعلولاتِهِ بما ذُكِرْ = والسُّر في الترتيبِ فيها مُشْتَهِرْ(1/69)
أقول: حكم بقية معمولات الفعل كالحال والتمييز كالمفعول نحو راكبا جاء زيد، فيفيد ذلك قصر المجيء على حالة الركوب، وقس الباقي، فإذا اجتمعت المعمولات للفعل قدم الفاعل ثم المفعول الأول من باب أعطى لأنه فاعل في المعنى، ثم الثاني، فإذا اجتمعت المفاعيل قدم المفعول به، ثم المصدر، ثم المفعول له، ثم ظرف الزمان ثم ظرف المكان، ثم المفعول معه إلى آخر ما هو معلوم في علم النحو.
قال: الْبَابُ الْخَامِسُ:الْقَصْرُ
تَخْصِيصُ أَمْرٍ مُطْلَقاً بِأَمْرِ = هَذَا الَّذِي يَدْعُونَهُ بِالْقَصْرِ
يَكُونُ فِي الْمَوْصُوفِ وَالأَوْصَافِ = وَهُوَ حَقِيقِيٌّ كَمَا إِضَافِي
لِقَلْبٍ اوْ تَعْيِينٍ اوْ إِفْرَادِ = كَأَنَّمَا تَرْقَى بِالاسْتِعْدَادِ
أقول: القصر معناه لغة الحبس ومنه-حور مقصورات في الخيام- وفي الاصطلاح تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص كتخصيص زيد بالقيام في قولنا ما قائم إلا زيد وهو قسمان حقيقي وإضافي فالأول ما كان التخصيص فيه بحسب الحقيقة بحيث لا يتجاوز المقصور ما قصر عليه إلى غيره والثاني ما كان التخصيص فيه بحسب الإضافة إلى شيء آخر مثال الأول إنما السعادة للمقبولين ومثال الثاني إنما العالم زيد جوابا لمن قال زيد وعمرو عالمان وكل منهما قصر موصوف على صفة بأن لا يتجاوزها إلى صفة أخرى ويجوز أن تكون تلك الصفة لموصوف آخر. وقصر صفة على موصوف بأن لا تتجاوزه إلى موصوف آخر ويجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخر والمراد بالصفة هنا المعنوية وهي أعم من النعت النحوي فالأقسام أربعة(1) أشكل على السامع تعيين أحدهما مثاله في قصر الموصوف ما زيد إلا قائم لمن تردد في قيامه وقعوده ومثاله في قصرها ما قائم إلا زيد لمن تردد في أن القائم زيد أو عمرو فقوله لقلب صفة للإضافي يعني أن القصر الإضافي ينقسم إلى ثلاثة أقسام ومثاله صالح لها. قال:
وَأَدَوَاتُ الْقَصْرِ إِلاَّ إِنَّمَا = عَطْفٌ وَتَقْدِيمٌ كَمَا تَقَدَّمَا(1/70)
أقول: للقصر طرق منها النفي والاستثناء بإلا أو بغيرها نحو إن أنت إلا نذير ومنها إنما لتضمنها معنى ما قبلها نحو إنما زيد عالم ومنها العطف نحو جاء زيد لا عمرو ومنها تقديم ما حقه التأخير نحو العالم صحبت ومنها غير ذلك كتعريف الطرفين نحو زيد العالم واقتصر المصنف على هذه الأربعة لشهرتها وطرق الحصر مختلفة في وجوه منها أن التقديم يفيد بالفحوى أي بمفهوم الكلام بمعنى أن الذوق السليم إذا تأمل فيه فهم القصر وإن لم يعرف إصطلاح البلغاء في ذلك والبواقي تفيده بالوضع لأن الواضع وضعها لمعان تفيد الحصر ومنها غير ذلك مما هو في المطولات
(1) سقط من الأصل صـ 113.
قال: الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الإِنْشَاءِ
مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ = وَالْكَذِبِ الإِنْشَا كَكُنْ بِالْحَقِّ
أقول: الإنشاء مركب لا يحتمل الصدق والكذب كاستقم فما الواقعة على المركب جنس ولم يكن الخ فصل مخرج للخبر وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته كالخبر في الإستقامة فقوله ككن بالحق مثال بعد تمام التعريف والحق اسم من أسمائه تعالى ومعناه الثابت الذي لا يعتريه زوال أي كن بمولاك في جميع حركاتك وسكناتك لعلك تنتظم في سلك المقبولين.
قال:
وَالطَّلَبُ اسْتِدْعَاءُ مَا لَمْ يَحْصُلِ = أَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ سَتَنْجَلِي
أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَدُعَاءٌ وَنِدَا = تَمَنٍّ استفهام أُعْطِيتَ الْهُدَى
أقول: قسم الإنشاء إلى طلب وإلى غيره فالطلب استدعاء غير حاصل أي طلب حصول غير حاصل وقت الطلب لأن طلب حصول الحاصل محال كالأمر والنهي وغير الطلب إنشاء ليس فيه استدعاء حصول كأفعال المدح والذم نحو نعم وبئس والمقصود هنا الأول وأقسامه كثيرة ذكر المصنف منها ستة: الأول الأمر وهو طلب الفعل نحو أقيموا الصلاة.
الثاني النهي وهو طلب الكف عن الفعل نحو لا تقربوا الزنا.(1/71)
الثالث الدعاء وهو طلب الفعل مع التذلل والخضوع نحو-ربنا اغفر- الرابع النداء وهو طلب الإقبال بحرف نائب مناب أدعوا نحو يا غياث المستغيثين.
الخامس التمني وهو طلب المحبوب ولو محالا نحو: ليت الشباب يعود.
السادس الاستفهام وهو طلب حصول ما في الخارج في الذهن فيشمل التصور والتصديق وستأتي أدواته واختلاف معانيها وأعطيت الهدى تكملة للبيت قصد بها الدعاء.قال:
وَاسْتَعْمَلُوا كَلَيْتَ لَوْ وَهَلْ لَعَلْ = وَحَرْفَ حَضٍّ وَلِلاستفهام هَلْ
أَيٌّ مَتَى أَيَّانَ أَيْنَ مَنْ وَمَا = وَكَيْفَ أَتَى كَمْ وَهَمْزٌ عُلِمَا
وَالْهَمْزُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّصَوُّرِ = وَبِالَّذِي يَلِيهِ مَعْنَاهُ حَرِي
وَهَلْ لِتَصْدِيقٍ بِعَكْسِ مَا غَبَرْ = وَلَفْظُ الاستفهام رُبَّمَا عَبَرْ
لأَمْرٍ اسْتِبْطَاءٍ اوْ تَقْرِيرِ = تَعَجُّبٍ تَهَكُّمٍ تَحْقِيرِ
تَنْبِيهٍ اسْتِعْبَادٍ اوْ تَرْهِيبِ = إِنْكَارِ ذِي تَوْبِيخٍ اوْ تَكْذِيبِ(1/72)
أقول: يستعمل في التمني مجازا ألفاظ منها لو كقوله تعالى-فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين- بنصب نكون بأن مضمرة جوابا للو المضمنة معنى التمني ومنها هل نحو –فهل لنا من شفعاء- للجزم بانتفاء الشفعاء والاستفهام يقتضي الجهل بالحكم ومنها لعل نحو لعلي أسافر فأزور الحبيب بنصب فأزور لما تقدم ومنها حروف التحضيض نحو هلا أكرمت زيدا على معنى التمني وقوله والاستفهام هل شروع في أدوات الاستفهام وما يطلب بها فذكر إحدى عشرة أداة الهمزة وهل حرفان وبقية الأدوات أسماء وهي ثلاثة أقسام ما يطلب به التصور فقط وهو: ما عدا الحرفين(1) وفي التهكم نحو أصلواتك تأمرك وفي التحقير نحو من أنت لمن تحقر شأنه وفي التنبيه على الضلال نحو فأين تذهبون وفي الاستبعاد نحو أنى لهم الذكرى وفي الترهيب أي التخويف نحو- ألم نهلك الأولين- وفي الإنكار التوبيخي وهو الذي يقتضي أن ما بعده واقع وأن فاعله ملوم نحو- أتعبدون ما تنحتون وإلابطالي وهو ما اقتضى أن ما بعده غير واقع وأن مدعيه كاذب نحو أفأصفاكم ربكم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا وهو المشار إليه بتكذيب.
قال:
وَقَدْ يَجِي أَمْراً وَنَهْياً وَنِدَا = فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لأَمْرٍ قُصِدَا
وَصِيغَةُ الأَخْبَارِ تَأْتِي لِلطَّلَبْ = لِفَالٍ اوْ حِرْصٍ وَحَمْلٍ وَأَدَبْ(1/73)
أقول: قد يخرج الأمر والنهي والدعاء عن معانيها الأصلية لنكتة أما الأمر فقد يأتي لمعان كثيرة منها الإباحة نحو كلوا مما رزقكم الله وأما النهي فإنه يأتي لمعان كثيرة أيضا منها قصد الامتثال كقولك لمن عصى أمرك لا تعص أمري أي امتثله وأما النداء فيأتي لمعان أيضا منها الإغراء كقولك لمن تظلم إليك يا مظلوم تريد إغراءه على زيادة التظلم ثم إن صيغة الخبر قد يقصد منها الطلب لنكتة كالتفاؤل نحو وفقنا الله لما فيه رضاه وإظهار الحرص في وقوعه كقولك لمن استبطأك أتيتك والتصديق كقولك لمن لا يحب تكذيبك تأتينا غدا فتحمله على المجئ بلطف لاعتيادك تصديقه إياك والتأديب مع المخاطب بترك صيغة الأمر نحو أمير المؤمنين يقضي حاجتي ثم إن كثيرا من الاعتبارات المذكورة في الأبواب السابقة تجري في الإنشاء كالتقديم والتأخير والقصر فقسها عليها.
قال: الْبَابُ السَّابِعُ:الْفَصْلُ وَالْوَصْلُ
الْفَصْلُ تَرْكُ عَطْفِ جُمْلَةٍ أَتَتْ = مِنْ بَعْدِ أُخْرَى عَكْسَ وَصْلٍ قَدْ ثَبَتْ
أقول: الفصل لغة القطع وفي الإصطلاح ترك عطف جملة على أخرى والوصل لغة لجمع وفي الاصطلاح عطف بعض الجمل على بعض مثال الأول عمرا أهنته زيدا ضربته ومثال الثاني زيد قائم وعمرو جالس وهذا الباب أغمض أبواب المعاني حتى قيل لبعضهم ما البلاغة؟ فقال معرفة الفصل والوصل. قال:
فَافْصِلْ لَدَى التَّوْكِيدِ وَالإِبْدَالِ = لِنُكْتَةٍ وَنِيَّةِ السُّؤَالِ
وَعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِي حُكْمٍ جَرَى = أَو اخْتِلافٍ طَلَباً أَوْ خَبَرَا
وَفَقْدِ جَامِعٍ وَمَعْ إِيهَامِ = عَطْفٍ سِوَى الْمَقْصُودِ فِي الْكَلامِ(1/74)
أقول: يجب الفصل في مواضع منها أن تنزل الجملة الثانية من الأولى منزلة التوكيد المعنوي في إفادة التقرير مع اختلاف المعنى أو اللفظي في إفادة التقرير مع اتحاد المعنى مثال الأول لا ريب فيه بالنسبة إلى ذلك الكتاب إذا جعل كل منهما جملة مستقلة فهي بمنزلة نفسه من جاء زيد نفسه ومثال الثاني جاء زيد هو الصوفي أي الصافي من دنئ الأوصاف فهي بمنزلة زيد الثاني من جاء زيد زيد ومنها أن تكون الثانية بمنزلة البدل من الأولى لنكنة ككون المراد لطيفا أو مطلوبا في نفسه فتنزل الثانية بمنزلة البدل المطابق نحو فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم ففصل جملة قال لأنها بمنزلة البدل المطابق من وسوس والنكتة في الإبدال لطافة المراد ودقته أو منزلة بدل البعض نحو أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون لفصل جملة أمدكم الثانية لأنها كبدل البعض إذ مضمونها بعض ما يعلمون والنكتة في إبدالها كون مضمونها مطلوبا في نفسه أو منزلة بدل الاشتمال نحو*أقول له أرحل لا تقيمن عندنا*فلا تقيمن بدل من أرحل بدل اشتمال والنكتة كالذي قبله وإنما وجب الفصل في التوكيد والإبدال لأن الوصل يقتضي التغاير وليس موجودا فيهما ومنه نية السؤال أي تقديره من الجملة السابقة نحو ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فجملة النهي تقتضي سؤالا من شأن المنهي أن يسأل عنه فيقال لم لا أخاطبك في شأنهم ووجب الفصل لصيرورة الجملة الثانية كالمقطوعة عما قبلها بسبب كونها جوابا لذلك السؤال المقدر، ومنها عدم اشتراك الثانية مع الأولى في الحكم نحو-وإذا خلوا إلى شياطينهم إلى الله يستهزئ بهم- لم تعطف جملة الله يستهزئ بهم على قوله إنا معكم لعدم اشتراكهما في الحكم إذ ليست الثانية من مقولهم. ومنها اختلاف الجملتين في الخبرية والإنشائية بأن تكون إحداهما إنشائية والأخرى خبرية نحو
*وقال رائدهم أرسوا نزاولها*(1/75)
وما أجازه النحويون من عطف الإخبار على الإنشاء وعكسه مستدلين بآيات أجاب عنها البيانيون بإتفاقهما معنى، ومنها أن لا يكون بين الجملتين جامع عقلي أو وهمي أو خيالي فلا تقول زيد عالم وعمرو قائم لعدم الجامع بخلاف زيد عالم وعمرو جاهل ونعم اليأس من الخلق وبئس الطمع فيهم، وسيأتي ذلك ومنها إيهام العطف خلاف المقصود نحو:
وتظن سلمى أنني أبغي بها = بدلا أراها في الضلال تهيم
لم يعطف أراها على نظن مع أن بينهما مناسبة في المسند والمسند إليه لئلا يتوهم عطفه على أبغي فيكون من مظنونات سلمى وهو خلاف المقصود إذ المقصود أنه يظنها كذلك قال:
وَصِلْ لَدَى التَّشْرِيكِ فِي الإعْرَابِ = وَقَصْدِ رَفْعِ اللَّبْسِ في الجَوَابِ
وَفِي اتِّفَاقٍ مَعَ الاتِّصَالِ = فِي عَقْلٍ اوْ فِي وَهْمٍ اوْ خَيَالِ
أقول: ذكر في هذين البيتين مقتضيات الوصل منها أن يكون للأولى محل من الإعراب كأن تكون خبرا ويقصد تشريك الثانية لها في حكم ذلك الإعراب نخو زيد قام أبوه وقعد أخوه ومنها القصد لرفع إيهام خلاف المراد من الجواب كما إذا قيل لك هل قام زيد وقلت لا وأردت أن تدعو للسائل فلابد من الوصل فتقول لا ورعاك الله إذ لو فصلت لتوهم أنه دعاء على المخاطب بعدم الرعاية ولولا هذا الإيهام لوجب الفصل لاختلافهما خبرا وإنشاء ومنها أن تتفق الجملتان في الخبرية والإنشائية مع الاتصال أي الجامع بينهما من عقل أو وهم أو خيال نحو إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم والجامع بينهما التضاد ونحو كلوا واشربوا ولا تسرفوا والجامع كذلك وهو وهمي والكلام على القوى الباطنية التي أثبتها الحكماء وبيان الجامع العقلي والوهمي والخيالي يرجع إليه في شرح الأصل لضيق هذا الشرح عن ذلك قال:
وَالْوَصْلُ مَعْ تَنَاسُبٍ فِي اسْمٍ وَفِي = فِعْلٍ وَفَقْدِ مَانِعٍ قَدِ اصْطُفِي(1/76)
أقول: من محسنات الوصل بعد وجود مصححه تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية وتناسب الفعليتين في المضي والمضارعة نحو زيد قائم وعمرو قاعد وزيد قام وعمرو قعد لا قاعد أو يقوم في الأول ويقعد في الثاني ما لم يمنع من تلك المناسبة مانع فيجب تركها ويكون الوصل على الحالة التي اقتضاها الحال كما إذا أريد في إحداهما التجدد وفي الأخرى الثبوت نحو قام زيد وعمرو قاعد والمقصود من البيت أن الوصل مع المناسبة المذكورة أولى منه مع عدمها لا من الفصل كما يوهمه ظاهر المتن ما لم يمنع من تلك المناسبة مانع والله أعلم.
قال: الْبَابُ الثَّامِنُ: الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ وَالْمُسَاوَاةُ
تَأْدِيَةُ الْمَعْنَى بِلَفْظِ قَدْرِهِ = هِيَ الْمُسَاوَاةُ كَسِرْ بِذِكْرِهِ
وَبِأَقَلَّ مِنْهُ إِيجَازٌ عُلِمْ = وَهُوَ إِلَى قَصْرٍ وَحَذْفٍ يَنْقَسِمْ
كَعَنْ مَجَالِسِ الْفُسُوقِ بُعْدَا = وَلا تُصَاحِبْ فَاسِقاً فَتَرْدَى(1/77)
أقول: المساواة كون اللفظ بقدر المعنى المراد أي مثله نحو ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله وسر بذكره تعالى أي إلى الحضرة العلية لأنه أعظم وسيلة إليها والإيجاز كون اللفظ أقل من المعنى من غير إخلال نحو عفو الله نرجو إذ المراد قصر الرجاء على عفو الله تعالى دون غيره وهذا المعنى يؤدي بعبارة أكثر من المثال فإن حصل إخلال رد كما يأتي وهو قسمان إيجاز قصر وإيجاز حذف فالأول نحو قوله تعالى-ولكم في القصاص حياة –لأن الناس إذا علموا أن من قتل قتل كان ذلك أدعى إلى عدم قتل بعضهم بعضا فيكون ذلك حياة لهم وليس في ذلك حذف والثاني نحو واسأل القرية أي أهل القرية والمحذوف إما جزء جملة كالمثال أو جملة نحو أن اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ومنه مثال المتن إذ التقدير أبعد بعدا وبقية البيت مكملة وفي البيت النهي عن مجالسة الفساق ومصاحبتهم لأن من تخلق بحالة لا يخلو حاضره منها والخلطة كما تورث الخير تورث الشر وفي العزلة عن الفساق تخلص من شرورهم.قال:
وَعَكْسُهُ يُعْرَفُ بِالإِطْنَابِ = كَالْزَمْ رَعَاكَ اللَّهُ قَرْعَ الْبَابِ
يَجِيءُ بِالإِيضَاحِ بَعْدَ اللَّبْسِ = لِشَوْقٍ اوْ تَمَكُّنٍ فِي النَّفْسِ
وَجَاءَ بِالإِيغَالِ وَالتَّذْيِيِلِ = تَكْرِيرٍ اعْتِرَاضٍ اوْ تَكْمِيلِ
يُدْعَى بِالاحْتِرَاسِ وَالتَّتْمِيمِ = وَقَفْوِ ذِي التَّخْصِيصِ ذَا التَّعْمِيمِ(1/78)
أقول: الإطناب تأدية المعنى بلفظ أزيد منه لفائدة فهو عكس الإيجاز نحو: اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم بفضلك مع أحبابنا في جنة النعيم والفائدة في ذلك إظهار شأن الجنة بوقوع الرؤية فيها ومن ذلك مثال المتن وفائدة ورعاك الله أن لزوم قرع الباب لا يفيد مع عدم رعاية الله وعنايته وقولنا لفائدة مخرج التطويل وهو زيادة لفظ غير متعين لا لفائدة كقوله: وأبقى قولها كذبا ومبينا فإن الكذب والمبين واحد والزائد أحدهما غير معن والحشو وهو زيادة متعينة لا لفائدة كقوله:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله(1/79)
فقبله حشو ويكون الإطناب بأمور: منها الإيضاح بعد اللبس أي البيان بعد الإبهام لأن ذلك أوقع في النفس لرؤية المعنى في صورتين أولاهما مبهمة والأخرى موضحة فتتشوق النفس إليه مبهما ويتمكن منها موضحا فقوله لشوق الخ علة للإيضاح بعد اللبس ومنها الإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم الكلام بدونها نحو-اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون- ومعلوم أن الرسول مهتد لكن فيه زيادة حث للإتباع وترغيب في الرسل ومنها التذييل وهو تعقيب جملة بجملة تحتوي على معناها لتأكيد سببه وبين الإيغال عموم من جهة نحو-وقال جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا-وهو قسمان الأول ما جرى مجرى المثل وهو أن تكون الثانية مستقلة بنيل المراد وغير متوقفة على ما قبلها نحو المثال المتقدم. الثاني ما لم يخرج مخرج المثل وهي أن تتوقف الثانية على الأولى في إفادة المراد نحو ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور أي وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص. ومنها التكرير نحو كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كرر لتأكيد الإنذار والردع وأتي بثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول ومنها الاعتراض وهو أن يؤتى بجملة فأكثر بين شيئين متلازمين نحو الله تعالى فعال لما يريد. واعلم رعاك الله أنه لا يضيع من قصده والنكتة في الأول التنزيه وفي الثاني الدعاء ومنها التكميل ويسمى الاحتراس وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه نحو أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ومنها التتميم وهوأن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضله لنكتة كالمبالغة في نحو ويطعمون الطعام على حبه مسكينا يجعل الضمير عائدا على الطعام أي على حب الطعام والأحتياج إليه ومنها عطف الخاص على العام لنكتة نحو حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى والنكتة الاهتمام بالمعطوف
قال:
وَوَصْمَةِ الإِخْلالِ وَالتَّطْوِيلِ = وَالْحَشْوُ مَرْدُودٌ بِلا تَفْصِيلِ(1/80)
أقول: الوصمة العيب والإخلال إفساد المعنى المؤدي بعبارة أقل منه والتطويل الزيادة الغير المتعينة لا لفائدة والمحشو الزيادة المتعينة لا لفائدة والثلاثة مردودة عند علماء البلاغة والله أعلم
قال: الْفَنُّ الثَّانِي:عِلْمُ الْبَيَانِ
فَنُّ الْبَيَانِ عِلْمُ مَا بِهِ عُرِفْ = تَأْدِيَةُ الْمَعْنَى بِطُرْقٍ مُخْتَلِفْ
وُضُوحُهَا وَاحْصُرْهُ فِي ثَلاثَةِ = تَشْبِيهٍ اوْ مَجَازٍ اوْ كِنَايَةِ
أقول: أخر علم البيان عن علم المعاني لما تقدم هناك وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد المدلول عليه بكلام مطابق لمقتضى الحال بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه بأن يكون بعض الطرق واضح الدلالة وبعضها أوضح فخرج معرفة إيراده بطرق مختلفة في اللفظ والعبارة فقط، والمراد بالمعنى الواحد كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم وإرادته فلو عرف أحد إيراد معنى قولنا زيد جواد بطرق مختلفة لم يكن بمجرد ذلك عالما بالبيان والمراد بالطرق التراكيب ومثال ذلك إيراد معنى زيد جواد في طرق التشبيه زيد كالبحر في الكرم زيد كالبحر زيد بحر. وهذا الفن محصور في ثلاثة أشياء التشيبه والمجاز والكناية ووجه الحصر أن اعتبار المبالغة في إثبات المعنى للشيء إما على طريق الإلحاق أو الإطلاق والثاني إما إطلاق الملزوم على اللازم أو عكسه وما يبحث فيه عن الأول التشبيه وعن الثاني المجاز وعن الثالث الكناية.
قال: فَصْلٌ فِي الدَّلالَةِ الْوَضْعِيَّةِ
وَالْقَصْدُ بِالدَّلالَةِ الْوَضْعِيَّهْ = عَلَى الأَصَحَّ الْفَهْمُ لا الْحِسِّيَّهْ
أَقْسَامُهَا ثَلاثَةٌ مُطَابَقَهْ = تَضَمُّنٌ الْتِزَامٌ امَّا السَّابِقَهْ
فَهِيَ الْحَقِيقَةُ لَيْسَ فِي فَنِّ الْبَيَانِ = بَحْثٌ لَهَا وَعَكْسُهُ العَقْلِيَّتَانِ(1/81)
أقول: الدلالة فهم أمر من أمر والأول المدول والثاني الدال فإن كان لفظا دالا على تمام ما وضع له فالدلالة مطابقية كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق أو على جزئه في ضمن كله فتضمنية كدلالته على الحيوان في ضمن الحيوان الناطق أو على أمر خارج عن معناه لازم له فالتزامية كدلالته على قبول العلم وإن كان الدال غير لفظ فالدلالة غير لفظية وبيان أقسامها كاللفظية وما يتعلق بها في شرحنا للسلم في المنطق للمصنف والمطابقة ليس للبيانيين بحث عنها وإنما بحثهم عن دلالة التضمن والإلتزام العقليتين لقبولهما للوضوح والخفاء بخلاف الأولى الوضعية لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لذلك المعنى لم يكن بعضها أوضح عنده من بعض وإن لم يكن عالما بذلك لم يكن كل واحد من الألفاظ دالا عليه لتوقف الفهم على العلم بالوضع بخلاف العقليتين لجواز اختلاف اللوازم في الوضوح إذ قد يكون الشيء جزء الشيء أو جزء جزئه وقد يكون لازما أو لازم لازم فوضوح الدلالة بحسب قلة الوسائط وكثرتها والله أعلم.
قال: الْبَابُ الأَوَّلُ:التَّشْبِيهُ
تَشْبِيهُنَا دَلالَةٌ عَلَى اشْتِرَاكْ = أَمْرَيْنِ فِي مَعْنًى بِآلَةٍ أَتَاكْ
أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ وَجْهٌ أَدَاهْ = وَطَرَفَاهُ فَاتَّبِعْ سُبْلَ النَّجَاهْ(1/82)
أقول: التشبيه لغة التمثيل واصطلاحا الدلالة على مشاركة أمر لأمر في المعنى بآلة مخصوصة كالكاف ملفوظة أو مقدرة فخرج نحو زيد وعمرو وقاتل زيد عمرا والاستعارة التحقيقية نحو رأيت أسدا في الحمام والمكنية نحو أنشبت المنية أظفارها والتجريد الآتي في البديع نحو رأيت من زيد أسدا ودخل نحو زيد أسد فإن المحققين على أنه تشبيه بليغ لا استعارة لأن المستعار له مذكور ولا تكون الإستعارة إلا حيث يطوى ذكره ويجعل الكلام خاليا عنه. وأركانه أربعة وجه وأداة و طرفان نحو زيد كالأسد في الشجاعة فالوجه المعني الجامع بين زيد والأسد وهو الشجاعة والأداة آلة وهي الكاف والطرفان زيد والأسد وقد يقتصر على لفظهما قال:
فَصْلٌ وَحِسِّيَّانِ مِنْهُ الطَّرَفَانْ = أَيْضاً وَعَقْلِيَّانِ أَوْ مُخْتَلِفَانْ
أقول: طرفا التشبيه إما حسيان كالخد والورد أو عقليان كالعلم والحياة أو مختلفان بأن يكون المشبه حسيا والمشبه به عقليا كالسبع والموت أو عكسه كالموت والسبع والمراد بالحسي المدرك هو أو مادته بأحدى الحواس الخمس الظاهرة فدخل الخيالي وهو المعدوم الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحس
كقوله:
وكأن محمر الشقيـ = ـق إذا تصوب او تضعد
أعلام ياقوت نشر = ن على رماح من زبرجد
فإن كلا من الأعلام والياقوت والزبرجد والرمح محسوس لكن المركب الذي هذه الأمور مادته ليس بمحسوس لأنه غير موجود والحس لا يدرك إلا ما هو موجود والعقلي ما عدا ذلك فيشمل الوهمي وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس ولكنه لو أدرك لكان بها مدركا كقوله: أيقتلني (... ) الشرفي مضاجعي = ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فأنياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم وجودها ولو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر قال:
وَالْوَجْهُ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ = وَدَاخِلاً وَخَارِجاً تُلْفِيهِ
وَخَارِجٌ وَصْفٌ حَقِيقيٌّ جَلا = بِحِسٍّ اوْ عَقْلٍ وَنِسْبِيٍّ تَلا(1/83)
وَوَاحِداً يَكُونُ أَوْ مُؤَلَّفَا = أَوْ مُتَعَدِّداً وَكُلٌّ عُرِفَا
بِحِسٍّ أَوْ عَقْلٍ وَتَشْبِيهٍ نُمِي = فِي الضِّدِّ لِلتَّلْمِيحِ وَالتَّهَكُّمِ
أقول: وجه التشبيه هو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه كالشجاعة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد ويكون داخلا في حقيقة الطرفين وخارجا عنها فالأول كما في تشبيه ثوب بآخر في الجنس كقولك هذا القميص مثل هذا في كونهما كتانا والثاني كمتلو هذا المثال وهو إما وصف حقيقي أو إضافي والأول قسمان حسي أي مدرك بإحدى الحواس بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات والسمع من الأصوات الضعيفة والقوية وما بينهما والذوق من الطعوم والشم من الروائح واللمس من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة واللين والصلابة والخفة والثقل وما يقابلها من البلة والجفاف واللزوجة وغير ذلك. وعقلي كالكيفيات النفسانية من الذكاء والعلم والغضب والحلم والكرم والبخل والشجاعة والجبن وسائر الغرائز والإضافي أن يكون معنى متعلقا بشيئين كإزالة الحجاب في تشبيه الحجة بالشمس فإنها ليست هيئة متقررة في ذات الحجة ولا في ذات الحجاب فمراد المصنف بالنسبي الإضافي وينقسم وجه الشبه أيضا إلى ثلاثة أقسام واحد ومركب من متعدد تركيبا حقيقيا بأن تكون حقيقة ملتئمة من أمور مختلفة أو اعتباريا بأن تكون هيئة انتزعها العقل من عدة أمور وإلى متعدد بأن ينظر إلى عدة أمور ويقصد اشتراك الطرفين في كل واحد منها ليكون كل منها وجه تشبيه بخلاف المركب فإنه لم يقصد اشتراك الطرفين في كل من تلك الأمور بل في الهيئة المنتزعة أو في الحقيقة الملتئمة منها وكل واحد من هذه الثلاثة إما حسي أو عقلي فهذه ستة ويختص المتعدد بالإختلاف بأن يكون بعضه حسيا وبعضه عقليا فالأقسام سبعة: مثال الواحد الحسي تشبيه ثوب بآخر في لونه.(1/84)
والعقلي تشبيه العلم بالنور في الاهتداء ومثال المركب الحسي قوله: وقد لاح بالفخر الثريا كما ترى كعنقود ملاحية حين نورا فالوجه هنا الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرات الصغار المقادير في رأي العين فنظر إلى عدة أشياء وقصد إلى الهيئة الحاصلة منها. والعقلي كقوله تعالى –مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا –الوجه حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في أصطحابه وهو أمر عقلي مأخوذ من أمور متعددة لأنه روعي من جهة الحمار فعل مخصوص وهو الحمل ومحمول مخصوص وهو الأسفار المشتملة على العلوم وكون الحمار جاهلا بما فيها وكذلك روعي من جهة المشبه أيضا فعل مخصوص وهو الحمل للتوراة لأنها بأيديهم ومحمول مخصوص وهو التوراة المشتملة على العلوم وكون اليهود جاهلين بما فيها حقيقة أو حكما لعدم عملهم بمقتضاها. ومثال المتعدد الحسي تشبيه فاكهة بأخرى في اللون والطعم والرائحة والعقلي تشبيه رجل بآخر في العلم والحلم والحياء. ومثال المتعدد المختلف حسن الطلعة وكمال الشرف في تشبيه رجل بالشمس ثم وجه الشبه يكون مأخوذا من التضاد فينزل منزلة التناسب فيشبه الشيء بما قام به معنى مضاد لما قام بذلك المشبه وذلك إذا كان القصد التهكم أي الاستهزاء بالمشبه أو التلميح أي جعل الكلام مليحا متسظرفا كتشبيه البخيل بحاتم فإن كان القصد السخرية فالأول أو الانبساط مع المخاطب فالثاني فالتلميح هنا بتقديم الميم خلاف ما يأتي في البديع فإنه بتقديم اللام.
قال: فَصْلٌ فِي أَدَاةِ التَّشْبِيهِ وَغَايَتِهِ وَأَقْسَامِهِ
أَدَاتُهُ كَافٌ كَأَنَّ مِثْلُ = وَكُلُّ مَا ضَاهَاهُ ثُمَّ الأَصْلُ
إِيلاءُ مَا كَالْكَافِ مَا شُبِّهَ بِهْ = بِعَكْسِ مَا سِوَاهُ فَاعْلَمْ وَانْتَبِهْ(1/85)
أقول: أداة التشبيه الكاف وكأن ومثل ونحوها مما يشتق من المماثلة كنحو ومثل والأصل في الكاف وما أشبهها كلفظ نحو ومثل وشبه أن يليه المشبه به لفظا نحو زيدا كأسد أو تقديرا نحو أو كصيب من السماء أي كمثل ذوي صيب وربما يليه غيره نحو واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه الآية ليس المراد تشبيه الدنيا بالماء بل تشبيه حالها في بهجتها وما يتعلق بها من الهلاك بحال النبات الحاصل من الماء يكون أخضر ثم ييبس فتطيره الرياح بخلاف عكس الكاف ونحوها نحو كأن فإنه يليها المشبه لا المشبه به نحو كأن زيدا أسد. قال:
وَغَايَةُ التَّشْبِيهِ كَشْفُ الْحَالِ = مِقْدَارٍ اوْ مَكَانٍ اوْ إِيصَالِ
تَزْيِينٍ اوْ تَشْوِيهٍ اهْتِمَامِ = تَنْوِيهٍ اسْتِظْرَافٍ اوْ إِيهَامِ
رُجْحَانُهُ فِي الْوَجْهِ بِالْمَقْلُوبِ = كَاللَّيْثُ مِثْلُ الْفَاسِقِ الْمَصْحُوبِ
أقول: غاية التشبيه أي فائدته أمور: منها كشف حال المشبه أي بيان أنه على أي وصف من الأوصاف كتشبيه ثوب بثوب في لونه إذا كان لونه مجهولا للمخاطب. ومنها بيان مقدار حال المشبه إذا كان السامع يعلمها إجمالا كما في تشبيه الثوب الأسود بالغراب في شدة السواد. ومنها بيان إمكان وجوده بأن يكون أمرا غريبا يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه فيستشهد له بالتشبيه كقوله:
فإن تفق الأنام ولأنت منهم = فإن المسك بعض دم الغزال(1/86)
فإنه لما أدعى أن الممدوح فاق الناس حتى صار أصلا برأسه وجنسا بنفسه وكان هذا في الظاهر كالممتنع احتج لهذه الدعوى وبين إمكانها بأن شبه هذه الحالة بحالة المسك الذي هو من الدماء ثم إنه لا يعد من الدماء لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم والتشبيه فيه ضمني لا تصريحي. ومنها إيصال حال المشبه أي تقريرها في نفس السامع وتقوية شأنه كما في تشبيه من لم يحصل من سعيه على طائل بمن يرقم على الماء. ومنها تزيين المشبه ليرغب فيه كتشبيه وجه أسود بمقلة الظبي. ومنها تشويهه أي تقبيحه ليرغب عنه كتشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة وقد نقرتها الديكة. ومنها الاهتمام بالمشبه به كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف ويسمى إظهار المطلوب. ومنها التنويه بالمشبه في إظهاره وشهرته كتشبيه رجل خامل الذكر برجل مشهور بين الناس. ومنها استطراف المشبه أي عده طريفا حديثا بديعا كما في تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب لإبراز المشبه في صورة الممتنع عادة. ومنها إيهام رجحان المشبه على المشبه به في وجه الشبه وذلك في التشبيه المقلوب كقوله
وبدا الصباح كأن غرته = وجه الخليفة حين يمتدح
ففيه إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والضياء ومنه مثال المتن وهو الليث مثل الفاسق المصحوب فالفاسق الصاحب مثل الأسد في عدم أمن غائلته وعوده على صاحبه بالضرر ففيه إيهام أن الفاسق المصحوب أرجح من الليث في وجه الشبه. قال:
وَبِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ يَنْقَسِمْ = أَرْبَعَةً تَرْكِيباً إِفْرَاداً عُلِمْ
أقول: ينقسم التشبيه باعتبار الطرفين إلى أربعة أقسام: الأول تشبيه مفرد بمفرد كتشبيه الخد بالورد. الثاني تشبيه مفرد بمركب كتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد.
الثالث تشبيه مركب بمركب بأن يكون في كل من الطرفين كيفية حاصلة من عدة أشياء قد تضامنت حتى عادت شيئا واحدا كما في قوله:(1/87)
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا = وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
الرابع تشبيه مركب بمفرد كما في تشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل مقمر فالمشبه مركب والمشبه به مفرد
قال:
وَبِاعْتِبَارِ عَدَدٍ مَلْفُوفٍ اوْ = مَفْرُوقٍ اوْ تَسْوَيَةِ جَمْعٍ رَأَوْا
أقول: ينقسم التشبيه باعتبار تعدد طرفيه إلى ملفوف وهو أن يؤتى أولا بالمشبهات على طريق العطف أو غيره ثم بالمشبه بها كذلك كقوله في وصف العقاب بكثرة اصطياد الطيور: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي شبه الطري من قلوب الطير بالعناب واليابس منها بالحشف البالي وإلى مفروق وهو أن يؤتي بمشبه ومشبه به ثم آخر وآخر كقوله: النشر مسك والوجوه دنا نير وأطراف الأكف عتم وإلى تشبيه التسوية وهو أن يتعدد المشبه به كقوله: صدغ الحبيب وحالي كلاهما كالليالي
وإلى تشبيه الجمع وهو أن يتعدد المشبه به دون المشبه كتشبيه الثغر باللؤلؤ المنضد أو البرد أو الأقاح في قوله: كأنما يبسم عن لؤلؤ منضد أو برد أو إقاح قال:
وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ تَمْثِيلٌ إِذَا = مِنْ مُتَعَدِّدٍ تَرَاهُ أُخِذَا
أقول: ينقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه إلى تمثيل وهو ما كان وجه الشبه فيه وصفا منتزعا من متعدد كما في إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فالمشبه هيئة منتزعة من أمور متعددة والمشبه به كذلك وإلى غير تمثيل وهو ما ليس وجهه كذلك نحو الصالح في هذا الزمان كالكبريت الأحمر. قال:
وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ أَيْضاً مُجْمَلُ = خَفِيٌّ اوْ جَلِيٌّ اوْ مُفَصَّلُ(1/88)
أقول: ينقسم التشبيه أيضا باعتبار الوجه إلى مجمل وهو ما لم يذكر فيه وجه الشبه كالمثال المتقدم والوجه الغرة ومن الوجه ما هو خفي لا يفهمه إلا الخواص كقول بعضهم: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها أي هم متناسبون في الشرف كما أن الحلقة متناسبة الأجزاء في الصورة ومنه ما هو ظاهر يفهمه كل أحد نحو زيد كالأسد وإلى مفصل وهو ما ذكر فيه وجه الشبه كقوله: وثغره في صفاء وأدمعي كاللآلي
قال:
وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِهِ أَيْضاً قَرِيبْ = وَهُوَ جَلِيُّ الْوَجْهِ عَكْسُهُ الْغَرِيبْ
لِكَثْرَةِ التَّفْصِيلِ أَوْ لِنُدْرَةِ = فِي الذِّهْنِ كَالتَّرْتِيبِ فِي كَنُهْيَةِ
أقول: ينقسم التشبيه أيضا باعتبار وجهه إلى قريب مبتذل وهو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير احتياج إلى تأمل كتشبيه الجرة الصغيرة بالكوز في المقدار والشكل وإلى غريب وهو ما لا ينتقل فيه إلا بعد الفكر كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل إما لكثرة التفصيل في الوجه كهذا المثال أو ندور حصول المشبه به في الذهن لكونه وهميا كأنياب الأغوال أو مركبا خياليا نحو:أعلام ياقوت نشر = ن على رماح من زبرجد أو مركبا عقليا نحو كمثل الحمار يحمل أسفارا والمراد بالنهية العقل أي كالمركب العقلي
في بعض النسخ لكثرة التفصيل بعد النسبة وهو بضم الباء معطوف بحذف العاطف وآل في النسبة عوض من المضاف إليه أي ومن أسباب الغرابة بعد نسبة المشبه به عن المشبه فيقل بذلك حضور الشبه به في الذهن حين حضور المشبه. قال:
وَبِاعْتِبَارِ آلَةٍ مُؤَكَّدُ = بِحَذْفِهَا وَمُرْسَلٌ إِذْ تُوجَدُ
وَمِنْهُ مَقْبُولٌ بِغَايَةٍ يَفِي = وَعَكْسُهُ الْمَرْدُودُ وَالتَّعَسُّفِ
وَأَبْلَغُ التَّشْبِيهِ مَا مِنْهُ حُذِفْ = وَجْهٌ وَآلَةٌ يَلِيهِ مَا عُرِفْ(1/89)
أقول: ينقسم التشبيه باعتبار أداته إلى مؤكد ومرسل فالمؤكد ما حذفت أداته نحو زيد أسد والمرسل ما ذكرت فيه الأداة نحو زيد كالبدر وسمي مرسلا لإرساله عن التأكيد المتقضي بظاهره أن المشبه عين المشبه به ثم من التشبيه ما هو مقبول وهو الوافي بأي غرض من الأغراض المتقدمة وما هو مردود وهو عكسه أي الغير الوافي بذلك والبليغ من التشبيه ما حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه نحو زيد أسد أو مع حذف المشبه نحو أسد في مقام الإخبار عن زيد ويليه حذف أحدهما أي الوجه أو الأداة أي فقط أو مع حذف المشبه نحو زيد كالأسد ونحو كالأسد عند الإخبار عن زيد ونحو زيد أسد في الشجاعة ونحو أسد في الشجاعة عند الإخبار عن زيد ولا قوة لذكرهما معا مع ذكر المشبه أو بدونه نحو زيد كالأسد في الشجاعة ونحو كالأسد في الشجاعة خبرا عن زيد.
الْبَابُ الْثَانِي الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ :
حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعْ = لَهُ بَعُرْفِ ذِي الْخِطَابِ فَاتَّبِعْ
أقول: المقصود من هذا البحث المجاز إذ به يأتي اختلاف الطرق فذكر الحقيقة لمقابلتها له لا لتوقفه عليها لأن التحقيق عدم التوقف والحقيقة في الأصل من حق الشيء ثبت سميت بذلك لثبوت اللفظ على أصل وضعه والمجاز من جاز المكان بحوزه إذا تعداه إلى مكان آخر سمي بذلك لأنهم جازوا به معناه الأصلي إلى معنى آخر.
والحقيقة عرفا اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح المخاطب فخرج المهمل فلا يوصف بحقيقة ولا مجاز والمستعمل في غير ما وضع له غلطا إن لم تكن علاقة ومجازا إن كانت والمستعمل فيما وضع له في غير عرف المخاطب كالصلاة المستعملة عند اللغوي في الدعاة إذا استعملها في الهيئة المخصوصة فإنها حينئذ ليست حقيقة لأن هذا ليس عرف اللغة ومثلها الفعل إذا استعمله اللغوي في الحدث والزمان فقوله مستعمل أي لفظ مستعمل وما واقعة على المعنى والمراد بذي الخطاب المخاطب بكسر الطاء. قال:(1/90)
ثُمَّ الْمَجَازُ قَدْ يَجِيءُ مُفْرَدَا = وَقَدْ يَجِي مُرَكَّباً فَالْمُبْتَدَا
كِلْمَةٌ غَايَرَتِ الْمَوْضُوعَ مَعْ = قَرِينَةٍ لِعُلْقَةٍ نِلْتَ الْوَرَعْ
كَاخْلَعْ نِعَالَ الْكَوْنِ كَيْ تَرَاهُ = وَغُضَّ طَرْفَ الْقَلْبِ عَنْ سِوَاهُ
أقول: المجاز قسمان مفرد ومركب فالمفرد الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة وقرينة مانعة من إرادته كالأسد الذي استعمله اللغوي في الرجل الشجاع واستعمال الخلع والغض في الإعراض عما سوى الله تعالى فخرج المهمل والغلط والكناية وغابرت تجاوزت والورع ترك ما لا شبهة فيه خوفا من الوقوع في الشبهة وهو ملاك الدين كله فقليل العمل معه كثير وكثيره مع عدمه قليل بخلاف الطمع فإنه مفسدة الدين ومذلة الرجال. قال:
كِلاهُمَا شَرْعِيٌّ اوْ عُرْفِيُّ = نَحْوُ ارْتَقَى لِلْحَضْرَةِ الصُّوفِيُّ
أَوْ لُغَوِيٌّ وَالْمَجَازُ مُرْسَلُ = أَوِ اسْتِعَارَةٌ فَأَمَّا الأَوَّلُ
فَمَا سِوَى تَشَابُهٍ عَلاقَتُهْ = جُزْءٌ وَكُلٌّ أَوْ مَحَلٌّ آلَتُهْ
ظَرْفٌ وَمَظْرُوفٌ مُسَبَّبٌ سَبَبْ = وَصْفٌ لِمَاضٍ أَوْ مَآلٍ مُرْتَقَبْ(1/91)
أقول: كل من الحقيقة والمجاز لغوي وشرعي وعرفي كالصلاة المستعملة لغة في الدعاء والهيئة المخصوصة والعكس أي الصلاة المستعملة شرعا في الهيئة والدعاء وكالدابة المستعملة لغة في كل ما يدب على الأرض وفي ذوات الأربع والعرف عام وهو ما لا يتعين ناقله عن المعنى اللغوي وخاص وهو ما يتعين ناقله عن المعنى المنقول عنه كالفعل المنقول عند النحاة عن الحدث المعنى اللغوي إلى الكلمة المخصوصة ومنه مثال المتن فإن الإرتقاء حقيقة في المحسوسات مجاز في الترقي في مقامات السلوك وكالحضرة فإن الصوفية نقلوها من المحسوسات إلى دائرة الكمال والصوفي من صفا من الرعونات البشرية حتى وصل بذلك إلى خالق البرية. ثم المجاز المفرد إما مرسل وهو ما كانت العلاقة فيه غير المشابهة كاستعمال اسم الجزء في الكل كالكلمة في الكلام وعكسه كاستعمال الأصابع في الأنامل في ويجعلون أصابعهم في آذانهم. ومنها إطلاق اسم الحال على المحل وعكسه وقد اجتمعا في قوله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد إذ المراد بالزينة الثوب والمسجد الصلاة ومنها الآلة نحو واجعل لي لسان صدق في الآخرين أي ذكرا حسنا. فاستعمل اللسان في الذكر لأنه آلته. ومنها استعمال الظرف في المظروف.
نحو شربت كوزا أي ماء وعكسه نحو ففي رحمة الله أي الجنة التي هي ظرف للرحمة. ومنها إطلاق اسم المسبب على السبب نحو أمطرت السماء نباتا أي غيثا وعكسه نحو رعينا غيثا أي نباتا. ومنها اعتبار ما كان نحو وآتوا اليتامى أموالهم سماهم يتامى باعتبار وصفهم الماضي. ومنها الأول نحو إني أراني أعصر خمرا أي عصيرا يئول إلى الخمر، وإما استعارة وهوما كانت العلاقة فيه المشابهة كالأسد المستعمل في الرجل الشجاع في قولك رأيت أسدا في الحمام ثم إن علاقات المجاز المرسل أكثر مما ذكره المتن ومن أرادها فعليه بما كتبناه على عصام الاستعارات.
قال: فَصْلٌ فِي الاسْتِعَارَاتِ(1/92)
وَالاسْتِعَارَةُ مَجَازٌ عُلْقَتُهْ = تَشَابُهٌ كَأَسَدٍ شَجَاعَتُهْ
وَهْيَ مَجَازٌ لُغَةً عَلَى الأَصَحْ = وَمُنِعَتْ فِي عَلَمٍ لِمَا اتَّضَحْ
وَفَرْداً اوْ مَعْدُوداً اوْ مُؤَلَّفَا = مِنْهُ قَرِينَةٌ لَهَا قَدْ أُلِفَا
أقول: الاستعارة اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة كالأسد المستعمل في الرجل الشجاع فقوله كأسد شجاعته أي كالأسد إذا أطلق على الرجل الشجاع وشجاعته العلاقة بينهما أي علاقته شجاعته والأصح أنها من المجاز اللغوي الذي هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له وقيل من العقلي بمعنى أن التصرف في أمر عقلي لا لغوي لأنها لما لم تطلق على المشبه إلا بعد إدعاء دخوله في جنس المشبه به كان استعمالها فيما وضعت له ورده في الأصل ويمتنع أن تكون الاستعارة في العلم لما اتضح عندهم من أنها تقتضي إدخال المشبه في جنس المشبه به بجعل أفراده قسمين متعارف وغير متعارف ولا يمكن هذا في العلم لمنافاته الجنسية إلا إذا تضمن العلم نوع وصفية بواسطة اشتهاره بوصف من الأوصاف كحاتم المتضمن الإنصاف بالجود فيتأول فيه فيجعل كأنه موضوع للجواد سواء كان ذلك الرجل المعهود أو غيره فيتناول حاتم حينئذ الفرد المتعارف المعهود والفرد الغير المتعارف ويكون إطلاقه على المعهود أعني حاتما الطائي حقيقة وعلى غيره ممن يتصف بالجود استعارة نحو رأيت اليوم حاتما وقرينة الاستعارة تكون فردا أي أمرا واحدا نحو رأيت أسدا يرمي أو متعددا أي أكثر من أمر اثنين فأكثر فيكون كل واحد منهما أو منهم قرينة كقولك رأيت أسدا يرمي على فرسه أو مع زيادة في الهيجاء أو تكون معاني ملتئمة أي مربوطا بعضها ببعض يكون الجميع قرينة لا كل واحد كقوله:
وصاعقة من نصله تتكفى بها = على أرؤس الأقران خمس سحائب(1/93)
أي أنامله الخمس التي هي في الجود وعموم العطايا كالسحائب لما استعار السحائب لأنامل الممدوح ذكر أن هناك صاعقة وبين أنها من نصل سيفه ثم قال على أرؤس الأقران ثم قال خمس سحائب فذكر العدد الذي هو عدد الأنامل فظهر من جميع ذلك أنه أراد بالسحائب الأنامل والضمير في ألفا للقرينة وذكره للضرورة وألفه للإطلاق كالذي قبله. قال:
وَمَعْ تَنَافِي طَرَفَيْهَا تَنْتَمِي = إِلَى الْعِنَادِ لا الْوِفَاقِ فَاعْلَمِ
ثُمَّ الْعِنَادِيَّةُ تَلْمِيحِيَّهْ = تُلْفَى كَمَا تُلْفَى تَهَكُّمِيَّهْ
أقول: تنقسم الاستعارة باعتبار الطرفين أعني المستعار منه والمستعار له إلى عنادية وهي التي يمتنع اجتماع طرفيها كاستعارة اسم المعدول للموجود الذي لا منفعة فيه واستعارة اسم الميت للحي الجاهل وإلى وفاقية وهي التي يمكن اجتماع طريفها في شيء كاستعارة الأحياء للإهتداء في قوله أو من كان ميتا فأحييناه ثم الأولى إما تمليحية أي المقصود منها التلميح والظرافة أو تهكمية بأن يكون المقصود التهكم والإستهزاء بأن يستعمل اللفظ في ضد معناه نحو رأيت أسدا تريد جبانا قاصدا التلميح والظرافة أو التهكم والسخرية قال:
وَبِاعْتِبَارِ جَامِعٍ قَرِيبَهْ = كَقَمَرٌ يَقْرَأُ أَوْ غَرِيبَهْ
وَبِاعْتِبَارِ جَامِعٍ وَطَرَفَيْنِ = حِسًّا وَعَقْلاً سِتَّةٌ بِغَيْرِ مَيْنِ(1/94)
أقول: تنقسم الإستعارة باعتبار الجامع إلى قريبة وغريبة فالأولى ما كان الجامع فيها ظاهرا نحو رأيت أسدا يرمي ورأيت قمرا يقرأ والثانية ما كان الجامع فيها خفيا لا يدركه إلا الخاصة نحو: وإذا احتبى قربوسه بعنانه. البيت شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج ممتدا إلى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثوب موقعه من ركبتي المحتبي ممتد إلى جانبي ظهره ثم استعار الاحتباء وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب ونحوه لوقوع العنان في قربوس السرج فجاءت الاستعارة غريبة لغرابة الشبه وتنقسم الاستعارة أيضا باعتبار الطرفين والجامع إلى ستة أقسام لأن الطرفين إما حسيان أو عقليان أو الشبه حسي والمشبه به عقلي وعكسه فإن كانا حسيين فالجامع إما حسي نحو فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فإن المستعار منه ولد البقرة والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعال من حلي القبط والجامع الشكل والجميع حسي وإما عقلي نحو وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإن المستعار منه كشط الجلد عن نحو الشاة والمستعار له كشط الضوء عن مكان الليل وهما حسيان والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وإما مختلف كقولك رأيت شمسا وأنت تريد إنسانا كالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن وإن كانا عقليين فالجامع لا يكون إلا عقليا نحو من بعثنا من مرقدنا فإن المستعار منه الرقاد والمستعار له الموت والجامع بينهما عدم ظهور الفعل والجميع عقلي وإن كان المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا فكذلك نحو فاصدع بما تؤمر فإن المستعار منه كسر الزجاجة وهو حسي والمستعار له التبليغ والجامع التأثير وهما عقليان أو عكسه نحو إنا لما طغى الماء فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي والمستعار منه التكبر والجامع الاستعلاء المفرط وهما عقليان. قال:
وَاللَّفْظُ إِنْ جِنْساً فَقُلْ أَصْلِيَّهْ = وَتَبَعِيَّةٌ لَدَى الْوَصْفِيَّهْ(1/95)
وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ كَحَالِ الصُّوفِي = يَنْطِقُ أَنَّهُ الْمُنِيبُ الْمُوفِي
أقول: تنقسم الاستعارة باعتبار اللفظ إلى أصلية وتبعية فإن كان المستعار اسم جنس فالاستعارة أصلية نحو رأيت أسدا في الحمام وإن كان صفة نحو الحال ناطقة بكذا أو فعلا نحو نطقت الحال بكذا ومنه مثال المصنف أو حرفا نحو فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا فاستعارة تبعية للإستعارة الأصلية المقدرة في مصدر المشتق اسما أو فعلا وللتشبيه في متعلق الحرف.
قال:
وَأَطْلَقَتْ وَهْيَ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ = بِوَصْفٍ اوْ تَفْرِيعِ أَمْرٍ فَاسْتَبِنْ
وَجُرِّدَتْ بِلائِقٍ بِالْفَصْلِ = وَرُشِّحَتْ بِلائِقٍ بِالأَصْلِ
نَحْوُ ارْتَقَى إِلَى السَّمَاءِ الْقُدْسِ = فَفَاقَ مَنْ خَلَّفَ أَرْضَ الْحِسِّ
أَبْلَغُهَا التَّرْشِيحُ لابْتِنَائِهْ = عَلَى تَنَاسِي الشِّبْهِ وَانْتِفَائِهْ(1/96)
أقول: تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر ما يلائم الطرفين وعدمه إلى مطلقة وهي التي لم تقترن بشيء من ملائمات المستعار منه والمستعار له نحو رأيت أسدا إذا كانت القرينة حالية وإلى مجردة وهي ما اقترنت بما يلائم المستعار له نحو رأيت أسدا يرمي إذا كانت القرينة حالية لأن التجريد كالترشيح إنما يكون بعد تمام الاستعارة وإلى مرشحة وهي ما اقترنت بما يلائم المستعار منه نحو رأيت أسدا له لبد والقرينة حالية. ومنه مثال المصنف فإن الإرتقاء وهو التصاعد من سفل إلى علو يلائم السماء المستعار لحضرة القدس ولا يخفى ما في ارتقي وفاق من الأصلية والتبعية والترشيح حيث استعير الارتقاء لانتقال حال السالك من حال إلى حال أعلى منه وفاق بمعنى علا وهو مما يلائم المستعار منه وأما بقية البيت فاستعارة مجردة حيث استعير الأرض للصفات الدنيئة والحس يلائمها لإدراكها به فمن فاعل ارتقى أي إرتقى إلى حضرة المكون من غاب من الأكوان ومراد المصنف بالفصل المستعار له وبالأصل المستعار منه وقد يجتمع الترشيح والتجريد في كلام واحد كقوله:
لدي أسد شاكي السلاح مقذف = له لبد أظفاره لم تقلم
فالسلاح للتجريد والأظفار للترشيح والترشيح أبلغ من التجريد لأنه مبني على تناسي التشبيه والإطلاق أبلغ من التجريد والتجريد مع الترشيح متكافئان ثم إن عدم ورود الترشيح في كتاب الله تعالى على ما زعمه بعضهم لا ينافي الأبلغية المذكورة كما لا يخفى لأن ذكر غيره لأهمية عرضية لا يقتضي عدم هذه المزية الذاتية ومن عرف موقع الكلام هان عليه هذا المقام.
قال: فَصْلٌ فِي التَّحْقِيقِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ
وَذَاتُ مَعْنًى ثَابِتٍ بِحِسٍّ اوْ = عَقْلٍ فَتَحْقِيقِيَّةٌ كَذَا رَأَوْا
كَأَشْرَقَتْ بَصَائِرُ الصُّوفِيَّهْ = بِشَمْسِ نُورِ الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّهْ(1/97)
أقول: قسم الاستعارة إلى تحقيقية وتخييلية فمراده بالعقلية التخييلية بدليل المقابلة فالإستعارة إن تحقق معناها حسا نحو رأيت أسدا في الحمام أو عقلا نحو اهدنا الصراط المستقيم فإن المستعار له قواعد الدين وهي محققة عقلا فالإستعارة تحقيقية وإن لم يتحقق لا حسا ولا عقلا بل كان أمرا متوهما فالإستعارة تخييلية كالأظفار في أنشبت المنية أظفارها كما سيأتي آنفا في كلامه فقوله كأشرقت الخ مثال للإستعارة التحقيقية المتحقق معناها عقلا إذ المستعار منه الاستنارة بالنور المحسوس والمستعار له إنشراح الصدر وإتساعه وهو أمر محقق عقلا وكذا الشمس فإن المستعار له المعارف الربانية.
قال: فَصْلٌ فِي الْمَكْنِيَّةِ
وَحَيْثُ تَشْبِيهٌ بِنَفْسٍ أُضْمِرَا = وَمَا سِوَى مُشَبَّهٍ لَمْ يُذْكَرَا
وَدَلَّ لازِمٌ لِمَا شُبِّهَ بِهْ = فَذَلِكَ التَّشْبِيهُ عِنْدَ الْمُنْتَبِهْ
يُعْرَفُ بِاسْتِعَارَةِ الْكِنَايَةِ = وَذِكْرُ لازِمٍ بِتَخْيِيلِيَّةِ
كَأَنْشَبَتْ مَنِيَّةٌ أَظْفَارَهَا = وَأَشْرَقَتْ حَضْرَتُهَا أَنْوَارَهَا(1/98)
أقول: إذا لم يذكر شيء من أركان التشبيه سوى المشبه ودل على المشبه به بذكر لازمه قيل لذلك التشبيه المضمر في النفس أي الذي لم يدل عليه بأداته استعارة بالكناية ويسمي اللازم استعارة تخييلية لأن معناها لم يكن محققا لاحسا ولا عقلا كأظفار المنية في قولنا أنشبت المنية أظفارها فإن الأظفار مستعملة في شيء متوهم للمنية أي الموت شبيه بالأظفار الحقيقية وتبع المصنف الأصل في جعل التشبيه استعارة بالكناية والحق أنها لفظ المشبه به المستعمل في المشبه المضمر في النفس المرموز إليه بلازمه كلفظ السبع هنا إذ الاستعارة اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أو استعماله والتشبيه ليس واحدا منهما وقيل إنها لفظ المشبه المستعمل في المشبه به بإدعاء أنه عينه وهذا مذهب السكاكي وهو مردود كالأول والثاني مذهب السلف وهو المختار وقوله أشرقت بعدما قبله شاهد بأن حيث شبه الحضرة بالشمس تشبيها مضمرا في النفس وأثبت ما هو من لوازم المشبه به وهو الأنوار المنصوب على نزع الخافض.
قال: فَصْلٌ فِي تَحْسِينِ الاسْتِعَارَةِ
مُحَسِّنُ اسْتِعَارَةٍ تَدْرِيهِ = يُدْعَى بِوَجْهِ الْحُسْنِ لِلتَّشْبِيهِ
وَالْبُعْدُ عَنْ رَائِحَةِ التَّشْبِيهِ فِي = لَفْظٍ وَلَيْسَ الْوَجْهُ أَلْغَازاً قُفِي(1/99)
أقول: حسن الاستعارة إنما يكون برعاية جهات حسن التشبيه بأن يكون وجه الشبه شاملا للطرفين والتشبيه وافيا بما علق به من الغرض وبأن لا يشم رائحته لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به ولذلك اشترط أن يكون ما به المشابهة بين الطرفين جليا لئلا تصير الاستعارة ألغازا أي كلاما معمى كما لو قيل رأيت أسدا وتريد إنسانا أبخر إذ وجه الشبه بين الطرفين خفي فظهر أن التشبيه أعم محلا إذ كل ما يتأتى فيه الاستعارة يتأتى فيه التشبيه من غير عكس لجواز أن يكون وجه الشبه غير جلي كما في المثال ولا منافاة بين هذا وبين اشتراط عدم ابتذال وجه الشبه أي بأن يكون بعيدا لأن البعد مما يقبل الشدة والضعف فالمراد أن لا يصل بعده إلى الألغاز.
قال: فَصْلٌ فِي تَرْكِيبِ الْمَجَازِ
مُرَكَّبُ الْمَجَازِ مَا تَحَصَّلا = فِي نِسْبَةً أَوْ مِثْلِ تَمْثِيلٍ جَلا
وَإِنْ أَبَى اسْتِعَارَةٍ مُرَكَّبُ = فَمَثَلاً يُدْعَى وَلا يُنَكَّبُ
أقول: قسم المجاز المركب إلى قسمين الأول ما تحصل أي تقدم في الاسناد الخبري. الثاني ما استعمل فيما شبه بمعناه الأصلي وكان وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد وهذا يسمى استعارة تمثيلية فقوله أو مثل تمثيل جلا أي ظهر مثل تشبيه التمثيل في الوجه نحو إني أراك تقدم رجلا. وتؤخر أخرى المستعمل في تردد شخص في أمر شبهت صورة تردده في الأمر بصورة من قام يمشي إلى أمر فترك المشي فتارة يقدم رجله وتارة يؤخرها فكل من الطرفين والجامع هيئة منتزعة من متعدد وهذا كما يسمى استعارة تمثيلية يمسى مثلا أيضا، وشرط هذه التسمية فشو الاستعمال في الاستعارة دون التشبيه فقوله ولا ينكب أي لا يحول اللفظ الدال على المشبه لوجوب بقاء الاستعارة على الهيئة التي يستحقها المشبه به.
قال: فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الإعْرَابِ
وَمِنْهُ مَا إِعْرَابُهُ تَغَيَّرَا = بِحَذْفِ لَفْظٍ أَوْ زِيَادَةٍ تُرَى(1/100)
أقول: من المجاز نوع آخر غير ما تقدم وهو كل كلمة تغير إعرابها بحذف لفظ أو زيادته نحو وجاء ربك أي أمره وليس كمثله شيء أي مثله على ما فيه فالحكم الأصلي لربك الجر ولمثل النصب فتغير بالحذف في الأول والزيادة في الثاني وإنما كان هذا النوع مغايرا لما تقدم لأن المجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أو استعماله والتغيير بمعنى التغير وليس واحدا منهما ورد بعضهم هذا النوع إلى المجاز الإسنادي والحذف والزيادة بصدق كل منهما على الإسم والحرف فحذف الاسم تقدم في المثال وزيادته نحو أدخلوا آل فرعون أشد العذاب إذ المراد فرعون نفسه وزيادة الحرف تقدمت في المثال ونقصه نحو تالله تفتؤ تذكر يوسف أي لا تفتؤ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ
لَفْظٌ بِهِ لازِمُ مَعْنَاهُ قُصِدْ = مَعَ جَوَازِ قَصْدِهِ مَعَهُ يَرِدْ
إِلَى اخْتِصَاصِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ = كَالْخَيْرِ فِي الْعُزْلَةِ يَا ذَا الصُّوفِي
وَنَفْسُ مَوْصُوفٍ وَوَصْفٍ وَالْغَرَضْ = إِيضَاحٌ اخْتِصَارٌ اوْ صَوْنٌ عَرَضْ
أَو انْتِقَاءِ اللَّفْظِ لاسْتِهْجَانِ = وَنَحْوِهِ كَاللَّمْسِ وَالإِتْيَانِ
أقول: قد عرف الكناية بأنها اللفظ الذي أريد به لازم معناه مع جواز إرادته نحو زيد طويل النجاد فإن المراد لازم معناه وهو طول القامة ويجوز مع ذلك إرادة طول النجاد الذي هو المعنى الحقيقي وبهذا القيد فارقت المجاز لأنه لابد من كون القرينة فيه مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي نحو رأيت أسدا في الحمام ففي الحمام قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهو الحيوان المفترس كذا قالوا برمتهم. واعترض ذلك عصام الدين في كتابته على متن السمرقندية بما يعلم بمراجعته.(1/101)
وأجيب عن اعتراضه فيما كتبته على شرحه المذكور. وترد إلى أقسام ثلاثة: الأول اختصاص الوصف بالموصوف كقولهم المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه جعل إحاطة الثوبين والبردين بالوصفين كناية عن اختصاص الممدوح بهما ومن ذلك الخبر في العزلة الخ كناية عن اختصاص الصوفي بها. الثاني ما يطلب بها نفس الموصوف كقولك جاء المضياف تريد زيدا لكثرة إقرائه للضيف حتى صار اختصاصه بذلك كاللازم ينتقل من المضياف إليه. الثالث ما يطلب بها نفس الصفة نحو كثير الرماد كناية عن المضياف ونحو طويل النجاد كناية عن طول القامة. والأولى بعيدة لكثرة الوسائط والثانية قريبة لعدم الواسطة ثم الغرض من الكناية الإيضاح كطويل النجاد لطول القامة أو الاختصار كفلان مهزول الفصيل أي لكثرة نحو الأمهات كناية عن كرمه أو الستر وهو المراد بالصون كأهل الذرا كناية عن الزوجة صيانة لها أو اختيار الفصحاء اللفظ لاستهجان المكنى عنه نحو فالآن باشروهن ونحو فلان لمس زوجته أو أنها كناية عن المجامعة.
قال: فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْمَجَازِ وَالْكُنَى
ثُمَّ المَجَازُ وَالكُنَى أَبْلَغُ مِنْ = تَصْرِيحٍ اوْ حَقِيقَةٍ كَذَا زُكِنْ
فِي الفَنِّ تَقْدِيمُ اسْتِعَارَةٍ على = تَشْبِيهٍ ايْضاً بِاتِّفَاقِ العُقَلا
أقول: المجاز أبلغ من الحقيقة والكناية أبلغ من التصريح لأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم وهو كدعوى الشيء ببينة فإن وجود الملزوم يقتضى وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن لازمه والاستعارة أبلغ من التشبيه لأنها نوع من المجاز والتشبيه حقيقة وقد علمت أن المجاز أبلغ منها والله أعلم.
الفَنُّ الثَّالِثُ: عِلْمُ البَدِيعِ
عِلْمٌ بِهِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الكلامِ = يُعْرَفُ بَعْدَ رَعْيِ سَابِقِ المَرَامِ
ثُمَّ وُجُوهُ حُسْنِهِ ضَرْبَانِ = بِحَسَبِ الأَلْفَاظِ وَالمَعَانِي(1/102)
أقول: تقدم أن فن البديع ليس جزءا من البلاغة بل هو تابع لها فالنظر فيه فرع النظر فيها فلذلك أخر. وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة فقوله: علم خبر مبتدأ محذوف ودليل مفاده الترجمة وسابق المرام أي المطلوب السابق وهو المطابقة ووضوح الدلالة اللذان هما مفادان للفنين قبله ثم وجوه التحسين. منها ما يتعلق باللفظ فيكسوه حسنا وجمالا كالجناس التام. ومنها ما يتعلق بالمعنى كذلك كالمطابقة وسيأتي مثالهما وقدم الألفاظ في البيت لأنها طريق للمعاني وأخر الكلام على ما يتعلق بها اهتماما بشأن المعاني لأنها المقصودة أولا بالذات وقصد الألفاظ عرضي.
الْضَرْبُ الأَوَّلُ: الْمَعْنَوِيُّ
وَعُدَّ مِنْ أَلْقَابِهِ الْمُطَابَقَهْ = تَشَابُهُ الأَطْرَافِ وَالْمُوَافَقَهْ
أقول: تقدم وجه تقديم الضرب المعنوي فمن ألقابه المطابقة وتسمى الطباق والتضاد والتكافؤ وهو الجمع بين متقابلين في الجملة أي سواء كان قابل ضدين أو نقيضين أو عدم ملكة، ويكون بلفظين من نوع اسمين نحو وتحسبهم أيقاظا وهم رقود أو فعلين نحو: يحيى ويميت أو حرفين نحو لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت أو من نوعين نحو أو من كان ميتا فأحييناه. والطباق قسمان: طباق الإيجاب كما مثل وطباق السلب وهو الجمع بين فعلين من نوع واحد أحدهما مثبت والآخر منفي أو أحدهما أمر والآخر نهي نحو ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا ولا تخشوا الناس واخشون ومنها تشابه الأطراف وهو التناسب بين أول الكلام وآخره في المعنى نحو لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
ومنها الموافقة وتسمى التناسب والتواقع أيضا ومراعاة النظير وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد نحو الشمس والقمر بحسبان. قال:
وَالْعَكْسُ وَالتَّسْهِيمِ وَالْمُشَاكَلَهْ = تَزَاوُجٌ رُجُوعٌ اوْ مُقَابَلَهْ(1/103)
اقول: اشتمل هذا البيت على ستة ألقاب: الأول العكس وهو أن يتقدم في الكلام جزء ثم يؤخر نحو عادات السادات سادات العادات. الثاني التسهيم ويمسى الإرصاد وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل عليه إذا عرف الروي نحو وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله:
إذا لم تستطع شيئا فدعه = وجاوزه إلى ما تستطيع
الثالث المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره
لوقوعه في (.....) أو تقديرا فالأول نحو قوله.
قالوا الترح شيئا نجد لك طبخه = قلت اطبخوا .....
فعبر عنه بلفظ الطبخ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام ومنه ومكروا ومكر الله. والثاني نحو صبغة الله وهو مصدر مؤكد لآمنا بالله أي تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يقال له المعمودية ويقولون إنه تطهير لهم فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله للمشاكلة لهذه القرينة. الرابع المزاوجة وهي أن يزاوج أي يقارن بين معنيين في الشرط والجزاء كقوله: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى = أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر زاوج بين نهي الناهي وأصاختها إلى الواشي الواقعين في الشرط والجزاء بأن رتب عليهما لجاج شيء وإن كان في الأول لجاج الهوى وفي الثاني لجاج الهجر.
الخامس الرجوع وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة كقوله:
قف بالديار التي لم يعفها القدم = بلى وغيرها الأرواح والديم
أخبر أولا أن هذه الديار لم يبلها تقادم العهد ثم نقض هذا الخبر بقوله بلى وغيرها الأرواح أي هبو بها والديم أي القطر والنكتة إظهار التحير كأنه أخبر أولا بما لا تحقق له ثم لما أفاق بعض إفاقة نقض الكلام السابق قائلا بل عفاها القدم وغيرها الأرواح والديم. السادس المقابلة وهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر ثم يقابل ذلك على الترتيب نحو فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ومنه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى إلى العسرى، وقوله:(1/104)
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا = وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وأدخل الأصل هذا النوع في المطابقة.
قال:
تَوْرِيَةٌ تُدْعَى بِإِيهَامٍ لِمَا = أُرِيدَ مَعْنَاهُ الْبَعِيدُ مِنْهُمَا
وَرُشِّحَتْ بِمَا يُلائِمُ الْقَرِيبْ = وَجُرِّدَتْ بِفَقْدِهِ فَكُنْ مُنِيبْ
أقول: من ألقاب المعنوي التورية وتسمى الإيهام لاشتمالها على إيهام إرادة المعنى القريب أيضا وهو أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد نحو الرحمن على العرش استوى فمعنى الاستواء القريب الاستقرار ومعناه البعيد الاستيلاء وهو المراد وهي قسمان مجردة وهي التي لا تلائم شيئا مما يلائم القريب كهذا المثال ومرشحة وهي التي قرنت بما يلائمه نحو والسماء بنيناها بأيد فمعنى الأيدي القريب الجارحة والبعيد القدرة وهو المراد وقرنت بما يلائم القريب وهو البناء وقوله منيب خبر كان وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة. قال:
جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ وَتَقْسِيمٌ وَمَعْ = كِلَيْهِمَا أَوْ وَاحِدٍ جَمْعٌ يَقَعْ
أقول: ذكر في هذا البيت ستة ألقاب من الضرب المعنوي. الأول الجمع وهو أن يجمع بين متعدد في حكم كقوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا ونحو: إن الشباب والفراغ والجد مفسدة للمرء أي مفسده الثاني التفريق وهو إيقاع تباين بين أمرين من نوع في المدح أو غيره نحو هذا عذب فرأت سائغ شرابه وهذا ملح أجاج وكقوله:
ما نوال الغمام وقت ربيع = كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ونوال الغمام قطرة ماء الثالث التقسيم وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين
كقوله:
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا = الأذلان عبر الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته = وذا يشج فلا يرثى له أحد
الرابع الجمع مع التفريق وهو أن يدخل شيئان في معنى ويفرق بين جهتي الإدخال
كقوله:
فوجهك كالنار في ضوئها = وقلبي كالنار في حرها(1/105)
الخامس الجمع مع التقسيم وهو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه أو العكس فالأول كقوله:
حتى أقام على أرباض خرشنة = تشقى به الروم والصلبان والبيع
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا = والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
والثاني كقوله:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم = أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك فيهم غير محدثة = إن الخلائق فأعلم شرها البدع
السادس الجمع مع التفريق والتقسيم كقوله تعالى يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ. جمع في قوله لا تكلم نفس لأنها نكرة في سياق النفي ثم فرق بأن بعضهم شقي وبعضهم سعيد ثم قسم بأن أضاف إلى الأشقياء ما لهم من عذاب النار وإلى السعداء ما لهم من نعيم الجنة فقوله ومع كليهما الخ يعني أن الجمع يقع مع التفريق تارة ومع التقسيم تارة أخرى ومع كليهما وتقدم كل ذلك.
قال:
وَاللَّفُّ وَالنَّشْرُ وَالاسْتِخْدَامُ = أَيْضاً وَتَجْرِيدٌ لَهُ أَقْسَامُ
أقول: ذكر في هذا البيت ثلاثة ألقاب الأول اللف والنشر وهو ذكر متعدد على التفصيل والإجمال ثم ذكر ما لكل من غير تعيين ثقة بأن السامع يرده إليه فالأول ضربان لأن النشر إما على ترتيب اللف نحو ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله وإما على غير ترتيبه كقوله:
كيف أسلوا وأنت حقف وغصن = وغزال الحظا وقد أوردفا
والثاني كقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلف بين الفريقين لعدم الإلباس والثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق مقوله.(1/106)
الثاني الاستخدام وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم بضميره الآخر أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ثم بالآخر الآخر فالأول كقوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم = رعيناه وإن كانوا غضابا
والثاني نحو أتينا غيثا فرعيناه. الثالث التجريد. وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة كمالها فيه وهو أقسام منها ما يكون بمن التجريدية نحو قولهم لي من فلان صديق حميم أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن التخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه. ومنها ما يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قولهم لئن سألت فلانا لتسألن (...) البحر بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة. ومنها ما يكون بفي الداخلة على المنتزع منه نحو قوله تعالى لهم فيها دار الخلد. ومنها ما يكون من غير توسط حرف نحو قوله:
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة = تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه. ومنها مخاطبة الإنسان نفسه كقوله: *لا خيل عندك تهديها ولا مال*انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال. قال:
ثُمَّ الْمُبَالَغَةُ وَصْفٌ يُدَّعَى = بُلُوغُهُ قَدْراً يُرَى مُمْتَنَعَا
أَوْ تَابِعاً وَهُوَ عَلَى أَنْحَاءِ = تَبْلِيغٌ إِغْرَاقٌ غُلُوٌّ جَائِي
مَقْبُولاً اوْ مَرْدُوداً التَّفْرِيعُ = وَحُسْنُ تَعْلِيلٍ لَهُ تَنْوِيعُ
أقول: ذكر في هذه الأبيات ثلاثة ألقاب الأول المبالغة وهو إدعاء بلوغ وصف في الشدة أو الضعف إلى حد مستحيل أو مستبعد لئلا يظن أنه غير متناه فيه وهو ثلاثة أقسام تبليغ وإغراق وغلو فالتبليغ أن يكون الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة كقوله:
فعادى عداء بين ثور ونعجة = دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
أدعى أن فرسه أدرك ثورا ونعجة أي ذكرا وأنثى من بقر الوحش في مضمار واحد ولم يعرق وهذا ممكن عقلا وعادة.
والإغراق ما أمكن عقلا لا عادة كقوله:(1/107)
ونكرم جارنا ما دام فينا = ونتبعه الكرامة حيث مالا
وهذا ممكن عقلا لا عادة وهذا الممكن العادي غير واقع في زماننا بل كاد أن يلحق بالممتنع العقلي وهذان النوعان مقبولان أي مرضيان مستحسنان. والغلو ما لا يمكن لا عقلا ولا عادة كقوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه = لتخافك النطف التي لم تخلق
فخوف النطف مستحيل عقلا وعادة. ومنه مقبول ومردود فالمقبول منه ما أدخل فيه ما يقربه إلى الصحة نحو- يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار- فيكاد قرب ذلك من الصحة. ومنه ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقوله:
أسكر بالأمس إن عزمت على الشر = ب غدا إن ذا من العجب
والمردود منه ما ليس كذلك.
الثاني التفريع وهو أن يثبت لمتعلق أمر حكم بعد إثباته لمتعلق له آخر على وجه يشعر بالتفريع كقوله:
أحلامكم لسقام الجهل شافية = كما دمائكم تشفي من الكلب
فرع على وصفهم بشفاء أحلامهم من داء الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب بفتح اللام وهو داء شبيه بجنون يحدث للإنسان من عض الكلب الكلب. الثالث حسن التعليل وهو أن يدعي لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقي وهو أربعة أنواع لأن الصفة التي أدعى لها علة مناسبة إما ثابتة قصد بيان علتها أو غير ثابتة أريد إثباتها والأولى إما أن لا يظهر لها في العادة علة وإن كانت لا تخلو في الواقع عنها كقوله:
لم يحك نائلك السحاب وإنما = حمت به فصببها الرحضاء
أي المصبوب هو عرق الحمى فنزول المطر من السحاب صفة ثابتة لا يظهر لها في العادة محلة وقد علله بأنه عرق حماها بسبب عطاء الممدوح أو يظهر لتلك الصفة علة غير العلة المذكورة لتكون المذكورة غير حقيقية فيكون من حسن التعليل كقوله:
ما به قتل أعاديه ولكن =يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب(1/108)
فإن قتل الأعداء في الغالب لدفع مضرتهم لا لما ذكر من أن طبيعة الكرم غلبته ومحبة صدق رجاء الراجين بعثته على قتل أعدائه لما علم من أنه علم من أنه إذا توجه للحرب صارت الذئاب ترجو اتساع الرزق عليها بلحوم من يقتل من الأعداء والثانية إما ممكنة كقوله:
يا واشيا حسنت فينا إساءته = نجني حذارك إنساني من الغرق
فإن استحسان إساءة الواشي ممكنة لكن لما خالف الشاعر الناس فيه إذ لا يستحسنه الناس عقبه بأن حذاره منه أي الواشي نجى إنسان عينه من الغرق في الدموع حيث ترك البكاء خوفا منه أو غير ممكنة كقوله:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته = لما رأيت عليها عقد منتطق
من انتطق أي شد النطاق وحول الجوزاء كواكب يقال لها نطاق الجوزاء فنية الجوزاء خصبة الممدوح صفة غير ممكنة قصد إثباتها كذا في الإيضاح وبحث شارح الأصل بما يعلم بمراجعته فثبت أن في الصفة الثابتة نوعين وفي غيرها كذلك فقوله مقبولا أو مردودا حالان من ضمير الغلو في جاء، والتفريع ابتداء كلام. قال:
وَقَدْ أَتَوْا فِي الْمَذْهَبِ الكَلامِي = بِحُجَجٍ كَمَهْيَعِ الْكَلامِ
وَأَكَّدُوا مَدْحاً بِشِبْهِ الذَّمِّ = كَالْعَكْسِ وَالإِدْمَاجُ مِنْ ذَا الْعِلْمِ
أقول: ذكر في هذين البيتين أربعة ألقاب: الأول المذهب الكلامي وهو إيراد (...) للمطلوب على مذهب أهل الكلام بأن تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب نحو لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا واللازم وهو الفساد أي الخروج عن النظام منتف فالملزوم وهو تعدد الآلهة مثله وهذه الملازمة من المشهورات الصادقة التي يكتفى بها في الخطابيات دون القطعيات والمهيع الطريق. الثاني تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو ضربان أفضلهما أن يستثنى من صفة ذم منفية عن شيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم = بهن فلول من قراع الكتائب(1/109)
أي إن كان فلول السيف عيبا فأثبت شيئا منه على تقدير كونه منه وهو محال فهو في المعنى تعليق بالمحال والمعلق بالمحال محال والتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة والأصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شيء مسما قبلها فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد. والثاني أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى له نحو أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش وأصل الاستثناء أيضا أن يكون منقطعا لكنه لم يقدر متصلا كما قدر في الضرب الأول فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني وهو أن ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم إخراج شيء مما قبلها من حيث أن الأصل في مطلق الاستثناء هو الاتصال فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى جاء التأكيد ولا يفيد التوكيد من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة لأنه مبني على التعليق بالمحال المبني على تقدير كون الإستثناء متصلا ولهذا كان الضرب الأول أفضل.
الثالث تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو مراده بالعكس وهو ضربان: أحدهما أن يستثنى من صفة محد منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيه كقولك فلان لا خير فيه إلا أنه يسيئ إلى من أحسن إليه.
وثانيهما أن يثبت لشيء صفة ذم وتعقب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى كقولك فلان فاسق إلا أنه جاهل وتحقيقها على قياس ما تقدم.
الرابع الإدماج وهو أن يضمن كلام سيق لمعنى آخر كقوله:
أقلب فيه أجفاني كأني = أعد بها على الدهر الذنوبا
فإنه ضمن وصف الليل بالطول الشكاية من الدهرقال:
وَجَاءَ الاسْتِتْبَاعُ وَالتَّوْجِيهُ مَا = يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْعُلَمَا
أقول: ذكر في هذا البيت نوعين: الأول الاستتباع وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر فهو أخص من الإدماج كقوله:
نهبت من الأعمار ما لو حويته = لهنئت الدنيا بأنك خالد
مدحه بالنهاية في الشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها.(1/110)
الثاني التوجيه وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين كقول من قال لأعور ليت عينيه سواء.
يحتمل صحة عينه العوراء فيكون دعاء له وبالعكس فيكون دعاء عليه. قال:
وَمِنْهُ قَصْدُ الْجَدِّ بِالْهَزْلِ كَمَا = يُثْنَى عَلَى الْفَخُورِ ضِدَّ مَا اعْتَمَا
أقول: ذكر في هذا البيت نوعا واحدا وهو إيراد الجد في قالب الهزل كقوله:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا = فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب
فقوله يثني أي يعطف ويرد على الفخور بضد ما اعتما أي اختار لنفسه والفخور المفتخر بما أعطي.
قال:
وَسَوْقُ مَعْلُومٍ مَسَاقَ مَا جُهِلَ = لِنُكْتَةٍ تَجَاهُلٌ عَنْهُمْ نُقِلْ
أقول: ذكر في هذا البيت نوعا واحدا وهو تجاهل العارف وسماه السكاكي سوق المعلوم مساق غيره لنكتة كالمبالغة في المدح في قوله: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي والتوله والتحير في الحب في قوله: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر .
قال:
وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ قُلْ ضَرْبَانِ = كِلاهُمَا فِي الْفَنِّ مَعْلُومَانِ(1/111)
أقول: ذكر في هذا البيت نوعا واحدا وهو القول بالموجب وبسط الكلام فيه في كتب الأصول وهو ضربان: أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبتها لغيره من غير تعرض لثبوته له وانتفائه عنه نحو يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فالأعز صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم والأذل كناية عن المؤمنين وقد أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة فأثبت الله تعالى تلك الصفة التي علقوا عليها الحكم لغير فريقهم وهو الله ورسوله والمؤمنون ردا عليهم ولم يتعرض لثبوت حكم الإخراج لمن أثبت لهم العزة ولا لنفيه عنهم لأن الغرض إنما هو إبطال دعواهم إثبات الحكم المعلق على تلك الصفة لأنفسهم. الثاني حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه كقوله:
قلت ثقلت إذ أتيت مرارا = قال ثقلت كاهلي بالأيادي
فحمل لفظ ثقلت الذي وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بأن ذكر متعلقه الذي هو الأيادي ومنه: ما إذا قال لك شخص أنا أعلم منك فتقول بطرق الضلال.
قال:
وَالاطِّرَادُ الْعَطْفُ بِالْآبَاءِ = للشَّخْصِ = مُطْلَقاً عَلَى الْوَلاءِ
أقول: ذكر في هذا البيت نوعا واحدا وهو الإطراد وحقيقته أن تأتي بأسماء الممدوح أو غيره وآبائه على ترتيب الولادة من غير تكلف كقوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم = بعببة بن الحارث بن شهاب
وثللث هدمت يقال ثل الله عروشهم أي هدم ملكهم و المثلول المهذوم ومنه قوله عليه الصلاة والسلام«الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم».
قال: (الضَّرْبُ الثَّانِي:اللَّفْظِيُّ)
مِنْهُ الْجِنَاسُ وَهُوَ ذُو تَمَامِ = مَعَ اتِّحَادِ الْحَرْفِ وَالنَّظَامِ
وَمُتَمَاثِلاً دُعِي إِنِ ائْتَلَفْ = نَوْعٌ وَمُسْتَوْفًى إِذَا النَّوْعُ اخْتَلَفْ(1/112)
لَنْ يَعْرِفَ الْوَاحِدُ إِلاَّ وَاحِدَا = فَاخْرُجْ عَنِ الْكَوْنِ تَكُنْ مُشَاهِدَا
أقول: تقدم وجه تقديم النوع المعنوي على اللفظي وأنواع اللفظي كثيرة ذكر المصنف كأصله بعضها منها الجناس وهو تشابه اللفظين في التلفظ فيخرج المترادفان ويدخل المشترك. ثم هو تام وغير تام فالتام أن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها فإن كانا من نوع كاسمين سمى متماثلا نحو ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة. ومنه مثال المصنف وإن كانا من نوعين سمى مستوفى كقوله:
ما مات من كرم الزمان فإنه = يحيا لدى يحيى بن عبد الله
قال:
وَمِنْهُ ذُو التَّرْكِيبِ ذُو تَشَابُهِ = خَطًّا وَمَفْرُوقٌ بِلا تَشَابُهِ
وَإِنْ بِهَيْئَةِ الْحُرُوفِ اخْتَلَفَا = فَهُوَ الَّذِي يَدْعُونَهُ الْمُحَرَّفَا
أقول: من الجناس التام المركب وهو ما كان أحد لفظيه مركبا فإن اتفقا في الخط سمى متشابها كقوله:
إذا ملك لم يكن ذاهبه= فدعه فدولته ذاهبه
وإن لم يتفقا في الخط سمى مفروقا كقوله: كلكم قد أخذ الجام ولا جام لنا ما الذي ضر مدبر الجام لو جاملنا وإن اختلفا في هيئات الحروف فقط سمي محرفا كقوله: جبة البرد جنة البرد والحرف المشدد في حكم المخفف. قال:
وَناقِصٌ مَعَ اخْتِلافٍ فِي الْعَدَدْ = وَشَرْطُ خُلْفِ النَّوْعِ وَاحِدٌ فَقَدْ
وَمَعْ تَقَارُبٍ مُضَارِعاً أُلِفْ = وَمَعْ تَبَاعُدٍ بِلاحِقٍ وُصِفْ
أقول: الجناس الناقص ما اختلف اللفظان فيه في أعداد الحروف إما بحرف واحد في الأول نحو والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق أو في الوسط نحو جدي جهدي أو في الآخر كقوله:(1/113)
يمدون من أيد غواص عواصم*وربما سمى هذا مطرفا وإما بأكثر كقولها: إن البكاء هو الشفاء من الجوى بين الجوائح وربما سمي هذا مذيلا وإن اختلفا في أنواعها فيشترط أن لا يقع بأكثر من حرف ثم الحرفان إن كانا متقاربين سمى مضارعا وهو إما في الأول نحو بيني وبين كمني دليل دامس وطريق طامس أو في الوسط نحو وهم ينهون عنه وينأون عنه أو في الآخر نحو «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وإن لم يكونا متقاربين سمي لاحقا وهو أيضا إما في الأول نحو ويل لكل همزة لمزة أو في الوسط نحو ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون أو في الآخر نحو وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف.
قال:
وَهُوَ جِنَاسُ الْقَلْبِ حَيْثُ يَخْتَلِفْ = تَرْتِيبُهَا لِلْكُلِّ وَالْبَعْضَ أَضِفْ
مُجَنَّحاً يُدْعَى إِذَا تَقَاسَمَا = بَيْتاً فَكَانَ فَاتِحاً وَخَاتِمَا
وَمَعْ تَوَالِي الطَّرَفَيْنِ عُرِفَا = مُزْدَوِجاً كُلُّ جِنَاسٍ أُلِفَا"
تَنَاسُبُ اللَّفْظَيْنِ بِاشْتِقَاقِ = وَشِبْهِهِ فَذَاكَ ذُو الْتِحَاقِ
أقول: إذا اختلف اللفظان في ترتيب الحروف سمي جناس القلب نحو: حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه ، ويسمى قلب كل ونحو: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، ويسمى قلب بعض وإذا وقع أحدهما في أول البيت والآخر في آخره سمي مقلوبا مجنحا نحو:
لاح أنوار الهدى = من كفه في كل حال
وإذا ولى أحد المتجانسين الآخر مزدوجا نحو جئتك من سبأ بنبأ يقين ويلحق بالجناس شيئان: أحدهما أن يجمع اللفظين اشتقاق نحو فأقم وجهك للدين القيم. والثاني أن تجمعهما المشابهة وهو ما يشبه الاشتقاق نحو إني لعملكم من القالين واشار إلى هذا بقوله تناسب البيت. قال:
وَيَرِدُ التَّجْنِيسُ بِالإِشَارَةِ = مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْعِبَارَةِ
وَمِنْهُ رَدُّ عَجُزِ اللَّفْظِ عَلَى = صَدْرٍ فَفِي نَثْرٍ بِفَقْرَةٍ جَلا(1/114)
مُكْتَنِفاً وَالنَّظْمُ الاوَّلُ أوَّلا = آخِرَ مِصْرَاعٍ فَمَا قَبْلُ تَلا
مُكَرَّراً مُجَانِساً وَمَا الْتَحَقْ = يَأْتِي كَتَخْشَ النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقْ
أقول: من أنواع الجناس جناس الإشارة بأن يكون أحد اللفظين غير ما صرح به كقولك في رجل يسمى اسدا فر الأسد من اسمه ومن أنواع الجناس اللفظي رد العجز عن الصدر ففي النثر أن يجعل أحد اللفظين في أول الفقرة والآخر في آخرها وهذا معنى قوله مكتنفا نحو وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وفي النظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو حشوه أوآخره أو صدر المصراع الثاني وكله داخل تحت قوله قبل
كقوله:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه = وليس إلى داعي الندى بسريع
وقوله مكررا البيت يعني أن رد العجز على الصدر يأتي تارة مكررا وتارة مجانسا وتارة ملحقا وصور ذلك في الأصل.
قال: (فَصْلٌ فِي السَّجْعِ)
وَالسَّجْعُ فِي فَوَاصِلٍ فِي النَّثْرِ = مُشْبِهَةٍ قَافِيَةً فِي الشِّعْرِ
ضُرُوبُهُ ثَلاثَةٌ فِي الْفَنِّ = مُطَرَّفٌ مَعَ اخْتِلافِ الْوَزْنِ
مُرَصَّعٌ إِنْ كَانَ مَا فِي الثَّانِيَهْ = أَوْ جُلُّهُ عَلَى وِفَاقِ الْمَاضِيَهْ
وَمَا سِوَاهُ الْمُتَوَازِي فَادْرِي = كَسُرُرٍ مَرْفُوعَةٍ فِي الذِّكْرِ(1/115)
أقول: من الجناس اللفظي السجع وهو توافق الفاعلتين من النثر على حرف واحد وهذا معنى قول السكاكي كما هو في النثر كالقافية في الشعر وهو ثلاثة أضرب: الأول المطرف إن كانا مختلفين في الوزن نحو ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا والثاني المرصع وهو ما استوت فواصله في الوزن والتقفية وكان كل ما في إحدى الفقرتين أو جله من الألفاظ مثل ما يقابله من الأخرى كقول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه الثالث المتوازي وهو أن تستوي الفاصلتان في اللفظ ولم توافق سائر ألفاظ إحداهما ولا جل ما يقابلها من أختها في الوزن والتقفية نحو فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة. قال:
أَبْلَغُ ذَاكَ مُسْتَوٍ فَمَا يُرَى = فِيهِ الْقَرِينَتَيْنِ الاُخْرَى أَكْثَرَا
وَالْعَكْسُ إِنْ يَكْثُرَ فَلَيْسَ يَحْسُنُ = وَمُطْلَقاً إِعْجَازُهَا تُسَكَّنُ
وَجَعْلُ سَجْعِ كُلِّ شَطْرٍ غَيْرَمَا = فِي الآخَرِ التَّشْطِيرُ عِنْدَ الْعُلَمَا
أقول: القرينة طائفة من الكلام مشتملة على الفاصلة سميت. بذلك لأنها مقارنة لصاحبتها وأحسن السجع ما تساوت فيه فقرته الثانية نحو في سدر مخضود وطلح منضود ثم ما طالت فقرته الثانية نحو والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى والثالثة نحو خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ولا يحسن أن يؤتى بعد فقرة بفقرة أخرى قصر منها كثيرا والأسجاع مبنية على سكون الأعجاز كقوله: ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت، قيل السجع غير مختص بالنثر بل يكون في النظم كقوله:
تجلى به رشدي = وأثرت به يدي
وفاض به ثمدي = وأروي به زندي
ومنه على هذا القول ما ذكر المصنف وهو المسمى بالتشطير وهو جعل كل من شطري البيت سجعة مخالفة لأختها كقوله:
تدبير معتصم بالله منتقم = لله مرتقب في الله مرتقب
فإن سجع الشطر الأول مبني على الميم والثاني على الباء.
قال: (فَصْلٌ فِي الْمُوَازَنَةِ)(1/116)
ثُمَّ الْمُوَازَنَةُ وَهْيَ التَّسْوِيَهْ = لِفَاصِلٍ فِي الْوَزْنِ لا فِي التَّقْفِيَهْ
وَهْيَ الْمُمَاثَلَةُ حَيْثُ يَتَّفِقْ = فِي الْوَزْنِ لَفْظُ فَقْرَتَيْهِ فَاسْتَفِقْ
وَالْقَلْبُ وَالتَّشْرِيعُ وَالْتِزَامُ مَا = = قَبْلَ الرَّوِيِّ ذِكْرُهُ لَنْ يَلْزَمَا
أقول:
من أنواع اللفظى الموازنة وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التقفية نحو ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن خص باسم المماثلة نحو وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وقوله:
مها الوحش إلا أن هانا أو أنس = قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
ومنها القلب وهو قلب حروف الكلام على ترتيب بحيث لو افتتح من آخره إلى أوله لخرج النظم الأول بعينه نحو كل في فلك وربك فكبر فإنه يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله.
ومنها التشريع وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى عند الوقوف على كلا منهما كقوله:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها = شرك الردى وقرارة الأكدار
ومنها لزوم ما لا يلزم وهو أن يجيئ قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم للسجع نحو فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر قال في الأصل وأصل الحسن في ذلك كله أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس.
قال: (السَّرِقَاتُ)
وَأَخْذُ شَاعِرٍ كَلاماً سَبَقَهْ = هُوَ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِالسَّرِقَهْ
وَكُلُّ مَا قُرِّرَ فِي الأَلْبَابِ = أَوْ عَادَةٍ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الْبَابِ(1/117)
أقول: السرقة أن يأخذ الشاعر كلام شاعر تقدم عليه واتفاق القائلين إن كان في الغرض على العموم كالوصف بالشجاعة والسخاء فلا يدعي سرقة ومثله وجه الدلالة المشترك في معرفته لتقرر ذلك في العقول والعادات وإن لم يشترك في معرفة وجه الدلالة جاز أن يدعي فيه السبق وللزيادة بأن يحكم بين القائلين فيه بالتفاضل بأن يقال زاد أحدهما على الآخر أو نقص عنه وهذا قسمان كما سيأتي آنفا.. قال:
وَالسَّرِقَاتُ عَنْدَهُمْ قِسْمَانِ = خَفِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَالثَّانِي
تَضَمُّنُ الْمَعْنَى جَمِيعاً مُسْجَلا = أَرْدَؤُهُ انْتِحَالُ مَا قَدْ نُقِلا
بِحَالِهِ وَأَلْحَقُوا الْمُرَادِفَا = بِهِ وَيُدْعَى مَا أَتَى مُخَالِفَا
لِنَظْمِهِ إِغَارَةً وَحُمِدَا = حَيْثُ مِنَ السَّابِقِ كَانَ أَجْوَدَا
وَأَخْذُهُ الْمَعْنَى مُجَرَّداً دُعِي = سَلْخاً وَإِلْمَاماً وَتَقْسِيماً فَعِي
أقول: السرقة قسمان خفية وجلية أي ظاهرة فالأولى تأتي والثانية أن يؤخذ المعنى كله إما بلفظه كله أو بعضه أو وحده وهذا معنى قوله مسجلا فإن أخذ اللفظ كله من غير تغيير سمي انتحالا ونسخا وهو مذموم وهذا معنى قوله: أردؤه انتحال ما قد نقلا بحاله كما حكى عن عبد الله ابن الزبير أنه فعل ذلك بقول معن بن أوس:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته = على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل فإنهما من قصيدة لمعن أولها: لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدوا المنية أول وفي معناه أن يبدل بالكلمات أو بعضها ما يرادفها وهذا معنى قوله: وألحقوا المرادفا به وإن كان مع تغيير لناظمه أو أخذ بعض اللفظ سمي إغارة ومسخا فإن كان الثاني أبلغ لإختصاصه بفضيلة فممدوح كقول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته = وفاز بالطيبات الفانك اللهج(1/118)
وقول سلم: من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور وإن كان دونه فمذموم كقول أبي تمام: هيهات لا يأتي الزمان بمثله إن الزمان بمثله لبخيل وقول أبي الطيب: أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ولقد يكون به الزمان بخيلا وإن كان مثله فأبعد من الذم والفضل للأول كقول أبي تمام:
لو حار مرتاد المنية لم يجد = إلا الفراق على النفوس دليلا
وقول أبي الطيب:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت = لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وإن أخذ المعنى وحده سمي إلماما وسلخا وقوله وتقسيما فعي أي اضبط تقسيما تقدم آنفا وهو ثلاثة أقسام أيضا وأمثلتها بالأصل.
قال: (السَّرِقَةُ الْخَفِيَّةُ)
وَمَا سِوَى الظَّاهِرِ أَنْ يُغَيَّرَا = مَعْنًى بِوَجْهٍ مَا وَمَحْمُوداً يُرَى
لِنَقْلٍ أَوْ خَلْطٍ شُمُولِ الثَّانِي = وَقَلْبٍ اوْ تَشَابُهِ الْمَعَانِي
أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ الْخَفَاءِ = تَفَاضَلَتْ فِي الْحُسْنِ وَالثَّنَاءِ
أقول: هذا هو القسم الثاني وهو السرقة الخفية وهو أن يغير المعنى بوجه لطيف بحيث لا يظهر أنه مسروق إلا بعد تأمل وهو محمود وتغيير المعنى من وجوه: منها نقله وهو أن ينقل المعنى إلى محل آخر كقول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم = محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقول أبي الطيب: يبس النجيع عليه وهو مجرد من غمده فكأنما هو مغمد ومنها أن يضاف إلى المعنى ما يحسنه وهو المراد بالخلط كقول الأفوه: وترى الطير على آثارنا رأي عين ثقة أن ستمار
وقول أبي تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى =بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت على الرايات حتى كأنها= من الجيش إلا أنها لم تقاتل
ومنها أن يكون معنى الثاني أشمل كقول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم = وجدت الناس كلهم غضابا
وقول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر =أن يجمع العالم في واحد
ومنها القلب وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة = حبا لذكرك فليلمني اللوم
وقول أبي الطيب:(1/119)
أأحبه وأحب فيه ملامة = إن الملامة فيه من أعدائه
ومنها أن يتشابه المعنيان كقول جرير:
فلا يمنعنك من أرب لحاهم سواء ذو العمائم والخمار
وقول أبي الطيب:
ومن في كفه منهم قناة = كمن في كفه منهم خضاب
ثم إن تفاضل السرقة في الحسن والقبول بحسب مراتب الخفاء فكلما كانت أشد خفاء كانت أقرب للقبول ولابد من العلم بأن الثاني أخذ من الأول إما بإخباره عن نفسه أو بغير ذلك لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخاطر أي مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الأخذ فإذا لم يعلم أن الثاني أخذ من الأول قيل قال فلان كذا وسبقه إليه فلان فقال كذا ليغتنم بذلك فضيلة الصدق.
قال: (الاقْتِبَاسُ)
وَالاقْتِبَاسُ أَنْ يُضَمَّنَ الْكَلامْ = قُرْآناً أَوْ حَدِيثَ سَيِّدِ الأَنَامْ
وَالاقْتِبَاسُ عِنْدَهُمْ ضَرْبَانِ = مُحَوَّلٌ وَثَابِتُ الْمَعَانِي
وَجَائِزٌ لِوَزْنٍ أَوْ سِوَاهُ = تَغْيِيرُ نَدْرِ اللَّفْظِ لا مَعْنَاهُ
أقول:
الاقتباس في الإصطلاح تضمين الكلام نثرا أو نظما شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه كقول الحريري: فلم يكن كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب وقول الآخر:
إن كنت أزمعت على هجرنا = من غير ما جرم فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا = فحسبنا الله ونعم الوكيل
وقول الحريري:
قلنا شاهت الوجوه = وقبح اللكع ومن يرجوه
وقول ابن عباد:قال لي إن رقييي سيء الخلق فداره قلت دعني وجهك الجنة حفت بالمكاره وهوضربان ما لم ينتقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي كما تقدم وهو المراد بثابت المعاني وخلافه وهو المراد بالمحول أي ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي كقوله: لئن أخطأت في مديحك ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي بواد غير ذي زرع ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره وهو مراده بالنزر كقوله:
قد كان ما خفت أن يكونا = إنا إلى الله راجعون
وقوله لا معناه أي لا يجوز تغيير معنى اللفظ.
قال: (التَّضْمِينُ وَالْحَلُّ وَالْعَقْدُ)(1/120)
وَالأَخْذُ مِنْ شِعْرٍ بِعَزْوِ مَا خَفِي = تَضْمِينُهُمْ وَمَا عَلَى الأَصْلِ يَفِي
لِنُكْتَةٍ جَلِيلَةٍ وَاغْتُفِرَا = يَسِيرُ تَغْيِيرٍ وَمَا مِنْهُ يُرَى
بَيْتاً فَأَعْلَى بِاسْتِعَانَةٍ عُرِفْ = وَشَطْراً اوْ أَدْنَى بِإِيدَاعٍ أُلِفْ
أقول: التضمين اصطلاحا أن يضمن الشعر شيئا من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء كقوله:
على أني سأنشد يوم بيعي = أضاعوني وأي فتى أضاعوا
وأحسنه ما زاد على الأول لنكتة كالتورية والتشبيه في قوله:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها = تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي = مجر عوالينا ومجرى السوابق
واغتفر التغيير اليسير ويسمى تضمين البيت فأكثر استعانة وتضمين المصراع فما دونه إبداعا ورفوا. قال:
وَالْعَقْدُ نَظْمُ النَّثْرِ لا بِالاقْتِبَاسْ = وَالْحَلُّ نَثْرُ النَّظْمِ فَاعْرِفِ الْقِيَاسْ
وَاشْتَرَطُوا الشُّهْرَةَ فِي الْكَلامِ = وَالْمَنْعُ أَصْلُ مَذْهَبِ الإِمَامِ
أقول: العقد هو نظم النثر لا على طريق الاقتباس كقوله: ما بال من أوله بطفة وجيفة آخره يفجر عقد قول علي رضي الله عنه وما لابن آدم والفخر وإنما أوله نطفة وآخره جيفة وأما الحل فهو أن ينثر النظم كقول بعض المغاربة فإنه لما قبحت فعلاته وجنظلت نخلاته لم يزل سوء الظن يقتاده ويصدق توهمه الذي يعتاده جل قول أبي الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه = وصدق ما يعتاده من توهم
ويشترط في الحل والعقد والتضمين أن يكون الكلام مشهورا لئلا يؤدي إلى تهمة فاعله بالكذب، والمنع مطلقا مشهورا كان أو غيره مشهور مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.
قال: (التَّلْمِيحُ)
إِشَارَةٌ لِقِصَّةٍ شِعْرٍ مَثَلْ = مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ فَتَلْمِيحٌ كَمَلْ
أقول: التلميح الإشارة إلى قصة أو شعر أو مثل من غير ذكره كقوله:
فوالله ما أدري أأحلام نائم = ألمت بنا أم كان في الركب يوشع(1/121)
إشارة إلى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه للشمس وكقوله:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي = أرق وأحفى منك في ساعة الكرب
إشارة إلى البيت المشهور المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالناروكقولك لشخص تعجل السيادة والتصدر قبل أوانهما لا تعجل تحرم تشير إلى قولهم من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
قال: (تَذْنِيبٌ فِي أَلْقَابٍ مِنَ الْفَنِّ)
مِنْ ذَلِكَ التَّوْشِيعُ وَالتَّرْدِيدُ = تَرْتِيبٌ اخْتِرَاعٌ أَوْ تَعْدِيدُ
كَالتَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونْ = السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونْ
أقول: التذنيب جعل الشيء ذنابة للشيء وتكميلا له والألقاب الأسماء وما ذكره هنا منه ما يرجع للضرب المعنوي من البديع ومنه ما يرجع للفظي، من ذلك التوشيع وهو ذكر شيء من عجز الكلام مفسرا بمتعاطفين كقوله عليه الصلاة والسلام يشيب ابن آدم ويشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل. ومنه الترديد وهو تعليق الكلمة في الفقرة أو المصراع بمعنيين نحو حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته كقوله: صهباء لا تنزل الأحزان ساحتها إن مسها حجر مسته سراء ومنه الترتيب وهو ترتيب شيء على آخر لنكتة نحو وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح. ومنه الاختراع وهو الإتيان بتركيب لم يسبق إليه مثل ولما سقط في أيديهم لم يسمع قبل نزوله في القرآن. ومنه التعديد وهو سوق المفردات دون عطف كالتائبون العابدون الحامدون السائحون البيت وكحديث الأسماء الحسنى
قال:
تَطْرِيزٌ اوْ تَدْبِيجٌ اسْتِشْهَادُ = إِيضَاحٌ ائْتِلافٌ اسْتِطْرَادُ
اقول: التطريز اشتمال الصدر على جزءين مخبر عنه ومتعلقه والعجز على الخبر مقيدا بمثله كقوله التسبيح في الصلاة نور على نور والتدبيج أن يكون للكلام في معرض مدح أو غيره لونان فصاعدا لقصد الكناية أو التورية كقوله:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى = لها الليل إلا وهي من سندس خضر(1/122)
أراد الثياب الملطخة بالدم فما أتى عليها الليل إلا وقد صارت من ثياب الجنة وكنى بالأول عن القتل وبالثاني عن دخول الجنة والاستشهاد الاستدلال كقوله:
كان بي ركن وثيق = وقعت فيه الزلازل
زعزعته نوب الدهـ = ـر وكرات النوازل
ما بقاء الحجر الصلـ = ـد على وقع المعاول
الشاهد في البيت الثالث والإيضاح أن يكون في الكلام خفاء دلالة فيؤتى بكلام يبين المراد ويوضحه كقوله:
يذكر فيك الخير والشر كله = وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متنزها = وألقاك في محمودها ولك الفضل
فالثاني بين المراد بالأول.
والائتلاف الجمع بين متناسبين لفظا أو معنى نحو الشمس والقمر بحسبان. والإستطراد أن يكون المتكلم في فن من الفنون ثم يظهر له من آخر مناسبة فيورده ثم يرجع إلى الأول ويقطع الاستطراد كقوله تعالى وهل أتاك حديث موسى إلى قوله ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال: إَحَالَةٌ تَلْوِيحٌ اوْ تَخْيِيلُ = وَفُرْصَةٌ تَسْمِيطٌ اوْ تَعْلِيلُ(1/123)
أقول: الإحالة مصدر أحلته على كذا وهي قسمان خفية وجلية كقوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب إحالة على قوله وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا الآية وكقوله وآتينا داود زبورا والإحالة في الآية الأولى ظاهرة وفي الثانية خفية لما قيل إنها إحالة على قوله ولقد كتبنا في الزبور الآية لتضمنه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم. والتلويح الكناية البعيدة التي كثرت فيها الوسائط بين اللازم والملزوم ككثير الرماد. والتخييل ويقال له الإيهام وهو أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد وهو أقسام تسعة مذكورة في المطولات من أرادها فليرجع إليها. والفرصة استدراجك المخاطب لتأخذه كقولك لمنكر المعاد هل كنت عدما فيقول نعم فتقول له هل أنت من ماء مهين فيقول نعم فتقول الذي سواك من ذلك قادر على إعادتك. والتسميط كون بعض أجزاء البيت سجعا وبعضها خلاف الروي بأن يجعل البيت أربع سجعات ثلاث على روي غير روي البيت كقول بعضهم في بديعته:
في رأسه غسق = في وجهه فلق
في ثغره نسق = تسميط دارهم.
والتعليل هو أن يريد المتكلم ذكر حكم فيقدم عليه ذكر علة وقوعه كقول الصفى الحلي في بديعته:
لهم أسام سوام غير خافية من أجلها صار يدعي الاسم بالعلم قال:
تَحْلِيَةٌ أَوْ نَفْلٌ اوْ تَخَتُّمُ = تَجْرِيدٌ اسْتِقْلالٌ اوْ تَهَكُّمُ
أقول: التحلية عقد نثر القرآن أو الحديث بزيادة على ألفاظهما فهي نوع من العقد كقوله: الحمد لله منا باعث الرسل أهدي بأحمد منا أحمد السبل عقد قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين الآية وقول الآخر:
ما بال من أوله نطفة وآخره جيفة يفخر عقد قوله صلى الله عليه وسلم وما لابن آدم والفخر وإنما أوله نطفة وآخره جيفة والنقل قريب من التحلية لأنه عقد لا يكون فيه شيء زائد عن لفظهما بل يكون كله في ترجمة أخرى والتختم عقد قرآن وحديث اشتمل على شيء من لفظهما كقوله:
وبدت لنا البغضاء من أفواههم = وصدورهم فيها أذى وحقود(1/124)
والتجريد نفي الملزوم لانتفاء اللازم كقوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا أي لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف. والاستقلال كناية عن جملة في معناها جمل كجمل الآي كقوله:
وصالكم سد وحبكم قلى = ونصحكم غش وصلحكم حرب
والتهكم إبراز المقصود في صورة ضد استهزاء نحو ذق إنك أنت العزيز الكريم ومقتضى الظاهر إنك أنت الذليل المهان. قال:
تَعْرِيضٌ اوْ إِلْغَازٌ ارْتِقَاءُ = تَنْزِيلٌ اوْ تَأْنِيسٌ اوْ إِيمَاءُ
أقول: التعريض أن يميل باللفظ إلى جانب يفهم منه المقصود لا من جهة الوضع الحقيقي ولا المجازي بل من عرض اللفظ أي جانبه كقول السائل لمن يتوقع منه صدقة إني محتاج. والألغاز تعمية المراد أي تغطيته. والارتقاء من الأدنى إلى الأعلى في الوجه المراد نحو لا أبالي بالوزير ولا بالسلطان. والتنزيل عكس الترقي نحو هذا الأمر لا يعجز السلطان ولا الوزير والتأنيس تقديم ما يؤنس المخاطب قبل إخباره بمكروه. والإيماء عند السكاكي الكناية القليلة الوسائط دون خفاء في الملزوم وفرق بين التلويح والرمز والإيماء، بأن التلويح ما كثرت وسائطه، والرمز ما قلت وسائطه مع خفاء في الملزوم كعريض القفاء والإيماء ما قلت وسائطه دون خفاء كطويل النجاد. قال:
حُسْنُ الْبَيَانِ وَصْفٌ اوْ مُرَاجَعَهْ = حُسْنُ تَخَلُّصٍ بِلا مُنَازَعَهْ
أقول: حسن البيان كشف المعنى وإيصاله للنفس بسهولة، والرصف وضع كل كلمة في موضع يناسبها معنى ولفظا ووجها ولا يتم ذلك على أكمل حال إلا في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمراجعة حكاية التقاول كقوله تعالى قال فرعون وما رب العالمين إلى قوله من الصادقين وحسن التخلص ملاءمة الخروج من فن من الكلام إلى فن آخر ويسمى براعة المخلص.
قال: (فَصْلٌ فِيمَا لا يُعَدُّ كَذِباً)
وَلَيْسَ فِي الإِيهَامِ وَالتَّهَكُّمِ = وَلا التَّغَالِي بِسِوَى الْمُحَرَّمِ(1/125)
مِنْ كَذِبٍ وَفِي الْمِزَاحِ قَدْ لَزِبْ = بِحَيْثُ لا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْكَذِبْ
أقول: ليس في الإيهام وهو التورية كذب لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يمازح بها كقوله للعجوز التي طلبت منه الدعاء بدخول الجنة إن الجنة لا تدخلها عجوز ومثله التهكم لوروده في الكتاب العزيز وكذلك المبالغة وهو المراد بالتغالي ما لم تكن محرمة أو كفرا كمن يصف أميرا بأنه قهر أهل السماء أو عارض القدرة بقوته وأما المزاح بالكذب على غير تأويل من تورية أو نحوها فحرام لأن اللعب لا يبيح محرما وهذه المصيبة عمت بها البلوى في زماننا إذ لا يكاد مجلس يخلو عن المزاح بالكذب وربما كفر الممازح في بعض الأحيان وأما المزاح العاري عن الكذب فهو مباح لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يمازح بعض الأحيان ولا يقول إلا حقا زاده الله شرفا وكرما ولزب أي لزم ارتكاب ما ذكر من التورية ونحوها في المزاح لمن أراده لتكون له مندوحة عن الكذب.
قال:
(خَاتِمَةٌ)
وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْكَلامِ = تَأَنُّقٌ فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ
بِمَطْلَعٍ حَسَنٍ وَحُسْنِ الْفَالِ = وَسَبْكٍ أَوْ بَرَاعَةِ اسْتِهْلالِ
وَالْحُسْنُ فِي تَخَلُّصٍ أَو اقْتِضَابْ = وَفِي الَّذِي يَدْعُونَهُ فَصْلَ الْخِطَابْ
وَمِنْ سِمَاتِ الْحُسْنِ فِي الْخِتَامِ = إِرْدَافُهُ بِمُشْعِرِ التَّمَامِ
أقول:ينبغي للمتكلم أن يتأنق أي يتتبع الأنق والأحسن في أول كلامه وآخره فالأول موجب لإقبال نفس السامع. والثاني يريدها إقبالا على ما مضى وجابر لما قد يقع قبله من التقصير في التعبير. فالأول يكون بحسن الابتداء لأنه أول ما يقرع السمع وأحسنه ما يسمى بالمطلع ويسمى بالإلماع ويسمى براعة الاستهلال وهو أن يقدم في أول كلامه إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله كقوله في التهنئة:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا = وكوكب المجد في أفق العلا صعدا(1/126)
ومنه مطلع سورة النور ومن محاسن الابتداء صنعة الانتقال من المطلع إلى المقصود وهو ثلاثة أقسام: أحدها التخلص وهو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة بينهما. الثاني الاقتضاب وهو الانتقال إلى ما لا يلائم. الثالث فصل الخطاب وهو متوسط بينهما وهو الانتقال إلى ما يقرب من التخلص بأن يشوبه شيء من الملاءمة وعده بعضهم قسما من الاقتضاب ومنه قولهم بعد حمد الله والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أما بعد فهذا الخ ومن حسن الكلام ختمه بما يشعر بتمامه بحيث لا يكون بعده للنفس تشوق كقوله:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله
وهذا دعاء للبرية شامل وجميع سور القرآن على هذا الأسلوب يعلم ذلك بأدنى تدبر. قال:
هَذَا تَمَامُ الجُمْلَةِ الْمَقْصُودَهْ = مِنْ صِفَةِ الْبَلاغَةِ الْمَحْمُودَهْ
ثُمَّ صَلاةُ اللَّهِ طُولَ الأَمَدِ = عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيَارِ = مَا غَرَّدَ الْمُشْتَاقُ بِالأَسْحَارِ
وَخَرَّ سَاجِداً إِلَى الأَذْقَانِ = يَبْغِي وَسِيلَةً إِلَى الرَّحْمَنِ
تَمَّ بِشَهْرِ الْحِجَّةِ الْمَيْمُونِ = تَتْمِيمُ نِصْفِ عَاشِرِ القُرُونِ(1/127)
أقول: المشار إليه جميع ما تقدم سوى الخطبة إذ لبست مقصوده بالذات والبلاغة عبارة عن فني المعاني والبيان فإطلاقها على البديع تغليب وإنما كانت محمودة لأن بها يطلع على أسرار كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وتقدم معنى الصلاة والأمد الوقت المستقبل والمصطفى المختار والأخيار جمع خير بالتشديد وغرد من التغريد وهو التطريب في الصوت والغناء والمشتاق أي إلى الحضرة العلية بدليل السياق والميمون من اليمن وهو البركة وكان ميمونا لأنه من الأشهر الحرم والقرون جمع قرن وهو مائة سنة وتمام نصفه خمسون أخبر أن نظمه تم سنة خمسين وتسعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. قال أسير مساويه أحمد الدمنهوري هذا آخر ما أردنا كتابته تحريرا في العاشر من الخامس من الرابع من الثالث من الثاني عشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام نسأله سبحانه وتعالى أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأن يدخلنا دار كرامته ومحبينا من غير محنة بجاه حبيبه لديه تفضلا منه لا (...) عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.(1/128)