الكلام على حديث
إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ
تخريج
شهاب الدين أحمد بن حجر
العسقلاني
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، سُئلت عن حديث ( أنَّ رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ اللهِ إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ) ، ما حال هذا الحديث ، ومَنْ خرّجه ، وما سياق بقية متنه ، وما معناه ، ومن تكلم عليه ، وهل عُرِف اسم الرجل والمرأة ، وهل فيه أنه لمَّا أمره بمفارقتها قال لا أستطيع ، وما معنى عدم الاستطاعة ، وأنْ يكون الجواب مبسوطا ، فأجبت وبالله التوفيق :
أما حال هذا الحديث فهو حسن صحيح ، ولم يُصِبْ مَنْ قال إنه موضوع ، على ما سأبينه .
وأمَّا مَنْ خرَّجه ؟ فأخرجه أبو داود ، والنسائي في كتابيهما السنن ، والبزار في مسنده من حديث ابن عباس ، وأخرجه النسائي من وجه آخر عنه ، وأخرجه الخلاّل في العلل ، والطبراني في معجمه ، والبيهقي في السنن من حديث جابر .
وأمَّا سياق بقية متنه ففي رواية أبي داود : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ امرأتي لا تمنعُ يدَ لامسٍ ، قال : غرِّبها ، قال : أخاف أن تَتَّبِعُها نفسي ، قال : فاستمتعْ بها .
__________
(1) البسملة غير موجودة في الأصل المخطوط ، والورقة الأولى أيضا لم يُكتب عليها عنوان الرسالة ، وما أثبتناه من فهرس مؤلفات الحافظ ابن حجر الذي أثبتناه عند تحقيقنا لكتابه الخصال المكفرة للذنوب المتقدمةوالمتأخرة(1/1)
وفي رواية النسائي مثله ، وفي رواية أخرى للنسائي : إنّ تحتي امرأة جميلة ، لا تردُّ يدَ لامسٍ ، قال : طلِّقها ، قال : إنِّي لا أصبر عنها ، قال : فأمسكْها ، وفي أوّله : إنّ عندي امرأة مِن أحبِّ الناس إليّ ، وإنها لا تمنع يد لامس ، قال : طلِّقها ، قال : لا أصبر عنها ، قال : استمتعْ بها ، وفي رواية البيهقي : أنّ رجلاً قال : يا رسول الله إنّ لي امرأة ، وهي لا تدفع يد لامس ، قال : فارقها ، قال : إنِّي أحبُّها ، قال : فاستمتعْ بها .
وأمَّا معناه ، ومَنْ تكلّم عليه ، فقد وقع ذلك في كلام أبي عبيد القاسم ابن سلام ، وأبو عبد الله ابن الأعرابي ، والأصمعي ، والإمام أحمد بن حنبل ، والنسائي ، وأبو سلمان الخطابي ، والقاضي أبو الطيّب الطبري ، وآخرون ممن بعدهم ، وحاصل ما حملوه عليه شيئان :
أحدهما أنّ معنى قوله : لا تمنعُ يد لامس ، كناية عن الفجور ، وهذا قول أبي عُبيد ، وابن الأعرابي ، وبه جزم الخطابي في معالم السنن ، وشرح الحديث ، فقال : معناه الرِّيبة، وأنها مُطاوِعة لمن أرادها ، لا تَردُّ يده ، وقوله : غرِّبها ( بالغين المعجمة ) فعل أمرٍ من التغريب ، معناه الطلاق ، وأصل الغرب في كلام العرب البعد . قلتُ : وقع في رواية البزار في مُسنده بلفظ طلِّقها ، وهو شاهد لتفسير الخطابي ، وكذا الرواية في حديث / جابرفارقها ، هذا معناه 2ب قال الخطابي : وفي الحديث دليل على جواز نِكاح الفاجرة ، وإنْ كان الاختيار غير ذلك ، قلتُ : واحتج به الرافعي في الشرح الكبير لذلك (1) ،
__________
(1) جاء في التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 4/417 ـ 418 / المكتبة الشاملة ، ما نصّه :
1773 - ( 4 ) - حَدِيث : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، قَالَ : طَلِّقْهَا قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا ، قَالَ : أَمْسِكْهَا } .
الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا ، وَأَسْنَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ ، وَاخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ ، قَالَ النَّسَائِيُّ الْمُرْسَلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ .
وَقَالَ فِي الْمَوْصُولِ : إنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ، لَكِنْ رَوَاهُ هُوَ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ ، وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ ، وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ الصِّحَّةَ ، وَلَكِنْ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ .
وَتَمَسَّكَ بِهَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، مَعَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : سَأَلْت أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ مَعْقِلٌ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، فَقَالَ : نَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ ، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ فَسَمَّى الرَّجُلَ هِشَامًا مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْخَلَّالُ وَالطَّبَرَانِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَ : عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ : لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ .
( تَنْبِيهٌ ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، فَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْفُجُورُ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ يَطْلُبُ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَالْخَلَّالُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، وَالْخَطَّابِيُّ وَالْغَزَالِيُّ ، وَالنَّوَوِيُّ ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ الرَّافِعِيِّ بِهِ هُنَا .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ التَّبْذِيرُ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا ، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالْأَصْمَعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ ، وَنَقَلَهُ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ .
وَقَالَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْمُتَأَخِّرِينَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ : أَمْسِكْهَا : مَعْنَاهُ أَمْسِكْهَا عَنْ الزِّنَا أَوْ عَنْ التَّبْذِيرِ ، إمَّا بِمُرَاقَبَتِهَا ، أَوْ بِالِاحْتِفَاظِ عَلَى الْمَالِ أَوْ بِكَثْرَةِ جِمَاعِهَا ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْأَوَّلَ بِأَنَّ السَّخَاءَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِقَوْلِهِ : " طَلِّقْهَا " وَلِأَنَّ التَّبْذِيرَ إنْ كَانَ مِنْ مَالِهَا فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ حِفْظُهُ ، وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِطَلَاقِهَا ، قِيلَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ يَمُدُّ يَدَهُ لِيَتَلَذَّذَ بِلَمْسِهَا ، وَلَوْ كَانَ كَنَّى بِهِ عَنْ الْجِمَاعِ لَعُدَّ قَاذِفًا ، أَوْ أَنَّ زَوْجَهَا فَهِمَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ أَرَادَ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ ، لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهَا .(1/2)
وكذلك القاضي أبو الطيّب ، كما سيأتي سياق كلامه ، قال الخطابي : ومعنى قوله : استمتع بها أي لا تمسكها إلاّ بقدر تقضِّي متعة النفس منها ، ومن وطره ، والاستمتاع بالشيء الانتفاع به إلى مدّة ، ومنه نكاح المتعة ، ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ] (1) أي متعة إلى حين ، ثم تنقطع ، انتهى كلامه .
وقد ترجم أبو داود لهذا الحديث نكاح الأبكار ، فكأنه يُشير إلى نكاح البكر أولى مِن نكاح الثيِّب ؛ لأنّ الرِّيبة تقع من الثيب أغلب مما تقع من البكر ، وترجم له النسائي نكاح الرائبة .
والحمل الثاني أنّ المراد أنها مُبذِّرة ، قال أبو بكر الخلاّل : قيل للإمام أحمد بن حنبل إنَّ أبا عُبيد يقول : هو من الفجور ، فقال : ليس هو عندنا إلاّ أنها تُعطِي مِن ماله ، وذكر عبد الحق في الأحكام أنّ أبا الحسن بن صخر روى في فوائده عن الأصمعي أنَّه كناية عن بذلها الطعام ، وقال النسائي عقب تخريجه : قيل كانت سخيَّة ، تُعطي ، وقال القاضي أبو الطيب الطبري : القول الأول أولى ؛ لأنه لو كان المراد به السخاء لقيل : لا ترد يد مُلتمس ؛ لأنّه لا يُعبَّر عن الطلب باللمس ، وإنما يُعبَّر عنه بالالتماس ، يقال : لمسَ الرجل إذا مسّه ، والتمس منه إذا طلب منه .
ثانيهما : أنّ السخاء مندوب إليه ، فلا تكون المرأة مُعاقَبةً لأجله بالفراق ، فإنّ الذي تُعطيه إمَّا أنْ يكون من مالها ، أو من مال الزوج ، فإنْ كان من مالها فلها التصرُّف فيه كيف اختارت ، وإنْ كان من مال الزوج فعليه صونُه وحفظه ، وعدم تمكينها منه ، فلم يتعين الأمر بتطليقها .
وقال الحافظ شمس الدين الذهبي في مختصر السنن الكبير : كأنّ معناه أنها تتلذذ بمن يلمسها ، فلا تردُّ يده ، وأمَّا الفاحشة العظمى فلو أرادها الرجل لكان بذلك قاذفا .
__________
(1) غافر 39(1/3)
وقال الشيخ عماد الدين ابن كثير : حمل اللمس على الزنا بعيد جداً ، والأقرب حمله على أنَّ الزوج فهِم منها أنها لا تردّ مَنْ أراد منها السوء ، لا أنه تحقق وقوع ذلك منها ، بل ظهر له ذلك بقرائن ، فأرشده الشارع إلى مفارقتها احتياطا ، فلمَّا أعلمه أنّه لا يقدِر على فراقها ؛ لمحبته لها ، وأنه لا يصبر على ذلك ، فرخّص له في إبقائها ؛ لأنّ محبته لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها مُتوهَّم ، والله أعلم .
وأمَّا اسم الرجل السائل ، والمرأة المذكورة فلم يقع في شيء من طرق هذا الحديث .
وأمَّا بقية الأسئلة فيُعرفُ جوابُها مما تقدَّم ، والله أعلم .
/ فصل في بيان طرق هذا الحديث وكلام أهل العلم فيه : 3أ
قال أبو داود كَتبَ إليَّ حسين بن حُريث المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عمارة ابن أبي حفصة ، عن ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ امرأتي ... فذكره .
وقال النسائي أخبرنا الحسين بن حُريث ... فذكره .
الكلام على رجاله :(1/4)
أمَّا الحُسين بن حُريث فاتّفق الشيخان البخاري ومسلم على تخريج حديثه في صحيحيهِما ، ووثَّقه النسائي وابن حبان ، وأمَّا شيخه الفضل بن موسى فمتّفق عليه أيضا ، ووثَّقه يحيى بن معين والبخاري ، وابن سَعد ، وقال وكيع : ثقة صاحب سُنَّة ، وقال أبو حاتم : صدوق صالح ، وأثنى عليه ابن المبارك ، وأمَّا شيخه الحسين بن واقد فأخرج له مًسلم مُحتجاً به ، والبخاري استشهادا ، ووثقه ابن معين ، وقال أبو زرعة والنسائي : لا بأس به ، وأثنى عليه أحمد ، وقال ابن سعد : كان حسن الحديث ، وقال أحمد : حديثه عن أبي المنيب منه أبرأ ، وقال ابن حبان : كان على قضاء مرو ، ورُبَّما أخطأ ، وأمَّا شيخه عُمارة بن أبي حفصة ، واسم أبي حفصة نابت ( بالنون ثم الموحدة ثم المثناة ) فأخرج له البخاري ، ووثَّقه ابن معين، وأبو زرعة والنسائي وغيرهم ، وأمَّا عكرمة فاحتج به البخاري ، قال الحافظ زكي الدين المنذري في مختصر السنن : رجال إسناده يحتج بهم في الصحيحين على الاتفاق والانفراد .(1/5)
قلتُ : يُريد بالنسبة إلى مجموع الصحيحين ، لا إلى كل فردٍ فردٍ منهما ، فإنّ البخاري ما احتج بالحسين بن واقد ، وكذلك لم يحتج مسلم بعُمارة ، ولا بعكرمة ، فلو سلم أنّ الحديث على شرط الصحيح ، لم يسلم أنّ الحديث على شرط البخاري، ولا على شرط مسلم، وإنما لم أجرِ على إطلاق القول بصحيحه ، لأن الحسين بن واقد قد تقدّم أنه ربما أخطأ ، والفضل بن موسى قال أحمد : إنّ في روايته مناكير ، وكذلك نقل عبد الله بن عليّ بن المديني ، وإذا قيل مثل هذا في الراوي توقّف الناقد في تصحيح حديثه الذي ينفرد به ، وقد قال البزار بعد تخريجه : لا نعلمه يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بهذا الإسناد ، وقال الدار قطني في الأفراد : تفرّد به الحسين بن واقد عن عُمارة بن أبي حفصة ، وتفرد به الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد ، وقد حكى ذلك أيضا المنذري عن الدارقطني ، ووقفت عليه في كتاب أطراف الأفراد لأبي الفضل بن طاهر ، والنسخة بخط المنذري ، وأخرجه / الحافظ ضياء الدين المقدسي3ب في الأحاديث المختارة من طريق النسائي عن الحسين بن حُريث بسنده ، ودعوى البزار فيها نظر ؛ لأنّ النسائي أخرجه من وجه آخر عن ابن عباس ، قال المنذري : أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن ابن عباس ، وقال : هذا الحديث ليس بثابت، والمرسل فيه أولى بالصواب .(1/6)
قلتُ : أخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن شُميل ، عن حماد ابن سلَمَة ، عن هارون بن رِئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس موصولا ، وإسحاق والنضر مُتّفق على الاحتجاج بهما ، وحماد بن سلمة احتجّ به مسلم ، واستشهد به البخاري ، وهارون بن رِئاب ( بكسر الراء وبهمزة خفيفة ، بآخره باء موحدة ) احتج به مسلم ، وعبد الله بن عبيد بن عمير كذلك ، فهذا الإسناد قويٌّ لهؤلاء الرجال ، لكن أخرجه النسائي بعده من رواية يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رِئاب ، وعبد الكريم ، أمَّا هارون فقال : عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وأمَّا عبد الكريم ، فقال : عن عبد الله بن عبيد ، عن ابن عباس موصولا .
قال النسائي : رواية يزيد أولى بالصواب ، يعني أنّ في الرواية التي أخرجها أوّلا إجمالا ، وأنّ الموصول عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، وهو ابن أبي المخارق أبو أمية البصري أحد الضعفاء ، وأنّ رواية هارون الثقة مرسلة .
قلتُ : لكنْ إذا انضمت هذه الطريقة إلى الطريق الأخرى المباينة لها في أعيان رجالها إلى ابن عباس ، عُلِم أنّ للحديث أصلاً ، وزال ما كان يُخشى من تفرّد الفضل ابن موسى وشيخه ، وللحديث مع ذلك شاهد عن جابر بن عبد الله ، أخرجه الخلاّل ، والطبراني من طريق عبد الكريم بن مالك الجزري ، وأخرجه البيهقي من طريق معقل بن عبيد الله الجزري ، كلاهما عن أبي الزبير محمد بن مسلم ، عن جابر بن عبد الله ، ورجال الطريقين موثوقون ، إلاّ أنّ أبا الزبير وَضِر (1) بالتدليس ، ولم أره من حديثه إلاّ بالعنعنة .
__________
(1) يقال وَضِرَ الإناء يَوْضَر وَضَراً: إذا اتّسخ . تهذيب اللغة ( وضر )(1/7)
وقد قال الحافظ شمس الدين الذهبي في مختصر السنن : إسناده صالح ، وسُئل عنه أحمد فيما حكاه الخلاّل ، فقال : ليس له أصل ، ولا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : بل إذا انضمت هذه الطريق إلى ما تقدّم من طريقي حديث ابن عباس ، لم يتوقف المحدِّث عن الحكم بصحة الحديث ، ولا يُلتفت إلى ما وقع من أبي الفرج ابن الجوزي ، حيث ذكر هذا الحديث / في الموضوعات ، ولم يذكر من طرقه إلاّ 4 الطريق التي أخرجها الخلاّل من طريق أبي الزبير عن جابر ، واعتمد في بطلانه على ما نقله الخلال عن أحمد، فأبان ذلك عن قلّة اطِّلاع ابن الجوزي ، وغلبة التقليد عليه ، حتى حكم بوضع الحديث بمجرد ما جاء عن إمامه ، ولو عرضت هذه الطرق على إمامه لاعترف أنّ للحديث أصلا ، ولكنه لم يقع له ، فلذلك لم أرَ له في مُسنده ، ولا فيما يُروى عنه ذكرا أصلاً ، لا من طريق ابن عباس ، ولا من طريق جابر، سوى ما سأله عنه الخلاّل ، وهو معذور في جوابه بالنسبة لتلك الطريق بخصوصها .
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، قاله وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني عفا الله تعالى عنه ، آمين
نقل ذلك من خطه داعيا بطول بقائه معتقدا أنْ لا نظير له في زمانه ، فسح الله في أجله أبو بكر بن محمد بن عمر ابن النصيبي الشافعي بالقاهرة المُعزية في مستهل شهر شعبان سنة اثنين وخمسين وثمانمائة .(1/8)