القول الرفيع
في
مسألة التسميع
لأبي عبد الرحمن محمد رفيق الطاهر
أستاذ الحديث بمركز ابن القاسم الإسلامي
شارع بوسن ملتان باكستان
مكتبة دار السنة
ملتان باكستان(1/1)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره أهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره إلا ذكر معه كما في الآذان والتشهد والخطب والمجامع والأعياد وكبت محاده وأهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الأحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والآخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على إخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى آله أفضل الصلوات و أعلاها و أكملها و أتمها كما يحب سبحانه أن يصلى عليه وكما أمر وكما ينبغي أن يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته افضل تحية و أحسنها و أولاها و أبركها و أطيبها و أزكاها صلاة وسلاما دائمين إلى يوم التناد باقيين بعد ذلك أبدا رزقا من الله ما له من نفاد أما بعد!
…فقد قلت يوم الأحد ، 13 ذو القعدة ، 1425 هـ في خطبتي بعد صلاة الظهر : من قال في التسميع لا يقولها المؤتم فقوله باطل ومن لم يقل من المأمومين سمع الله لمن حمده عند رفعه من الركوع فصلاته ناقص .(1/2)
فقيل لي من ادعى فعليه البينة فقد جرى عليّ الموعد أن أكتب أدلة ساطعة و براهين قاطعة وحُجُجًا بالغة في دفع التشنيع في مسألة التسميع , وقيل لي أيضا أن أبين معنى الجمهور. فشرعت فيه أتفحص(1) الأحاديث و رأي كل ذي رأي.
و اقتناص(2) الشوارد بالاقتباس من الموارد و الوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ من صنعة الجهابذ(3),
والوعد يسوغ(4) بعض المساغ , فجمعت بتوفيق الله تعالى وعونه أدلة حديثية وأراء فقهاء فقد بسطتها على عارض(5) القرطاس ليكون دلِّيْلًا(6) لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
ثم طلب مني بعض إخواني الإجازة أن يطبعوه وينشروه ليستفيد منه طلبة الحق من العبيد, فها أنا أجزتهم أن يطبعوه ليكون لي ولهم عند الله ذخرا وأجرا مزيدا.
__________
(1) : التفحص : تدقيق النظر في الشيء قال ابن منظور في لسان العرب (7/63) : الفحص: شدة الطلب خلال كل شيء فحص عنه فحصا بحث وكذلك تفحص و افتحص وقال أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (3/415) : الفحص: البحث والكشف .
(2) : قال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي في مختار الصحاح (1/230) : القِنْصُ , بالكسر : الأَصْلُ . وقَنَصَهُ يَقْنِصُه : صادَه .
(3) : أي الجهابذة جمع جِهبذ , فال الفيروز آبادي في القاموس (1/424) : الجهبذ بالكسر : النقاد الخبير
(4) :قال في القاموس : سَوَّغَهُ له غيره تَسْويغاً: أي جوزه
(5) : أي الخد .
(6) : في معنى قولهم (شعر) : إذا كان الغراب دليل قوم * سيهديهم طريق الهالكين .(1/3)
تمهيد
بسم الله ا لرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا ونصب لنا الدلالة على صحته برهانا مبينا وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقا يقينا ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجرا جسيما وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزا عظيما وفرض علينا الانقياد له والتمسك بدعائمه(1) وأركانه والاعتصام بعراه وأسبابه فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين ورفع درجتهم في علين أما بعد!
__________
(1) : الدِّعْمَةُ والدِّعامةُ والدِّعامُ , بكسرِهنَّ : عِمادُ البَيْتِ , والخَشَبُ المَنْصوبُ للتَّعْريشِ , ج : دِعَمٌ ودَعائِمُ .( القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي 1/95).(1/4)
سبب الاختلاف
فقلت سبب الاختلاف الحديث الذي روي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعودا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون قال أبو عبد الله(1) قال الحميدي(2) قوله إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا هو في مرضه القديم ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم(3). وبهذا قال ابن رشد(4) في البداية(5).
__________
(1) : هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله الباري .
(2) : شيخ البخاري عبد الله بن زبير بن عيسى بن عبيد الله الحميدي القرشي كبار تبع الاتباع المتوفى 219هـ
(3) : صحيح البخاري كتاب الآذان باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (789) , مسلم كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام (411) , سنن أبي داود كتاب الصلاة باب الإمام يصلي من قعود (601) , سنن الترمذي أبواب الصلاة باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا (361) .
(4) : أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير بابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595هـ .
(5) : بداية المجتهد ونهاية المقتصد كتاب الصلاة الباب الثاني الفصل الرابع 1/ 109.(1/5)
قلت: ليس بشيء في هذا الحديث لمن أفتى بنهي التسميع للمأموم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأموم أن لا يتجاوز عن إمامه وأن يقول ربنا لك الحمد بعد تسميع الإمام ولم يمنع المأموم أن يقول سمع الله لمن حمده بل ترك ذكره, ومسلّم في الأصول أن عدم الذكر لا يستلزم عدم الثبوت(1).
دلائل التسميع
لكن هناك دلائل سوى هذا النص لجواز التسميع بل لإيجابه منها الحديث الذي أخرجه البخاري عن الزهري قال أخبرنا سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه وإذا كبر للركوع فعل مثله وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله وقال ربنا ولك الحمد ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود(2)
__________
(1) : قال محمد بن عمر بن الحسين الرازي في المحصول في علم الأصول 6/231 : السؤال الثاني أنك جعلت عدم دليل الثبوت دليل العدم فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت أم لا. فإن لم يقل به فقد نَاقَضَ لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة دليل العدم إلى العدم.فإن لزم من عدم دليل الثبوت: عدم الثبوت,لزم من عدم دليل العدم: عدم العدم,وإن لم يلزم هاهنا,لم يلزم هناك أيضا إذ لا فرق بينهما في العقل, وإن اعترف بذلك لزم المحذور من وجهين: أحدهما أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم,وعدم العدم وجود,فعدم دليل العدم دليل على الوجود.فقد حصل سوى النص والإجماع والقياس دليل آخر على الوجود فيبطل حصرهم والثاني وهو أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود إلا ببيان عدم عدم دليل العدم وعدم العدم وجود فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم لكنك لو ذكرت دليل العدم لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة .
(2) : كتاب الآذان باب إلى أين يرفع يديه (783) .(1/6)
فهذا الحديث مطلق في جواز التسميع و التحميد للإمام والمأموم والمنفرد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يكون إماما وقد يكون مأموما لجبريل(1) وصلى صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف(2)
__________
(1) : أخرج أبو داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَكَانَتْ قَدْرَ الشِّرَاكِ وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ وَصَلَّى بِيَ يَعْنِي الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (كتاب الصلاة باب في المواقيت حـ393.) و الترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي حـ149.
(2) : روى مسلم أن المغيرة بن شعبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه ثم أقبل قال المغيرة فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال أحسنتم أو قال قد أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها (كتاب الصلاة باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام حـ274) .(1/7)
أيضًا , فهذا الحديث بعمومه يتناول كل أحواله . ونحن نعلم أمره صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي(1). فعلينا أن نأخذ ما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و على المأموم أن يأتم إمامه كاملا يفعل ما يفعل الإمام إلا ما قام عليه دليل .
اعتراض و رده :
وقول القائل: إن كان نية المقتدي غير نية الإمام فصلاته جائز عندكم أيضًا فكيف تقولون: على المؤتم أن يأتم إمامه كاملا , مردود لأني قيدته بقولي: إلا ما قام عليه دليل . والدليل عليه قائم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ما لا يخفى على من له أدنى خِبرة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أقوال الفقهاء :
وقال الشوكاني بعد بحث طويل : احتج القائلون بأنه يجمع بينهما كل مصل بحديث الباب ولكنه أخص من الدعوى لأنه حكاية لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماما كما هو المتبادر والغالب إلا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام واحتجوا أيضا بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما فيلحق بهما المؤتم لأن الأصل(2) استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه(3).انتهى كلامه .
وقال الشافعي(4): ويقول الإمام والمأموم والمنفرد ثم رفعهم رءوسهم من الركوع سمع الله لمن حمده فإذا فرغ منها قائلها أتبعها فقال ربنا ولك الحمد(5).
__________
(1) : رواه البخاري كتاب الآذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة (631) .
(2) : أي القاعدة والقانون .
(3) : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني 2/278
(4) : أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
(5) :كتاب الأم : [باب القول ثم رفع الرأس من الركوع] 1/110(1/8)
رد الاعتراض :
فمن قال: إن قولكم: الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة , ليس بقاعدة كلية لأن الإجماع قد حصل على ترك القراءة خلف الإمام سوى الفاتحة , فليستحي على نفسه, لأنه قام عليه دليل شرعي وأني قد أوردت هذا الأصل آنفا من لفظ الطحاوي وفيه: الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه .فصرح الشرع باستثنائه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَأَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ إِذَا جَهَرَ قَالَ قُلْنَا أَجَلْ وَاللَّهِ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَهَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا(1).
__________
(1) : رواه أحمد في مسنده بسند صحيح (حـ22244) , قلت صرح محمد ابن إسحاق في هذا السند بالتحديث فرفعت مظنة التدليس وبقية رواته كلهم ثقات والسند متصل والله تعالى أعلم.(1/9)
دليل نقص صلاة تارك التسميع :
قلت : القول كما قاله شيخنا(1) الشوكاني , و جعلُ الطحاوي الثلاثة سواء حق ,لأن الشرع لم يصرح بترك التسميع لأحد بل جعل الشرع التسميع واجبا لإتمام الصلاة فمن ترك التسميع نقصت صلاته كما روى أبو داود في حديث مسيء الصلاة(2) : فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء يعني مواضعه ثم يكبر ويحمد الله جل وعز ويثني عليه ويقرأ بما تيسر من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائما ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته(3). وفي رواية(4) له فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقص من هذا شيئا فإنما انتقصته من صلاتك(5).
__________
(1) : نعم,العلامة الشوكاني رحمه الله من مشائخنا في الحديث فسندنا إليه:يروي العبد الفقير إلى الله الغني أبو عبد الرحمن محمد رفيق الطاهر بن الحافظ عبد الغفور عن شيخه أبي عبد الرحمن الحافظ عبد المنان بن عبد الحق النور فوري وله سماع وإجازة من الشيخين الأميرين أبي عبد الله الحافظ محمد بن فضل الكوندلوي وأبي الخير إسماعيل بن إبراهيم السلفي الوزيرآبادي وله إجازة عن الشيخ عبد الحق البنارسي وله قراءة وإجازة عن الإمام الرباني قاضي القطر اليماني محمد بن علي الشوكاني وأسانيده مكتوب في إتحاف الأكابر .
(2) : اسمه: خلاد بن رافع رضي الله عنه .
(3) : أبو داود كتاب الصلاة باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (856) , سنن دارمي كتاب الصلاة باب في الذي لا يتم الركوع و السجود (1329) .
(4) : أنظر حاشية سفلية سابقة .
(5) : إسناده صحيح .(1/10)
وقال ابن حزم الظاهري في ضوء هذا الحديث : والقيام إثر الركوع فرض لمن قدر عليه حتى يعتدل قائما وقول سمع الله لمن حمده عند القيام من الركوع فرض على كل مصل من إمام أو منفرد أو مأموم لا المساجد الصلاة إلا به(1).
قلت القول ما قاله ابن حزم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس, أي إماما كان أو مأموما أو منفردا لا تتم صلاته حتى يقول سمع الله لمن حمده وقال صلى الله عليه وسلم : فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقص من هذا شيئا فإنما انتقصته من صلاتك . فدعوانا حق على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من لم يقل سمع الله لمن حمده انتقص من صلاته ومن انتقص من صلاته فصلاته ناقص لا محالة . فالحمد لله الذي وفق رأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
معنى فقولوا ربنا لك الحمد :
وقال محمد الخطيب الشربيني : وأما خبر إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد فمعناه قولوا ذلك مع ما علمتموه من سمع الله لمن حمده لعلمهم بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي مع قاعدة التأسي به مطلقا وإنما خص ربنا لك الحمد بالذكر لأنهم كانوا لا يسمعونه غالبا ويسمعون سمع الله لمن حمده ويسن الجهر بها للإمام والمبلغ إن احتيج إليه لأنه ذكر انتقال ولا يجهر بقوله ربنا لك الحمد لأنه ذكر الرفع فلم يجهر به كالتسبيح وغيره(2) .
__________
(1) : المحلى بالآثار لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري 3/255 .
(2) : مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الخطيب الشربيني 1/165.(1/11)
وقال أبو يحي(1) : وأما خبر إذ قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد معناه فقولوا ذلك مع ما علمتموه من سمع الله لمن حمده لعلمهم بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي وإنما خص ربنا لك الحمد بالذكر لأنهم كانوا لا يسمعونه غالبا ويسمعون سمع الله لمن حمده(2).
وقال محمد بن أحمد الرملي الأنصاري قريبا منه(3).
وقال الإمام الغزالي: ويستحب أن يقول سمع الله لمن حمده عند الرفع ثم يقول ربنا لك الحمد يستوي في الإمام والمأموم والمنفرد(4).
قال الحافظ(5) في الفتح :
…استدل به على أن الإمام لا يقول " ربنا لك الحمد " وعلى أن المأموم لا يقول " سمع الله لمن حمده " لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية كما حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وفيه نظر لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم ربنا لك الحمد يكون عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده، والواقع في التصوير ذلك لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله " إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين " أن الإمام لا يؤمن بعد قوله ولا الضالين، وليس فيه أن الإمام يؤمن كما أنه ليس في هذا أنه يقول ربنا لك الحمد، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة كما تقدم في التأمين وكما مضى في الباب الذي قبله وفي غيره ويأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين التسميع والتحميد.
__________
(1) : زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري أبو يحيى ولادة : 823 هـ , وفاة : 926هـ
(2) : فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب 1/77 .
(3) : غاية البيان شرح زبد ابن رسلان 1/96 .
(4) : الوسيط في المذهب لأبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي 2/129 .
(5) : أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي , ولادة : 773 , وفاة : 852 .(1/12)
وأما ما احتجوا به من حيث المعنى من أن معنى سمع الله لمن حمده طلب التحميد فيناسب حال الإمام، وأما المأموم فتناسبه الإجابة بقوله ربنا لك الحمد ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وغيره، ففيه " وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم.
فجوابه أن يقال لا يدل ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد، إذ لا يمتنع أن يكون طالبا ومجيبا، وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين من أنه لا يلزم من كون الإمام داعيا والمأموم مؤمنا أن لا يكون الإمام مؤمنا، ويقرب منه ما تقدم البحث فيه في الجمع بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذن، وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد والجمهور، والأحاديث الصحيحة تشهد له، وزاد الشافعي أن المأموم يجمع بينهما أيضا لكن لم يصح في ذلك شيء(1)
__________
(1) : معنى قوله لم يصح في ذلك شيء الروايات التي رويت في هذه المسألة فمنها حديث بريدة رضي الله عنه الذي رواه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة باب ذكر نسخ التطبيق والأمر بأخذ الركب قال حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ثنا علي بن سعيد ثنا علي بن الحسين بن عبيد بن كعب ثنا سعيد بن عثمان الخزاز ح وحدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ثنا أحمد بن الحسين بن سعيد ثنا أبي ثنا سعيد بن عثمان الخزاز ثنا عمرو بن شمر عن جابر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت بعد . قلت فيه جابر الجعفي وهو كذاب .وبهذا قال ابن قدامة في المغني و علي بن أبي بكر الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/132.
والثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الدارقطني في هذا الباب فقال ثنا أبو طالب الحافظ أحمد بن نصر نا أحمد بن عمير الدمشقي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو حدثنا يحيى بن عمرو بن عمارة بن راشد أبو الخطاب قال سمعت عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان يقول حدثني عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فليقل من وراءه سمع الله لمن حمده قلت والمحفوظ فيه ربنا لك الحمد, كما صرح بذلك أبو الحسن علي بن عمر الدار قطني البغدادي في سننه.
الثالث: ما ذكره أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه1/253 (275): وقال حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب الرقي بمصر قال حدثنا محمد بن عبد الله السوسي قال حدثنا حجاج بن نصير قال حدثنا أبو أميه بن يعلي الثقفي عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة عن رسول الله صلع قال إنما جعل الإمام ليأتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد وإذا رفع رأسه من الركوع فكبروا وارفعوا رؤوسكم وإذا سجد وكبر فاسجدوا وكبروا وإذا صلى جالسا فاجلسوا وكبروا . قال أبو عبد الرحمن الطاهر, محمد بن أيوب الرقي ضعفه أبو حاتم أنظر المغني في الضعفاء لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي 2/558 (5320), ميزان الاعتدال في نقد الرجال لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي 6/75(7260), لسان الميزان لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي 5/84 , تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 9/60 .(1/13)
ولم يثبت عن ابن المنذر أنه قال إن الشافعي انفرد بذلك(1) لأنه قد نقل في الأشراف عن عطاء وابن سيرين وغيرهما القول بالجمع بينهما للمأموم، وأما المنفرد فحكى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلاف عندهم في المنفرد(2) .انتهى كلام الحافظ .
__________
(1) : كما قال عبد الحميد الشرواني في حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج (2/63):وقول ابن المنذر إن الشافعي خرق الإجماع في جمع المأموم بين سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد مردودا إذ قال بقوله عطاء وابن سيرين وإسحاق وأبو بردة وداود وغيرهم .
(2) : فتح الباري شرح صحيح البخاري (كتاب الأذان باب فضل اللهم ربنا لك الحمد)(1/14)
قول أبي حنيفة
قال ملا علي القارئ في شرح مسند الإمام أبي حنيفة:
(قال ابن السبع) بفتح السين المهملة وضم الموحدة، وقد تسكن (ابن طلحة قال: رأيت أبا حنيفة يسأل عطاء) أي ابن أبي رباح (عن الإمام) أي إمام الجماعة (إذا قال: سمع اللّه لمن حمده) اللام زائدة والهاء ضمير كما في المستصفى وقيل للسكت(1)، كما في الفوائد الحميدية، والمعنى أجاب، وقيل حمد لمن حمده فهو دعاء لقبول الحمد، واتفقوا أن المؤتَمَّ لا يذكر التسميع (أيقول) أي الإمام أيضاً (ربنا لك الحمد، قال: ما عليه) أي شيء، والمعنى لا بأس أن يقول ذلك ففي شرح الأقطع عن أبي حنيفة: يجمع بينهما الإمام والمأموم، وهو مذهب الشافعي في الأصح واختاره أبو يوسف ومحمد على ما ذكر ابن مالك في شرح المشارق.
والمشهور في المذهب أن المفرد يجمع بينهما، وأما الإمام فيكتفي بالتسميع والمأموم بالتحميد.وبه قال الشافعي في قول واختاره بعض أصحابه وهو مذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة يدل عليه حديث مسلم إذا قال الإمام سمع اللّه لمن حمده، فقولوا اللّهم ربنا لك الحمد، لأن القسمة ينافي الشركة، كما يشير إليه قوله,انتهى كلام ملا علي القاري .
قلت: إن حملتم معنى هذا الحديث على القسمة فتلك إذا قسمة ضيزى لأن الأحاديث الصحيحة يخالف حمل المعنى على القسمة كما صرحت آنفا .
__________
(1) : أي للسكتة كما في قول الله عز و جل:وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ {26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ {27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ {28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ {29} الحاقة .(1/15)
موقف ابن حزم :
وقال ابن حزم رحمه الله : قال علي: من العظائم التي نعوذ بالله عز وجل منها أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذا أو كذا وافعلوا كذا وكذا فيقول قائل بعد أن سمع هذه الأخبار إن الصلاة تتم دون ذلك مقلدا لمن أخطأ ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه قاصد لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من الباطل والتلعُّب بالسنن أن ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمور ذكر أن الصلاة لا تتم إلا بها فيقول قائل من ثم نفسه بعض هذه الأمور هو كذلك وبعضها ليس كذلك فإن أقدم كاذب على دعوى الإجماع في شيء من ذلك فقد كذب على جميع الأمة وادعى ما لا علم له به ولا يحل لمسلم خلاف اليقين الصادق من أمر الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لظن كاذب افترى فيه الذي ظنه على الأمة كلها إذ نسب إليها مخالفة أمر الله تعالى والعجب من قولهم لا يجزئ تكبير المأموم إلا بعد تكبير الإمام ولا يجزئ سلامه إلا بعد سلام الإمام وأما ركوعه ورفعه وسجوده فمع الإمام وهذا تحكم عجيب وكل ما موهوا به ههنا فهو لازم لهم في التكبير والتسليم فإن قال قائل قد قال عليه الصلاة والسلام وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد قلنا نعم وليس في هذا الخبر منع من قول الإمام ربنا ولك الحمد ولا منع المأموم من قول سمع الله لمن حمده وإيجاب هذا مذكور في الخبر الذي أوردناه ولا سبيل إلى أن توجد جميع الشرائع في خبر واحد ولا في آية واحدة ولا في سورة واحدة(1) .
__________
(1) : المحلى بالآثار 3/258 .(1/16)
دفع التشنع عن مسألة التسميع
وقال السيوطي(1) : مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المصلي إذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائما يقول ربنا لك الحمد وأنه يستحب الجمع بين هذين للإمام والمأموم والمنفرد وبهذا قال عطاء وأبو بردة ومحمد بن سيرين وإسحاق وداود وقال أبو حنيفة يقول الإمام والمنفرد سمع الله لمن حمده فقط والمأموم ربنا لك الحمد فقط وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد قال وبه أقول وقال الثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد يجمع الإمام بين الذكرين ويقتصر المأموم على ربنا لك الحمد واحتج لهم بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون وبحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون رواهما الشيخان ولأصحابنا الشافعية في الاحتجاج مسالك
__________
(1) :عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي .(1/17)
المسلك الأول :
أنه لا حجة للخصوم في هذين الحديثين إذ ليس فيهما ما يدل على النفي بل فيهما أن قول المأموم ربنا لك الحمد يكون عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده والواقع في التصوير ذلك لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الحديث ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إذا قال الإمام ولا لضالين فقولوا آمين فإنه لا يلزم منه أن الإمام لا يؤمن بعد قوله ولا الضالين وليس فيه لبعض بأن الإمام يؤمن كما أنه ليس في هذين الحديثين لبعض بأن الإمام يقول ربنا لك الحمد لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صريحة منها هنا ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم لك الحمد وأخرج مسلم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد وأخرج البخاري مثله من رواية ابن عمر ومسلم مثله من رواية عبد الله بن أبي أوفى فثبت بهذه الأحاديث أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد على خلاف ظاهر هذين الحديثين فلم يصلح الاستدلال بهما على أن الإمام لا يجمع بينهما وإذا لم يصلح الاستدلال بهما في حق الإمام لم يصلح الاستدلال بهما في حق المأموم أيضا كما لا يخفى
المسلك الثاني:
إذا ثبت أنه لا دلالة في هذين الحديثين على أن الإمام لا يجمع بين الذكرين ولا على أن المأموم لا يجمع بينهما وثبت أن التصريح بأن الإمام يجمع بينهما من أدلة أخرى دل ذلك على أن المأموم أيضا يجمع بينهما لأن الأصل استواء المأموم فيما يستحب من الأذكار في الصلاة كتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود(1/18)
المسلك الثالث :
ثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا كما رأيتموني أصلي فهذا يدل على أن المأموم يجمع بين التسميع والتحميد لأنه أمر الأئمة بأن يصلوا كما صلى وقد ثبت بتلك الأحاديث أنه لما صلى قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد فلزم من ذلك أن كل مصل يقول ذلك فتتحقق المثلية
المسلك الرابع :
نقل الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما ويصلح جعله حجة لكون المأموم أيضا يجمع بينهما لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه
المسلك الخامس:
الاستئناس بما أخرجه الدارقطني بسند ضعيف عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده الهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد وبما أخرجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده قال من وراءه سمع الله لمن حمده وبما أخرجه عن ابن عون قال قال محمد إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قال من خلفه سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد .
المسلك السادس:
أن الصلاة مبنية على ألا يفتر عن الذكر في شيء منها فإن لم يأت بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر .(1/19)
المسلك السابع :
قال الأصحاب معنى قوله صلى الله عليه وسلم وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد أي قولوا ربنا لك الحمد مع ما قد علمتموه من قول سمع الله لمن حمده وإنما خص هذا بالذكر لأنهم كانوا يسمعون الرجعة النبي صلى الله عليه وسلم بسمع الله لمن حمده فإن السنة فيه الجهر ولا يسمعون قوله ربنا لك الحمد غالبا لأنه يأتي به سرا وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا فكانوا موافقين في سمع الله لمن حمده فلم يحتج إلى الأمر به ولا يعرفون ربنا لك الحمد فأمروا به.
المسلك الثامن :
القياس على حديث إذا قال المؤذن حي على الصلاة فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فإن الراجح في مذهب الخصم أن السامع يجمع بين الحيعلة والحوقلة فيكون قوله فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله أي مضموما إلى الكلمة التي قالها المؤذن فكذلك معنى الحديث فقولوا ربنا لك الحمد أي مضموما إلى الكلمة التي قالها الإمام.
المسلك التاسع:
أن الحديث بعضه منسوخ وهو قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون فما المانع أن يكون دخل في بقية ألفاظه نسخ أو تخصيص أو تأويل وإذا الإشارة هذا الاحتمال سقط به الاستدلال قال ابن أبي شيبة في مصنفه ثنا ابن علية عن ابن عون قال كان محمد بن سيرين يقول إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قال من خلفه سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد(1).انتهى كلامه.
__________
(1) : دفع التشنيع في مسألة التسميع لأبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي .(1/20)
قلت القول ما قاله السيوطي إلا المسلك الثامن كما صرح بذلك الحافظ في التلخيص فقال : قوله وأن يجيب المؤذن فيقول مثل ما يقول إلا في الحيعلتين فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وإلا في كلمتي الإقامة فإنه يقول أقامها الله وأدامها وجعلني من صالحي أهلها وإلا في التثويب فيقول صدقت وبررت عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول أخرجه الستة ورواه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة وروى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن رجلا قال يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه وعن أم حبيبة مرفوعا من فعله رواه بن خزيمة والحاكم وروى البخاري والنسائي من حديث معاوية مرفوعا القول كما يقول المؤذن إلا الحيعلتين وأخرجه مسلم من حديث عمر والبزار من حديث أبي رافع وأما كلمتي الإقامة فأخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة أن بلالا أخذ في الإقامة فلما بلغ قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها وهو ضعيف والزيادة فيه لا أصل لها وكذا لا أصل لما ذكره في الصلاة خير من النوم(1). انتهى كلامه .
نعم! , الدليل موجود لترك الحيعلتين واقتصار السامع على الحوقلة في جواب الأذان كما بينه الحافظ والأدلة كثيرة في هذا الموضوع لكن ليس هذا محله .
__________
(1) : تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (310) 1/211 .(1/21)
فالحاصل من البحث :
أن التسميع والتحميد مشروع لثلاثة عبيد أي للإمام والمأموم والمنفرد , والذي يفتي بترك التسميع للمأموم ليس عند دليل إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد , ولاشيء في هذا الأثر يمنع المأموم من التسميع لأنه صلى الله عليه وسلم أمر المأموم بالتحميد ولم ينهه عن التسميع والأصل أن عدم الذكر لا يستلزم عدم الثبوت , وفي هذا الحديث كلا الاحتمالين موجود ومسلم في الأصول إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال(1) , نعم! بطل استدلال من استدل بهذا الحديث على ترك التسميع للمأموم في عالم الأصول , وإن كان هناك دليل آخر لترك التسميع للمأموم فليأت به.
وقد بسطت الأدلة على إيجاب التسميع للمأموم ونقص صلاة تارك التسميع . ولا معارض لها في السنة النبوية كما لا يخفى على القارئ , فرفع الاحتمال الذي كان في الحديث في حق إيجاب التسميع فالحديث دال على جمع التسميع و التحميد لثلاثة عبيد .
__________
(1) : قال محمد بن علي بن محمد الشوكاني في إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول (صـ136,187): ومع الاحتمال لايتم الاستدلال. وقال أيضا (صـ234): بأن مجرد الاحتمال لا ينهض للاستدلال , قلت وهل هناك إلا مجرد الاحتمال لترك التسميع للمأموم . وقال أيضا (صـ402): لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك . وقال الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي في المستصفى في علم الأصول (صـ150): و لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج . وقال محمد بن عمر بن الحسين الرازي في المحصول في علم الأصول(5/452): وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلية وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع. وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي في روضة الناظر وجنة المناظر (148): لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج .(1/22)
خاتمة
وهذا فقد كتبت القول الرفيع في مسألة التسميع إيجازا ومن سمت همته إلى مزيد الوقوف فليرغب في كتب السلف من شروح الحديث مثلا فتح الباري شرح صحيح البخاري لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي(1), و إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لتقي الدين أبي الفتح ابن دقيق العيد(2), و صحيح مسلم بشرح النووي لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي(3), و التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري(4), و عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي(5), و تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لأبي العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري(6), و سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير(7), وغير ذلك , ومن كتب الفقه كنيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار لشيخنا محمد بن علي بن محمد الشوكاني(8), و كتاب الأم لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي(9), و المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي(10), و المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن
__________
(1) : انظر كتاب الأذان باب إنما جعل الإمام ليؤتم به من 2/179 إلى 2/183 .
(2) : انظر من 1/203 و من 1/222 .
(3) : انظر كتاب الصلاة باب التشهد في الصلاة 4/121 .
(4) : انظر 6/149 و 9/230 .
(5) : انظر كتاب الركوع والسجود باب التشهد 3/181 .
(6) : انظر أبواب الصلاة باب آخر من باب ما يقول الرجل إذا رفع رأسه من الركوع (باب83, 2/117) .
(7) : انظر كتاب الصلاة باب صفة الصلاة (1/179) .
(8) : انظر 2/277 .
(9) : انظر 1/110 .
(10) : انظر كتاب الصلاة باب الأذان فصل ويسن الجهر بالتسميع للإمام كما يسن الجهر بالتكبير لأنه ذكر مشروع ثم الانتقال من ركن فيشرع الجهر به للإمام كالتكبير مسألة قال ثم يقول ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض (1/300) .(1/23)
سعيد بن حزم الظاهري(1), و المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي(2), و منار السبيل في شرح الدليل إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان الحنبلي(3), و كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي(4), و حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لعبد الحميد الشرواني(5), و غاية البيان شرح زبد ابن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي الأنصاري الشافعي(6), و فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري(7), و نهاية الزين في إرشاد المبتدئين لأبي عبد المعطي محمد بن عمر بن علي بن نووي الجاوي(8), و المجموع شرح المهذب لمحيى الدين بن شرف(9), و البحر الرائق شرح كنز الدقائق لزين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن بكر الحنفي(10), و شرح فتح القدير لمحمد بن عبد الواحد السيواسي(11), و بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني(12), و شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المالكي(13), و المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس(14),و إعلام الموقعين عن رب العالمين لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي(15), و التحقيق في أحاديث الخلاف لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي(16), وغير ذلك من الكتب .
معنى الجمهور
قال ابن منظور(17) في لسان العرب(18):
جمهر:
__________
(1) : انظر 3/255 , 4/199 .
(2) : انظر 1/448 .
(3) : انظر 1/90,91,92 .
(4) : انظر 1/348,349 .
(5) : انظر 2/63 .
(6) : انظر 1/96 .
(7) : انظر 1/77 .
(8) : انظر 1/65 .
(9) : انظر من 3/176 إلى 3/179 .
(10) : انظر 1/334 .
(11) : انظر من 1/298 إلى 1/301 .
(12) : انظر 1/209 .
(13) : انظر 1/229 .
(14) : انظر 1/171,172 .
(15) : انظر 2/399 .
(16) : انظر من 1/180 إلى 1/187 .
(17) : محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري .
(18) : لسان العرب جـ4صـ149.(1/24)
جمهر له الخبر: أخبره بطرف له على غير وجهه وترك الذي يريد. الكسائي: إذا أخبرت الرجل بطرف من الخبر وكتمته الذي تريد قلت: جمهرت عليه الخبر . الليث : الجمهور الرمل الكثير المتراكم الواسع . وقال الأصمعي : هي الرملة المشرفة على ما حولها المجتمعة . و الجمهور و الجمهورة من الرمل: ما تعقد وانقاد. وقيل هو ما أشرف منه . و الجمهور : الأرض المشرفة على ما حولها . و الجمهورة : حرة لبني سعد بن بكر ابن الأعرابي . ناقة مجمهرة : إذا كانت مداخلة الخلق كأنها جمهور الرمل . و جمهور كل شيء معظمه وقد جمهره و جمهور الناس: جُلُّّهم و جماهير القوم : أشرافهم . وفي حديث ابن الزبير: قال لمعاوية: إنا لا ندع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه, أي جماعاتها, واحدها: جمهور
وقال الرازي(1) في مختار الصحاح(2):
ج م ه ر:= في حديث موسى بن طلحة: جمهروا قبره جمهرة أي اجمعوا عليه التراب ولا تطينوه . و جمهور الناس: جُلُّهم.
وقال أبو الفتح ناصر الدين بن عبد السيد بن علي بن المطرز في المغرب في ترتيب المعرب(3):
جمهر:
الجمهوري: شراب يرقق بالماء ثم يطبخ وهو اليعقوبيس وقد سمي بذلك لأن جمهور الناس أي جلهم وأكثرهم يشربونه .
وقال أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي(4):
الجمهور : الرملة المشرفة على ما حولها سميت بذلك لكثرتها وعلوها وفي حديث جمهروا قبره أي جمعوا له التراب ومن ذلك قيل للخلق العظيم جمهور لكثرتهم والجمع جماهير
وقال محمود بن عمر الزمخشري في الفائق في غريب الحديث(5):
جمهر :
جمهور الناس: معظمهم وجمعه جماهير.
__________
(1) : محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي .
(2) : انظر مختار الصحاح (1/47) .
(3) : انظر (1/157) .
(4) : انظر (1/107) .
(5) : انظر: (1/235)(1/25)
وفي الأخير أسأل الله أن يرزقنا العمل في سائر الحياة إلى الأجل وأن يجمعنا في جنة الفردوس الجلل .
هذا ما عندي والله أعلم بالصواب وهو الموفق وإليه المآب
الراجي إلى مغفرة ربه الظاهر
أبو عبد الرحمن .م.ر. الطاهر
Email:AbuabderRahmanTahir@islamway.net(1/26)