|
د . عبد الهادي دحاني
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
229، حي القدس، الجديدة 24000 - المغرب.
الجديدة، في 10 ذي القعدة 1422
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
القراءات المفسِّرة
كنت أتهيب كثيرا من الإقدام على البحث في القراءات المفسرة، خشية أن يكون الموضوع مطروقا، لأنني طالما سمعت بتوظيف القراءات في التفسير، فكنت أعتقد بأن الأمر يتعلق بمنهج في التفسير يعتمد القراءات، ولما رجعت إلى ما كتب في هذا المجال، وهو نزر يسير جدا لا يعتد به في الدراسات المعتبرة في الموضوع، وجدت تصور الباحثين للقراءات المفسرة لا يخرج عن دائرة القراءات الشاذة، فهي وحدها التي تعتبر في زعمهم مفسرة، وهذه الفكرة نابعة من تنبيه علماء القراءات على وظيفة الشواذ وإدراجها في تفسير النصوص القرآنية، حتى لا ينقرض هذا النوع من القراءات بتعطيل العمل به، أو حتى لا يسيء التعامل معه من جراء الاشتغال بالمتواتر والمشهور دون الشاذ والمدرج، لكونه لا يرقى إلى مستوى الصحة المتوفر في غيره.
... والحقيقة أن القراءات المفسرة هي منهج في التفسير يعتمد القراءة التي تهدف إلى البيان والكشف عن أسرار التنزيل، سواء كانت هذه القراءة متواترة أم شاذة، وسواء كانت مشهورة أم مدرجة من أجل الإيضاح، والقراءات كالقرآن يفسر بعضها بعضا، ولاسيما عندما يكونان حقيقة واحدة.
(1/1)
وأبادر إلى القول بأن هذا البحث قد انبثقت فكرته الأساسية من تصحيح هذا الرأي الذي ظل سائدا في أوساط المهتمين بالقراءات والمشتغلين عليها، ولقد مكنني الاشتغال بتوجيه القراءات من أن أقف على توظيف كل أنواعها في التفسير من غير استثناء. وقد لا يكون للقراءة دور في التفسير عندما لا يكون لها تعلق به، كالقراءات المتعلقة بوجوه النطق بالحروف والحركات، بما لا يغير من صورة الكلمة ولا يغير من معناها، ومن ذلك مثلا بعض مقادير المد والإمالة والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، وتعدد بعض وجوه الإعراب، نحو قوله تعالى : (عَذابِي)(1)، بسكون الياء وفتحها، و(حَتَّى يَقُول الرَّسولُ)(2)، بفتح لام يقول ورفعها. وقد يكون لاختلاف القراءات في الحركات أو في حروف الكلمات تعلق بالتفسير، من مثل قوله تعالى : (يَصدُّونَ)(3)، بفتح الصاد وكسرها، لأن القراءة بالفتح معناها صدهم لغيرهم عن الإيمان، والقراءة بالكسر معناها صدودهم في أنفسهم، وكلا المعنيين حاصل منهم، ومن مثل قوله تعالى : (كذبُواْ)(4)، بتشديد الذال وتخفيفها، وظاهر من التشديد معنى المبالغة الذي لا يوجد في التخفيف.
__________
(1) سورة الأعراف : آية 156
(2) سورة يوسف : آية 110
(3) سورة البقرة : آية 214
(4) سورة الزخرف : آية 87
(1/2)
ورغم ذلك فلابد من الإشارة إلى أن مزية هذه الوجوه من القراءات عائدة إلى أنها حفظت على العربية ثباتها وخصائصها من كيفيات النطق وبيان اختلاف العرب في لهجاتها من خلال قراء القرآن من الصحابة والتابعين. ومن المعلوم أن الوحي نزل بهذه الوجوه كلها لتكثير المعنى وتوسيعه، وهذا من بلاغة القراءات التي هي من بلاغة القرآن وبيانه، ولذلك كان اختلاف القراءات في اللفظ الواحد من القرآن مجالا لاختلاف المعنى وتعدده، ولم يكن حمل قراءة على أخرى ترجيحا، لأنه إذا صحت القراءتان فلا يجوز ترجيح إحداهما عن الأخرى لأن الكل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله للبلاغ. وقد ثبت اختلاف القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم الوارد في صحيح البخاري، والذي يؤصل للإختلاف القرائي، وفيه أن الصحابيين المذكورين اختلفا في قراءة سورة الفرقان، فاحتكما إلى رسول الله، فصوب كليهما، وحسم الخلاف، مبينا نزول القرآن على سبعة أحرف للتيسير والتوسعة على الناس ورفع الحرج.
(1/3)
ونادرا ما نجد في القراءات القرآنية اختلافا يخلو من تغيير دلالي بل إن الاختلاف بين قراءتين، ولو من الناحية الصوتية، يؤدي غالبا إلى تعدد المعنى وتنوعه، أي إلى خدمة المنطوق من القراءتين, فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى. ولهذا يرى الشيخ الطاهر بن عاشور أن على المفسر أن يكون ملما بالقراءات، وأن يبين اختلافها، لأن في ذلك توفيرا لمعاني الآيات، فيقوم تعداد القراءات مقام تعداد كلمات القرآن(1). فبالقراءات تنكشف معاني الآيات، وبها يترجح بعض الوجوه على بعض، عندما تتفاوت من حيث السند، كما أن بها تعرف وجوه النطق بالحروف والحركات في مخارجها وصفاتها، وتعرف كيفيات الأداء، وما يترتب على ذلك من إعجاز ليس فقط في نظم القرآن ومعانيه، بل في تركيب الألفاظ وحروف الكلمة.
أضف إلى ذلك مزية حفظ اللغة من خلال اختلاف وجوه الأداء، وذلك بالتلقى عن القراء من الصحابة بالأسانيد الصحيحة, وهذا ما يدل على أن للقراءات أهمية كبرى في التفسير، لأنها تمثل سعة وجوهها، كما يدل على أن للقراءات أهمية كبرى في التفسير لأنها تفيد الفقيه في فقه النصوص واستنباط الأحكام. ولهذا رأينا أبا بكر بن مجاهد يهتم كثيرا ببيان أثر القراءات في التفسير، وهو الذي ورد عنه قوله : "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقفه عند كل آية، أسأله فيم نزلت وكيف كانت". وقال :" لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير مما سألت"(2).
__________
(1) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984 : 1/51-56
(2) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأحمد بن عبد الله الأصفهاني : 3/279-280
(1/4)
ومعنى كلام ابن مجاهد هذا أن التفسير يفيد من اختلاف القراءات, وكل قراءة اختلفت مع أختها، ولو في حركة فقط، لا يخلو الاختلاف بينهما من زيادة في الإيضاح واتساع في المعنى، والأمثلة على هذا كثيرة، منها قراءة الحسن البصري : (سَأُوْرِيكُمْ دارَ الْفاسِقينَ)(1)، بواو ساكنة بعد الهمزة، على ما يقتضيه رسم المصحف, وقد نسب أبو حيان قراءة (سأُورِيكُمْ)، بإشباع المد بعد الهمز إلى قبائل الحجاز، بل قال : " وهي أيضا في لغة أهل الأندلس، كأنهم تلقنوها من لغة الحجاز، وبقيت في لسانهم إلى الآن"(2)، ولهذا الرسم الإملائي وجه يحيل على معنى زائد، إذ هو موضع وعيد وإغلاظ، فمكن الصوت فيه.
واختلاف الأصوات هو فرع من اختلاف القراءات، وهو يخدم المعنى، كما يتضح من قراءة الآية السابقة بإسكان الواو بعد الهمز أو بمده. وواضح كذلك أن الاختلاف بين القراءتين، ولو كان صوتيا محضا، له مزيد تعلق بالتفسير، لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد بين المراد من نظيره في قراءة أخرى، أو قد يثير معنى جديدا، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة, ومن ذلك مثلا قراءة الإمام علي وأبي رجاء وابن يعمر وغيرهم (قَدْ شَعَفَها حُبّاً)، بالعين المهملة، وقراءة الجماعة : (قَدْ شَغَفَها)(3)، بالغين المعجمة. ويرى ابن جنى في القراءة بالعين المهملة أن حبه وصل إلى قلبها فكاد يحرقه لحدته، وفي القراءة بالغين المعجمة أنه فرق شغاف قلبها حتى وصل إليه, فالفرق كما ترى دقيق رقيق بينهما، وإن كان المآل واحد(4).
__________
(1) سورة الأعراف: آية 145.
(2) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، دار الفكر، ط2, 1983 : 4/389
(3) سورة يوسف : آية 30
(4) المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات لابن جني، تحقيق علي النجدي وآخرين، القاهرة، 1386 : 1/339
(1/5)
ومن ذلك مثلا ما يؤديه صوت المد من وظيفة بلاغية، كالتعظيم في نحو قوله تعالى : ( لا إلهَ إلا َّالله ُ-لا إلهَ إلا هُوَ -لا إلهَ إلا أَنْتَ)، ويسمى مد المبالغة، قال ابن مهران في كتاب المدات : " إنما سمي مد المبالغة لأنه زيد للمبالغة في نفي الإلهية سوى لله تعالى. قال : وهذا مذهب معروف عند العرب، لأنها تمد عند الدعاء، وعند الاستغاثة، وعند المبالغة في نفي شيء، ويمدون ما لا أصل له بهذه العلة"(1).
وهكذا أيضا بدا من تغيير المبنى تغيير المعنى، وهو ما ينتج من الاختلاف على المستوى الصوتي للقراءة في بلورة المعنى وإيضاحه وتقويته،ولذلك لم تزل العلماء تستنبط من كل حرف يقرأ به القارئ معنى لا يوجد في قراءة الآخر، والقراءات حجة الفقهاء في الاستنباط وحجتهم في الاهتداء إلى سواء الصراط .
ومن القراءات ما كانت إحداهما حاملة لمعنى مغايرا تماما لصاحبتها، وذلك من قبيل التعدد في المعنى أيضا, ولهذا أخطأ من قال في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَّا أُولي الأَلْبابِ)(2)، إنه قصص القرآن، واستدل بقراءة أبي الجوزاء : (ولَكُمْ فِي الْقَصَصِ)، وهو بعيد، بل هذه القراءة أفادت معنى غير معنى القراءة المشهورة.
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل، المكتبة العصرية، بيروت1407-1987 : 1/274
(2) سورة البقرة : آية 179
(1/6)
وهذا ضرب من وجوه إعجاز القرآن، وهو ضرب من الإعجاز الذي حدا ببعض العلماء إلى التساؤل عما إذا قرئت الآية بقراءتين، هل معنى هذا أن الله قال بهما جميعا؟، ثم أورد السيوطي قول أحد هؤلاء العلماء، وهو أبو الليث السمرقندي الذي يحكى رأيين، أحدهما أن الله قال بهما جميعا، والثاني أن الله قال بقراءة واحدة، إلا أنه أذن أن تقرأ بقراءتين، ثم اختار توسطا، وهو أنه إن كان لكل قراءة تفسير يغاير الآخرى، فقد قال بهما جميعا، وتصير القراءتان بمنزلة آيتين، وإن كان تفسيرهما واحدا، فإنما قال بإحداهما، وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة، على ما تعود لسانهم، فإن قيل : "إذا قلتم إنه قال بإحداهما، فأي القراء تين هي ؟ قلنا : التي بلغة قريش"(1). وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن معرفة التفاسير الواردة عن الصحابة بحسب قراءة مخصوصة، ضرورة ملحة، وذلك أنه قد يرد عنهم تفسيران في الآية الواحدة مختلفان، فيظن ظان بأنه اختلاف وليس باختلاف، وإنما كل تفسير على حسب القراءة التي ورد بها.
وقد تعرض السلف من العلماء لذلك، فأخرج ابن جرير في قوله تعالى : (لَقالواْ إِنَّما سُكِّرَتَ أبْصارُنا)(2)، من طرق عن ابن عباس وغيره، أن (سكرت) بمعنى (سدت)، ومن طرق أنها بمعنى (أخذت). ثم أخرج عن قتادة قال : من قرأ (سكِّرت) مشددة، فإنما يعنى (سدت)، ومن قرأ (سكِرت) مخففة، فإنه يعنى (سحرت)، وهذا الجمع من قتادة نفيس بديع.
ومثله قوله تعالى : (سَرابِيلُهُم مِّنْ قَطِرانٍ)(3)، أخرج ابن جرير عن الحسن أن القطران هو الذي تهنأ به الإبل, وأخرج من طرق عنه وعن غيره أنه النحاس المذاب، وليسا بقولين، وإنما الثاني تفسير لقراءة من قرأ (قَطِرٍ آنٍ)، بتنوين (قطر)، وهو النحاس، و(آن) شديد الحر، كما أخرجه ابن أبي حاتم هكذا عن سعيد بن جبير.
__________
(1) الإتقان : 2/226-227
(2) سورة الحجر : آية 15
(3) سورة إبراهيم : آية 50
(1/7)
واعتنى المفسرون الأولون باختلاف القراءات في ألفاظ القرآن لما له من أهمية في توضيح المعنى وبلوغ المراد من كلام الله، ولأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المقصود من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في هذا المعنى : " والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني، إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى، ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزءا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى"(1).
... ولابد للمفسر من توظيف اختلاف القراءات وإلا تخلف التفسير في منهجه عن توفير المعاني في الآي القرآني، لأن تعدد القراءات يقوم مقام تعدد كلمات القرآن، وفي ذلك مزيد من الكشف والبيان.
... ومن المتعارف عليه عند سلف الأمة أن القراء كانوا أهل التفسير وأهل الفتيا، قال ابن خلدون : "إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء"(2).
__________
(1) التحرير والتنوير : ص 55
(2) المقدمة : ص 446
(1/8)
... ولما كان منهج المفسرين يقوم أساسا على بيان الأحكام والمسائل الشرعية المستنبطة من النصوص القرآنية، فإن القراءات أثبتت حضورها في خدمة هذا الهدف العام على الرغم من المواقف الحرجة التي وقفها بعضهم منها، كما فعل الزمخشري والطبري، فذهبوا إلى تخطئة جملة من القراءات لعدم موافقتها للقواعد النحوية، مع أن هذه الأخيرة قد تأخرت في وجودها عن القراءات بزمن ليس باليسير، ومع ذلك فقد بدت حاجتهم إليها ملحة، لأنه لم يكن أمامهم سبيل للوصول إلى بيان المعاني ومعرفة الأحكام غير سبيل الاعتماد على القراءات المفسرة.
... ولقد انساق الزمخشري والطبري ومن لف لفهما في هذه المواقف من القراءات وراء النحاة الذين حملوا كثيرا من وجوه القراءات على الخطأ. ولئن كانت القراءات نزلت في وقت لم يستنشق فيه النحو بعد نسيم الحياة، فإنه يتوجب عليه الخضوع لنصوص القراءات ليستمد منها القاعدة والشاهد على صحة الإعراب والبناء، ولقد وعى النحاة مؤخرا هذا الأمر لما كان من القراء أئمة في اللغة والنحو من أمثال أبي عمرو البصري وحمزة بن حبيب الزيات وعلي بن حمزة الكسائي وغيرهم، ثم بعد ذلك صار النحاة والقراء في طريق واحد هو خدمة النص القرآني.
...
... القراءات واللهجات :
(1/9)
والقراءات لم تخرج عن سنن العرب في كلامها، والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطب الناس بلسان العرب المبين، وفيه الحقيقة والمجاز، فاحتاج إلى التفسير، والتفسير كان في بداية نشأته يدور على ألسنة رجال اللغة، وكانت القراءات الحقل الذي برز فيه العديد من اللغويين، لأنهم هم الذين اشتغلوا بتوجيهها وتوظيفها في مجال التفسير، كما أن الدراسات البلاغية والبيانية والنقدية كانت كلها بين أيدي اللغويين والأدباء من أصحاب البيان, كابن سلام الجمحى وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم. ومعلوم أن اللغة أو علم العربية هو العمود الفقري الذي يقوم عليه علم التفسير, وذلك لأن الله تعالى أنزل كتابه بالعربية، فقال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُّبينٍ)(1)، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ)(2).
ولهذا بذل العلماء القدامى جهودهم في معرفة معاني كلام العرب، وأساليب مخاطباتهم،
وطرق محاوراتهم، وحفظ أشعارهم وخطبهم، وقد حث الصحابة على فعل هذا واستحسنوه، كما كان يصنع عمر بن الخطاب.
ويظهر من هذا أن التفسير القرائي هو نوع من أنواع التفاسير التي وردت عن العلماء بلغة التنزيل، وقد قسم الإمام ولي الله الدهلوي المفسرين إلى أصناف، وذكر منهم تفسير القراء الماهرين، وهم الذين اهتموا برواية القراءات المأثورة عن شيوخهم في القرآن الكريم، ولم يدعوا دقيقا ولا جليلا في هذا الباب إلا جاءوا به.
__________
(1) سورة الشعراء : آية 192
(2) سورة الزخرف : آية 2
(1/10)
ونزول القرآن باللسان العربي منح هذا اللسان حياة أبدية، ولا يعرف تاريخ البشرية لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن، وقد اكتسبت قدسيتها من قدسيته. ومن هذا المنطلق كان لدراسة اللهجات حضور في مجال القراءات المفسرة، لأنها تمثل الواقع اللغوي للعربية بلهجاتها المختلفة والمتنوعة، وقد كان لاختلاف اللهجات دور كبير في اختلاف معاني القراءات. وكل ما وردت به القراءة من الوحي جاز الاحتجاج به في العربية، سواء كان متواترا أم شاذا، ولكن القراءة الشاذة كان لها النصيب الأوفر في مجال الاحتجاج، لأن الناس قد أطبقوا على الاحتجاج بها أكثر من غيرها، ولو خالفت أقيسة العربية المعروفة، فهي قد جاءت منقولة مروية، والرواية تبلغ بها عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنها لم تفرد بالتشذيذ إلا بعد ما خرج ابن مجاهد على الناس بكتاب "السبعة في القراءات".
(1/11)
وليس المعول في هذا الباب على القراءات الصحيحة وحدها، لأنها ليست وحدها التي كان يقرأ بها المسلمون في بداية نزول الوحي. ولعل أول من ذهب إلى توظيف القراءات الشاذة في التفسير هو ابن جني في كتابه "المحتسب"، ولقد ساعده على الاهتمام بالقراءات الشاذة في تبيين وجوه المعاني معرفته الواسعة باللهجات العربية، واستنباطه لأسرار اللغة وتذوقه لطعوم الأساليب البلاغية. ومن فرط اهتمام ابن جني بالقراءات الشاذة كان ينزلها منزلة لا تقل أهمية عن القراءات المجمع عليها، بل إنه يرى أحيانا أنها مساوية في الفصاحة لها، فكان ينتصر للقراءة الشاذة حتى لا يظن ظان أن العدول عنها هو غض منها أو تهمة لها، فكان يقول : "ولسنا نقول ذلك فسحا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءتهم، أو تسويغا عما أقرته الثقات عنهم، لكن غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه، لئلا يُرى مُرىً أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له"(1). وقد اتخذ ابن جني القراءات الشاذة سبيلا إلى بيان فلسفة اللغة العربية، ومن خلال هذه الفلسفة ذهب إلى توجيهها وبيان خدمتها للتفسير.
__________
(1) المحتسب : 1/32-33
(1/12)
ونستطيع القول بأنه لولا القراءات الشاذة لما تمكن الناس من فهم كثير من معاني المفردات القرآنية. وقد استطاع المفسرون منذ ابن عباس أن ينبهوا على أهمية هذا النوع من القراءات في التفسير، كما استطاعوا أن يجدوا في الآثار الأدبية وفي اللهجات العربية وفي طرق التعبير عند العرب ما يعينهم على تفسير القرآن الكريم. والأخبار التي رويت عن ابن عباس تشير إلى ابتكاره للتفسير اللغوي، وهو الذي كان يقول : "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه(1)، وقد كان يستشهد بالشعر على التفسير، ويعزز ذلك بالنظر في لهجات العرب، وروي عنه كثير من ذلك في مسائل نافع بن الأزرق، وهي عبارة عن حلقات لتفسير القرآن بالشعر وبكلام العرب المأثور، كان يقيمها بفناء الكعبة، ويكتنفه الناس يسألونه المسائل(2).
ومن المعروف أن القراء كانوا نحاة، فكما اشتهروا بالضبط والدقة والإتقان في ميدان القراءة اشتهروا كذلك بمعرفتهم الواسعة بالعربية ووجوهها، فكان ابن كثير إمام أهل مكة في الإقراء بدوم منازع، وكان أعلم بالعربية، وعرف عن عاصم أنه جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد، كما عرف عن حمزة أنه كان قيما بكتاب الله مجودا له، عارفا بالفرائض والعربية، وكان الكسائي أعلم الناس بالعربية والقرآن مع الصدق والأمانة والدين. وأما في الثلاثة المتممين للعشرة فكان يعقوب الحضرمي من أعلم الناس بالحروف والاختلاف في القراءات، وعلل هذا الاختلاف ومذاهبه ومذاهب النحو، وأروى الناس لحروف القرآن وحديث الفقهاء، وكان خلف البزار مشتغلا هو الآخر بالنحو إلى جانب اهتمامه الأصلي بالقراءة. فكيف يدعي أحد أن أمثال هؤلاء كانوا يتصرفون في القراءات من غير علم بالعربية ومذاهبها؟.
__________
(1) الإتقان : 2/52.
(2) مسائل نافع بن الأزرق في الإتقان : 2/55-88.
(1/13)
وتعتبر القراءات بجميع أنواعها أكثر أصالة في حياة اللغة العربية، لأنها تمثل لغة الوحي، ولغة مبلغ الوحي صلى الله عليه وسلم، ولغة صحابته من جميع القبائل والبطون. ولقد نزل الوحي بلغة العرب المشتركة حتى ترى فيه كل قبيلة أنها ترتبط بهذا الكتاب العزيز برباط لغوي، مثلما هي مرتبطة برباط عقدي ورباط نفسي، ووراء ذلك كله حكمة الله الذي أحسن كل شيء خلقه.
ووظيفة القراءات في التفسير تنبني على إظهار قيمة الأساليب اللغوية في القرآن الكريم، وقد وقفت على ذلك من خلال تتبعي لجميع القراءات المفسرة بالجمع والإحصاء، وتوصلت من خلال ذلك إلى أن القراءات القرآنية بوسعها وحدها أن تشكل تفسيرا للقرآن يعتمد التحليل والاستقراء، وهو تفسير يغوص في منطوق الآيات ليستخرج منها المعنى العميق والشامل، والذي ينسجم مع أغلب الاتجاهات في التفسير، كما ينسجم مع تأويل أهل العلم بالقرآن.
وأستطيع أن أوجز بأن القراءات القرآنية تقوم في عموم أسلوبها على تغيير في الحركات، وتغيير في الأبنية والصيغ، وتغيير في الألفاظ، وتغيير في الأصوات، وكل هذا يدل على تنوع في الأوجه التي نزل بها القرآن، والتي كان من أهدافها التوسعة على الناس، رحمة بهم في غير تضاد ولا تناقض، بل في تكامل وتناسق تامين، لأن القرآن يشد بعضه بعضا كالبنيان المرصوص، ويتناسق في مضمونه، ويتناغم في أسلوبه، ليجد فيه كا إنسان مبتغاه، وتحقيقا لما أراد الله من أن يصل خطابه إلى العالمين كافة، (وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلا َّكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا)(1).
وفي كل وجه من أوجه القراءة تفسير وبيان، وفي كل تنوع في الأساليب غناء ومزيد توضيح، وفي كل تغيير في الإعمال وفي الاستعمال معنى جديد وتقوية لمعنى سابق.
__________
(1) سورة سبأ : آية 28
(1/14)
والاهتمام بالقراءات القرآنية لتوظيفها في التفسير ضرورة من ضرورات المناهج العلمية في الدراسات القرآنية، والباعث على هذه الضرورة هو تصحيح القراءة وضبط التلاوة، لأن أي تغيير أو لحن في القراءة هو تحريف للفظ القرآني المنزل، ومن ثم فهو تحريف للمعنى، ولذلك كان الحرص على سلامة النطق والأداء يعتبر حرصا على سلامة المعنى وصيانته من كل تحريف.
والاهتمام بالقراءات في التفسير نابع من كونها آثارا رويت في الحروف، وهي التي حملت الأحكام، فهي الآثار المترتبة عن وجوه القراءات واختلافها، مثلها مثل الآثار الصادرة عن الأحكام الفقهية، وهي سنة يأخذ فيها الآخر عن الأول، وقد قام بها رجال أخذوا عن التابعين الذين انتهى إليهم أمرها، وأجمعت العامة والخاصة على قراءاتهم.
(1/15)
والاهتمام بالقراءات المفسرة يستدعي منطقيا الاهتمام باللغة والنحو، والنحاة يقولون : التفسير موافقة العربية، لأن الاهتمام بضبط اللغة والأسلوب، يقصد أساسا إلى ضبط المعنى والدلالة. ولقد بذل النحاة جهودا صادقة وجليلة في خدمة النص القرآني، استطاعت أن تغطي عن المواقف الحرجة والمجرحة للقراء، وأدت في الأخير إلى تحسين العلاقة بين النحاة والقراء، وخاصة بعد تأليف ابن مجاهد لكتابه " السبعة في القراءات"، وتلقي الناس لعمله بالقبول، حيث تغيرت نظرة النحاة تجاه قراءات القراء، وتغير تعاملهم معها نحو الإيجابية والقبول، مما جعلهم يبدأون على سبيل التدريج في تكييف القواعد النحوية مع أوجه القراءات. وقد عادت هذه النظرة من النحاة إلى الأصل الذي نشأت منه علاقة النحو بالقراءة، حيث كانا يسيران في اتجاه واحد، وهو حفظ النص القرآني من اللحنين الجلي والخفي، وتوزعت الأدوار بينهما، فتصدى النحو لمكافحة اللحن الجلي، وهو لحن الإعراب، وتصدت القراءة للحن الخفي، وهو لحن الأداء. وكان الاشتغال بدفع اللحن عن القراءات بنوعيه، هو السبب في ظهور الاحتجاج للقراءات، لأن كثيرا من النحاة، وخاصة البصريين كانوا يتوهمون وجود اللحن في القراءات، مما سوغ لهم الطعن فيها.
(1/16)
ولعل من المزالق التي جعلتهم يردون بعض القراءات، بالرغم من تواترها، كان هو اقتصارهم في وضع مقاييسهم النحوية على ما نزل من القرآن بلغة قريش وحدها دون سائر اللغات التي كانت سائدة إلى جانبها، كما أنهم اقتصروا أيضا على بعض النصوص الشعرية والنثرية التي نمت فيها قواعدهم وترعرعت، في حين تعتبر هذه النصوص في حقيقة الأمر مادة قليلة في نسج قواعد العربية، ولذلك جاءت هذه القواعد في مذهبهم مضطربة، تتعارض مع مقاييس أخرى ونصوص أخرى لم يتيسر لهم الإحاطة بها، فحكموا منطقهم في ذلك على ضوء ما استنبطوه من القواعد، وهو ما لم يسعفهم في كثير من القضايا اللغوية، فتشددوا في قبول القراءات التي لا تخضع لمقاييسهم، ولو كانت متواترة، وهذا خطأ، فقد غاب عن البصريين أن الاحتجاج بالقراءات يرجع بالأساس إلى اختلاف الألفاظ والحروف الذي مرجعه اختلاف اللهجات العربية، وكلها حجة، لكن البصريين أهملوا ذلك ولم يلتفتوا إليه، فخطأوا قراءات متواترة منقولة عن العرب الأقحاح، كابن عامر مقرئ أهل الشام، وحمزة الزيات مقرئ أهل الكوفة، ونافع مقرئ أهل المدينة، ورفضوا بعض قراءاتهم التي لا تتوافق ومقاييسهم في العربية. وهذا ما جعل العلماء ينعون على البصريين ما ذهبوا إليه في تخطئة القراء، لأنه ينبني على أقيسة ناقصة، لا تلزم القراءات أن تجري على موازينها وطرقها، لأنها واردة من أسانيد أقوى من أسانيد النصوص التي جمعها البصريون، ومن ثم رد أبو عمرو الداني على زعمهم بقوله : " وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها"(1).
__________
(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزري، دار الفكر : 1/37
(1/17)
وهذا ما وعاه المازني عندما سأله الأصمعي فقال : "ما تقول في قول الله عز وجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(1)؟، فأجابه المازني وقال : يذهب سيبويه إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية لاشتغال الفعل بالضمير، ولأنه من مواضع الابتداء، فهو كقولك : زيد ضربته، وليس هناك شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبى القراء إلا النصب، والقراءة سنة متبعة"(2). ولعل هذا يدل برمته على أنه لا يوجد في القرآن حرف واحد إلا وله وجه في العربية، لأن القراءة قد تأتي على القليل وعلى المرجوح في الاستعمال العربي، والقراءات كلها لهجات عربية ثابتة، فلا ينبغي أن يخطأ بها القارئ أو يغلط(3).
ولا شك أن هذا كله دليل قاطع على حفظ الله تعالى لكتابه، الذي قال في حقه : (إِنَّا نَحْنُ نضزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظونَ)(4)، ومن حفظه أيضا اعتماده على التلقي المباشر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى حفظ الصدور، فعلى الرغم من تدوين عثمان بن عفان للقرآن في المصحف الإمام، لم يتحول الأساس في تلاوته يوما إلى الاعتماد على المصحف المكتوب، بل ظل الاعتماد على الرواية بالسند الصحيح المتواتر، فكان الأساس دائما يعتمد الرواية عن رسول الله، وقد تلقاه عنه أصحابه شفويا، وعنهم تلقاه التابعون، وتوالى ذلك جيلا بعد جيل، ثم تجرد قوم منذ الصدر الأول في كل مصر من الأمصار لتلاوة القرآن وإقرائه وتعليمه، وضبط ذلك كله والعناية به، بالتلقي الشفوي المتواتر عن رسول الله، فكانت قراءات القرآن سنة يتبع فيها الخالف السالف(5).
__________
(1) سورة القمر : آية49
(2) المحتسب : 2/300
(3) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي : 1/152
(4) سورة الحجر : آية9
(5) السبعة لابن مجاهد : 10-12
(1/18)
ومن نتائج اختلاف القراءات المفسرة، وهو الاختلاف المحمود والمطلوب، ما كان يهدف إليه من مراعاة أذواق المخاطبين، ومراعاة قدراتهم التعبيرية وطاقاتهم البشرية، وقد تحدث خطاب الله تعالى عن عدم تكليف النفس خارج وسعها، ونزل بلغة لا يمتنع امتلاكها عن أحد إلا من أبى، لأنها راعت تباين لغات الناس وتعددها، ووضعته في الحسبان، نزولا عند الحكمة الربانية التي تجعل من اختلاف الألسنة آية من آيات الله. ولم يقتصر اختلاف القراءات على بيان مراد الشرع واستنباط الأحكام، وإنما تعدى ذلك إلى فوائد كثيرة، حيث القراءة عندما تتغاير مع القراءة الأخرى أو نختلف معها، فإن هذا الاختلاف أو التغاير يفيد حكما يعتبر موضوعا يتعلق إما بالعقائد أو بالعبادات ، وقد يتعلق بالتفسير اللغوي من جهة النحو أو الصرف أو البلاغة.
وقد تبين من خلال هذا الاختلاف منزلة القراءات في التفسير، وأنه لا مناص للمفسر من الاعتماد عليها. وتبين كذلك بأن القراءات المفسرة ليست هي القراءات الشاذة أو القراءات المدرجة لهذا الغرض، بل إن التفسير القرائي يوظف جميع أنواع القراءات من متواتر وشاذ وغيره كالمدرج، لغاية الكشف عن وجوه المعاني، واستغلال تعدد القراءات على اختلاف أنواعها لخدمة التفسير. ولهذا الغرض تتبعت القضايا اللغوية والبلاغية في القرآن ، فوجدت نموذجا غنيا بوجوه التفسير، وذلك في اختلاف القراءات في المواطن التالية :
_ اختلاف القراءات من حيث تنوع الحركات.
_ اختلاف القراءات من حيث تنوع الإعراب.
_ اختلاف القراءات من حيث تنوع دلالات حروف المعاني.
_ اختلاف القراءات من حيث الإبدال.
_ اختلاف القراءات من حيث الزيادة والحذف.
_ اختلاف القراءات من حيث التنوين والإضافة .
_ اختلاف القراءات من حيث التذكير والتأنيث.
_ اختلاف القراءات من حيث تنوع أبنية الفعل وأزمنته ومتعلقاته.
_اختلاف القراءات من حيث اختلاف صيغ الإسم ، وتنوع الصفة والمصدر.
(1/19)
_ اختلاف القراءات من حيث الفصل والوصل.
_ اختلاف القراءات من حيث الالتفات.
_ اختلاف القراءات من حيث الترادف.
_ اختلاف القراءات من حيث التقديم والتأخير.
... وقد دل تنوع هذه الوجوه على أن مجيء ألفاظ القرآن على ما تحتمله، هو مما يكثر المعنى ويوسع من مجاله، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزءا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين أو التورية أو التوجيه في استعمالات العرب البلاغية، ولهذا كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يستتبعه اختلاف المعنى. ولهذا أيضا كان لزاما على المفسر أن يبين اختلاف القراءات، لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية، فيقوم تعداد القراءات مقام تعداد كلمات القرآن.
(1/20)
... وتخلص بنا القراءات المفسرة إلى أن القرآن كلام الله تعالى، يفسر بعضه بعضا، لأنه يشهد بعضه لبعض، ويحتج بعضه لبعض. فهو كلام الله المتصف بصفة الربانية، والمنزل على خير البرية، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حكيم، وهو المنسجم في لفظه ومعناه، المتساوق في حروفه وكلماته، لا تعارض بين نصوصه، ولا تناقض في مدلولاته، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرون القُرْآنَ، ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوجَدوا فيهِ اخْتِلافاً كثِيراً)(1)، وهذه حقيقة تنطبق على القرآن في قراءته على حرف أو على أحرف، فإن هذه القراءات جميعا، رغم اختلافها وتعددها، لا تخرج في ذلك إلى الاختلاف الذي يؤدي إلى التناقض أو التضاد، بل إلى الاختلاف الذي يفيد التعدد والتنوع، ومن ثم يفيد التوسعة والتيسير في تعامل المخاطبين مع كلام الله تعالى. وفي هذا يقول ابن عطية في مقدمة تفسيره : " فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة"(2). وليس في قراءات القرآن ما يجري مجرى التضاد والتناقض، ولكن مجرى التغاير الذي لا تضاد فيه، وليس في قراءات القرآن ما تتضارب أحكامه، أو تتناقض معانيه، إنما يزكي بعضه بعضا ويقويه، ويشهد بعضه لبعض ويعضده، وذلك كله يصب في مجال التيسير على العرب في تلاوة القرآن وفي تفهم معانيه، وهذا أهم غرض وأجل حكمة في إنزال القرآن على سبعة أحرف، قال الزركشي : "وكان الإنزال على الأحرف السبعة توسعة من الله ورحمة على الأمة، إذ لو كلف كل فريق منهم ترك لغته، والعدول عن عادة نشأوا عليها من الإمالة والهمز والتليين والمد وغيره لشق عليهم.
__________
(1) سورة النساء : آية 82
(2) المحرر الوجيز : 1/265
(1/21)
ويشهد لذلك ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جبريل، فقال : يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، فقال : يا محمد : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"(1).
ويذهب ابن قتيبة إلى ما ذهب إليه الزركشي، وهو يقول : " فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه عليه السلام بأن يقرأ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول من لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين"(2).
والجدير بالذكر أن هذه الأحرف المتعددة التي نزل القرآن عليها أفادت التيسير في تلاوة القرآن كما أفادته في تنوع المعنى وتوسيعه، لأنها راعت اختلاف اللهجات وعلاقة هذا الاختلاف بنفسية الإنسان العربي وارتباطه به برباط قوي. ولذلك جاء كثير من القراءات متفاوتا في الظواهر الصوتية، كالإظهار والإدغام والروم والإشمام والفتح والإمالة والهمز والتسهيل والتفخيم والترقيق، وإبدال صوت بصوت أو قلبه، ونقصان آخر وزيادته، والتقديم والتأخير، والجمع والإفراد، والمد والقصر، واختلاف الصيغ، وغير ذلك مما يدخل بعضه في فرش الحروف وبعضه في أصول القراءة. وجميع هذه الظواهر التي جاءت بها القراءات القرآنية ساهمت في تفسير كلام الله تعالى، وكلها جرت على ألسنة العرب وتعودتها، وأطبقت عليها، لأنها وافقت طباعهم، وانسجمت مع أذواقهم التعبيرية والفكرية.
__________
(1) البرهان : 1/227
(2) -تأويل مشكل القرآن : 38-40
(1/22)
وهذا ما جعل المفسرين يعتمدون اختلاف القراءات في الكشف عن معاني القرآن وتفسير غريبه، ومن هنا كانت للقراءات بمختلف أنواعها قيمة كبيرة بالنسبة للمفسر، فكان كلما خفي عليه مدلول الآية، أو تعذر عليه الوصول إلى المراد منها، رجع إلى القراءات يلتمس فيها الكشف عن المعنى، ومن ذلك مثلا قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثةِ أَيَّامٍ)(1)، حيث قرأ عبد الله بن مسعود : (فَصِيَامُ ثلاثةِ أَيامٍ مُتَتَابِعاتٍ)، للتوضيح والزيادة في البيان. فهذه قراءة شاذة فسرت قراءة متواترة، ومن أمثلة تفسير قراءة متواترة بأخرى متواترة، قوله تعالى : (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ)(2)، حيث قرأ حمزة والكسائي : (فَتَثَبَّتُواْ)، وكلاهما واجب : أي التبين والتثبت، لا يجوز ترك واحد منهما..
ويبدو واضحا من خلال المثالين السابقين أن التفسير القرائي يأتي من وجهين أساسيين :
أولا : أن توافق القراءة القراءة الأخرى فتؤيدها وتؤكد ما جاءت به.
ثانيا : أن تبين القراءة ما غمض في القراءة الأخرى وانبهم، فتفسره وتوضح المراد منه، وترفع عنه التوهم الذي يمكن أن يعلق به.
ولا يوجد وجه ثالث في هذا المجال، وذلك كأن تناقض القراءة قراءة أخرى، فإن هذا لا وجود له أبدا، لأنه محال في كلام الله تعالى.
__________
(1) سورة البقرة : آية 196
(2) سورة النساء : آية 94
(1/23)
ومما تفضي إليه معرفة القراءات معرفة إعراب القرآن، لأن من فوائده معرفة المعنى، فالإعراب يميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلم. أخرج أبو عبيد عن يحيى بن عتيق قال : " قلت للحسن : يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية، يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته. قال: حسن يا ابن أخي، فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها. وعلى الناظر في كتاب الله تعالى، الكاشف عن أسراره، النظر في الكلمة وصيغتها ومحلها، ككونها مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا، أو في مباديء الكلام، أو في جواب، إلى غير ذلك"(1).
وقد أفضت القراءات إلى معرفة الإعراب وضبطه، لأنها سببت في إثارة جدل كبير وحاد بين النحاة والقراء، وقد جعل النحاة قضية الإعراب قضية عظيمة الشأن، واتخذوها سلاحا لمقاومة كل مخالفة في اللغة، وإن كان الشعراء قد ثاروا عليهم، وتمكنوا من إقرار مخالفاتهم الشعرية التي قعدوا لها باسم الضرورة.
ثم قامت المناقشات الكبيرة بين النحاة والقراء بسبب الإعراب، حتى رمى النحاة القراء بالجهل، وذلك بسبب خروجهم عن قواعدهم وأصول إعرابهم، مع أن القراء يعتمدون النقل، ويؤولون بقراءاتهم إلى العصر الذي لا يشوبه اللحن ولا الخطأ، حيث المعين الصافي العذب للغة القرآن التي بها نزل.
وحسبي من طرق هذا الموضوع في القراءات المفسرة أني فتحت مجالا لما يسمى بالتفسير القرائي، وبينت أهمية هذا النوع من التفسير الذي لم يكد يستغن عنه كتاب في التفسير ولا في الفقه، ولا في معاني القرآن ولا في إعرابه. وإن هذا التفسير القرائي ليدل دلالة واضحة على أن تعلم القرآن وحفظه، والاجتهاد في تحرير النطق به، وإن كان مطلوبا وحسنا، لكن فوقه ما هو أهم منه وأولى وأتم، وهو فهم معانيه, والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه.
__________
(1) الإتقان : 2/260
(1/24)
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله : " وتلاوة القرآن حق تلاوته : أن يشترك فيه اللسان، والعقل، والقلب. فحظ اللسان تصحيح الحروف، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر والانزجار والائتمار. فاللسان يرتل، والعقل ينزجر، والقلب يتعظ"(1).
... ...
بعض المراجع :
- الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب، تحقيق عبد الفتاح شلبي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1379 هـ.
- إبراز المعاني من حرز الأماني للشاطبي، تحقيق إبراهيم عطوة، مطبعةالبابي الحلبي، مصر.
- الاختلاف بين القراءات للبيلي أحمد، دار الجيل، بيروت، ط1، 1408-1988.
- أساس البلاغة للزمخشري، دار الفكر، بيروت.
- أسرار البلاغة للجرجاني، تحقيق هـ . ريتز، مطبعة المعارف، إستامبول، 1954.
- إعجاز القرآن للباقلاني، تحقيق أحمد صقر، دار المعارف بمصر ، 1954.
- إعراب القراءات السبع لابن خالويه، تحقيق العثيمين عبدالرحمن، دار الخانجي بمصر
- البرهان في علونذم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبي الفضل، دار الفكر، ط3, 1400.
- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، تحقيق أحمد صقر، المكتبة العلمية، ط3, 1403.
- التبيان في إعراب القرآن للعكبري، تحقيق محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط2, 1407.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، دار الكتب، ط3, 1386.
- حجة القراءات لأبي زرعة، تحقيق سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979.
- الخصائص لابن جني، تحقيق عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1, 1406.
- جامع البيان للطبري، تحقيق محمود شاكر، دار المعارف بالقاهرة.
- السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط2, 1400.
- الصاحبي لابن فارس، تحقيق أحمد صقر، مطبعة البابي الحلبي . ... ... ... ... ... ... ...
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر البشر بالقراءات الأربعة عشر لأحمد البنا الدمياطي، تحقيق محمد إسماعيل شعبان، عالم الكتب، بيروت، ومكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، ط 1 ، 1998 : 1/97-98.
(1/25)
الجديدة، في 10 ذي القعدة 1422
... ... ... ... ... ...
... ... ... ... د . عبد الهادي دحاني
... ... ... ... ... كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
... ... ... ... ... 229، حي القدس، الجديدة 24000 – المغرب.
... ... ... ... ... adahhany@hotmail.com
(1/26)