الغلو
وأثره في الانحرافات العقدية والمنهجية
عند الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العراقي الأثري
قال أبن طاهر المقدسي الحافظ : سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول : (( عُرِضتُ على السيفِ خمس مرات ، لا يقال لي : ارجع عن مذهبك لكن يقال لي : أسكت عمن خالفك ، فأقول : لا أسكت 000 )) .
[ (الآداب الشرعية) (1/207) لأبن مفلح المقدسي الحنبلي ].
وقال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري 12 / 301 )) : (( إنَّ قتال الخوارج أولى من قتال المشركين ، والحكمة فيه أنَّ في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام ، وفي قتال أهل الشرك طلب للربح ، وحفظ رأس المال أولى .... ))
قال محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله : (( أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ بالشّر ناجمُها ، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمُها ، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها ، إنّ هذه الأحزاب! كالميزاب ؛ جمع الماء كَدَراً ، وفرّقه هَدَراً ، فلا الزُّلال جمع ، ولا الأرض نفع ! )). [ مدارك النظر : 5 للشيخ عبد المالك الرمضاني ] . ... ... ...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
{
__________
(1) 1 ) سورة آل عمران : 102.(1/1)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (2).
أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلام الله ، وخيرَ الهدي هدي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
وبعد :
فإنَّ الناظر في مسيرة الفرق ، والأحزاب ، والجماعات الإسلامية يرى بجلاء ووضوح أنها تتميز بعدة انحرافات سواء كانت عقدية أو منهجية أو مسلكية حتى صارت بعض هذه الانحرافات سمة مميزة لهذه الفرقة أو تلك .
فبعضهم تميز بالغلو والأخر تميز بالجفاء ، ومن ثّم وجدت الشركيات والبدعيات طريقها إلى هذه الفرقة أو تلك ، لذا سنشير هنا إلى أهم وأبرز مظاهر الانحراف عند هذه الفرق والأحزاب وهو الغلو لسببين أثنين هما :
الأول : لأنَّ الغلو يمثل بشقيه ( الإفراط والتفريط ) العامل المشترك عند جميع هذه الفرق والأحزاب والجماعات وسمة مميزة لهم .
الثاني : لأنَّ الغلو سبب من أسباب بدء الخلاف ثم الإختلاف ثم الإفتراق .
ورغبة منا في كشف آثار ومساوئ وحقيقة الغلو وما نتج عنه من بدعة الطائفية والحزبية الضالة المضلة ، والتي ما زالت الأمة الإسلامية تعاني من ويلاتها ومحنها الشيء الكثير ، لذا جاءت هذه الرسالة والتي أسميتها (( الغلو وأثره في الإنحرافات العقدية والمنهجية عند الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية )) .
__________
(1) 2 ) سورة النساء : 1.
(2) 3 ) سورة الأحزاب : 71.(1/2)
حيث جعلتها مرتبة على عدة مباحث مرتبطة بعضها ببعض ، ومتدرجة حيث بني كل على ما سبقه ، لتكون ضوءاً مسلطاً على الغلو وأثره السيء عند هذه الفرق والأحزاب والجماعات بعد أن ظهر لكل ذي عينين أثرها السيء على الإسلام ، لاسيما في هذا الزمان الذي يشهد على واقع مؤلم يعيشه المسلمون حيث لا دولة ولا أمن ولا تمكين .
خاصة بعد أن أغتر الكثير من الشباب المسلم بهذه الأحزاب والجماعات ، وكأنه قد صار ملزماً بإتباع طائفة أو حزب أو جماعة ، كما أن الغلو قد ظهر فيه بأبشع صوره وأقبحها فوجب الإنذار والتحذير .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول و العمل ، وأن يجعل كل أعمالنا لوجهه خالصة ، إنه نعم المولى و نعم النصير ، وصلِّ اللهم على رسولك وعبدك ، وعلى آله وصحبه و سلم .
وكتبه ... ... أبو سيف العبيدي الأثري
ليلة التاسع من ذي الحجة / 1427 هـ
الباب الأول
وتحته :
الفصل الأول : الجزيرة العربية قبل وبعد مجيء الإسلام
الفصل الثاني : وجاءت القاصمة
الفصل الثالث : أصول البدع
الفصل الأول
الجزيرة العربية قبل وبعد مجيء الإسلام
لقد بُعث رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) والجزيرة العربية تموج بالقوميات و العصبيات ، فكل قبيلة تقدم ولائها ، و تحصر إنتمائها ، و تخص بنصرتها أفراد تلك القبيلة ، حتى قال قائلهم :
وهل أنا إلا من غزية أنْ غوت غويت و إن ترشد غزية أرشد(1)
يؤيد بعضهم بعضا ًعلى ما يريد سواء كان حقاً أو باطلاً ، و ينصر بعضهم بعضاً فيما يهوى سواء كان محقاً أو مبطلاً .
__________
(1) 4 ) و قال آخر :
لا يسألون أخاهم حين يسألهم في النائبات على ما قال برهان .(1/3)
فلما جاء الإسلام أمر بالوحدة والالتئام ، ومنع التفرق والانقسام ، لأنَّ التفرق والانقسام يؤدي إلى التصدع ، و الانفصام ، لذلك فهو يرفض التحزب ، و الانشطار في قلب الأمة المحمدية الواحدة ، التي تدين لربها بالوحدانية ، ولنبيها بالمتابعة ، شأنها شأن الأمم الماضية في الرسالات السابقة ...... والدليل قوله جل و علا { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }(1).
...... وقوله (( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) أي : وصى جميع الأنبياء على الائتلاف والجماعة ونهاهم عن الإفتراق والاختلاف ..... ومن هنا نعلم أنَّ هذين الأصلين أتفقت عليهما جميع الشرائع و أمر بهما جميع الرسل من لدن أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى أخرهم محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهذان الأصلان هما :
أولاً : توحيد الله عز وجل وهو أفراد الله بالعبادة دون سواه .
__________
(1) 5 ) سورة الشورى : 13 .(1/4)
ثانياً : الحرص على وحدة الأمة و عدم التفرق في الدين بإقامة أسباب الائتلاف وترك أسباب الإختلاف ، و لهذا ذم الله عز و جل الفُرقة في غير آية من كتابه عز و جل كقوله تعالى { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ }(1)، و قوله تعالى { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }(2)، وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون } َ(3)، وقوله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }(4).
وقد أخبر الله عز وجل في الآية الأولى من هاتين الآيتين أنَّ وحدة الأمة من العمل الصالح الذي أمرت به الرسل في الآية التي قبلها ، حيث يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }(5)، { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } .
فيستفاد من الثلاث الآيات معاً :
أنَّ العمل الصالح الذي أمرت به الرسل جميعاً ينبني على أمرين أثنين :
أولاً : توحيد الإله .
ثانياً : وحدة الأمة .
فأما توحيد الإله فحقيقته أن تصرف العبادة إلى الواحد الأحد ، خالق هذا الكون و المتصرف فيه .
__________
(1) 6 ) سورة البينة : 4 .
(2) 7 ) سورة الشورى : 14 .
(3) 8 ) سورة الأنعام : 159 .
(4) 9 ) سورة الأنبياء : 92 .
(5) 10 ) سورة المؤمنون : 51 .(1/5)
و أما وحدة الأمة فحقيقتها أن يعبد الله بما شرعت الرسل عقيدة و عبادة وان تكون الأمة كلها كذلك ، ربها واحد ، ودينها وعقيدتها واحدة ، ونبيها واحد وهو الإمام الذي يسيرون على شريعته ، وهدفها واحد وهو إعلاء كلمة الله في أنفسهم وفي غيرهم ، وغايتها واحدة وهو الحصول على رضا الله والجنة والنجاة من سخطه والنار .
ولكن الأمم فعلوا غير ما أُمروا به فتفرقوا قِطعاً وتشتتوا شيعاً ، وكانوا أحزاباً متعادين ، وفرقاً متباغضين ، كل حزب بما لديهم فرحون ...))(1).
وهذه التعددات القبلية والعصبيات الجاهلية كانت من أولويات الإسلام الذي سعى في علاجها ، وفي توفير المناخ الملائم لنشأتها نشأة جديدة ، حيث سعى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بنقلها (( إلى وحدة الدولة الإسلامية ، تحت لواء الإسلام ، عليه يعقد الولاء و البراء ، وتحت سلطة شرعية عامة واحدة ، ذات شوكة و منعة ، تعقد لها البيعة ، و يدان لها بالسمع و الطاعة ، فلا يجوز لمسلم أن يبيت ليلته إلا وفي رقبته البيعة لها .
وعليه ذابت تلك الروابط ، و تصدعت العصبية القبلية ، وسدَّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) المنافذ الموصلة إليها ، وبقي الرابط الوثيق لواء التوحيد ، فعليه يُعقد الولاء والبراء ، والتعاون ، والإخاء .
ولهذا لما قال أحد الصحابة _ رضي الله عنهم _ وهم في غزوة بني المصطلق : يا للمهاجرين ! وقال الآخر يا للأنصار ! صرخ بهم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قائلاً : (( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، دعوها فإنها منتنة )) [ متفق عليه ] .
__________
(1) 11 ) (( المورد العذب الزلال فيما أنتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال : 86 ))، للشيخ أحمد بن يحيى النجمي .(1/6)
وهكذا كلما بدا مظهر من مظاهر التحزب والعصبية كبته النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى لحق بالرفيق الأعلى ، ولا حزبية ولا طائفية ، كل مسلم يحتضن كل الإسلام ، ويحتضن جميع المسلمين ))(1)أ . هـ
وبهذا نعلم عظمة الدور الذي لعبه الإسلام في جمع الفرقاء وتوحيد كلمتهم تحت خيمة الإسلام ، والتأليف بين قلوبهم بعد أن أكلتهم الحروب ومزقتهم الضغائن ، وخير مثال على ذلك ما كان بين الأوس والخزرج من حروب ووقائع كان آخرها ((يوم بُعاث )) الذي كان قريب العهد من مقدم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى المدينة ، وحلول الإسلام في ربوعها.
قال تعالى { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران : 103] .
قال أبن كثير : (( وقوله تعالى : {واذكروا نعمة اللّه عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء اللّه بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال اللّه ، متواصلين في ذات اللّه ؛ متعاونين على البر والتقوى ، قال اللّه تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم} ))(2).
الفصل الثاني
وجاءت القاصمة
__________
(1) 12 ) حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية : 21 ، للشيخ بكر أبي زيد
(2) 13 ) تفسير القرآن العظيم لأبن كثير : 1 / 390 .(1/7)
وجاءت القاصمة وتفرقت الأمة وتباغضت وتنافرت القلوب ، ونسي الناس ما أمرهم الله سبحانه و تعالى به من الاعتصام بحبله والاجتماع عليه ، فأصابهم ما أصاب الأمم السابقة ، وحلَّت العداوة والبغضاء محل الألفة والمودة ، قال تعالى { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة : 14] .
ومن المعلوم أنَّ أمر الاختلاف ، و الافتراق أمر مفروغ منه ، وهو أمر كوني قدري أراده الله سبحانه وتعالى قدراً لحكمة علمها الله سبحانه ، ولكنه لم يرده شرعاً(1)، بدليل أنه نهى عنه ، وحذَّر منه وتوعد أصحابه بالخسارة والهلاك والنار .
قال الدكتور ناصر العقل : (( هذه المسألة محسومة(2)بأمور :
__________
(1) إرادة الله : تنقسم إلى قسمين : شرعية ، وكونية ، والفرق بينهما :
أولاً: من حيث المتعلق ، فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ، سواء وقع أو لم يقع ، وأما الكونية : فتتعلق بما يقع ، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
ثانياً: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد، فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية، فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } [النساء: 27] هذه إرادة شرعية، لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة. وقوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } [هود: 34] هذه كونية، لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً، فقد يريده . .[ أنظر : القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 / 164 ] للإمام محمد بن صالح العثيمين _ رحمه الله تعالى _ .
(2) 15 ) لأنَّ الذي لا ينطق عن الهوى قد أخبر به .(1/8)
أولها : الأخبار المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوع الافتراق في هذه الأمة ، ومن ذلك حديث الافتراق : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة )) ، هذا حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - مشهور ، وقد رواه جمع من الصحابة ، وخرَّجه الأئمة العدول ، الحفاظ في السنن ، كالإمام احمد ، وكأبي داود ، و الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وأبن حبان ، وأبي يعلى الموصلي ، وأبن أبي عاصم ، وأبن بطة ، و الآجري ، و الدارمي ، و اللالكائي . كما صححه جمع من أهل العلم كالترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والسيوطي ، والشاطبي ، وأيضًا للحديث طرق حسنة كثيرة ، بمجموعها تصل إلى حد القول بصحته .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخبر آخر أن الأمة ستتبع الأمم السابقة ، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن ، وهو حديث : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه )) ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟! قال : (( فمن )) (1) ؟!
__________
(1) أخرجه البخاري ، فتح الباري ، 13/300 . ومسلم ، رقم (2669) .(1/9)
وهذا الحديث أيضًا فسر بما يدل على أن المراد التشبه بنصوص وألفاظ كثيرة ، مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( حذو القذة بالقذة )) ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر - على سبيل التحذير - أن الأمة ستقع في الافتراق حتمًا ، وأن وقوعها أمر واقع تبتلى به هذه الأمة ، وليس وقوع الافتراق ذمًا إلا للمفترقين ، وليس هو ذمًا على الإسلام ، ولا انتقاصًا ، ولا ذمًا لأهل السنة والجماعة وأهل الحق ، إنما هو ذم للمفترقين . والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعة ، بل أهل السنة هم الباقون على الأصل ، وهم الباقون على الإسلام ، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس ، إلى قيام الساعة .
إذًا فالافتراق واقع حتمًا ، وهو خبر صادق حتى لو لم يشهد به الواقع ، وتشهد به العقول ، فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق وألفاظ عديدة ، لذلك ورد التحذير منه ، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع .
الثالث : والنصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من إتباع السبل وهي الأهواء والفرق من ذلك قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تتفرقوا } [ آل عمران : 103 ] ، وقال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات } [ آل عمران: 105 ] ، وقال تعالى : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى: 13 ]، وقوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .(1/10)
وقد شرح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات شرحًا بينًا مفصلاً ، بأن خطَّ خطًا طويلاً - مستقيمًا - ثم خط خطوطًا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه ، فبيَّن أن هذا صراط الله ، وهذه السبل هي الجواد التي تخرج عن السبيل الأساسية ، وأنه سيكون على سبل الهلاك دعاة يدعون إلى سبل الشيطان فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة .
رابعًا : وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [ الأنفال : 46 ] ، والتنازع قد وقع في طوائف هذه الأمة ، وافترقت به الفرق .
خامسًا : كذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين ، قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا } [ النساء : 115 ] ، وقد حصلت المشاقة لله ولرسوله واتباع غير سبيل المؤمنين من أهل النفاق والشقاق والافتراق ، نسأل الله العافية .
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة .
سادسًا : كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب أحكامًا على المفارقة بدليل أنها ستقع ، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )) (1) .
__________
(1) متفق عليه ، البخاري ، 4/317 . ومسلم ، 5/106 .(1/11)
سابعًا : وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالافتراق في هذه الأمة ، حين أخبر عن الخوارج ، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة ، وأنهم يمرقون من الدين ، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة بالكلية ، إنما المروق قد يعني الخروج من أصل الإسلام ، أو عن حدوده ، أو بعض ذلك ، والخروج يكون بالكفر ، أو ما دون الكفر ، وقد يعني الخروج من أمة الإسلام وهي جماعته ، أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة .
ثامنًا : والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل المفارق للجماعة ، كما مر في الحديث السابق ، وهذا تشريع في أمر لابد حاصل ، إذ لا يكون تشريع النبي - صلى الله عليه وسلم - ترفًا أو افتراضًا .
تاسعًا : كذلك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة جاهلية (1) ، وأن الفُرقة عذاب ، وأن الشذوذ هلكة ، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة ، والتحذير منها لم يكن عبثًا ، إنما لأنها ستقع ابتلاءً ولا تقع إلا والناس على بصيرة ، يعرفون الحق وهو الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، والباحثون عن الحق يميزون بين الحق والباطل ، فمن أهتدى ، أهتدى على بصيرة ، ومن ضل بعد ذلك ضل على علم ، نسأل الله العافية من الضلالة .
وبعد : فإن هذه الأدلة القاطعة على صحة حدوث الافتراق في الأمة ، ابتلاءً وفتنة وأنه من سنن الله التي لا تتبدل ، وأن الافتراق كله مذموم ، وعلى المسلم أن يعرفه ، ويعرف أهله ، فيجنب مواطن الزلل ))(2).
__________
(1) جاء ذلك في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ، وسبق تخريجه .
(2) 19 ) الافتراق مفهومه أسبابه وسبل الوقاية منه : 12 ، للشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل(1/12)
وطالما أنَّ الاختلاف والافتراق واقع لا محالة لإخبار النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بذلك ، وشهود الواقع بهذا !! فهل يعني هذا أنه يجوز لنا أن نركن إلى هذا الواقع المرير ويختار كل واحد منا حزباً يتحزب به و ينتمي إليها ، و طائفة يتقوقع فيها ؟!! بحجة أنَّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أخبر بذلك !!
الجواب : لا , فليس هذا هو مراد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من أخباره بحديث الافتراق ، ولا يدل عليه لا من قريب ولا من بعيد ، وإنما مراده ( - صلى الله عليه وسلم - ) تحذير أمته من إتباع سبيل الهالكين من الأمم السابقة وسلوك مسالك الإختلاف والافتراق الوعرة .
بدليل التهديد والوعيد الشديدين لمن يتبع طريقاً غير طريق النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وطريق أصحابه ( رضوان الله عليهم ) ، قال تعالى { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء : 115] .
فإذا كان الأمر على هذا النحو من الأهمية والخطورة فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الفرقة الناجية من بين هذا الكم الهائل من الفرق الهالكة ، كالذي أيقن أنَّ العمر محدود وإذا جاء الأجل فإنه لا يقدم ولا يؤخر ، ولكنه في الوقت نفسه عليه البحث عن أسباب النجاة إن أُصيب بخطر يهدد حياته .
إذن مراد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من إخباره بافتراق أمته تحذير ووعيد من الاختلاف والافتراق ووجوب اعتزال تلك الفرق والأحزاب عند وقوعها وعدم وجود جماعة للمسلمين تجمعهم ، وأمام يقودهم ، بدليل حديث حذيفة بن اليمان ( رضي الله عنهما ) .
فعن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .(1/13)
فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟
قال : (( نعم )) .
قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ .
قال : (( نعم ، وفيه دخن )) .
قلت : وما دخنه ؟
قال : (( قوم يهدون بغير هدي ، تعرف منهم وتنكر )) .
قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال : (( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها )). قلت : يا رسول الله، صفهم لنا ؟ .
فقال : ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا )) .
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ .
قال : (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) .
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ .
قال : (( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ))(1).
ولكن هيهات !! فبالرغم من كل تلك التحذيرات النبوية الواضحة لكن أبى الناس إلا الانحراف والميل عن صراط الله المستقيم ، حيث أنهم قد ركبوا كل صعب وذلول وأمتطوا حصان الفتنة ، بعد أن ركبوا رؤوسهم وأصموا آذانهم حتى لا يسمعوا نصيحة ناصح أو موعظة واعظ .
ومن أشد الظواهر قبحاً وأعظمها انحرافاً وتيهاً ظهور أحزاب ألبسها أصحابها لباس الإسلام وأطلقوا عليها أسماء الإسلام ، وراحوا يهدمون الإسلام بمعول الإسلام .
قال علي بن حسن أبو لوز : (( ومن الظواهر التي عمَّت وطمَّت في هذه الأزمنة ظاهرة الحزبية ، فهي ظاهرة وفتنة لأنها فتنت الكثير من شباب الأمة حتى صار الواحد منهم يوالي ويعادي لحزبه ويهتف باسم حزبه ويدافع عن حزبه ... إلخ والله المستعان .
__________
(1) 20 ) رواه البخاري ( 1 / 615 فتح ) ومسلم ( 1847 ).(1/14)
إنَّ التحزبات والتجمعات ذات المناهج المخالفة للكتاب والسنة مرفوضة في الإسلام ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يبيح التحزب ( ، بل إنَّ في الكتاب والسنة ما يذم ذلك ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام : 159] .
وقال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم : 32] ))(1)
__________
(1) 21 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 199 .
() الحزب ـ كما عرفه أهل العلم ـ هو كل جماعة لها رأس ، سواء قلة أم كثرت ، توالي وتعادي على أساس الحزب وتنتصر لارادته ومقرراته . ومن المعلوم أن كلمة الحزب لم تحرم لذاتها وإنما يحرم ما يندرج تحتها من مضمون ، ولهذا نرى أن الله تعالى قد قسَّم الناس إلى حزبين أثنين لا ثالث لهما :
الأول : سماه بحزب الله وهم ممن تحزبوا واجتمعوا على ما يرضي الله تعالى ، حيث أكد سبحانه على نصرهم وغلبتهم في الدنيا فقال تعالى َ { مَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة : 56] ، وأكد على فلاحهم في الآخرة فقال تعالى { َلا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 22]
الحزب الثاني : حزب الشيطان وهم ممن تحزبوا واجتمعوا على ما لا يرضي الله تعالى حيث أكد تعالى على خسارتهم وعدم فلاحهم في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى { أسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة : 19] .(1/15)
أ.هـ
أقول : لم يبقَ لهؤلاء للذين أصابتهم بذرة الطائفية والحزبية المقيتة ووقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة وانحرفوا عن سواء السبيل إلا أن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أو هي درة عمر تهوي فوق رؤوسهم الخاوية ، أو هو سيف أبي بكر وعلى الباغي تدور الدوائر ، وما ربك بظلَّام للعبيد .
الفصل الثالث
أصول البدع
ويمكن أن نقسم أصول البدع التي ظهرت بعد عصر النبوة المبارك من حيث البدعة ومن أبتدعها إلى شقين أثنين :
الشق الأول : رؤوس أهل البدع :
وهم الذين ابتدعوا من المقالات الضالة الشيء الكثير وأدخلوها في دين الله حتى صارت عند الكثيرين من المُسَلمات التي لا يجوز التعدي عليها وتجاوزها ، وبالتالي نسبت هذه المقالات لتلك الرؤوس وصارت تعرف بهم ويعرفون بها كالجهمية نسبة للجهم بن صفوان والأشعرية نسبة لأبي الحسن الأشعري .
الشق الثاني : ظهور والفرق والأحزاب والجماعات :
فمن المعلوم أن هذه المقالات التي ابتدعت من قِبَل أولئك الأشخاص قد تلقفها الكثير من الناس ممن أبت نفوسهم من فَهم أصول الإسلام فهماً دقيقاً يتجنبون من خلاله مواطن الخطأ والزلل ، أو ممن أضرهم الإسلام بعدله فأخفوا في صدورهم ما استطاعوا فيما بعد من ترجمته إلى بدع وشبه إنطلت على الكثير من السذج ، وانتشرت انتشار النار في الهشيم ، ومن ثَم افترق الناس إزاءها وكثر النزاع حولها واشتد الخلاف بشأنها مما أدى بالتالي إلى نشأت الفرق وتكوينها والتي استندت في وجودها واستمرارها على هذه المقالة أو تلك وصيروا أصحاب تلك المقالات رؤوساً لهم يقولون فيسمعون ويلأمرون فيطاعون ، فعمت بذلك البلوى وكثرت المحن نسأل الله تعالى العافية من الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن .
المبحث الأول
نماذج لرؤوس أهل البدع(1/16)
امتدادًا للحديث عن تاريخ الافتراق ، فمن المناسب أن نشير إلى أصول البدع ، أي الرؤوس التي انبثقت منها الفرق ، ثم انبثق عنها الافتراق ، وأقصد بذلك الأشخاص الذين تولوا كبرهم وصاروا أئمة ضلالة إلى يوم القيامة ، وبعدهم انفتح باب الافتراق ، وكثر المضللون ، فأذكر منهم :
1- أول أولئك : أبن السوداء ، وهو أبن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام ، وأتباعه وأشياعه ، وقد بدأت مقولاته سنة (34هـ) تقريبًا ، وهذا يجمع بين بدعة الخوارج وبدعة الشيعة .
2- ثم بعد ذلك أظهر معبد الجهني (ت 80هـ) بدعة القول بالقدر سنة : (64هـ) تقريبًا ، حيث أنكر علم الله السابق وتقديره لأفعال العباد ، وقال بها على نحو معلن ، وصار له أثر وأتباع ، لكن بدعته وجدت مقاومة شديدة من السلف آنذاك وعلى رأسهم متأخرو الصحابة كأبن عمر .
3- ثم جاء بعده غيلان الدمشقي ، وقد تولى كبره في إثارة كثير من القضايا حول القدر - قبل سنة 98هـ - وأيضًا حول التأويل والتعطيل لبعض أسماء الله وصفاته والإرجاء ، فتصدى له السلف . وممن جادل غيلان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، وقد أقام عليه الحجة ، فالتزم الصمت حتى مات عمر ، ثم نكص على عقبيه ، وهذه سمة غالبة في أهل الافتراق والأهواء ، أي أنهم لا يتوبون ، ولو انقطعت حجة أحدهم حاد ونكص ، وغيلان قتل سنة (105هـ) بعدما استتيب ولم يتب .(1/17)
4- ثم جاء بعده الجعد بن درهم المقتول سنة (124هـ) فتوسع في هذه المقولات ، وجمع بين مقولات القدرية ومقولات المعطلة والمؤولة ، وأثار الشبهات بين المسلمين ، حتى انبرى له كثير من السلف ، واستتابوه ، ولم يتب ، وجادلوه وأقاموا عليه الحجة ، فلم يرجع ، فلما افتتن به الناس ، حكموا بضرورة قتله درءًا للفتنة ، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة حينما قال بعد خطبته في عيد الأضحى : ( ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليمًا ... إلخ ) من المقولات ، ثم نزل من المنبر وقتله سنة (124هـ) .
5- وبعد ذلك انطفأت الفتنة بعض الوقت ، حتى ظهرت على يد الجهم بن صفوان ، الذي جمع بين مساوئ الأولين وضلالاتهم وزاد عليها ، وخرجت عنه بدعة الجهمية ، وبدع الجهمية ومقولاتها ، وانحرافاتها كفريات ، وقد قال الجهم بأكثر مقولات غيلان والجعد ، وزاد عليها بالتعطيل والتأويل والإرجاء والجبر وإنكار الكلام والاستواء والعلو والرؤية ، وقتل حدًا سنة (128هـ) .
6- وظهر في وقته واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وقد وضعا أصول المعتزلة القدرية .
ثم انفتح باب الافتراق ، فبدأت الرافضة تعلن عقائدها وانقسمت إلى فرق كثيرة ، وظهرت المشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي ، وهشام بن الحكم ، وهشام الجواليقي ، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل ، وهم رافضة ، ثم جاء المتكلمون من الكلابية والأشعرية والماتريدية ، ثم المتصوفة والفلاسفة ، فانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضالٍ ومبتدع ومتبع للهوى ، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين .
فلا تزال أصول الفرق بين المسلمين باقية حتى يومنا هذا ، بل تتجدد بدع وحوادث تضيف إلى الافتراق افتراقًا جديدًا بحسب أهواء الناس وتمرُّسهم في البدع والضلالات .(1/18)
ويدعي بعض الناس عن جهل ، أو تجاهل أن الفرق أنقرضت ، وصارت مطمورة في أحداث التاريخ ، وركام التراث !! وهذه مغالطة ، فكل الفرق القديمة الكبرى والخطيرة لا تزال موجودة بين ظهراني المسلمين ، بل وتزيد كثرة وخطورة وانحرافًا ، فالرافضة وفرقها الباطلة ، وبقية فرق الشيعة ، والخوارج ، والقدرية ، والمعتزلة ، والجهمية ، وأهل الكلام ، والمتصوفة ، والفلاسفة ، كلها لا تزال تنخر بأسلوب أنكى على الأمة من أي وقت مضى ، لما تدعيه من التعالم والثقافة والفكر ، ولقلة فقه أكثر المسلمين في الدين وجهلهم بالعقيدة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ))(1).
المبحث الثاني
نماذج للفرق والأحزاب الضالة
سواء كانت سياسية لبست لبوس الإسلام ، أو عقدية أحدثت في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً ، أو عسكرية سارت في درب المواجهة والعنف أو حزبية سارت في دهاليز السياسة وسايرت أهلها الخ هذه الفرق والأحزاب مما كان ويكون ، وحتى نفهم حقيقة هذه الفرق والأحزاب ، فلا بد لنا أن نعرفها من خلال معرفة أصولها التي بنيت عليها ، وبالتالي حتى يمكن تجنبها والحذر منها .
أقول : ولهذا يمكن أن نقسم هذه الفرق والأحزاب والجماعات من حيث الظهور إلى قسمين ، وإليك البيان :
أولاً : فرق قديمة الظهور : فهي قديمة في ظهورها وتكوينها ، حيث يمكن القول فيها أنها تمتد منذ أواخر القرن الأول الهجري إلى وقت قريب من سقوط الدولة العثمانية ،حيث بدأت معطيات المرحلة الثانية تلوح بالأفق .
ومن الفائدة بمكان القول : إننا عندما نقول بقدم هذه الفرق والأحزاب فإن هذا لا يعني أنها قد انتهت وانقرضت وولى عهدها ، لا ، بل ما زال البعض منها لها وجود وحضور بأفكاره وأصوله والتفاف الكثير من أبناء المسلمين من حوله .
__________
(1) 22 ) الافتراق مفهومه أسبابه : 20 .(1/19)
ولكننا لما رأينا أن الفرق والأحزاب والتكتلات المعاصرة بأفكارها ومعتقداتها الوافدة وما نتج عنها من إفرازات ونتائج جديدة على المسلمين وعقيدتهم وتمثل إنقلاباً حقيقياً وخطيراً في مجتمعاتهم لجأنا إلى هذا التقسيم والتفريق في سبيل تصور الحال وتقريب فكرة الموضوع وتوضيحها وكذلك التنبيه على مخاطر هذه المرحلة وما تنذر به من شرر وخطر .
ومن أبرز فرق وأحزاب هذه المرحلة هي :
1 ) الخوارج : هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخرجوا على الأمة الإسلامية . ولذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية .وهم من أوائل الفرق خروجًا ، ويقال لهم : الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة ، وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة )) .
وهم يستحلون قتل المسلمين ويجعلون ديارهم ديار حرب ، وهم يكفرون أهل التحكيم كعلي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم ، وينكرون الأخذ بالسنة ، فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار ، وينكرون الشفاعة في الآخرة ، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية ، فينكرون الرؤية ، ويقولون : إن القرآن مخلوق ، ويحرفون سائر الصفات ، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة ، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية ، فإنهم هم الخوارج ، والله أعلم(1)
__________
(1) 23 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 474 س : 365 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان .(1/20)
2 ) الجهمية : هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم ، وهو الذي أذاعها ونشرها ، فنسبت الفرقة إليه ، وقتل الجهم في خراسان سنة 128هـ ، وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق .
ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة ، بل هم رؤوس المعطلة .
ومذهبهم في أفعال العباد الجبر ، أي أن العبد مجبور على فعله ، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار ، فهم في باب القدر جبرية .
ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء ، أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك ، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة .
ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة ؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر ، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ، ويعني به إجماع المتأخرين ، والله أعلم(1).
3 ) المعتزلة : هم أتباع واصل بن عطاء ، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني ، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية وسموا بذلك : لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة ، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب ، فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره ، فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة ، لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث .
ومذهبهم : مبني على خمسة أصول وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة :
__________
(1) 24 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 473 س 395 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان .(1/21)
الأصل الأول : التوحيد : ويقصدون به نفي صفات الله تعالى ، بحجة أنهم لو أثبتوا الصفات لاستلزم ذلك تعدد القدماء ، فلابد من توحيد الله بالقدم ، ولا يمكن ذلك إلا بإنكار الصفات وتحريفها ، وبه تعلم موقف المعتزلة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم ينكرون الصفات جميعها ، ويثبتون الأسماء بلا صفات ، فأسماء الله تعالى عندهم أعلام محضة لمجرد التعريف فقط ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة جهمية نفاة .
والأصل الثاني : عندهم العدل : ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى ، فالعبد هو الذي يوجد فعله استقلالا ، وبه تعلم أن المعتزلة في باب خلق أفعال العباد قدرية مجوسية ثنوية .
والأصل الثالث عندهم الوعد والوعيد ، ويعنون به أنه يجب على الله تعالى إنفاذ وعده ووعيده ، فلا يجوز على الله تعالى أن يخلف شيئًا مما وعد به ولا مما أوعد به ، وأصلهم هذا مخالف لما قرره أهل السنة في باب الوعد والوعيد ، فإن أهل السنة قالوا في الوعد : إن العبد لا يستحق بنفسه شيئًا على الله تعالى ، واتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على أن الله تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، لكن لا لأن العبد يستحق ذلك بنفسه ، وإنما لأن الله تعالى أوجب ذلك الوعد على نفسه لعبده تفضلاً منه وإحسانًا للعبد ، والله تعالى لا يخلف الميعاد ، فالله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبًا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما يقوله المعتزلة ، وبذلك تعرف الفرق بين المذهبين .
وخلاصته أن نقول : إن المعتزلة قالوا : إنفاذ الوعد واجب ، وقال أهل السنة : إنفاذ الوعد واجب ، لكن قال المعتزلة : واجب بحكم استحقاق العبد له ، وقال أهل السنة : واجب بحكم الوعد تفضلاً وإحسانًا ومنَّة .(1/22)
وأما الوعيد فالمذهب فيه عند أهل السنة : أن الله تعالى قد يخلفه إحسانًا منه وتفضلاً ورحمة وجودًا وكرمًا على من استحق شيئًا من وعيده ، فيجوز أن يعفو الله تعالى عن المذنب ويخرج أهل الكبائر من النار فلا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد ، والله أعلم .
والمقصود : أن المعتزلة يقصدون بهذا الأصل تخليد أصحاب الكبائر في النار ، وهم في هذا الاعتقاد خوارج مارقة وعيدية .
والأصل الرابع عندهم : المنزلة بين المنزلتين : وهي من أوائل أصولهم ، وهي التي بسببها سموا معتزلة كما ذكرت آنفًا ، ويعنون به أن مرتكب الكبيرة خرج من مسمى الإيمان ، ولكنه لم يدخل في مسمى الكفر ، بل أصبح بفعل الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، فلا هو مؤمن ولا هو كافر ، بل هو بين المنزلتين ، وهذا كلام ساقط ؛ وذلك لأن تقابل الإيمان والكفر الأكبر تقابل نقيض ، فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فلما سلبوا مطلق الإيمان عنه لزمهم وصفه بالكفر ، لكن لأنهم خناثر للخوارج هابوا من وصفه بالكفر الصريح ، فتستروا وراء هذه اللفظة ، والدليل على ذلك حكمهم عليه في الآخرة ، فإنهم يخلدونه في النار الخلود الأبدي ، وهل يخلد في النار أبدًا إلا الكفار الكفر الأكبر ؟
والأصل الخامس والأخير عندهم : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به استعمال السيف ، والخروج على الأئمة بسبب ضلالهم وطغيانهم ، فهم يجيزون الخروج على السلطان إذا فعل الكبيرة ووصف بالفسق ، وأما أهل السنة فقد تقدم لك كيفية تعاملهم مع الحكام في سؤال مستقل . فهذه هي أصولهم ، فهي وإن كانت بعض أسمائها براقة إلا أن معانيها خاطئة زائغة عن الحق ، لكنهم يعبرون عنها بهذه الأسماء لتقبلها النفوس وتروج عند الأتباع ، والله أعلم(1).
4 ) المرجئة :
__________
(1) 25 ) المصدر السابق : 3 / 471 .(1/23)
قال الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في (( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 33 )) : (( المرجئة : أسم فاعل من الإرجاء ، ويأتي الإرجاء في اللغة بمعنيين :
أحدهما : بمعنى التأخير كما في قوله تعالى { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [الأعراف : 111] .
أي : أمهله وأخره .
الثاني : إعطاء الرجاء ، حيث تقول : أرجيت فلاناً ، أي : أنك أعطيته الرجاء .
ويمكن أن تكون تسمية هذه الفرقة مأخوذة من المعنى الأول ، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان وعقد القلب .
ويمكن أن تكون مأخوذة من المعنى الثاني لأنهم كانوا يقولون (( لا تضر مع الإيمان معصية )) وكانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء ، وكذلك يحكمون بأنَّ صاحب الكبيرة مؤمن لا يعذب ، لأنَّ العذاب للكفار .
أما المرجئة في الاصطلاح ، فقد عرفهم الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله ـ تعريفاً جامعاً فقال : (( هم الذين يزعمون أنَّ الإيمان مجرد النطق باللسان ، وأنَّ الناس لا يتفاضلون في الإيمان ، وأنَّ إيمانهم ، وإيمان الملائكة والأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) واحد ، وأنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وأنَّ الإيمان ليس فيه أستثناء ، وأنَّ من آمن بلسانه ، ولم يعمل فهو مؤمن حقاً )) أ . هـ
5) القدرية : وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، وأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية .(1/24)
وقولهم بالقدر : إنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة ، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر ، ويقولون : إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إنَّ الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله وغلاتهم ينكرون أنَّ يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا : إنَّ للكون إلهين : إله النور ، وهو خالق الخير ، وإله الظلمة وهو خالق الشر(1).
إذن القدرية هم الذين أنكروا علم الله السابق بالأفعال قبل وقوعها ، وأنه لم يقدرها وقالوا (( لا قدر وأنَّ الأمر أنف )) أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه .
ومن هذا نعلم أنَّ بدعة القدر مركبة من أمرين :
الأول : إنكار علم الله تعالى السابق للحوادث .
الثاني : إنَّ العبد هو الذي أوجد فعله وأنَّ الله لم يقدره .
وهذا باطل من القول بل أثبت الله تعالى أنَّ للعبد مشيئة وقدرة على الفعل وأنَّ هذا الفعل مخلوق لله وأنه لا يقع إلا بأذنه ، قال تعالى { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [الإنسان : 30] .
وقال تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 96] .
وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة أسمه سوسن فأخذ عنه معبد الجهني .
قال اللالكائي : قال الأوزاعي : أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد(2).
__________
(1) 26 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 173 ، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .
(2) 27 ) أنظر (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : رقم : 750 )) .(1/25)
ولهذا سموا بمجوس هذه الأمة بسبب إنكارهم لعلم الله تعالى ، ونسبة خلق الفعل للعبد ، فعن (( عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ))(1).
أما تكفيرهم :
قال أبو بكر الخلال : عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافراً ، فقال أبي : إذا جحد العلم إذا قال الله جل وعز لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلم فجحد علم الله عز وجل كافر ، قال وسمعت أبي يقول إذا قال الرجل العلم مخلوق فهو كافر لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه ، إسناده صحيح(2).
وغاية ما أرادت القدرية الوصول إليه هو تنزيه الله تعالى عن فعل الشر فوقعت في نفي القدر ، ومن طريف ما يروى عنهم (( إنَّ إعرابياً سُرقت ناقته ، فجاء لحلقة عمرو بن عبيد _ وهو من رؤوس المعتزلة وممن يقول بمذهب القدرية _
فقال الأعرابي لعمرو : إنَّ ناقتي سُرقت فأدع الله أن يردها عليَّ .
فقال عمرو : اللهم إنَّ ناقة هذا المسكين سرقت ، ولم ترد سرقتها ، اللهم أرددها عليه فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك .
فقال عمرو : ولِمَ ؟
فقال الأعرابي : أخاف ، كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت ، أن يريد ردها فلا ترد(3).
6 ) الجبرية : وهم الذين غلوا في إثبات القدر _ على خلاف القدرية الذين غلوا في نفيه _ حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل _ حقيقة _ بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل كالريشة في مهب الريح ........
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أنَّ الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم بخلاف ما عليه أهل السنة ، الذين يقولون : أن الله هو الخالق والعبد هو الفاعل ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب(4)أ . هـ
__________
(1) 28 ) المصدر السابق برقم 666 .
(2) 29 ) السنة لأبي بكر الخلال : رقم 862 .
(3) 30 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 183 للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .
(4) 31 ) المصدر السابق : 175 .(1/26)
7) الأشاعرة : هم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهذه الفرقة تنسب إليه ، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ، ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى ولو بعد توبته - فنسأل الله تعالى أن يعفو عنه ويغفر له - .
والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة ، فهم يثبتون الأسماء ، ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط ، وهي : الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة فقط ، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها ، ويسمونها بالصفات العقلية .
وهم في باب القدر مرجئة ، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويخرجون القول أيضًا ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط ، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ، ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه ، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ، وهم في باب القدر جبرية لاعتقاد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، والله أعلم(1).
8 ) الرافضة : هم الذين يغلون في آل البيت ويرفعونهم عن مرتبة البشرية إلى مرتبة الإلهية ويضفون عليهم من الصفات والأفعال ما لا يليق إلا برب الأرض والسماء ويفضلون علي بن أبي طالب على سائر الصحابة ، وبعضهم يعتقد أنه هو الرسول ولكن الملك أخطأ في الرسالة .
وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، فإنهم قالوا له : ما قولك في أبي بكرٍ وعمر ؟ فقال : هما وزيرا جدي - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فانصرفوا عنه ورفضوه .
ويقال لهم الشيعة وذلك لتشيعهم لآل البيت وغلوهم فيهم .
__________
(1) 32 ) إتحاف أهل الألباب : 3 / 475 .(1/27)
وأشهر طوائفهم الاثني عشرية وهم الذين يعتقدون أن الإمامة في الاثني عشر الذين أخرهم محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب- أعني سرداب سامراء بالعراق-. وقد ذكر أبو العباس بن تيمية - رحمه الله تعالى - في فاتحة كتابه منهاج السنة أوجهًا كثيرة في مشابهة الرافضة لليهود ، فهم بحق اليهودية الصغرى ، ولذلك فهم يلتقون مع اليهود في جوانب كثيرة ، فبينهم توافق وتجانس كبير يعرف ذلك من نظر في عقيدة الطائفتين .
ومن أوائل عقائدهم الفاسدة : الإمامة ، وتكون بالنص ، وهم يعظمون هذا الأصل التعظيم المطلق .
ومن عقائدهم الفاسدة : التقية ، وهي إظهار الموافقة للخصوم ، وإبطال التشيع وهذا يكون في أزمنة الضعف ، وأما في أزمنة القوة فناهيك عما يفعلونه بأهل السنة من التعذيب والقتل ، وفتح أبواب العدو عليهم(1).
ومن عقائدهم الفاسدة : الرجعة ، فهم يعتقدون بأن إمامهم المزعوم الغائب في السرداب سيرجع ، فهم يقفون عند السرداب كل ليلة انتظارًا لخروجه ، وقد وضعوا دابة وسلاحًا ويهتفون باسمه ، وهكذا كل ليلة .
ومن عقائدهم الفاسدة : عدم إقامة الجمع والجماعات إلا خلف إمام معصوم .
ومن عقائدهم : تعظيم القبور بالذبح ، والطواف ، والسجود ، والركوع ، والتقبيل ، والنذور ، فهم سادات عباد القبور ، وبخاصة القبور التي يزعمون أنها لآل البيت .
ومن عقائدهم : تجويز المتعة .
ومن عقائدهم : تجويز البداء على الله تعالى ، أي أنه يجوز على الله تعالى أن يفعل فعلاً ثم يبدو له عدم صلاحيته ، فينتقل منه إلى غيره ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
ومن عقائدهم : البراءة ، وهي قولهم : لا ولاء إلا ببراء ، أي أنه لا ولاء لآل البيت وخصوصًا علي بن أبي طالب إلا بالبراءة من الخلفاء الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .
__________
(1) 33 ) كما فعلوا في أفغانستان والعراق ، حيث كانوا عوناً للأمريكان وأعوانهم في أحتلالهما ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .(1/28)
ومن عقائدهم : المغالاة في آل البيت ، حتى أضفوا عليهم صفات الرب ، ولهم في ذلك أقوال ونقول يشيب منها الرأس .
ومن عقائدهم : أن هناك مصحفًا آخر غير هذا المصحف ليس فيه مما في مصحفنا حرف واحد ، وقد رواها إمامهم في الحديث الكليني في أصوله الكافي .
ومن عقائدهم : وجوب تعذيب النفس بالضرب بالسيوف والسلاسل حتى تسيل الدماء على الوجوه ، وأكثرهم تعذيبًا لنفسه أشدهم موالاة لآل البيت ، وهذا يفعلونه في يوم عاشوراء .
وأقول : الحمد لله لقد كفينا مئونة ضربهم والتنكيل بهم ، فإننا لو تكلفنا ذلك لما وجدنا له سبيلاً ، فكفانا الله بأنفسهم .
وبالجملة : فعقائد القوم ضحكة للعقلاء ومحطًا لسخرية أهل الألباب ، ولكن القوم لا عقول لهم تمنعهم من مواقعة ذلك ، ولا نُقُولَ تهديهم إلى الصراط المستقيم ، فذرهم في غمرتهم حتى حين ، وذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، والله أعلم(1).
ثانياً : أحزاب وتكتلات وجماعات معاصرة : ويمثلها أحزاب وجماعات وتكتلات معاصرة ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وأزداد ظهورها وتبلورت أفكارها ومعتقداتها بعد سقوط الدولة العثمانية وإلى وزماننا هذا ، وهذه بدورها تنقسم من حيث التوجهات والمقاصد والمسميات إلى قسمين :
القسم الأول : أحزاب وجماعات إسلامية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1 ) جماعة الإخوان المسلمون(2):
أسسها حسن البنا ( ت : 1949 ) ، وهي جماعة لا تدعو إلى توحيد الإلهية ، والتحذير من الشرك الأكبر ، والتحذير من البدع ، بل هي متلبسة ببدع مختلفة ، وذلك يتضح بما يلي :
1/ معرفة حال المؤسس الأول لهذه الجماعة وهو حسن البنا :
__________
(1) 34) المصدر السابق : 3 / 476 .
(2) 35 ) وفي الكلام عليهم ،كلام على الحزب الإسلامي العراقي الذي هو أمتداد للإخوان المسلمين في العراق وفرع لهم فيه .(1/29)
أ - أنه صوفي(1)بايع على الطريقة الحصفية ، ويرى شد الرحال إلى القبور.
ب- أنه موالي لليهود والنصارى بزعم أن الدين الإسلامي الحنيف لا يعاديهم ديناً ، وأنهم إخوان لنا . وأن عداوتنا مع اليهود عداوة أرض فحسب .
ج - أنه من دعاة القومية العربية .
د- أنه من دعاة التقريب مع الشيعة(2).
هـ - أنه كان يحضر الموالد وينشد هذا البيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
نقله عنه أخوه عبد الرحمن البنا [كتاب: حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه: 71 ] .
وهذا البيت متضمن للشرك الأكبر، لأنه لا أحد يسامح فيما مضى وجرى إلا الله سبحانه ، ومع هذا فليس كافراً لأنه قد يكون جاهلاً .
__________
(1) قال سعيد حوى : وهو أحد كبار منظري الإخوان يقول في كتابه ( جولات في الفقه الكبير و الأكبر) الجولة الثامنة ص : 154 ما نصه وحرفه : " ثم إن حركة الإخوان المسلمين نفسها أنشأها ( صوفي ) وأخذت حقيقة التصوف دون سلبياته !!!"[ أنظر كتاب (( وقفات مع كتاب للدعاة فقط : 21 )) للشيخ محمد بن سيف العجمي ] .
(2) قال الأستاذ عمر التلمساني : المرشد العام للإخوان المسلمين كتب مقالاً في مجلة الدعوة العدد 105 يوليو 1985 بعنوان ( شيعة وسنة) قال فيه :" التقريب بين الشيعة والسنة واجب الفقهاء الآن " وقال فيه أيضاً :" ولم تفتر علاقة الإخوان بزعماء الشيعة فاتصلوا بآية الله الكاشاني واستضافوا في مصر نواب صفوي ، كل هذا فعله الإخوان لا ليحملوا الشيعة على ترك مذهبهم ( انظر!!) ولكنهم فعلوه لغرض نبيل يدعو إليه إسلامهم وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى أقرب حد ممكن . [ أنظر (( وقفات : 30 )) للعجمي ].(1/30)
2/ أنها جماعة نشأت في أرض يكثر فيها الشرك الأكبر ، فلا تراهم يحاربونه وينكرونه ، وكان المفترض لو كانوا سائرين على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يؤلفوا المؤلفات الكثيرة في إنكار الشرك بدل المؤلفات الفكرية المليئة بالأخطاء العقدية ، لكن أنى لهم هذا ، وهم فاقدوه ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
3/ أن الشيء يعرف بآثاره ، والأثر الذي خلفته امتلاء السجون بالشباب ، وكثرة الاعتقالات بسبب فكر الثورة الذي ربت الشباب عليه .
4/ أنها بنيت على أسس منها : القاعدة التي يرددها حسن البنا " نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " .
وهذه قاعدة فاسدة ، معناها تمييع الخلاف مع المبتدعة من الصوفية والرافضة والمعتزلة وغيرهم ؛ لذا أنكرها علماؤنا الإجلاء : كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني(1).
وقال الشيخ عبيد الجابري : (( أولا : حينما نشأت جماعة الإخوان المسلمين و التي أنشأها حسن البنا في مصر، في نهاية العشرينات من القرن الماضي الميلادي ، كيف أظهر حسن البنا هذه القافلة ، وأسَّسَ لها ، ودعا بها ؟ :
__________
(1) 38 ) أنظر : كشف الشبهات العصرية عن الدعوة الإصلاحية السلفية : 106 : للشيخ عبد العزيز بن ريس الريس .(1/31)
1 ) : أنشأ (دار التقريب بين السنة والشيعة) في مصر، وقال كلمات منها : أن مراكز الإخوان وبيوت الإخوان مفتوحة للشيعة ، وكان يستضيف كبار الرافضة مثل نواب صفوي(1)، وكان يَتَّصلُ بهم في الحج ويُدغدغ عواطفهم ويليِّنهم بمقولات منها : (ليس بيننا وبينكم اختلاف ، وبيننا وبينكم أمور بسيطة يمكن حلها كالمتعة ) ، فأين سبُّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل أين تكفيرهم ـ إلا ثلاثة أو عشرة أو سبعة ـ ؟، أين قولهم إن القرآن محرّف ؟ . فهم يتعاملون معه حتى يظهر المهدي المنتظر، وأين قولهم على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زوج سيد الخلْق صلى الله عليه وسلم بالبهتان ؟؛ هذه كلها من مقولات الرافضة تغافل عنها حسن البنا ، ولم يَرَها شيئا ؛ لأنه يجمع ويُقَمِّش ويُلَفِّق .
وثانيا : قال مقولة هي كفرية في الحقيقة ـ ولا تنقلوا عنِّي أني أكفر البنا ـ، لكن المقالة كفرية ، قال : (ليس بيننا وبين اليهود خصومة دينيّة ، وإنما بيننا وبينهم خصومة اقتصادية ، واللهُ أمرنا بمودتهم ومصافحتهم )، واستدل بقوله بهذه الآية : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } ، وهذه رواها عنه محمود عبد الحليم ـ وهو من خواصه ـ في كتابه ((الإخوان أحداث صنعت التاريخ)) .
__________
(1) 39 ) وهذا دأب الأخوان منذ بداية ظهورهم يتوددون للرافضة ولا يودونهم ، فهذا طه الهاشمي الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي قال في إحدى الفضائيات وقد سئل عن علاقة الحزب الإسلامي مع مقتدى الصدر الرافضي فرد قائلاً _ ما معناه _ : بيننا قواسم مشتركة نتفق معه عليها وهناك أمور يختلف معنا عليها ... فنحن نتعاون على ما أتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .(1/32)
ثم بعد ذلك كلّ مَن كان على منهج البنّا ومنهج الإخوان المسلمين في الدعوة هو على هذه القاعدة ؛ فانطلقت منها الدعوة إلى وحدة الأديان، والحوار بين الأديان؛ فلا تجد إخوانيًّا جَلْدا إلاَّ وهو على التقريب ؛ وأجلد من عرفنا في هذه الدعوة : حسن بن عبد الله الترابي السوداني ، ويوسف القرضاوي المصري ؛ فيوسف القرضاوي ـ وعندي وثائق على ما أنقله عنه ـ يُسمي هذه القاعدة بالقاعدة الذهبية ، ويعلِّلُ بالدعوة إلى وحدة الأديان بأنَّ الحياة تتسع لأكثر من حضارة ، وتتَّسع لأكثر من دين ، بل الدين الواحد يتسع لأكثر من اتجاه ، فهي مطَّاطية ـ يعني دين مطّاط يتسع لعدة مشاريع ينشئها القرضاوي ومَن على شاكلته ، ليس هو دين الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو (الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة ، والبراءة من الشرك وأهله ) لا، الإسلام مجرد دعوة تجميعية تلفيقية تضم مَن تضم ، هكذا عند القرضاوي ؛ فالرافضة ، والصوفية أصحاب وحدة الوجود ، والباطنية ، والحلولية ، والقبورية هم مسلمون حقًّا بناء على هذه القاعدة ؛ لأنهم مجتمعون مع سائر أهل الإسلام وأهل السنة على قول لا إله إلا الله، ومختلفون فيما عدا ذلك ؛ إذًا كلٌّ اجتهد فوصل إلى ما أدَّى به اجتهادُه ))(1).
2 ) جماعة التبليغ والدعوة : وهي جماعة ماتريدية أشعرية في عقيدتها، صوفية خرافية في سلوكها ، مناهضة لعقيدة التوحيد في حقيقتها ، جاهلة مجهلة في مسلكها ومبادئها.
__________
(1) 40 ) أصول وقواعد في المنهج السلفي : 12 .(1/33)
ومن انخدع بهذه الجماعة إنما نظر إلى ما لديها من تأثير على العامة وعلى بعض العصاة ، والواقع أنه تأثير وقتي مرحلي حيث يخرجونه من المعاصي ويدخلونه في الشرك ، والبدع ، والتصوف من حيث يشعر أو لا يشعر وقد نجحوا بهذا الأسلوب الخطير في أوساط كثير من العامة والجهلة ، ومما ساعدهم على ذلك أنهم ينقلونهم إلى رياضات روحية ويشغلون أوقاتهم بالسياحة في الأرض ، والخروج الذي سموه جهادًا ، ودائمًا يرددون الحديث الضعيف: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )(1)، وحملوا نصوص الجهاد في سبيل الله على هذا المعنى وأسقطوا مبدأ الجهاد الحقيقي تحت ستار الاكتفاء بمجاهدة النفس في هذا الزمان ، وثمة مبدأ صوفي خطير وهو إسقاط أسس الإسلام من توحيد الله تعالى ، والجهاد في سبيل الله، والعلم ، والتعليم .
ومن مبادئهم الخطيرة عدم التعرض للكلام في العقيدة أو السياسة الشرعية أو الخلافيات لا في الأصول ولا في الفروع ، كما أنهم يشترطون ذلك على أتباعهم ، وأي فرد أو جماعة تخرج عن هذا المنهج يناصبونها العداوة وينفّرون منها ، ولا سيما من يدعو إلى التوحيد ، وهذا المنهج يخدم أعداء الإسلام بلا شك ولا ريب ، ولذا يتبجحون بأنهم دخلوا كل بلاد الدنيا بما في ذلك روسيا وإسرائيل، وهذا الأمر في حد ذاته يدعو إلى التساؤل والريبة ، فهل يتصور أحد أن يرضى أعداء الإسلام بتمكين هؤلاء من الدعوة في بلادهم لو كانوا يدعون إلى الإسلام الصحيح ؟! .(2)
__________
(1) 41 ) رواه الخطيب تاريخه، والديلمي، والبيهقي في الزهد، وضعفه، وكذا العراقي والسيوطي وغيرهم. [ الشيخ عبيد الجابري ]
(2) 42 ) أنظر (( الدين النصيحة منهجي : 2 )) للشيخ ممدوح بن نافع الحربي .(1/34)
وغير ذلك من الأحزاب الإسلامية كحزب التحرير(1)، والحركات كحركة المقاومة حماس(2)، والجبهات كالجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية(3).
والجماعات كجماعة التكفير والهجرة(4).
وأغلب هذه الأحزاب والجماعات الإسلامية المعاصرة قد خرجت من محاضن جماعة الأخوان المسلمين ومن تحت عباءة التكفير .
وأنَّ الناظر في سيرة (( هذه الأحزاب العصرية _ يرى أنها _ قد التقت على تحقيق هدفين :
الأول: التخليط بين السنة والبدعة.
الثاني: التجميع بغير تربية.
__________
(1) 43 ) وهو حزب سياسي إسلامي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني ولد في فلسطين عام (( 1326 _ 1397 )) . [ أنظر : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة : 1 / 344 ]
(2) 44) حركة إسلامية جهادية فلسطينية أسسها الشيخ أحمد ياسين . أُعلن في بيانها الأول الذي صدر يوم 14 كانون الأول 1987 م بأنها الذراع الضارب لجماعة الإخوان المسلمين . [ أنظر : الموسوعة الميسرة : 240 ] .
(3) 45 ) وهي جبهة إسلامية تميل إلى العنف والمواجهة العسكرية أبرز قادتها عباس مدني وعلي بلحاج ، شهدت الجزائر من أفعالها ما يندى له الجبين أبان الثورة في الجزائر ، وللمزيد أنظر : كتاب مدارك النظر في السياسة الشرعية ، و فتاوى العلماء الأكابر ، وكلاهما للشيخ السلفي عبد المالك الرمضاني الجزائري .
(4) 46 ) وهي جماعة إسلامية غالية نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية نشأت داخل السجون المصرية أبرز قادتها شكري مصطفى ولد في مصر 1942 وهو أحد شباب جماعة الإخوان الذين أعتقلوا عام 1965 ، أُعدم سنة 1978 أثر قيام الجماعة باغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري . [ أنظر : الموسوعة الميسرة : 338 ] .(1/35)
فهم يُحبونَ هذا التجميع والتساهل، هذا الَّذِي هُم يرغبونَ فيه ، لأنه يحقق لهم مآربَهم الحزبية ، فلذلك تجد الشباب الذي يتلقى عن هذه الأحزاب يكون عنده تخليط في مسائل العقيدة والمنهج ؛ وهذا بسبب تغييب الحق عليهم وتلويث مصادر التلقي فهم لا يستطيعونَ أن يُميزوا بين أهل الحق وأهل الباطل ))(1).
وكذلك يشتركون ببغضهم ومحاربتهم للسلفيين ومنهجهم الحق ، ومنابزتهم بالألقاب(2)لغرض تنفير العامة عنهم ، وكذلك التشكيك وإثارة الشبهات حولهم وحول منهجهم ، وكذلك العدوان عليهم وقد يصل بهم الأمر إلى حد الوشاية عليهم عند الحكام والسلاطين(3).
ولو عقدنا مقارنة بين دعوة الحق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وبين هذه الفرق والأحزاب القديمة منها والمعاصرة لتبين لنا الفروق التالية :
أوّلاً : أنّ الدعوة الحقّ هي المتمسّكة بالكتاب والسنّة على فهم السلف الصالح.
__________
(1) 47 ) الكواشف الجلية للفروق بين السلفية والدعوات السياسية الحزبية البدعية : 19
للشيخ محمد بن رمزان آل طامي الهاجري ، بشرح وتعليق الشيخ أبي الأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري .
(2) 48 ) وهذه لم يسلم منها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حيث أطلق عليه قومه من الأوصاف والألقاب الشيء الكثير ، قال تعالى { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } [الصافات : 36]
(3) 49 ) وهذه عادة فرعونية قديمة قال تعالى عن قوم فرعون { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] .(1/36)
أمّا الدعوات الأخرى ، فهي متمسّكة بفهم مَن أنشأها ـ وقد يدَّعي هو أو تدّعي لنفسها أنّها بذلك تتمسّك بالكتاب والسنّة ـ فالجهمية متمسّكة بفهم الجعد بن درهم ، وجهم بن صفوان.
والأشعرية متمسّكة بفهم أئمّتهم المنتسبين لأبي الحسن الأشعري(1)، والتبليغية متمسّكة بفهم مؤسّسها محمّد إلياس ، والإخوانية بفصائلها ـ ومنها القطبية ـ متمسّكة بفهم مؤسّسها ((حسن البنّا )) و (( سيّد قطب )) و (( الهضيبي )) وغيرهم .
ثانيًا : أنّ الدعوة الحقّ أصحابها يأخذون علمهم عن أئمّة الدعوة السلفية في كلّ عصر ، ويتتلمذون على أيدي الأحياء منهم ، ويقرأون للميّت منهم ـ جيلاً بعد جيل ـ بخلاف أصحاب الدعوات الباطلة؛ فإنّهم أعداء لأئمّة السلف، الأحياء منهم والأموات ، بل هم خلف كلّ مخالف لأولئك ، وإن ادَّعوا ظاهرًا بأنَّهم متّبعون لهم .
ثالثًا: أصحاب الدعوة الحقّ يهتمّون بالكتب السلفية ، وذلك بقراءتها وحفظها وفهمها وتحقيقها ونشرها والذبّ عنها ، بخلاف أصحاب الدعوات الباطلة ، فإنّهم مبغضون لتلك الكتب ، بل ومحاربون لها ، ولنشرها ، وهم ساعون ـ أيضًا ـ لربط أتباعهم بكتب مؤسسي تلك الجماعات(2)أ .هـ
__________
(1) 50 ) لقد مرّ أبو الحسن بثلاثة أطوار؛ الأوّل: طور الاعتزال، والثاني: طور الكلابية، والطور الثالث: رجوعه إلى مذهب السلف ، فالأشاعرة ينتسبون لطوره الثاني [ العدناني ]
(2) 51) القطبية هي الفتنة فأعرفوها : 9 ، للشيخ أبي إبراهيم بن سلطان العدناني(1/37)
وهؤلاء : (( المبتدعة لم يكفروا ببدعتهم كالأشاعرة ، والمعتزلة ، والماتريدية والخوارج والكلابية والمرجئة ونحوهم ، فنبرأ منهم لكن ليس البراء المطلق ؛ لأن معهم أصل الإسلام وإنما نبرأ منهم مطلق البراء أي بعض البراء لا كل البراء ، ومطلق البراء ممن تحقق فيه ما يقتضيه ، يوجب مطلق العداوة أي بعضها لا كلها ، ويوجب مطلق البغضاء أي بعضها لا كلها ، وهذا يؤيد مذهب أهل السنة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد موجب المحبة والعداوة ، وموجب الثواب والعقاب ، وبعبارة أخرى نقول : عصاة الموحدين نحبهم ونواليهم بما معهم من الإيمان ، ونبغضهم ونعاديهم بما معهم من الفسوق والعصيان(1).
__________
(1) 52 ) أنظر (( إتحاف أهل الألباب : 3 / 373 )) .(1/38)
القسم الثاني : أحزاب وتكتلات علمانية ذات توجهات انحلالية انفصالية انحرفت عن الصراط السوي وراحت تدعوا إلى أفكار ومبادئ هدامة مستوردة من مزابل الشرق والغرب ، كمناداتهم بالقومية العربية(1)
__________
(1) 53 ) حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم، على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين . وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوروبا ، يصفها سماحة الشيخ ابن باز بأنها: "دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه ". ويقول عنها: "وقد أحدثها الغربيين من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول.. فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان ". ويقول أيضاً: "هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله".، ويقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة، أما الوحدة الإسلامية فهي حلم. وأن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعية، لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد.
كثيراً ما يتمثل دعاة الفكر القومي بقول الشاعر القروي:
هبوني عيداً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
يقول بعض دعاة الفكر القومي: إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى، فمثلاً عبرت ذات مرة عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة أخرى بالشعر الجاهلي، وثالثة بالإسلام ، وقال أحد مشاهيرهم : لقد كان محمد كل العرب ، فليكن كل العرب محمداً. يقول بعض مفكري القومية العربية: إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة، فإن القومية العربية نبوة هذا العصر [ أنظر (( نقد القومية العربية : 40 للشيخ أبن باز ، و (( الموسوعة الميسرة : 448 )) ] .
( 54 ) هي مذهب فكري يقوم على الإِلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي، ظهرت في ألمانيا على يد ماركس وانجلز ، وتجسدت في الثورة البلشيفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917م بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد والنار وقد تضرر المسلمون منها كثيراً، وتعرضت شعوب للاستئصال والانقراض بسبب هذه
الدعوة .
أبرز اعتقاداتهم وأفكارهم :
1 ) إنكار وجود الله تعالى ، وكل الغيبيات والقول بأن المادة هي أساس كل شيء وشعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين ، ونكفر بثلاثة : الله ، الدين، الملكية الخاصة ، عليهم من الله ما يستحقون.
2 ) يحاربون الأديان ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية والاستغلال مستثنين من ذلك اليهود لأن اليهود شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة!!.
3 ) يحاربون الملكية الفردية ويقولون بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة.
4 ) يعتقدون بأنه لا آخرة وعقاب ولا ثواب في غير هذه الحياة الدنيا(1/39)
كتمهيد لفصل الدول العربية عن أخواتها من الدول الإسلامية ، وكذلك تبنيهم مذاهب إلحادية هدامة كالبعثية والشيوعية(1)، ودعوتها الرجال والنساء للتحرر من نظم الإسلام وقيوده والانطلاق إلى عالم الحرية والتعبير كما يزعمون . والذي يشفع لنا في ذكر هذه الأحزاب في بحثنا هذا أنها ظهرت على أرض المسلمين وأنَّ أغلب من انتمى إليها هم أبناء المسلمين .
وأنَّ من الجدير بالذكر أنَّ هنالك بعض الروابط والقواسم المشتركة التي تجمع بين الأحزاب والتكتلات سواء كانت إسلامية _ كما يزعمون _ أو غير الإسلامية كمناداتهم بالديمقراطية(2)
__________
(2) 55 ) الديمقراطية كلمة يونانية الأصل وهي مكونة من كلمتين، أضيفت إحداهما إلى الأخرى.
أولاهما : ديموس وهي تعني الشعب.
وثانيهما : كراتوس وهي تعني الحكم أو السلطة
فصارت الكلمة المركبة من هاتين الكلمتين تعني: حكم الشعب أو سلطة الشعب، وعلى ذلك: فـ "الديمقراطية" هي ذلك النظام من أنظمة الحكم الذي يكون الحكم فيه أو السلطة أو سلطة إصدار القوانين والتشريعات من حق الشعب أو الأمة أو جمهور الناس.
وإذا كان حكم الشعب للشعب هو أعظم خصيصة من خصائص الديمقراطية التي يلهج بذكرها الذاكرون الديمقراطيون، فإن التاريخ القديم والحديث يدلنا على أن هذه الخصيصة المذكورة لم تتحقق على مدار تاريخ الديمقراطية، وأن نظام الحكم الديمقراطي كان دوماً نظاماً طبقياً، حيث تفرض فيه طبقة من طبقات المجتمع إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع. [ حقيقة الديمقراطية : 2 ، لمحمد شاكر شريف ] .
مفاسد الديمقراطية :
1 ) الديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة ، حيث يمكن –في ظل هذا النظام الطاغوتي- لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزباً وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله ، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر.
2 ) وكذلك تفتح الباب على مصراعيه للشهوات والإباحية ، من خمر ومجون وأغان وفسق وزنا ودور سينما ، وغير ذلك من الانتهاكات الصارخة لمحارم الله ، تحت شعار الديمقراطية المعروف: "دعه يعمل ما يشاء ، دعه يمر من حيث يشاء" وتحت شعار: "حماية الحرية الشخصية"!!
3 ) وتفتح الباب أيضاً للتفرق والاختلاف، استجابة للمخططات الاستعمارية الرامية إلى تمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات ووطنيات ودويلات وعصبيات وأحزاب ، وفي هذا مخالفة لقول الله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )، ولقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، ولقول الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
4 ) إن من يسلك ، أو يتبنى النظام الديمقراطي لابد له : من الاعتراف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية ، كمواثيق الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن الدولي وقانون الأحزاب وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله ، وإن لم يفعل منع من مزاولة نشاطه الحزبي بحجة أنه متطرف وإرهابي وغير مؤمن بالسلام العالمي والتعايش السلمي!!
5 ) النظام الديمقراطي يعطل الأحكام الشرعية؛ من جهاد وحسبة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأحكام الردة والمرتد والجزية والرق؛ وغير ذلك من الأحكام.
يوصف المرتدون والمنافقون في ظل النظام الديمقراطي بأنهم وطنيون وقوى خيِّرة ومخلصة؛ وهم بخلاف ذلك شرعاً.
6 ) الديمقراطية والانتخابات تعتمد على الغوغائية والكثرة بدون ضوابط شرعية ، والله تعالى يقول: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ويقول الله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، ويقول الله تعالى: (وقليلٌ من عبادي الشكور).
7 ) الديمقراطية لا تفرق بين العالم والجاهل والمؤمن والكافر والذكر والأنثى، فالجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي اعتبار للمميزات الشرعية.
والله تعالى يقول: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، ويقول الله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)، ويقول الله تعالى: (أم نجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون)، ويقول الله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى). الآيات.
8 ) إن قضية الولاء والبراء تظل غامضة في ظل النظام الديمقراطي، ولذلك يصرح بعض السالكين في هذا الطريق بأن خلافهم مع الاشتراكيين والبعثيين وغيرهم من الأحزاب العلمانية من قبيل اختلاف البرامج لا المناهج، ومن جنس اختلاف المذاهب الأربعة ، ويعقدون المواثيق والتحالفات بألا يكفر بعضهم بعضاً ولا يخون بعضهم بعضاً ، ولذا يقولون بأن الخلاف لا يفسد للود قضية!!
هذا الطريق يؤدي إلى قيام التحالفات المشبوهة مع الأحزاب العلمانية؛ كما هو الحاصل اليوم.
9 ) الدخول في المهزلة الديمقراطية يؤدي غالباً إلى فساد المقاصد والنيات، بحيث يصبح كل حزب همه في نصرة حزبه؛ واستعمال كافة الوسائل لجميع الناس حوله؛ وخاصة وسيلة التدين والخطابة والوعظ والتعليم والصدقات وغير ذلك.
يؤدي أيضاً إلى فساد الأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والصراحة والوفاء، ويحل محل ذلك الكذب والمداهنة والغدر.
10 ) وهو من أخطرها ، أن طريق الديمقراطية والانتخابات يؤدي إلى تمكين الكفار والمنافقين من الولاية على المسلمين، بطريقة يظنها بعض الجهلة شرعية، وقد قال الله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين)، وقال الله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً). فكم يحصل بهذا من التغرير والتدليس على عوام المسلمين وإيهامهم بأن طريقة الانتخابات شرعية ؟!!.
11 ) في ظل الديمقراطية تنتعش البدع والضلالات بشتى أنواعها ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك، بل إنهم يجدون في ظلها الدعم والتشجيع من المنافقين في الداخل ومن الأيادي الخفية في الخارج ، ولله في خلقه شئون.
12 ) هذا الطريق يؤدي إلى الزعزعة الأمنية في البلاد، وحدوث صراعات حزبية لا أول لها ولا آخر ؛ فما حلت الديمقراطية في بلد إلا وحل معها الخوف ، والقلق والنزاعات العقدية والمذهبية والعصبية والقبلية والسلالية والنفعية وغير ذلك من الاضطرابات المعلومة [ أنظر : من مفاسد الديمقراطية : 1 لعبد المجيد الريمي ] .
قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي في الديمقراطية : ((كفرنا بالديمقراطية الطاغوتية، وبدا بيننا وبينها العداوة والبغضاء ، ويجب على المسئولين أن يكفروا بها ، بل يجب على جميع الشعب اليمني أن يكفر بها. ..... فإذا كان سلفيًا وهو يؤمن بالديمقراطية، فهذا ليس بسلفي ولا كرامة، وإن كان يؤمن بأن الله مستو على عرشه ويؤمن بأسماء الله وصفاته كما وردت في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ... الأمر الذي أنصح به إخواني في الله أهل عدن، وهو أن نعامل المخالفين معاملة المسلمين لأنّهم متأولون حتى وإن كانوا يقولون: نحن ديمقراطيون، إذا كان يعتقد أن الديمقراطية حق ويؤمن بها فهو كافر، لكن إذا كان متأولاً لأجل مطامع الدنيا فهو ضال. )) [أنظر : تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب : 72 ، 259 ، 273 ] .
قال العلامة الفوزان في : (( كتاب التوحيد :54 )) : (( الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها من مذاهب الكفر ردة عن دين الإسلام .. )) .(1/40)
والانتخابات والدستور إلى غير ذلك مما كان ويكون .
الباب الثاني
الغلو : تعريفه ـــ أنواعه:
وتحته :
تمهيد : تعريف الغلو .
الفصل الأول : الغلو في الأعمال .
الفصل الثاني : الغلو في الاعتقاد .
الفصل الثالث : الغلو في الأشخاص
تمهيد
تعريف الغلو :
قال أبن فارس : (( الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر )) وقال أبن منظور : (( وغَلاَ في الدِّين والأَمْرِ يَغْلُو غُلُوّاً : جاوَزَ حَدَّهُ )) .
فالغلو مجاوزة الحد في الشيء ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك .
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم(1).
وقال علي بن حسين أبو لوز : (( الغلو في اللغة : الزيادة والارتفاع ومجاوزة الحد والقدر المألوف في كل شيء ، أي الإفراط فيه ، وغلا في الدين والأمر يغلو : جاوز الحد .
واصطلاحاً : ذلك النمط من التدين الذي يؤدي على الخروج عن الدين ، فالقرآن والحديث واللغة تدل على أنَّ الغلو هو التجاوز عن الحد والمقدار .....
قال أبن حجر رحمه الله : (( وأما الغلو فهو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوزه الحد ، وفيه معنى التعمق ))(2).
قال الصادق بن محمد بن إبراهيم : (( قال صاحب القاموس : الغلو : غلا في الأمر غلواً جاوز حدّه ) [ القاموس المحيط : 1700 ] .
والمقصود بالغلو هنا تجاوز الحد فيما يجب أن يعتقده المسلم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) 56 ) أنظر : جذور الغلو : 8 ، لعبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي .
(2) 7 5 ) أنظر : كيف نعالج واقعنا المؤلم : 14 .(1/41)
والغلو هنا أمر تختلف درجته من شخص لآخر يدور بين الشرك والبدعة ؛ لذا يُحكم على الشخص أنه غالٍ بحسب درجة غلوه ، وأكثر من يتصف بهذا النوع من الغلو هم الصوفية أصحاب الطرق ذات العهود والمواثيق التي يلتزم بها أتباعها ، وأيضاً يكثر في القبوريين الذين لا ينتسبون إلى طرق معينة لكن غلوا في الأنبياء والصالحين عموماً وتعلقوا بهم وبقبورهم التعلق الذي لا يكون إلا لله تعالى من الاستغاثة بهم في الشدائد وطلب كشف الضر منهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
الجفاء :
تعريف الجفاء :
قال صاحب القاموس : (جفا جفاءً وتجافى : لم يلزم مكانه ، ورجل جافي الخِلقة والخُلُق : غليظ ، والجفاء نقيض الصلة ) [ القاموس المحيط : 1640]
والمقصود بالجفاء هنا رد ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص والفضائل أو رد بعضها ، وفي هذا معنى الجفاء الذي يقطع الصلة المتولدة في القلب من المحبة والتعظيم نتيجة اعتقاد عدم ثبوت تلك الخصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم أو جعل تلك الخصيصة لعامة الناس .(1/42)
وأيضاً يدخل في معنى الجفاء ما جعله الأتباع لمشايخهم وأئمتهم من الفضائل والمناقب ما لم يكن له صلى الله عليه وسلم فهذا من الجفاء إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم فاق في فضله جميع الأنبياء والمرسلين بل هو سيدهم وإمامهم فلا شك أن تقديم غيره عليه صلى الله عليه وسلم في الفضائل من أعظم الجفاء ؛ لأن بذلك التقديم والتعظيم للغير تنشأ المحبة التي تفوق محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يبقى منها إلا الادعاءات التي يُعبرون عنها بالموالد والاحتفالات. ويدخل في الجفاء أيضاً ترك التأسي به صلى الله عليه وسلم في هديه والتأسي بغيره. والجفاء في كل ذلك تختلف درجته ، فمنه ما يكون كفراً والعياذ بالله، ومنه ما هو دون ذلك ، وأكثر من يتصف بالجفاء هم الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام ومدعو النبوة عموماً والصوفية ))(1).
والتطرف : يجمع الاثنين فهو : أما الغلو والإفراط أو الجفاء والتفريط ، وكلا طرفي الأمر مذموم .
والتمسك هو : الوسط .
قال الشيخ عبد الله بن جبرين : (( فمن كفَّر بالذنوب وأخرج العصاة من الإسلام ، وأباح قتلهم بدون إستتابة ، وأباح الخروج على الولاة بأدنى مخالفة فهو متطرف .
ومن أباح المعاصي ، وحلل المحرمات وعذر العصاة وفسح لهم المجال ، ومكنهم من : الزنى ، والربا ، والسرقة ، والقتل ، والسُكر ، ونحو ذلك فهو متطرف .
والمتمسك هو الذي لا يكفر بالذنوب ، ولا يبيح المعاصي ، وينكرها ولو بالقلب ))(2)أ . هـ
تحذير الكتاب والسنة من الغلو :
أعلم _ رحمك الله تعالى _ أنَّ الغلو والتطرف هو _ كما قلنا سابقاً ـ هو المبالغة في الشيء بالتجاوز عن حده ومقداره ، والغلو يكون بالفعل أو الترك ، بالإفراط أو التفريط بالمدح أو الذم ، ولهذا لا يبالي الشيطان بأيهما نال من الإنسان وظفر .
__________
(1) 58 ) خصائص المصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بين الغلو والجفاء : 15 .
(2) 59 ) أنظر : كيف نعالج واقعنا الأليم : 19 .(1/43)
قال الإمام أبن القيم ( رحمه الله ) في : (( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 61 )) : (( قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين : وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه )) .
وقال العلامة عبد المحسن بن حمد العبَّاد البدر في (( بأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً : 3 )) : (( فإنَّ للشيطان مدخلَين على المسلمين ينفذ منهما إلى إغوائهم وإضلالهم :
أحدهما : أنَّه إذا كان المسلمُ من أهل التفريط والمعاصي، زيَّن له المعاصي والشهوات ليبقى بعيداً عن طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( حُفَّت الجنَّة بالمكاره ، وحُفَّت النار بالشهوات )) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822).
والثاني : أنَّه إذا كان المسلم من أهل الطاعة والعبادة زيَّن له الإفراط والغلوَّ في الدِّين ليفسد عليه دينه .....
وقال *: (( إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين ؛ فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوِّ في الدِّين ))، وهو حديث صحيح ، أخرجه النسائي وغيرُه ، وهو من أحاديث حَجة الوداع ، أنظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1283) .
ومِن مكائد الشيطان لهؤلاء المُفْرطين الغالين :
أنَّه يُزيِّن لهم إتِّباعَ الهوى وركوبَ رؤوسهم وسوءَ الفهم في الدِّين ، ويُزهِّدهم في الرجوع إلى أهل العلم ؛ لئلاَّ يُبصِّروهم ويُرشدوهم إلى الصواب، وليبقوا في غيِّهم وضلالهم )) أ . هـ(1/44)
أقول : أما المأمور به كما جاء في الكتاب والسنة هو التوسط والاعتدال ، كما قال الله عز وجل لنبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود : 112]
لذا فقد نهى الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة عن الغلو ، كما حذَّر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في أحاديث كثيرة منه :
أما الكتاب :
1 ) قال تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [النساء : 171]
قال الإمام أبن كثير – رحمه الله - : (( ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء , وهذا كثير في النصارى , فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها , فنقلوه من حيز النبوة , إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه , فادعوا فيهم العصمة , واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً أو رشاداً , أو صحيحاً أو كذباً ))(1).
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي : (( ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلام ، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله ، فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات ، فالغلو كذلك ، ولهذا قال: { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } وهذا الكلام يتضمن ثلاثة أشياء :
أمرين منهي عنهما ، وهما قول الكذب على الله ، والقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله ، والثالث : مأمور به وهو قول الحق في هذه الأمور.
__________
(1) 60 ) تفسير القرآن العظيم لأبن كثير : 1 / 589 .(1/45)
ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية ، وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام نصَّ على قول الحق فيه ، المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية فقال : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ } أي : غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون للمخلوقين ، وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأجلّ المثوبات .(1)
2) وقال تبارك وتعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ، وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [المائدة : 77] .
قال العلامة السعدي : (( يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم .
وكغلوهم في بعض المشايخ ، إتباعاً لـ { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } أي : تقدم ضلالهم .
{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } : من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه . { وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله ))(2).
وأما السنة :
1 ) قال أبن عباس قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته هات إلقط لي ، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف فلما وضعتهن في يده قال : (( بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ))(3).
__________
(1) 61 ) تفسير العلامة السعدي : 1 / 345 .
(2) 62 ) المصدر السابق : 1 / 396 .
(3) 63 ) رواه أبن ماجة والنسائي وصححه الإمام المحدث الألباني في (( صحيح سنن أبن ماجة : 2 / 1008 )) و (( صحيح سنن النسائي : 5 / 268 )) .(1/46)
وفي هذا الحديث يبين النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) مآل الغلاة وأنَّ مصيرهم إلى الهلاك كما هلكت الأمم السابقة بسبب الغلو نسأل الله العافية(1)
2 ) 2670) عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا )) .(2)
قال الأمام النووي : (( قوله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون" أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ))(3).
أنواع الغلو :
يكون الغلو في عدة أمور منها .
1 ) الغلو في الأعمال .
2 ) الغلو في الإعتقاد .
3 ) الغلو في الأشخاص .
الفصل الأول
الغلو في الأعمال
لقد عاش رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه الكرام عاملين بمنهج الوحي أفضل قيام وأعدله ، وقدموا لنا صورة مثالية لجيل فريد ، وبذلك استحقوا شرف الخيرية والفضل .
قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ))(4).
إلا أنه : (( قد وقعت بعض المواقف الفردية المعدودة من بعض الصحابة تشير إلى الاتجاه إلى سبيل الغلو ، والتشدد في الدين عن حرص صادق للإزدياد من الخير ، لكن الرسول الكريم والمربي العظيم ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان له بالمرصاد ، فردهم عن هذا السبيل ، وقوَّم هذا العوج ، وصحح نظريتهم ، وأرشدهم إلى سبيل الإعتدال والخير القويم ، فإستجابوا وأطاعوا ، كل ذلك بأسلوب حكيم ))(5).
__________
(1) 64 ) أنظر : كيف نعالج واقعنا الأليم : 21 .
(2) 65 ) رواه أبو داود وصححه الإمام الألباني في (( صحيح سنن أبي داود : 4 / 201 )) و (( صحيح الجامع برقم : 7039 )) .
(3) 66) شرح صحيح مسلم للإمام النووي : (( 16 / 461 )).، رقم : (2670 ).
(4) 67 ) رواه البخاري برقم : 2509 .
(5) 68 ) أنظر : ( الوسطية في القرآن الكريم : 356 ) للدكتور محمد علي الصلابي .(1/47)
ومن هذه المواقف :
1 ) النموذج الأول : ما جاء عن أنس ( رضى الله تعالى عنه ) قال : جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها .
فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً .
وقال الآخر : إني أصوم الدهر فلا أفطر .
وقال الآخر : أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً .
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما إني لأخشاكم لله عز وجل وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ))(1).
فهذا موقف من مواقف الغلو يجلى لنا سبب هذه النزعة : وهي الرغبة الصادقة في التزود من الخير دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في عبادته ، فلما علموا ، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا .
ولكن الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - لم يقر هذا الإتجاه فبادر بعلاجه ، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه ... ))(2).
قال الشيخ علي بن حسن الحلبي ( حفظه الله تعالى ) : (( فهذا الحديث يشير بوضوح على سعي هؤلاء النفر الثلاثة للقيام بعبادة مشروعةِ الأصل بكيفية لم يفعلها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
فأصل الصيام مرغبٌ فيه ، وأصل القيام مندوب إليه ، وأصل العفاف محبوب مطلوب .
__________
(1) 69 ) رواه البخاري برقم : 4776 ، ومسلم برقم : 1401 .
(2) 70 ) أنظر : الوسطية في القرآن الكريم : 356 .(1/48)
ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثة في هذه العبادات متروكة في تطبيق رسول الله لها وغير واردة فيه أنكر ذلك عليهم ورد فعلهم ، فهذه ترجمة فعلية منه ( - صلى الله عليه وسلم - ) لقوله : ((ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، فهذا عمل مشروع الأصل لكن ليس عليه أمر النبي وهديه فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه ......
وفي هذا الحديث أيضا تنبيه لطيف جداً :
وهم أنَّ النية الحسنة لا تجعل العمل صالحاً مقبولاً عند الله تبارك وتعالى ، بل لابد أن يكون موافقاً لطريقة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
لذا فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ختم بيانه وإنكاره عليهم بقوله (( من رغب عن سنتي فليس مني )).
قال أبن حجر في (( فتح الباري 9 / 105 )) : (( المراد بالسنة : الطريقة لا التي تقابل الفرض ( كما في أصطلاح الفقهاء ) .
والرغبة عن الشيء : الأعراض عنه إلى غيره ، والمراد : من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني ..... ))(1).
2 ) النموذج الثاني : عن عمرو بن سلمة قال : (( كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداةِ ، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد .
فجاءنا أبو موسى الأشعري ، فقال : أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد .
قلنا : لا ، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعاً ، فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد أنفاً أمراً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً .
قال : فما هو ؟
فقال : إن عشت فستراه ، قال : رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصا فيقول : كبروا مائة فيكبرون مائة فيقول : هللوا مائة ، فيهللون مائة ، ويقول : سبحوا مائة فيسبحون مائة .
قال : فماذا قلت لهم ؟
قال : ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك .
__________
(1) 85 ) علم أصول البدع : 108 .(1/49)
قال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم ، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟
قالوا : يا أبا عبد الله حصاً نعد به التكبير والتهليل والتسبيح .
قال : فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدي من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة .
قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير !!
قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم ثم تولى عنهم . فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج ))(1).
قال الشيخ سليم بن عيد الهلالي : (( فقد أحتج عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) على أفراخ الخوارج بوجود أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بينهم ، وبأنهم لم يفعلوا فعلتهم ، فلو كانت خيراً كما يزعمون لسبقهم أصحاب محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) إليه ، ولما لم يفعلوا ذلك فهو ضلالة ))(2).
(الجماعات الإسلامية والغلو في أعمال التكفير والتفجير :
أقول : لقد ظهرت في هذا الزمان أحزاب وجماعات إسلامية تبنت مبدأ العنف والخروج على المجتمعات الإسلامية فضلاً عن المجتمعات الكافرة ، يغلب على أفعالها الجهل والسفه والطيش ، ولهذا جاءت أفعالهم طائشة لم تُوزن بميزان الكتاب والسنة ، ولهذا ترى أنهم لا يفرقون بين مسلم مخالف لهم في فكرهم وعقيدتهم ، أو مسلم عاص ، أو كافر ذمي ، أو معاهد أو مستأمن .
__________
(1) 72 ) أخرجه أحمد ( 1 / 404 ) بإسناد جيد ، [ أنظر : لماذا أخترت المنهج السلفي : 100 ] .
(2) 73 ) لماذا أخترت المنهج السلفي : 100 .(1/50)
ولهذا وُصم الإسلام من جراء أفعالهم الشنيعة هذه بكل قبيح ومشين ، وما حدث للإسلام والمسلمين بعد أحداث أمريكا في (( 11 سبتمبر )) مثال شاخص وماثل أمام الجميع .
قال الشيخ عبد المحسن العباد في (( بذل النصح والتذكير لبقايا المفتونين بالتكفير والتفجير : 32 )) : (( وهذه مقارنة موجزة بين أعمال الشباب المفتونين وأعمال الدُعاة المصلحين:
1 ـ الشباب المفتونون يقتلون الكافر على كفره ، فيُسرعون به إلى النار ، ويُخرجونه من ظلام إلى ظلام وعذاب دائم ، والدعاة المصلحون يَعملون على إخراج الكافر من الظلمات إلى النور ، فيظفر بسعادة الدنيا والآخرة .
2 ـ الشباب المفتونون في قتلهم الكافر يصل إلى أهله في تابوت ، فيمتلئون حقداً على الإسلام والمسلمين ، وينسبون إلى الإسلام ما هو براء منه بسبب عمل هؤلاء المفتونين ، والدعاة المصلحون بدعوتهم غيرهم إلى الإسلام يرجع الإنسان إلى أهله مسلماً قد أصبح من أهل الإسلام ، فيدعو أهله وغيرَهم إلى الإسلام .
3 ـ الشباب المفتونون عرَّضوا أنفسهم للعقوبة الواردة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَن قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإنَّ ريحَها توجد من مسيرة أربعين عاماً )) رواه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو ، والدعاة المصلحون يرجون بدعوتهم مضاعفة الأجور الموعود بها في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )) رواه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) .
4 ـ الشباب المفتونون أهلوهم وذووهم في همٍّ وغمٍّ وحزن وأسى لحال أبنائهم السيِّئة ، والدعاة المصلحون أهلوهم وذووهم في فرح وسرور وغِبطة وبهجة لحال أبنائهم الحسنة .(1/51)
5 ـ الشباب المفتونون بأفعالهم القبيحة يَصدُّون عن الدخول في الإسلام ويُسيئون إلى سمعة الدِّين الحنيف ، والدعاة المصلحون بأعمالهم الحسنة وترغيبهم في الإسلام يسعون لإخراج الكفَّار من الظلمات إلى النور.
6 ـ الشباب المفتونون لم يُوفَّقوا لجهاد أنفسهم ، فأساءوا إليها وإلى غيرهم ، بأن وقعوا في إفسادٍ سمَّوه جهادًا ، والدعاة المصلحون وُفِّقوا لجهاد أنفسهم ، فسعوا إلى جهاد غيرهم بدعوته إلى الإسلام.
7 ـ الشباب المفتونون بأعمالهم الشنيعة مفاتيح شرٍّ مغاليق خير، والدعاة المصلحون بأعمالهم الحسنة مفاتيح خير مغاليق شرٍّ ، وفي سنن أبن ماجه (237) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشرِّ، وإنَّ من الناس مفاتيح للشرِّ مغاليق للخير، فطوبى لِمَن جعل اللهُ مفاتيح الخير على يديه ، وويل لِمَن جعل الله مفاتيح الشرِّ على يديه ))، وانظر : السلسلة الصحيحة (1332) للألباني.
8ـ الشباب المفتونون ودعاتهم من أهل الوعيد .
9 ـ الشباب المفتونون لهم نصيب مِمَّا جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ... ومَن خرج على أمَّتي يضرب برَّها وفاجرَها ، ولا يتحاش من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس منِّي ولست منه )) رواه مسلم (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، والدعاة المصلحون لهم نصيب مِمَّا جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث خصال لا يغلُّ عليهنَّ قلب مسلم أبداً : إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإنَّ دعوتهم تُحيط من ورائهم )) رواه أحمد (21590) بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. )) .
( الآثار السيِّئة لأفعال أهل ا لتكفير والتفجير على المسلمين :(1/52)
قال الشيخ عبد المحسن العباد في (( بذل النصح : 55 )) : (( لقد اشتدَّت غربةُ الإسلام في هذا الزمان ، وزهد الكثيرون من أهله فيما فيه من الحقِّ والهدى الذي نزل من الحكيم الخبير ، واعتاضوا بذلك أنظمة وضعها البشر ، ونتيجة لذلك حلَّ بالمسلمين الضعف والهوان ، وأحاطت بهم أنواع الفتن ، ومِن ذلك ما وقع في البلاد الإسلامية وغيرها من تكفير وتفجير أُطلق عليه اسم الإرهاب ، جرَّ على المسلمين الويلات والخطوب من أبنائهم وأعدائه ، وكانت بداية ذلك في أول الأمر اختطاف الطائرات ، ثم تحوَّل إلى التفجير الذي فيه التقتيل وتدمير المباني وغيرها على مَن فيها ، وقد عظُمت المصائب على المسلمين بعد تدمير عمارتين شاهقتين في الغرب أُطلق عليه أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، ومن الآثار السيِّئة التي ترتَّبت على هذه الأحداث ما يلي :
1 ـ تدخل أصحاب العمارتين الشاهقتين في شؤون قطرَين من الأقطار الإسلامية ، هما أفغانستان والعراق ، وما نتج عن ذلك من فوضى قتَّل فيها أهلُ هذين القطرين بعضهم بعضاً ، ولا شكَّ أنَّ القضاء على حزب البعث في العراق نعمة كبيرة على أهل العراق وغيرهم ، ولكن المصيبة بعد ذلك في بقاء هذا التدخل ، ونسأل الله الذي خلَّص أهل العراق من البعثيين أن يُخلِّصهم من الذين قضوا عليهم ، وأن يصلح أحوالهم ويجمع كلمتهم على الخير والهدى.
2 ـ الإساءة إلى سُمعة الإسلام ؛ وذلك بإضافة أعداء الإسلام الأعمال الإجرامية التي يقوم بها بعض شباب المسلمين إلى الإسلام ، والإسلام دين الحقِّ والعدل وحفظ حقوق كلِّ ذي حق ، من المسلمين وغيرهم، وهو بريء من كلِّ ما يُضاف إليه زوراً بسبب التصرُّفات الشاذَّة الطائشة من بعض أبناء المسلمين .(1/53)
3 ـ اتِّهام مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية بأنَّها سبب التكفير وما تبعه من تفجير في هذه البلاد ، وهذا من مكايد الشيطان لإخلاء المناهج مِمَّا فيها من الخير، وهذا النعيق بالاتِّهام جاء من الخارج ومِمَّن في قلوبهم مرض من الداخل ، والمناهج ـ بحمد الله ـ بريئة من التُّهم ، ومتهمها هو المتَّهَم ، والذين ابتُلوا بالتكفير والتفجير في هذه البلاد لم يحصل ذلك لهم من المناهج الدراسية ، بل دخل عليهم من أبواب شرٍّ لا صلة لها بالمناهج البتة ، وقد اعترف بذلك بعض الذين قُبض عليهم منهم ، والذي حصل من هؤلاء الشباب هو كالذي حصل من أهل التكفير والتفجير في الجزائر من قبل ، لا صلة ولا علاقة لشذوذ وانحراف هؤلاء وهؤلاء بالمناهج الدراسية ، ومناهج التعليم وُضعت في عهد الملك عبد العزيز ولم يحصل لدارسيها إلاَّ الخير ، ولم تُتَّهم بشيء ، فلماذا تأخَّر الاتِّهام إلى هذا الوقت ؟! وكان للتعليم قبل إنشاء وزارة المعارف مديرية عامة ، مقرُّها مكة المكرمة ، وكان مديرها العام الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع ، وهو من أهل العلم والفضل، وقد وُضعت مناهج التعليم في ذلك الوقت ، ولمَّا أُنشئت وزارة المعارف بعد وفاة الملك عبد العزيز في عهد الملك سعود ، كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ أول وزير للمعارف ، فأقرَّ مناهج التعليم ، ثم تتابع على الوزارة بعده أربعة وزراء والمناهج التعليمية على ما هي عليه ، لم يُوجَّه إليها تهمة في هذه العهود المتتابعة ، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما حصل بعدها من تفجير في بلاد الحرمين وغيرها ، وُلد هذا الاتِّهام الذي كان قبل ذلك في عالم الأموات ، وليست المصيبة في هذا الاتِّهام نفسه ، وإنَّما المصيبة في أن يجد قبولاً وأن يُفكَّر في تغييرها.(1/54)
4 ـ التراجع الذي حصل لمسيرة الدعوة إلى الإسلام ونشر هدايته في الأرض ، فبعد تلك الأحداث حصل تراجع وانحسار لتلك الدعوة التي فيها الخير للبشرية ، فتوقف كثير من الأنشطة الدعوية المباركة لما وُجِّه إليها من تهمة دعمها للإرهاب ، وفي الوقت الذي أخذت فيها الدعوة إلى الإسلام في الانحسار ، فإنَّ دعوة النصارى إلى باطلهم آخذة في الانتشار .
5 ـ محاولة الضغط على الدول العربية وبالأخصِّ المحافظ منها على الإسلام ، بما سمي إصلاحات نحو الأخذ بالديمقراطية المزعومة ، ومن المعلوم أنَّ الأنظمة الديمقراطية الجهة التشريعية فيها فئة معينة من البشر ، وأما الإسلام فإنَّ التشريع فيه من خالق البشر )) أ . هـ
( الحذر من جر المعركة إلى أرض المسلمين :
أقول : هؤلاء الأغمار الذين هم كما وصفهم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) سفهاء أحلام حدثاء أسنان قد أساءوا إلى الإسلام ، وأهله بأفعالهم الغير منضبطة بضوابط الشرع ، من جانبين :
1 ) أنهم أساءوا إلى الإسلام من خلا ل دخولهم إلى بلاد الكفار بأمان منهم ، ومن ثم القيام بالاعتداء عليهم من خلال القيام بأعمال التفجير والتدمير بحق المدنيين العزل .
وبذلك أعطوا الفرصة للكفار أن يصفوا الإسلام بالإرهاب والدموية والبربرية ، وكان الأولى بهم أن يحسنوا إليه بدل الإساءة إليه ، ولكن كما قيل فاقد الشيء لا يعطيه .
2 ) أنهم هيجوا الكفار على الإسلام وأهله ، وجلبوهم إلى أرضه بدباباتهم وطائراتهم بحجة مكافحة الإرهاب والتطرف .
فبعد أحداث (( 11 سبتمبر )) انتقلت المعركة بويلاتها ومصائبها إلى أرض المسلمين ، حيث سقطت دولتان من الدول الإسلامية في قبضة الكفار ، وتغيرت مسارات كثير من الدول نحو الديمقراطية الكافرة .(1/55)
وهنا قد تثار بعض الأسئلة المهمة التي تحتاج إلى أجوبة موضحة ، خاصة بعد أن اختلطت الكثير من المسائل ، بسبب إختلاف مناهج الدعاة وطرائقهم ، ومن ثم انعكست على سلوك الكثير من الشباب المسلم ، ومن هذه الأسئلة :
1 ) ما حكم ضرب المسلمين للكفار في عقر دارهم بعد الدخول إلى أراضيهم بعقد أمان منهم ؟
2 ) ما حكم تهييج الكفار على المسلمين على الرغم من حال الضعف الذي يعيشونه في هذا الزمان من الناحيتين العقائدية والعسكرية ؟ .
3 ) ما حكم ضرب الكفار الذين يدخلون إلى بلاد المسلمين بعهد وأمان من قبل المسلمين أو أمرائهم ؟
4 ) ما حكم ضرب الكفار إذا كانوا مختلطين بالمسلمين ؟
أما الجواب على السؤال الأول : لا يجوز للمسلمين الذين يدخلون إلى بلاد الكفر بموافقة منهم أن يعتدوا عليهم خاصة إن كانوا من أهل العهد والأمان وليسوا من أهل القتال والحرب .
وهذا ليس من باب المودة والمولاة لهم وإنما هو من باب العمل بما أمر الإسلام به .
فاحترام المواثيق والمعاهدات مع الكفار وتحريم الغدر بهم ، أمران أمر بهما الإسلام وحث على الالتزام بهما ، لأنَّ الغدر والجهاد لا يلتقيان أبداً ، فالغدر كما هو معلوم خيانة في موضع الائتمان ، لاسيما وقد وردت نصوص شرعية من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم تأمر بوجوب الوفاء بعهدهم ، وتحريم الغدر بهم منها :
أما النصوص الشرعية :(1/56)
1 ) قال تعالى { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ، سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [النساء 91].
قال أبن كثير في تفسيره (( 2 / 142 )) : (( {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم} أي المسالمة {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك .
2 ) وقال تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة : 8] .
قال أبن كثير : (( 5 / 527 )) : (( وقوله تعالى: {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم } أي : يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم {أن تبروهم} أي تحسنوا إليهم {وتقسطوا إليهم} أي تعدلوا {إن الله يحب المقسطين} )) .
3 ) عن حُذَيْفَةُ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْراً إلاّ أَنّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي، حُسَيْلٌ. قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفّارُ قُرَيْشٍ ، قَالُوا: إِنّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمّداً ؟
فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ ، مَا نُرِيدُ إلاّ الْمَدِينَة َ، فَأَخَذُوا مِنّا عَهْدَ اللّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنّ إلَىَ الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ.(1/57)
فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ: (( انْصَرِفَا. نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِم ْ، وَنَسْتَعِينُ اللّهَ عَلَيْهِمْ" )) .
4 ) عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ، فيقال: هذه غدرة فلان)) [ رواه البخاري ومسلم ].
5 ) ويوم صلح الحديبية جاء (( ... عروة بن مسعود فجعل يكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على النبيِّ صلى اللّه عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فضرب يده بنعل السيف وقال: أخِّرْ يدك عن لحيته ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟
قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غُدَر ، أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم ، وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (( "أمَّا الإِسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإِنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه")) [ صحيح سنن أبي داود : 3 / 85 ] .
6 ) وعن عمرو بن الحمق ( رضي الله عنه ) أنَّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : (( من أمَّن رجلاً على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل ، وإن كان المقتول كافراً ))(1).
وأما أقوال أهل العلم :
1 ) قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (( الأم : 4 / 248 )) باب : [ المستأمن في دار الحرب ] : (( إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان من العدو فهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم )) أ ، هـ
__________
(1) 74 ) رواه أبن حبان وصححه الإمام الألباني في (( صحيح الجامع الصغير برقم : 6103)) و (( صحيح الترغيب والترهيب برقم : 3007 )) .(1/58)
2 ) وقال أبن قدامة المقدسي _ رحمه الله _ في (( المغني : 9 / 237 )) باب [ من دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم ولم يعاملهم في الربا ] : (( وأما خيانتهم فمحرمة لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بترك خيانتهم ، وأمنه إياهم من نفسه وأن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم بالمعنى ، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده ، فإذا ثبت هذا لم تحل خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر وقال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( المسلمون على شروطهم )) أ . هـ
3 ) قال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي العام في المملكة العربية السعودية - حفظه الله - عِنْد اصطدام الطائرتين بِمبنى التجارة العالَمي بأمريكا :
الحمد لله رب العالَمين ، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام عَلَى أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فنظرًا لكثرة الأسئلة والاستفسارات الواردة إلينا حول ما جرى فِي الولايات المتحدة الأمريكية منذ أيام ، وما موقف الشريعة منها ؟ وهل دين الإسلام يقر مثل هذه التصرفات أم لا ؟
فأقول مستعينًا بالله الواحد القهار: إن الله سبحانه قد مَنَّ علينا بِهذا الدين الإسلامي، وجعله شريعة كاملة صالِحة لكل زمان ومكان، مُصلحة لأحوال الأفراد والجماعات ، تدعو إلى الصلاح والاستقامة والعدل والخيرية ، ونبذ الشرك والشر والظلم والجور والغدر، وإن من عظيم نعم الله علينا نحن المسلمين: أن هدانا لِهذا الدين، وجعلنا من أتباعه وأنصاره، فكان المسلم المترسم لشريعة الله، المتبع لسنة رَسُول الله، المستقيم حق الاستقامة عَلَى هذا الدين هُوَ الناجي السالِم فِي الدُّنْيَا والآخرة.
هذا وإن ما جرى فِي الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث خطيرة راح بسببها آلاف الأنفس ، لِمَن الأعمال الَّتِي لا تُقرها شريعة الإسلام ، وليست من هذا الدين ، ولا تتوافق مع أصوله الشرعية ، وذلك من وجوه :(1/59)
الوجه الأول : أن الله سبحانه أمر بالعدل ، وعلى العدل قامت السماوات والأرض، وبه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، يقول الله سبحانه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
ويقول سبحانه : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط ِ} [الحديد : 25].
وحكم الله ألا تُحَمَّل نفس إثم نفس أخرى لكمال عدله سبحانه : {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].
الوجه الثاني : أن الله سبحانه حرم الظلم عَلَى نفسه، وجعله بين عباده مُحرمًا ، كما قَالَ سبحانه فِي الحديث القدسي : (( يا عبادي إني حرمتُ الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم مُحرمًا فلا تظالَمو )) [ رواه مسلم ].
وهذا عامٌ لِجميع عباد الله مسلمهم وغير مسلمهم لا يَجوز لأحد منهم أن يظلم غيره ، ولا ينبغي عليه ولو مع العداوة والبغضاء ، يقول الله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
فالعداوة والبغضاء ليست مسوغًا شرعيًا للتعدي والظلم . وبناء عَلَى ما سبق يَجب أن يعلم الجميع دولاً وشعوبًا ، مسلمين وغير مسلمين أمورًا :
أولها : أن هذه الأحداث الَّتِي وقعت فِي الولايات المتحدة وما كَانَ من جنسها من خطف لطائرات ، أو ترويع لآمنين ، أو قتل أنفس بغير حق ، ما هِيَ إلا ضرب من الظلم والجور والبغي الَّذِي لا تقره شريعة الإسلام، بل هُوَ مُحرم فيها ومن كبائر الذنوب.(1/60)
ثانيها : أن المسلم المدرك لتعاليم دينه ، العامل بكتاب الله وسنة نبيه ، ينأى بنفسه أن يدخل فِي مثل هذه الأعمال لِما فيها من التعرض لسخط الله ، وما يترتب عليها من الضرر والفساد .
ثالثها : أن الواجب عَلَى علماء الأمة الإسلامية أن يبينوا الحق فِي مثل هذه الأحداث، ويوضحوا للعالم أجمع شريعة الله، وأن دين الإسلام لا يُقر أبدًا مثل هذه الأعمال .
رابعها : عَلَى وسائل الإعلام ومن يقف وراءها مِمن يلصق التهم بالمسلمين ويسعى فِي الطعن فِي هذا الدين القويم، ويصمه بما هُوَ من براء، سعيًا لإشاعة الفتنة، وتشويه سمعة الإسلام والمسلمين، وتأليب القلوب، وإيغار الصدور، يَجب عليه أن يكف عن غيّه، وأن يعلم أن كل منصف عاقل يعرف تعاليم الإسلام لا يُمكن أن يصفه بِهذه الصفات، ولا أن يلصق به مثل هذه التهم، لأنه عَلَى مر التاريخ لَم تعرف الأمم من المتبعين لِهذا الدين الملتزمين به إلا رعاية الحقوق وعدم التعدي والظلم .
هذا ما جرى بيانه إيضاحًا للحق وإزالة للبس، والله أسأل أن يلهمنا رشدنا ويَهدينا سبل السلام، وأن يعز دينه ويُعلي كلمته إنه جواد كريم وصلى الله وسلم عَلَى نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن مُحَمَّد آل الشيخ(1).
__________
(1) 75 ) أنظر الكواشف الجلية : 133 .(1/61)
أما الجواب على السؤال الثاني : الخاص حول مسألة تهييج الكفار وجلبهم إلى أرض المسلمين بأفعال طائشة لا تمت للإسلام بصلة ، قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في : (( الأصول الشرعية عند حلول الشبهات : 11 )) : (( إنّ جَرَّ المعركةِ إلى داخلِ البلادِ الإسلاميةِ أمرٌ جَلَلٌ عظيمٌ ،سوف تحصلُ في كلِّ بلدٍ مصيبةٌ ، وسيتطاحنُ الناسُ وذلك مثلُ ما حَصَلَ في أفغانستانَ بعدَ ما انتهتِ الحربُ مع الاتحاد السوفيتي ، وطَعَنَ بعضُهم في بعضٍ ، وبقيتِ الخلافاتُ ، ولم يجتمعِ الأفغانُ على وِلايةٍ ، فهذا لا يُقِرُّ لهذا ، وهذا لا يُقِرُّ لهذا . وهكذا ..
وإن وجدتْ عندَهم وِلايةٌ فليس هناك اتفاقٌ من الجميع ، ففيها تنازعاتٌ وقتلٌ ، كما أنه قُتِلَ الكثيرُ من زعماءِ الفِرَقِ والفصائلِ )) أ . هـ.
ومما يؤكد على ضرورة عدم تهييج الكفار على المسلمين خاصة وهم على هذا الحال من الضعف والخور ، ما جاء في صحيح الإمام مسلم عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التّيْمِيّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ.
فَقَالَ حُذَيْفَةُ : أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِك َ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَابِ ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْم ِ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟"
فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَد ٌ.
ثُمّ قَال َ: "أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟" فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَدٌ .
ثُمّ قَالَ : "أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟"(1/62)
فَسَكَتْنَا ، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَدٌ.
فَقَال َ: (( قُمْ يَا حُذَيْفَة ُ! فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ )) فَلَمْ أَجِدْ بُدّا ً إذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ .
قَال َ: (( اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ ، وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيّ )) . فَلَمّا وَلّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنّمَا أَمْشِي فِي حَمّام ٍ، حَتّىَ أَتَيْتُهُمْ ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْماً فِي كَبِدِ الْقَوْس ِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيّ" وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ. فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمّامِ ، فَلَمّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ ، وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلّي فِيهَا ، فَلَمْ أَزَلْ نَائِماً حَتّىَ أَصْبَحْتُ، فَلَمّا أَصْبَحْتُ قَالَ : "قُمْ . يَا نَوْمَانُ! )) .
وأما الجواب على السؤال الثالث :
ويقصد من هذا السؤال ما يجري في الساحة الإسلامية من حالات الاعتداء على الكفار القاطنين الأراضي الإسلامية أو من يدخلها بعقد أمان أو عهد ، يعقد له من قبل حكام المسلمين أو من آحادهم .
ولقد بين أهل العلم من علماء الدعوة السلفية المباركة هذا الأمر أتم بيان ، وفق ما جاء من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة ، ولكن أبى من أعمى الهوى بصره وبصيرته من أدراك ذلك ، حتى رفعوا عقيرتهم وأطلقوا ألسنتهم يصرخون : ( لا عهد ولا أمان يا علماء السلطان ) .
ومن خلال ما سبق ذكره وما سيأتي بيانه سيتبين الحق أن شاء الله تعالى لكل ذي لب وفقه الله لمعرفة الحق من الباطل ، نقول والله الموفق :(1/63)
1) روى البخاري في صحيحه أنَّ قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )) .
قال أبن حجر في (( فتح الباري : 12 / 369 )) : (( معاهداً )) والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم )) .
2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المسلمون تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، يرد مشدهم على مضعفهم ، ومتسريهم على قاعدهم ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ))[ صحيح سنن أبي داود : 3 / 80 ] .
قال العظيم أبادي في (( عون المعبود / باب الجهاد )) :
( تتكافأ ) : بالهمز في آخره أي تتساوى . ...
( دماؤهم ) : أي في القصاص والديات لا يفضل شريف على وضيع كما كان في الجاهلية . ...
( يسعى بذمتهم ) : أي بأمانهم .
( أدناهم ) : أي عددا وهو الواحد أو منزلة . قال في شرح السنة : أي أن واحدا من المسلمين إذا آمن كافرا حرم على عامة المسلمين دمه وإن كان هذا المجير أدناهم مثل أن يكون عبدا أو امرأة أو عسيفاً تابعا أو نحو ذلك فلا يخفر ذمته .
( ويجير عليهم أقصاهم ) : قال الخطابي : معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقداً لم يكن لأحد منهم أن ينقضه ، وإن كان أقرب دار من المعقود له . ...
((1/64)
وهم يد على من سواهم ) : قال أبو عبيدة : أي المسلمون لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل . وقال الخطابي معنى اليد المظاهرة والمعاونة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا أنجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا انتهى . وفي النهاية أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا كأنه جعل أيديهم يدا واحدة وفعلهم فعلا واحدا انتهى . يرد مشدهم على مضعفهم ، قال الخطابي المشد المقوي الذي دوابه شديدة قوية والمضعف من كانت دوابه ضعافا انتهى وفي النهاية : يريد أن القوي من الغزاة يساهم الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة انتهى . وقال السيوطي : وجاء في بعض طرق الحديث المضعف أمير الرفقة أي يسيرون سير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة انتهى . ( ومتسريهم ) : بالتاء الفوقانية وبعدها سين ثم الراء ثم الياء التحتانية . وفي بعض النسخ متسرعهم بالعين المهملة بعد الراء . قال السيوطي : هو غلط , وقال الخطابي : المتسري هو الذي يخرج في السرية , ومعناه أن يخرج الجيش فينحوا بقرب دار العدو ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا فإنهم يردون ما غنموا على الجيش الذي هو ردء لهم لا ينفردون به , فأما إذا كان خروج السرية من البلد فإنهم لا يردون على المقيمين شيئا في أوطانهم . ...
( ولا ذو عهد في عهده ) : أي لا يقتل معاهد ما دام في عهده )) أ . هـ
3 ) وروى الإمام البخاري في (( صحيحه )) عن أبي مرة مولى أم هانيء بنت أبي طالب أخبره : أنه سمع أم هانيء بنت أبي طالب تقول :
ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره ، فسلمت عليه .
فقال : (( من هذه ؟ ))
فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب.
فقال : (( مرحباً بأم هانئ )) ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ، ملتحفاً في ثوب واحد ، فلنا انصرف .(1/65)
قلت : يا رسول الله ، زعم أبن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته ، فلان بن هبيرة .
فقال : ( - صلى الله عليه وسلم - ) : ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ )).
قالت أم هانئ: وذاك ضحى )) .
قال أبن القيم في (( زاد المعاد : 5 / 44 )) : (( في حكمه صلى الله عليه وسلم في الأمان الصادر من الرجال والنساء :
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ )).
وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجارتْهُما أم هانيء أبنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته أبنتُه زينب ، ثم قال : (( يُجيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم ْ)). وفى حديث آخر: (( يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقصَاهُمْ )).
فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها : تكافؤ دمائهم ، وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم .
والثانية : أنه يَسعى بذمتهم أدناهم ، وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد.
وقال أبن الماجشون : لا يجوز الأمان إلا لوالى الجيش ، أو والى السرية. قال أبنُ شعبان : وهذا خلافُ النَّاس كُلِّهم .
والثالثة : أن المسلمين يد على من سواهم ، وهذا يمنعُ من تولية الكفار شيئاً من الولايات ، فإن للوالي يداً على المولَّى عليه .
والرابعة : أنه يرد عليهم أقصاهم ، وهذا يُوجب أن السَّرِيَّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم ، وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها، وأن ما صار في بيت المال من الفيء كان لقاصيهم ودانيهم ، وإن كان سبب أخذه دانيهم ، فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه.
4) قال أبن القيم في (( أحكام أهل الذمة : 3 / 1441 )) : (( فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه ولا يعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة من إلتزام الصغار ونحوه ... )) .(1/66)
5) قال الشيخ محمد بن رمزان آل طامي في (( الكواشف الجلية : 174 )) : سئل سماحة الشيخ أبن باز في (( مجموع الفتاوى : 8 / 239 )) : ما حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية ؟.
فأجاب : هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحًا أو عمالاً لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان ، فلا يجوز الاعتداء عليهم ، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره ، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز ، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم ، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور ، لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم ، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر ، أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام ، أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين ، فهذا مطلوب ، وتدعمه الأدلة الشرعية ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه )) أ . هـ
6 ) وقال أبو حميد الفلاسي في (( الفوائد المستفادة من شرح كتاب التوحيد للفوزان : 8 )) : (( النفس التي حرم الله هي : النفس المؤمنة ، وكذلك النفس المعاهدة ، ولو كانت كافرة ، فالله حرم قتل المؤمنين ، وكذلك حرم قتل المعاهدين من الكفار الذي لهم عهد عند المسلمين بالذمة أو بالأمان .
فالذمة وهم الذي يدفعون الجزية .
أو بالأمان : وهم الذين دخلوا بلادنا بالأمان ، لا يجوز قتلهم والتعدي عليهم ، لأنهم في ذمة المسلمين ، وفي أمان المسلمين لا يجوز خيانة ذمة المسلمين ، ولهذا جاء في الحديث _ النبوي _ : (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة )) . أ . هـ
وأما الجواب على السؤال الرابع :
أما مسألة ضرب الكفار في حال اختلاطهم بالمسلمين ، فهذا الأمر لا يجوز الأقدام عليه لما فيه من المفاسد الراجحة و المؤكدة التي من الممكن أن تقع نتيجة هذا الفعل .(1/67)
قال الشيخ مجمد بن جميل زينو : (( كيف نفهم القرآن : 86 )) : (( قال تعالى { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح : 25].
يستفاد من الآية ما يلي :
1 ) أن المشركين من أهل مكة منعوا المسلمين من دخول مكة لأداء العمرة ومعهم الهدي محبوساً لم يبلغ مكانه المخصص له ليذبح .
2 ) لا يجوز قتال الكفار المعتدين والمؤمنون مختلطون معهم ، خشية أن تقع الخسارة بالمؤمنين والمؤمنات بغير قصد ، فيقع الإثم والعار على المؤمنين المقاتلين وهذا يبين مدى حرص الإسلام على حياة المؤمنين والمؤمنات ، ولو كانوا قلة ، فقد ذكر أبن كثير في تفسيره : أن عدد المؤمنين والمؤمنات الموجودين في مكة تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان ، وهذا يفيد قوله تعالى (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) . .... )) أ . هـ
أقول : وقد يفهم البعض كلامنا هذا فهماً قاصراً وأنه من باب الموالاة والمواددة للكفار ، والأمر بالتأكيد ليس كذلك .
فالكلام عن وجوب تنفيذ أوامر الإسلام وما جاء به من أهمية مراعاة حقوق الكفار من أهل الذمة والعهد والأمان وعدم الاعتداء عليها ، ليس موالاة ومودة لهم ، بقدر ما هي إلتزام وتحقيق لنصوص شرعية موجبة لذلك ، كما أن البر والإحسان إليهم ليس من باب الموالاة والمودة لهم ، وهذا الأمر يظهر جلياً واضحاً من خلال الإطلاع على الحادثة التالية :(1/68)
قال صفي الرحمن المباركفوري في (( الرحيق المختوم : 250 )) : (( بعثت سرية محمد بن مسلمة بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة ، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً . تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال ، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب .
فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء ، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة ، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ، فأخذه المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم :
فقال : ( ( ما ذا عندك يا ثمامة ؟ ) )
فقال : عندي خير يا محمد ، إن تقتل ، تقتل ذا دم ، وإن تنعم ، تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ما شئت ، فتركه ، ثم مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك ، فرد عليه كما رد عليه أولاً ، ثم مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق : (( أطلقوا ثمامة ) ) ، فأطلقوه ، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم ، وقال : والله ، ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلى من دينك ، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش :
قالوا : صبأت يا ثمامة ؟(1/69)
قال : لا والله ، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ، وكانت يمامة ريف مكة ، فانصرف إلى بلاده ، ومنع الحمل إلى مكة ، حتى جهدت قريش ، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليه حمل الطعام ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . )) أ . هـ
قال محمد بن رمزان آل طامي في (( الكواشف الجلية : 296 )) : (( قال الحافظ في الفتح (5/276): "ثم إن البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى – وذكر آية المجادلة - فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل"......
وقال أبن القيم في أحكام أهل الذمة ( 1/601) : (( فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة – أي سورة الممتحنة - عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة ؛ فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها وأنه لم ينه عن ذلك بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء وإنما المنهي عنه تولي الكفار )) .
وللشيخ عطية سالم بحث جيد في تفسير هذه الآية ، وفي إثبات أنها محكمة لا منسوخة ، وهو بحث طويل ، سوف أنقله بطوله لأهميته ، حيث قال في تتمته لأضواء البيان للعلامة الشنقيطي : (8/148 إلى 158) - بعد أن أشار إلى أن الآيتين السابقتين قد قسما الكفار قسمين -:
الأول : قسمٌ مسالم لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فلم ينه الله المسلمين عن برهم والإقساط إليهم.(1/70)
الثاني : وقسمٌ غير مسالم يقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على إخراجهم فنهى الله المسلمين عن موالاتِهم ؛ وفرق بين الإذن بالبر والقسط وبين النهي عن الموالاة والمودة ؛ ويشهد لهذا التقسيم ما في الآية الأولى من قرائن وهي عموم الوصف بالكفر وخصوص الوصف بإخراج الرسول وإياكم . ومعلوم أن إخراج الرسول والمسلمين من ديارهم كان نتيجة لقتالهم وإيذائهم فهذا القسم هو المعني بالنهي عن موالاته لموقفه المعادي لأن المعاداة تنافي الموالاة ؛ ولذا عقب عليه بقوله تعالى : (( ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون )) ؛ فأي ظلم بعد موالاة الفرد لأعداء أمته وأعداء الله ورسوله.
أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ولا بإخراج ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم فهؤلاء من جانب ليسوا محلاً للموالاة لكفرهم وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم )) أ . هـ.
وبهذا يتبين لنا من خلال ما سبق ذكره وتقريره أن الأعمال التي من الممكن أن تصدر من آحاد المسلمين يجب أن تكون وفق معايير شرعية منضبطة بميزان الشرع الحكيم ، وإما إن خلت تلك الأعمال من تلك المعايير والموازين فإنها لا ترتبط شرعاً وعقلاً إلا بمن صدرت منه والإسلام بعيد عنها ، وبريء منها حتى لو حاول أصحابها إلصاقها
بالإسلام ، إما بفعل تلبيس الشياطين التي صورت لهم أعمالهم الشريرة على أنها غيرة على الإسلام وسعي للتغيير حتى انطلت عليهم وصاروا ينظرون إليها بعين الرضى والكمال حتى رأوها حسنة ، قال تعالى فيهم وفي أمثالهم ((ُ قل هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً )) [الكهف : 104] .(1/71)
وإما هي محاولة خبيثة من أصحاب هذه الأعمال يريدون من ورائها نيل المكاسب والمصالح الدنيوية الرخيصة ، ولهذا ترى أنهم قد ألبسوا تلك الأعمال ثياب الإسلام وأطلقوا عليها من أسماء الإسلام في سبيل تمريرها على السذج من الناس وقد فعلوا .
وسواء كان هذا الأمر أو ذاك فإن أحلاهما مر وأدناهما شر ، ولكنها سوء النيات والمقاصد هي التي تردي بصاحبها في مهاوي الخسارة والهلاك ، أعاذنا الله تبارك وتعالى وإياكم من الخسارة والهلاك .
الفصل الثاني
الغلو في الاعتقاد
تمهيد :
يعتبر الغلو في الاعتقاد من أخطر أنواع الغلو ، وأشدها فتكاً ، وأكثره ضرراً ، وما وقع الخلاف والإفتراق إلا من خلاله وعن طريقه ، ولقد ظهرت أول بوادره في زمن الصحابة ( رضي الله عنهم ) عندما تجمع عصابة من الغوغاء وأعلنوا الخروج على الخليفة الراشد عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) أدى بالتالي إلى مقتله شهيداً مظلوماً ، ولكنه في الوقت نفسه كان خروجاً عشوائياً انتهى بمجرد انتهاء الهدف الذي تجمعوا من أجله ، ولكنه ترك أثراً واضحاً في مسيرة الأمة الإسلامية ، وصدعاً كبيراً في جدار الدولة الإسلامية الفتية ، وثماراً يوشك أن يطل زمن قطافها فتقطف .
حتى إذا ما جاء عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أينعت تلك الثمار وأتت أكلها مُرة نتنة تمخضت بكل ما فيها من مرارة وقسوة عن أحداث جسيمة ووقائع خطيرة كان من أبرزها أن تقاتل المسلمون فيما بينهم في معركتي الجمل وصفين ، وهذه بحد ذاتها ثمرة مرة للغلو ، وسابقة خطيرة في حياة المسلمين تنذر بمرحلة قادمة ستلقي بضلالها الثقيلة وتبعاتها الخطيرة على الأمة الإسلامية تنذر بخطر كبير ، وتنبأ بشر مستطير ، حيث الثورات والانتفاضات والدماء .(1/72)
ولعل من المناسب في هذا المقام قبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع الجلل أن نشير إلى أبرز وأول المسائل التي وقعت وحدث الخلاف بسببها وعن طريقها ، مما أدى إلى توسيع رقعة الاختلاف والانقسام ومن ثَم خروج الفرق والطوائف ، حتى صار لكل فرقة منهم شرعة ومنهاجاً ، وليبدأ الناس بعهد جديد غير ذلك العهد الذي كان في عهد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وخلفائه الراشدين .
المسألة الأولى : أول وأبرز مسائل الخلاف :
لقد بدأ الخلاف وأشتد وكان من أول مسائله ما يأتي :
أولاً: اختلافهم في الحكم على الفاسق الملي :
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( الاستقامة : 1 / 431 )) : (( أول مسألة فرقت الأمة مسألة الفاسق الملي فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد والخلود في النار وحكموا بكفره ووافقتهم المعتزلة على دخوله في نصوص الوعيد وخلوده في النار لكن لم يحكموا بكفره ، فلو كان الشيء خيراً محضاً لم يوجب فُرقة ، ولو كان شراً محضاً لم يخف أمره ، لكن لاجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة )) أ . هـ.
ولهذا اختلفت هذه الفرق والطوائف في الحكم على المسلم الذي يرتكب كبيرة من الكبائر ، نظراً لما أصلوه في مذهبهم ومنهجهم من أصول خاصة بهم ، فكان إختلافهم إلى أقوال :
1 ) الخوارج : قالوا : هو كافر في الدنيا ، وفي الآخرة مخلد في النار آبد الآبدين لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها .
2) المعتزلة : قالوا : هو في الدنيا لا كافر ولا مؤمن ، بل هو في منزلة بين منزلتين ، وفي الآخرة مخلد في النار ، فالتقوا مع الخوارج في حكم الآخرة ، واختلفوا في حكم الدنيا .
3 ) المرجئة : قالوا : هو مؤمن كامل الإيمان ، على ضوء قاعدتهم المشهورة (( لا تضر مع الإيمان معصية )) .
4 ) أما أهل السنة والجماعة اتباع السلف الصالح فقد وفقهم الله تعالى للحق الذي أثبتته النصوص الشرعية فقالوا : هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته(1/73)
وقد ذكر شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 7 / 241 )) قول أهل السنة والجماعة في الحكم على مرتكب الكبيرة مقترناً بأقوال أهل الأهواء والبدع : (( والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان ، مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته ، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق ، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق ، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله ......
وأما الخوارج والمعتزلة ، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام ؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد ، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام ، لكن الخوارج تقول : هم كفار .
والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار ، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين )) أ . هـ
ثانياً : اختلافهم في الصحابة الكرام المتقاتلين في وقعتي الجمل وصفين :
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( مجموع الفتاوى : 35 / 50 )) أهل الأهواء في قتال علي ومن حاربه على أقوال :
أما الخوارج : فتكفر الطائفتان المقتتلان جميعًا . ...
وأما الرافضة : فتكفر من قاتل علياً ، مع المتواتر عنه من أنه حكم فيهم بحكم المسلمين , ومنع من تكفيرهم . ...
وأما _ المعتزلة _ : فلهم في قتال طلحة والزبير ، وعائشة ثلاثة أقوال :
أحدها : تفسيق إحدى الطائفتين ؛ لا بعينها ، وهو قول عمرو بن عبيد وأصحابه . ...
والثاني : تفسيق من قاتله إلا من تاب ، ويقولون : إن طلحة ، والزبير، وعائشة تابوا ، وهذا مقتضى ما حكي عن جمهورهم ، كأبي الهذيل ، وأصحابه ، وأبي الحسين وغيرهم . ...
وذهب بعض الناس إلي تخطئته في قتال طلحة ، والزبير ، دون قتال أهل الشام
ففي الجملة ، أهل البدع من الخوارج ، والروافض والمعتزلة ، ونحوهم، يجعلون القتال موجبًا لكفر ، أو لفسق . ...
وأما أهل السنة : فمتفقون علي عدالة القوم ، ثم لهم في التصويب ، والتخطئة مذاهب لأصحابنا وغيرهم : ...
أحدها ... : أن المصيب علي فقط . ...
والثاني : الجميع مصيبون . ...
والثالث : المصيب واحد ، لا بعينه . ...(1/74)
والرابع : الإمساك عما شجر بينهم مطلقًا ، مع العلم بأن علياً وأصحابه هم أولي الطائفتين بالحق ، كما في حديث أبي سعيد الخدري لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين ، فيقتلهم أولي الطائفتين بالحق )) وهذا في حرب أهل الشام ، والأحاديث تدل علي أن حرب الجمل فتنة ، وأن ترك القتال فيها أولي ، فعلى هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة، وذلك الشجار بالألسنة ، والأيدي أصل لما جري بين الأمة بعد ذلك ، في الدين والدنيا ، فليعتبر العاقل بذلك ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة )) أهـ .
ثالثاً : اختلافهم وتنازعهم في أسماء الله وصفاته : وهكذا توسعت رقعة الخلاف بينهم حتى وصل بهم الأمر إلى التكلم في ذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته ، وهكذا شأن البدع تبدأ صغيرة ثم تكبر حتى يمتد شررها ويعظم وخطرها .
قال محمد بن إبراهيم الحمد : (( هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها :
1 الجهمية : وهم أتباع الجهم بن صفوان ، وهم ينكرون الأسماء والصفات
2) المعتزلة : وهم أتباع واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وهم يثبتون الأسماء ، وينكرون الصفات، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء .
3 ) الأشاعرة : وهم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهم يثبتون الأسماء ، وبعض الصفات ، فقالوا : إن لله سبع صفات عقلية يسمونها معاني هي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر والكلام ، وهي مجموعة في قول القائل:
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذلك السمع والبصر
وإثباتهم لهذه الصفات مخالف لطريقة السلف .
4 ) الماتريدية : وهم أتباع أبي منصور الماتريدي ، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات ، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف
5 ) الممثلة : وهم الذين أثبتوا الصفات ، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين ، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي ))(1)أ . هـ
__________
(1) 76 ) أنظر : توحيد الأسماء والصفات : 29 .(1/75)
وهكذا وقع القوم في عدة محذورات شرعية منها :
وقال محمد بن إبراهيم الحمد (( 30 )) : (( يضاد توحيد الأسماء ، والصفات الإلحادُ فيها ، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ ، والتمثيلُ ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل .
1_الإلحاد: الإلحاد في اللغة هو: الميل ، ومنه اللحد في القبر .
يضاد توحيد الأسماء، والصفات الإلحادُ فيها ، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ، والتمثيلُ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل.
ويُقصد بالملحدين: المائلين عن الحق.
أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله .
والإلحاد في أسماء الله هو: العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها.
أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته :
1 ) أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة .
2 ) أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه ، كفعل أهل التمثيل .
3 ) أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه ؛ لأن أسماء الله توقيفية ، كتسمية النصارى له أباً ، وتسمية الفلاسفة إياه علة فاعلة ، أو تسميته بمهندس الكون ، أو العقل المدبر ، أو غير ذلك .
4 ) أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كاشتقاق اللات من الإله ، والعُزَّى من العزيز .
5 ) وصفه تعالى بما لا يليق به ، وبما ينزه عنه ، كقول اليهود : بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض، واستراح يوم السبت ، أو قولهم : إن الله فقير .
2 _ التعطيل : التعطيل في اللغة : مأخوذ من العطل ، الذي هو الخلو والفراغ والترك ، ومنه قوله تعالى : [وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (الحج: 45) ، أي: أهملها أهلها ، وتركوا وردها .
وفي الاصطلاح : هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه ، وهو نوعان :
أ_تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات ، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً .
ب_ تعطيل جزئي : كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم .(1/76)
3_ التمثيل : هو : إثبات مثيل للشيء ، وفي الاصطلاح : اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين ، كأن يقول الشخص: لله يد كيدي .
4_ التكييف : حكاية كيفية الصفة كقول القائل : يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا ، أو يده طويلة ، أو غير ذلك ، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف .
5_ التفويض : هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله .
أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله عز وجل.
والحق أن الصفات معلومة معانيها ، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله عز وجل .
6 _ التحريف : التحريف لغة : التغيير .
وفي الاصطلاح : تغيير النص لفظاً أو معنى .
والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى ، وقد لا يتغير، فهذه ثلاثة أقسام :
أ_تحريف لفظي : يتغير معه المعنى ، كتحريف بعضهم قوله تعالى: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) إلى نصب لفظ الجلالة ؛ ليكون التكليم من موسى عليه السلام .
ب_ تحريف لفظي : لا يتغير معه المعنى ، كفتح الدال من قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة : 2)، وذلك بأن يقول : الحمدَ لله. . . وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل ؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً .
جـ_ تحريف معنوي : وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك.
7 _التأويل: التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ ، منها الرجوع ، والعاقبة ، والمصير ، والتفسير.
أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معانٍ، اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف ، والثالث مبتدع باطل.
وإليك بيان هذه المعاني:
المعنى الأول : التفسير، وهو إيضاح المعنى ، وبيانه .
وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره ، فتراهم يقولون: تأويل هذه الآية كذا وكذا ، أي تفسيرها .(1/77)
الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء ، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ](الأعراف: 53)، وقوله : [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (الإسراء: 35)، وقوله عن يوسف عليه السلام : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) .
الثالث : صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر ، وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم ، كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة ، وهذا هو الذي ذمه السلف ))(1).
__________
(1) 77 ) أقول : أعلم رحمك الله : أن ما جاء في الفقرتين السادسة والسابعة بحاجة إلى نوع من التفصيل والبيان ، ودونك هو : قال الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( شرح العقيدة الواسطية : 1 / 61 )) : (( فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي ، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع ، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل، فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال ، إلا إذا كان جاهلاً.. .هذا الغالب ، لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس. فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف ، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى ، وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ، ويسمون أنفسهم بأهل التأويل ، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول ، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا : تحريفاً ! ، ولو قالوا : هذا تحريف ، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم ، ولهذا عبر المؤلف ( أي أبن تيمية ) رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل ، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن ، فإن الله تعالى قال: { يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى.
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل ، يجب البعد عنه والتنفير منه ، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل ، لأن التحريف لا يقبله أحمد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع : أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )) ، وقال الله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
أ )يكون بمعنى التفسير ، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون : تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام ، أي : جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً ، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء ، وهذا إن ورد في طلب ، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً ، وإن ورد في خبر ، فتأويله وقوعه......
(جـ) المعنى الثالث للتأويل : صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم ، فإن دل عليه دليل ، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير ، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف ، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل ،مثاله قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى { استوى } : استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل ، بل الدليل على خلافه )) [ بتصرف ، وأنظر ( المجموع : 3 / 165 ) ] .(1/78)
المسألة الثانية : أول البدع الإعتقادية ظهوراً :
من المعلوم لدى أهل العلم أن بدعة الخوارج تعتبر من أول البدع الإعتقادية ظهوراً على ساحة الخلاف والافتراق ، وأكثرها ذماً في السنة والآثار لما تحويه من الشر العظيم الذي قاسى المسلمون من ويلاته ومحنه الشيء الكثير عبر قرون طويلة ودهور متوالية ، ولهذا نرى أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أمر في أحاديث كثيرة ـ ستأتي لاحقاً ـ بقتلهم وقتالهم فقاتلهم أصحاب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) مع أمير المؤمنين علي ( رضي الله عنه ) .
وإن كان البعض يرجع بظهور الخوارج إلى ذي الخويصرة التميمي الذي وقف في وجه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قائلاً (( أعدل يا محمد فإنك لم تعدل )) .
وهذا القول بحد ذاته يعتبر خروجاً وتمرداً وتجاوزاً للحدود التي كان من المفروض بذي الخويصرة وأمثاله أن يلتزموا بها ولا يحاولوا الاقتراب منها فضلاً على أن يتجاوزوها .
ولكن الخروج الفعلي الذي أجمع عليه أهل العلم هو ذلك الخروج الذي وقع بعد حادثة التحكيم التي حدثت بعد معركة صفين المشهورة .
لأنه كان خروجاً منظماً وفق أسس عقائدية ومنهجية ألتف حوله الكثير ممن غرته فكرة الخروج والخوارج ، حيث تجمعوا وأعلنوا الخروج والعصيان لسلطة الخلافة الراشدة وأشهروا سيوفهم بوجه المسلمين ، وكان الأولى بتلك السيوف والتي أنشغل المسلمون طويلاً بدفعها ورد كيدها ألا تُشهر إلا بوجه أعداء الإسلام والمسلمين ولكنه الهوى الذي أوقعهم في مهاوي الخطايا ومَبارِك الآثام .(1/79)
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 9 / 71 )) : (( أول البدع ظهورًا في الإسلام ، وأظهرها ذَمًّا في السنة والآثار : بدعة الحرورية المارقة ؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه : اعدل يا محمد ، فإنك لم تعدل ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم ، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب . ...
..... ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : ...
أحدهما : خروجهم عن السنة ، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة ، أو ما ليس بحسنة حسنة ، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخُوَيْصِرَة التميمي : اعدل فإنك لم تعدل ، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل ) ...... .
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع : أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات . ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان ، وكذلك يقول جمهور الرافضة ، وجمهور المعتزلة ، والجهمية ، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم .
فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة ، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرًا . ...
فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين ، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم )) أ . هـ
وقال في (( المجموع : 3 / 279 )) : (( والخوارج هم أول من كفر المسلمين ، يكفرون بالذنوب ، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ، ويستحلون دمه وماله ، وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها )) أ . هـ(1/80)
وهكذا نبتت من رحم هذه الأحداث الجسام نابتة السوء ، وفتنة الضلال وخرجت الخوارج ، حيث ظهروا بعد حادثة التحكيم التي حدثت بعد معركة صفين ، حيث انحازوا _ بعد أن رفضوا ما جاء في التحكيم _ إلى قرية حروراء التي تبعد نحو ميلين من الكوفة _ ، جمعهم الغلو وسوء الفهم للقرآن الكريم ، حيث رفعوا زوراً وبهتاناً شعار ( إن الحكم إلا لله ) والذي صار فيما بعد شعاراً لأفراخهم ، يكفرون من خلاله ويستبيحون بموجبه أموال ودماء وأعراض المسلمين ، فكفروا علياً والحكمين ونفر من الصحابة الكرام ، ورفعوا السيف وأعلنوا الشقاق والإفساد ، وقاموا بقتل عبد الله بن الصحابي الجليل خباب بن الأرت ، ولم يقاتلهم أمير المؤمنين علي حتى بدأوا هم بالقتال .
قال الشيخ سليم الهلالي ( حفظه الله ) في (( لماذا أخترت المنهج السلفي : 103 )) : (( قال عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) : لما خرجت الحرورية(1)اعتزلوا في دار وكانوا نحو ستة آلاف ، وأجمعوا على أن يخرجوا على علي ، فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول : يا أمير المؤمنين إنَّ القوم خارجون عليك .قال دعوهم ، فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني ، وسوف يفعلون(2). ...
فلما كان ذات يوم أتيته قبل صلاة الظهر فقلت : يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة ، لعلي أُكلم هؤلاء القوم .
قال : فإني أخافهم عليك .
قلت : كلا ، وكنت رجلاً حسنَ الخُلُق ، لا أؤذي أحداً .
__________
(1) 78 ) نسبة إلى حروراء وهي قرية تبعد نحو ميلين عن الكوفة ، كان أول إجماع للخوارج فيها ، فنسبوا إليها .
(2) 79 ) تصديقاً بما أخبر به رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من شأنهم .(1/81)
فأذن لي ، فلبست حُلة من أحسن ما يكون من اليمن ، وترجلت ، ودخلت عليهم في دار نصف النهار وهم يأكلون ، فدخلت على قوم لم أرَ قط أشد منهم إجتهاداً ، جباههم قَرِحةٌ من السجود وأياديهم كأنها ثَفنُ الإبل ، وعليهم قُمصٌ مرحضة ، مشمرين ، مسهمة وجوههم ، فسلمت عليهم .فقالوا : مرحباً بك يا أبن عباس وما هذه الحلة عليك ؟!
قلت : ما تعيبون مني ؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه أحسن ما يكون في الثياب اليمنية ، ثم قرأت هذه الآية { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق } .
فقالوا : فما جاء بك ؟
قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) المهاجرين والأنصار ومن عند أبن عم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون . ...
فقالت طائفة منهم : لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول : { بل هم قوم خصمون } .فأنتحى لي نفر منهم ، فقال : أثنان أو ثلاثة لنكلمنه .قلت : هاتوا ، ما نقمتم على أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأبن عمه ... ؟.
قالوا : ثلاث . ...
قلت : ما هنَّ ؟قالوا : أما أحداهن ، فإنه حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى { إن الحكم إلا لله } .
قلت : هذه واحدة .
قالوا : وأما الثانية ، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، إن كانوا كفاراً لقد حلَّ سبيهم ، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتالهم .
قلت : هذه ثنتان فما الثالثة ؟ .
قالوا : محى نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين .
قلت : هل عندكم شيء غير هذا .
قالوا :حسبنا هذا . قلت لهم : أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - )ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا : نعم . ...(1/82)
قلت : أما قولكم (( حكم الرجال في أمر الله )) فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم ، فأمر الله تبارك تعالى أن يحكموا فيه .أريت قول الله تبارك تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } وكان حكم الله أنه صيَّره إلى الرجال يحكمون فيه ، ولو شاء يحكم فيه فجاز من حكم الرجال .أنشدكم بالله أحكم الرجال في إصلاح ذات بين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب ؟! قالوا : بلى ، بل هذا أفضل .
وفي المرأة وزوجها : { وإن خفتم شقاق بينهما فأبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فناشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة ؟
!خرجت من هذه ؟
قالوا : نعم . ...
قلت : وأما قولكم (( قاتل ولم يسب ولم يغنم )) أفتسبون أمكم عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم ؟فإن قلتم : إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم ، وإن قلتم : ليست بأمنا فقد كفرتم ، قال تعالى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فانتم بين ضلاتين فأتوا بمخرج أخرجتم من هذه : قالوا بلى . ...
قال وأما قولكم محى نفسه من أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون : إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح المشركين فقال لعلي : (( أُمح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسول الله ، واكتب هذا ما صالح عليه محمد ين عبد الله )) والله لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) خير من علي ، وقد محى نفسه ، ولم يكن ذلك محوه نفسه ذلك محاه من النبوة .أخرجت من هذه ؟
قالوا : نعم .
فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم ، فقتلوا على ضلالتهم ، قتلهم المهاجرون والأنصار ))(1).
__________
(1) 80 ) قال الشيخ سليم الهلالي : ص : 104 ، أثر صحيح .(1/83)
أقول : خرج هؤلاء وقاتلهم المهاجرون والأنصار في واقعة النهروان مع أمير
المؤمنين علي ( رضي الله عنه ، حيث قتلوا منهم خلقاً كثيراً ، حتى تأمروا على قتله و معاوية وعمرو بن العاص ( رضي الله عنهم ) صبيحة يوم السابع عشر من شهر رمضان من عام ( 40 هـ ) ، فنجح عبد الرحمن بن ملجم ( عليه من الله ما يستحق ) في تنفيذ جريمته النكراء ، وقتل علياً ، وهو خارج ( رضي الله عنه ) إلى صلاة الفجر ، بينما فشلا الآخران .
ومن عجيب غلو هؤلاء القوم أنَّ عبد الرحمن بن ملجم لما جاءوا به وأرادوا القصاص منه قال : لا تقتلوني دفعة واحدة ؛ بل قطعوني أجزاء حتى أرى جسدي يقطع وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله ، وهذا من أعظم الفتن التي حصلت لطائفة من بعده ، حتى قال عمران بن حطان _ وهو ممن غرهم هذا المظهر _ في مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي قولاً عجيباً يدل على مبلغ الغلو الذي وصلوا إليه ، فقال :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا(1)
وقد فات هذا وذاك قول النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لعلي ( رضي الله عنه ) : ((يا أبا تراب _ لما يرى عليه من التراب _ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين )) .
قلنا : بلى يا رسول الله ، قال (( أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه _ يعني قرنه _ حتى تبتل هذه من الدم _ يعني لحيته _ ))(2).
__________
(1) 81 ) قال الإمام الذهبي في (( المنتقى : 314 )) : (( فعارضه شاعر أهل السنة :
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه لعناً وألعن عمران بن حطانا
(2) 82 ) صحيح : ( السلسلة الصحيحة : 4 / 324 ) ، ( صحيح الجامع الصغير برقم : 2589 ) .(1/84)
ومن الخوارج خرج الغلو _ الذي ولد معهم _ إلى باقي الفرق والأحزاب حتى صار من ضروريات عقائدهم ، حيث صار ذو مظاهر متعددة ، و أشكال مختلفة .
المسألة الثالثة : أبرز وأهم مظاهر الغلو الإعتقادي عند الفرق والأحزاب :
لقد أفرز الغلو في الاعتقاد عن مظاهر وإفرازات كثيرة وخطيرة توزعت على هذه الفرقة أو تلك ، وسنشير هنا إلى أهم وأبرز هذه المظاهر :
1 ) : الغلو في التكفير .
2 ) : إلزام الناس بالأخذ بما يعتقدون من بدعة وفكر الضال .
3 ) : الإعتقاد الجازم أنهم هم أهل النجاة والفلاح .
المبحث الأول
الغلو في التكفير
تمهيد
من المعلوم أن التكفير يعد من أخطر مظاهر الغلو في الإعتقاد وأشنعها ، وأشدها فتكاً وضرراً لا تكاد تخفى على أحد معالمه وعواقبه إذا ما فشى في مجتمع من المجتمعات فإنك ترى ذلك المجتمع وهو في حالة من القلق المستمر والتقطع والتفسخ لا يكاد يهنأ براحة بال أو طيب عيش .
وقولنا هذا لا يعني أننا نسد باب التكفير على الإطلاق ونفتح الباب للمفسدين يقولون ويفعلون ما يريدون وما يشاءون ،كلا ، وإنما نقصد بهذا القول التكفير الذي لم يستوفِ كافة الشروط والضوابط الشرعية المعتبرة .
ومن المعلوم أنَّ الناس قد انقسموا في باب التكفير ا إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها ، حيث صاروا إلى طرفين ووسط ، وهي :
الأول : من فتح باب التكفير على الإطلاق ولم ينظر إلى ضابط أو قيد شرعي يستند عليه التكفير كما فعل الخوارج والمعتزلة ومن شابههم وسار على طريقتهم .
الثاني : من سد باب التكفير على الإطلاق فلا يكفرون أحداً أبداً وهم المرجئة ومن شابههم .(1/85)
الثالث : وهم أهل السنة والجماعة الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى إلى سلوك مذهب الحق و الوسطية والاعتدال ـ حيث نرى أنهم لم يفتحوا باب التكفير إلا وفق ضوابط شرعية مجمع عليها ، لأن التكفير عندهم حكم شرعي مرده إلى الكتاب والسنة الصحيحة لا يطلق إلا عند تحقق شروطه وإنتفاء موانعه ـ التي سنشير إليها لاحقاً ـ.
أبرز مظاهر التكفير :
لقد نتج الغلو في التكفير عدة إفرازات خاطئة ، وأثمر عدة مظاهر فاسدة ومسالك منحرفة وباطلة ، من أهمها :
أولهما : تكفير المسلمين أصحاب الكبائر من أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
ثانيهما : تكفير الحكام والخروج عليهم .
ثالثهما : تولي إقامة الحدود بأنفسهم .
ولعل من المناسب والمفيد في هذا المقام أن نذكر ـ إبتداءاً ـ وقبل الخوض في تفاصيل موضوع الغلو في التكفير ومعرفة أهم مظاهره أن نذكر عدة مسائل مهمة وواجبة المعرفة وذلك لأسباب مهمة هي :
الأول : لبيان مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة في هذا الشأن العظيم الذي إنزلقت فيه أقدام ما كان لها تنزلق ، وطاشت فيه عقول ما كان لها أن تطيش ، ولتكون هذه المسائل كالسلاح بيد القارئ الكريم والباحث عن الحق ليستطيع أن يدافع عن نفسه ويقيها مواطن الخطأ والزلل .
الثاني : ولتكون هذه المسائل كالضوء المسلط على ما سيأتي ذكره وتفصيله من مواضيع وبحوث حتى يكون بالمقدور المقارنة بين مذهب أهل الحق وبين مذهب أهل الباطل .
الثالث : لأننا نرى ـ والله تعالى أعلم ـ أن من الممكن لو لم تذكر إبتدءاً أن يحصل بعض الخلط في الأمور عند البعض فيقع ما لا يحمد عقباه ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
( مسائل واجبة المعرفة :
لقد عرفنا مما سبق ذكره مذاهب هذه الفرق وغلوهم في تكفير المسلمين ، فوجب علينا لزاماً أن نعرف مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة في هذا الشأن ، لكي تكون المقارنة بين المنهجين واضحة وجلية .(1/86)
وحتى نعرف منهج أهل السنة والجماعة وما يذهبون إليه في هذا الموضوع فلا بد لنا أن ننظر في عدة مسائل واجبة المعرفة منها :
المسألة الأولى : تعريف التكفير والردة وأحكامهما المترتبة عليهما :
أما التكفير : هو فتوى فقهية بإباحة دم مسلم وفسخ عقد نكاحه ومنع توارثه مع المسلمين ، ودفنه في مقابرهم ، وكذلك هو إعتقاد جازم بأنَّ هذا الشخص مطرود من رحمة الله وأنه لن يدخل الجنة أبداً ، بل هو خالد في النار لقوله تعالى { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خالدون }(1).
إذن التكفير فتوى فقهية وحكم شرعي ، وعليه فسيكون الحكم على المسلم المعين من قبيل الأحكام الشرعية ، وفتوى كهذه يجب أن لا يتصدى لها إلا ذوو الشأن ممن له الأهلية في النظر في الأحكام الشرعية .
وأما الردة : لغة : الرجوع ، قال تعالى { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [المائدة : 21] ، أي : لا ترجعوا .
والردة في الاصطلاح الشرعي هي : الكفر بعد الإسلام قال تعالى { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خالدون } [ البقرة : 217 ] .
والردة تكون بالقول وبالفعل وبالاعتقاد وبالشك وبالترك .
أحكام الردة التي تترتب على العبد بعد ثبوتها :
1) استتابة المرتد ، فإن تاب ورجع إلى الإسلام في خلال ثلاثة أيام قُبِل من ذلك .
2 ) إذا أبى أن يتوب وجب قتله ، لقوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( من بدل دينه فاقتلوه )) [ رواه البخاري ] .
__________
(1) 83 ) حقائق عن التكفير ومكفرة العصر : 17 .(1/87)
3 ) يمنع من التصرف في ماله في مدة استتابته ، فإن أسلم فهو له ، وإلا صار فيئاً لبيت المال ، من حيث قتله أو موته على الردة ، وقيل من حين ارتداده يصرف في مصالح المسلمين .
4 ) انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه ، فلا يرثهم ولا يرثونه .
5 ) إذا مات أو قُتِل على ردته فإنه لا يُغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ، وإنما يُدفن في مقابر الكفار أو يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين(1).
المسألة الثانية : الأدلة الدالة على التحذير من التكفير :
لقد جاءت النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم متواترة تحذر من إطلاق أحكام التكفير على المعينين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية من قبل أهل العلم على من وقع في قول ، أو فعل مُكفر ، ومن ثم تحقيق شروط التكفير بحقه ، وإنتفاء موانعه .
أما النصوص الشرعية :
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما ))(2).
2 ) عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ومن دعا رجلا بالكفر ، أو قال : عدو الله، وليس كذلك. إلا حار عليه ))(3)
وأما أقوال أهل العلم :
__________
(1) 84 ) أنظر ( العقيدة الإسلامية وما يضادها : 97 ) للدكتور صالح بن عبد الله .
(2) 85 ) رواه البخاري برقم : 5752 ، ومسلم برقم : 60 .
(3) 86 ) رواه مسلم برقم : 61 .(1/88)
1) قال شيخ الإسلام أبن تيمية ( رحمه الله ) في (( مجموع الفتاوى : 3/ 299 )) : ((هذا ، مع أني دائمًا ـ ومن جالسني يعلم ذلك مني ـ أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة ، وفاسقًا أخرى ، وعاصيًا أخرى ، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية ، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية ... )) أ . هـ
2 ) قال الإمام الشوكاني في (( السيل الجرار : 4 / 578 )) : (( أقول اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع وفي لفظ في الصحيح فقد كفر أحدهما ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عز وجل ولكن من شرح بالكفر صدرا فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر ، وهو لا يعتقد معناه )) .(1/89)
3 ) وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – عما يقاتل عليه ؟ وعما يكفر الرجل به ؟ فأجاب : (( أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ؛ ثمَّ الأركان الأربعة ؛ فالأربعة : إذا أقرَّ بها ، وتركها تهاوناً ، فنحن وإن قاتلناه على فعلها ، فلا نكفره بتركها ؛ والعلماء : اختلفوا في كفر التارك لها كسلًا من غير جحود ؛ ولا نكفر إلاّ ما أجمع عليه العلماء كلهم ، وهو الشهادتان ، وأيضاً : نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر ))(1).
4 ) قال الإمام محمد بن صالح العثيمين في (( القواعد المثلى : 87 )) : (( الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا بل هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت ، فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه .
والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي ، ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه ؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين :
أحدهما : افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم ، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به .
الثاني : الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ". وفي رواية : "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه". وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" .وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين :
أحدهما : دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
__________
(1) 87 ) أنظر ( كلام أئمة الدعوة في مسألة إقامة الحجة على المعين : 8 ) أعداد : رشيد بن أحمد عويش .(1/90)
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين ، أو الفاعل ، المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافراً أو فاسقاً؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) . وقوله : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير ).
ولهذا قال أهل العلم : لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يبين له ، ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور:
منها : أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئناناً به، فلا يكفر حينئذ؛ لقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
ومنها : أن يغلق عليه فكره ، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك ، ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح" )) .(1/91)
المسألة الثالثة : وجوب الاحتياط في تكفير المعين ، حتى تقام الحجة الرسالية عليه ، بحيث تتحقق شروط التكفير بحقه ، وتنتفي عنه موانعه .
فمن (( المعلوم أنَّ حق المسلم هو أوجب الحقوق بعد حق الله سبحانه ، وبعد حق رسوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وليكن معلوماً أن الأصل في المسلم العدالة ، وأنَّ هذه العدالة لا تزول إلا بمقتضى دليل شرعي واضح الدلالة واضح البرهان .وأن يُعلم كذلك أنَّ الأصل في المسلم الجهالة فلا يُوقع في تفسيق أو تبديع أو تكفير إلا بعد إقامة الحجة والعلم والفهم والإرادة والاختيار وإنتفاء موانع التكفير عنه ))(1)
( أما إقامة الحجة :
الحجة : هي نصوص الكتاب والسنة والتي بموجبها يتم دفع مادة الأعذار عمن يحتج بها ، والتي بعدمها يكون العذر .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 7 / 619 )) : (( ولا يُكفر الشخص المعين حتى تقام الحجة ... )) أ . هـ
وقال في (( منهاج السُنة النبوية : 5 / 89 )) : (( فإنَّ كثيراً من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعي كتحريم المحرمات الظاهرة ووجوب الواجبات الظاهرة ، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة ، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة ورأوا أنها حلال لهم ولم يكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا )) أ . هـ
مسالة أخرى هي من الأهمية بمكان : وهي ضرورة فهم الحجة من قِبَل من تقام عليه ، فليس من المتصور أن تأمر شخصاً بفعل أمر ما وهو لا يفهمه ولا يعقله .
__________
(1) 88 ) أنظر ( التثبت في الأخبار والأحكام أثاره وفوائده في ضوء الكتاب والسنة : 4) للمؤلف .(1/92)
وقال أبن القيم في (( طريق الهجرتين : 413 )) : "وأما بأي شيء تقوم الحجة : فهذا يختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ، فما تقوم الحجة في عصور ازدهار العلم غير ما تقوم به في عصور انحطاطه، وما تقوم به في المدن غير ما تقوم به في البوادي البعيدة عن العلم وأهله، كما أن الحجة تختلف من شخص إلى آخر بحسب تفاوت الناس في العلم وقدراتهم, فليراع كل ذلك.
والعبرة في قيام الحجة بأن يفهمها ذلك الشخص المعيّن فهماً يدرك به مخالفته للحجة التي يكفر بخلافها ، ولا يشترط فهمه لها فهماً دقيقاً , كما يفهمها أهل العلم والإيمان , كما لا يشترط إقراره بالفهم بل يرجع ذلك لتقدير المبلغ له هل فهمه أو لم يفهم ؛ لأن كثيراً من أهل الكفر و النفاق ينكرون الحجة بعد فهمهم لها وعلمهم بها كما أخبر الله تعالى بذلك عن قوم فرعون في قوله: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } والله أعلم ".
وقال الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في : (( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 163 )) : (( مما يدل على أنَّ الحجة لا تقوم إلا بفهمها ، وعذر الله لمن لم يفهم الحجة ، ما رواه الإمام أحمد في المسند عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أنه قال : (( يكون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة ،
فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً .
وأما الأحمق فيقول : لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر .
وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً .
وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول .
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن أدخلوا النار ، قال : فوالذي نفسي محمد بيده لو دخلوها لكانت برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سُحب إليها )).(1/93)
فهؤلاء الأربعة قد عذرهم الله تعالى ، أما الذي لا يسمع ، ومن مات في الفترة ، فقد عذرهما لعدم وصول الحجة إليهم ، لفقد الأول الحاسة الموصلة لذلك ، وأما الآخر فلعدم وجود الحجة في زمنه أصلاً .
وأما الأحمق والهرم فواضح أنهما بلغتهما الحجة وإنما عذرهما لعدم فهمهما ، ولهذا أحتجوا بما يدل على عدم فهمهم وتميزهم )) أ . هـ
شروط وموانع التكفير :
وإليك الشروط التي يجب توفرها ، والموانع التي يجب انتفاؤها في تكفير المعين :
أولاً: التكليف ، مع انتفاء موانع التكليف من جنون وإغماء ونوم ونحوها:
والتكليف يشمل العقل والبلوغ، فلا يُحكم بالردة على مجنون حال جنونه لأنه غير مكلَّف، وكذلك النائم والمغمى عليه.
ثانيًا: القصد:
وهذا الشرط لا يعني أنه يُشترط أن يقصد المرء الكفر حتى يكفر بل المعنى أن يقصد - الفعل أو القول - المكفِّر وإن لم يقصد الكفر، فانتبه فإنه الفارق .
ثالثًا: شرط العلم ، وانتفاء الجهل:
قال شيخ الإسلام في الرد على البكري (2/494): "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرًا لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال؛ وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له...".
رابعًا: إقامة الحجة ، وانتفاء الخطأ:
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/466) : "وليس لأحد أن يُكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ; بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
خامسًا: انتفاء التأويل:
إن التأويل مانع من موانع تكفير المعين، وأفضل مثال له: قصة حاطب بن أبي بلتعة .(1/94)
قال الجصاص في أحكام القرآن (5/325): "ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة وذلك لأنه ظن أن ذلك جائز له ليدفع به عن ولده وماله كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية ويستبيح إظهار كلمة الكفر ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه فإنه لا يوجب الإكفار ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستتابه النبي د فلما لم يستتبه وصدقه على ما قال عُلم أنه ما كان مرتدًا.
وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل؛ فإن قيل: قد أخبر النبي : أنه إنما منع عمر من قتله لأنه شهد بدرًا ، وقال: ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؛ فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل بدر؛ قيل له ليس كما ظننت لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرًا مستحقًا للنار إذا كفر ؛ وإنما معناه: ما يدريك لعل الله قد علم أن أهل بدر وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة ومن علم الله منه وجود التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن التوبة فيجوز أن يكون مراده أن أهل بدر وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة".
سادسًا : الاختيار وانتفاء الإكراه:
قال شيخ الإسلام كما في (( مجموع الفتاوى : 8/504 )) : "وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها مع طمأنينة قلبه بالإيمان". أ . هـ
إذن يجب ترك تكفير المعين حتى تقام عليه الحجة الرسالية في المخالفة التي وقع فيها وفق الضوابط المعتبرة التي حددها العلماء .
وهذا لا يعني أننا نقره على هذا ، بل يبقى عمله من الأعمال الكفرية أو الشركية التي نحذر منها ، لكن الشخص المعين لابد من قيام الحجة عليه قبل التكفير وذلك (( لعدة أسباب :
1 ) التكفير بدون إقامة الحجة من علامات أهل البدع .(1/95)
2 ) تكفير المسلم فيه تكذيب لله والرسول ، ورد النصوص من الكتاب والسنة وذلك أن الشارع الحكيم يصفه بصفة الإسلام ويأبى المُكفٍٍٍٍٍٍِِِِِِرٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِ إلا أن يصفه بصفة الكفر .
3 ) تكفير المعين من غير إقامة الحجة كالرجم بالغيب ، والتقول على الله بلا علم وهو أمر خطير ، قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( من قال في مؤمن ما ليس فيه حُبٍس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال ))(1).
4 ) من القواعد المستقرة في الشريعة أن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام ، والإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ، فالخطأ في ترك التكفير أهون من الخطأ في التكفير .
5 ) الخطأ في تكفير الكافر يعتبر خطأ في حق الله تعالى دون العبد ، بينما الخطأ في تكفير المسلم هو خطأ بحق الله والعبد معاً ، والأول خطأه قد يغفره الله له وبخاصة إذا كان خطؤه عن اجتهاد وتأويل ، بينما الآخر ولو غُفٍر له خطؤه المتعلق بحق الله ، يبقى حق العبد عليه إلى أن يقتص من الظالم للمظلوم ، هذا إن وجد الظالم مخرجاً مما قال في أخيه المسلم ))(2)
المسألة الرابعة : من الذي يتولى إقامة الحجة على المعينين :
__________
(1) 89 ) رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر ، وأبو داود وأبن ماجة وصححه الإمام الألباني في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة : برقم 437 )) و (( صحيح سنن أبي داود : 3 / 305 برقم 3597 )) و (( صحيح سنن أبن ماجة : 2 / 1120 برقم 3377 )) .
(2) 90) حقائق عن التكفير ومكفرة العصر : 55 .(1/96)
لقد قررنا _ كما مر سابقاً _ وجوب إقامة الحجة الرسالية على الشخص المعين إذا ما وقع في قول أو فعل يكفره ، وهذا لا يعني أن يناط إقامتها إلى من لا يحسنها من آحاد الناس وعامتهم ، أو إلى أنصاف المتعلمين ، أو أي وسائل أخرى ، كما قال بعض أهل التكفير من أمثال عبد المنعم مصطفى حليمة ( أبو بصير التكفيري ) الذي يعتبر التلفاز والراديو والجريدة وسائل لإقامة الحجة على الأشخاص المعينين ، حيث قال في كتابه : (( الانتصار لأهل التوحيد والرد على من جادل عن الطواغيت : 20 )) : (( وبالتالي فإن أي وسيلة تحقق هذا الغرض فالحجة تقوم بها ، وقد تكون الوسيلة عالماً ، أو طالب علم ، أو مسلماً عادياً ، أو امرأة ، أو طفلاً ، أو وسائل الإعلام المختلفة ، كالتلفاز والراديو وكتب أهل العلم والمجلات والجرائد وغيرها ... ))(1).
والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة هو أن الحجة لا تُقام إلا على أيدي العلماء الربانيين الذين يحسنون إقامة الحجة وإزالة الشبهة :
1) قال الشيخ فوزان الفوزان : (( الحكم بالردة والخروج من الدين من صلاحيات أهل العلم من الراسخين في العلم وهم القضاة في المحاكم الشرعية والمفتون ، وليس من حق كل واحد أو من حق أنصاف المتعلمين أو المنتسبين إلى العلم الذين ينقصهم الفقه في الدين ، وليس من صلاحيتهم أن يحكموا بالردة ))(2).
__________
(1) 91 ) أنظر (( الدفاع عن إمام العصر الألباني : 9 )) لأبي بكر البغدادي .
(2) 92 ) أنظر (( فقه الواقع السياسي في ضوء الكتاب والسنة : 58 )) للرفاعي .(1/97)
2 ) قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد : (( إصدار الحكم بالتكفير لا يكون لكل أحد من آحاد الناس أو جماعاتهم وإنما مرد الإصدار إلى العلماء الراسخين في العلم الشرعي المشهود لهم به ، وبالخيرية والفضل الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يبلغوا الناس ما علموه وأن يبينوا لهم ما أشكل عليهم من أمر دينهم امتثالا لقول الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذي أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) "آل عمران/187" . وقوله سبحانه (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) "البقرة/159" وقوله سبحانه : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) "النحل/43" ))(1).
المسألة الخامسة : وجوب التفريق بين القول والقائل والفعل والفاعل ، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه :
وهذه من المسائل المهمة التي اختلطت على الكثير من الناس ، حيث لم يفرقوا بين القول والقائل ، أو بين الفعل والفاعل ، وظنوا أن كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه ، والأمر ليس كذلك فقد يتخلف الحكم على فاعل الكفر أو قائله أما لعدم تحقق شرط أو لوجود مانع ، وقد بين أهل العلم هذه المسألة أتم بيان :
1 ) قال أبن تيمية في (( المجموع : 35 / 165 )) (( وحقيقة الأمر في ذلك : أن القول قد يكون كفراً ، فيطلق القول بتكفير صاحبه ، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره ، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها . ...
وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] .
__________
(1) 93 ) أنظر ( درء الفتنة : 24 ط : 2 ) .(1/98)
فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد ، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز ألا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم ، وقد يبتلي بمصائب تكفر عنه ، وقد يشفع فيه شفيع مطاع . ...
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده،أو لم يتمكن من فهمها ، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها ، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه ـ كائنا ما كان ـ سواء كان في المسائل النظرية ، أو العملية ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام )) أ . هـ
2 ) قال الإمام أبن عثيمين في (( القواعد المثلى : 87 )) : (( وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين :
أحدهما : دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق .
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين ، أو الفاعل ، المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع )) .
وقال (( 91 )) : (( وبهذا علم الفرق بين القول والقائل وبين الفعل والفاعل فليس كل قول أو فعل يكون فسقاً أو كفراً يحكم على قائله أو فاعله ، بذلك قال شيخ الإسلام أبن تيمية ...)) .
وقال : (( 92 )) : (( وبهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه )) .
المسالة السادسة : وجوب التفريق بين التكفير المطلق وبين التكفير العيني:(1/99)
لقد عُلِم أن من ضروريات ديننا الحنيف وجوب التفريق بين كفر النوع وكفر العين ، إذ أنَّه لا يستلزم من التكفير المطلق العام تكفير الشخص المعين ولا يستلزم من تكفير الطائفة لأفعالها وأقوالها التي تنافي أصول الإسلام تكفير أفرادها ، وذلك لاحتمال وجود مانع أو انتفاء شرط .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 12 / 489 )) : (( فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر [ الجهمية ] الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات ، وامتحنوه وسائر علماء وقته ، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات ـ الذين لم يوافقوهم علي التجهم ـ بالضرب والحبس، والقتل والعزل على الولايات، وقطع الأرزاق ، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ، ولا فتيا ولا رواية . ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك . فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه . ...
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم ؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب . ...... ...(1/100)
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ، ممن ضربه وحبسه ، واستغفر لهم ، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم ؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية ، الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق ، وإن الله لا يرى في الآخرة . وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل . فيقال : من كفر بعينه ؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير ، وانتفت موانعه ، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم )) .
وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في (( درء الفتنة عن أهل السنة : 23 )) : (( يتعين التفريق بين التكفير المطلق وهو : التكفير على وجه العموم في حق من ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام ، وبين تكفير المعين ، فإن الاعتقاد ، أو القول ، أو الفعل ، أو الشك ، أو الترك ، إذا كان كفرا فإنه يطلق القول بتكفير من فعل ذلك الفعل ، أو قال تلك المقالة وهكذا ... دون تحديد معين به . أما المعين إذا قال هذه المقالة ، أو فعل هذا الفعل الذي يكون كفرا , فينظر قبل الحكم بكفره , بتوفر الشروط , وانتفاء الموانع في حقه ، فإذا توفرت الشروط , وانتفت الموانع ، حكم بكفره وردته فيستتاب فإن تاب وإلا قتل شرعاً )) أ . هـ.(1/101)
وقال الدكتور الرحيلي في (( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 191 )) : (( ومما ينبغي مراعاته في هذا الباب : أنَّ تكفير السلف لبعض فرق أهل البدع هو من باب التكفير المطلق ولا يلزم منه تكفير كل أفراد تلك الفرقة ...... فتكفير السلف للجهمية والقدرية لا يقتضي تكفير كل جهمي وكل قدري وكذلك غيرهما من الفرق التي كفرها السلف لا يلزم من تكفيرها تكفير أعيان هذه الفرق )) أ . هـ
المسألة السابعة : وجوب التفريق بين الناس وهم ينطقون بـ (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) من حيث الحكم الدنيوي والأخروي :
فمن المعلوم أنه ليس كل من نفعته لا إله إلا الله في الدنيا نفعته في الآخرة ، لأن الناس أمام النطق بالشهادتين ينقسمون إلى أصناف :
الصنف الأول : وهم الموحدون : وهم الذين قالوها بلسانهم واعتقدوا بها في قلوبهم وعملوا بها في جوارحهم ، وجاءوا بكل شروطها ومستلزماتها .
الصنف الثاني : وهم المنافقون : وهم الذين قالوها بلسانهم ولكنهم لم يعتقدوا بها في قلوبهم ولم يعملوا بها في جوارحهم .
الصنف الثالث : وهم الكفار الذين جحدوا بها ورفضوا الانقياد لها .
الصنف الرابع : وهم الذين قالوها بلسانهم ولكنهم لم يأتوا بشروطها ولوازمها كاملة ، وتلبسوا أيضا ببعض الأعمال والأقوال التي هي من نواقضها .
فأما الصنف الأول : فهؤلاء تنفعهم لا إله إلا الله في الدنيا وفي الآخرة .
وأما الصنف الثاني : وهؤلاء تنفعهم في الدنيا من حيث عصمة الدم والمال والعرض كما حصل لهم في حياة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأما في الآخرة فقد أخبر الله تبارك وتعالى أنهم في الدرك الأسفل من النار ، قال تعالى { ِإنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [النساء : 145].(1/102)
وأما الصنف الثالث : وهؤلاء إن ماتوا على كفرهم وعنادهم فإن مصيرهم النار خالدين فيها أبداً ، ولكن يجب رفع السيف عنهم ، والكف عن أذاهم ولو في حال القتال إذا ما قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله دون السؤال أن كانوا قد قالوها خوفاً من السيف أو إيماناً بها ، ثم ينتقض هذا الأمان والكف إذا ما خالفوا شريعة الإسلام والإيمان ، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أقال: لا إله إلا الله وقتلته ؟" قال قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح. قال" أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا". فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ في ((تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد : 154 )) : (( وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك )) .
وأما الصنف الرابع : فهؤلاء تنفعهم في الدنيا من حيث عصمة الدم والمال والعرض ، وأما في الآخرة فإنهم معرضون للحساب والعقاب والنار ، ولهذا فالكثير من الناس يخلطون في الحكم على هؤلاء بين الحكم الدنيوي والحكم الأخروي ، حيث يظنون أننا عندما نقول : أن لا إله إلا الله تنفعهم في الدنيا يعتقدون إن هذا يعني أنهم من الناجين في الآخرة ، وهذا الكلام لا نقوله ولا نعتقد به .
قال الدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي في (( نواقض الإيمان الإعتقادية : 154 )) : (( قال أبن حجر في: فتح الباري 1/61: (( أما بالنظر إلى ما عندنا –[أي في الدنيا] – فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم .(1/103)
هذه النصوص عن الأئمة واضحة في تقرير هذا الأصل، وأهمية تقرير هذا الأصل هنا تكمن في أن بعض الباحثين يخلطون بين الحكم الدنيوي والأخروي، فيظنون أنه يلزم من الحكم بإسلام الشخص، الحكم له بالنجاة في الآخرة، أو يظنون أن الشروط التي ذكرها العلماء لكلمة التوحيد من العلم والإخلاص واليقين..الخ ، لا يحكم بإسلام الشخص إلا بعد فهم هذه الشروط ، ولكن الحقيقة أن مجرد النطق بكلمة التوحيد لا ينجي العبد عند الله إلا بالإتيان بشروطها..
أما بالنسبة للحكم الدنيوي فمجرد النطق كاف في الحكم بإسلام المرء حتى يتبين لنا ما يناقض ذلك- بعد قيام الحجة وبذلك ندرك الخطأ الذي وقع فيه من يرى أن من يقعون في شئ من الشرك من نذر وذبح لغير الله وطواف على القبور ممن شهد بشهادة التوحيد كفار أصليون باعتبارهم لم يفهموا التوحيد )) أ . هـ
وهذا الحكم يشمل جميع فرق وأحزاب أهل القبلة ممن وردت فيهم الإشارة النبوية التي تضمنها حديث الإفتراق الذي فَهِم منه البعض أن كل الفرق هالكة ومخلدة في النار إلا الفرقة الناجية ، والأمر بالتأكيد ليس كذلك .(1/104)
قال الشيخ العلامة أحمد بن يحيى النجمي في (( إرشاد الساري إلى توضيح شرح السنة للإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري : 186 ـ 187 )) : ((وقد تقدم لنا في أول هذا الشرح أنَّه ليس المراد بقوله : {كلها في النار إلاَّ واحدة } أنَّهم كلهم كفار مخلَّدون ؛ بل أنَّ هذه الفرق مختلفة منها ما تبلغ بدعتهم إلى حدِّ الكفر فيخرجون من الإسلام ، ويحكم عليهم بالكفر ، ويكونون مخلدين في النار يوم القيامة ومنها فرق لا تبلغ بدعهم إلى حدِّ الكفر بل تكون مفسقة فهؤلاء يرجون ما يرجوه الموحدون إذا ماتوا على التوحيد ... وبهذا يتبيَّن على أنَّ قَولُه : { كلها في النار إلاَّ واحدة } ليس المراد به أنَّهم كلهم مخلدون في النار فيما نعتقد ، ثم إنَّ هذه الواحدة المستثناة هي التي تدين بما دان به الصحابة عقيدةً ، وعملاً ، وتعاملاً ، وهي عقيدة أهل السنَّة والجماعة وأنَّ الألوهية لله وحده ، وأنَّه لا يجوز أن يدعى غيره ، ولا يستغاث بغيره ، وأنَّ من فعل ذلك فإنَّه مشرك شركاً أكبر ، وأنَّ المتابعة تكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم قول أحد على قوله ، ولا رأي أحدٍ على سنته ، وعقيدتهم في توحيد الأسماء والصفات هو الإيمان بها ، واعتقاد معناها الذي تدل عليه باللسان العربي ، و امرارها كما جاءت بلا تكييفٍ ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ... )) .
المسألة الثامنة : في حال نقل مذاهب أهل العلم في هذه المسألة أو غيرها ، وجوب التفريق بين النصوص المطلقة والمقيدة :(1/105)
لقد عَلِم كل أصحاب العقول الرشيدة والفطر القويمة إنَّ الجهل بأحكام دين الإسلام وأصوله يجعل من أصيب بلوثة الغلو وأعراضه لا يستطيع التمييز بين النصوص المطلقة والنصوص المقيدة ، سواء كان في أقوال الشارع الحكيم ، أو أقوال أهل العلم ، حيث أنَّ المتأخرين وقعوا في ألفاظ العموم في أقوال العلماء الأعلام مثلما وقع الأولون في ألفاظ عموم الشارع الحكيم ، فكلما رأوهم قالوا : من قال كذا وكذا فهو كافر اعتقدوا أن هذا اللفظ يشمل كل من قاله وتلفظ به والأمر بالتأكيد ليس كذلك .قال الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي : (( ويعزو شيخ الإسلام أبن تيمية كما في (( مجموع الفتاوى : 7 / 618 )) أنَّ سبب خطأ هؤلاء في نقل مذاهب الأئمة في تكفير أهل البدع : ((أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة ـ الذين أطلقوا هذه العمومات ـ لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ))(1).
المسألة التاسعة : وجوب الحذر من تبني معتقد معين ثم محاولة صرف النصوص إليه :
وهذا ما نراه من الذين ابتدعوا في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً ، فترى أحدهم يعتقد فكرة ما ثم يبذل قصارى جهده في البحث والتفتيش عن نصوص شرعية تدعم وتعضد فكرته التي اعتقدها وتبناها ، حيث يجعل بفعلته هذه نصوص الشرع تابعاً واعتقاده متبوعاً ، ورحم الله تعالى سلفنا الصالح ما أكثر فقههم وعلمهم حين قالوا : أستدل ثم أعتقد ، لا تعتقد ثم تستدل فتضل .
__________
(1) 94 ) موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 164 )) .(1/106)
قال الإمام أبن عثيمين : (( وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة، فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين، وما سواهما إماماً لا تابعاً! وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى ؛ لا أتباع الهدى ، وقد ذم الله هذه الطريق في قوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }(1).
أقول : بعد ذكر هذه المسائل سنعاود ـ إن شاء الله تعالى ـ الرجوع إلى موضوع الغلو في التكفير والخوض في تفاصيله وبحوثه .
المظهر الأول
تكفير المسلمين بالكبائر
من المعلوم أن تكفير المسلمين بالكبائر قد خرج من تحت عباءة الخوارج إبتداءاً ومن ثَم وجد طريقه السالك إلى باقي الفرق كالمعتزلة والروافض ومن شابههم وسار على طريقتهم .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 3 / 279 )) : (( والخوارج هم أول من كفر المسلمين ، يكفرون بالذنوب ، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ، ويستحلون دمه وماله ، وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها )) أ . هـ
وقال الإمام أبن أبي العز الحنفي السلفي في : (( شرح العقيدة الطحاوية : 2 / 444 )) : (( والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أنَّ مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج : نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقاً )) أ. هـ
أقول : لعل _ والله تعالى أعلم _ أنَّ منهج هؤلاء في تكفير أصحاب الكبائر من أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) راجع لعدة أسباب أبرزها :
السبب الأول : بسبب جهلهم وسوء فهمهم للقرآن : حيث ظنوا أنه يوجب تكفير من لم يكن براً تقياً :
__________
(1) 95 ) القواعد المثلى : 92 .(1/107)
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 13 / 30 )) : (( وكانت البدع الأولى مثل [ بدعة الخوارج ] إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، لم يقصدوا معارضته ، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي ، قالوا : فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار : ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين ؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل اللّه ، فكانت بدعتهم لها مقدمتان : ...
الواحدة : أن من خالف القرآن بعمل ، أو برأي أخطأ فيه فهو كافر .
والثانية : أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك ؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا ، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام ، فكفَّر أهلها المسلمين ، واستحلوا دماءهم وأموالهم )) .
السبب الثاني : راجع بسبب أخذهم بجانب من النصوص ، حيث اعتقدوا أنها توجب تكفير أصحاب الذنوب والمعاصي .
أما فيما يخص أخذهم بجانب من النصوص :
قال الدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي : (( فلقد تبين لنا من الأدلة السابقة قطعية النصوص الدالة على عدم كفر مرتكب الكبيرة وعدم خلوده في النار ، وسنتكلم هنا عن أنواع من الأدلة قد يظن بعض المبتدعة أو قليلو العلم أنها تخالف مذهب أهل هذا الباب ، والحقيقة أن من أسباب انحراف هؤلاء وغيرهم ، في هذا الباب النظر إلى جانب من النصوص وترك الجانب المقابل، فبعضهم نظر إلى الأحاديث السابقة فأخذ جانب الوعد والرجاء، والبعض الآخر نظر إلى ما سيأتي فأخذ جانب الخوف والوعيد ومذهب أهل السنة متوازن يجمع بين أطراف النصوص ولا يضرب بعضهما ببعض، كما سنبين، ولنأت الآن لذكر أهم الأدلة وهي أنواع ، وكل نوع يحتوي على أحاديث كثيرة :
1- النوع الأول: نصوص تنفي الإيمان عمن أرتكب بعض الكبائر :(1/108)
ومن أشهرها قوله – صلى الله عليه وسلم : (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )) [ رواه البخاري ومسلم ] .
فَهِمَ بعض أهل البدع من هذا النص وما في معناه أن المنفي أصل الإيمان أما أهل السنة فأجمعوا على أن المنفي هنا كمال الإيمان جمعاً بين هذا النص وغيره من النصوص ، قال الإمام أبن عبد البر رحمه الله ، تعليقاً على هذا الحديث : (.. يريد مستكمل الإيمان ، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك ، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال ، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم ، أوضح الدلائل على صحة قولنا ، أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك) (1). وقال النووي رحمه الله: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة )) .(2)
2 ) النوع الثاني : نصوص فيها براءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنها :
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر 9/243، 244 [ الدكتور الوهيبي ] .
(2) 97) نواقض الإيمان الإعتقادية : 1 / 79 ، للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي .(1/109)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من حمل علينا السلاح فليس منا " [ رواه مسلم ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( من غش فليس مني )) [رواه مسلم ] ، يقول الإمام أبو عبيد تعليقاً على هذا النوع : (لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا أنه ليس من المطيعين لنا ، ولا من المقتدين بنا ولا من المحافظين على شرائعنا ) (1). ويقال فيه ما ذكرنا في النوع الأول من نقص اتباعه وطاعته بفعله ذلك ))(2).
3 ) النوع الثالث : نصوص فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي، ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" [ رواه البخاري ومسلم ] .
وقوله : " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت " [ رواه مسلم ] .
وقوله : " الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل " (3).
وقوله : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) (4).
__________
(1) الإيمان لأبي عبيد 92، 93، وانظر مسلم بشرح النووي 2/108 [ الدكتور الوهيبي ] .
(2) 99) نواقض الإيمان : 80 .
(3) رواه أحمد 1/389، والبخاري في الأدب المفرد (909) وأبو داود (3910) ، والترمذي (1614) وقال : "حسن صحيح "، وابن ماجه 3538 وغيرهم عن ابن مسعود انظر تفصيلاً لذلك في النهج السديد ص 162 وصححه العراقي في الفيض (4/294) وزيادة ( ومامنا إلا ... ) مدرجة. انظر إيضاحاً لذلك في مفتاح دار السعادة 2/2334 "وفتح الباري" 10/213 . [ الدكتور الوهيبي ] .
(4) رواه أحمد (2/34، 86) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) وحسنه، وانظر نصوصاً أخرى في الإيمان لأبي عبيد 86، 87، ومسلم بشرح النووي 2/49 – 62 . [ الدكتور الوهيبي ] .(1/110)
وهذه الأحاديث استدل بها الخوارج على كفر مرتكب المعاصي وخروجه من الملة ، أما أهل السنة فجمعوا بين النصوص وفسروا هذه الأحاديث وأمثالها بعدة تفسيرات ، أشهرها : أن مرتكب هذه المعاصي قد تشبه بالكافرين والمشركين بأخلاقهم وسيرهم وعمل عملهم ، وقد تحمل على المستحل ، وقد يقال عن بعضها كفر نعمة .. الخ .
قال الخطابي رحمه الله : ( وقوله : ( وقتاله كفر ) فإنما هو على أن يستبيح دمه ، ولا يرى أن الإسلام قد عصمه منه ، وحرمه عليه .. وقد يتأول هذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث على وجه التشبيه لأفعالهم بأفعال الكفار من غير تحقيق للحكم فيه ... وهذا لا يوجب أن يكون من فعل ذلك كافراً به خارجاً عن الملة ، وإنما فيه مذمة هذا الفعل وتشبيهه بالكفر ، على وجه التغليط لفاعله ، ليجتنبه فلا يستحله ، ومثله في الحديث كثير ))(1).
والنوع الرابع : نصوص فيها تحريم النار على من تكلم بالشهادتين ، وأخرى فيها تحريم الجنة على مرتكب الكبائر :
مثل قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها) .
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه )) . [ رواه مسلم ] .
وقوله : (( من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام )) [ رواه مسلم ] . .
وقوله : (( من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار )) . [ رواه مسلم ] .
__________
(1) 102 ) نواقض الإيمان : 80(1/111)
فالأدلة الثلاثة الأولى ظاهرها – إذا لم يضم إليها ما يقابلها – يكاد يكون صريحاً في مذهب الخوارج ، والدليل الرابع يكاد يكون صريحاً في مذهب المرجئة ، ولكن كما كررنا من قبل، من أعظم أسباب ضلال هؤلاء أخذهم بجانب من الأدلة وتركهم الجانب الآخر ، أما أهل السنة فينظرون إلى جميع الأدلة والأحاديث إذا ثبت في مسألة معينة ، فيضمون بعضها إلى بعض ، وكأنها دليل واحد ، أو حديث واحد فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل الاعتقاد والعمل بجميع ما في مضمونها .
وهكذا نظروا لهذه الأدلة وما يشبهها فقال الإمام الطبري – رحمه الله – في تفسير آية قتل العمد المشار إليها بعد أن استعرض الأقوال في تفسيرها: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه : ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته ، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) وقال الخطابي : (القرآن كله بمنزلة الكلمة الواحدة ، وما تقدم نزوله وما تأخر في وجوب العمل به سواء ما لم يقع بين الأول والآخر منافاة ، ولو جمع بين قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، وبين قوله : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ) ، وألحق به قوله : (لمن يشاء) لم يكن متناقضاً، فشرط المشيئة قائم في الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأيضاً فإن قوله : (فجزاؤه جهنم ) إن جازاه الله ولم يعف عنه ، فالآية الأولى خبر لا يقع فيه الخلف، والآية الأخرى وعيد يرضي فيه العفو والله أعلم )(1/112)
وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: ( لا يدخل الجنة ) وقوله: ( فالجنة عليه حرام ) ففيه جوابان : (أحدهما : أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه فهذا كافر لا يدخلها أصلاً.
والثاني: معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم ، بل يؤخر ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أولاً ) .
إذا يمكن أن نقول لا يدخل الجنة ابتداء ، والجنة عليه حرام ابتداء ، ونحو ذلك .
وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: (حرم الله عليه النار) أي حرم الله عليه الخلود في النار، أما دخولها إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء أدخله وإن شاء عفا عنه ))(1).
السبب الثالث : راجع بسبب ما أفرزته عقولهم الفاسدة من أصول وقواعد فاسدة ، أصَّلوا وقعدوا عليها منهجهم ، وبنوا عليها مذهبهم فأوجبوا على ضوءها تكفير أصحاب الكبائر ، ومن أبرز هذه الأصول والقواعد :
أولاً : قولهم بتلازم الخطأ والإثم :
قال الشيخ فتحي بن عبد الله الموصلي في (( منهج شيخ الإسلام في كشف بدعة الخوارج : 9 )) : (( من المعلوم أن الكلام في حكم الفاسق الملي هو أول اختلاف حدث في الملة ؛ فقالت الخوارج : إنه كافر، وقالوا بـ ( إنفاذ الوعيد ) ومعناه عندهم : أن فساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك ؛ ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب ؛ إذا كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام ، فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه ، وغلطوا في فهم الوعيد ، وجعلوا الإثم وموجبات الوعيد لازمة للخطأ لا تنفك عنه بأي حال .
__________
(1) 103 ) نواقض الإيمان : 83 .(1/113)
قال شيخ الإسلام في "المجموع" (35/69-70) : "وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين : فتارة يغلون فيهم ؛ ويقولون : إنهم معصومون ، وتارة يجفون عنهم ؛ ويقولون : إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ، ولا يؤثمون ، ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال. فطائفة سبت السلف ولعنتهم ؛ لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوباً، وأن من فعلها يستحق اللعنة ؛ بل قد يفسقونهم ؛ أو يكفرونهم ، كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ، ومن تولاهما ، ولعنوهم وسبوهم ، واستحلوا قتالهم ..." أ.هـ
ثانياً : إدخالهم أعمال الجوارح في أصل الإيمان ، حيث جعلوها شرطاً لصحته وبقاءه :
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 1 / 57 )) : ((فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ومن هنا نشا لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي والمرجئة قالوا هو اعتقاد ونطق فقط والكرامية قالوا هو نطق فقط والمعتزلة قالوا هو العمل والنطق والاعتقاد والفارق بينهم وبين السلف إنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله))
وقال الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( شرح العقيدة الواسطية : 2 / 233 )) : (( الخوارج والمعتزلة قالوا : إنَّ الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأنها شرط في بقائه )) .
ثالثاً : جعلهم أجزاء الإيمان المركب متساوية الأقدام ، إذا زال بعضه زال كله ، وأما مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الشأن فذهبوا إلى أن الإيمان مركب من أجزاء وأبعاض لكنها في الوقت نفسه غير متساوية الأقدام بحيث أنه لا يزول و لا ينتفي بانتفاء بعضه ، فجزئية الإقرار بالشهادتين مثلاً ليست هي في المقام والرتبة كجزئية إماطة الأذى عن الطريق ، ولهذا وجب التفريق بين هذه الأمور وإعطاء كل ذي حق حقه .(1/114)
قال الشيخ علي بن حسن الحلبي : (( قَالَ العَلاَّمَةُ المُحَدِّثُ الشَّيْخُ عُبَيْد ُاللهِ الرَّحْمَانِي المُبَارَكْفُورِي -شَيْخُ الجَامِعَةِ السَّلَفِيَّةِ فِي الهِنْدِ- رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ المَاتِعِ « مِرْعَاة المَفَاتِيحِ » (1/ 36- 37) : « وَقَالَ السَّلَفُ مِنَ الأَئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ - مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ- وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيث ِ- هُوَ اعْتِقَادٌ بِالقَلْبِ ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ ، فَالإِيْمَانُ عِنْدَهُمْ مُرَكَّبٌ ذُو أَجْزَاءٍ ، وَالأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَةِ الإِيْمَانِ ، وَمِنْ هَهُنَا نَشأَ لَهُمُ القَوْلُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسْبِ الكَمِّيَّةِ .
وَاحْتَجُّوا لِذلِكَ بِالآيَاتِ وَالأحَادِيثِ ، وَقَدْ بَسَطَهَا البُخَارِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَالحَافِظُ ابْنُ تيمية فِي ((كِتَابِ الإِيْمَان)) .
قِيلَ : وَهُوَ مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ ، إِلاَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَجْعَلُوا أَجْزَاءَ الإِيْمَانِ مُتَسَاوِيَةَ الأَقْدَامِ ، فَالأَعْمَالُ عِنْدَهُمْ كَوَاجِبَاتِ الصَّلاةِ ، لاَ كَأَرْكَانِهَا ، فَلاَ يَنْعَدِمُ الإِيْمَانُ بِانْتِفَاءِ الأَعْمَالِ ؛ بَلْ يَبْقَى مَعَ انْتِفَائِهَا ، وَيَكُونُ تَارَكُ الأَعْمَالِ - وَكَذَا صَاحِبُ الكَبِيرَةِ - مُؤْمِناً فَاسِقاً لاَ كَافِراً بِخِلاَفِ جُزْءَيْهِ : التَّصْدِيقِ وَالإِقْرَارِ ؛ فَإِنَّ فَاقِدَ التَّصْدِيقِ وَحْدَهُ : مُنَافِقٌ ، وَالمُخِلَّ بِالإِقْرَارِ وَحْدَهُ : كَافِرٌ ، وَأَمَّا المُخِلُّ بِالعَمَلِ وَحْدَهُ : فَفَاسِقٌ ، يَنْجُو مِنَ الخُلُودِ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ .(1/115)
وَقَالَ الخَوَارِجُ وَالمُعْتَزِلَةُ : تَارِكُ الأَعْمَالِ خَارِجٌ مِنَ الإِيْمَانِ ؛ لِكَوْنِ أَجْزَاءِ الإِيْمَانِ المُرَكَّبِ مُتَسَاوِيَةَ الأَقْدَامِ فِي أَنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِهَا -أَيِّ بَعْضٍ كَانَ- يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الكُلِّ؛ فَالأَعْمَالُ -عِنْدَهُمْ- رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِيْمَانِ كَأَرْكَانِ الصَّلاةِ !
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤلاَءِ ؛ فَقَالَتِ الخَوَارِجُ : صَاحِبُ الكَبِيرَةِ -وَكَذَا تَارِكُ الأَعْمَالِ- كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ ، وَالمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتُوا الوَاسِطَةَ ! فَقَالُوا : لاَ يُقَالُ لَهُ : مُؤْمِنٌ ، وَلاَ : كَافِرٌ ؛ بَلْ يُقَالُ لَهُ : فَاسِقٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ .
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هذَا أَنَّ الاخْتِلاَفَ بَيْنَ الحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ اخْتِلاَفٌ مَعْنَوِيٌّ حَقِيقِيٌّ ، لاَ لَفْظِيٌّ ؛ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ ! وَالحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَالمُحَدِّثُونَ ؛ لِظَاهِرِ النُّصُوصِ القُرْآنِيَّةِ وَالحَدِيثِيَّةِ »(1).
رابعاً : إنكار شفاعة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) الخاصة بأهل الكبائر من أمته :
وهذا الأمر لمن تأمله وتصوره سيجد أنه تابع ومتمم لقولهم بتكفير أصحاب الكبائر والذنوب ، فالخوارج والمعتزلة _ ومن شابههم وسار على منهجهم _ لما كفروا أصحاب الكبائر في الدنيا ، فإنهم أتبعوا ذلك بأن أنكروا شفاعة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) التي أدخرها لأصحاب الكبائر من أمته .
وهذا القول ظاهر الفساد والبطلان ونصوص الكتاب والسنة الصحيحة تشهد برده ودحضه .
__________
(1) 104 ) التعريف والتنبئة بتأصيلات الشيخ الإمام أسد السنة محمد ناصر الألباني في مسائل الإيمان والرد على المرجئة : 49 .(1/116)
قال الإمام أبن أبي العز : (( والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره في أهل الكبائر ))(1).
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي : (( الخوارج ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل الكبائر من أمته في خروجهم من النّار ، لأنّهم يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار لذلك فهم يجدون أن إثبات هذه الشفاعة يخالف معتقدهم الفاسد، فهم ينكرونها .
وكذلك المعتزلة تابعوا الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار، وتابعهم الشيعة على ذلك أيضًا.
وإثبات هذه الشفاعة فيه ردّ على المرجئة أيضًا ، لأن غلاة المرجئة يقولون: إنه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وهذه الفرق المذكورة وغيرها موجودة في أيامنا هذه ، فالشيعة موجودون بكثرة لا كثّرهم الله ، وهذه دولتهم إيران التي تدّعي أنّها ( الجمهورية الإسلامية ) تعلن أن مذهبها هو المذهب الإثنا عشري الجعفري ، فهم رافضة من غلاة الشيعة ، وقد أخذوا كثيرًا من مذاهب المعتزلة.
وكذلك الخوارج لهم أفراخ موجودون ، وهم الذين يكفرون عصاة المسلمين، وإن كانت شوكتهم قد انكسرت ، وكثير منهم قد تراجعوا ورجعوا إلى الحق إلا أنه لا يزال منهم من هو عاضّ على هذه العقائد الضّالة ، ويظنون أن هذه الجموع التي قد تراجعت قد فتنوا ، وأنّهم هم القابضون على الجمر وهم الطّائفة المنصورة ! ومع أن هؤلاء كما قلنا قد أصبحوا قلة قليلة لا يقدرون على مواجهة صغار طلبة العلم الذين قد تعلموا شيئًا من عقائد السلف ، إلا أننا لا نأمن أن يظهروا مرة أخرى هنا ، أو هناك ))(2).
ومما يدل على فساد مذهب من يكفر بالكبائر ما يأتي :
1 ) نصوص فيها التصريح ببقاء الإيمان والأخوة الإيمانية مع ارتكاب الكبائر ومنها.
__________
(1) 105 ) شرح العقيدة الطحاوية : 1 / 294 .
(2) 106 ) الشفاعة : 6 .(1/117)
قوله تعالى : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) ، [ سورة الحجرات : 9 ]
استدل أهل السنة بهاتين الآيتين على أن المؤمن لا يكفر بارتكابه الكبائر ، لأن الله - عز وجل - أبقى عليه اسم الإيمان مع ارتكابه لمعصية القتل ووصفهم بالأخوة وهي هنا أخوة الدين .
2 ) : شرع الله - عز وجل - إقامة الحدود على بعض الكبائر:
لعل هذا من أقوى الأدلة على فساد مذهب من يكفر مرتكب الكبيرة إذ لو كان السارق والقاذف وشارب الخمر، والمرتد سواء في الحكم لما اختلف الحد في كل منها، قال الإمام أبو عبيد رحمه الله (... ثم قد وجدنا الله - تبارك وتعالى - يكذب مقالتهم ، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بدل دينه فاقتلوه )) ، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد )) .
3 ) : نصوص صريحة في خروج من دخل النار من الموحدين بالشفاعة وبغيرها :
وهذا – أيضاً – من الأدلة الواضحة على عدم كفر مرتكب الكبائر وعدم خلوده في النار، إذ لو كان كافراً لما خرج من النار. والأدلة في هذا بلغت مبلغ التواتر، ومن هذه الأحاديث:
1- حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " وفي رواية " من إيمان " مكان "من خير" .[ رواه البخاري ومسلم ] .(1/118)
2- ومن ذلك أحاديث شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم – في أهل الكبائر الذين دخلوا النار أن يخرجوا منها فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله ، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " يوضح ذلك حديث الشفاعة المشهور وفيه ... فيقول " أي عيسى عليه السلام): ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل ))(1).
إذاً الخلاصة مما سبق من الآيات والأحاديث وكلام العلماء :
1- إجماع أهل السنة على عدم كفر مرتكب الكبيرة ، ما لم يستحل .
2- أنه في الآخرة تحت المشيئة إذا لم يتب – إن شاء عذبه – عز وجل – وإن شاء عفا عنه .
3- أنه إن دخل النار فلا يخلد فيها.
4- تحذير الموحدين من ارتكاب الكبائر، ويخشى على مرتكبها أن تتراكم عليه الذنوب فتوصله إلى الكفر، وكذلك يخشى عليه من العقوبات المترتبة على بعض الذنوب.
أما ما يظن أنه يخالف ذلك من بعض النصوص فله عدة تفسيرات عند الأئمة :
1- فالنصوص التي فيها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فالمقصود فيه نفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب.
2- أما النصوص التي فيها براءة النبي – صلى الله عليه وسلم – فمعناها ليس من المقتدين بنا بفعله هذا.
3- وكذلك النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي، قال فيها أهل السنة . إنها كفر دون كفر، وإن المقصود بذلك أن مرتكب هذه المعصية قد تشبه بالكافرين والمشركين بفعله ذلك. وأولوا بعضها بكفر النعمة.
__________
(1) 107 ) نواقض الإيمان : 77 .(1/119)
4- أما النصوص التي تحرم النار على الموحد فالمقصود تحريم خلوده في النار، وكذلك النصوص التي تحرم الجنة على من ارتكب بعض الكبائر فالمقصود دخول الجنة ابتداء. وبذلك يظهر تميز مذهب أهل السنة في هذا الباب وتوسطه بين الوعيدية ، والمرجئة، وجمعه بين النصوص المختلفة دون تكلف ولا تناقض ))(1).
المظهر الثاني
تكفير الحكام والأمراء والولاة والخروج عليهم
وهذه الظاهرة تشتمل على شقين أحدهما مبني على الآخر :
أولاً : إعلان تكفير حكام المسلمين .
ثانياً : إعلان وجوب الخروج عليهم .
فـ (( ظاهرة الخروج على الحكام ظاهرة قديمة وثمرة من ثمرات الحكم بغير ما أنزل الله ، تبنتها بعض الفرق الإسلامية قديماً وسار على نهجها بعض الجماعات حديثاً وذلك أنهم يقولون : إنَّ الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله ( كافر ) لقول الله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة : 44](2)، بدون تفصيل .
وقد رأت هذه الجماعات الخروج على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله واستباحة دمه وماله ، وربما عرضه في بعض الأحيان ، والضغط عليه لإسقاطه وتولي غيره الحكم ، أو أن يرجع فيحكم بما أنزل الله ، وكل ذلك لأنه كافر ))(3).
__________
(1) 108 ) المصدر السابق : 84 .
(2) 109 ) وهو أول شعار رفع بوجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد حادثة التحكيم المشهورة وبعد ظهور الخوارج كفرقة أعلنت العصيان لخليفة المسلمين حيث قالوا : ( لا حكم إلا لله ) وهو شعار منمق يخفي تحت عباءته أغراضاً ونوايا خبيثة مما جعل أمير المؤمنين علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )من حوله يقول في حقه (( كلمة حق أريد بها باطل )) وهي كما قال رضي الله عنه .
(3) 110 ) أنظر ( كيف نعالج واقعنا الأليم : 76 ) لعلي بن حسين أبو لوز .(1/120)
والظاهر أنَّ ظاهرة الخروج على الحكام ، والأمراء ومزاحمتهم على عرش السلطة ، إنما ظهرت وانتشرت عندما بدأت بوادر الغلو تدب إلى أفكار وعقول الفرق الإسلامية التي أنشقت من الجماعة الأم ، وازدادت قوة وعتواً عندما أمتزج بها التكفير والحرص على الدنيا .
فعندما أُشْعِلت نيران الفتن وسلت سيوف المحن على الأمة الإسلامية _ وإن كانت بأسم التغيير ونشر الدين _ عبر خطب نارية تأجج العواطف وتثير المشاعر يُقصد من وراءها تهييج العامة على أمرائهم وحكامهم ، بالإضافة إلى ما تركه الإختلاف والإفتراق من أثار وثمرات ، كل هذا ساهم في حلول المصائب ونزول النقم ليعَظُمَ بذلك الشرر ويعم الضرر ، حتى وُلد من رحم تلك الفتن (( مولودان لا يُدرى أيّهما سبق الآخر:
أحدهما : الخروج على الحكَّام.
وثانيهما : التكفير.
والتكفير والخروج رضيعَا لبانٍ واحد ، وربيبَا حِجْرٍ واحد ، ما حلاَّ ديار قوم إلاَّ تركوها بلاقع ))(1).
وهكذا دخلت علينا الفتنة من هذين البابين حتى (( طال منها الأمد ، و حتى شاب منها الوالد وما ولد ، فاستحال أمنُ البلاد إلى رُعب ، وعمرانُها إلى خُرْب ، وباتَت مساجدُها الآمنة مسارح للإرهاب ، وسالت من دماء هذه الأمة المسلمة أنهار غزار!
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده! ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ لا يَدرِي القاتلُ في أيِّ شيء قَتلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتل )) [ رواه مسلم ] .
فبدءاً بالتَّهيِّيج السياسيِّ على المَنابرِ باسمِ التَّوعيةِ الإسلامية !
وتَثنِيَةً بالتَّعبِئَةِ الجماهيرية باسم المُحافَظَةِ على الهَوِيَّةِ الإسلامية !
وتثليثاً بالخروجِ على الحُكَّامِ باسمِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكر ِ!
__________
(1) 111 ) أنظر ( فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من الماء في الجزائر )) للشيخ السلفي عبد المالك الرمضاني الجزائري _ حفظه الله تعالى _ .(1/121)
وتَربيعاً بتكفِير المسلمين باسمِ الوَلاءِ والبَراءِ !
وتَخميساً بالتَّفجِيرَات العَشوائيَّةِ والمَجَازِر الجماعية باسم الجهاد !!
هذا الذي شيَّب رؤوس المصلحين وشاب بكدر عظيم صفاءَ دين المسلمين ! حتى شوَّه صورته لدى أعدائه ، بسبب فساد تصرُّف أدعيائه ))(1).
أقول : فهؤلاء الذين يسعون إلى تغيير واقع المسلمين ـ كما يزعمون ـ من خلال قيامهم بهذه الثورات الطائشة والانتفاضات الخائبة ، والانقلابات البائسة فبالرغم من كذبهم فيما يزعمون السعي في تحقيقه ، فإنهم وقعوا في أخطاء فادحة أخرى من خلال إتباعهم وسائل وأساليب مبتدعة وخاطئة في سبيل تحقيق ذلك .
ولهذا فإنه قد ظهرت عدة مفاسد واضحة للعيان أعقبت أعمالهم الشريرة لتثمر ثمرات مريرة وقاسية ، لكنها وإن خفيت عليهم بسبب تزيين الشيطان لهم أعمالهم إلا أنها لم تخفَ على غيرهم من الناس .
وهؤلاء بجهلهم وغلوهم قد فاتهم معرفة الكثير من الحِكَمِ والعِظات التي يمكن أن تأخذ من وراء تسلط الحكام الظلمة على الناس ، فتسلطهم هذا لم يأتِ من فراغ ، ولم يكونوا بالسبب المباشر في تأزم المشكلة وتفاقم المحنة ، وإنما هو نتيجة وثمرة لانحراف الناس عن صراط ربهم المستقيم ، وهدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ترى هؤلاء انشغلوا بتغيير النتائج ، دون النظر إلى الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النتائج والثمرات ، ومحاولة معالجتها بعلاجات شرعية منضبطة .
فالنتائج كما هو معلوم رهينة الأسباب والمقدمات وجوداً وعدماً .
__________
(1) 112 ) المصدر السابق : 23 .(1/122)
فعن سليمان بن علي الرَّبعي قال : (( لَمَّا كانت فتنة أبن الأشعث ، إذ قاتَل الحجَّاجَ بنَ يوسفَ ، انطلق عقبةُ بن عبد الغافر وأبو الجَوزاء وعبد الله بنُ غالب في نَفَرٍ من نظرائهم ، فدخلوا على الحسن ـ أي البصري ـ فقالوا : يا أبا سعيد ! ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدمَ الحرام َ، وأخَذَ المالَ الحرامَ ، وتركَ الصلاة ، وفعل ، وفعل ...؟ قال : وذكروا مِن فعل الحجَّاجِ ... ، قال : فقال الحسن : أَرَى أن لا تُقاتلوه ؛ فإنَّها إن تكن عقوبةً من الله فما أنتم برادِّي عقوبةِ الله بأسيافكم ، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكمَ الله ، وهو خيرُ الحاكمين(1).
قال: فخرجوا مِن عنده وهم يقولون : نُطيع هذا العِلْجَ(2)؟!
قال : وهم قومٌ عربٌ !
__________
(1) معناه : إن كان اللهُ ابتلاكم بالحجَّاج وظُلمِه، فعِلاجُه الصبرُ .
وإن كان اللهُ سلَّطه عليكم عقوبةً لكم على ذنوبكم، فلن تُغالبوا الله؛ لأنَّكم عصيتُم الله شرعاً، فسلَّطه عليكم قَدَراً، فبدلاً من أن تشغلوا أنفسكم بمواجهته، فواجهوا السببَ الأصليَّ، ألا وهو الذنوب بالتوبة ، والضراعةِ إلى الله ، يدلُّ على هذا الرواية الأخرى للقصَّة، حيثُ جاء فيها أنَّ الحسنَ قال: (( يا أيُّها الناس! إنَّه والله! ما سلَّط اللهُ الحجَّاجَ عليكم إلاَّ عقوبةً، فلا تُعارضوا اللهَ بالسيف، ولكن عليكم السكينةَ والتضرُّعَ ))، رواه ابن سعد في الطبقات (7/164)، وابن أبي الدنيا في العقوبات (52) بسند صحيح. [ عبد المالك الرمضاني ] .
(2) 114 ) قال عبد المالك الرمضاني : (( العِلْجُ : هو الرجلُ من كفار العجم وغيرهم ، كما في النهاية لابن الأثير : (3/ 286) أي : أنَّ هؤلاء الخوارج حين خالفهم الحسن البصري في هواهم ، ولَم يَجدوا حجَّةً للردِّ عليه ، أخذتهم حميَّةُ القوميَّة العربية ، فعابوه في نسبه ! وقد كان ـ رحمه الله ـ من أَبَوَين عَبدَين مَملوكَين .(1/123)
قال: وخرجوا مع أبن الأشعث ، قال : فقُتلوا جميعاً! ))(1).
وهذا تقييد مهم للبلاء الذي يمكن أن يصاب العباد به ، لأن البلاء إذا نزل بقوم فإنهم يتقلبون بين حالين :
الحال الأول : إما أن يكونوا قد أقاموا حق الله ونصروا دينه وإتبعوا هدي وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّ الذي نزل بهم يكون من باب الابتلاء الذي يكون الغرض منه الاختبار والتمحيص ، قال تعالى { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت : 3].
لأنهَّ ليس من المعقول أن يكون العباد قد أقاموا حق العبودية لله تعالى وكانوا على الصفة التي يحبها ويرضاها ثم يعاقبهم بتسليط الظلمة والكفرة عليهم والله تعالى يقول { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47] .
وهذا قيده الصبر والإستكانه قال تعالى { َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة : 156] } .
الحال الثاني : وإما أن يكونوا قد تركوا أمر الله ونهيه وتلبسوا بالرذائل والقبائح من الذنوب والمعاصي المهلكات ، فعندها يكون الذي نزل بهم من باب العقوبة والتوبيخ ، قال تعالى { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [الشورى : 30] .
__________
(1) 115 ) أنظر ( فتاوى العلماء الأكابر : 48 ) .(1/124)
وهذا قيده التوبة لله والأوبة إليه والإقلاع عما كانوا فيه ، فما نزل عقاب إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بالتوبة والندم ، قال تعالى { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98] .
وهنا نتساءل :
( هل يجوز الحكم بالكفر أو بالفسق أو الظلم على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله بدون تفصيل ؟ !
( فإذا كان كافراً أو فاسقاً أو ظالماً فهل يجوز الخروج عليه ؟ أم لابد من توفر شروط وضوابط شرعية لذلك .
(أم الأفضل والأولى للمسلم أن يصبر ويحتسب على ذلك إن كان عاجزاً عن الإنكار والتغيير .
وعلى هذه التساؤلات تكون الإجابة عبر معرفة عدة مسائل واجبة المعرفة والبيان ، منها :
المسألة الأولى : أنواع الخروج :
وهي نوعان :
1 ) خروج فكري ، وهي أشدها خطراً .
2 ) خروج عملي وهو ثمرة ونتيجة للأول .
قال الإمام الألباني في (( فتنة التكفير : 16 )) : (( إذا أردنا أن نقيم حكم الله في الأرض – حقاً لا ادعاء – هل نبدأ بتكفير الحكام ونحن لا نستطيع مواجهتهم ، فضلاً عن أن نقاتلهم ؟ أم نبدأ – وجوباً – بما بدأ به الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ لاشك أن الجواب : { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ ... } أهـ
فإتباع النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وإرادة التغيير لا يمكن أن تكون بنوع من أنواع الخروج السابقة الذكر .
فمقاليد الحكم في مكة كانت بأيدي الكفار والمشركين ، والرعية كانوا مسلوبو الإرادة أمام إرادة سادتهم ، وكبرائهم لا رأي لهم ولا قول .
فيا ترى بماذا بدأ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وكيف بدأ أولى خطوات التغيير ، فهل بدأ بمزاحمتهم على المُلك والسيادة عبر تهييج الرعية والعبيد عليهم ، ومن ثم القيام بثورة عامة عليهم !!!(1/125)
أم بدأ بمحاولة إصلاح الرعية من خلال إصلاح اعتقاداتهم وتطهير قلوب العباد مما علِق بها من أدران الشرك ، وشوائبه وربطها مباشرة بربها ، وخالقها .
والمتأمل في سيرة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يرى بوضوح أن مسألة إصلاح عقائد الناس هي التي طغت على دعوة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) طوال العهد المكي ، أما مسألة السلطة والملك لم تكن هي السبيل التي توصل دين الله إلى قلوب الناس .
كيف وقد عرضها كفار مكة على النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) على أن يترك دعوته ولكن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) رفض عرضهم وفضَّل المضي في دعوته على ما فيها من مصاعب وأهوال )) .
المسألة الثانية : أهمية وجود الإمام وحرمة الخروج عليه :
إنَّ المتأمل في النصوص الشرعية يرى مدى حرصها وتأكيدها على حرمة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم التي من الممكن أن تكون هدفاً للسلب والنهب والاعتداء إذا ما فقد الأمن والأمان بفقد من يتولى حفظ ذلك .
ومن المعلوم أن الأمن إذا فُقِد صارت أرواح الناس وما يملكون رخيصة ، ولا يعرف هذا إلا من رأى ذلك وعاينه أمثالنا أهل العراق .
ولهذا جاءت النصوص _ سواء كانت نصوص السنة النبوية الصحيحة أو أقوال العلماء الأعلام _ تؤكد على عدة أمور مهمة هي :
الأمر الأول : أهمية وجود الإمام والأمير ودورهما في تسيير حياة المسلمين الدنيوية والأخروية .
الأمر الثاني : حرمة الخروج على الحكام _ بشقية الفكري والعملي _ ومنازعتهم في الأمر ، إلا وفق ضوابط معتبرة وشروط منضبطة .
الأمر الثالث : عدم إعطاء الإمارة لمن طلبها وسعى في تحصيلها .
الأمر الرابع : ذم الإمارة مع أهمية وجودها وأنها حسرة وندامة إذا لم يتوخى صاحبها العدل والإنصاف .
أما الأمر الأول : فمن الأدلة على ذلك :(1/126)
1 ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر ، وإن يأمر بغيره ، كان عليه منه ))(1) ...
2 ) عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء فتكثر )) قالوا : فما تأمرنا ؟
قال : (( فوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ))(2).
2 ) قال أمير المؤمنين علي ( رضي الله عنه ) : (( لا يُصلِحُ الناسَ إلا أميرٌ برٌّ كان أو فاجر .
قالوا يا أمير المؤمنين: هذا البر فكيف بالفاجر ؟!
قال : إن الفاجر يُؤمِّنُ اللهُ عز وجل به السبل ، ويجاهَد به العدو ، ويجيء به الفيء ، وتقام به الحدود ، ويُحج به البيت ، ويعبد اللهَ فيه المسلمُ آمنا حتى يأتيه أجله )).
وقال عمرو بن العاص ( رضي الله عنه ) : ((سلطانٌ عادلٌ خير من مطر وابل ، وسلطانٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم )) .
وتأمل في فقه الصحابة الأطهار وسلف الأمة الأبرار الذين أوتوا العلم والزكاة كيف عرفوا الأمر حق المعرفة فقدروا له قدره(3).
3) قال الإمام البربهاري : (( وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله ، يقول فضيل بن عياض : لو كان لي دعوة مستجابة(4)ما جعلتها إلا في السلطان .
قيل له : يا أبا علي فسر لنا هذا ؟
__________
(1) 116 ) رواه مسلم برقم : 1841 .
(2) 117 ) رواه البخاري برقم : 3268 ، ومسلم برقم 1842 .
(3) 118 ) خوارج العصر : 3 ، للشيخ سالم العجمي .
(4) 119 ) قالها رحمه الله حتى لا يزكي نفسه ، فلله درهم ما أفقههم وأنبلهم .(1/127)
قال : إذا جعلتها في نفسي لم تعدني وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين(1).
فقبّل أبن المبارك جبهته وقال: ( يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك ) فيا لله ما أعظم فقههم(2).
وقال الفضيل _ أيضاً _ : (( ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ؛ ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره ، فكبر ذلك علينا ، فلما مات هارون وظهرت الفتن ، قلنا : الشيخ كان أعلم بما تكلم ).
والفضيل- رحمه الله - قال ذلك ديانةً لله ، لم يقل ذلك طمعاً في دنيا ؛ بل إنه كان من العباد الزهاد ؛ وكان يعطيه هارون -رحمه الله – العطاء والمال فيرفضه ولا يأخذ منه شيئاً ؛ وإنما كان قوله هذا دليلاً على فقهه وديانته ؛ فلا نامت أعين الخوارج(3).
وأما الأمر الثاني : فمن الأدلة على ذلك :
1 ) – أن عبد الله بن عمر جاء إلى عبد الله بن مطيع – حين كان أمر الحرة ما كان : زمن يزيد بن معاوية -، فقال عبد الله بن مطيع: أطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال : أني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من خلع يداً من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية ))(4).
__________
(1) 120 ) شرح السنة برقم : 990 .
(2) 121 ) أنظر ( خوارج العصر : 6 )
(3) 122 ) المصدر السابق : 7 .
(4) 123 ) رواه مسلم برقم 1851:(1/128)
2 ) عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا : أصلحك الله ، حدَّث بحديث ينفعك الله به ، سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه ، فقال فيما أخذ علينا : أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان ))(1).
3) وعن أبي رجاء العطاردي قال : سمعت أبن عباس ( رضي الله عنهما )،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، إلا مات ميتة جاهلية ))(2).
4 ) وفي (( صحيح البخاري )) – كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس – عن عبد الله بن دينار قال : شهدت ابن عمر حيث أجتمع الناس على عبد الملك ، قال : (( كتب : أني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت ، وان بني قد أقروا بمثل ذلك )).
قوله : (( حيث أجتمع الناس على عبد الله عبد الملك )) ، يريد : أبن مروان بن الحكم .
والمراد بالاجتماع : اجتماع الكلمة ، وكانت قبل ذلك مفرقة ، وكان في الأرض قبل ذلك اثنان ، كل منهما لفقهاء : بالخلافة ، وهما عبد الملك بن مروان ، وعبد الله بن الزبير – رضي الله عنه –
وكان أبن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لأبن الزبير أو لعبد الملك ، فلما غلب عبد الملك واستقر له الأمر بايعه ، وهذا الذي فعله أبن عمر من مبايعة المتغلب هو الذي عليه الأئمة ، بل انعقدت عليه الإجماع من الفقهاء ))(3).
__________
(1) 124 ) رواه البخاري : برقم : ( 7056 ) ومسلم ( 1841 ) .
(2) 125 ) رواه البخاري : برقم : 2646 ، ومسلم برقم 1849 .
(3) 126 ) معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة : 13 للشيخ عبد السلام بن برجس(1/129)
5 ) قال الإمام البربهاري : (( لا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه وإن جار وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري أصبر وإن كان عبداً حبشياً ، وقوله للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وليس من السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدنيا والدين .ويحل قتال الخوارج إذا عرضوا للمسلمين في أموالهم وأنفسهم وأهليهم وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم ولا يجهز على جريحهم ولا يأخذ فيهم ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ))(1).
6 ) ذكر الإمام أبو بكر الخلال في (( السنة : 1 / 133 )) عن أبي الحارث حدثهم قال : سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد وهم قوم بالخروج فقلت يا أبا عبد الله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول سبحان الله الدماء ، الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم أما علمت ما كان الناس فيه يعني أيام الفتنة قلت والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله .
قال وإن كان فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة وانقطعت السبل الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك ورأيته ينكر الخروج على الأئمة وقال الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به )) . [ إسناده صحيح ] ...
وقال _ أيضاً _ أخبرني علي بن عيسى قال سمعت حنبل يقول في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله أبو بكر بن عبيد وإبراهيم بن علي المطبخي وفضل بن عاصم فجاؤوا إلى أبي عبد الله فاستأذنت لهم فقالوا يا أبا عبد الله هذا الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك فقال لهم أبو عبد الله : فما تريدون ؟
قالوا : أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه .
__________
(1) 127 ) أنظر ( شرح السنة برقم : 240 )(1/130)
فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم : عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة . ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ، ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه ومضوا ودخلت أنا وأبي على أبي عبد الله بعدما مضوا فقال أبي لأبي عبد الله : نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد وما أحب لأحد أن يفعل هذا وقال أبي يا أبا عبد الله هذا عندك صواب قال لا هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر ثم ذكر أبو عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ضربك فاصبر وإن ، وإن فاصبر فأمر بالصبر قال عبد الله بن مسعود وذكر كلاما لم أحفظه )) . أ . هـ
وأما الأمر الثالث : عدم إعطاء الإمارة لمن طلبها وسعى في تحصيلها :
عن أبي موسى ( رضي الله عنه ) قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، أنا ورجلان من بني عمي ، فقال أحد الرجلين : يا رسول الله ! أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل ، وقال الآخر : مثل ذلك .
فقال : (( إنَّا ، والله ! لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ، ولا أحدا حرص عليه ))(1).
وأما الأمر الرابع : النهي عن سؤال الإمارة مع أهمية وجودها وأنها حسرة وندامة إذا لم يتوخى صاحبها العدل والإنصاف :
1 ) روى الإمام مسلم في (( صحيحه : باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها :عن عبد الرحمن بن سمرة ( رضي الله عنه ) قال :قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها ، عن مسألة ، وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة ، أعنت عليها )).
__________
(1) 128 ) رواه مسلم : باب : النهي عن طاب الإمارة والحرص عليها .(1/131)
2 ) وروى الإمام البخاري في (( صحيحه : باب : من سأل الإمارة وُكِل إليها عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة )) .
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 13 / 126 )) : (( نِعْم المرضعة : لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها .
وقوله ( وبئست الفاطمة ) عند الانفصال عنها بموت أو غيرها وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة )) .
3 ) عن الحسن قال : أتينا معقل بن يسار نعوده ، فدخل علينا عبيد الله ، فقال له معقل : أحدِّثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( ما من وال يلي رعيَّة من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم ، إلا حرَّم الله عليه الجنة ))(1). 4 ) عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ))(2).
وخلاصة ما سبق ذكره ما ذكره الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي في (( منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله : 125 )) : (( ومن هنا - أيضاً - كان _ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على القرآن والسنَّة وعلى الإيمان والصدق والإخلاص لله في كلِّ عمل بعيداً عن الأساليب السياسيَّة والإغراء بالمناصب العالية .
__________
(1) 129 ) رواه البخاري برقم : 6732 .
(2) 130 ) رواه البخاري 629 ، ومسلم 1031 .(1/132)
فما كان يمنّي أحداً منهم قبل دخوله في الإسلام أو بعده بمنصب في الدولة ، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحد عظماء الصحابة وأقواهم شخصيَّة ما كان يَعِده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمناصب ولا تتطلع نفسه إليها حتى جاء يوم خيبر ، أي : بعد عشرين سنة من البعثة فاجأهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه )) ،فبات هو والصحابة يدوكون ليلتهم أيُّهم يعطاها، وقال عمر - رضي الله عنه - : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ )) . ...
لأيّ شيء تطلع هؤلاء الصحابة الكرام ؟! أللإمارة نفسها أم لنيل هذه المنزلة العظيمة حب الله ورسوله ؟ ولماذا كان عمر بن الخطاب لا يحب الإمارة لو كان رسول الله يحببها إليهم ويربيهم عليها ويمنيهم بها. بل كان ينفرهم منها ويحذرهم من الحرص عليها ......
قال الحافظ : قال المهلب: (( الحرص على الولاية :هو السبب في اقتتال النَّاس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك، ووجه الندم أنَّه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها لأنَّه يطالب بالتبعات التي ارتكبها، وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته.
قال: ويستثنى من ذلك مَن تعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال )) أ . هـ
وعلى كلّ حال فالإمارة والقضاء من الأمور التي لابدّ منها ولا تقوم حياة المسلمين إلاّ بهما، وبهما تعصم الدماء والأموال والأعراض. ...
ولكن يجب أن نسلك في اختيار الأمراء والقضاة منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعطى هذه المناصب لمن يسألها أو يحرص عليها أو يرشح نفسه لها عن طريق الانتخابات مثلاً فإنَّ هذا من الحرص عليها ، وإنَّما يُختار لها الأكفاء علماً وزهداً فيها وتقوى .(1/133)
ثمَّ ينبغي أن نستفيد من هذا المنهج النبوي في التربية ، فلا ينبغي أن ننشئ الشباب على حب القيادة والرئاسة والسيادة والإمارة، فلو نشأناهم على حب هذه الأشياء خالفنا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوقعنا الشباب في المهالك ، وأي فلاح ننتظره في الدنيا ، والآخرة إن خالفنا منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ )) أ . هـ
المسألة الثالثة : الحكم بما أنزل الله أنواعه وحكمه :
قال الإمام أبن عثيمين : (( الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة : 31] ))(1).
ومن المعلوم أن (( الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم فرداً كان أو جماعة ، أميراً كان أم مأموراً ، والحكم ثلاثة أنواع :
1 ) الحكم المنزل : وهو شرع الله في كتابه وسنة رسوله وكله حق ظاهر .
2 ) الحكم المؤول : وهو اجتهاد الأئمة المجتهدين وهو دائر بين الخطأ والصواب والأجر والأجرين .
3 ) الحكم المبدل : وهو الحكم بغير ما انزل الله وتردد الفاعل له بين الكفر والظلم والفسوق(2).
__________
(1) 131 ) شرح الثلاثة الأصول : 158 .
(2) 132 ) مجمل مسائل الإيمان لتلاميذ الإمام الألباني .(1/134)
وأما فيما (( يخص قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقوله تعالى { َمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة : 47]
فإنَّ هذه الآيات الثلاث منزلة على أحوال ثلاث :
1 ) من حكم بغير ما أنزل الله مستبدلاً به دين الله فهذا كفر أكبر مخرج من الملة ، لأنه جعل نفسه مشرعاً مع الله عز وجل .
2 ) من حكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ، أو خوفاً عليها ، أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا يكفر ، ولكنه ينتقل إلى الفسق .
3 ) من حكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً ، وهذا لا يتأتى في حكم القوانين ، ولكن يتأتى في حكم خاص ، مثل أن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم من ، فهذا يقال إنه : ظالم .فتنزل الأوصاف على حسب الأحوال(1)
المسألة الرابعة : شروط الخروج على الحكام :
اختلف الناس فِي الخروج عَلَى السلاطين الظلمة عَلَى ثلاثة مذاهب: فذهبت الأشعرية إلى تَحريم الخروج عليهم ، وذهبت الخوارج إلى وجوب الخروج عليهم عَلَى الضعيف والقوي حتَّى قَالَ قائلهم :
أبا خالد أنفر فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد
أتزعم أنَّ الخارجي على الهدى وأنت مقيم بين عاص وجاحد(2)
__________
(1) 133 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 73 .
(2) 134 ) الكواشف الجلية : 47 .(1/135)
أما أهل السنة والجماعة فقد (( وضع العلماء ضوابطاً وشروطاً يجب أن تكون متوفرة في الحاكم المراد الخروج عليه ، وهذه الشروط مأخوذة من قول النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) كما في حديث عبادة بن الصامت : بايعنا رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان ))(1).
وقد بيَّن فضيلة الشيخ أبن عثيمين هذه الشروط في (( الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات : 286 )) فقال : (( فليعلم أنَّ الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط :
الشرط الأول : (( أن تروا )) بمعنى أن تعلموا علماً يقينياً بأنَّ السلطة أرتكبت كفراً .
الشرط الثاني : أن يكون الذي أرتكبته السلطة (( كفراً )) فأما الفسق فلا يجوز الخروج عليهم بسببه مهما عظم .
الشرط الثالث : (( بواحاً )) أي معلناً صريحاً لا يحتمل التأويل .
الشرط الرابع : (( عندكم فيه من الله برهان )) أي مبني على برهان قاطع من دلالة الكتاب والسنة أو إجماع الأمة .
فهذه شروط أربعة .
الشرط الخامس : يؤخذ من الأصول العامة للدين الإسلامي وهو قدرة هؤلاء المعارضين على إسقاط السلطة ، لأنه إذا لم يكن لديهم القدرة أنقلب الأمر عليهم لا لهم ، فصار الضرر أكبر بكثير من الضرر المترتب على السكوت على هذه الولاية ... ))(2).
__________
(1) 135 ) رواه البخاري : برقم : ( 7056 ) ومسلم ( 1841 ) .
(2) 136 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 77 .(1/136)
وقد (( حصل من كثير من ولاة الأمر في صدر الإسلام ذنوب وأفعال مستنكرة ، كانت سبباً لخلع بعض الجهات بيعتهم ، فحصل بذلك فتن وقتال كبير ، فإنَّ أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية وأظهروا مخالفته لأنه حصل منه وبسببه بعض المحرمات ، كقتل الحسين بن علي ونحوه ، فأرسل إليهم جيشاً كبيراً فحصلت وقعة الحرة المشهورة التي قتل فيها مئات أو ألوف الأبرياء ، وأنتهكت فيها الكثير من المحرمات .
وهكذا فتنة أبن الأشعث الذي خلع ولاية الحجاج على العراق ، ثم خلع بيعة الخليفة ، فقد قُتل بسببها عشرات الألوف .... ))(1).
قال الإمام الألباني : (( فالذي أريد أن أقوله : الخروج على الحاكم من الناحية الشرعية هو أمر جائز ، وقد يجب ، لكن بشرط أن نرى الكفرَ الصريح البواحَ .
الشرط الثاني : أن يكون بإمكان الشعب أن يخرج على هذا الحاكم ويُسيطر عليه ، ويحلَّ محلَّه دون إراقة دماء كثيرة وكثيرة جدًّا ، فضلاً عمَّا إذا كان الشعب ـ كما هو الواقع اليوم في كلِّ البلاد الإسلامية ـ لا يستطيع الخروج على الحكام ؛ ذلك لأنَّ الحكام قد أحاطوا أنفسهم بأنواع من القوة والسلاح، وجعلوا ذلك حائطاً وسياجاً يدفعون به شرَّ من قد يخرج عليهم من شعبهم وأُمَّتهم ))(2).
ثم لو حصل (( أن الإمام كفر واتفقنا على كفره كيف يكون الخروج عليه ؟ يقول أبو المعالي الجويني : ولا يكون ذلك لآحاد الرعية بل لأهل الحل والعقد )) .ا هـ
__________
(1) 137 ) المصدر السابق : 87 .
(2) 138 ) فتاوى العلماء الأكابر : 140 .(1/137)
فإذا كفر الحاكم قام أهل الحل والعقد بعزله وإبداله بغيره ، ولكن بشرط أن لا يترتب على ذلك سفك دماء ، وحصول فتنة ، وهذا ما قرَّرَه الإمام أحمد عندما كان خلفاء بني العباس يقولون بخلق القرآن ، ويُلزمون الناس بالقول به ، وضربوا الإمام أحمد وغيره من العلماء على أن يقولوا بخلق القرآن وهو كفر ، والإمام أحمد يُكفِّر من يقول بخلق القرآن ، لكن لَمَّا جاءه بعضهم وقال : نريد الخروج على أولئك ، فالفتنة عَظُمَت ، قال : لا أُحِلّ لكم ذلك ، إذا وقع السيف وقت الفتنة ، تسفك الدماء وتنتهك الحرمات وتنقطع السبل ، اصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر .
هذا هو المبدأ الذي فهمه أئمة المسلمين وأئمة السلف وهو أنه لو كفر الحاكم ؛ فإنه إنما يجوز لأهل الحل والعقد أن يعزلوه بشرط أن يكون ذلك دون فتنة وسفك دماء .
وليس ذلك لآحاد الرعية للأسباب الآتية :
أولا : أنهم قد يخطئون في التكفير .
ثانياً : أنه إذا قام بعضهم دون بعض وقعت الفتنة وحصل الاختلاف .
ثالثاً : أنهم لا يُراعون ما يترتب على الخروج عليه وعزله بخلاف أهل الحل والعقد .
فإذا قال قائل : إنَّ الحاكم الفلاني يُحكِّم القوانين الوضعية ، فهو كافر خارج عن مِلّة الإسلام !
فإنَّنا نقول له : لقد تكلم في هذا الأمر علماء أجلاء ، وهى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله :
فأبن عباس - رضى الله عنهما - يقول : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم ))(1).
المسألة الخامسة : أسباب فشل الثورات والانتفاضات :
ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب أهمها :
الأول : الجهل والتعصب ، بالإضافة إلى الاستعجال وعدم التأني : كلها عوامل تمنع هؤلاء من النظر والتأمل في عواقب الأمور من حيث المفسدة والمصلحة التي من الممكن أن تترتب على تلك الثورات .
__________
(1) 139 ) الخوارج والفكر المتجدد : 54 ، للشيخ عبد المحسن العبيكان .(1/138)
ومسألة النظر إلى المصالح والمفاسد ووجوب الالتفات إليهما قبل الشروع في العمل وفق قاعدة ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )) أصل نبوي عمل به النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في مواضع وحوادث كثيرة سواء كان في حال القوة أو الضعف ، أو في حال السلم أو الحرب ، ويمكن أن نستشهد على ذلك بحوادث كثيرة ومشهورة :
الأولى : كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يرى في مكة أشد المنكرات وأعظم المحرمات ولم يسع إلى تغييرها خوفاً من زيادة المنكر عملاً بالقاعدة ((درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ))
وقد يقول قائل على سبيل الاستفهام أو الاستنكار : لقد كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في مكة مستضعفاً ولهذا لم يسعَ في ذلك .
نقول : ليس الأمر كذلك ، بل إن هذه القاعدة على إطلاقها يعمل بها في كل وقت وحين متى ما خيفت المفسدة ، بدليل أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لما دخل مكة منتصراً وأراد هدم الكعبة وإعادة بناءها على قواعد إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) ولكنه لم يفعل ذلك مع قوته وإمكانيته حينها درءاً للمفسدة التي من الممكن أن تقع بعد ذلك .
فعن سعيد بن ميناء قال سمعت بن الزبير يقول وهو على المنبر حين أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها حدثتني عائشة خالتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها يا عائشة : (( لولا أن قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة ثم زدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرت بها حين بنت البيت وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وألزقتها بالأرض ))(1)
__________
(1) 140 ) رواه أبن حبان وصححه الإمام الألباني في (( صحيح سنن النسائي : 5 /215 )) و (( صحيح جامع الترمذي : 3 / 224 )) .(1/139)
الثانية : كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يمر وهو في مكة يمر ببعض المسلمين وهم يعذبون في الله ويأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة وقد قُتل بعضهم كسمية ( رضي الله عنها ) ولم يأمر في ذلك الوقت أحداً بالقتال أو الاغتيال خلسة لما يترتب على ذلك من المفسدة ما هو أعظم من مفسدة تعذيب بعضهم ألا وهي مفسدة استئصال المسلمين جميعاً وهم قلة ، ولما أراد أهل بيعة العقبة من الأنصار أن يغيروا على أهل منى في الحج وهم نائمون نهاهم عن ذلك .
ولم تكن مثل هذه السياسة في ذلك الوقت جبناً ولا خوراً ولا خذلاناً للمسلمين لقاعدة الشريعة الأصلية وهي : ( احتمال أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما ) .
الثالثة : لقد ترك النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قتل أبن أبي بن سلول رأس المنافقين مع كونه قد قال ما يستوجب القتل بوصفه النبي بالأذل ، وترك أيضاً إقامة حد القذف عليه لما تكلم في عرض عائشة ، وكذلك ترك قتل ذي الخويصرة لما طعن في عدالته في قسمته لما قسم الغنائم ، وهي ردة كما قرره شيخ الإسلام في الصارم المسلول ، كل ذلك لئلا يتحدث الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه ، وهي مفسدة أعظم من مفسدة ترك إقامة الحد عليهم(1).
ومن المعلوم أن الجهل والتعصب مرضان إن تمكنا من فرد أو جماعة فإنهما يمنعان من الإتعاض والإعتبار بالنتائج والثمرات التي تفرزها الأعمال التي يقومون بها ولهذا تجدهم يمضون في محاولة تحقيق ما يريدون دون أن يهتز لهم جفن لما تركوه خلفهم من خراب ودمار ودماء غزار .
الثاني : عدم الاعتبار بحوادث التاريخ : وما تركته من مواعظ وعبر ، تعطي لمن وفقه الله تعالى درساً بليغاً في وجوب التأني والنظر في عواقب أفعاله قبل نية القيام بأفعال تشبه تلك الأفعال .
__________
(1) 141 ) كشف الشبهات في مسائل العهد والجهاد : لفيصل بن قزاز الجاسم(1/140)
بل العجب والاستغراب يكمنان في هؤلاء ، فبدل أن يعتبروا ويتعظوا بما خلفته تلك الحوادث التاريخية من مصائب وأهوال ـ ذكرتها كتب التواريخ والسير ـ صاروا هم يحتجون بها كمبررات وحجج لخروجهم وثوراتهم على الحكام .
وقد سئل العلامة الألباني عن الشبهة التالية :
يحتج البعض بما وقع في التاريخ الإسلامي ، كما في فتنة أبن الأشعث وخروج كثير من القراء ، وعلى رأسهم سعيد بن جبير ومن كان معهم ، وأيضاً ما وقع من عائشة رضي الله عنها ، والزبير وطلحة مع علي رضي الله عنهم أجمعين ، وأن هذا قد وقع ، وأن هذا يُعد خروجاً ، ولكن ما حقق لهم الهدف المطلوب ، لكن هذا الخروج مما يجوز ، فهل هذا الاستدلال بتلك القصص التي وقعت في العهد الأول صحيح ؟ وما الجواب ؟ لأنَّ هذا يبرر كثيراً من أجل قضية الخروج :
فأجاب رحمه الله تعالى على هذه الشبهة فقال :
الخروج لا يجوز ، وهذه الأدلة هي على من يحتج بها وليست لصالحه إطلاقاً هناك حكمة تُروى عن عيسى عليه السلام _ ولا يهمنا صحتها بقدر ما يهمنا صحة معناها _ أنه وعظ الحواريين يوماً وأخبرهم بأن هناك نبياً يكون خاتم الأنبياء ، وأنه سيكون بين يديه أنبياء كذبة .
فقالوا : كيف نميز الصادق من الكاذب ؟ فأجاب بالحكمة المشار إليها وهي قوله : (( من ثمارهم تعرفونهم )) .
فهذا الخروج وذاك الخروج ، ومنه خروج عائشة رضي الله عنها ، نحن نحكم على الخروج من الثمرة ، فهل الثمرة كانت مُرَّة أم حلوة ؟
لا شك أن التاريخ الإسلامي الذي حدثنا بهذا الخروج وبذاك ينبئ بأنه كان شراً ، فقد سفكت دماء المسلمين وذهبت هدراً بدون فائدة ، وبخاصة ما يتعلق بخروج السيدة عائشة رضي الله عنها ، فالسيدة عائشة فقد ندمت على خروجها وكانت تبكي بكاء مراً حتى يبتل خمارها ، وتتمنى أن لا تكون قد خرجت ذلك الخروج(1).
__________
(1) 142 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 94 .(1/141)
الثالث : حب الرئاسة والدنيا والحرص عليهما ورغبة الاستحواذ بالغنيمة والسيطرة دون الآخرين ، من أسباب التنازع والاختلاف عند الكثير من الرؤوس المدبرة مما يجعل ثورتهما عرضة للفشل والانهيار والدمار .
وهؤلاء مع نواياهم ورغباتهم يتقلبون بين حالين :
الأول : أما أن يخفوا هذه النوايا والرغبات حتى على أتباعهم الذين انخدعوا بمظاهرهم المزيفة ، ولكنها لا تخفى على الذي يعلم السر وأخفى .
الثاني : وأما أن تخفى حتى على أنفسهم بفعل تلبيس وتخليط الشياطين عليهم ، فتُخرِج لهم تلك النوايا بصورة الغيرة على الدين وضرورة وسرعة التغيير ، فينخدعوا هم أنفسهم بهذه التلبيسات الشيطانية .
وإلا فقد يجتمع الخصوم ويلتقي الفرقاء ولو في الظاهر في سبيل تحقيق هدف مشترك يجمع بينهما ، ولكن بمجرد أن يقتربوا من تحقيقه تظهر تلك النوايا وتتكشف عندها الوجوه ويزاح عنها ما كانت ترتديه من أقنعة وستار ، وعند ذلك يسعى كل واحد من أولئك الفرقاء _ سواء كان في الخفاء أم في العلن _ إلى الوصول إلى مبتغاه دون الأخر ، أو يلجؤون إلى التصفية الجسدية أو الأحتراب والاقتتال فيما بينهم كما حدث في أفغانستان .
فالفصائل الأفغانية أبان قتالهم للروس الذي كان هدفاً مشتركاً يجمع بينهما ولو في الظاهر ، ولكن بمجرد أن خرج الروس من أفغانستان ، حتى ألتفتت تلك الفصائل يقاتل بعضها بعضاً على كرسي الحكم هناك ، والنتيجة ضاعت أفغانستان وسقطت بيد الأمريكيين جريحة نائحة .
وهناك مسألة بالغة الأهمية تلفت الانتباه لكثرة وقوعها وحصولها عبر حوادث التاريخ الطويل هي : أن مسألة التلبيس في النيات والرغبات وأن كانت خافية على الكثير أبتداءً ولكن هذا الإخفاء أو محاولة الإخفاء لا يدوم طويلاً بل سرعان ما تظهر بوادره وتطفوا على السطح إماراته رغم شدة الاحتياط في ذلك .(1/142)
ولو نظرنا _ مثلاً _ إلى بني إسرائيل عندما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون خلفه في سبيل الله تعالى وهذه نيتهم على الأقل ظاهراً ، لكنها سرعان ما تغيرت وتبدلت عندما أخبرهم باسمه وبما فضله الله عليهم ،
قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ @ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 247] .
وهناك مسالة أخرى جديرة بالذكر والاهتمام أيضاً وهي : أنَّ هؤلاء الذين يصارعون السلاطين والحكام على ما في أيديهم من حطام الدنيا لم يكن إلا للدنيا التي منعها عنهم أؤلئك السلاطين ، وإلا فالسلاطين لم يمنعوهم من أداء صلاة أو زكاة ، أو أداء أي عبادة أخرى ، حتى يقال أن السبب في خروجهم منع الحكام إياهم من أداء عباداتهم .(1/143)
قال الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان : (( والخوارج أهل هوى والخوارج كانوا ينازعون الأصحاب على الحكم، ولذا كفروا الناس وقد ظفرت بأثر للحسن البصري ذكره أبو حيان التوحيدي في ... كتابه : (( البصائر والذخائر )) في الجزء الأول ص 156، يعطي إشارة على الفساد الموجود عند الخوارج ، قال "أتى رجل من الخوارج إلى الحسن البصري ، فقال له : ما تقول في الخوارج ؟
قال الحسن : هم أصحاب دنيا.
قال : ومن أين قلت أنهم أصحاب دنيا ، والواحد منهم يمشي بين الرماح حتى تتكسر فيه ، ويخرج من أهله وولده .
قال الحسن : حدثني عن السلطان ! هل منعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة قال:فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها )) أ.هـ.
أي أنك قاتلته على أن تكون صاحب رئاسة ، وصاحب سلطنة ، فالخوارج أصحاب دنيا على رأي الحسن البصري _ رحمه الله _ تعالى والفساد في تصورهم(1).
المسألة السادسة : مساوئ الخروج على الحكام :
لقد أشرنا في مناسبات سابقة إلى بعض المفاسد التي من الممكن أن تترتب على الخروج غير المدروس على الحكام ، وهنا سنشير _ زيادة في الإيضاح والتذكير _ إلى مفاسد من تلك النوع مازالت حية تعيش في ذاكرة الناس ممن عايشها أو عاصرها ، وهي الفتنة التي أحدثها الأغمار في الجزائر ، والتي ما زالت تئن من ويلاتها ومصائبها وجراحاتها ، من خلال الاطلاع على محادثة هاتفية حدثت بين العلامة _ الذي هو بحق عالم الجرح والتعديل كما وصفه الإمام الألباني _ الشيخ ربيع بن هادي المدخلي وبين الثوار الجزائريين ، وسننقل هذه المحادثة رغم طولها لما فيها من فوائد وعبر كثيرة وكثيرة جداً نقلها الشيخ عبد المالك الرمضاني الجزائري في كتابه (( فتاوى العلماء الأكابر فيما أُهدر من الدماء في الجزائر : 238 )) :
__________
(1) 143 ) أنظر ( 100 فتوى للشيخ مشهور بن حسن : ص 27 ، سؤال : 33 ) تم نسخها من موقع الشيخ في شبكة الانترنيت .(1/144)
مكالمة مباشرة من ثوار الجزائر برؤوس الجبال مع العلاَّمة ربيع بن هادي المدخلي(1)
بتاريخ 2 رمضان 1420هـ
قال السائل: (( لقد أدرك الأخوة عندنا هنا أنَّه لا سبيل للهدى وللحق إلاّ بالرجوع إلى العلماء ـ علماء أهل السنة ـ في هذا العصر وسؤالهم، والتزام أقوالهم بعد ذلك ، وها نحن الآن نعرض عليكم أخطر قضيّة تجري اليوم على الساحة الجزائرية ، ألا وهي القتال القائم بيننا وبين النظام الحاكم منذ ثمان سنوات ، نريد أن نعرف رأيكم فيه مع أكبر تفصيل ممكن .
عندنا تساؤلات نحتاج جداًّ أن تبيِّنوا لنا وجهَ الحق فيها ، فنطمع منكم ـ يا شيخنا ـ في شرحٍ وافٍ وشاف ٍ، وأن تشرحوا لنا صدوركم ؛ عسى الله أن يردَّ على أيديكم من شرد عن الحق ليعود إليه والله المستعان .
أوّل سؤال : ما رأيكم في هذا القتال القائم في الجزائر ؟ وعلى أيِّ أساسٍ تبنون قولكم وموقفكم ـ يا شيخنا ـ عِلْماً بأنّنا ننتهج المنهج السلفي، ونرفع راية أهل السنة والجماعة ، ونبرأ إلى الله من الهجرة والتكفير الذين يرتكبون المجازر والمذابح(2)، ونبرأ إلى الله من الحزبيين الذين يُدَنْدِنون حول الانتخابات والتحزب وغير ذلك ؟
قال الشيخ: جزاكم الله خيراً، أنا أولاً الآن أتهيّأ للذهاب للصلاة في المسجد الحرام.
أذَكِّركم بما قد سمعتموه من فتاوى علماء وأئمّة السنة في هذا العصر مثل الشيخ الألباني والشيخ أبن باز وأبن عثيمين ، فهل سمعتم وقرأتم فتاواهم ؟
السائل: إي نعم بلغتنا ، ولكن حال دون الانتفاع بها بعضُ الشُبَه التي نحتاج إلى جوابها منكم يا شيخنا .
__________
(1) لقد عرضتُ محتوى هذه الفتوى على الشيخ ، فقام بتهذيب ما رآه محتاجاً إلى تهذيب ، فليُعلم .[ الشيخ عبد المالك ]
(2) هذه شهادةٌ من نظرائهم في القتال، وجيرانِهم في الجبال، على أنَّهم ارتكبوا المجازرَ والمذابحَ ، مع ذلك لا يزال بعضُ المتكايسين يُكذِّبون!! ، [ الشيخ عبد المالك ] .(1/145)
الشيخ : إذاً تُؤَجَّل الإجابة عن الأسئلة هذه إلى أن أعود من الصلاة من المسجد الحرام. ثم ضرب لهم الشيخ موعداً آخر من اليوم نفسه ، ثم قبل انتهاء المكالمة قال الشيخ: أقول : بل أسألك سؤالاً سريعاً : كم نسبة السلفيين في هؤلاء ؟
السائل : هي أمّة كثيرة ـ يا شيخنا ـ أمة كثيرة !
الشيخ: طيّب إذا كانوا سلفيّين لماذا لم يرجعوا إلى العلماء قبل أن يدخلوا في هذه المشكلة ؟
السائل : هم أصلاً كانوا يعتمدون في خروجهم على فتوى للشيخ ناصر الدين الألباني ـ يعني ـ فتوى قديمة ، ثم ظهر الآن أنَّها لَم تكن ـ يعنِي ـ بتلك القوة وبتلك السلامة ، والله تعالى أعلم .
الشيخ : خير إن شاء الله على كلِّ حال البحث يجري بعدين إن شاء الله .
وعند الموعد اتّصل الثوارُ بالشيخ .
قال السائل: نحن نحيطكم علماً أنَّ الذي يكلِّمك الآن هم إخوانك المقاتلون من الجزائر ، وبالضبط المقاتلون: (الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، ونحن في إحدى كتائبها : (كتيبة الغرباء) بالبويرة(1).
نعود طبعاً بعد أن بلغنا من كلام أهل العلم ما بلغنا أن نطرح عليكم بعض التساؤلات ، وكنا قد أعطيناك بدايتها في الصباح ، وها نحن نعطيك تفاصيلها إن شاء الله عزّ وجلّ(2).
عموماً أودُّ أن نعطيك ـ يا شيخنا ـ نظرةً لمجريات الأحداث منذ أن بدأت إلى يومنا هذا ؛ حتى تكون عندك صورة متكاملة عمّا جرى إن شاء الله عزَّ وجلَّ .
__________
(1) مدينة قريبة من العاصمة شرقاً.
(2) وعلى هذا، فإنَّ عرْض الواقع حصل من أصحابه ، فليس لخصومهم أدنى تصرُّف فيه ؛ لئلاَّ يُقال: عُرض الواقع على الشيخ من غير أهله! [ الشيخ عبد المالك ](1/146)
كما تعلمون ـ شيخنا ـ القضية بدأت بظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الساحة ، التحزب ـ يعني ـ المفهوم ذاك والانتخابات ، ثم تَوقَّفت الانتخابات وجرى ما جرى في تلك الفترة ، في 92 بدأ جماعة من التكفيريّين عمليّات القتل والجبهة الإسلامية للإنقاذ في إبّان تلك الفترة كانت تدعم القتال بشكل إعلامي فقط ، وتحمِّس الشباب لذلك .
بعد ذلك شيخنا انتشر عند الأخوة أنَّ الشيخ ناصر الدين الألباني قد أفتى بهذا القتال ، وقال : (( عجِّلوا ! عجِّلوا ! ))، وهناك شريط مسموعٌ في هذه الفترة مع هذه الظروف الإعلامية ومع الظروف المتقلبة ـ يعني ـ ...(1) أصبح الشباب يلتحق أفواجاً ، أفواجاً بهؤلاء المقاتلين.
قال الشيخ : أَسمعني شريط الألباني .
السائل : ماذا شيخنا ؟
الشيخ : أسمعني كلام الشيخ الألباني هذا الذي يقول : (( عجِّلوا! عجِّلوا! )).
السائل : ماذا يا شيخ ماذا ؟
الشيخ: أقول: أَسمعوني صوت الشيخ الألباني هذا الذي اعتمدتم على فتواه.
السائل: الشريط موجود ، لكنَّ الشريط بُني على واقعٍ غير واقع الذي سأل الشيخ، لم يعطه الواقع الصحيح ؛ أوهمه أنَّ ثَمَّة عُدّة ، وثَمَّة (7) ملايين ، و (3) ملايين وهكذا ، فالشيخ قال : (( عجِّلوا! عجِّلوا! )) كأنّه أوهمه غير الواقع ، فكان هذا الذي كان(2).
__________
(1) هذه النقاط الثلاثة المتتابعة (...): تعني أنَّ الكلمة هنا غير مفهومة.
(2) قد مرَّ تفريغ هذه الفتوى في آخر فتاوى الشيخ الألباني رحمه الله، وبان للقارئ أنَّ كلام الشيخ لا يوهم ذلك، لا من قريب ولا من بعيد.
ومحاولة السائل إلصاق التهمة بالشيخ الألباني محاولة فاشلة؛ لأنَّه ليس في كلام الشيخ أدنى إيحاء بالخروج، كما بيَّنته في الموضع المشار إليه، كما أنَّ المشكلة ليست في الواقع المكذوب المعروض على الشيخ بقدر ما هي في التلاعب المكشوف بفتاوى أهل العلم والإعراض عنها؛ لأنَّ القومَ كانوا عَطْشى إلى الدِّماء من أول يوم! [ الشيخ عبد المالك ](1/147)
قلت : مرّت سنوات والشباب السلفي يلتحق بالمقاتلين بناء على أنّ هذا القتال مشروع ومأذونٌ فيه شرعاً ، ولم تصلنا ولم يصلنا كلامُ أهل العلم ـ يعني ـ الذي يمنع ذلك إلاَّ في السنوات الأخيرة ، وكان كلامهم يدور دائماً حول أناس، حول خوارج ، وأنَّ الذين يقاتلون خوارج وأنّهم يقتلون النساء والأطفال وهلمَّ جرّا.
لهذا كان الشباب السلفي لا يتأثّر بهذه الفتاوى ؛ لأنَّه يقول دائماً لا تعنيه؛ لأنَّ الشباب السلفي قط لم يقتلوا النساء ولم يقتلوا الأطفال، وليس على منهج الخوارج، بل يتبرّأون من ذلك تبرُّؤاً كاملاً!
وإثر ذلك في عام 96م انقسمت الساحة القتالية إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: الجيش الإسلامي للإنقاذ ، وهذا تابعٌ للجبهة الإسلامية للإنقاذ ، ومنهجهم هو التحزب والدعوة إلى رجوع الحزب والانتخابات.
والطائفة الثانية : جماعة التكفير: جماعة عنتر زوابري ، هذه التي قد سمعتم عنها في الإعلام مجازرَها وفظائعَها وسبيَها للنساء ، وحكمَها بالكفر الجماعي للشعب الجزائري
طائفة ثالثة : الجماعة السلفية للدعوة والقتال، هذه من جهة تتبرّأ من المجازر والمذابح والتكفير العام ، ومن جهةٍ تتبرّأ من الحزبية ، ولا تطالب بانتخابات ، إنَّها خرجت ظناًّ منها أنَّ هذا جهادٌ مشروعٌ مبنِيٌّ على فتاوى العلماء ، وأنَّ هذا عملٌ صالحٌ ، إلى أن بلغها مؤخّراً كلام كثيرٍ من أهل العلم العثيمين والفوزان وغيرهم من أهل العلم ، مِمَّا جعلنا في حيرة من أمرنا ، فها نحن الآن نعود إليكم ، و[نستشهد](1) إن شاء الله عزَّ وجلَّ، ونبحث عن الحقِّ حتى نعود إليه يا شيخنا فما رأيكم في هذا القتال وفق هذه المعطيات ؟
الشيخ : أقول بارك الله فيكم :
__________
(1) ما كان بين [ ] معناه الشك في أنَّ الكلمة قد سمعت كما رُسمت بداخلها. [ الشيخ عبد المالك ](1/148)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، أمّا بعد ، فأرى أنّك تفرِّق بين السلفيين وبين جماعة التكفير ؟
السائل: إي نعم !
الشيخ : وفهمتُ من خلال كلامك أنَّكم تتبرَّؤون مِمَّن يكفِّر التكفير العام الشامل للشعب ، فهذا يعطيني على أنكم أيضا تكفرون ؟
السائل: إي نعم ! إي نعم !
نحن ليس على هذه الصورة وإنما على صورة أخرى .
الشيخ : كيف تكفيركم ؟
السائل: الجماعة يكفِّرون الحاكم ، لهذا خرجوا عليه.
الشيخ : الحاكم والجيش والوزراء ومن حولهم ؟
السائل: إي نعم ! كلُّ من دخل في طائفة الحاكم قاتلوه معه !
الشيخ : قاتلوه على أساس أنَّه كافر ؟
السائل : إي مش كفر عيني ، أي على أساس ليس كفر تعيين ـ يا شيخنا ـ ليس كلّ واحد من أفراد الطائفة يكفر كفر عيني !
الشيخ: الحاكم الآن تكفِّرونه ؟
السائل: أي نعم !
الشيخ: لماذا تُكفِّرونه ؟
السائل: بناءً على أنَّه نَحَّى الشريعة الإسلامية وعوَّضها بقوانين وضعية(1)، وحارب المسلمين وأنَّه أفتى فيه الشيخ ناصر الدِّين الألباني كما أسلفتُ لك سابقا ً.
الشيخ : لا! الآن، الآن على فتوى الألباني الجديدة ؟
السائل: الجديدة ؟ ها هنا وقع استغرابنا وحيرتُنا يا شيخَنا!
الشيخ: الألباني يُكفِّر حُكَّام الجزائر ...، أو العثيمين أو الفوزان ـ يعنِي ـ قالوا بأنَّ الحُكَّام كفار ؟ لا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
السائل: لم يقولوا ذلك يا شيخنا .
الشيخ: طيِّب ، وأنتم عندكم بأنَّ كفرَهم بواح وفيه من الله برهان كأن قالوا بأنَّ الإسلام هذا لا يصلح ، بأنَّه رجعية، وأنَّ القوانين هذه أفضل من الإسلام ، قالوا هذا ؟
__________
(1) هذا الوصف غير صحيح؛ لأنَّ الصدق والعدل يمليان على صاحبهما أن يقول: الاستعمار نحَّى الشريعة، والحكومة لم تُغيِّر أحكامه الوضعية، وعلى هذا الوصف يختلف الحكم، فتأمَّل! [ الشيخ عبد المالك ] .(1/149)
السائل: هذا ما(1) سمعناه منهم يا شيخنا .
الشيخ: إذاً ما عندكم دليلٌ واضح على أنَّهم كفَّار الكفر البواح هذا يُعامل بما جاء في الأحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام في موقف المسلم من الحاكم المنحرف.
الحكَّام الذين تعرفون وتنكرون وقال فيهم : (( يهتدون بغير هديي ويستنُّون بغير سنَّتي ))(2)، وأحاديث كثيرة جدًّا ، حتى إنَّ الرسول لَمَّا قالوا له : أنقاتلهم ؟ قال : (( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ))(3)، يعني أنَّهم يُغيِّرون في الإسلام إلى آخر شيء . إذا بقوا يُصلُّون ويدَّعون الإسلام لا يقاتَلون ولا يُخرج عليهم ، هل عرفتم هذه الأشياء ؟
السائل : نحن نسمع من فضيلتكم ـ يا شيخنا ـ نتعلَّم منكم الآن .
الشيخ: إي ـ بارك الله فيكم ـ ادرسوا هذه الأحاديث وادرسوا كلام العلماء وادرسوا كلام الألبان ي، وعليكم بطلب العلم ...
ثم أنا أسألك : هذه ثمان سنوات ما هي ثمار هذا القتال ؟ ما استفاده المسلمون من هذا الجهاد ؟
السائل: لحدِّ الآن لا شيء يا شيخ !
الشيخ : كم قُتل ، وكم من المال ، وكم من الأعراض انتُهكت، وكم ، وكم ...؟
السائل: الكثير! الكثير!
الشيخ : الكثير! الكثير! أنتم أيَّدتم هذا الوضع ، أيَّدتم التكفريِّين الذين يسفكون الدِّماء ، وتشجَّعوا بكم ، وعاضدتموهم ، وإن قلتم إنَّكم سلفيُّون ، وإنَّكم تخالفونهم في الرأي ، ولكنهم يستفيدون من وقوفكم إلى جانبهم ، وزادوا بكم جرأة على هذا الشعب فسحقوه سحقاً ، فلم يبقوا له ديناً ولا دنيا! هل هذه الصفات يرضى بها الإسلام ؟!
السائل: لا يا شيخنا! نحن قد جرى بيننا وبين هؤلاء قتال ونزاع طبعاً.
__________
(1) ما) هنا نافية ، فتنبَّه ! [ الشيخ عبد المالك ]
(2) هو حديث حذيفة المشهور، رواه الشيخان في صحيحيهما، وقد مرَّ.
(3) رواه مسلم، وقد مرَّ.(1/150)
الشيخ: السبب الذي أوصل الشعب الجزائري الذي كان متجِّهاً إلى السلفية بأمَّته وشبابه وفتياته، جامعيين وغيرهم ، متوجِّهين نحو النهج السلفي، هذا الوضع أحسن أو حينما جرت هذه الثورة وهذه الفتن ؟
السائل: الوضع الآن ليس بأحسن!
الشيخ: طيِّب! أنتم قاتلتم ليكون الوضع أحسن مِمَّا كان؟
السائل: إي نعم! إي نعم!
الشيخ: فكيف كنت النتائج؟
السائل : سيِّئة ـ يا شيخنا ـ سيِّئة لحدِّ الآن !
الشيخ : أليس لكم عبرة في هذا ؟! أليس هذا برهاناً على أنَّ هذا الجهاد جهادٌ كان منطلقاً من جهل ، ومن فتاوى ـ يعني نسأل الله العافية ـ لم يستنجدوا بالعلماء ، واتخذوا أصحاب الشرور رؤوساً جهالاً، فيُفتون بغير علم، فيَضلُّون ويُضلِّون، ولم يقفوا عند حدِّ الضلال والإضلال، بل تجاوزوه إلى سفك الدِّماء وهدم الإسلام.
الإسلام هُدم في الجزائر هدماً شديداً شنيعاً ؛ بفعل هؤلاء !!
وربَّما لو لم يتعجلوا ومشوا بالعلم والبصيرة لربَّما كانت دولة الإسلام في الجزائر، ولكن لجهلهم وسوء نواياهم ؛ لأنَّ نواياهم سيِّئة لا يريدون إلاَّ الملك فقط، لا يريدون إعلاء كلمة الله، يريدون أن يتسنَّموا هم قمة الحكم، ولهذا السبب جعلت الانتخابات والديمقراطية والكلام الفارغ.
وهم ليس لهم إلاَّ مصارعة الحكام ، ولا همَّ لهم إلاَّ أن يتسنَّموا قمة الحكم فقط ، ثم بعد ذلك يديرون ظهورهم للإسلام ، كما فعل أمثالُهم في السودان وفي تركيا وفي غيرها .
فهؤلاء لو وصلوا إلى الحكم لزادوا الناسَ خوفاً وظلماً وابتعدوا عن الإسلام ...
فالآن ... اعتبروا بهذا الذي حصل، وشمِّروا عن ساعد الجدِّ لتحصيل العلم ودعوة هذا الشعب الطيِّب إلى كتاب الله وسنة الرسول حتى يعود إلى ما كان عليه قبل هذه الفتنة ، ثم يتقدَّم إلى تحقيق الغاية التي ينشدها الإسلام.
السائل: شيخنا ! على حسب قولكم إذاً لا يمكن الحكم بكفر حاكم من الحكام وإن كان يحكم بغير ما أنزل الله حتى يحكم عليه العلماءُ بذلك.(1/151)
الشيخ: نعم! حتى يرى العلماءُ فيه كفراً بواحاً ، ثم بعد صدور الفتوى هل يُقاتَل أو لا يُقاتل؛ لأنَّ الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال 60]، هذا إذا كان كافراً.
أنا جاءني شبابٌ في أول هذا القتال، فقلت : أعددتم للقتال ، وهم كفار عندكم ؟
قال : لا!
قلت : ما عندكم قوة ، وهم عندهم طائرات ، وعندهم دبَّابات ، وعندهم كذا ، من ورائهم بريطانيا وأمريكا ، والدول كلّها ، وأنتم ما عندكم شيء ، فأنتم ما أعددتم العدَّة التي تُرهبون بها عدوَّ الله ، قد أعددتم العدة التي تُطمِعون عدوَّ الله فيكم وفي الإسلام ، فلو كان الحاكم كافراً كفراً بواحاً، في الجزائر وفي غيرها لكان يجب أن يُرجع في ذلك إلى العلماء ، فهم الذين يُقدِّرون المصلحةَ والمفسدة َ، ومتى يُشرع القتال ومتى لا يُشرع الخ ، لا للسفهاء والجهلة وأصحاب الأهواء الطامحين إلى المُلك، فهذا من الخطأ، وقد عرفتم حصاد هذا التهوُّر .
فعليكم بالتوبة إلى الله تبارك وتعالى، فقد لا تسلمون من المسئولية أمام الله في الدِّماء التي أُبيحت، وفي الأعراض التي انتُهكت ، وفي الأموال التي سُلبت ونُهبت، فتوبوا إلى الله توبة نصوحاً ـ بارك الله فيك ـ فإنَّ عليكم المسئولية أمام الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّكم شاركتم هؤلاء.
فتوبوا إلى الله توبة نصوحاً فيما وقع في حقِّ المسلمين ... مظلومين ، ثم شمِّروا عن الساعد ، والله يقبل التوبة.
وشمِّروا عن ساعد الجدِّ في طلب العلم ، ونادوا إخوانكم الذين بقوا هناك في الجبال أن يتوبوا ويعودوا إلى الله ، بلِّغوهم مثل هذا ...
السائل: شيخنا! بعض الأخوة المقاتِلين عندنا طرحوا سؤالاً فقالوا : إذا كان هذا ليس بجهاد ، ولكن يُفكِّرون بالبقاء في الجبال بسلاحهم ، ولا ينزلون، بدعوى أنَّهم يخافون من الحكومة، ما يكون توجيهكم لهم ؟(1/152)
الشيخ : أولاً : جاءني سؤال ـ قبل سنة تقريباً ـ من واحد من هؤلاء التائبين.
قلت له : هل تعتبر أنَّ عملكم هذا جهاد ؟
قال: نعم !
قلت له : يا ابْنِي ! هذا خطأ ، الجهاد : إذا كنتم تريدون إعلاء كلمة الله فيجب أن تزحفوا إلى دولة أوربية : إمَّا إيطاليا ، أو فرنسا، أو إسبانيا ... هم كفار، تزحفون بجيشكم إلى بلد كافر فاسق بكفره حكومةً وشعباً، وتدعونهم إلى الدخول في الإسلام ، ليشهدوا أن لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فتطلبون منهم أداءَ الجزية ، فإنْ أَبَوْا حينئذ يصحُّ القتال ، ولكن قتالاً شريفاً ، لا تُنتهك فيه الأعراض، ولا تقتل فيه النساء، ولا الصبيان، ولا .. ولا .. إلى آخر الشروط التي في إطار الإسلام في الجهاد الإسلامي النظيف ، الذي ينفع ولا يضر.
فتستفيد منه البلاد ... الفاتحون والبلاد المفتوحة.
أما جهاد هؤلاء السفهاء ، فوالله ! لقد شقي بهم الإسلام والمسلمون، بارك الله فيكم.
الآن ننصح هؤلاء بأن يعودوا، وأظنُّ أنَّ الدولةَ لن تقتلهم، وقد توجِّه لهم أسئلة ثم تتركهم كما بلغنا.
ليس الخطورة كما يُصوِّر الشيطان لهؤلاء: أنَّهم إذا عادوا فسيُقتلون ، وكذا وكذا .
يا أخي ! لو قُتلت أنتَ ـ بارك الله فيك ـ وسَلِم الناسُ من أذاك، هذا هو المطلوب.
فليرجعوا ! وثِق أنَّ النتائج ستكون طيبة .
ولو فرض أنَّه سيكون هناك سجن وقتلٌ فعليهم بالصبر، عليهم بالصبر ـ بارك الله فيك ـ لمصلحة الإسلام، ولمصلحة هذا الشعب، وليستعيد أنفاسه ، ويُفكِّر قليلاً ، ثمَّ يعود ـ إن شاء الله ـ إلى الوجه الطيب المشرق الذي كان عليه سابقاً .
السائل: إذاً ما حكم من بلغه هذا ، ثمَّ بقي مُصرًّا على القتال ؟(1/153)
الشيخ : والله ! هذا ظالم ، ويُناشَد أن يتقي الله ، وأن يندم على ما صنع ، إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، إن كان له عقلٌ يُدرك به ما حصل من الفساد ، وما نزل بهذا الشعب من الأضرار في دينه ودنياه ، إن كان فيه بقية من خير فسيعود إلى ما كان عليه من قبل. وإن كان إنساناً منحرفاً قد استولى عليه الشيطان ، فهذا : الله يتولى حسابه ، ولا يجوز نصره ... ولا يجوز أن تُدعم جماعتُه ، ولا أن يُمَدُّوا بالعون والسلاح أو بالمال أو بأي شيء .
السائل: شيخنا ! إذا رؤساء المقاتلين لم يستجيبوا لهذه الدعوات الطيبة ، ما واجب كلِّ مقاتل في حقِّ نفسه ؟
الشيخ : أقول ـ بارك الله فيك ـ: هؤلاء المقاتلون هل هم التكفيريُّون أم هم الذين يدَّعون السلفية ؟
السائل: أقول : الذين يدَّعون السلفية .
الشيخ: الذين يدَّعون السلفية : أنا أظنُّ أنَّ في سلفيَّتهم خللاً كبيراً جدًّا، بحيث لم يَبقَ عندهم من السلفية إلاَّ الادِّعاء ، وإلاَّ لو كانوا سلفيِّين ما خرجوا أولاً.
وثانياً : حينما جاءتهم فتاوى العلماء لعادوا أدراجهم إلى [بيوتهم]، فأنا أعتقد أنَّ هؤلاء يحملون السلفية اسماً ، وليسوا صادقين في سلفيَّتهم ، ولو كانوا صادقين كما قلت ما دخلوا في هذه الفتنة ، ولو دخلوها لخرجوا منها بسرعة ، بمجرد [سماع] كلام العلماء، تفضل!
السائل : شيخنا ! ما هو واجب كلِّ جندي الآن من المقاتِلين ، إذا رؤساؤهم أَبَوْا الاستجابة لهذه الدعوة الطيِّبة ؟
الشيخ : حقُّه أن يتوب إلى الله ويرجع يا أخي ! هذا حقُّه يا أخي !
هذا لا يجوز ، لأنَّ الجهادَ هذا أولاً : هو يُكفِّر الحكومة ، وهذا الحكم جائر ، الحكم لا شك أنَّه طاغوت، القوانين طاغوتية ، لكن هل كلّ واحد يؤمن بهذا الطاغوت ؟ حتى الحاكم نفسه يؤمن بهذا الطاغوت ؟
وهل نحن على بصيرة وعلى برهان واضح أنَّ هذا هو الكفر البواح ؟ ما فيه أدلَّة بارك الله فيك ، أخوه مسلم، يصلي ...(1/154)
على كلِّ حال عنده على الأقل كفر، وهذا ظالم لا شك ، فاجر ، لكن لا يخرج من دائرة الإسلام إلاَّ بدليل واضح كالشمس، وكثير ... مسلمين مكرهين ...
القتل كلُّه في المسلمين والمساكين والضعفاء ، قد يكونون مكرَهين ، ينبغي إدراك هذه الأشياء ، بارك الله فيك.
السائل: نعم ، هذا واضح ـ يا شيخنا ـ وجيد ، حفظكم الله وجزاكم عنَّا كلَّ خير.
الشيخ : أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، والتشمير عن طلب العلم ، وادرسوا هذه الأبواب خاصة دراسة واعية ، ادرسوا أحاديث الرسول في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة والعقائد السلفية، ومِن جامع المسانيد لأبن كثير ، وكتب الفقه ، وكتب أبن تيمية وأبن القيم ، وادرسوا الأمور هذه واستوعبوها تماماً .
وقبلها ادرسوا العقيدة ، تمكَّنوا فيها، والشريعة الإسلامية، وتمكَّنوا فيها.
والشعب الجزائري يحتاج إلى علماء ، ما يحتاج إلى مقاتلين جهلة فجرة، ما يحتاج إلى هذا الصنف الذي أوصله إلى هذه الهوة السحيقة من الجهل والضلال والفقر والضياع ، يُريد علماء حكماء يسيرون بالأمة في الطريق الإسلامي الصحيح ، ويدفعون عنهم المفاسد ، ويُقدِّرون المصلحة ويضعونها في موضعها ، والمفسدة ويضعونها في موضعها ، ما يريد هؤلاء الناس الطائشين، فتجنَّبوا هؤلاء ، عليكم بالعلم ـ بارك الله فيكم ـ العلم والعمل وتقوى الله والإخلاص في كلِّ ذلك.
والشعب الجزائري من أفضل الشعوب، ومن أسرعها استجابة إلى الحقِّ، وأيضاً شمِّروا عن ساعد الجدِّ لدعوتهم إلى المنهج السلفيِّ الذي هو دين الله الحق .(1/155)
السائل : شيخنا ! بلغنا أنَّكم ممَّن يحمل لواء الجرح والتعديل في هذا الزمان(1)، فنوَدُّ أن نسألكم عن بعض الأشخاص الذين لهم مكانة هنا عن بعض المقاتلين ، نبدأ بأبي قتادة الفلسطيني الماكث في بريطانيا ، هل تعرفونه شيخنا ؟
الشيخ : أسمع أنَّ هذا من أسوإ خلق الله وأفجرهم وأجْرئهم على الفتوى ، وأنَّه يُبيح قتل الأطفال والنساء ، فبئسما صنع، وبئسما أفتى هذا الرجل!!
وهذا ليس من أهل العلم ، هذا من أهل الأهواء ؛ ومن الأدلة : أنَّه يعيش في بلاد الكفر ، وأنا أشكُّ أنَّ بريطانيا تشجِّع هذه الأصناف ؛ لأنَّها تريد للعالم الإسلامي دماراً ، وهؤلاء أنزلوا بالشعب الإسلامي من الهلاك والدَّمار ما يشفي صدورَ الكفار.
هذه النتائج التي وصلتْ إليها الجزائر، مَن يفرح بها ؟
يفرح بها اليهودُ والنصارى وأعداءُ الإسلام.
ومن أوصل الشعب الجزائري إلى النتائج المُرَّة غير هذه الفتاوى ...؟!
هل [تعلمون] أنَّ أبا قتادة سلفي ؟
السائل: لا نعرفه سلفيًّا ، شيخنا !
الشيخ : سلفي ؟
السائل: لا نعرفه سلفيًّا .
الشيخ : ... لا تعرفونه بالسلفية ، يعني : تكفيري ؟!
فقال أحد المقاتلين : تكفيري إيه !
وقال السائل موافقاً زميله : أي نعم !
قال الشيخ : خلاص ، تعرفه وتسألني عنه ؟
قال السائل: حتى يعرفه الأخوة ؛ لأنَّ الأخوة مخطئون فيه ، فإذا سمعوا كلامَكم ، وأنتم أهلٌ للقول فيه ، فيُؤخَذ قولكم إن شاء الله عزَّ وجلَّ.
الشيخ : جزاك الله خيرا ً.
السائل : شيخنا ! أيضاً : أبو مصعب السوري ، هل تعرفونه ؟
الشيخ : لا ! أبو مصعب مَن ؟
السائل: السوري هذا ؟!
الشيخ: هو في بريطانيا يعيش ؟
السائل: ربَّما ، وهو يتكلَّم أيضاً في هذه المسائل : التكفير والجهاد .
__________
(1) قاله فيه العلاَّمة الألباني رحمه الله، وقد نقلتُ كلمتَه هذه في كتاب مدارك النظر في السياسة (ص:262) ط ـ الثانية. [ الشيخ عبد المالك ](1/156)
الشيخ: ... أبو حمزة(1)! من قيادات الشر والفتن !
وأظنُّ أنَّ لهم علاقات بأعداء الإسلام ، بريطانيا وغيرها ـ والله أعلم ـ تشجِّعهم على هذه الفتن التي يثيرونها في بلاد الإسلام ، وعلى هذه الفتاوى التي تضرُّ بالمسلمين ولا تنفعهم ؟
السائل: شيخنا ! ما قولكم في أسامة بن لادن ؟
الشيخ : والله! ما هو بعيد عن هؤلاء ! ما هو بعيد عن هؤلاء !
السائل: شيخنا! الأخوة .. نحن مثلاً .. الجماعة السلفية .. الأخوة في الجماعة السلفية ـ كما كنت أسلفتُ لك ـ خرجوا متأوِّلين ؛ ظانِّين أنَّ هذا جهاد مشروع وقد أخطأوا ، وقد مضى عليهم في هذه سنوات من التعب والنصب ، وهناك فيهم من قُتل! فما حكم تلك السنوات التي كانوا فيها متأوِّلين من التعب والنصب ؟
وما حكم من قتل أيضاً منهم ؟
الشيخ: والله ! فهم لا تبصَّروا في الأمر ، ولا رجعوا إلى العلماء ، وأنت تعلم أنَّ الذي يحصل جاء هذا مصيره ـ بارك الله فيك ـ هم حكموا على الحكومة ـ والله أعلم ـ والشعب بالكفر ، [وشرعوا في إراقة الدماء] هذا مصيره مصير الخوارج ، والله أعلم ، هذا ما أعتقد ، وأعوذ بالله إن كنتُ قد أخطأتُ !
السائل: يا شيخ! هل تختمون هذه المكالمة بنصيحة توجِّهونها للأخوة ؟
الشيخ: النصيحة الأولى: أوصيكم بتقوى الله تبارك وتعالى، والإخلاص لله في كلِّ قول وعمل، والتشمير عن ساعد الجدِّ في طلب العلم من مناهله ومنابعه الصحيحة من كتاب الله وسنة الرسول وكتب السلف الصالح ، ثم كذلك دعوة الناس إلى هذا المنهج الصحيح، والتربية عليه تربية صحيحة ، مَن يموت منهم يموت على الإسلام الحقِّ ، على عقيدة صحيحة وعلى منهج صحيح وعلى بصيرة من دينه )) أ . هـ.
__________
(1) يريد الشيخ ـ حفظه الله ـ أبا حمزة المصري.(1/157)
ونختم هذا البحث بهذه الكلمات الذهبيات للشيخ عبد المالك الرمضاني الجزائري ختم بها كتابه (( فتاوى العلماء الأكابر )) : (( وأعلم أنَّ صلاح الخارجين لا يُغيِّر من الحكم شيئاً ؛ لأنَّه لَم يُنَط به الحكمُ كما سبق ، وعلى هذا يكون من اللَّغْوِ أن يسأل بعضُ الأخوة عن أحوال الخارجين ، فيقولون: هل هم من أهل السنة أو سلفيُّون ؟
وذلك لأنَّ الخروجَ على إمامٍ مسلمٍ لا يشفعُ له صلاحُ صالِحٍ ولا عِلمُ عالمٍ ، ولو كان الخارجون سلفيِّين حقيقةً لَما خرجوا بعد أن استقرَّ الأمرُ على ما نقلتُه عن السلف في مقدِّمة الكتاب! .
قال أبن تيمية ـ رحمه الله ـ فيمَن خرج على بعض خلفاء بني أميَّة كأبن الأشعث ، وأبن المهلب :
(( فهُزموا وهُزم أصحابُهم ، فلا أقاموا دِيناً ، ولا أبْقوا دُنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمرٍ لا يحصل به صلاحُ الدِّين ولا صلاحُ الدنيا ، وإن كان فاعلُ ذلك من أولياء الله المتَّقين ، ومن أهل الجنَّة ))(1).
وأخيراً : إذا تزوجتْ بدعةُ التكفير ببدعة الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم واشتغل العروسان بالعُرس ، وبدأ الخوالف في إدارة مجامع الفتن ؛ طاف طائف بينهم ؛ ليقدم للمدعوين – الحماسيّين – ألواناً من الانحراف عن العقيدة والمنهج بحلية التصحيح والبيان ، وعلى طبق مزخرف ظاهره الزهد والورع ، وباطنه الخراب والدمار ؛ وقد نصبت الخيام ، وتزاور الخلان ، وتحزب الأقران ، وبُذلت الأموال ، ووزعت الأدوار ظناً منهم أنها صولة الجهاد !! ولكن هيهات إنها صولة شيطان الخوارج عند غفلة أهل الحق وافتراقهم(2).
المظهر الثالث
تولي إقامة الحدود بأنفسهم
__________
(1) منهاج السنة النبوية (4/528)، والمنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال لتلميذه الذهبي (ص:296).
(2) 158 ) منهج شيخ الإسلام في كشف بدعة الخوارج : 17 . للشيخ فتحي بن عبد الله الموصلي .(1/158)
وهذا مما يؤخذ على هذه الجماعات التكفيرية المتطرفة حيث يتولون إقامة الحدود والعقوبات على من خالفهم وأعترض على أفعالهم التي تخالف أصول الشريعة الإسلامية السمحة وقد تصل إلى القتل في أحيان كثيرة .
قال الدكتور عبد الله قادري الأهدل : (( والغالب أن الأشخاص أو الجماعة الذين يتصفون بهذا الغلو ، يستحلون قتل من يحكمون عليه بالردة بأنفسهم ، فيَعْتَدون مرتين :
المرة الأولى : الغلو في التكفير ، وإخراج كثير من المسلمين من ملة الإسلام بدون برهان .
والمرة الثانية : إعطاء أنفسهم حق تنفيذ العقوبات الذي هو حق للجماعة التي ينوب عنها في تنفيذه ولي الأمر ، ويكون من آثار ذلك إهدار ضرورات الحياة التي من أعظمها حفظ النفس ، وانتشار الفوضى في الأرض ، وفقد المسلمين أمنهم في ديارهم ، كما هو واقع مشاهد اليوم ))(1)أ . هـ
ومسألة تولي آحاد الناس إقامة الحدود والعقوبات على الناس _سواء كانوا مخالفين أم عصاة _ باب لا ينبغي فتحه حتى لا تعم الفوضى ، وحتى لا يلجه من ليس أهلاً له ، ولهذا حذَّر منه أهل العلم تحذيراً شديداً ، مذكرين بعواقبه الوخيمة . وقد وجه للإمام أبن باز _ رحمه الله _ السؤال التالي : قامت هذه الجماعة _ جماعة التكفير في الجزائر _ بقتل بعض النساء اللاتي أبين ارتداء الحجاب فهل يسوغ لَهم هذا ؟
الجواب: هذا أيضًا غلط ، لا يسوغ لَهم هذا ، الواجب النصيحة ، النصيحة للنساء حتَّى يحتجبن ، والنصيحة لِمن ترك الصلاة حتَّى يُصلي ، والنصيحة لِمن يأكل الربا حتَّى يدع الربا ، والنصيحة لِمن يتعاطى الزنا حتَّى يدع الزنا، والنصيحة لِمن يتعاطى شرب الخمر حتَّى يدع شرب الخمر ، كل يُنصح، ينصحون: قَالَ الله وَقَالَ رسوله : بالآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، ويُحذرونَهم من غضب الله ومن عذاب يوم القيامة .
__________
(1) 159 ) التكفير والنفاق ومذاهب العلماء فيهما : 4 .(1/159)
أمَّا الضرب أو القتل أو غير ذَلِكَ من أنواع الأذى فلا يصلح للدعاة ، هذا ينفر من الدعوة ، ولكن عَلَى الدعاة أن يتحلوا بالحلم والصبر والتحمل والكلام الطيب فِي المساجد وفي غيرها حتَّى يكثر أهل الخير ويقل أهل الشر، حتَّى ينتفع الناس بالدعوة ويستجيبوا .
السؤال الآخر : بِماذا تنصحون من تورط فِي هذه الاغتيالات أو شيء من هذا يا شيخ ؟
الجواب : أنصحهم بالتوبة إلى الله ، وأن يلتزموا الطريقة الَّتِي سار عليها السلف الصالِح. بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هِيَ أحسن، الله يقول : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا } [فصلت: 33].
فلا يورطون أنفسهم فِي أعمال تسبب التضييق عَلَى الدعوة وإيذاء الدعاة وقلة العلم ، لكن إذا كانت الدعوة بالكلام الطيب والأسلوب الحسن كثر الدعاة، وانتفعَ الناس بِهم، وسمعوا كلامهم ، واستفادوا منهم وحصل فِي المساجد وفي غير المساجد الحلقات العلمية ، والمواعظ الكثيرة ، حتَّى ينتفع الناس ))(1).
وأكثر من ظهرت عندهم هذه الأفعال الشنيعة هم الخوارج ومن سار على منهجهم من الجماعات التكفيرية والقطبية ، حيث أنهم لم يراعوا حرمة لدم مسلم أو ماله أو عرضه ، على الرغم من النصوص الواردة في تحريم ذلك لا لشيء إلا لعظم حرمة المسلم على الله سبحانه وتعالى ، الذي هو عند الله أعظم حرمة من الكعبة التي يقصدها الملايين من البشر في كل عام حيث يأتونها من كل حدب وصوب ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ( رضي الله عنهما ) قال : رأيت رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يطوف بالكعبة ويقول : (( ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ، ماله ودمه ، وأن يظن به خيراًً ))(2).
__________
(1) 160 ) الكواشف الجلية : 137 .
(2) 161 ) صحيح الترغيب والترهيب 2 / 224 للعلامة الألباني .(1/160)
بل زوال الدنيا بما فيها أهون عند الله من سفك دم بغير حق ، فقال ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دم سُفك بغير حق ))(1).
قال الشيخ محمد بن رمزان آل طامي : (( أعلم - رحمك الله - أنه لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث ، ذكرهم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في قوله : ((النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والمارق من الدين التارك للجماعة ))، فيما أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث أبن مسعود .
وهذه الثلاثة المنوط بتنفيذ الحكم على صاحبها هو ولي الأمر لا آحاد المسلمين ، فلا يجوز لواحد من عامة المسلمين أن ينفذ القصاص أو حد الردة أو الزنا بنفسه ، بل هذا الأمر لإمام أو نائبه .
وقد ورد فيمن قتل المؤمن مُتعمدًا وعيد شديد ، وهو المذكور في قوله تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء: 93].
وعليه تدرك مدى ضلال هؤلاء الخوارج الذين استحلوا دماء المسلمين بِهذه العمليات الإرهابية الإجرامية التي يقومون بِها ضد بعض المؤسسات أو الأسواق ونحوه(2).
فهذا كاشفٌ لك أيها المسترشد، فإذا رأيت أحد الدعاة يدافع عن هؤلاء الخوارج الذين يقومون بالتفجير والقتل للمسلمين ولِمعصومي الدم من معاهَدين ومستأمنين ، فاعلم أنه حزبي منحرف وأن دعوته ليست دعوة سلفية بل هي دعوة خارجية بدعية .
__________
(1) 162 ) المصدر السابق : 2 / 224 .
(2) 163 ) وفي الصحيح عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهرق دمه" البخاري 6882.[ صاحب الكواشف الجلية ] .(1/161)
قلت: ولا تكمن الخطورة فيمن أظهر المذهب الخارجي بجلاء ووضوح أمثال : عصام البرقاوي ، وأبو قتادة الفلسطيني ، وأبو بصير عبد المنعم حليمة ، وسرور زين العابدين ، ومن قبلهم : رؤوس الجماعة الإسلامية في مصر ، ثم الجزائر .
بل الخطورة كذلك كامنة في من تَزيَّا بزي السلفيين ثم إذا به يتعاطف مع هؤلاء الخوارج(1) ، ويدافع عنهم ، ويطالب بالرفق بِهم ، ويُحمِّل جرائمهم على العلماء والحكام ، ويعتبرهم مجرد مجتهدين أخطأوا السبيل، والأخطر منهم من يسمي نفسه بالجماعة السلفية للقتال ))(2).
أقول : لقد وصل الأمر بهؤلاء إلى أبعد من ذلك ، ولو نظرنا إلى حال الخوارج لرأينا المثال جلياً واضحاً ، وكيف أنهم لم يراعوا حتى حرمة الصحابة الكرام ( رضوان الله عليهم ) وفضلهم وطول صحبتهم للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، حيث أنهم أعرضوا عن هذا كله ووقعوا فيهم تكفيراً وتقتيلاً وتنكيلاً ، مثلما قتلوا علياً وعبادة بن قرط ، وعبد الله بن الصحابي الجليل خباب بن الأرت وغيرهم كثير ، من باب إقامة حدود الردة والكفر ، بل زعموا أن هذا من أفضل القربات التي تقربهم إلى الله ، كما فعل أبن ملجم في قتله لعلي ( رضي الله عنه ) قال تعالى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً @الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف : 104] .
__________
(1) 164 ) تارة يقولون الأخوة المجاهدين وتارة يدعون لهم أنهم مجتهدون وتارة يقولون يدعى لهم لا عليهم وتارة يقولون ننكر الفعل ولا ننكر على الفاعل, كل هذه التبريرات لا تسعفهم فهم وهم سواء. [ صاحب الكواشف الجلية ] .
(2) 165 ) الكواشف الجلية : 175 .(1/162)
قال الإمام الشاطبي _ رحمه الله تعالى _ في (( الاعتصام : 2 / 188 )) : (( لقد روى في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الآذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ !
قال : ما أنتم يا أخوتي .
قالوا : أنت أخو الشيطان لنقتلنك . ... ...
قال : ما ترضون منى بما رضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالوا : وأي شيء رضى به منك ؟
قال أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وإنه رسول لله فخلى عنى . قال : فأخذوه فقتلوه !!! )) أ . هـ .
أقول : وقد يحتج هؤلاء على توليهم إقامة الحدود بعدم وجود محاكم شرعية تقيم الحدود على الناس !!! :
وهذه حجة متهافتة ساقطة لا تقوم ولا تستقيم لتكون حجة لهم في إنزال الحدود على المخالفين لهم أو العصاة من المسلمين .
قال الإمام أبن باز في (( مجموع الفتاوى : 8 / 202 )) جواباً على سؤال بهذا الشأن : (( إذا لم توجد محاكم شرعية ، فالنصيحة فقط ، النصيحة لولاة الأمور ، وتوجيههم للخير ، والتعاون معهم حتى يحكموا شرع الله ، أما أن الآمر والناهي يمد يده فيقتل أو يضرب فلا يجوز ، لكن يتعاون مع ولاة الأمور بالتي هي أحسن حتى يحكموا شرع الله في عباد الله ، وإلا فواجبه النصح ، وواجبه التوجيه إلى الخير ، وواجبه إنكار المنكر بالتي هي أحسن ، هذا هو واجبه ، قال الله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم } لأن إنكاره باليد بالقتل أو الضرب يترتب عليه شر أكثر وفساد أعظم بلا شك ولا ريب لكل من سبر هذه الأمور وعرفها )) أ . هـ .(1/163)
وهنا يرد علينا سؤال مهم جداً وهو : بما أنَّ الخوارج لا يبالون بقتل أي مسلم ، فهل يجوز قتلهم لكل أحد من أهل السنة على حسب الوصية النبوية بقتل الخوارج في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا لقيتموهم فاقتلوهم )) وفي غيره من النصوص الدالة على ذلك ؛ أم أن الخطاب خاص لفئة من المسلمين ؟
الجواب : قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي : (( لا شك أن الخوارج مبتدعون ضالون , ولكن لا يجوز قتلهم لكل أحد , وإنما يكون ذلك لولاة الأمور الذين بيدهم السلطة ؛ أما لو قلنا لكل أحد من الناس أن يقتل من لقيه , ويقول هذا من الخوارج ؛ لأدى الأمر إلى فوضى , وهذا الكلام لا يقوله أحد من أهل العلم أبداً , وإنما الخطاب في قوله : (( إذا لقيتموهم فاقتلوهم )) الخطاب في هذا لولاة الأمر , ومن بأيديهم السلطة , ومن يدفعون عن الناس الضرر ؛ هذا الخطاب لهم .
فأولاً : ينبغي أن ترسل الدولة التي يكون فيها الخوارج ؛ ترسل إليهم من يناظرهم , ويبين لهم الحق .
وثانياً : إن أبوا , وأصروا , ولم يقبلوا بعد ذلك ؛ تعمل ما تستطيعه معهم ؛ أما أن نقول بأنه على طول يكون قتل فلا , هذا خطأ بل يجب دعوتهم أولاً ؛ فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ما قتلهم إلا بعد أن دعاهم , فأرسل إليهم أبن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما , وقال له : (( ناظرهم بالسنة , فإن القرآن ذو وجوه )) فناظرهم , ورجع منهم عدد , وبقي منهم عدد , ثم بعد ذلك ؛ قتلوا عبد الله بن خباب وسريته رضي الله عنهما خرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال : (( أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب وسريته ) .
قالوا : (( كلنا قتله )) فعند ذلك لما دعاهم وأبوا عند ذلك قاتلهم ؛ فهذا الأمر بالقتل أمر بالنهاية عند اليأس من صلاحهم بالطرق التي يمكن أن يستصلحوا بها من قبل ولي الأمر ، وبعد ذلك إذا أدى الأمر إلى قتالهم يقاتلون ))(1).
المبحث الثاني
__________
(1) 166 ) الفتاوى الجلية على المناهج الدعوية : 19 .(1/164)
إلزام الناس بالأخذ بما يعتقدون من بدعة وفكر ضال(1)
وهذه الظاهرة البدعية لم تكن وليدة أفكار الفرق والجماعات الإسلامية ، ولم يكونوا هم أول من أبتدعها ، وإنما هي ظاهرة فرعونية قديمة ، أشار إليها القرآن حين ألزم فرعون قومه بأن يأخذوا بكل ما يشاء ويريد ، معارضاً بذلك دعوة الحق التي جاء بها موسى ( عليه السلام ) ، فقال تعالى حكاية عن قوله لقومه { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر : 29].
ومن ثم انتقلت بعد أن تغلغل الغلو والتنطع إلى معتقدات الفرق والجماعات الإسلامية ، فبمجرد أن تشعر فرقة من الفرق أو جماعة من الجماعات بنوع من القوة أو السيطرة على الحكم والسلطة أو على بعض المواضع في ظل سلطة قائمة إلا وتراهم يبدأون بنشر معتقداتهم بين الناس وإلزامهم وجبرهم بقوة سلطانهم الغشوم على الأخذ بها دون النظر إلى رضاهم من عدمه ، وفاتهم أن الدعوة إلى الله تعالى وإلى إقامة شرعة لابد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة وإلا فبالجدال ولكن بالتي هي احسن ، كما قال الله تبارك وتعالى { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل : 125] .
__________
(1) 167 ) أنظر ص : 94 من هذا الكتاب .(1/165)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (( في فتح المجيد : 49 )) : (( قال أبن القيم : ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو ، فإنه إما أن يكون طالباً للحق محباً له . مؤثراً له على غيره إذا عرفه . فهذا يدعى بالحكمة . ولا يحتاج إلى موعظة وجدال . وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق . لكن لو عرفه آثره واتبعه . فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب . وإما أن يكون معانداً معارضاً ، فهذا يجادل بالتي هي أحسن . فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن )) .
ولو نظرنا إلى ما فعلته المعتزلة أيام حكم المأمون والمعتصم والواثق وكيف أجبروا الناس والعلماء خاصة على الأخذ بعقيدتهم حتى أمتحنوا الناس بها لوجدنا خير مثال يمكن أن نستشهد به .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( مجموع الفتاوى : 5 / 554 )) : (( إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز ، وأدخلوه في ذلك ، وألقوا إليه الحجج التي لهم . ...
وقالوا : إما أن يكون العالم مخلوقًا أو قديمًا ، وهذا الثاني كفر ظاهر، معلوم فساده بالعقل والشرع ، وإذا كان العالم مخلوقًا محدثًا بعد أن لم يكن، لم يبق قديم إلا اللّه وحده ، فلو كان العالم قديمًا ، لزم أن يكون مع اللّه قديم آخر . ...
وكذلك الكلام إن كان قائمًا بذاته ، لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب ، وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم وإن كان منفصلا ً عنه لزم وجود المخلوق في الأزل ، وهذا قول بقدم العالم . ...
فلما أمتحن الناس بذلك ، واشتهرت هذه المحنة ، وثبت اللّه من ثبته من أئمة السنة ، وكان الإمام ـ الذي ثبته اللّه وجعله إمامًا للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به ، فمن وافقه كان سنيًا ، وإلا كان بدعيًا ـ هو الإمام أحمد بن حنبل، فثبت على أن القرآن كلام اللّه غير مخلوق . ...(1/166)
وكان المأمون ، لما صار إلى الثغر بطرسوس ، كتب بالمحنة كتابًا إلى نائبه بالعراق إسحاق بن إبراهيم ، فدعا العلماء والفقهاء والقضاة ، فامتنعوا عن الإجابة والموافقة ، فأعاد عليه الجواب ، فكتب كتابًا ثانيًا يقول فيه عن القاضيين ـ بشر بن الوليد ، وعبد الرحمن بن إسحاق ـ إن لم يجيبا فاضرب أعناقهما ، ويقول عن الباقين : إن لم يجيبوا فقيدهم فأرسلهم إلى . فأجاب القاضيان ، وذكرا لأصحابهما أنهما مكرهان، وأجاب أكثر الناس قبل أن يقيدهم لما رأوا الوعيد ، ولم يجب ستة أنفس فقيدهم فلما قيدوا أجاب الباقون إلا اثنين ـ أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح النيسابوري [ هو أبو الحسن محمد بن نوح بن عبد الله الجُنْد نيسابوري ، نزيل بغداد ، وثقه غير واحد، وحدّث بدمشق ومصر وبغداد ومات سنة 231هـ ] . فأرسلوهما مقيدين إليه ، فمات محمد بن نوح في الطريق ، ومات المأمون قبل أن يصل أحمد إليه ، وتولى أخوه أبو إسحاق ، وتولى القضاء أحمد بن أبي دؤاد ، وأقام أحمد ابن حنبل في الحبس من سنة ثماني عشرة إلى سنة عشرين . ...
ثم إنهم طلبوه وناظروه أيامًا متعددة ، فدفع حججهم وبين فسادها ، وأنهم لم يأتوا على ما يقولونه بحجة لا من كتاب ولا من سنة ولا من أثر ، وأنه ليس لهم أن يبتدعوا قولاً ، ويلزموا الناس بموافقتهم عليه ، ويعاقبوا من خالفهم . وإنما يلزم الناس ما ألزمهم اللّه ورسوله ، ويعاقب من عصى اللّه ورسوله ، فإن الإيجاب والتحريم ، والثواب والعقاب ، والتكفير والتفسيق هو إلى اللّه ورسوله ، ليس لأحد في هذا حكم ، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه اللّه ورسوله ، وتحريم ما حرمه اللّه ورسوله ، وتصديق ما أخبر اللّه به ورسوله . وجرت في ذلك أمور يطول شرحها )) أ . هـ.(1/167)
وقال : (( 6 / 215 )) : (( و [ المحنة ] مشهورة معروفة ، كانت في إمارة المأمون ، والمعتصم ،والواثق ، ثم رفعها المتوكل ، فثبت الله الإمام أحمد ، فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله ـ تعالى ـ وناظرهم في العلم فقطعهم ، وعذبوه ، فصبر على عذابهم ، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] . أ . هـ
قال الآجري في (( الشريعة : 64 )) : (( فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى . ...
فإن قال قائل : فإن اضطر في الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم ، وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرهم ؟ ...
قيل : الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء ، فيمتحن الناس ، ويدعوهم إلى مذهبه ، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل رحمه الله : ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس ، ودعوهم إلى مذهبهم السوء ، فلم يجد العلماء بداً من الذب عن الدين ، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل ، فناظروهم ضرورة لا اختياراً ، فأثبت الله عز وجل الحق مع أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته ، وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم ، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة . ...
وأرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبداً . ...
بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى أنه قال : ما قطع بي - يعني الواثق - إلا شيخ جيء به من المصيصة ، فمكث في السجن مدة ، ثم إن أبي ذكره يوماً فقال : علي بالشيخ ، فأتي به مقيداً ، فلما وقف بين يديه سلم عليه ، فلم يرد عليه السلام .
فقال له الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ما استعملت معي أدب الله عز وجل ، ولا أدب رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله عز وجل : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام .(1/168)
فقال له : وعليك السلام ، ثم قال لابن أبي دؤاد : سله .
فقال يا أمير المؤمنين : أنا محبوس مقيد ، أصلي في الحبس بتيمم ، منعت الماء ، فمر بقيودي تحل ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي ، ثم سلني .
فأمر ، فحل قيده وأمر له بماء فتوضأ وصلى لله ، ثم قال لابن أبي دؤاد : سله .
فقال الشيخ : المسألة لي ، فأمره أن يجيبني ، فتوضأ فقال : سل ، فأقبل الشيخ على أبن أبي دؤاد يسأله ، فقال : خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه ، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : لا .
قال : فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده ؟
قال : لا .
قال : فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدهما ؟
قال : لا .
قال : فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه بعدهم ؟
قال : لا .
قال : فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعدهم ؟
قال : لا .
قال الشيخ : فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم ، تدعو أنت إليه الناس ؟ ليس يخلو أن تقول : علموه ، أو جهلوه . فإن قلت : علموه وسكتوا عنه ، وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم ، فإن قلت : جهلوه وعلمته أنت ، فيا لكع بن لكع ، يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئاً وتعلمه أنت وأصحابك ؟
قال المهتدي : فرأيت أبي وثب قائماً ، ودخل الحيرى ، وجعل ثوبه في فيه ، فضحك ، ثم جعل يقول : صدق ، ليس يخلو من أن نقول : علموه أو جهلوه ، فإن قلت : علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم ، وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شيئاً تعلمه أنت وأصحابك ؟
ثم قال : يا أحمد ، فقلت : لبيك ، فقال : لست أعنيك ، إنما أعني ابن أبي دؤاد . فوثب إليه فقال : أعط هذا الشيخ نفقته وأخرجه عن بلدنا )) أ . هـ.(1/169)
أقول : ولأجل ما سبق ذكره صار لزاماً على الدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن ينتبهوا إلى هذه المسألة جيداً ويحاولوا بعد التوكل على الله من وضع العلاجات الصحيحة في مواضعها الصحيحة ، وأن يعرفوا أن حشر الحق في صدور الناس حشراً دون محاولة إقناعهم به أولاً مسألة لا تعود في أغلب الأحيان إلا بالخيبة والخسران .
ولهذا وجب على من يريد التصدي لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يستطيع التفريق بين أمرين مهمين ، وأن يعرف أن كل أمر من هذين الأمرين له أحكامه الخاصة به توجب النظر والتأمل فيه قبل محاولة تجاوزه والتعدي عليه :
الأمر الأول : وجوب النظر إلى حال دولة الإسلام من حيث القيام والعدم :
أما الحال الأول : ففي حال قيام دولة الإسلام قياماً حقيقياً ويكون لها وجود في عالم الوجود ، ولها ثقلها المعتبر وظلها الذي يستظل به كل من تحكمه ، لا دولة ترسم على ورق أو تكون في خيال من يتصورها ويحلم بها ، فالأحكام لا تبنى على المخيلات والتصورات وإنما تبنى على الحقائق والوقائع .
فإن كان لها قيام ووجود فإن الأمر والحال كهذا يرجع كله إلى سلطان المسلمين أو نوابه ، وما على آحاد الناس إذا ما أرادوا الإنكار والتغيير على من يقعون في مخالفة شرعية إلا النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة فإن لم تجدِ نفعاً فعندها يمكنه رفع أمره إلى السلطان ويكون بذلك قد برأت ذمته وقام بالواجب خير قيام .
الحال الثاني : وأما في حال عدم قيام دولة الإسلام فإن الواجب على الدعاة إلى الله تبارك وتعالى اتجاه إخوانهم الذين يقعون في مخالفات شرعية النصح بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق واللين مع الابتعاد عن أساليب الخشونة والغلظة التي تنفر الناس أكثر مما تجمعهم ، كما قال تعالى لنبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) { َبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران : 159] .(1/170)
الأمر الثاني : يجب على الدعاة إلى الله تعالى وهم يتصدون لمسألة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفرقوا بين حال القوة التي من الممكن أن يكون عليها الإسلام وبين حال الضعف ، وهذا الأمر يمكن معرفته من خلال النظر والتأمل في سنة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وسيرته ، وعندها سيرى الناظر في ذلك أن حاله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في مكة يختلف عما صار إليه في المدينة بعد هجرته إليها ، فقد كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يرى وهو في مكة الكثير من المنكرات والموبقات ، مثلما رأى بعينه كيف تطعن سمية رضي الله عنها في موضع عفتها ، وكيف يموت ياسر تحت وطأة أسواط جلاديه ، وكيف أثَّر التعذيب في عمار حتى قال لهم ما أرادوه منه ، ومع هذا كله لم يملك أن يفعل شيئاً إزاء ذلك إلا أن يقول (( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )) .
فهل كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وحاشاه قليل الشجاعة والعزيمة أمام هذا المنظر الذي تقشعر منه الجلود ، أم هو الضعف الذي خيَّم بأحكامه على المسلمين في مكة .
بالتأكيد هو الضعف وعدم القدرة وفي الوقت نفسه درءاً للمفسدة الراجحة التي تقع ويكون ضررها أشد وأكثر من ضرر السكوت وترك الإنكار ، ويدل على ذلك حينما صار للمسلمين دولة وسلطة يستطيعون بها أن يردعوا كل من تسول له نفسه فعل الموبقات والمعاصي .(1/171)
إذن مسألة النظر إلى حال القوة والضعف مسألة مهمة عمل بها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعمل بها أتباعه من بعده ، ولهذا فلا يجب أن يفرق بين حال وحال وإنما يعمل بهذا الأصل متى ما أستوجب ذلك ، ولهذا لما أعرض بعض من يدعي الإسلام عن هذا كله وصار يعمل على أن المفاسد من الضروريات التي لابد لها من الوقوع وغلا كيف الوصول إلى الغاية التي يريد نرى الفساد قد عمَّ وكثر الخراب ، وصارت الديار تنعق بها الغربان والبُوَم ، دون أن يرف لهم جفن أو يرتجف لهم قلب من عواقب أفعالهم تلك .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( الصارم المسلول : 2 413 )) : (( فمن كان من المؤمنين بأرض هو مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين آوتوا الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين وبآية قتال الذين آوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) .
وقال أبن القيم في (( أحكام أهل الذمة : 2 / 768 )) : (( وعلى هذا فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك )) أ . هـ .
إذن : على الدعاة أن يراعوا هذا كله وأن يضعوه نصب أعينهم وان يستفادوا من تجارب الآخرين التي حدثت عبر تاريخ أمة الإسلام الطويل فإن فيها العبرة والاتعاض ، وإلا فإن المفسدة ستكون في سلالهم وسيبوؤن هم بإثمها وإثم من ستطوله بضررها وشررها ، نسأل الله العافية .
المبحث الثالث
من مظاهر الغلو الإعتقادي : الإعتقاد الجازم بأنهم هم أهل النجاة والفلاح .(1/172)
وهذا الظن يمكن أن نقول فيه : أن جميع الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية تشترك في الإعتقاد أنهم هم أهل النجاة دون غيرهم ، ولهذا ترى أحدهم فرح بالحال الذي هو عليه لا يبغي عنه حولاً ، كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون : 53] . وقال تعالى { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم : 32] .
وهذا هو بعينه زعم الذين كفروا من قبل ، حيث قال قائلهم كما قال تعالى عنهم { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ، وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } وقال تعالى { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً } [الكهف : 36] .
ومن هذا المنطلق جاء الرد على أماني الكافرين هذه بأن كل إنسان هو في خسارة وهلاك مهما كثر ماله وولده إلا من أتصف بالصفات التي أراده الله سبحانه أن يتصف بها ، قال تعالى { وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر : 3] .
قال الإمام أبن عثيمين ( رحمه الله ) في (( شرح الثلاثة الأصول : 19)) : (( فالله عز وجل أقسم في هذه الصورة بالعصر على أن كل إنسان فهو في خيبة وخسر مهما أكثر ماله وولده وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة :
أحدها : الإيمان ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى من أعتقاد صحيح وعلم نافع .
الثاني : العمل الصالح وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصاً ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعاً .
الثالث : التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير والحث عليه والترغيب فيه.(1/173)
الرابع : التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على فعل أوامر الله تعالى، وترك محارم الله ، وتحمل أقدار الله.
والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر يتضمنان : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } {سورة آل عمران، الآية: 110} )) أ . هـ
فالمسألة إذن ليست مسألة زعم وتمني بقدر ما هي إلتزام وإنقياد بأوامر الله ونواهيه ، وإتباع هدي النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وسلوك سبيله التي هي علامات للنجاة والفلاح .
ومن هنا جاء الرد على أهل الأهواء والبدع في مزاعمهم وأمنياتهم ، فقد وردت علامات وإشارات تبين ملامح الفرقة الناجية ، ليس لكل واحد يدعي انتسابه إليها ما لم يأت بضوابط وشروط قُيِد بها هذا الانتساب ، أما الانتساب إليها دون العمل بما تقتضيه حقيقة الانتساب ، فإنها تبقى مجرد دعوى لا حقيقة لها ولا وجود ، إلا في عقول أهل البدع والأهواء من الذين إجتالتهم الشياطين وهوت بهم في وديان التيه والضلال ، حتى ظنوا أن الجنة لم تخلق إلا لهم وأن غيرهم من المخالفين في النار حتى لو كانوا من صحابة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وما نقل عنهم من أقوال وأحوال تشهدان بذلك :
1 ) قال الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان في (( الخوارج والفكر المتجدد : 51 )) : (( كان الخوارج زمن عليٍّ - رضي الله عنه - يظنون بل يؤمنون بأنهم على صواب وأن ما يفعلونه إنما يفعلونه تقرباً إلى الله - سبحانه وتعالى - ففي النهروان كانوا يقولون : لا حكم إلا لله ، الرواح .. الرواح إلى الجنة .
وقال أبو أيوب : وطعنت رجلاً من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره ، وقلت له : أبشر يا عدو الله بالنار ، فقال : ستعلم أيُّنا أولى بها صِليًّا .(1/174)
فانظر كيف ثبات هؤلاء وصبرهم عند اللقاء وإيمانهم الشديد بما يعتقدونه مع أنهم على ضلال كبير حتى حين خروج أرواحهم .
2 ) ذكر اللالكائي في كتابه السنة ؛ قال : طاف خارجيان بالبيت ؛ فقال أحدهما لصاحبه : أنظر إلى هذا الخلق لن يدخل منهم الجنة إلا أنا وأنت ؛ فقال له صاحبه : جنة عرضها كعرض السماء والأرض بنيت لي ولك ؟
قال : أجل !! قال : هي لك ؛ وترك مذهبه ))(1)
ولهذا لا ينبغي الاغترار بما هم عليه من أحوال وعبادات ، بل يجب النظر أولاً إلى عقائدهم التي انحرفوا بها عن الصراط المستقيم ، ولو نظرنا إلى حال الخوارج الأوائل لرأينا أنهم كانوا كثيروا العبادة وقراءة القرآن بشهادة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لهم بذلك ، حتى بيَّنَ يوماً لأصحابه أنَّ أحدهم يُحَقِر عباداته أما عباداتهم ، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه : عن أبي سلمة ، وعطاء بن يسار : أنهما أتيا أبا سعيد الخدري ، فسألاه عن الحروريَّة : أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال : لا أدري ما الحروريَّة ؟ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم ، أو حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميَّة ، فينظر الرامي إلى سهمه ، إلى نصله ، إلى رصافه ، فيتمارى في الفوقة ، هل علق بها من الدم شيء )).
بالرغم من كثرة عباداتهم وقرباتهم ولكن ((يمرقون من الدين مروق السهم من الرميَّة )) وكذلك قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )فيهم : (( ..... لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ))(2).
ولكثرة عبادة الخوارج فقد أغتر بحالهم لأول وهلة الصحابي الجليل جندب حتى رأى بعينه ما دعاه إلى محاربتهم وقتلهم .
__________
(1) 168 ) أنظر (( الخوارج والتفجير في بلاد الإسلام : 10 )) للشيخ سالم العجمي .
(2) 169 ) رواه البخاري برقم : 3166 ، ومسلم برقم : 1064 .(1/175)
قال جندب رضي الله عنه : لما كان يومُ قاتل عليٌّ رضي الله عنه الخوارج :
نظرتُ إلى وجوههم والى شمائلهم فشككت في قتالهم ؛ _ أي أنه لما رأى الناس يصلون ويبيتون قائمين يطيلون القيام استراب في أمرهم _ .
يقول رضي الله عنه : فشككت في قتالهم فتنحيت عن العسكر ؛ ( يعني أخذت لي جانبا غير بعيد ) فنزلت عن دابتي وركزت درعي تحتي وعلقت ترسي ستراً من الشمس ؛ وأنا معتزل العسكر ناحية ؛إذ طلع أمير المؤمنين عليُّ بن أبى طالب ؛على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقلت في نفسي:مالي وماله أنا أفر منه وهو يجيء إلىّ، (يعني : أنه يودّ اعتزالَ هذا القتال).
فقال لي : يا جندب مالك في هذا المكان تنحيت عن العسكر؟
فقلت : يا أمير المؤمنين أصابني وعك فشق عليَّ الغبار فلم أستطع الوقوف ، فقال: أما بلغك ما للعبد في غبار العسكر من الأجر ؟ (وذلك يقينا بما عند الله وبما أخبره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ) ؛ ثم ثني رجله فنزل فأخذت برأس دابته ؛ وقعد فقعدت ؛ فأخذت الترس بيدي فسترته من الشمس، فوا لله إني لقاعد إذ جاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين : إن القوم قد قطعوا الجسر ذاهبين فالتفت إليّ وقال : إن مصارعهم دون النهر؛ ( لأن الذي اخبره بذلك الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم ) ، وإن الذي أجده عنده واقف (يعني لا زال الرجل واقفا عنده )؛ إذ جاءه رجل آخر فقال : يا أمير المؤمنين والله قد ابتعدوا فما بقي منهم أحد .(1/176)
قال: ويحك إن مصارعهم دون النهر ، فجاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين : والذي بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لقد رجعوا ؛ ثم جاء لناس فقالوا : قد رجعوا حتى انهم ليتساقطون في الماء ( انظروا إلى حماسهم إلى قتل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انهم ليتساقطون في الماء زحاما على العبور لأن الجسر كان فوق النهر ) ؛ ثم إن رجلاً جاء؛ فقال : يا أمير المؤمنين إن القوم قد صفوا الصفوف ورموا فينا وقد جرحوا فلاناً .
فقال علي رضي الله عنه : هذا حين طاب القتال ، فوثب فقعد على بغلته ؛ وقمت إلى سلاحي فلبسته ثم شددته عليّ ؛ ثم قعدت على فرسي وأخذت رمحي ثم خرجت ؛ فوا لله ما صليت الظهر أو قال العصر حتى قتلت بيدي سبعين"0
فهاهو قد استراب في أمرهم لما رأى عبادتهم رضي الله عنه ، لكن لما رأى حماسهم لقتل المسلمين ؛ بل أخيارِ الناس بعد الأنبياء أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم تيقن الخبر؛لا سيما وقد سمع من علي رضي الله عنه أنه يحدد مصارعهم0 وقد هزمهم الله جل وعلا شر هزيمة على يد علي رضي الله عنه .
ولذلك قال الآجرّي رحمه الله : ( فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان أو جائراً ؛ فخرج وجمع جماعة وسل سيفه واستحل قتال المسلمين ؛ فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن ولا بطول قيامه في الصلاة ولا بمداومة الصيام ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبُه مذهبَ الخوارج ).
ولا يظن مسلم أن بدعة الخوارج قد انتهت بل إن بدعتهم باقيةٌ إلى أن يخرج قوم منهم في الدجال ))(1)أ . هـ
إذن لا ينبغ أن نصدق كل صاحب دعوى حتى تصدق أفعاله وأقواله دعواه ، لا سيما وأن الفرقة الناجية قد وردت نعوت تنعتها وأوصاف تصفها لا ينبغي أن نحيد عنها ونتبع كل هاذ وناعق .
__________
(1) 170 ) الخوارج والتفجير : 5 .(1/177)
قال الشيخ الهمام سليم بن عيد الهلالي : (( وردت الأخبار الصحيحة عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بتعيين أوصاف الفرقة الناجية والطائفة المنصورة منهجاً وحالاً .
أما المنهج فقد وردت ثلاثة ألفاظ بتحديد ملامحه :
1 ) (( ما أنا عليه وأصحابي )) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ( رضي الله عنهما ) .
2 ) (( الجماعة )) كما في حديث أنسٍ وسعدٍ ( رضي الله عنهما ) .
3 ) (( السواد الأعظم )) كما في حديث أبي أمامة ( رضي الله عنه ) ....
أما الحال : حال الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة ، فقد وردت أربعة أوصاف تنعته :
1 ) (( لا تزال طائفة )) وهذا يعني الاستمرار .
2 ) (( ظاهرة على الحق )) وهذا يعني الانتصار .
3 ) (( لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم )) وهذا يعني إغاظة أهل البدع والكفار
4 ) (( كلها في النار إلا واحدة )) ويعني النجاة من النار .
أما الاستمرار والانتصار ، فلقد اتفقت أحاديث الطائفة المنصورة على أنها مستمرة بثبات على الإسلام حتى يأتي أمر الله وهم كذلك .
وهذه صفات عظيمة أستظهرها أهل العلم لأن فيها معجزة لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) _ حيث وقع ما اخبر به _ .
قال المناوي في (( فيض القدير : 6 / 395 )) : (( وفيه معجزة بينة فإن أهل السنة لم يزالوا ظاهرين في كل عصر إلى الآن ، فمن حين ظهرت البدع على اختلاف صنوفها من الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم لم يقم لأحد منهم دولة ، ولم تستمر لهم شوكة بل كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بنور الكتاب والسنة ، فلله الحمد والمنة )) .(1)أ . هـ
وبهذا نعلم علم اليقين أن دعوى النجاة والانتساب إلى الفرقة الناجية مرهونة بمنهج متبع وقدوة حسنة ، وهذه المعاني لا تتمثل ولا توجد إلا في السلفيين من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح .
((
__________
(1) 171) لماذا أخترت المنهج السلفي : 43 _ 47 . [ بتصرف ] .(1/178)
وبهذا يُعلم أن الوصف بالسلفية مدح وثناء على كل من أتخذها قدوة ومنهجاً ، أما الوصف بها دون تحقيق ما دلت عليه ، فليس فيه مدح وثناء ، لأنَّ العبرة بالمعاني لا بالمصطلحات اللفظية ))(1).
الفصل الثالث
الغلو في الأشخاص(2)
هو تجاوز الحدود في تقديس الأشخاص ، كما هو الحال فيمن أدعى ألوهية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وكحال النصارى الذين جعلوا المسيح بن مريم إلهاً من دون الله .... وهكذا .
ومن مظاهر الغلو في الأشخاص التي وقع فيها الناس اليوم ، كالصوفية وغيرهم ، الغلو في محبة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فرفعوه فوق منزلته ، واعتقدوا أنه يجيب من دعاه ، فصرفوا له العبادة من دون الله ..... على غير ذلك من الغلو الذي يخرج بصاحبه من دائرة الإسلام ، نسأل الله الثبات على الحق .
أما أهل السنة والجماعة فيحبون الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويعتقدون انه خير البشر وأنه سيد المرسلين وخاتم النبيين ، ويرون أن أكمل المؤمنين إيماناً أكملهم محبة وإتباعاً للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ...(3).
ويكفي من ذلك كله أن الله تعالى شهد للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالعبودية الكاملة ، ووصفه بها في أشرف المواطن، في الإسراء والمعراج في أول سورة الإسراء، وفي مقام التحدي في سورة البقرة ، وفي مقام الدعوة في سورة الجن .
فقد وصف بالعبودية في هذه المواطن الشريفة ، مما يدل على أن هذا الوصف هو وصف تشريف وتكريم ، وليس انتقاصا كما قد يظن من يظن.
فالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عبد رسول ، كما وصف هو نفسه بذلك في قوله الذي رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
((
__________
(1) 172 ) أنظر (( المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة : 14 )) للدكتور إبراهيم بن محمد البريكان .
(2) 173 ) أنظر ص: 45 من هذا الكتاب .
(3) 174 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 25 .(1/179)
إنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله )) .
وفي هذا رد على طائفتين غاليتين :
الأولى : مفْرِطة ، رفعته فوق منزلته، فجعلته فوق مرتبة العبودية، في مرتبة الربوبية والألوهية ، حتى صار عندها إلها وربا مسؤولا.
الثانية : مفَرِّطة ، لم تعرف منزلته ولا قدره ولا حقوقه ، فعاملته كسائر البشر، فلم ترفع بهديه رأساً .
فوصفه بالعبودية رد على الطائفة الأولى، ووصفه بالرسالة رد على الطائفة الثانية ،وهذا هو التوسط ، وهو خير الأمور، وبذلك نعطي النبي حقه ومنزلته ، دون غلو أو إجحاف.
فمن كلام الغالين في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله البوصيري في البردة التي يرددها ملايين الصوفية في العالم ، في كل آن ، خاصة في الموالد النبوية في شهر ربيع :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ...... سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ........ إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ........ ومن علومك علوم اللوح والقلم
فهذا هو الغلو بعينه ، بل هو الشرك والكفر الأكبر، حيث استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فقد استغاث به وهو ميت ، والميت لا يستغاث به، فهو لا يقدر على شيء ..
ثم إنهم زعموا أن هذه الاستغاثة إنما تكون يوم القيامة ..
ولو فرضنا الأمر كما قالوا ، فكيف لهم أن يتقدموا بهذه الاستغاثة في الدنيا قبل حلول الآخرة ؟..
إنهم استغاثوا به حال موته ، وهذا هو المحرم .
ثم الزعم أن الدنيا والآخرة إنما هما من جود النبي صلى الله عليه وسلم :
فهل هما من جود النبي ؟..
هل أوجدهما النبي ؟..
أم وجدا لأجل النبي ؟...
أما الأول فباطل لا ريب ، فلا خالق إلا الله ..
أما الثاني فهو الغلو بعينه ، ومن أين لهم أن الدنيا والآخرة ما وجدتا إلا لأجل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ، بل عندنا أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى :
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.(1/180)
ثم القول بأن من علوم النبي علم اللوح والقلم ، فذلك معناه أن علم النبي زيادة على ما في اللوح والقلم ، إذن هو يعلم ما كان وما لم يكن ، وزيادة ، وهذا باطل ، فالنبي لا يعلم ما في غد ، إلا شيئا علمه الله، والله تعالى لم يعلمه كل شيء، وقد قال الله تعالى:
{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، وما مسني السوء ، إن أنا إلا نذير ، وبشير لقوم يؤمنون }.
أما هؤلاء فيزعمون أن النبي يعلم كل شيء في اللوح وزيادة ، ويدعون أن الله علمه ، وذلك باطل، ولم يكن، ولو كان لما أخبر النبي عن نفسه أنه لا يعلم الغيب ، ولما مسه السوء ..
وهؤلاء بلاياهم وغلوهم كبير في النبي ، فهذا أبن عربي يقول : (( بدء الخلق الهباء ، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية )) . [ الفتوحات المكية 1/118]
ويقول الحلاج : (( أنوار النبوة من نوره برزت ، وأنوارهم من نوره ظهرت ، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر ، وأقدم سوى نور صاحب الكرم ... همته سبقت الهمم ، ووجوده سبق العدم ، واسمه سبق القلم ، لأنه كان قبل الأمم ... العلوم كلها قطرة من بحره .. .. والأزمان ساعة من دهره )) [ الطواسين : 13 ] .
وقال أبن الدباغ : (( أعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضا من نور محمد ، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب ، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت ، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليه لتهافتت وتساقطت )) . [ هذه هي الصوفية ص87 ، نقلا عن محبة الرسول ص203 ]
فمثل هذا هو الغلو ، وهو رفع للنبي فوق منزلته ، والله لا يرضى بذلك، ولا النبي صلى الله عليه وسلم .. ))(1).
الغلو في الأشخاص والشرك :
__________
(1) 187 ) نقلاً من نشرة بعنوان (( الغلو والشرك في قصيدة البردى)) أخذت من شبكة الانترنيت .(1/181)
من المعلوم أن الغلو في الأشخاص أدى إلى وقوع الشرك وترسيخه في قلوب الناس ، كما يعد من أهم الوسائل المباشرة لوقوعه وانتشاره ، فنوح عليه السلام أرسل إلى قومه بعد أن فشى فيهم تقديس وتعظيم الصالحين حتى عبدوهم من دون الله تعالى ، فنصحهم ووعظهم ولكنها ذهبت أدراج الرياح .
قال محمد بن صالح الأسمري في (( الدلائل والإشارات على كشف الشبهات : 28 )) : (( قوله : الغلو في الصالحين :
واحدها صالح ، والصالح في العُرف الشَّرْعِيّ هو : من أقام باطنه وظاهره وَفْقَ أمر اللّه ، وهذا يَتَعَلَّق بحق الله وبحق خلقه الذي أوجبه الله ، ومِنْ ثَمَّ يقال إنه صالح ، ، فهؤلاء الصالحون في قوم نوح - عليه السلام -(1/182)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ) .......... عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ) .(1/183)
وفي خبر أبن عباس رضي الله عنهما دلالة واضحة على أن سبب كفر قوم نوح هو الغلو في أولئك الصالحين ، من قِبَلِ الذين جعلوهم شفعاء لهم عند الله . ... . و( الأمد ) هو الزمن ، أَيْ : طال عليهم الزمن وامْتَد ، بحيث نسوا ما قصده الأولون من تصوير أولئك الصالحين ، وأن سبب عبادتهم هو ما جرى من التعظيم بالعكوف على قبورهم من قِبَل الأولين)) أ . هـ
ومن المعلوم أن هؤلاء لما اتخذوا لهم آلهة وعبدوها من دون الله تعالى فإنما يريدون من وراء ذلك جلب النفع لهم أو دفع الضر عنهم ، ولكن الله تعالى قطع كل الأسباب التي من الممكن أن يتعلق بها هؤلاء قطعاً مرتباً متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى .
قال الإمام أبن القيم في (( مدارج السالكين : 1/ 343 )) : (( ... قد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا قطعا يعلم من تأمله وعرفه : أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، فقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع : إما مالك لما يريده عابده منه فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواداه لمن عقلها ... )) .(1/184)
فما هو إذن حد الشرك الذي وقع فيه الناس بسبب الغلو في الصالحين وما هي أسبابه ووسائله وأنواعه ؟
مفهوم الشرك :
قال العلامة السعدي في ((القول السديد في مقاصد التوحيد ص 16 )) : (( إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله .
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص , وصرفه لغيره شرك وكفر , فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء , كما أن حد الشرك الأصغر هو كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة , فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر )) أ . هـ
أنواع الشرك :
قال الشيخ سعيد بن وهف القحطاني في ((: نور التوحيد وظلمات الشرك : 23 )) :
أنواع الشرك وأقسامه :
أولاً : الشرك أنواع منها :
النوع الأول : شرك أكبر يخرج من الملة ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} .
وهو أربعة أقسام :
1 _ شرك الدعوة : لقوله تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
2 ـ شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ هود : 16 ] .(1/185)
3 ـ شرك الطاعة : وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى ، قال سبحانه : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ التوبة : 31 ] .
4 ـ شرك المحبة : لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [ البقرة : 165 ] .
والخلاصة : أن الشرك الأكبر هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل: كأن يدعو غير الله ، أو يذبح لغير الله ، أو ينذر لغير الله ، أو يتقرب لأصحاب القبور، أو الجن والشياطين بشيء من أنواع العبادة ، أو يخاف الموتى أن يضروه ، أو يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات وتفريج الكربات ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله عز وجل .
النوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة ومنه يسير الرياء ، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [ الكهف : 110 ] .
ومنه الحلف بغير الله ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي : 2 / 99 ] .
ومنه قول الرجل : لولا الله وأنت ، أو ما شاء الله؛ وشئت .
ومن أنواع الشرك : شرك خفي: (( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل )) [ صحيح الجامع 3/233] ، وكفارته هي أن يقول العبد : (( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم ، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم )) .(1/186)
قال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتِك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل: لولا الله وفلان .
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، قال الترمذي : فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله : فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث أبن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم : سمع عمر يقول : وأبي و أبي ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )) . [صحيح سنن الترمذي 2/92] وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : (( من قال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله )) [ صحيح سنن الترمذي 2/ 92 ] .
ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر فيكون الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله )) .
أسباب ووسائل الشرك :
حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل ما يوصل إلى الشرك ويسبب وقوعه ، وبين ذلك بيانًا واضحًا ، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي :
1 ـ الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى ، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم صلّى الله عليه وسلّم إلى الأرض على الإسلام ، قال أبن عباس ( رضي الله عنهما ) : ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) .(1/187)
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين ، ودب الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى عبادة الله وحده ، وينهى عن عبادة ما سواه ، وردّ عليه قومه : {وَقَالُواْ لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} .
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت ٍٍ ٍ )) . [ رواه البخاري ] .
وهذا سببه الغلو في الصالحين ؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور ، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين ، وأن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه الستور، ويطاف به ، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده ، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا ، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون
ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [ النساء : 171 ] .(1/188)
2ـ الإفراط في المدح والتجاوز فيه ، والغلو في الدين : حذّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الإطراء فقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى أبن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله )) [ رواه البخاري ]. وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) .
3 ـ بناء المساجد على القبور، وتصوير الصور فيها : حذَّر صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن اتخاذها مساجد؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم ؛ ولهذا لَمَا ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال : (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) [ رواه البخاري ] .
ومن حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته أنه عندما نزل به الموت قال : (( لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) .
قالت عائشة رضي الله عنها : يحذر ما صنعوا . [ رواه البخاري ] .
وقال قبل أن يموت بخمس : (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك )) [ رواه مسلم ] .
4 ـ اتخاذ القبور مساجد : حذّر صلّى الله عليه وسلّم أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق ، فقال : (( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) .(1/189)
5 ـ إسراج القبور وزيارة النساء لها : حذر صلّى الله عليه وسلّم عن إسراج القبور ؛ لأن البناء عليها ، وإسراجها ، وتجصيصها والكتابة عليها ، واتخاذ المساجد عليها من وسائل الشرك ، فعن أبن عباس رضي الله عنهما قال : (( لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) .
6 ـ الجلوس على القبور والصلاة إليها : لم يترك صلّى الله عليه وسلّم بابًا من أبواب الشرك التي تُوصِّل إليه إلا سده ، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها )) [ رواه مسلم ] .
7 ـ اتخاذ القبور عيدًا ، وهجر الصلاة في البيوت ، بيّن صلّى الله عليه وسلّم أن القبور ليست مواضع للصلاة ، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا ، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا : (( لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، ولا تجعلوا قبري عيدًا ، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) [ صحيح سنن أبي داود : 1 / 383 ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام )) .
فإذا كان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدًا ، فغيره أولى بالنهي كائنًا من كان .
8 ـ الصور وبناء القباب على القبور: كان صلّى الله عليه وسلّم يطهر الأرض من وسائل الشرك ، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ (( ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته )) [ رواه مسلم ](1/190)
9 ـ شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثلاثة : وكما سدّ صلّى الله عليه وسلّم كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ) [ رواه البخاري ومسلم ] .
فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد ، وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى الطور ، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري : فقال : من أين جئت؟
قال: من الطور ، فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه ، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) [ صحيح سنن النسائي : 1 / 109 ] .
ولهذا قال شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله في (( مجموع الفتاوى 1/234)) : (( وقد أتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلّى الله عليه وسلّم أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره ، بل ينهى عن ذلك )) .
10 ـ الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك ؛ لأن زيارة القبور نوعان:
النوع الأول : زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم ، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة ، ولتذكر الموت – بشرط عدم شدِّ الرِّحال – ولاتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم .
النوع الثاني : زيارة شركية وبدعية ، وهذا النوع ثلاثة أنواع :
أ ـ من يسأل الميت حاجته ، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام.
ب ـ من يسأل الله تعالى بالميت ، كمن يقول : أتوسل إليك بنبيك ، أو بحق الشيخ فلان ، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام ، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام كما يُخرِج الأول.
ج ـ من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب ، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد ، وهذا من المنكرات بالإجماع .(1/191)
11 ـ الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها من وسائل الشرك ؛ لِمَا في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذين الوقتين ، قال صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان )) [ رواه مسلم ] .
والخلاصة : أن وسائل الشرك التي توصل إليه : هي كل وسيلة وذريعة تكون طريقًا إلى الشرك الأكبر، ومن الوسائل التي لم تذكر هنا : تصوير ذوات الأرواح ، والوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية ، وغير ذلك من الوسائل .
ولهذا حذرت النصوص الشرعية من الشرك ووسائله كثيراً منها :
1 ) نهى الله تعالى عن الشرك وأمر بعبادته وحده فقال تعالى { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِه } [النساء : 36] .
2 ) بَيَّن الله تعالى تحريمه وأن المشرك حرام علية الجنة فقال تعالى { مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة : 72] .
3 ) بين الله تعال قبح الشرك وقبح اقترافه فقال تعالى { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31] .
4 ) وبين الله تعالى أن الشرك لا يغفره أبداً فقال تعالى { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء : 116] .
5 ) وبين الله تعالى أن الشرك محبط للأعمال فقال تعالى { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر : 65].(1/192)
أقول : ولهذا فإنه يجب على العباد أن يعرفوا إبتداءاً الغاية التي من أجلها خلقهم الله وأمرهم بها ، قال تعالى { َمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56].
ومن ثم السعي الحثيث إلى التفقه في الدين وفق أسس سليمة مع مراعاة أن العلم الصحيح لا يأخذ إلا من منابعه الأصلية كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة معززاً ذلك بأقوال العلماء الأعلام الذين شهدت لهم الأمة بالاعتدال والاستقامة ، وما ذلك كله إلا ليتقي العبد مزالق الخطأ والزلل ، ويبتعد عن سبل الغلو والتطرف التي نهى ربنا عنها
أعاذنا الله تبارك وتعالى وإياكم من إتباع سبل والغلو والتطرف أنه سميع الدعاء .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ، فما كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ، ولله وحده الحمد والشكر والمنَّة .
وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان ، وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول والعمل ، وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلاح إنه كريم جواد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلِّم .
وكتبه
أبو سيف العبيدي الأثري
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ....................................... 1
الباب الأول
الفصل الأول : الجزيرة العربية قبل وبعد مجيء الإسلام 4
الأصلان اللذان اتفقت عليهما جميع الشرائع ..... 5
الفصل الثاني : وجاءت القاصمة ................ 8
أقسام إرادة الله تعالى ........................... 8
أسباب حتمية افتراق الأمة ..................... 8
الفصل الثالث : أصول البدع
المبحث الأول : رؤوس أهل البدع ......................... 17
المبحث الثاني نماذج للفرق والأحزاب الضالة ....... 20
أولاً : فرق قديمة الظهور :(1/193)
التعريف بالخوارج وأصولهم ...................... 21
الجهمية وأصولهم ................................ 21
المعتزلة وأصولهم ................................. 22
المرجئة وأصولهم ................................. 24
القدرية وأصولهم ................................. 25
تكفير القدرية ................................... 27
الجبرية وأصولهم ................................ 28
الأشاعرة وأصولهم .............................. 28
الرافضة وأصولهم ................................ 29
ثانياً : أحزاب وجماعات معاصرة :
1) أحزاب وجماعات إسلامية :
جماعة الأخوان المسلمون ......................... 32
جماعة التبليغ والدعوة ........................... 35
حزب التحرير .................................. 36
حركة حماس ................................... 36
الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية 36
جماعة التكفير والهجرة ........................... 36
القواسم المشتركة بين الأحزاب العصرية ............ 37
الفرق بين دعوة أهل السنة والدعوات الأخرى ...... 38
2) أحزاب وتكتلات علمانية .................... 40
التعريف بالقومية العربية ........................... 40
التعريف بالشيوعية وأصولها ........................ 41
التعريف بالديمقراطية ومفاسدها .................... 42
الباب الثاني الغلو : تعريفه وانواعه
تعريف الغلو ..................................... 46
تعريف الجفاء .................................... 47
تحذير الكتاب والسنة من الغلو .................... 48
أنواع مداخل الشيطان ........................... 49
أنواع الغلو :
الفصل الأول : الغلو في الأعمال ................ 53
نماذج من الغلو في الأعمال ....................... 53
الجماعات الإسلامية والغلو في أعمال التكفير والتفجير 56(1/194)
مقارنة بين أعمال المفتونين وأعمال المصلحين ....... 56
الآثار السيئة التي تركتها أعمال التكفير ............... 59
والتفجير على المسلمين
التحذير من جر المعركة إلى بلاد المسلمين ............. 61
ما حكم ضرب الكفار في عقر دارهم ................ 62
ما حكم تهييج الكفار على المسلمين على ............. 67
الرغم من ضعفهم
ما حكم ضرب الكفار الذين يدخلون بلاد ............ 68
المسلمين بعهد وآمان
ما حكم ضرب الكفار في حال اختلاطهم بالمسلمين ... 73
الفصل الثاني : الغلو في الاعتقاد : .................... 78
مسائل مهمة :
الأولى : أول وأبرز مسائل الاختلاف:
1 ) الاختلاف في حكم الفاسق الملي ................ 79
2) الاختلاف في الصحابة المتقاتلين في معركتي ........ 80
الجمل وصفين
3 ) اختلافهم وتنازعهم في أسماء الله تعالى ............ 81
الثانية :أول البدع الاعتقادية ظهوراً في الإسلام ........ 86
مناظرة أبن عباس مع الخوارج ...................... 88
غلو عبد الرحمن بن ملجم .......................... 91
أبرز مظاهر الغلو الاعتقادي عند الفرق والأحزاب:
المبحث الأول : الغلو في التكفير ..................... 86
أقسام الناس في التكفير .............................
مسائل واجبة المعرفة :
المسألة الأولى : تعريف التكفير وابرز أحكامه ........ 95
المسألة الثانية : الأدلة الدالة على التحذير من التكفير .. 96
المسألة الثالثة : وجوب الاحتياط في تكفير المعين .... 100
حتى تقام الحجة وتتحقق الشروط وتنتفي الموانع
المسألة الرابعة : من يتولى إقامة الحجة .............. 106
المسألة الخامسة : وجوب التفريق بين القول والقائل 107
والفعل والفاعل
المسألة السادسة : وجوب التفريق بين التكفير 109
المطلق والتكفير العيني
المسألة السابعة : وجوب التفريق بين الناس وهم ينطقون بـ
(( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) من حيث الحكم الدنيوي(1/195)
والأخروي : 111
المسألة الثامنة : وجوب التفريق بين النصوص المطلقة 144
والنصوص المقيدة
المسألة التاسعة : وجوب الحذر من تبني معتقد معين 115
ثم محاولة صرف النصوص إليه
المظهر الأول : تكفير المسلمين بالكبائر 116
أسباب تكفير الناس بالكبائر ........................ 116
أدلة فساد مذهب من يكفر بالكبائر ................. 125
الفوائد المستخلصة من الأدلة الدالة على عدم تكفير ... 127
صاحب الكبيرة
المظهر الثاني : تكفير الحكام 129
والخروج عليهم
قصة الحسن البصري مع الخوارج .................. 133
أحوال الناس عند نزول البلاء ...................... 134
هل يجوز الخروج على الحكام ...................... 134
مسائل واجبة المعرفة :
المسألة الأولى : أنواع الخروج ..................... 134
المسألة الثانية : أهمية وجود الإمام وحرمة الخروج عليه 135
المسألة الثالثة : الحكم بغير ما انزل الله أنواعه وحكمه 143
المسألة الرابعة : شروط الخروج على الحكام ........ 145
المسألة الخامسة : أسباب فشل الثورات ............ 148
قصة الحسن البصري مع الخوارج .................. 153
المسألة السادسة : مساوئ الخروج على الحكام ..... 154
مكالمة هاتفية للشيخ ربيع مع الثوار الجزائريين ....... 154
المظهر الثالث : تولي إقامة الحدود بأنفسهم 173
قصة الصحابي عبد الله بن قرط مع الخوارج ......... 177
هل عدم وجود المحاكم الشرعية حجة لمن يتولى إقامة 177
الحدود بنفسه
هل يجوز لآحاد الناس قتل الخوارج .................. 178
المبحث الثالث : إلزام الناس بالأخذ بما يعتقدون 180
المبحث الثالث : الاعتقاد الجازم 187
بأنهم هم أهل النجاة
قصة أبي أيوب الأنصاري مع الخوارج ............. 189
قصة الخارجيين في الحرم المكي .................... 189
قصة الصحابي جندب مع الخوارج واغتراره بأعمالهم 190
أوصاف الفرقة الناجية منهجاً وحالاً ............... 192(1/196)
الفصل الثالث : الغلو في الأشخاص .............. 194
الغلو في الأشخاص والشرك ..................... 198
مفهوم الشرك ................................... 200
أنواع الشرك .................................... 200
أسباب ووسائل الشرك ........................... 202
الأدلة المحذرة من الشرك ............................ 206
الفهرس .......................................... 208(1/197)