|
تأليف: عبد المنعم مصطفى حليمة
"أبو بصير"
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
العُذْرُ بالجَهْلِ
وقيامُ الحُجَّةِ
تأليف
عبد المنعم مصطفى حليمة
"أبو بصير"
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ مقدمة الطبعة الثانية:
... الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
... كنت أحسب أن مسألة " العذر بالجهل " قد حُسمت، وانتهى الجدال والخلاف فيها .. وهي لا تحتاج ـ من أهل العلم ـ إلى مزيد بحث وتقرير ..!
... ولكن الواقع يدل على خلاف ذلك؛ فالمسألة لا تزال تطرح نفسها ـ وبقوة ـ على الدعوة والدعاة .. وعلى مساحة كبيرة من شباب الإسلام .. ولعل سبب ذلك يعود لأمرين:
... أولهما: أهمية الموضوع من جهة ما يترتب عليه من أحكام ونتائج وتبعات على حياة الناس .. وعلى دينهم .. وعلى العلاقة المتبادلة فيما بينهم بعضهم مع بعض.
... فالموضوع من هذا الوجه له علاقة مباشرة بواقع وحياة الناس .. وما يصدر عنهم من مواقف، وأقوال، وأعمال .. وبيان المعذور منهم من غير المعذور.
... ثانياً: وجود فريقي الغلو والجفاء .. فريقي الإفراط والتفريط .. الذين ما فتئوا يتناولون هذا الموضوع الهام ـ وكل موضوع ـ وينأون به ـ على مذهبهم وطريقتهم ـ بعيداً عن الحق: بين الإفراط والتفريط .. بين الغلو والجفاء والإرجاء .. مما زاد الطين بلة .. والجهل جهلاً .. والانحراف انحرافاً..!
... كل ذلك ولد لدينا الشعور بأهمية المسألة .. وأن الموضوع لا بد من أن يُعنى بمزيدٍ من اهتمام ذوي العلم والفضل .. أهل التوسط والاعتدال من
أصحاب الأقلام النظيفة الواعية ..!
كما ولَّد لدينا الشعور بضرورة إعادة طباعة كتابنا هذا " العذر بالجهل وقيام الحجة " طبعة ثانية .. منقحة ومَزِيدة بإضافات وتوضيحات اقتضتها الشبهات العديدة التي ما فتئ يطرحها فريقي الغلو والجفاء .. والفترة الزمنية الطويلة التي مضت على كتابة وإعداد هذا الكتاب؛ والتي تزيد عن عشر سنوات.
(1/1)
ولتحقيق مزيدٍ من النفع والفائدة ـ إن شاء الله ـ قمنا بإضافة ملحق في نهاية الكتاب يتضمن الأجوبة على الأسئلة الواردة إلينا عبر موقعنا على الإنترنت ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. وقيام الحجة.
نسأل الله تعالى السداد والتوفيق والقبول .. وأن يهدنا ويهدي بنا من أضل سواء السبيل .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
5/9/1422 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
20/11/2001م. " أبو بصير "
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ مقدمة الطبعة الأولى:
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
... { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران:102.
... { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء:1.
... { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } الأحزاب:70ـ 71 .
... أمّا بعد: فإن أصدق الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(1/2)
... اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وبعد: فمن يتابع ما كُتب مؤخراً في مسألة "العذر بالجهل"، يجد أن غالب الناس ـ كعادتهم في كثير من المسائل ـ قد ذهبوا مذهبين: مذهب يجنح إلى الإفراط والغلو والجحود .. فيجحدون مبدأ العذر بالجهل .. وينفون إمكانية وجود الجاهل المعذور لانتفاء وجود العذر بالجهل أصلاً .. مما حملهم ذلك على إصدار أحكام التكفير، والخروج من دائرة الإسلام على أناس ـ مسلمين ـ يشملهم العذر بالجهل ..!
... وهؤلاء ـ سواء علموا أم لم يعلموا ـ فقد وقفوا تحت مظلة وراية الخوارج الغلاة الأوائل؛ الذين كفّروا الناس بالكبائر، وسوء الظن ..!
ومذهب آخر ـ وقف موقف النقيض ـ جنح إلى التفريط، والتمييع والجفاء .. وإعذار مالا ينبغي إعذاره .. فوسعوا ضيقاً .. وعذروا بالجهل على الإطلاق، وجعلوا الجهل مانعاً للتكفير .. ومن دون أن ينظروا إلى حال الجاهل، والسبب الذي حمله على الجهل، والمسألة التي جهل فيها .. والبيئة التي يعيش فيها .. فعذروا من لا يجوز عذره .. وأدخلوا من لا يصح إدخاله في دائرة الإسلام!
وهؤلاء ـ سواء علموا أم لم يعلموا ـ فقد وقفوا تحت مظلة وراية أهل التجهم والإرجاء، وفيهم شبه المرجئة الأوائل الذين نفوا أن يكون العمل من الإيمان !
... فالمسألة ـ على كثرة ما كُتب فيها مؤخراً ـ هي بين الغالي والجاف، وبين الإفراط والتفريط .. إلا من رحم الله!
لذا رأيت ضرورةً لتبيان الحق والصواب في المسألة، متحرياً الدليل ما استطعت ـ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وفهم السلف الصالح ـ في كل ما أُثبته وأقرره، لكي تكون هذه الرسالة حجة في بابها وموضوعها .. تعيد كلاً من الغالي والجافي إلى الوسطية التي يتمثل فيها الحق والصواب إن شاء الله.
(1/3)
... وموضوع هذه الرسالة، هو:" العذر بالجهل وقيام الحجة" يجد فيها القارئ كل ما يتعلق بمبدأ العذر بالجهل وقيام الحجة، من حيث:
- إثبات مبدأ العذر بالجهل في الشريعة، أو عدم إثباته ..!
- وفي حال يعذر بالجهل .. فمتى يعذر، ومتى لا يعذر ..؟
- وما هي مبررات العذر بالجهل، وكذلك الحالات التي لا يعذر معها بالجهل؟
- ثم ما يقال في الكافر الجاهل، هل يقال في المسلم الجاهل، أم لكل منهما حكمه الخاص به ..؟
وكذلك الحجة و قيامها، متى تقوم الحجة ومتى لا تقوم .. وبما تقوم الحجة، وصفة قيامها ..؟؟
كل ذلك ـ وغيرها من المسائل الهامة ـ سنجتهد في الإجابة عليها ـ إن شاء الله ـ في هذه الرسالة على وجه التفصيل والتدقيق الذي نراه مطابقاً للحق والصواب.
... وثمة أمر ينبغي التنويه إليه في هذه المقدمة ـ قبل الشروع في تناول مسائل البحث ـ وهو أن المراد من حديثنا عن العذر بالجهل هو الجهل الذي يكون سبباً لوقوع صاحبه في الكفر أياً كان نوع هذا الكفر .. وليس الجهل في الفروع العملية أو المسائل التي لا يترتب على الجهل فيها كفر أو خروج من دائرة الإسلام .. فهذا النوع الأخير من الجهل لا يسلم منه خاصة المسلمين فضلاً عن عامتهم .. وبالتالي فهو غير معني ولا مراد من حديثنا.
وقد ثبت في الصحيحين، عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
"فتبين أن الاجتهاد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن إدراك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر"[(1)]. على الخواص فضلاً عن العوام!
__________
(1) 1 رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيميه ص 57 . ط المكتب الإسلامي.
(1/4)
... { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } البقرة:286.
...
أسأل الله تعالى السداد والتوفيق، والقبول .. وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون مفاتيح خير، مغاليق شر .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.
وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
28 شوال – 1411 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
13 أيار – 1991 م. أبو بصير
ـ قاعدة في التكفير:
قبل البدء في تناول موضوع " العذر بالجهل "، وتناول مسائله .. لا بد من توضيح قاعدة من قواعد التكفير، [(1)]، تقول:" التكفير المطلق العام لا يستلزم دائماً تكفير المعين "؛ لاحتمال وجود موانع التكفير وانتفاء لوازمه.
... فأن يُقال: هذا كفر، ومن اعتقد كذا أو قال كذا فقد كفر، لا يستلزم منه دائماً أن يكون صاحب هذا الاعتقاد أو القول بعينه قد كفر، لاحتمال انتفاء لوازم التكفير ووجود موانعه عند هذا الشخص المعين.
... ومن أو كد موانع تكفير المعين وجود " الجهل المُعذر" عند هذا المعين، كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له ".
__________
(1) 2 انظر كتابنا" قواعد في التكفير".
(1/5)
... قال النووي في الشرح: معناه أن الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر علي [(1)].
... فهذا رجل شك في قدرة الله .. وأن الله تعالى لا يقدر عليه إذا فُعل به ما أوصى به ـ وهذا كفر أكبر ـ لكن لجهله .. وخوفه .. قد عذره الله، فغفر له. فيقال: قول الرجل كفر، لكن هو بعينه لم يكفر لوجود مانع من موانع التكفير ألا وهو الجهل.
... قال ابن تيميه في شرحه للحديث: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك[(2)].
... وقد صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك أنه قال:" أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله - عز وجل - لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، وساقيها، ومُسقيها "[(3)]. ...
وبالمقابل فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل يدعى حماراً وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجُلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا تلعنه إنه يحب الله ورسوله ".
... قال ابن تيميه رحمه الله: فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة. ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق. ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط وانتفاء موانع[(4)].
__________
(1) 3 شرح صحيح مسلم: 17/ 74.
(2) 4 مجموع الفتاوى: 13/ 331.
(3) 5 صحيح الجامع الصغير: 72.
(4) 6 الفتاوى: 10/ 329.
(1/6)
... وقال: وموانع لحوق الوعيد متعددة منها: التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية للسيئات، ومنها بلاء الدنيا ومصائبها، ومنها شفاعة
شفيع مطاع، ومنها رحمة أرحم الراحمين.
... فإذا عُدمت هذه الأسباب كلها ولن تُعدم إلا في حق من عتا وتمرد على الله وشرد شرود البعير على أهله، فهناك يلحق الوعيد به.
ذلك أن حقيقة الوعيد: بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه. أما أن كل شخص قد قام بذلك السبب، يجب وقوع ذلك المسبب به، فهذا باطل قطعاً، لتوقف ذلك على وجود الشرط وزوال جميع الموانع.
... وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها: أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه هم سواء" مسلم.
... وصح عنه أنه قال: لمن باع صاعين بصاع يداً بيد " أوَّه، عين الربا"[(1)]. كما قال " البر بالبر رباً إلا هاء وهاء"[(2)].
__________
(1) 7 تمام الحديث: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني ـ وهو نوع جيد ـ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أين هذا؟ قال: كان عندنا تمر رديء فبعت مكانه صاعين بصاع، فقال: "أوَّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به".
والحديث متفق عليه. فرغم أن الله لعن آكل الربا، إلا أنه لا يجوز لعن الصحابي لأكله الربا، لوجود المانع، وهو عدم علمه أن الذي فعله من الربا الذي يُلعن آكله.
(2) 8 متفق عليه. وقوله:" هاء وهاء" أي خذ وخذ، يداً بيد من دون فاصل زمني.
(1/7)
... وهذا يوجب دخول نوعي الربا ـ ربا الفضل وربا النَّسأ ـ في الحديث، ثم إن الذين بلغهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إنما الربا في النسيئة " متفق عليه. فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أبي الشعثاء وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير وعكرمة، وغيرهم من أعيان المكيين الذين هم صفوة الأمة علماً وعملاً. لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده، تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة.
... وكذلك ما نقل عن طائفة من الفضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" من أتى امرأة في دبرها فهو كافر بما أنزل على محمد ".
... وكذلك قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - :" أنه لعن في الخمرة عشرة: عاصر الخمر، ومعتصرها، وشاربها ..." وثبت عنه من وجوه أنه قال:" كل شراب أسكر فهو خمرة " وقال:" كل مسكر خمر، وكل خمر حرام " متفق عليه.
... وقد كان رجال من أفاضل الأمة ـ علماً وعملاً ـ منهم الكوفيين يعتقدون أن لا خمر إلا من العنب، وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا بمقدار ما يسكر، ويشربون ما يعتقدون حله.
... فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم من العذر الذين تأولوا به، أو لموانع أخر.
... وكذلك لا يجوز أن يقال: إن الشراب الذي شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لعن البائع للخمر.
وقد باع بعض الصحابة خمراً حتى بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها"[(1)
__________
(1) 9متفق عليه. قلت: والأغرب من ذلك إن من الصحابة من أهدى للرسول - صلى الله عليه وسلم - حمراً بعد
نزول التحريم، لكن لجهله بالتحريم وعدم بلوغ النص إليه، فقد عذره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما=
= زجره ولا لعنه وإنما علمه.
قال ابن عباس: أهدى رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :" هل علمت أن الله عز وجل حرمها؟" فسار ولم أفهم ما سار كما أردت، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :" بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها!! فقال:" إن الذي حرم شربها حرم بيعها". ففتح المزادتين حتى ذهب ما فيها. صحيح سنن النسائي.
(1/8)
].
ولم يعلم أن بيعها محرم، ولم يمنع عمر - رضي الله عنه - علمه بعدم علمه أن بين جزاء هذا الذنب ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به.
وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العاصر والمعتصر، وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعتصر لغيره عنباً وإن علم من نيته أن يتخذه خمراً.
فهذا نص في لعن العاصر، مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" متفق عليه.
يجب العمل به في تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا في النار لأن لهم عذراً وتأويلاً في القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله[(1)]ا-هـ.
ومن يتتبع السنة وأخبار السلف يجد كثيراً من الأحاديث والآثار التي تثبت صحة القاعدة الآنفة الذكر. لذلك نجد كثيراً من الأئمة وأهل العلم يطلقون حكم التكفير على اعتقاد أو قول، أو سلوك على وجه العموم لا التعيين، فيحمل من قبل عامة الناس على أنه تكفير للمعين، وهذا غلط شنيع ليس هو مراد الأئمة رضوان الله عليهم.
__________
(1) 10رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ص 63، 64 ، 81، 86.
(1/9)
فكان الإمام أحمد يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته ـ على وجه العموم ـ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة بينة، ولأن حقيقة أمرهم يدور على التعطيل وجحود الأسماء والصفات .. وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، ولكن لم يكن يكفِّر أعيانهم على الإطلاق من دون النظر إلى ثبوت لوازم التكفير بحقهم وانتفاء موانعه عنهم .. فإن الذي يدعو إلى القول الكفري أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب عليه أعظم كفراً من الذي يدعو ويقول، ومع ذلك فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرءان مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: بأن القرءان مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يكن يريدون تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا الجحود بما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك .. ممن حسبوه من أهل العلم!
وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله[(1)].
لكن قولنا أن التكفير المطلق لا يستلزم دائماً تكفير المعين؛ هذا يعني أنه أحياناً يستلزم ذلك بحسب حال المعين، فإن توفرت شروط التكفير وانتفت عنه موانعه فإنه حينئذٍ يكفر بعينه. وتفصيل هذه القاعدة تجده في كتابنا " قواعد في
التكفير" فالمسألة هناك قد أوفيناها بحثاً وتفصيلاً.
__________
(1) 11 انظر الفتاوى لابن تيميه:23/ 348ت349.
(1/10)
والذي دعانا هنا للتمهيد بذكر هذه القاعدة، هو أن فهمها ـ من قِبل القارئ ـ ضروري لفهم ما بعدها من فصول البحث، ولكي يتمكن من إنزال العبارات والإطلاقات ـ الواردة في هذا الكتاب ـ منزلها الصحيح، ولا يحملها ما لا تحتمل ولا يُراد.
ـ مبدأ العذر بالجهل:
قبل أن نخوض في الحديث عن الجهل الذي يعذر والجهل الذي لا يعذر لا بد أولاً من أن نثبت مشروعية العذر بالجهل من حيث المبدأ، ونجيب على سؤال يقول : هل الجهل من الأعذار المعتبرة شرعاً؟
نقول: الحمد لله رب العالمين. فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبار الجهل المعجز عذراً من الأعذار الشرعية التي يعذر بها المرء، وتقيل عثرته في حال وقوعه ـ بسببها ـ في الخطأ، سواء كان هذا الخطأ في المسائل الفرعية أو المسائل العملية أو كان في المسائل الأصولية العقدية .. لا فرق بين ذلك كله.
من هذه الأدلة:
1- أن التكليف الذي يحاسب عليه المرء ـ في الدنيا والآخرة ـ هو التكليف الموافق لحدود القدرة والاستطاعة، فما زاد عن حدود الاستطاعة والقدرة لا يُطالب بالإتيان به ولا يأثم على تركه، والعكس إذا حصل التقصير والإهمال فيما يستطيع المرء على إتيانه والقيام به، فهو حينئذٍ يأثم ويطاله الوعيد على تقصيره وتفريطه فيما يقدر عليه.
لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } البقرة:286. وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } التغابن:16.
قال ابن كثير في تفسير قوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } البقرة:286. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ .
وفي الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
(1/11)
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مه القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه[(1)].
من هذه النصوص استخرجت القاعدة الفقيهة التي تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور ".
وقد صاغها العز بن عبد السلام بقوله: إن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه[(2)].
... وعليه نقول: حيثما توجد الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم ودفع الجهل، يُرفع العذر بالجهل. وحيثما تعدم الاستطاعة والمقدرة على التعلم
وطلب العلم الذي يندفع به الجهل، يوجد العذر بالجهل.
... قال ابن تيميه: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً [(3)].
... وهذه قاعدة يدور عليها رحى مبدأ العذر بالجهل .. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع موانع التكفير الأخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
... 2- قضت حكمة الله عز وجل، أن لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليه؛ فمن كان خطؤه ناتجاً عن عدم بلوغ العلم إليه؛ لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم؛ كالذي يكون حديث عهد في الإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية لا تتوفر فيها العلوم الشرعية كالبادية وغيرها، فهذا لو أخطأ فإنه معذور بخطئه إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية وتبلغه نذارة الرسل، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء:15.
__________
(1) 12شرح العقيدة الطحاوية، ط المكتب الإسلامي، ص 271.
(2) 13 قواعد الأحكام: 2/5.
(3) 14 رفع الملام: ص114.
(1/12)
... وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } النساء:165.
... وقال: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } الملك:8-9.
... وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الأنعام:130.
وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } طه:134.
... وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ".
... قال ابن كثير في التفسير: إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله - عز وجل - لا يدخل النار أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه [(1)]ا- هـ.
... وقال البغوي: وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل [(2)]. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول[(3)]ا- هـ.
__________
(1) 15 3/31.
(2) 16 تفسير البغوي: 2/132.
(3) 17 تفسير البغوي: 1/500.
(1/13)
... وفي تأويل قوله تعالى: { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } الأنعام:131. قال الشوكاني: المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم [(1)].
... قلت: إذا كان الله - سبحانه وتعالى - لا يعذب عباده في الحياة الدنيا ـ وهو العذاب الأدنى ـ إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فمن باب أولى ـ كما دلت على ذلك نصوص عدة ـ أن لا يعذبهم العذاب الأكبر يوم القيامة إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فيقابلونها بالرد والإعراض.
... قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 2/336-338: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز في الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
... ومن ذلك قوله تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
... ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } الملك: من الآية9.
__________
(1) 18 فتح القدير: 2/163.
(1/14)
... وقوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } الزمر:71.
ومعلوم أن لفظة "كلما " في قوله: { كلما ألقي فيها فوج } صيغة عموم، وأن لفظة " الذين " في قوله: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا } صيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته ا- هـ.
وقال رحمه الله 3/473: { وسيق الذين كفروا } عام لجميع الكفار، وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم في كل ما تشمله صلاتها .. إلى أن قال: وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح ا- هـ.
وفي قوله تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } قال كذلك رحمه الله ـ أي الشنقيطي ـ: هذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا ..
ومعلوم أن قوله جل وعلا: { كلما ألقي فيها فوج } يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن في صددها ما نصه: و" كلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ا- هـ.
(1/15)
قلت: والمراد بالعموم هنا؛ أي جميع من يدخلون النار ـ من أهل الكفر ـ ومن دون استثناء فإنهم يقرون ويعترفون أن نذارة الرسل قد بلغتهم فقابلوها بالرد والإعراض، والجحود .. وأنهم ما دخلوا النار إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } أي جميع وعموم الذين اتقوا ربهم من دون استثناء .. وهي نفس صيغة العموم الواردة في قوله تعالى: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } فكما لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله { وسيق الذين اتقوا .. } بعض أو غالب الذين اتقوا وليس كل الذين اتقوا، كذلك لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله تعالى { وسيق الذين كفروا .. } بعض أو غالب الذين كفروا؛ لتطابق الآيتين واللفظين من حيث صيغة العموم العامة والشاملة لجميع الذين اتقوا وجميع الذين
كفروا.
قال الألوسي في التفسير: واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم .. وقيل وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموماً يقتضي أنهم جميعاً أنذرهم الرسل، ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك ا- هـ.
... وكذلك قوله تعالى: { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } قّ:28. أي قدمت إليكم بالوعيد والنذر عن طريق رسلي الذين أرسلتهم إليكم .. قبل أن تقفوا هذا الموقف العصيب الأليم، وتختصموا فيه .. وبالتالي فإن اختصامكم وتلاومكم الآن ـ وبعد أن فات الأوان ـ لا ينفعكم في شيء.
... قال ابن جرير: { وقد قدمت إليكم } في الدنيا قبل اختصامكم هذا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي، في كتبي وعلى ألسن رسلي.
... قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم [(1)].
__________
(1) 19جامع البيان: 26/168.
(1/16)
... وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } غافر:49-50.
... قوله تعالى: { وقال الذين في النار .. } هي أيضاً من صيغ العموم التي تفيد الاستغراق والعموم التي تعم جميع الذين في النار؛ أي قال جميع الذين في النار ومن دون استثناء { بلى } قد جاءتنا رسلنا بالبينات والنذر والآيات..!
... قال الألوسي في التفسير: { وقال الذين في النار } من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل، وعيت بهم العلل .. ا- هـ.
... وكذلك قوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } الأنعام:130.
... قوله تعالى: { وقالوا شهدنا على أنفسنا } أي شهدوا على أنفسهم أن حجة الرسل قد بلغتهم .. وهذا خطاب موجه لجميع الإنس والجن يفيد كذلك العموم لا الغالب؛ لأن الجمع المعرف بأل يفيد العموم والاستغراق؛ أي جميع الجن والإنس يعترفون ويقرون بأن نذارة الرسل قد بلغتهم.
... قال ابن كثير في التفسير: { شهدنا على أنفسنا } أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ا- هـ.
(1/17)
قال ابن تيميه: من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
... ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ..
... والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أ ن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكونه هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ولهذا اتفق الأئمة على أنه من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول[(1)].
... وقال ابن حزم في الأحكام 5/104-114: وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين: أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا، والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء.
... وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام، وسواء علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه. وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قوله تعالى: { ْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ } الأنعام:19.
__________
(1) 20 الفتاوى :11/406.
(1/18)
فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى: { وأعرض عن الجاهلين } . فأمر أن يهدر فعل الجاهل، إلى أن قال: أما من لم يبلغه ذكره - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء:15. فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ا- هـ.
... 3- ومن الأدلة الدالة على العذر بالجهل أيضاً، خطاً الحواريين – في أول عهدهم – وجهلهم بصفة ربهم أنه تعالىعلى كل شيء قدير، وكذلك شكهم بمصداقية نبوة عيسى عليه - عليه السلام - ، كما أخبر الله تعالى عن قولهم : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } المائدة:113.
... قال ابن جرير: في قوله تعالى: { قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، قال عيسى للحوارين: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم { هل يستطيع ربك } .
(1/19)
... وفي قوله : { ونعلم أن قد صدقتنا } ، قال: فقد أنبأ هذا عن قولهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً [(1)].
... وقال ابن حزم: فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى - عليه السلام - هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟!
ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا
ذلك بعد قيام الحجة وتبيُّنهم لها [(2)] .
... فرغم أن الشك في أن الله - عز وجل - على كل شيء قدير هو كفر، وكذلك الشك بمصداقية نبي الله، إلا أن الحوارين لم يكفروا وعذروا بالجهل لحداثة عهدهم بالإسلام وبنبيهم عيسى - عليه السلام - .
... 4- وكذلك الذين قالوا ـ من بني إسرائيل ـ لموسى - عليه السلام - : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } الأعراف:138. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل [(3)]. لأجل ذلك لم يكفروا ولم يأمر موسى - عليه السلام - بقتلهم أو استتابتهم من الردة، رغم أن قولهم وسؤالهم موسى أن يجعل لهم إلهاً مع الله كفر بواح لا شك فيه.
__________
(1) 21 جامع البيان:7/ 130-131.
(2) 22 الفصل في الملل والهواء والنحل:3/253.
(3) 23 تفسير ابن كثير: 2/ 253.
(1/20)
ونظير قولهم قول جهال المسلمين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!! وتمام الحديث كما في صحيح سنن الترمذي وغيره، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } لتركبن سنن من كان قبلكم ".
... فرغم أن قولهم قول كفري وهو شبيه بقول بني إسرائيل { اجعل لنا إلهاً } إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم لجهلهم وحداثة عهدهم بالإسلام .
... ومما يستفاد من الحديث أيضاً " أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي
عن ذلك فانتهى لا يكفر "[(1)]، ومن نهي عنه فلم ينته رغم قيام الحجة عليه فإنه يكفر.
... 5- ومنها أيضاً، قصة الرجل الذي أسرف على نفسه، فأمر أهله عند الممات أن يسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر،ظناً منه أن الله لن يقدر على جمعه وإعادته لو فعل به ذلك، وهذا كفر، لكن لجهله وخشيته من الله فقد عفى الله عنه.
قال ابن تيميه: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره .. فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من صفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافراً[(2)].
__________
(1) 24 تيسير العزيز الحميد، ص 185.
(2) 25 الفتاوى:11/309-411.
(1/21)
... وقال ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله - عز وجل - يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله. وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي؛ إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } . وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى[(1)].
... قلت هذا التأويل الباطل للحديث ـ الذي يشير إليه ابن حزم ـ يتبناه من لا يرى الجهل عذراً في الشريعة مطلقاً، ظناً منه أن ذلك يبطل الاستدلال بالحديث على مبدأ العذر بالجهل !
قال ابن القيم: وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ عمله، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً[(2)].
__________
(1) 26 الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/252.
(2) 27 مدارج السالكين: 1/339.
(1/22)
فإن عرفت ـ من خلال ما تقدم من أقوال أهل العلم ـ أن المانع من كفر ذلك الرجل الذي أمر أبناءه بأن يحرّقوه .. كان الجهل والخشية .. فلك أن تعجب من كلام الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عندما جعل المانع من كفر ذلك الرجل هو أنه لم يكن كفره الذي تلفظ به وأمر به أبناءه معقوداً أو مقصوداً في القلب، حيث قال كما في شريطه الكفر كفران:" هذا الرجل حينما ظهر منه أنه ينكر قدرة الله على جمعه، وعلى بعثه ثم على تعذيبه بناء على أنه لم يعمل خيراً قط، لما ظهر منه هذا، هذا كفر، إذاً ما جوابنا على قوله تعالى: { ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وهذا كفره ومع ذلك قد غفره ؟ الجواب: أنه كفر لم يكن مقصوداً في القلب، لم يكن معقوداً في القلب .." ا- هـ.
قلت: ومرد هذا التفسير الخاطئ للشيخ هو فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. كما بيناه ورددنا عليه في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .."، وغيره من الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.
... 6- ومن الأدلة كذلك على العذر بالجهل، حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - حيث قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[(1)].
... يُستفاد من الحديث الفوائد التالية:
... 1- أن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلماً مقراً بالشهادتين .. لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
__________
(1) 28 عن تفسير البغوي: 3/285.
(1/23)
... 2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد ومتطلباته من أيامه الأولى من لإسلامه؛ أي أنه كان معذوراً بالجهل ..
... 3- بسبب ما تقدم فقد وقع عدي - رضي الله عنه - بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقتُرف من غير جهل بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم، لكن عدياً لم يكفر بعينه لمانع الجهل المعتبر بالخطاب الشرعي:
... أولهما: ارتداؤه الصليب .. وهذا شرك أكبر، لذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوثن الذي يُعبد من دون الله - عز وجل - .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..
... ثانياً: أن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله .. يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يُلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه ..!
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن ذلك واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة وهو لا يجوز أن يُصرف إلا لله - عز وجل - وحده .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد!
(1/24)
وأيضاً عندما حلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأبيه، فنهاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وبين له أن من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت[(1)].
فرغم أن الحلف بغير الله شرك، كما في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، إلا أن عمر - رضي الله عنه - لم يكن يعلم وقتها أن الحلف بغير الله تعالى من الشرك .. لأجل ذلك فقد عُذر.
وكذلك قول الصحابي للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ما شاء الله وشئت ! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ".
فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لجهله وعدم علمه أن هذه
هذه المقولة تندرج تحت الشرك، كان بذلك معذوراً ولم يكفر بعينه.
__________
(1) 29 تمام الحديث كما في الصحيحين: عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت".
(1/25)
وكذلك النفر من الصحابة – وعلى رأسهم قدامة بن مظعون – الذين تأولوا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } المائدة:93.[(1)] فقالوا ليس علينا جناح لو شربنا الخمر؛ لأننا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فشربوها واستحلوا شربها، وهذا كفر لاستحلالهم ما حرم الله تعالى، إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم قبل القيام الحجة عليهم، لوجود التأويل والجهل بسبب نزول الآية، وظنهم أن الآية يستفاد منها إباحة الخمر لمطلق من آمن وعمل الصالحات[(2)
__________
(1) 30قال ابن تيمية في الفتاوى 11/403، في سبب نزول الآية: نزلت في سبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر – وكان تحريمها بعد وقعة أحد – قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين الصالحين ا- هـ.
(2) 31تمام القصة: عن علي - رضي الله عنه - قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي حلال، وتأولوا { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر - رضي الله عنه - أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي - رضي الله عنه - ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى أن تستيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله..فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين.( إكفار الملحدين في ضروريات الدين – ص 95).
(1/26)
].
فهذه القصة ـ وجميع ما تقدم من أدلة ـ تصلح كدليل على العذر
بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا ببلوغ الخطاب الشرعي.
... قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/605: وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيه من التأويل ا- هـ.
... وكذلك الصحابي الذي أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - خمراً، فهذا قطعاً كان يعتقد حلها ـ وهذا كفر ـ إلا أنه كان يجهل أن الله قد حرمها، لذلك عذره الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجهله بالتحريم، وبين له حرمتها من دون يوبخه أو يكفره، بل اكتفى بتعليمه فقال له:" هل علمت أن الله - عز وجل - حرمها؟"[(1)].
... 6- ومن الأدلة أيضاً، قوله - صلى الله عليه وسلم - :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله - عز وجل - في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
__________
(1) 32 تقدم تخريج الحديث.
(1/27)
... قال صلة بن زفر لحذيفة – وهو راوي الحديث – ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً[(1)].
... من فقه الحديث: الإعذار بالجهل، فلا إله إلا الله تنجيهم لأنهم جهال لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة، وهم يقولون لا إله إلا الله تقليداً وتبعاً لآبائهم .. لأنهم يعيشون في زمان رُفعت فيه الشريعة، واندرست فيه جميع تعاليم الإسلام، حتى شهادة أن محمداً رسول الله![(2)].
... ومعلوم أن من كان هذا هو حاله، لو كان يعيش في مجتمع استفاضت فيه تعاليم الإسلام وسهل فيه طلب العلم لمن يريد، ومن اليسير عليه أن يعبد الله تعالى بما فرض عليه، وبالصورة الصحيحة المشروعة .. ثم هو مع ذلك لا يأتي بشهادة أن " لا إله إلا الله" إلا لفظاً وتقليداً للآباء، من دون أن يعي متطلباتها أو يأتي بشيء من فرائض الإسلام وواجباته .. فإن من كان هذا هو حاله ووصفه لا تنفعه لا إله إلا الله ولا تنجيه، لانعدام العذر؛ وهو الجهل المعجز وعدم التمكن من العلم.
... لذا من الخطأ الشنيع الاستدلال بالحديث على الأزمنة والأمكنة التي استفاضت فيها العلوم الشرعية وسهل فيها طلب العلم لمن نشده وأراده .. كما هو حال أهل التجهم والإرجاء، ومن تأثر بمنهجهم الفاسد، ويُقال: من أتى بلا إله إلا الله لفظاً وتقليداً للآباء، فإنها تنفعه وتنجيه من النار، وإن لم يأت بشيء من أركان وواجبات الإسلام، ولا حتى بشيء من متطلبات التوحيد وشروطه ..!
__________
(1) 33 صحيح سنن ابن ماجة :3273.
(2) 34 هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث.
(1/28)
... ومن الاستدلالات الفاسدة للشيخ ناصر بهذا الحديث انتصاراً لمذهبه الفاسد في الإيمان، قوله في السلسلة 1/130: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود من النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيءٍ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .. فهذا نص من حذيفة - رضي الله عنه - على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان!"ا- هـ.
... قلت: تعميم العذر على كل زمان ومكان خطأ ظاهر وهو بخلاف ما يدل الحديث عليه من حصر العذر لأناس معينين لهم صفات معينة، وفي زمان معين اندرست فيه تعاليم الإسلام ..!
... كما أن هذا التعميم في العذر ـ لكل أحد وفي كل زمان ومكان ـ لم يقل به سلف معتبر .. وقد صدق الشيخ لما قال:" احفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان " لأنه قول محدث غريب لم يقل به السلف ولا عالم معتبر .. وهو بخلاف ما تدل عليه ألفاظ الحديث، ومهما قلبت صفحات كتب السلف الصالح وأقوالهم فإنك لن تجد هذا القول الذي قاله الشيخ ناصر .. لشذوذه وغرابته، وبعده عن دلالات نصوص وروح الشريعة!
... وردنا على الشيخ هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
(1/29)
... 7- ومنها ـ أي من جملة الأدلة على العذر بالجهل ـ الحديث الذي يرويه الأسود بن سريع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول ربِّ لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة. فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
... فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها" [(1)].
... فهؤلاء الأربعة جميعهم يحتجون بالجهل، وأنهم كانوا عاجزين عن تحصيل العلم أو الوقوف عليه .. وإن كان جهل كل واحد منهم له سببه المختلف عن الآخر، إلا أن صفة الجهل مشتركة فيما بينهم لعدم تمكنهم من طلب العلم وفهمه أو إدراكه.
... لذلك فالله تعالى يقبل ـ كرماً وتفضلاً منه - سبحانه وتعالى - ـ عذرهم ـ وكيف لا وهو - سبحانه وتعالى - لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ـ ويجري لهم اختباراً في عرصات يوم القيامة .. فمن كان في علم الله - عز وجل - أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيؤمن ويُتابع الرسل، ويعمل صالحاً، ييسر له أمره إلى النجاة، ومن ثم إلى الجنة. ومن كان في علم الله تعالى أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيقابلها بالرد والإعراض والجحود، ييسر له أمره إلى الهلاك والعذاب في نار جهنم .. وكل ميسر لما خلق له.
... واعتراض البعض على صحة الحديث، لاعتبار أن دار الآخرة دار جزاء وحساب لا دار تكليف واختبار .. لا حجة لهم في ذلك.
__________
(1) 35 رواه أحمد، وابن حبان، صحيح الجامع الصغير: 881 .
(1/30)
... وقد كفانا ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤنة الجواب، بعد أن ذكر الحديث وطرقه، فقال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشريعة وقواعدها، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا دار ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟
... فالجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم. والثاني: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث. الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام. الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف. الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها، أن الله - سبحانه وتعالى - يأخذ عهوده ومواثيقه أ ن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: " ما أغدرك ". السادس: قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما، أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: إنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يُستطع.
(1/31)
السابع: إنه قد ثبت أنه - سبحانه وتعالى - يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً .. كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سبباً، كما قال: أبو سعيد الخدري: " بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف" رواه مسلم.
... فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
... الثامن: إن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث .. فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: إن التكليف إنما ينقطع بعد دخول القرار، وأما في البرزخ وعرصات يوم القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } . فهذا صريح في أن الله - عز وجل - يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم [(1)] ا- هـ.
... ثم إن الاختبار الذي يجرى للأربعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الآنف الذكر، مناسب من حيث صعوبة التكليف لما يحصل لهم من الإيمان واليقين القوي ـ الذي لا يلامسه أدنى شك ـ نتيجة رؤيتهم عين اليقين للآيات الباهرات يوم القيامة.
... ومن كان بهذا اليقين ليس من الصعب أو المستحيل عليه أن يختبر في دخول النار طاعة وامتثالاً لأمر الله.
__________
(1) 36طريق الهجرتين، ص 397-401.
(1/32)
... بل في الدنيا حصل أن بعض الصحابة ـ وهم لم يروا شيئاً من أهوال وآيات يوم القيامة ـ هموا بأن يلقوا بأنفسهم في النار طاعة لأميرهم، لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فامتنعوا، وعلموا أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قصوا له ما حدث لهم:" لو دخلتموها لما خرجتم منها ".
... فإذا كان مثل هذا يحصل في الدنيا .. وكاد الوقوع في النار أن يقع طاعة لأمر الأمير الذي هو عبد من عباد الله، فإنه لا يصح أن يُعتبر الاختبار ـ الذي يُجرى لذوي الأعذار الوارد ذكرهم في الحديث ـ يوم القيامة تكليفاً مستحيلاً، وغير ممكناً وهو فوق الطاقة .. مع العلم أن الآمر يومئذ هو الله - سبحانه وتعالى - المطاع لذاته - جل جلاله - .
ـ خلاصة القول: بعد ذكر النصوص والأدلة الصحيحة الآنفة الذكر، ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. فقد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أو التساؤل، أن الجهل إذا توفرت دواعيه وأسبابه المعتبرة التي لا يمكن دفعها، فإنه يُعتبر في الشريعة الإسلامية عذراً يعذر صاحبه، ويُقيل عثرته، ويمنع عنه نزول العذاب والوعيد إلى أن تقوم عليه حجة الرسل، وتصله نذارتهم.
... كما أن في الأدلة والشواهد الآنفة الذكر .. القدر الكافي لحسم شبهات المخالفين الذين لا يرون الجهل عذراً .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيببات الصالحات.
ـ تنبيه:
... ممن لا يرون الجهل عذراً شرعياً، يفرقون بين الجهل في مسائل الأصول أو العقائد؛ وهو ما يعلم من الدين بالضرورة. وبين الجهل في مسائل الفروع أو المسائل العملية الغير معلومة من الدين بالضرورة.
(1/33)
ويقولون: من كان جهله في مسائل الأصول ـ أياً كان سبب جهله والظروف المحيطة به ـ لا يُعذر بالجهل مطلقاً؛ لأنه محجوج من جهة حُجج أخرى غير حجة نذارة الرسل .. أما من كان جهله في الفروع أو المسائل العملية .. فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية من جهة نذارة الرسل.
... أقول: هذا التفريق في الجهل إلى نوعين، جهل في الفروع يعذر وجهل في الأصول لا يعذر، لا أصل له عند السلف، وهو باطل يعلم بطلانه من سياق الأدلة الآنفة الذكر في إثبات شرعية العذر بالجهل، حيث اتضح أن الجهل حيثما وجدت أسبابه ودواعيه التي لا يمكن دفعها يعذر صاحبه، سواء كان جهله في المسائل الأصولية العقدية أو كان في مسائل الفروع العملية.
... ومما يُرد به على هذه الشبهة:
... 1- أنه قول يعوزه الدليل من الكتاب والسنة .. فمثل هذا التقسيم لا يمكن إقراره، والقول به إلا بدليل صريح من الكتاب والسنة.
... 2- أن الأدلة من الكتاب والسنة التي تعذر بالجهل ـ الآنفة الذكر ـ
جاءت عامة لجميع أنواع الجهل، من دون تفريق بين جهل وجهل، وتخصيصها بنوع من الجهل دون نوع يحتاج لدليل مخصص، وأنَّى ..!
... 3- أن من الأدلة الآنفة الذكر جاءت كدليل صريح على العذر في مسائل الأصول كما في حديث عدي بن حاتم، وغيره ..!
... 4- أنه قول محدث مردود لم يقل به الصحابة ولا السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وهو قول مأثور عن المعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء .. وعن بعض ممن تأثر بهم ـ وهو لا يدري ـ من أهل العلم ..!
(1/34)
... ولشيخ الإسلام كلام مفيد في المسألة يحسن ذكره، حيث قال: أما التفريق ين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد - صلى الله عليه وسلم - هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟
وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
... وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
... وقال: فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة.
(1/35)
وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: { بَلْ عَجِبْتَ } ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: { بل عجبت } فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
... وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } وقال: إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا. وإنكار الآخر قراءة قوله: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال: : إنما هي ووصى ربك. وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر.
... وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحداً، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض
التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية[(1)]ا- هـ.
... قلت: ولكن الذي يمكن قوله، إن الجهل إذا عدمت دواعيه وتوفرت عوامل دفعه، من استفاضة للعلم الصحيح، وتواجد العلماء وغير ذلك، فإن الجهل فيما يجب تعلمه؛ كمتطلبات التوحيد ونواقضه، وكذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة واستفاض العلم فيه بين الناس كوجوب الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وكذلك تحريم الفواحش كالزنى والخمر وغير ذلك، فإن جاهل هذه الأمور ـ مع انعدام دواعي الجهل ومبرراته ـ لا يعذر بالجهل، بينما يعذر لو جهل بعض المسائل العملية الفرعية التي لا يجب تعلمها على جميع أفراد الأمة، والجهل فيها لا يترتب عليه إثم أو كفر وخروج من دائرة الإسلام.
__________
(1) 37 الفتاوى: 23 / 346. 12/492.
(1/36)
... في مثل هذا الموضوع لا بد من التفريق، ليس بين مسائل عقيدة ومسائل عملية، وإنما بين ما يجب تعلمه على كل فرد من أفراد الأمة، وبين مالا يجب تعلمه على جميع أفراد الأمة حيث يجزئ فيه علم الخاصة عن العامة، لذلك نقول: جاهل ما يجب عليه تعلمه ـ إذا عدمت أسباب ودواعي الجهل ـ لا يعذر بالجهل، بينما الآخر يعذر إلى أن يتعين بحقه طلب العلم[(1)].
... ومن فرق من أهل العلم بين جهل يعذر وجهل لا يعذر هو على اعتبار مدى استفاضة العلم وسهولة طلبه والوقوف عليه لمن أراده .. وليس على اعتبار التفريق بين مسائل ومسائل .. فتراهم يقررون أن جاهل مسألة من المسائل لا يُعذر فيها بالجهل؛ لا لكون هذه المسألة من الأصول أو غير ذلك .. وإنما لكون هذه المسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً مما يُرجح الظن باستحالة وجود الجاهل الذي يمكن أن يُعذر بالجهل في هذه المسألة..!
... وفي المقابل تراهم يعذرون بالجهل في مسائل قد تكون من الأصول .. ولها مساس بالتوحيد .. لكثرة الجدال حولها .. ولرجحان الظن لديهم بإمكانية وقوع الخطأ أو الجهل المعذر فيها من بعض أفراد الأمة ..!
... فالعلة التي تحملهم على التفريق بين مسألة ومسألة هو بالنظر إلى واقع كل مسألة ومدى احتمال حصول الجهل فيها .. ويتم ذلك بالنظر إلى جوانب عدة منها: طبيعة المسألة ذاتها هل يُحتمل فيها الجهل .. أم أن العلم فيها قد استفاض استفاضة يمنع من العذر بالجهل فيها..؟!
... وهل هي من المسائل الكلامية الخفية والمحدثة .. أم أنها غير ذلك؟!
... وهل هي من المسائل المحكمات .. التي لا تقبل إلا قولاً واحداً، وفهماً واحداً .. أم أنها من المسائل المتشابهات التي تحتمل أوجهاً من التفسيرات والتعليلات ..؟!
__________
(1) 38 كفريضة الحج، العلم بوجوبه واجب على الجميع، لكن العلم بكيفية أداء المناسك لا يجب على جميع أفراد الأمة إلا في حال توفرت الاستطاعة لديهم للقيام بهذه الفريضة، فحينئذ يتعين العلم بحق المستطيع منهم.
(1/37)
... ومنها: النظر إلى البيئة .. هل هي بيئة علم .. يكثر فيها العلماء .. ويسهل فيها تحصيل العلم لمن ينشده .. أم أنها بيئة جهل وبدعة يكثر فيها أهل البدع والأهواء .. تحتمل إمكانية حصول الجهل بمثل هذه المسألة ..؟!
... ومنها: النظر إلى الشخص ذاته .. هل هو من ذوي الكفاءات العقلية والعلمية المتقدمة .. أم أنه متخلف في ذلك .. وهل هو حديث عهد بالكفر أم لا .. وهل يملك القدرة على الطلب وشد الرحال أم لا .. وهل هو ممن يُحسنون العربية ـ لغة القرآن والسنة ـ أم لا ..؟!
... فكل هذه الأوجه مجتمعة هي معتبرة عند أهل العلم عند تحديدهم لمن يعذر بالجهل ممن لا يُعذر .. والمسألة التي يُعذر فيها بالجهل من المسألة التي لا يُعذر فيها .. والله تعالى أعلم.
* * *
... بعد أن أثبتنا بالأدلة مبدأ العذر بالجهل، وذكرنا أنه لا يوجد فرق بين جهل الأصول وجهل الفروع ـ من حيث العذر ـ إذا وجدت مبررات الجهل ودواعيه وأسبابه، وقبل أن نخوض في الحديث ـ على وجه التفصيل ـ عن مبررات الجهل ودواعيه، وبيان الجهل الذي يعذر وحالاته، والجهل الذي لا يعذر وحالاته، لا بد من التفريق ـ عند الحديث عن كل ذلك ـ بين الكافر الجاهل والمسلم الجاهل، حيث لكل منهما حالته المختلفة عن الآخر وبالتالي حكمه المختلف عن الآخر، وليس كل ما يصح أن يقال في الكافر الجاهل يصح أن يُقال ويحمل على المسلم الجاهل.
... وإليك تفصيل ذلك:
ـ الكافر الجاهل.
اعلم أنه ما من مولود إلا ويولد على فطرة الإسلام، وملة التوحيد .. فالتوحيد فيه أصل فطره الله عليه، والشرك طارئ عليه مكتسب.
كما قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } الروم:30.
(1/38)
قال مجاهد:" فطرة الله" الإسلام. وكذلك قال ابن يزيد وابن عكرمة وغيرهم من أهل التأويل [(1)]. وفي قوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله } قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: أي لدين الله.
وقال البخاري: قوله: { لا تبديل لخلق الله } لدين الله، خلق الأولين: دين الأولين، والدين الفطرة: الإسلام[(2)].
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟". ثم يقول أبو هريرة : و اقرؤوا إن شئتم { فطرة الله فطر الناس عليها لا تبدل لخلق الله } ، وفي رواية " حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". أي تغيرون من خلقتها السوية فتجدعونها بالوشم والبتك، كما قال تعالى: { فليبتكن آذان الأنعام } النساء:119. كذلك توحيد الله والإيمان به تعالى فهو أصل فُطر عليه الإنسان، إلا أن شياطين الإنس والجن تجتاله عن دينه الإسلام وتحرفه إلى الشرك.
كما في الحديث:" إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ".
قال ابن تيميه: والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلى على القول الذي رجحناه وهو أنهم على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض[(3)] .
ثم إن الناس بعد ذلك فريقان، لا ثالث لهما: فريق كافر، وفريق مسلم، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } التغابن:2.
__________
(1) 39 جامع البيان: 21/40.
(2) 40 تفسير ابن كثير: 3/442.
(3) 41 شفاء العليل: ص292.
(1/39)
... قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً[(1)].
... والكافر: هو كل من أشرك مع الله آلهة أخرى، ولم يرض بالإسلام ديناً، كما قال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } المائدة:72.
... وقال تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران:19. وقال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران:85.
... وكل كافر يطلق عليه ـ في الدنيا ـ حكم الكفر ويأخذ صفته، أياً كان سبب كفره سواء كان كفره ناتجاً عن عناد أو كبر أو إعراض أو جهل، فالكافر الجاهل ـ الذي لم تصله نذارة الرسل ـ لا يمنع جهله من أن يطلق عليه في الدنيا حكم الكفر ويأخذ صفته. كما قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } التوبة:6.
فوصفهم الله تعالى بالشرك رغم أنهم قوم جهلة لا يعلمون.
... قال ابن جرير في التفسير: يقول تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرءان، وردك إياهم، إذا أبوا الإسلام، إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون مالهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله[(2)].
__________
(1) 42 تفسير القرطبي: 18/123.
(2) 43 جامع البيان: 10/80.
(1/40)
... قال ابن قيم: الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله - سبحانه وتعالى - لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم[(1)].
... لكن مما ينبغي الانتباه له، أن ما يميز الكافر الجاهل ـ لنذارة الرسل ـ عن غيره ممن كان كفره ناتجاً عن عناد أو إعراض .. أن الأول لا تجوز مبادأته بالقتال أو الاعتداء على شيء من حرماته، قبل دعوته وإيصال نذارة الرسل إليه .. وقبل ذلك لا يشرع قتاله، ولا الاعتداء عليه في شيء.
... كما في صحيح مسلم وغيره، عن سلمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُّف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجاوبك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم".
... وعن سهل بن سعد أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خبير، فقال:" أين علي "؟ فقيل إنه يشتكي عينيه، فأمر فدعى له فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال:علي - رضي الله عنه - : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:"على رسلك حتى تنزل بساحتك ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم "متفق عليه.
__________
(1) 44طريق الهجرتين: ص413.
(1/41)
... وعن فروة بن مسيل قال: قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي و مدبرهم؟ قال:" نعم "، فلما وليت دعاني، فقال:" لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام"[(1)].
... وعن ابن عباس: ما قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً قط إلا دعاهم[(2)].
... قال الشوكاني: فيه دليل على وجوب تقديم الدعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة، وفي المسألة ثلاث مذاهب: الأول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه وبه قال: مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم. والمذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقاً. والمذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغه الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة
على معناه وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث[(3)].
... قلت: والصواب منها، المذهب الثالث الذي قال عنه ابن المنذر أنه قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أغار على بني المصطلق وهم غارُّون[(4)]. وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذٍ جويرية بنت الحارث. متفق عليه.
... وهذا يحمل على أن الدعوة بلغت بني المصطلق من قبل فجحدوها وردوها، عندها أغار عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دون نه يعلمهم أو ينذرهم.
... وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قوماً لم يغز حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يُصبح ".
__________
(1) أخرجه أحمد.
(2) 46 رواه أحمد. قال الشوكاني: أخرجه أيضاً الحاكم عن طريق عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عنه. قال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(3) 47 نيل الأوطار: 1/231.
(4) 48 أي غافلون .
(1/42)
فانتظار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأذان دلالة صريحة على أن الدعوة قد بلغتهم من قبل، فإذا لم يسمع أذاناً أغار على القوم وفاجأهم من دون سابق إعلام أو إنذار قريب.
... لكن هناك سؤال يرد، وهو هل الدعوة يجب أن تبلغ جميع أفراد المعسكر الكافر ـ قادة وجنوداً ـ بأعيانهم حتى يشرع قتالهم في حال ردهم وجحودهم للدعوة؟ أم أنه يكفي إيصال الدعوة وقيام الحجة على قادتهم ورؤسائهم دون جنودهم؟
أقول: الصواب الذي دلت عليه السنة، هو أنه يكفي لقتال المشركين
أن تبلغ الدعوة لقادتهم وزعمائهم، فإن جحدوها وقابلوها بالرد والإعراض،
قوتلوا جميعاً هذا ما كان يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أرسل الرسل إلى ملوك وقادة الكفار ليبلغهم دعوته ورسالته، فكان يكتفي بتوجيه الكتب إلى القادة والزعماء دون الجند والعامة، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - على هرقل عظيم الروم معروفة وهي مدونة في كتب الصحاح، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } آل عمران:64.
... فاعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الحجة على هرقل ملك الروم، هو قيام للحجة على أمته ورعيته وجنده . ورد الحجة وجحودها من قبل ملكهم مبرر كاف لقتال كل من ينضوي تحت سلطانه من بني الأصفر وغيرهم.
(1/43)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " مسلم.
... فواضح من الحديث أن رسول - صلى الله عليه وسلم - ، كان يكتفي لقيام الحجة على أمة من الأمم بأن يوجه كتبه ورسائله إلى ملوك ورؤساء تلك الأمم دون أفراد رعاياهم بأعيانهم.
... لذلك أقول: رد الحجة ونذارة الرسل من قبل زعماء الكفار ورؤسائهم مبرر كاف لقتالهم وقتال جندهم وأقوامهم الذين هم تحت سلطانهم ـ كما قاتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل الروم وغيرهم ـ على أنهم كفار رادون لدعوة الرسل، وهم في الآخرة في نار جهنم خالدين فيها أبدا، وكذلك على العموم لا التعيين [(1)
__________
(1) 49لكن لو حصل أن أحداً من المسلمين شهد لمعين من قتلى الكفار أنه كافر ـ بناء على ظاهره الراجح له ـ وهو يوم القيامة في النار جهنم خالداً فيها أبداً، وكان هذا المعين في الحقيقة غير ذلك وهو ممن يشملهم العذر.
أقول:لو حصل مثل ذلك، فهذا النوع من الخطأ يعذر صاحبه، ولا يصح حمله على حديث " المتألي على الله" لأن ظاهر هذا المعين أنه كافر وهو يقاتل في صف الكفار ضد المسلمين. ثم من ناحية فنحن مأمورون شرعاً أن نبشر قتلى الكفار وموتاهم بالنار.
كما في الحديث الصحيح:" حيثما مررت بقبر كافر فابشره بالنار" .( سلسة الأحاديث الصحيحية ). فلو فعلنا، وكان المبشر في الحقيقة ليس من أهل جهنم وهو ممن يشملهم العذر، فنحن معذورون لورود النص، ولامتثالنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ثم أن مجرد تبشيرنا له بالنار ـ وهو في علم الله ليس من أهل النار ـ لا يستلزم دخوله النار؛ لأن الحكم أولاً وآخراً لله تعالى وحده. والمسألة قد أوفيناها بحثاً في كتابنا " قواعد في التكفير" فانظره.
(1/44)
] لاحتمال وجود بعض الأفراد الذين لم تصلهم دعوة الرسل، وقد سيقوا للقتال وهم يجهلون حقيقة الأسباب التي لأجلها يقاتلون المسلمين. فمثل هؤلاء رغم أنهم يقاتلون على أنهم كفار إلا أنهم يوم القيامة يعتبرون من أهل الفترة الذين يحتجون بالجهل لعدم بلوغ نذارة الرسل إليهم، حيث يجري اختبار لهم في عرصات يوم القيامة كما جاء في حديث الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة، وهم: الأصم، والأحمق، والهرم، ورجل مات في فترة.
لكن مما ينبغي الانتباه له هنا، هو أنه لا يجوز تعيين أحد بعينه على أنه من أهل الفترة المعذورين الذين لم تصلهم نذارة الرسل، ولم تقم عليهم حجج الله تعالى. فهذا مالا علم لنا به ولا إحاطة، وهو من الأمور المجهولة ـ بالنسبة لنا ـ التي يفوض أمرها إلى الله - سبحانه وتعالى - ، ولا ينبغي لمؤمن الخوض فيما ليس من
خصوصياته، ولم يُحط به علماً.
... وكذلك لاحتمال وجود من بلغته نذارة الرسل، فآمن وصدق، لكن كان من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، فأكره على الخروج لمقاتلة المسلمين ومثل هذا يقاتل لظاهره.
(1/45)
... كما في حديث الذي يرويه ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس ابن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: افد نفسك وابن أخيك عقيل ابن أبي طالب ونوفل بن حارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال:" الله أعلم بإسلامك إن تكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك "[(1)
__________
(1) 50 أردت من الحديث الاستدلال على اعتبار الظاهر في القتال، وليس على اعتبار أن " العباس" من المكرهين المعذورين، فالعباس لم يكن من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً، لذلك عندما قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولكن القوم استكرهوني " لم يعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ للإكراه شروطه، منها: أن لا يستطيع النفاذ بنفسه من سلطان الكفار قبل أن يساق مكرها لقتال المسلمين، والعباس كان ممن يستطيعون الهجرة والنفاذ من سلطان كفار قريش قبل أن يكره على قتال المسلمين في بدر.
والله تعالى أنزل في الذين قتلوا منهم في بدر آيات عدة، يبطل فيها عذرهم بالاستضعاف، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء:97.
جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه أن ناساً من المسلمين كانوا ?
? مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، فأنزل الله تعالى: { إن الذين توافهم الملائكة ظالمي أنفسهم } .
وقال تعالى فيهم أيضاً في سورة النحل: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } النحل:28، 29.
روى ابن جرير الطبري بسنده عن عكرمة، قال: كان ناس بمكة أقروا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرهاً إلى بدر، فقُتل بعضهم، فأنزل الله فيهم { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } . قلت: قول الله تعالى: { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } فيه دلالة على أنهم قتلوا كفاراً، لأن الخلود في نار جهنم من شأن من يموت كافراً وليس من شأن من يموت مسلماًً، والله تعالى أعلم .
(1/46)
]. فاعتبر الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهره، وهو وقوفه في صف الكفار ضد المسلمين، لذلك عامله معاملة بقية الأسرى الكفار وأمره بالفداء رغم
ادعائه أنه مسلم.
ولكن ذاك المكره المشار إليه آنفاً، لو قتل فهو يبعث على نيته. كما في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " العجب أن ناساً من أمتي يؤمُّون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم " فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس؟ قال:" نعم فيهم المستصبر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".
ومن حديث أم سلمة: فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال:" يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ".
... قال ابن حجر في الفتح 13/61: والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب والعقاب، بل يجازى كل أحد بعمله على حسب نيته.
... ـ خلاصة القول: أن الكافر الجاهل المعذور بالجهل الذي لم تبلغه نذارة الرسل .. رغم حكمنا عليه بالكفر، وتسميتنا له بالكافر إلا أن ذلك لا يستلزم منا أن نجزم له بالعذاب يوم القيامة .. كما لا يعني أن نبادئه ـ في الحياة الدنيا ـ بالقتال أو بأي نوع من أنواع الاعتداء .. قبل أن تبلغه نذارة الرسل .. والله تعالى أعلم.
... ـ صفة الكافر الجاهل الذي يُعذر بالجهل.
... يتصف الكافر الجاهل الذي يُعذر بالجهل بثلاث صفات، إن انتقصت واحدة منهن، رُفع عنه العذر بالجهل، وهي:
... أولاً: أن يكون جهله من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليه، ومن كان كذلك فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه حجة الرسل وتصله نذارتهم.
... لقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء:15.
(1/47)
... قال الشوكاني في كتابه فتح القدير: ذكر أنه لا يُعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ا- هـ.
... وقال ابن كثير في التفسير: قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاًً } إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يُعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ا- هـ.
... وقال ابن الجوزي في زاد المسير { حتى نبعث رسولاً } أي حتى نُبين ما به نُعذب، وما من أجله نُدخله الجنة.
... قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلاً، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يُقطع عليه بالنار .. ا- هـ.
... وقال البغوي في التفسير: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ، إقامة للحجة وقطعاً للعذر، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل ا- هـ.
... وقال الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله جل وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار [(1)]ا- هـ.
... وقال ابن حزم: قال الله - عز وجل - : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاًً } فصح أنه لا عذاب على الكافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. [(2)]. وغيرهم كثير من أهل العلم الذين يقررون أن لا عذاب أحد إلا بعد بلوغ نذارة الرسل .. ومقابلتها بالرد والإعراض، والجحود.
__________
(1) أضواء البيان: 3/471.
(2) الأحكام: 3/114.
(1/48)
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } الزمر:71.
... وقال تعالى: { قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } غافر:50. ... وقال تعالى: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } الملك:8-9.
فدلت الآية أن كل من يدخل النار من الكفار فقد أقيمت عليه حجة الرسل وبلغته نذارة الرسل من قبل .. وقد تقدم ذكر أقوال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآيات.
... وقال تعالى: { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } الأنعام:131.
قال ابن جرير في التفسير: { بظلم } أي بشرك من أشرك، وكفر من كفر من أهلها { وأهلها غافلون } يقول: لم يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلاً تنبههم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، فيقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير[(1)].
... قال ابن حزم: فنص الله تعالى على أن النذارة إنما تلزم من بلغته وأنه تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل.
__________
(1) 53 جامع البيان:8/37.
(1/49)
... فصح بهذا أن من لم تبلغه الدعوة إما لانقزاح مكانه وإما لقصر مدته إثر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لا عذاب عليه ولا يلزمه شيء، وهذا قول جمهور أصحابنا[(1)].
... وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفسي
محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".
... مفهوم الحديث أن من مات ولم يسمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا بدعوته، فهو ليس من أصحاب النار، حيث له شأن آخر يوم القيامة، كما جاء في حديث صاحب الفترة الذي يقول:" ربي ما أتاني لك رسول ". فيرسل له الله تعالى أن ادخل النار فإن دخلها كانت بردً وسلاماً، وإن لم يدخلها سحب إليها.. كما تقدم معنا في الحديث الذي رواه أسود بن سريع عن الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة.
... ثانياً: أن يكون جهله بنذارة الرسل عن عجزٍ لا يمكن له دفعه .. وهذا يلزمه بأن لا يقصر في بذل جهد يستطيعه لمعرفة دعوة الرسل وما جاءوا به، أما إن كان جهله بنذارة الرسل عن عجز لا يمكن دفعه فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة التي ترفع عنه العجز فيما قد جهل فيه.
... أما إن كان جهله بدعوة الرسل ونذارتهم ناتج عن تقصير منه، وعن سبب هو يستطيع دفعه وتفاديه، لكنه شحاً بالدنيا وملذاتها لا يكلف نفسه هذا الجهد، فمثل هذا لا يعذر بجهله لنذارة الرسل، وهو مثله مثل من بلغته النذارة فجحدها .. وآثر الركون إلى الدنيا عليها.
... قال تعالى: { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } البقرة: 233.
... وقال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } البقرة:286.
... وقال تعالى: { لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } الأعراف:42.
__________
(1) 54 الأصول والفروع ، ص 131.
(1/50)
وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } التغابن:16. ... وقال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } الطلاق:7.
فمن شروط التكليف ـ أيَّاً كان هذا التكليف ـ الاستطاعة وانتفاء العجز، فإن انتفت الاستطاعة وتحقق العجز رُفع التكليف بدلالة النصوص، واتفاق جميع أهل العلم.
قال ابن حزم: من بلغه أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى أشياء ذكر أن ربه تعالى أمره بها، فواجب عليه حيث ما كان البحث عما دعا إليه. فإذا أخبره مخبر بأنه - عليه السلام - أخبر بأنه رسول لزمه الإقرار، فإن لم يفعل فقد حقت عليه كلمة العذاب ولا عذر بشيء من أشغال الدنيا لمن بلغه ذلك في اشتغاله عن البحث[(1)].
... وقال ابن القيم: وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً: أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه وعلى طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راضٍ بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه و قدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض فتأمل هذا الموضع[(2)].
__________
(1) 55 الأصول والفروع: ص 131و 132.
(2) 56طريق الهجرتين: ص 412.
(1/51)
... ثالثاً: أن لا يتكلف ما ليس له به علم ولا سلطان أو برهان؛ كأن ينكر أن يكون للوجود خالقاً أو يبتدع آلهة تعبد من دون الله، أو ينكر البعث، أو يقول إن الملائكة بنات الله وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالجاهل المتوقف الباحث عن الحق.
... إذ أن الجاهل ـ صاحب الفترة ـ من شأنه الاجتهاد والبحث عن الحق، وكل ما يمكن أن يقوم به أن لا يأتي بالتوحيد على الوجه المطلوب.
... كما جاء في السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد فارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة، وقد بادى قومه بعيب ما هم عليه. وكان يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته[(1)].
وكذلك ما حصل لسلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وقصته مشهورة في كتب السنن والسير، كيف كان قبل إسلامه يرفض المجوسية وعبادة النار، وكان يسعى جهد وسعه لمعرفة الدين الحق، فيسأل عن أعلم أهل الأرض ليشد إليه الرحال حتى يتعلم منه ويصيب منه الحق، إلى أن وصل به الترحال إلى الاهتداء إلى رسولنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخل دين الإسلام.
... هذا الذي يليق بالجاهل ـ صاحب الفترة ـ أن يفعله، أما أن يبتدع آلهة مع الله وأموراً ليس له فيها علم ولا برهان .. ولا تناسب مقامه كجاهل .. فمثل هذا على الراجح أنه سيسأل عن تكلفه وابتداعه وسيُحاسب عليه .. والله تعالى أعلم.
قال تعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ } الزخرف:19.
__________
(1) 57 انظر مختصر السيرة، للشيخ عبد الله بن عبد الوهاب، باب أهل الفترة.
(1/52)
وقال تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } الجاثية:24.
وقال تعالى: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } المطففين:12.
وقال تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } المؤمنون:117.
وفي قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ، قال ابن الوزير اليماني: في هذه الآية وما في معناها في السمع حجة على أن ما لم يبينه الله تعالى سمعاً لم يعذب المخطىء فيه إن شاء الله تعالى. لكن يخشى على من خاض فيما لم يبينه الله أن يعذب على الابتداع [(1)].
وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" القضاة الثلاثة. اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار "[(2)].
قلت: القاضي الجاهل الذي يقضي للناس عن جهل هو في النار، لأنه تكلف مالا ينبغي له، وكان مقامه المناسب له يقتضي منه أن يحجم عن القضاء بين الناس فيما ليس له به علم؛ لأنه جاهل وجاهل الشيء لا يمكن أن يعطيه.
وإذا كان هذا هو حال من يتكلف القضاء ـ عن جهل ـ بين الناس، فما يكون القول فيمن يتكلف الحكم على الغيب ـ من دون علم ولا برهان ـ ويحكم أن لله شركاء وبنات وأن لا بعث ولا نشور، وأن الحياة مادة ولا موجد للوجود .. وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالجاهل المتوقف والباحث عن الحق من ذوي الفترات ؟!!
__________
(1) 58 إيثار الحق على الخلق، ص 106.
(2) 59 صحيح سنن ابن ماجه: 1873.
(1/53)
فهذا قد جمع في حكمه وقوله على الله بغير علم بين الجهل والجور وهو لا شك أنه أشد جرماً وإثماً، وأولى بالحساب وبالنار، ممن يقضي في شؤون الناس عن جهل .. والله تعالى أعلم.
وفي صحيح مسلم، عن جندب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث:" أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك ".
تأمل كيف أن هذا الرجل تكلف ما ليس له به علم، وخاض فيما لا ينبغي له الخوض فيه، فحلف بالله أن الله لا يغفر لفلان ـ و كأنه اطلع على علم الله به، وعرف ما في نفسه - سبحانه وتعالى - !! ـ فأحبط الله عمله، وكان ذلك سبباً كافياً لخسران دنياه وآخرته ..!
* * *
ـ أهل الفترة:
أهل الفترة قسمان: قسم تأتي فترتهم من جهة انقطاع الرسل، وطول الفترة بينهم وبين من أرسل إلى من قبلهم، ولكن بلغتهم نذارة الرسل، وهؤلاء ـ رغم انقطاع الرسل عنهم ـ لا يعذرون بالجهل، وهم محجوجون بنذارة الرسل الذين أرسلوا إلى من قبلهم.
وقسم آخر تأتي فترتهم من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومن جهة انقطاع النذارة عنهم .. وهؤلاء هم الذين يعذرون بالجهل، وإن لم يكن بينهم وبين إرسال الرسل فترة طويلة.
فالعبرة في اعتبار أهل الفترة المعذورين عدم بلوغ نذارة الرسل وليس طول الفترة بين الرسول والرسول، أو بينهم وبين إرسال الرسول[(1)
__________
(1) 60ذكر محمد بن سعد في كتاب " الطبقات " عن ابن عباس قال كان بين ميلاد عيسى والنبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } . وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة، قاله مقاتل والضحاك أيضاً. انظر تفسير القرطبي: 6/121.
قلت: الفترة التي بيننا وبين بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تزيد عن ألف وأربعمائة سنة، فلو كانت العبرة لاعتبار أهل الفترة المعذورين، بعدم رؤية الرسول أو بطول فترة انقطاع الرسل، لصح أن يعتبر أهل زماننا " أهل فترة " لطول الفترة بيننا وبين بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن بطلان ذلك بالنقل والعقل دل على صحة الاعتبار الآخر لأهل الفترة المعذورين .. والله تعالى أعلم.
(1/54)
].
ـ أهل الفترة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
لاشك أن من كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعتبر من أهل الفترة، بدليل قوله
تعالى: { ُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } السجدة: 3.
والمراد بالقوم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله ابن عباس ومقاتل[(1)].
وقال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } المائدة:19.
قال القرطبي في قوله" على فترة من الرسل " أي سكون. وقيل: على انقطاع ما بين النبيين ا- هـ.
لكن هل كانوا من أهل الفترة المعذورين لعدم بلوغ نذارة الرسل إليهم، أم أنهم كانوا من أهل الفترة من جهة انقطاع الرسل عنهم مع بلوغ النذارة إليهم ؟
أقول: الراجح الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، أن فترتهم كنت من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة انقطاع وانعدام نذارة الرسل.
قال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } آل عمران:103.
في قوله: { وكنتم على شفا حفرة من النار } قال ابن عباس: أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت، { فأنقذكم منها }
أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - [(2)].
__________
(1) 61 تفسير القرطبي: 14/85.
(2) 62روح المعاني للألوسي:4/20.
(1/55)
وقال ابن جرير الطبري: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم بالإيمان الذي هداكم له.
وعن السُّدي: كنتم على طرف النار من مات منكم أوبق في النار، فبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - فاستنقذكم به من تلك الحفرة[(1)].
قال الشافعي رحمه الله: فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، أهل كفر في تفرقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور: الكفر بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، لا إله غيره، وسبحانه وبحمده رب كل شيء وخالقه، من حي منهم فكما وصف حاله حياً: عاملاً قائلاً بسخط ربه، مزداداً من معصيته، ومن مات فكما وصف قوله وعمله: صار إلى عذابه[(2)] .
قال ابن كثير: كانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان[(3)].
قلت: كونهم كانوا على الكفر قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن بينهم وبين دخولهم النار سوى الموت، لهو دليل كاف أن نذارة من تقدم من الرسل قد بلغتهم لأنه لا يدخل النار إلا من قامت عليه حجة الرسل كما سبق أن بينا ذلك، وأن فترتهم كانت من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليهم.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" فضَّل الله قريشاً بسبع خصال، فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين، لا يعبد الله إلا قريش، وفضلهم بأنهم نصرهم يوم الفيل وهم مشركون .."[(4)].
__________
(1) 63جامع البيان: 4/36، 38.
(2) 64الرسالة، مكتب دار التراث، ص 11ـ 12.
(3) 65التفسير: 1/397.
(4) 66صحيح الجامع الصغير: 4208.
(1/56)
دل أن قريشاً كانت قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشرك المستوجب للنار، كما دل أن الفترة التي ظهر فيها الإسلام في مكة ـ وهي الفترة المكية ـ لم يكن على وجه الأرض من يعبد الله على الوجه الصحيح، غير قريش .. ممن آمن منهم واتبع النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الحديث القدسي كما في صحيح مسلم:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ..".
والبقايا من أهل الكتاب هم الذين كانوا على التوحيد، وحافظوا على دينهم الحق ولم ينحرفوا مع المنحرفين عن جادة التوحيد. وقوله:" فمقتهم عربهم وعجمهم "، دليل أنهم كانوا مشركين الشرك الذي يستوجب المقت والعذاب .. وليسوا من أهل الفترة المعذورين.
وفي الصحيح أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟
قال:" لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
قلت: كون ذلك لا ينفع ابن جدعان، لأنه لم يقل في حياته قط:" رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين "، دل على أمرين: أنه وقومه ليسوا من أهل الفترة المعذورين .. وإن كانوا من أهل الفترة من جهة انقطاع الرسل عنهم.
ثانياً: أن حجة ونذارة الرسل قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - ـ وبخاصة إبراهيم - عليه السلام - ـ قد بلغته؛ لأن هذه الكلمات التي ألزمه بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلل عذابه بسبب أنه لم يقلها لا يمكن لابن جدعان أن يعرفها إلا عن طريق الرسل.
ولما افترض فيه أنه كان ينبغي أن يقول تلك الكلمات وأمثالها .. لكنه أبى وأعرض واستكبر .. فحق عليه العذاب بسبب ذلك.
(1/57)
وفي الحديث الذي يرويه جابر قال:دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً نخلاً لبني النجار، فسمع أصوات رجال من بني النجار ماتوا في الجاهلية يُعذبون في قبورهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزعاً، فأمر أصحابه أن تعوذوا من عذاب القبر.
ومن رواية أنس - رضي الله عنه - مر بنخل لبني النجار، فسمع صوتاً فقال:ما هذا قالوا:قبر رجل دفن في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لولا أن تدافنوا لدعوت الله - عز وجل - أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني"[(1)].
قال الشيخ ناصر: من فوائد الحديث أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام معذبون بشركهم وكفرهم، وذلك يدل على أنهم ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة نبي، خلافاً لما يظنه بعض المتأخرين، إذ لو كانوا كذلك لم يستحقوا العذاب لقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [(2)].
وكذلك الحديث الذي يرويه أنس، أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال:" في النار " فلما قفا دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار"[(3)].
فكون والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ووالد الصحابي الذي سأله عن مصير والده هما في النار .. وكانا قد ماتا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. دل أن نذارة الأنبياء والرسل قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام كانت قد بلغتهم .. وأنهم ليسوا من أهل الفترة المعذورين.
قال النووي في الشرح: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين . وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم[(4)].
__________
(1) 67سلسلة الأحاديث الصحيحة: 158.
(2) 68 السلسلة الصحيحة:1/247.
(3) 69 صحيح مسلم.
(4) 70شرح مسلم: 7/45.
(1/58)
قلت: ومما يدل على أن دعوة إبراهيم - عليه السلام - كانت قد بلغتهم قول زيد بن عمرو بن نفيل لقريش قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته.
قلت: وهذا الذي رجحناه من أن الكفار قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت فترتهم من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة انقطاع نذارة الرسل وأن كفرهم مستوجب للنار والعذاب، حكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي
في شرحه لصحيح مسلم[(1)].
والحمد لله الذي تتم بفضله ونعمته الطيبات الصالحات.
ـ تنبيه:
قولنا أن من كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار لا يعتبرون من أهل الفترة المعذورين، وأنهم محجوجون بنذارة من تقدم من الرسل.
أقول: قولنا هذا لا يستلزم انتفاء وجود من يعتبر من أهل الفترة المعذورين من جهة عدم وصول نذارة الرسل إليهم، قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنحن نسلم على العموم لا التعيين، أن كل من بذل جهده المستطاع لمعرفة دعوة الرسل، لكنه لم يتمكن من ذلك، فهو معذور بالجهل، ويعتبر من أهل الفترة المعذورين، لكن تعيين أشخاص بأعيانهم ـ من دون نص ـ على أنهم من أهل الفترة المعذورين، لا ينبغي لأحد أن يخوض فيه، فالله وحده أعلم بمن قامت عليه حجة الرسل ممن لم تقم عليه من أهل الفترات.
والسنة قد دلت على وجود أفراد من أهل الفترة المعذورين قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وقد تجنبوا عبادة الأوثان .. وكانوا حريصين على معرفة الحق .. منهم ورقة بن نوفل.
__________
(1) 71 أنظر أضواء البيان: 2/338.
(1/59)
كما في الحديث الذي ترويه عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،قال:" لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني قد رأيت له جنة وجنتين "[(1)] .
ومنهم قس بن ساعدة من إياد بن معد، كان حكيم العرب، وكان مقراً بالبعث، وهو الذي يقول:" من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت ". وقد وفد من إياد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عنه، فقالوا: هلك. فقال: " رحمه الله "[(2)].
ـ أهل الفترة بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
قد يرد السؤال: هل يوجد بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - من له حكم أهل الفترات من حيث العذر وغير ذلك ..؟
أقول: ذكرت سابقاً أن العلة التي لأجلها يعذر أهل الفترة بالجهل، هي عدم تمكنهم من معرفة دعوة الرسل وعدم بلوغها إليهم.
وعليه أقول: أي إنسان توفرت فيه هذه العلة، بحيث لا يستطيع ـ رغم بذل الجهد المستطاع ـ معرفة دعوة الرسل، ولم تبلغه نذارتهم، فهو معذور بالجهل، وله حكم أهل الفترة المعذورين بالفترة والجهل، سواء كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعد بعثته، ولا عبرة لزمن دون زمن في حال وجدت هذه العلة.
ثم إذا كان أهل الفترة قبل النبوة وبعدها، كلاهما لا يستطيعان ـ من غير الحجة الرسالية ـ دفع ما هم فيه من جهل وعجز، فكيف يعذر من كان قبل النبوة والبعثة ولا يعذر من كان بعدها .. والعلة بينهما مشتركة وواحدة .. وهي الجهل والعجز ..؟!
مع ما كنا قد بيناه بأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .. وأن العجز يرفع التكليف .. في أي زمان وأي مكان.
ومن يفرق ـ من حيث وجوب العذر ـ بين أهل الفترة قبل النبوة وأهل الفترة بعد النبوة والبعثة، مطالب بالدليل وأنَّى ..!
ـ حالات لا ينفع معها العذر بالجهل.
__________
(1) 72 صحيح الجامع الصغير:7320.
(2) 73 مختصر السيرة للشيخ عبد الله بن محمد عبد الوهاب، باب أهل الفترة.
(1/60)
هناك حالات لا ينفع معها العذر بالجهل، لو كان جهل المرء بسببها أو بسبب واحدة منها، من هذه الحالات:
... 1- الإعراض عن طلب العلم الشرعي، وعن النظر في آيات الله - عز وجل - التي تدل على وحدانيته وصدق ما جاء به الرسل.
فلا هو يأتي العلم .. ولا هو يسمح للعلم أن يأتيه .. فمن كان جهله بنذارة الرسل بسبب إعراضه هذا، فجهله لا ينفعه .. ولا يتشفع له .. ولا يمنع من عذابه .. وهو محاسب ومسؤول عن تقصيره وتفريطه فيما يجب عليه.
كما قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } الأنعام: 157. وقوله { صدف عنها } أي أعرض عنها. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جرير.
قال ابن جرير في التفسير: سيثيب الله الذي يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ماجاء به من عند ربهم سوء العذاب[(1)].
وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً } الكهف:57.
قال ابن جرير: يقول عز ذكره، وأي الناس أوضع للإعراض والصد في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه، فدله بها على دليل سبيل الرشاد، وهداه بها إلى طريق النجاة، فأعرض عن آياته وأدلته في استدلاله بها الوصول على الخلاص من الهلاك[(2)].
وقال ابن كثير: يقول تعالى وأي عباد الله أظلم ممن ذُكر بآيات الله فأعرض عنها، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً[(3)].
__________
(1) 74 جامع البيان: 8/ 95.
(2) 75 جامع البيان: 15/268.
(3) 76 التفسير: 3/96.
(1/61)
وقال تعالى: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً. خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } طه:101.
وقال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } طه:124- 126.
وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } السجدة:22.
وغيرها كثير من الآيات القرآنية الدالة على أن الجاهل بسبب إعراضه عن دين الله وآياته لا يعذر بالجهل، بل هو من أشد الناس ظلماً وكفراً، ويجزى يوم القيامة سوء العذاب.
وفي الحديث، عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد. قال: فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ألا أخبركم عن النفر الثلاث؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " متفق عليه.
فهذا الرجل أعرض عن مجالسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطلب العلم منه ـ رغم توفره له ـ فاستحق من الله أن يعرض عنه، ومن أعرض الله عنه أنى له أن يُعذر بالجهل.
(1/62)
ومن تأمل حال أكثر المسلمين اليوم أدرك أن سبب ما يعانونه من جهل بالشريعة وعلومها هو إعراضهم عن طلب العلم وعن مجالس العلم وحلقاته التي تعقد في المساجد وغيرها، وإيثارهم لمجالس اللهو واللغو عليها.
وهؤلاء لو وقعوا في ما يناقض الإيمان ـ بسبب الإعراض عن العلم ـ لا يعذرون بالجهل، لأن جهلهم من النوع الذي يمكن دفعه وتفاديه بأقل جهد لو أرادوا وقصدوا.
ومن جملة ما اعتبره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ من نواقص الإسلام، الإعراض عن الدين، وتعلمه والعمل به، فقال: اعلم أن من أعظم نواقص الإسلام عشرة، منها الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [(1)].
وقال ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها
فهذا نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل[(2)].
... 2- من كان جهله بنذارة الرسل ـ رغم توافرها وسهولة طلبها ـ بسبب تقليده للآباء وطاعته لأئمة الكفر والضلال، فمثل هذا لا يعذر بالجهل، وحجة التقليد والاتباع داحضة ومردودة على صاحبها.
قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } الأحزاب:67-68.
__________
(1) 77 الرسائل الشخصية: ص 213.
(2) طريق الهجرتين، ص 414.
(1/63)
وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سبأ:33.
وقال تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } البقرة:166- 167.
... قال ابن القيم رحمه الله: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم، يقولون: إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على أسوة بهم، ومع هذا فهم تاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب. وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.
(1/64)
... فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الاتباع يقولون: { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُون َ } لأعراف:38. وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } غافر:48.
... فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب، ولم يغن عنهم تقليدهم شيئاً.
... وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً. وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم[(1)]ا- هـ .
... وفي الحديث الذي يرويه مسلم:" أهل النار خمسة ـ منهم ـ: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبغون أهلاً ولا مالاً ..". أي لا يسعون في تحصيل منفعة دينية ولا دنيوية[(2)]. وقوله " لا زير له " أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي [(3)].
__________
(1) 79 طريق الهجرتين: 411- 412.
(2) 80 قاله الشيخ ناصر، هامش مختصر صحيح مسلم، ص 524.
(3) 81 قاله النووي في الشرح: 17/199.
(1/65)
... 3- كذلك من كان جهله بنذارة الرسل بسبب ظنه أنه على الحق والصواب .. فركن إلى ظنه واعتقاده وترك طلب العلم فهذا لا يعذر بالجهل ـ لو وقع بسببه في الكفر ـ وظنه أنه على هدى وصواب لا ينفعه شيئاً ولا يرد عنه عذاباً ولا يبرر له جهلاً.
قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُون َ } البقرة:11-12.
قال الألوسي في تفسيره: وما يقال من أنه لا ذمَّ على من أفسد ولم يعلم، وإنما الذم على من أفسد عن علم يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب، بل ربما يقال إنه أسوأ حالاً من غيره. وفيه مزيد تسليه له - صلى الله عليه وسلم - ، إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته.
... وفي التأويلات لعلم الهدى: إن هذه الآية حجة على المعتزلة، في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به، وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة، فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم، فلو كان حقيقة العلم شرطاً للتكليف ولا علم لهم به لم يكن فعلهم إفساداً، فحيث كان إفساداً دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة، فيكون حجة عليهم [(1)].
... وقال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } الكهف:105.
__________
(1) 82 روح المعاني: 1/154.
(1/66)
... قال ابن جرير: يقول هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلاله، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقص إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة[(1)].
... وقال الشنقيطي: هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة.
ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد في الأدلة التي هي كالشمس،
فلذلك كان غير معذور[(2)].
... أما المسلم المخطىء في اجتهاده وتأويله ـ وكان تأويله مستساغاً شرعاً وعقلاً ولغة ـ يستثنى من هذه القاعدة، وهو معذور، بل وله أجر إن كان خطؤه ناتجاً عن اجتهاد.
... كما في الحديث الصحيح:" إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". فهو عندما أخطأ لم يكن يقصد الخطأ ولا يريده، وكل ظنه أنه قد أصاب الحق الذي يرضاه الله ورسوله، لذلك كان معذوراً ومأجوراً على اجتهاده.
__________
(1) 83 جامع البيان: 16\ 34 – 35.
(2) 84 أضواء البيان:2/ 298.
(1/67)
... ثم لو حملت هذه الآية القرآنية على المسلمين للزم ذلك أن نكفر أئمة المسلمين والصحابة والتابعين لهم بإحسان، لأنه ـ يقيناً ـ كل ما عدا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطئ ويصيب، يؤخذ منه ويرد عليه، فعلم من ديننا بالضرورة أنه لا يجوز حمل هذه الآيات على إطلاقها وعلى المسلمين وعلمائهم .. ممن يرجون الله واليوم الآخر.
... لكن الذي يمكن قوله أن من كان اجتهاده أو تأويله ناتجاً عن هوى، وهو غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً ولا لغة،كتأويلات القرامطة، والباطنية، وغلاة الصوفية، والخوارج وغيرهم من فرق الضلال والبدع الذين يظنون في بدعهم التي ابتدعوها في الدين صلاحاً وخيراً، وأنهم بذلك مصلحون وهم في الحقيقة مفسدون ضالون.
... أقول: مثل هؤلاء وإن تسموا باسم الإسلام، فإن الآيات القرآنية الآنفة الذكر تشملهم وتطالهم كل بحسب فساده وضلاله وانحرافه.
... وفي قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } البقرة:11.
... قال سلمان الفارسي:" لم يجئ أهل هذه الآية بعد ".
قال الشكواني في التفسير: يحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يديهن أهلها بوضع السيف في المسلمين، كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة [(1)]. والله تعالى أعلم.
... 4- وكذلك من كان جهله بنذارة الرسل بسبب عناده وتكبره، فهو لا يؤمن ولا ينقاد للحق ـ رغم ظهوره له ـ كبراً وترفعاً وأنفة .. ومن كان كذلك لا يعذر بالجهل، وهو من أشد الناس كفراً وطغياناً ..!
__________
(1) 85فتح القدير:1/ 43.
(1/68)
قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } الأنعام:111. فهم يجهلون لكن لعنادهم وتكبرهم في رد آيات الله البيانات لا يعذرون بالجهل .. ولهم عذاب أليم.
... وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم ٍ } لقمان:7. فهو وإن كان يسمعها السمع الآلي إلا أنه لاستكباره عن الحق فهو لا يسمعها الاستماع الذي يؤدي به الإيمان ومتابعة الحق .. فهو مثله في ذلك كمن لم يسمعها أصلاً.
... قال ابن جرير: { ولَّى مستكبراً } يقول: أدبر عنها، واستكبر استكباراً،
وأعرض عن سماع الحق والإجابة عنه { كأنه لم يسمعها } يقول: ثقلاً، فلا
يطيق من أجله سماعه[(1)].
... 5- كذلك من كان غافلاً عن آيات الله تعالى منشغلاً عنها وعن طلب العلم الشرعي الضروري ..بلهو الحديث وبالترهات وسفاسف الأمور، مؤثراً للدنيا ومتاعها وزخرفها على الآخرة ونعيمها .. أقول: من كان جاهلاً بنذارة الرسل بسبب ذلك لا يُعذر بالجهل، وهو في الآخرة من الخاسرين.
... قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ .أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } يونس:7-8.
__________
(1) جامع البيان: 21/64.
(1/69)
... قال الحسن البصري: والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاءً على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر[(1)].
قال ابن جرير في التفسير 11/87:قوله { والذين هم عن آياتنا غافلون } عن آياتنا وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له، { غافلون } معرضون عنها لاهون لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه فيعلمون بها حقيقة ما دلتهم عليه، ويعرفون بها بطول ما هم عليه مقيمون { أولئك مأواهم النار } هؤلاء الذين هذه صفتهم { مأواهم } مصيرهم إلى نار جهنم في الآخرة ا- هـ.
... وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } لقمان:6.
... روى ابن جرير بسنده، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن ولا أثمانهم، وفيهن نزلت هذه الآية { من الناس من يشتري لهو الحديث } . قال عبد الله بن مسعود: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات.
وعن ابن عباس قال: الغناء وأشباهه، وقال: هو الغناء والاستماع له.
قال ابن جرير الطبري: عني به ما كان من الحديث ملهياً عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله عم بقوله { لهو الحديث } ولم يخصص بعضاً دون بعض، والغناء والشرك من ذلك.
... وقوله تعالى: { ليضل عن سبيل الله } يقول: ليصد ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرب إليه من قراءة قرآن وذكر الله[(2)].
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/422.
(2) 88جامع البيان: 21/ 60- 63.
(1/70)
... وقال تعالى: { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } إبراهيم:3.
... وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } التوبة:24.
... ولا شك أن من حبّ الله ورسوله، الائتمار بما أمر الله ورسوله والانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله، وهذا لا يتحقق إلا بعد السعي في طلب العلم
الشرعي، والتفقه في دين الله - عز وجل - .
وكذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } المنافقون:9.
أي من يتلهى بزينة الحياة الدنيا ـ المال والبنون ـ عن ذكر الله وتلاوة القرآن وتدبر آياته ومعانيه، والتفقه في الدين، فهو من الخاسرين المحاسبين على تقصيرهم، وليس من المعذورين بجهلهم لو جهلوا .. أو وقعوا بالجهل بسبب ذلك.
... وعليه نقول: فمن آثر التجارة والأموال والمساكن، وكان اشتغاله بالدنيا سبباً صارفاً عن عبادة الله، وطلب العلم الشرعي الضروري، لا شك أنه ممن أحب الدنيا والعمل لها أكثر من حبه لله ورسوله، لأن من علامة حب الشيء الاشتغال بما يقرب إليه ويزيد منه.
(1/71)
... وإذا كان هذا حال من ينشغل بالمباحات عن طلب العلم الشرعي الضروري فما يكون القول فيمن ينشغل بالمحرمات ولهو الحديث عن دين الله والتفقه فيه، كالاستماع إلى الأغاني الماجنة وآلات العزف والطرب ـ كما يسمونها ـ واللعب بالورق والنرد، والاعتكاف على الأفلام والمسلسلات التلفزيونية ـ وما أكثر الناس في هذا الزمان الذي يفضلونها عن مجالس العلم، بل عن الاستماع إلى آية من ذكر الله الحكيم أو حديث من أحاديث النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ـ وغير ذلك من ألعاب اللهو والمتاع والترف التي افتعلها لنا العدو الكافر، ليصرف بها شباب الأمة عن دينها، وعن الجد والعطاء النافع ومعرفة ما يجب عليهم نحو دينهم وأمتهم ..!
... ومما يُستهجن ويُمقت في هذا الشأن أن كثيراً من شباب الأمة ـ بفعل
الدعايات السيئة التي يُروج لها ـ تراهم يعرفون ما خفي من أسماء لاعبي الكرة .. وأسماء المغنيين .. وأسماء أغنياتهم .. وأسماء ما ظهر وما بطن من أفلام السوء التي تُنشر على الشاشتين الصغيرة والكبيرة .. بينما في المقابل لا يعرفون شيئاً عن دينهم وما يجب عليهم .. ولا يعرفون شيئاً عن شئون أمتهم، وما تتعرض له من أخطار جسام!!
... ومن كان هذا وصفه لا شك أنه أشد جرماً وإثماً من الذي ينشغل بالمباحات عن دين الله، ومثل هذا أنى له أن يعذر بالجهل .. لو تعذر به، والله تعالى أعلم.
... 6- من كان جهله بنذارة الرسل بسبب قساوة قلبه، وماران عليه من آثام وذنوب، حيث تراه لا يستطيع أن يتدبر آيات الله ولا أن يطلب علماً نافعاً ولا حتى أن يذكر الله أو يسمع ذكر الله .. بسبب ما ران على قلبه من غشاوة وظلمة بما كسبت يداه من السيئات والمعاصي والآثام ..!
... وجاهل كهذا لا يعذر بالجهل، وأنى ..؟!
(1/72)
... قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } الزمر:22. ... وقال تعالى: { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الأنعام:43.
... وقال تعالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } المطففين:14.
* * *
... ـ الحُجَّة.
... الحجة: هي الدليل أو البرهان الذي به يندفع العجز أو الجهل، وتُحسم به الأعذار التي تمنع من نزول العذاب والوعيد بصاحبها.
... ويمكن القول كذلك: أن الحجة هي التي تحقق القدرة عند المخالف على دفع الجهل فيما قد خالف فيه من الحق.
... ـ بما تقوم الحجة ؟
... تقوم الحجة على العباد بأمور عدة، وهي:
... 1- القرآن الكريم: هو الحجة المطلقة على العباد، طرف منه بيد الله - عز وجل - ، وطرف آخر بأيدي العباد، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك.
... كما في الحديث:" أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً "[(1)].
... فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة التي تبطل الأعذار، وتوجب على مخالفها ومعاندها عذاب النار.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" القرآن شافعٌ مُشفّعٌ، وماحِلٌ مُصدَّقٌ، من جعله أمامَه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار "[(2)].
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض "[(3)]. من تعلق به نجا ومن تعلق بغيره هلك.
... قال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } الأنعام:19.
__________
(1) 89 صحيح الجامع الصغير : 34.
(2) السلسلة الصحيحة: 2019.
(3) السلسلة الصحيحة: 2024.
(1/73)
... روى ابن جرير بسنده عن قتادة، في قوله تعالى: { لأنذركم به ومن بلغ } أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" يا أيها الناس بلغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بلغه آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه ".
وعن محمد بن كعب القرظي قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع، وهو نذير.
... وعن ابن عباس قوله { لأنذركم به } يعني أهل مكة { ومن بلغ } يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير[(1)].
... قال الشنقيطي في أضواء البيان 2/188: صرح في هذه الآية الكريمة بأنه - صلى الله عليه وسلم - منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائناً من كان، ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه ولم يؤمن فهو في النار، وهو كذلك ا- هـ.
... وفي الحديث في صحيح مسلم وغيره:" القرآن حجة لك أو عليك". فمن تلاه بحق وآمن وعمل به فهو حجة له يوم القيامة يشفع له ويذود عنه، ومن كفر به وأعرض عنه وجفاه، فهو حجة عليه يقوده يوم القيامة إلى نار جهنم وبئس المصير.
... 2- السُّنّة: وهي كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو عمل أو إقرار. فمن بلغته السنة، أو بلغته الحجة بما صح من السنّة فقد بلغته نذارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أقيمت عليه الحجة التي يستحق رافضها وجاحدها العذاب.
... كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
__________
(1) 92جامع البيان: 7/ 162- 163.
(1/74)
... والمراد بالسماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، السماع به وبدعوته على الوجه الصحيح لا المشوه الذي ينفي عنه صفة النبوة[(1)]، ثم لا يؤمن به - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به فهو من أهل النار؛ لأن طاعته واجبة وهي من طاعة الله - عز وجل - ، ومعصيته من معصيته الله - عز وجل - .
... قال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } النساء:80.
ومصداق ذلك في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - :" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم.
... وكذلك التحاكم: فإن التحاكم إلى السنة كالتحاكم إلى القرآن الكريم ورفض واحد منهما رفض للآخر، لأن كلاهما من مشكاة الوحي كما قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } النجم:4-3.
وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الحشر:7.
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء:59.
__________
(1) 93 من سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ـ عن طريق المستشرقين وغيرهم من الحاقدين على الإسلام ـ على غير حقيقته وحقيقة الدعوة التي جاء بها، فمثل هذا السماع لا يعتبر ولا تقوم به حجة.
(1/75)
قال ابن القيم رحمه الله: نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقة وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
... ومنها أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لازمه، ولا سيما التزام بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر[(1)].
... وفي قوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } النساء:65.
... يقول رحمه الله: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح و تنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً، حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض[(2)].
__________
(1) 94أعلام الموقعين: 1/49 -50.
(2) 95 التبيان في أقسام القرآن: ص 270.
(1/76)
وقال تعالى: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } النور:63.
... قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . ... وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } .
... وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره!
... قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وتدري ما الفتنة؟ الكفر. قال الله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل } . فيدعون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي[(1)].
... ومما يدلل أيضاً أن حجة السنة كحجة القرآن قوله - صلى الله عليه وسلم - :" يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله - عز وجل - فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله "[(2)].
__________
(1) 96 عن الصارم المسلول على شاتم الرسول: ص 56.
(2) 97 صحيح سنن ابن ماجه: 12.
(1/77)
... 3- حجة الميثاق: من حجج الله - عز وجل - على عباده التي يحاجهم بها يوم القيامة، حجة الميثاق الذي أخذه عليهم وهم في أصلاب آبائهم، وأشهدهم على أنفسهم على وحدانية الله تعالى وربوبيته، وقطع به أعذارهم، وحذرهم من الغفلة في الدنيا عن هذا الميثاق ومن أن لا يفوا به، أو أن يعتذروا يوم القيامة بتقليد الآباء والأسلاف على الضلال ومقارفة الشرك.
كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } الأعراف:173-174.
... عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بـ " نعمان " ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: { ألست بربكم ؟. قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } [(1)].
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، سلسلة الأحاديث الصحيحة:1623.
(1/78)
... وروى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب، قال: جمعهم يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، وسأرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي، وسأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة ا- هـ.
... قال البغوي في التفسير 2/213: فإن قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق؟
قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصِدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يُسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة ا- هـ.
... وقال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } الحديد:8.
... قال ابن جرير في التفسير وغيره من أهل التأويل: عني بذلك وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صلب آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه.
{ إن كنتم مؤمنين } يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا بالله يوماً من الأيام، فالآن أحرى الأوقات، أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه ودعائه إياكم إلى ما قد تقررت صحته عندكم بالإعلام والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم[(1)].
... وقال تعالى: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } الأنعام:149.
... روى ابن جرير بسنده عن السدي، قال: يعني يوم أخذ منهم الميثاق.
__________
(1) 99 جامع البيان: 27/218.
(1/79)
وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وغيره:" يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: كذبت، قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك، فيؤمر به إلى النار".
فواضح أن هذا " الميثاق " حجة من حجج الله - عز وجل - على العباد يوم القيامة في بطلان ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من الشرك، وتقليد الآباء في الباطل، وبغير حق ..!
لكن هل يترتب عذابهم يوم القيامة على مخالفة حجة الميثاق، قبل ـ ومن دون ـ قيام حجة الرسل عليهم ؟
... أقول: الراجح ـ والله تعالى أعلم ـ أن هذا الميثاق رغم أنه حجة على العباد يحاجون به يوم القيامة، إلا أن مخالفته ـ منفرداً ـ قبل قيام حجة الرسل لا تستوجب العذاب، فالعذاب ـ كما دلت على ذلك النصوص، وكما تقدم بيانه ـ لا يكون إلا بعد قيام الحجة من جهة نذارة الرسل .. ومقابلتها بالرد والجحود. ...
وقوله تعالى لأهون أهل النار عذابا:" قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك فيؤمر به إلى النار".
... لا يفهم منه أن أهون أهل النار عذاباً أمر به، إلى النار لمجرد مخالفته لحجة الميثاق قيل أو من دون قيام حجة الرسل عليه، وبخاصة أن أهون أهل النار عذاباً هو " أبو طالب " كما في صحيح مسلم:" أهون أهل النار عذاباً أبو طالب". ومعلوم لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن أبا طالب قد بلغته نذارة الرسل وحجتهم، وقد أقامها عليه شخص الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، فأبى إلا الموت على الشرك .. ورفض أن يقول " لا إله إلا الله "!
(1/80)
... ثم إذا كان أهون أهل النار عذاباً قد ثبت بالدليل أنه قد بلغته نذارة الرسل وأقيمت عليه الحجة النبوية، فمن باب أولى أن تكون نذارة الرسل قد بلغت من كان أشد منه عذاباً يوم القيامة.
ـ تنبيه:
... لا يصح حمل هذا الميثاق على الفطرة، لحديث ابن عباس المرفوع الدال على أن الميثاق شيء آخر غير الفطرة التي فطر الله عليها العباد، وإن كانت الفطرة في الحقيقة أتت تصديقاً لما جاء في الميثاق من إقرار العباد بوحدانية الله - عز وجل - في ألوهيته وربوبيته.
... قال الشوكاني في الفتح 2/263: المعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفاً على غيره من الصحابة، ولا ملجىء للمصير إلى المجاز ا- هـ.
... 4- حجة الفطرة: وكذلك الفطرة، فهي حجة من حجج الله تعالى على عباده؛ حيث ما من مولود إلا ويولد على الملة وفطرة الإسلام والإيمان بالله - عز وجل - كما يفطر على إلهام التنفس والتقام ثديي أمه منذ اللحظات الأولى من حياته، ثم إن طرأ عليه الشرك والكفر فيما بعد فهو بفعل عوامل التضليل المكتسبة من الآباء والزعماء وغيرهم من أئمة الضلال والشرك.
... قال الله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } الروم:30.
(1/81)
... وفي الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو يهودانه أو ينصرانه أم يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ". ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } .
... قال ابن كثير في التفسير 3/442: يقول تعالى فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، التي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره.
وفي قوله { لا تبديل لخلق الله } قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: أي لدين الله. وقال البخاري: قوله { لا تبديل لخلق الله } : لدين الله، خلق الأولين: دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام ا- هـ.
... وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحديث القدسي:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" صحيح مسلم.
... وقوله:" إني خلقت عبادي حنفاء "قال النووي في الشرح: أي مسلمين[(1)].
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" كل مولود يولد على الملة، فأبواه يهودانه، وينصرانه،
ويشركانه "[(2)].
__________
(1) 100 17/ 197.
(2) 101 صحيح الجامع الصغير: 4560.
(1/82)
وقال:" ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟! ألا إن خياركم أبناء المشركين ألا لا تقتلوا ذرية، كل نسمة تولد على الفطرة فما يزال عليها حتى يُعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها "[(1)].
... فقوله " خياركم أبناء المشركين " فيه أنهم لم يزالوا على الإيمان الذي فطروا عليه، وهم خيار المسلمين يومئذٍ لأنهم لم تكتب عليهم سيئة بعد، لارتفاع القلم عن الصبي حتى يبلغ الحلم.
... كما في الحديث:" رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم "[(2)].
... وفي صحيح البخاري، من حديث الرؤيا الذي جاء فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - :" وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم - عليه السلام - ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ". فقيل: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" وأولاد المشركين ". وهذا نص في أن أولاد المشركين في الجنة، لأنهم عندما ماتوا ماتوا على التوحيد والإسلام الذي فطروا عليه .. والله تعالى أعلم.
... قال ابن حزم: فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الإسلام وهذا تأويل قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
} الأحزاب:72. فقبول الملة الإسلامية هي الأمانة، وأن الله تعالى خلق الأنفس
كلها جميلة وهي الحساسة العاقلة المميزة، ثم واثقها بالإسلام فقبلته[(3)].
... لكن هل يحاسب العباد على مخالفتهم لحجة الفطرة من دون أن تقوم عليهم حجة الرسل؟
__________
(1) 102 رواه أحمد والنسائي، صحيح الجامع الصغير:5571.
(2) 103 صحيح الجامع الصغير:3512.
(3) 104الأحكام: 5/ 105.
(1/83)
... أقول: رغم أن الحجة تقوم على العباد بحجة الميثاق، والفطرة التي فطروا عليها، والآيات العظام التي أودعها الله - عز وجل - في الكون والنفس البشرية الدالة على وحدانيته - سبحانه وتعالى - ، إلا أن رحمة الله - سبحانه وتعالى - قضت أن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام حجة الرسل عليه وبلوغ نذارتهم إليه، كما بينا ذلك من قبل.
... يقول سيد قطب رحمه الله: ولكن الله سبحانه رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف ـ كما قال - صلى الله عليه وسلم - ـ بفعل شياطين الإنس والجن الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط ضعف. رحمه من الله بعباده قدَّر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
... ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة[(1)].
5- حجة الآيات التي أودعها الله تعالى في الكون وفي أنفسنا:
من حجج الله تعالى ـ على عباده ـ الدالة على وحدانيته وألوهيته
وربوبيته، ما أودعه - سبحانه وتعالى - في الكون وفي الآفاق وفي أنفسنا من آيات بينات باهرات، حتى يتبين للعباد أنه ـ سبحانه ـ هو الحق وحده لا شريك له.
__________
(1) 105 في ظلال القرآن : 3/1395و 1396.
(1/84)
... قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } البقرة:164.
... قال ابن جرير في التفسير 2/62-65: إن الله تعالى ذكره، نبه عباده على الدلالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. فإن قال قائل: وكيف احتج من أهل الكفر بقوله { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } . الآية في توحيد الله، وقد علمت أن أصنافاً من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السماوات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة ؟ قيل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية دليل على خالقه وصانعه، وأن له مدبراً يشبهه، وبارئاً لا مثل له، وذلك وإن كان كذاك فإن الله إنما حاج بذلك قوماً كانوا مقرين بأن الله خالقهم، غير أنهم يشركون في عبادته الأصنام والأوثان فحاجهم تعالى ذكره فقال إذ أنكروا قوله { وإلهكم إله واحد } .. فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم وتفرد لهم بها .. وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية من الحجج البالغة المقنع لجميع الأنام ا- هـ.
(1/85)
... وقال الشوكاني في التفسير1/163: لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله { وإلهكم إله واحد } عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السماوات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته، وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه ا- هـ.
... وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الأنعام:95-99.
(1/86)
... قال ابن جرير في تفسير الآيات: هذا تنبيه من الله جل ثناؤه، هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان، على موضع حجته عليهم، وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه.
وفي قوله: { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } قال: يقول قد ميزنا الأدلة، وفرقنا الحجج فيكم وبيناها أيها الناس ليتدبرها أولوا العلم بالله منكم، ويفهمها أولوا الحجا منكم، فينيبوا من جهلهم الذي هم عليه مقيمون وينزجروا عن خطأ
فعلهم الذي هم عليه ثابتون، ولا يتمادوا في عناد الله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غيهم[(1)].
... وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } الحج:46.
... فهم إذ يرون آيات الله بأبصارهم المجردة عن نظر القلوب والعقول، لا يهتدون إلى حقيقة ما تدل عليه من عظمة الخالق وأنه لا إله إلا هو .. ولو نظروا إليها بقلوبهم وعقولهم لأوصلتهم تلك الآيات إلى الإيمان بالله - عز وجل - ، لأن نظر القلوب والعقول ينفذ إلى معرفة حقيقة الأشياء ومدلولاتها والغاية من وجودها، بعكس نظر الأعين المجرد عن نظر القلوب فهي لا ترى سوى ظاهر الأشياء دون معرفة مدلولاتها وحقيقة ما تهدي إليه.
... قال ابن كثير في التفسير 3/238: أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر ا- هـ.
__________
(1) 1067/280و 286.
(1/87)
... وقال تعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } النمل:61.
... وقال تعالى: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } يونس:101.
... قال ابن جرير في التفسير 11/175: يقول تعالى ذكره، قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك السائليك الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله، وخلع الأنداد والأوثان { انظروا } أيها القوم { ماذا في السماوات } من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها وتصدعها بنباتها وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم أن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبراً، ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات، { وما تغني الآيات } وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عباد الله عقابه، عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدقونه به ا- هـ.
... وقال تعالى: { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } الذريات:21.
(1/88)
... معنى ذلك وفي أنفسكم أيضاً أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم وأنه لا إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم { أفلا تبصرون } يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم[(1)].
... وفي الحديث الذي يرويه مسلم وغيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقال له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربَع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني ".
... فيه أن الآيات والنعم المسخرات للإنسان في الأرض هي من جملة الحجج التي يحاج بها العبد يوم القيامة زياد وإمعاناً في قيام الحجة عليه، وإمعاناً في إبطال أعذاره، وإن كان يكفي لاستحقاقه العذاب مجرد مخالفته لحجة الرسل و نذارتهم.
... ولا بن الوزير اليماني ـ رحمه الله ـ كلام طيب مفيد في هذه المسألة يحسن ذكره، حيث يقول:" الطرق إلى الله تعالى كثيرة جداً ولكننا نقتصر منها على أصحها وأجلاها وأوضحها وأشفاها حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرُق التي تُبعد السائر فيها عن مقصوده والعياذ بالله.
... فنقول: في بيان شيء من طريق معرفة الله تعالى على مناهج الرسل والسلف على جهة التفصيل. للإجمال المتقدم في الباب الذي قبل هذا، فلنذكر إشارة لطيفة على قدر هذا المختصر إلى ثلاثة دلالات: دلالة الأنفس، ودلالات المعجزات، ودلالة الآفاق، وكلها دلَّ عليها القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه يهدي للتي هي أقوم.
... أما دلالة الأنفس فإنها بليغة، قال الله تعالى: { قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره } . وقال تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } . وقال تعالى: { يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك } .
__________
(1) 107 قاله ابن جرير في التفسير: 26/ 205.
(1/89)
... وقال تعالى: { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم } . وأبسط آية في ذلك آية الحج: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍٍ } . وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } . ومن ثم قيل فكرك فيك يكفيك.
وقد جمع الله تعالى ذكر دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فصلت:53. وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين عالمين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئاً، وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء، بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صانع حكيم.
وقد اختار المؤمن هذه الحجة في قوله لصاحبه الكافر المخاصم له: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } الكهف:37. وأثنى الله تعالى عليه بذلك وخلَّد ذكره في أفضل كتبه، فكيف لا يختاره المؤمن لتقوية يقينه، ودفع وساوس خصومه وشياطينه؟!
وأما دلالة الآفاق: فما يحدث ويتجدد في العالم من طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الأفلاك الدائرات والسفن الجاريات، والرياح الذاريات والنجوم الثوابت منها، والمعالم والرواجم. والاستدلال بالرواجم جيد لدلالته الواضحة على الفاعل المختار كما يدل على ذلك حركة القمرين الدائمة وسائر النجوم و الأفلاك.
(1/90)
وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة، المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال الحاملة للماء الكثير، والمطفئ بطبعه للنار المضادة له، وما في الجمع بينها وإنشائها، وإنزال الأمطار منها بالحكمة البالغة، لا تختلط قطرة بأخرى ولو اشتدت الرياح العواصف وصغرت القطرة وكثرت وتقاربت حتى تقع متفرقة غير ضارة، فتأتي هذه الأمطار فتعم الأرض سهولها ووعورها وشعابها و شعافها، لينبت الأشجار والفواكه والأزهار والثمار، وتمد البحار والأنهار والآبار.
وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } إلى قوله: { لآياتٍ لقومٍ يعقلون } .
وكيف يُنكَر هذا أو يُستبعد وقد حكى الله عن الهدهد وهو من العالم البهيمي أنه وحَّد الله واحتج على صحة توحيده بهذا الدليل المذكور في الآفاق، قال الله حاكياً عنه: { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } النمل:25. يعني المطر والنبات، فاحتج بحدوث هذين الأمرين العجيبين المعلوم حدوثهما مع تكررهما بحسب حاجة الجميع إليهما.
وكذلك قيل لبعض الأعراب بم عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير وآثار الخطا تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، كيف لا تدل على العلي الكبير ؟!"[(1)].
__________
(1) 108أثار الحق على الخلق: ص 45-52.
(1/91)
بلى إنها تدل عليه - سبحانه وتعالى - .. وما من شيء في خلقه إلا وهو آية باهرة تدل عليه - سبحانه وتعالى - لمن تدبرها وعقلها .. { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ } . أي العقول التي في الصدور.
ـ تنبيه:
... حجة الآيات التي أودعها الله سبحانه في الكون وفي أنفسنا تدفع بعض الجهل لا كله، وهي لا تغني عن الرسل، إذ لا يدفع الجهل مطلقا سوى حجة الرسل، كما قال تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } النساء:165.
... لذلك قضت حكمة الله تعالى ـ رغم قيام الحجة على العباد من غير جهة الرسل ـ أن لا يعذب أحداً من عباده إلا بعد قيام الحجة عليه من جهة الرسل، وبعد بلوغ نذارتهم إليه.
... قال الشنقيطي في تفسيره" أضواء البيان ": إن مقتضى القول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيها من غرائب صنع الله الدالة على أنه الرب المعبود وحده. وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة ولو لم يأتهم نذير، والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء:15. ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة. ومن ذلك قوله تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسُل } النساء:165. فصرح بأن الذين تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة[(1)].
__________
(1) 1092/ 336 ـ 338.
(1/92)
... قلت: أما أن يقال نصب الأدلة الكونية، وحجة الميثاق، والفطرة ليس فيها حجة على العباد مطلقاً، فهو قول قد جانب الصواب وخالف النصوص الثابتة في الكتاب والسنة.
ولكن الذي يمكن قوله هو ـ ما أسلفناه من قبل ـ من أن هذه الحُجج لا تكفي منفردة لدفع مطلق الجهل، كما أنها لا تغني العباد عن حاجتهم للرسل وما جاءوا به من عند ربهم .. وأن العذاب مشروط بمعاندة حجة الرسل وليس غيرها من الحجج، والله تعالى أعلم.
ـ شبهة ورد: قد يرد سؤال يقول: إذا كانت حجة الآيات الكونية، وكذلك حجة الفطرة والميثاق لا ينعقد عليها العذاب .. فما الفائدة أو الغاية من قيامها على العباد ..؟!!
وللرد على هذه الشبهة نقول: الغاية من هذه الحجج أطر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. وهدايتهم إلى أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده .. وما سواه ليسوا على شيء .. ولا يُستحقون أن يُعبدوا في شيء..!!
فهي من هذا الوجه تُعتبر زيادة في قيام الحجة على العباد بأن المعبود بحق هو الله تعالى وحده .. وزيادة في بيان بطلان الشرك وبطلان ألوهية وربوبية أحد سواه .. وزيادة في حسم ما يمكن أن يعتذر به أهل الأعذار .. وبذلك تكون الحجة البالغة لله تعالى على خلقه، كما قال تعالى: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } الأنعام:149.
فالله تعالى لا أحد أحب إليه العذر منه - سبحانه وتعالى - .. لذلك قضت حكمته أن يمعن في قيام الحجج المتتاليات على العباد .. زيادة في الإمعان في حسم أعذارهم وحُججهم .. حتى إذا أخذهم بذنوبهم .. أخذهم وهم يعلمون ومقتنعون بأن
النار أولى بهم من الجنة .. وأن العذاب أولى بهم من الرحمة!
* * *
ـ القَدْر الذي تقوم به الحجة على الكافر.
قد يرد سؤال يقول: ما هو القدر من العلم الذي تقوم به الحجة على الكافر .. ويُسقِط عذره بالفترة وبجهله لنذارة الرسل ؟
(1/93)
... أقول: هو الحد الذي به يندفع جهل الكافر بنذارة الرسل، ويحقق عنده العلم بحجة ونذارة الرسل.
فحيثما يتمكن من العلم ـ على وجه الإجمال ـ بدعوة الرسل .. والغاية التي أرسلوا لأجلها .. فقد أقيمت عليه الحجة، ورُفع عنه العذر بالجهل، وهو محاسب على ما يقع فيه من تقصير وتفريط.
فلو بلغه من العلم ـ عن أي طريق ـ أن محمداً بن عبد الله هو رسول الله للعالمين، قد أرسله الله تعالى بالتوحيد ونبذ الشرك والتنديد .. لكفى بهذا القدر لقيام الحجة عليه من جهة نذارة الرسل.
... كما في الحديث الذي يرويه مسلم بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
فدل الحديث على أن من سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ـ مجرد سماع ـ بأنه رسول الله للعالمين، وبدعوته إلى التوحيد التي جاء بها من عند ربه .. ثم لم يؤمن به وبما جاء به .. إلا حق عليه العذاب، وكان من أصحاب النار.
... قال ابن حزم في الإحكام 5/111: فإنما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان به على من سمع بأمره - صلى الله عليه وسلم - ، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق، وجزائر البحور، والمغرب، وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره - صلى الله عليه وسلم - ففُرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به.
... أما من لم يبلغه ذكره - صلى الله عليه وسلم - فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان، لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك ا- هـ.
(1/94)
... وقال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 20/59-60: والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً.
... كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان
العلم والعمل، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ا- هـ.
أقول: ولكن من تمكن من العلم بدعوة الرسل وعجز عن العمل به، وجب عليه الإيمان والتصديق بما علم ـ لأنه عمل قلبي لا سلطان لمخلوق عليه يمنعه ـ وسقط عنه العمل به إلى حين تمكنه من العمل بما علم؛ فيسقط المعسور ويبقى الميسور .. وتقصير المرء بالميسور وفيما يستطيع إتيانه والقيام به لا يعتبر عذراً لتوفر الاستطاعة والمقدرة على الإتيان به.
... لقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } التغابن: 16. وقال: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } البقرة: 286.
والقاعدة الفقهية تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور".
(1/95)
... ومثال من آمن وصدق ولم يتمكن من إظهار إيمانه والعمل به، مؤمن آل فرعون من قوم فرعون، وكذلك كانت امرأة فرعون مع فرعون وقومه، وكذلك النجاشي رغم أنه كان حاكماً على الحبشة إلا أنه لم يكن يحكم بما أنزل الله، بل لم يكن يتمكن من ممارسة كثير من شعائر الإسلام كالهجرة، والجهاد، والحج .. وغير ذلك!
... ومع ذلك لما مات قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إن أخاكم النجاشي قد مات، فقوموا فصلوا عليه"[(1)].
... قال ابن تيميه في الفتاوى 19/23و 219: كذلك الكفار من بلغه دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الكفر، علم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام. بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عله فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال:"إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات".
... وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن قد دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، بل روي أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان[(2)].
__________
(1) 110 صحيح سنن ابن ماجة: 1247.
(2) 111 هذا الخبر يحتاج إلى تحقيق وذكر الدليل عليه، وبخاصة أن الصوم هو بين العبد وربه، وهو من الأمور الخفيفة التي يمكن أن توارى عن الناس، وكذلك الصلاة .. كما أن الشيخ قد ذكر الخبر بصيغة التضعيف رُوي .. ولم يذكر الخبر بسنده.
(1/96)
ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك ... إلى أن قال: فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكن الحكم بها ا- هـ.
... وفي صحيح مسلم، عن عمر بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال:" كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلال وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جِراءٌ عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: وما أنت؟ قال: أنا نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت: فمن معك على هذا؟ قال : حرٌ وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر و بلال ممن آمن معه، فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي والناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني، قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة، فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: نعم أنت الذي لقيتني بمكة. قال: قلت بلى، فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة ..".
... وفي الحديث دلالات وفوائد عدة:
(1/97)
... منها: أن قول الصحابي" أخبرني عن الصلاة " دليل أنه لم يكن يصلي بل لم يكن يعلم شيئاً عن الصلاة، وهو ظل كذلك إلى ما بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، علماً أن الصلاة قد فرضت على المسلمين وهم في مكة قبل الهجرة.
... لكن لعدم وصول الخبر إليه وعدم تمكنه من العلم بما جاء في الصلاة، كان معذوراً ولم يلق من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعنيفاً على تقصيره فيما لم يستطع فعله، بل رحب به وعلمه.
... ومنها: أن عجز الصحابي عن العمل وعن الهجرة، وعن مناصرة الدعوة في أيامها الأولى، لم يكن مانعاً ولا سبباً لتقصيره فيما يستطيع القيام به، كاعتناقه الإسلام وتصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن ربه وأخبر .. لذا رأيناه قد أتى بالإيمان والانقياد وهو ما استطاعه .. ولم يأتِ بما عجز عنه من العمل!
... ومنها: بيان حرص الصحابي على طلب العلم ومعرفة ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه منذ اللحظة الأولى من تمكنه من الطلب، واحتكاكه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: " أخبرني عما علمك الله وأجهله "، وهذه صفة الجاهل الذي يعذر بجهله، أما إن كان جاهلاً ولا يحرص على طلب العلم وينشغل عنه لأتفه الأسباب الدنيوية، بل ويعرض عن مجالس العلم والذكر رغم توفرها، وسهولة طلبها.. فهذا أنى له أن يعذر بالجهل، وهو ممن يصح فيهم قوله تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } لأنفال:23.
ومنها: بيان القدر الذي به تقوم الحجة على الكافر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أقام الحجة على الرجل بقوله :" أنا نبي .. أرسلني الله .. أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله لا يُشرك به شيء ". وهذا القدر يكفي لقيام الحجة .. فما كان من الرجل إلا أن قال له: إني متبعك ..!
(1/98)
... وعليه نقول: أيما كافر وفي أرض كان يعيش يصله هذا القدر من العلم النبوي بلغة يفهمها، فقد قامت عليه حجة الرسل، ووجب عليه الإيمان والتصديق، والاتباع .. فإن قابل ذلك بالجحود والرد والعناد إلى أن مات على ذلك، فقد حق عليه العذاب وهو في جهنم وبئس المصير.
... وقول ـ البعض ممن يتوسعون فيما لا ينبغي وبغير علم ولا دليل ـ: إن من مستلزمات قيام الحجة على الكافر وشروط صحتها، أن يُدفع ما عند الكافر من شبهات حول الإسلام ، وأن يبين له ـ على وجه التفصيل ـ خطأ ما هو عليه من كفر وضلال، وأن يُناقش ويُجادل ويُقام من أجل ذلك الندوات والحلقات .. ومن ثم يتم ترغيبه باعتناق الإسلام .. وغير ذلك من الأقوال الساقطة التي ما أنزل الله بها من سلطان!
... وعليه أقول: هذا القول باطل وغير صحيح، وهو مخالف للسنة الصحيحة، والأدلة الآنفة الذكر، وهو قول محدث لم يقل به أحد من الصحابة أو التابعين لهم بإحسان.
ولكن الذي يمكن قوله: إن دحض حجج الكفار وبيان زيفها وبطلانها، وترغيبهم بالإسلام وغير ذلك، هو من تمام الدعوة وهو أمر محمود ومطلوب شرعاً، إلا أنه يعتبر فوق الحد الذي به تقوم الحجة على الكافر .. والتي يُعذب رادها وجاحدها!
... ثم إن هذا الكافر لو آمن إيماناً إجمالياً بما بلغه من علم النبوة ونطق بالشهادتين فهو بذلك أصبح مسلماً له حكم الإسلام وحصانته، يجب عليه ـ مباشرة ـ أن يتحرك ويبذل قصارى جهده واستطاعته في معرفة ما يجب عليه أن يعرفه من عقائد الإسلام على وجه التفصيل .. وما أمر الله به ليلتزمه، وما نهي عنه لينتهي عنه.
... والمقصر في هذا الجانب ـ في بذل جهد يستطيعه ـ يعتبر آثماً وهو غير معذور بالجهل ..!
ـ تنبيه: من شروط صحة قيام الحجة، أن تصل الحجة المحجوج أو المخالف بلغة يفهمها حتى يفهم مدلولات الحجة وما هو المراد منها.
(1/99)
فلو قيل بالعربية لأعجمي لا يفقه شيئاً من العربية: آمن أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن البعث والنشور حق .. فهو لا يدرك ولا يفهم ماذا يُطلب منه، ومثله مثل الأصم الذي لا يسمع، ومن كان كذلك لا يسقط عنه العذر بالجهل، ولا يصح أن يقال قد أقيمت عليه الحجة؛ لأننا بعملنا هذا لم نوجد عنده الاستطاعة على فهم الحجة مما قيل له .. ولم ننفي عنه بذلك فيما هو فيه من العجز عن إدراك مراد الشارع وما قيل له .. وإذا عدمت الاستطاعة وتحقق العجز ـ كما تقدم بيان ذلك ـ رُفع التكليف، وسقطت المؤاخذة.
... وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر؛ إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له[(1)]. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما [(2)].
ـ قيام الحجة غير فقهها والتزامها.
... ليس من شروط قيام الحجة فقهها أو التزامها، إذ يكفي لقيام الحجة على المحجوج أن تصله بلغة يفهم مدلولات الخطاب وما يراد منه، سواء عقل الخطاب وفقهه والتزمه أو أنه لم يعقله ولم يفقهه .. إذ يوجد فرق بين فهم
__________
(1) 112قال لي أحد الشيشانيين: إن من آبائهم لما هاجروا من بلادهم فراراً بدينهم من الاضطهاد الشيوعي، ووصلوا إلى بلاد الشام خلعوا أحذيتهم ومشوا حفاة باعتبار أن أرض العرب أرض مقدسة .. وكانوا عندما يرون فلاحاً أو رجلاً من أهل البادية راكباً على حماره وهو يغني أو " يضرب موالاً أو عتابا " كانوا يظنون أنه يقرأ قرآناً كريماً .. فيبكون بكاء شديداً .. فتأمل.
(2) 113 طريق الهجرتين: 414.
(1/100)
الخطاب وبين فقه والتزام الخطاب.
... حيث أن الكافر ـ الذي كتب الله عليه العمى ـ وإن كان له قلب، وسمع وبصر إلا أنه لا يستفد منها في معرفة وفقه حجج الله عليه، فهو إن مر عليها يمر كالأصم الأبكم الذي لا يعقل شيئاً .. فهو وإن كان له قلب إلا أنه مقفل لا يفقه من الحق شيئاً.
وكذلك بصره فإن عليه غشاوة الباطل لا يبصر فيه من الحق شيئاً، فهو لو رأى يرى ظاهر الأشياء من دون أن يهتدي إلى حقيقتها والغاية منها. وكذلك سمعه فهو إن سمع يسمع أصواتاً وحروفاً يفهم مدلولاتها اللغوية، من دون أن يفقه ما يُراد منها، وما يجب عليه نحوها .. كالأنعام بل أضل سبيلا.
ومن كان كذلك لا يصح أن يقال أن الحجة لم تقم عليه، وهو معذور بالجهل إلى أن يفقه حقيقة الخطاب وحقيقة ما يراد منه من قيام حجج الله البيانات عليه.
... قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } الأنعام:25.
قال ابن جرير في التفسير: يقول: من يستمع القرآن منك، ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك وأمره ونهيه، ولا يفقه ما تقول ولا يوعيه قلبه، ولا يتدبره ولا يصغي له سمعه ليتفقه، فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك، إنما يسمع صوتك وقراءتك وكلامك ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه أكنه ـ أغطية ـ وجعل في آذانهم ثقلاً وصمماً عن فهم ما تتلوا عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه.
... وعن قتادة قال: يسمعون بآذانهم ولا يعون منه شيئاً كمثل البهيمة التي
تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها[(1)].
... قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } الأنعام:39.
__________
(1) 1147 /169-170.
(1/101)
... وقال: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } الأنفال:22.
... وقال: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } الأعراف:179.
... قال ابن كثير: يعني ليس ينتفعون بشيء من هذا الجوارح التي جعلها الله سبباً للهدايا، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } الأحقاف:26.
(1/102)
... وقوله: { ألئك كالأنعام } أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يُقيتها من ظاهر الحياة الدنيا، كقوله تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } البقرة:171. أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ولا تفقه ما يقول، ولهذا قال في هؤلاء { بل هم أضل } أي من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها، وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء، ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به[(1)].
... وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ } يونس:42-43.
قال ابن جرير في التفسير 11/119: يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، كما أنك لا تقدر أن تسمع يا محمد من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهي قلباً سلبته فهم ذلك، لأني ختمت عليه أنه لا يؤمن ا- هـ.
... وقال تعالى: { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } هود:91.
__________
(1) 115 التفسير: 2/ 279. قلت: مما تفضل به الأنعام على الإنسان الكافر، أنها أيضاً تعبد الله تعالى وتسبح بحمده، بخلاف الكافر فإنه يعبد غير الله، كما أخبر تعالى بقوله: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } .
(1/103)
... فرغم أن النبي شعيب - عليه السلام - كان يخاطب قومه بلغتهم التي يفهمونها، ويقيم عليه الحجة تلو الحجة، إلا أنهم كانوا لا يفقهون ولا يعلمون حقيقة كثير مما كان يخبرهم به. لأن الكافر ليس له العقل الذي يمكنه من معرفة الأشياء على حقيقتها، كما قال تعالى عنهم: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } الملك:10. ... قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع من يعي ويفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر.
قال القرطبي في الجامع 17/73: ودل على أن الكافر لم يعط من العقل
شيئاً ا- هـ.
... وفي قوله تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } الطور:32.قال القرطبي : قيل { أحلامهم } أي أذهانهم ، لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن، وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة، والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي.
... وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أن رجلاً قال:يا رسول الله،ما أعقل فلاناً النصراني. فقال: مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } الملك:10.
... وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : مه، فإن العاقل من يعمل بطاعة الله [(1)].
__________
(1) 116الجامع لأحكام القرآن: 17/73.
(1/104)
... قال الألوسي في التفسير 1/154: وفي التأويلات لعلم الهدى: فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم [(1)] فلو كان حقيقة العلم شرطاً للتكليف ولا علم لهم به لم يكن فعلهم إفساداً. فحيث كان إفساداً دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة، فيكون حجة عليهم ا- هـ.
... وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فإن حجة الله هو القرآن الكريم فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لا تفرقون بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } الفرقان:44.
... إلى أن قال: فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر - رضي الله عنه - ، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله { : وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه } [(2)].
... فدل ذلك على أن " الفهم " الذي به تقوم الحجة هو فهم الخطاب، من حيث دلالاته اللغوية، وخلوه مما يمنع من ذلك .. لا الفهم لحقيقة الخطاب الذي يؤدي بصاحبه إلى الالتزام والاقتناع، إذ لا سبيل إلى ذلك إلا ما شاء الله له الهداية وشرح صدره للإسلام.
ـ صفة قيام الحجة على الكافر.
__________
(1) 117 مشيراً إلى قوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } البقرة :11- 12.
(2) 118الرسائل الشخصية، القسم الخامس: ص 220 و 244.
(1/105)
... المراد بصفة قيام الحجة، الوسيلة التي من خلالها تقوم الحجة على الجاهل الكافر، وعليه نقول: أيما وسيلة يندفع بها جهل الكافر وتُحقق عنده العلم الإجمالي بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالدعوة التي جاء بها فهي وسيلة صحيحة ومعتبرة شرعاً في قيام الحجة؛ لأن العبرة من قيام الحجة ليست ذات الوسيلة أو الأدات التي من خلالها تقوم الحجة، وإنما العبرة في إيجاد المقدرة أو الاستطاعة عند المخالف المحجوج على العلم بالقدر الذي يندفع به جهله وعذره.
... فالحجة قد تقوم بواسطة مسلم التقى ساعة من عمره مع الكافر الجاهل، عرفه فيها على الإسلام وعقيدته، ولا يشترط لهذا المسلم أن يكون من حملة الشهادات العليا في الشريعة أو من العلماء البارزين، وإنما يشترط فيه أن يكون عالما بالحجة التي يقيمها على الجاهل، لأن فاقد الشيء لا يمكن يعطيه[(1)].
... وقد تقوم بواسطة المذياع، وكذلك التلفاز، والإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة .. والمنتشرة في كل مكان.
... ومنها أيضاً الوسائل المقروءة، كالكتب الدينية، أو المجلات الإسلامية، أو الصحف اليومية، وأهمها وأعظمها بلوغ نسخ من القرآن الكريم ليد الكافر الجاهل، شريطة أن يعلم أنه القرآن الكريم الذي أنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - [(2)]، وغير ذلك من الوسائل التي يمكن من خلالها أن يتحقق العلم بالدعوة الإسلامية عند الآخرين.
__________
(1) 119 قيل أن رجلاً شهر سيفه على كافر وقال له: إما أن تسلم وإلا أقتلك؟ قال له الكافر: أسلمت، لكن ماذا أفعل حتى أدخل الإسلام .. وأصبح مسلماً؟ قال له: لا أدري .. فتأمل كيف أن جاهل الشيء لا يمكن يعطيه .
(2) 120 في هذا الزمان لم تعد اللغة مشكلة، حيث أن القرآن الكريم قد تُرجمت معاني آياته وكلماته إلى أكثر من لغة، وكذلك كتب بعض أهل العلم، بحيث يستطيع كل قوم أن يتعرفوا على الإسلام ودعوته بلغتهم الخاصة بهم.
(1/106)
... ولكثرة هذه الوسائل وسعة انتشارها، لم يعد الجهل بالدين مشكلة يعتذر بها الناس .. وبخاصة من كان كفرهم أصلياً[(1)].
... وقول القائل: أن الحجة لا يُقيمها على المخالفين إلا العلماء العارفون .. هو قول باطل وحصر يعوزه الدليل .. بل الدليل دل على أن الحجة يمكن أن تقوم على المخالفين بالعلماء .. وبمن ليسوا بعلماء ..! ...
يقول الشيخ سعيد حوى رحمه الله: فما من إنسان إلا وقد سمع عن الإسلام ورسوله بواسطة المذياع أو التلفاز أو الكتاب أو المجلة أو المحاضرات أو الدعوة المباشرة أو الخلطة لمسلم.
... وكان شيخنا الحامد ـ رحمه الله ـ يرى أن الحجة في عصرنا قد قامت على كل إنسان بما شاع واستفاض عن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، مما يوجب على الإنسان البحث والسؤال، فإذا لم يفعل فهو المقصر[(2)].
... أقول: كلام الشيخ يحمل على العموم، لكثرة الوسائل الإعلامية، ولسعة انتشار الخبر عن بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
أمّا أن يجزم أنه لا يوجد في هذا الزمان كافر بعينه يُعذر بالجهل .. أو يُجرى عليه وصف وحكم أهل الفترة .. فهذا أمر لا يصح الإقدام عليه لأنه لا علم لنا به وليس بوسعنا الإحاطة أو الجزم به..!
* * *
ـ المسلم الجاهل.
... ليس كل ما قيل في الكافر الجاهل يصح أن يقال في المسلم الجاهل، لاختلاف صفة وحال كل منهما عن الآخر؛ فالأول كافر جاهل بالتوحيد ولم يسمع بدين الرسل قط، والآخر موحد ناطق لشهادة التوحيد مؤمن بما جاءت به الرسل ولو على وجه الإجمال.
... وعليه لا يصح أن نحمل أحاديث أهل الفترة التي قيلت بخصوص الكافر الجاهل الذي لم يسمع بدعوة الرسل قط،على المسلم الذي أقر بالتوحيد وبالرسالة، وسمع بدعوة الأنبياء والرسل.
__________
(1) 121من حكمة الله - عز وجل - ورحمته أن يسر للإنسان أن يخترع مثل هذه الوسائل التي تسهل نقل المعلومات بأسرع وقت لتكون حجة عليه ..!
(2) 122الأساس في السنة وفقهها، العقائد الإسلامية:1/ 88.
(1/107)
لذا فحديثنا عن المسلم الجاهل، والحالات التي يعذر فيها بالجهل، والقدر الذي به تقوم الحجة عليه، وصفة قيامها .. يختلف بعض الشيء عما قلناه في الكافر الجاهل، وهذا ما سنبينه في الأسطر التالية إن شاء الله.
ـ خطورة تكفير المسلم:
... قبل الحديث عن عذر المسلم بجهله، وبيان الحالات التي يعذر بها، لا بد من أن نبين خطورة الإقدام على تكفير المسلم من دون بينة ظاهرة تدل على كفره، وما يترتب على ذلك من مزالق عقدية لا يحمد عقابها.
... وإذا كان عدم تكفير الكافر ـ الظاهر كفره ـ هو خطأ ومزلق عقدي ينقض الإيمان، فإن الإقدام على تكفير المسلم كذلك يعتبر خطأ ومزلقاً عقدياً لا تُحمد عقباه ..!
وقد تُقرر أن الخطأ في تكفير المسلم أشد خطراً على صاحبه من الخطأ في عدم تكفير الكافر، وذلك من أوجه:
... منها: أن تكفير المسلم يتضمن تكذيب الله ورسوله، ورد النصوص الشرعية من الكتاب والسنة؛ وذلك أن الشارع الحكيم يصف ذاك المسلم بصفة الإسلام، ويحكم له ما للمسلمين من حرمة وحقوق .. ويأبى المكفِّر له إلا أن يصفه بالكفر ويحكم عليه بالخروج من دائرة الإسلام .. وهو بذلك مثله مثل من يرد حكم الله تعالى فيحرم ما أحل الله، ويحلل ما حرم الله .. انتصارا لهواه ونفسه .. وهذا لا شك فيه أنه كفر.
... ومنها: أن تكفير المسلم ورميه بالكفر والإلحاد ونحو ذلك .. يتضمن اعتبار الإسلام الذي يعتقده والذي به صار مسلماً .. كفراً، والإيمان الذي يعتقده وصار به مؤمناً إلحاداً .. علماً أن الشارع يعتبره مسلماًً ومؤمناً له ما للمسلمين والمؤمنين وعليه ما عليهم .. فتكفير المسلم من هذا الوجه كذلك يُعتبر كفراً ومروقاً لوصف الإسلام والإيمان بالكفر ..! ...
ومنها: أن تكفير المسلم، ورميه بالكفر كقتله لما يترتب على التكفير من تبعات جسام، وهدر لجميع حرماته وحقوقه التي صانها وحفظها له الإسلام.
(1/108)
... لذا نجد أن النصوص الشرعية قد نصت على تكفير من كفر مسلماً، وان تكفير المسلم كقتله، كما في صحيح مسلم وغيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت " أي إن لم يكن في حكمه على الآخرصائباً ومحقاً رجع تكفيره على نفسه.
... وقال:" كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه "[(1)].
وتكفيره بغير حق انتهاك لجميع هذه الحرمات.
... وقال:" من قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال "[(2)].
وأي قول أغلظ وأشد من أن يُشار إلى المسلم ـ بغير حق ـ بالكفر والخروج من الدين، الذي يعني ذلك بالنسبة للمُكفَّر قتله وهدر لجميع حرماته وحقوقه..؟!
... كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فهو كقتله، ولعن المؤمن كقتله"[(3)].
فالحذر الحذر ـ يا أخوة الإسلام ـ من التسرع وقلة الورع في تكفير عباد الله المسلمين.
... ومنها: أن الخطأ في عدم تكفير الكافر يعتبر خطأ في حق الله دون العبد؛ من جهة كونه لم يُصب حكم الله فيه .. بينما الخطأ في تكفير المسلم خطآن: خطأ بحق الله تعالى، وخطأ بحق العبد، والأول خطؤه ـ إن كان عن اجتهاد وتأويل ـ قد يغفره الله له، بينما الآخر ولو غُفر له خطؤه المتعلق بحق الله تعالى، يبقى حق العبد عليه إلى أن يقتص الله من الظالم للمظلوم، هذا إن وجد الظالم مخرجاً مما قال في أخيه المسلم بغير حق.
__________
(1) 123هذه الأحاديث كلها صحيحة، خرجها مسلم وغيره.
(2) 124 أخرجه أبو داود وغيره، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 437.
(3) 125 صحيح الجامع الصغير:710.
(1/109)
... كما في الحديث:" الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ،قال تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } . وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدبر لبعضهم من بعض"[(1)].
... لأجل ذلك احتاط أهل العلم أشد الاحتياط في إصدار الحكم بالكفر على المسلم المعين، حيث إن كان كفره يُحتمل من تسع وتسعين وجهاً، ووجه واحد يصرف عنه حكم الكفر، تراهم كانوا يأخذون بالوجه الواحد ـ الغير مكفر ـ احتياطاً لدينهم، وصوناً لحرمات ذلك المعين.
وكذلك لو حصل التردد أو الظن في تكفير شخص بعينه كانوا يتوقفون عن تكفيره، طلباً لليقين والسلامة معاً .. وهذا ـ مما لا شك فيه ـ هو المذهب الحق الذي لا نرى غيره لتضافر الأدلة الدالة عليه، وتواصل عمل السلف به وذلك أن الإسلام الصريح لا ينقضه إلا الكفر البواح الصريح الذي لا يحتمل وجها آخر غير الكفر، كما في الحديث الصحيح:" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". وهذا في شأن الخروج على الحكام.
قال الخطابي: معنى قوله بواحاً، يريد ظاهراً بادياً من باح بالشيء يبوح به بواحاً، وإذا أذاعه وأظهره.
وفي قوله :" عندكم من الله فيه برهان " قال ابن حجر : أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل[(2)].
وفي " الهندية": إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنع فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه، إلا إذا صرح بإرادة توجب الكفر، فلا
ينفعه التأويل حينئذ[(3)].
__________
(1) 126 صحيح الجامع الصغير:3961.
(2) 127فتح الباري: 13/ 8.
(3) 128عن إكفار الملحدين في ضروريات الدين للشيخ محمد أنور شاه الكشميري ص 95.
(1/110)
... وقال الغزالي في فيصل التفرقة: ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن لا يدرك قطعاً في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يُدرك بيقين وتارة بظن غالب، وتارة بتردد فيه، ومهما حصل تردد فالوقف فيه عن التكفير أولى[(1)].
... وقال ابن حجر في الفتح 12/314: قال الغزالي: ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإنَّ استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافرٍ في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلمٍ واحد ا- هـ.
... أما الغلو في الدين، وتكفير من لا يصح تكفيره من المسلمين، والاستهانة بمحرمات الناس وحقوقهم .. فإن ذلك من أخلاق وصفات الخوارج المارقين الغلاة الذين توعدهم الإسلام في الدنيا بالقتل .. وفي الآخرة بسوء العذاب الأليم.
... ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه، تحت باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم طائفة من الأحاديث منها، قوله - صلى الله عليه وسلم - :" سيخرج قوم آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ".
... وفي الصحيح كذلك عن ابن عمر أنه كان يقول: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين!!
... ومن صفاتهم أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - فيهم:" يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصومه مع صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " متفق عليه.
... أي من كثرة ما يصلون ويصومون، يرى المسلم صلاته وصومه ليس شيئا قياساً إلى صلاتهم وصيامهم .. وهذا مما يرهب كثيراً من عوام المسلمين إذ كيف يُقدمون على قتال من كانت هذه هي صفاتهم!!
__________
(1) 129عن المصدر السابق، ص 117.
(1/111)
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :"سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن، لايجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شرار الخلق والخليفة"[(1)].
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" الخوارج كلاب أهل النار"[(2)].
... كل ذلك بسبب غلوهم وتنطعهم في الدين، وتكفيرهم ـ بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر ـ من لا يجوز تكفيره من المسلمين .. وإعمالهم للسيف في رقاب أبناء الأمة بغير وجه حق!
أعاذنا الله منهم ومن طريقتهم، وأخلاقهم .. ومن أن نكثر سوادهم بقول أو فعل .. وجعلنا ممن يتمسكون بالكتاب والسنة، وعلى منهج وغرس السلف الصالح بإذن الله.
* * *
... ـ الحالات التي يعذر بها المسلم بالجهل:
... ذكرنا من قبل أن تكفير المطلق لا يستلزم دائماً تكفير المعين، وكون القول أو الفعل كفراً، لا يستلزم دائماً أن يكون صاحبه كافراً لاحتمال وجود موانع التكفير وانتفاء مستلزماته.
... ومن موانع تكفير المعين، تلك الحالات التي يعذر بها المسلم بالجهل وهي:
أولاً: حداثة عهده بالكفر:
... فمن كان حديث عهد بكفر فهو حديث عهد بإسلام، وبالتالي من كان كذلك فهو لا يستطيع أن يعلم في الأيام الأولى من إسلامه جميع ما أمر به الإسلام أو نهى عنه.
... ومن انتفت عنه الاستطاعة يرفع عنه التكليف إلى حين وجود الاستطاعة ـ كما تقدم ـ ومن كان كذلك لو وقع في ناقضة من نواقص الإسلام بسبب جهله بالخطاب الشرعي .. فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة من جهة نذارة الرسل.
كما قال تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } النساء:165.
... فإن جحد الحجة بعد بلوغها إليه، حينئذٍ يحكم عليه بالكفر والردة، أما قبل قيام الحجة الشرعية عليه لا يجوز الإقدام على تكفيره .. أو تكفير من كانت هذه صفته، وإن كان فعله كفراً.
__________
(1) 130 صحيح سنن ابن ماجه: 140.
(2) 131 صحيح سنن ابن ماجه: 143.
(1/112)
... كما في الحديث عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعقلون عليها أسلحتهم، قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } .. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم "[(1)].
وفي رواية:" خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم قتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فقوله " كانوا أسلموا يوم فتح مكة " يفيد أن الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - :" اجعل لنا ذات أنواط .." لم يمض على إسلامهم سوى أيام معدودات لأن فتح مكة كان في رمضان لثلاث عشرة ليلة بقين منه، وكان غزو النبي - صلى الله عليه وسلم - لهوازن يوم حنين بعد الفتح في الخامس من شوال .. أي أن بين فتح مكة وغزوة حنين خمسة عشر يوماً فقط ـ على الراجح من أقوال السلف والمؤرخين ـ وكان إسلام هؤلاء بين وخلال هذه الأيام فقط .. ومن كان كذلك لا يُستبعد عنه أن يصدر منه تلك المقولة التي قالوها للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذات أنواط بدافع الجهل لحداثة عهدهم بالكفر.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:"ونحن حدثاء عهد بكفر"؛ أي قريبو عهد بكفر، ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا، وان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ا- هـ.
__________
(1) 132صحيح سنن الترمذي.
(1/113)
... وقال الشيخ محمد حامد الفقي: ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان منه لما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - نظير قول بني إسرائيل { اجعل لنا إلهاً } وأقسم على ذلك، بل هو من الشرك الأكبر كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الأكبر، وإنما لم يكفروا بطلبهم لأنهم حدثاء عهد بالإسلام، ولأنهم لم يفعلوا ما طالبوه ولم يقدموا عليه، بل سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ..[(1)].
... لذلك نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عنف عليهم مقولتهم الشركية من دون أن يشير إلى ذواتهم بالكفر.
... قال الشيخ بن عبد الوهاب رحمه الله: للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القص، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا ؟!
... فالجواب: أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا ذلك. ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
... وتفيد ـ هذه القصة ـ أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - [(2)].
... وتفيد أيضاً أن إظهار الكفر قبل بلوغ الحجة يختلف عن إظهاره بعد بلوغ الحجة، فالأول معذور بالجهل بينما الآخر غير معذور.
__________
(1) هامش كتاب فتح المجيد، طبع دار الكتب العلمية، صفحة 141.
(2) 134 العقيدة والآداب الإسلامية، ص 174.
(1/114)
... قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 20/60-61: إن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطبق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر و النهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا بإمكان الشرط.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ا- هـ.
... ثانياً: وجوده في منطقة نائية يتعذر وصول العلم إليها:
... مما يعذر به المسلم بالجهل كذلك وجوده في منطقة نائية عن العلم، فلا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يرحل إلى أماكن وجود العلم الشرعي لطلبه. ومثل هذا لو وقع في الكفر ـ وهو يجهل أن فعله كفر مخالف للشريعة ـ فإنه يعذر بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة النبوية من جهة نذارة الرسل .. ويبلغه الخطاب الشرعي فيما قد خالف فيه.
... أما إن كان يستطيع أن يرحل إلى الأماكن التي تتوفر فيها العلوم الشرعية وحلقات طلب العلم ـ ولم يوجد عائق معتبر شرعاً يكرهه على البقاء أو يخافه على نفسه وأهله ـ ومع ذلك لا يفعل ولا يتحرك له ساكن إيثاراً للدنيا ومتاعها، ومشاغلها .. حيث تراه لا يهتم لحال كونه جاهلاً، بل الجهل والعلم عنده سيان!
(1/115)
... ومن كان كذلك لا يعذره جهله ـ وإن كان مقيماً في منطقة نائية عن طلب العلم ـ لتوفر الاستطاعة والمقدرة عنده على دفع جهله وعلى طلب العلم، والمرء ـ كما ذكرنا آنفاً ـ مطالب أن يتحرك نحو دينه وعبادة ربه قدر استطاعته، لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم } . وقوله { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } . فتقصيره فيما يجب عليه وهو يستطيعه، لا يعذر بتركه أو جهله، وهو محاسب عليه.
... وقال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت:56. فهذا نص في أن حركة الإنسان في الأرض يجب أن تراعي الغاية الأساسية من وجوده، وهي عبادة الله وحده .. كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات:56.
... وعليه فأي بقعة من الأرض تتحقق فيها سلامة العباد والدين أكثر من غيرها من الأماكن، وجب على المسلم أن يشد إليها الرحال ويتخذها لنفسه وأهله مسكناً وموطناً، وبخاصة في الأزمنة التي تتفشى فيها الفتن، ويكثر الهرج، وتنتهك فيها حرمات الدين من دون خوف أو وجل من الله تعالى[(1)].
__________
(1) 135مما يعجب له أشد العجب ويؤسف له، أن كثيراً من أبناء المسلمين يشدون الرحال إلى أوروبا ـ على حساب دينهم وشبابهم ـ يتحملون مشاق السفر وتكاليفه، ومشاق الغربة المذلة من أجل أن يدرسوا " كورس لغة " أو في معهد ديكور .. ونحو ذلك !
أو ليأخذوا دورة في تصفيف وقص الشعر ـ على الطريقة الأوروبية ـ ليقال فلان " قصاص الشعر" خريج أوربا .. وبالمقابل تراه يجهل متطلبات التوحيد والأساسيات من دينه!
ثم بعد ذلك يأتي من يقول من مشايخ الإرجاء: إنه معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة!!
(1/116)
... وفي هذا يقول ابن حزم رحمه الله: من بلغه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبر عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرئ فيها الحقائق، ولولا إخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة، ولكنا قد أمنا والحمد لله.
... وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه، ففرض على جميعهم، من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيهاً يعلمهم دينهم أو أن يُرحلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم[(1)].
... ثالثاً: التأويل الخاطئ للنصوص:
... أيضاً مما يعذر به المرء الفهم الخاطئ للنص، فيتأوله ـ ظاناً أنه قد أصاب مراد الشارع ـ تأويلاً خاطئاً بعيداً عن الصواب وناقضاً لمدلولاته.
... وغالباً يحصل مثل هذا التأويل الخاطئ في الأمور الخفيفة، والصعبة من جهة الإعراب وغير ذلك، ويكون العلم فيها غير ظاهر أو معروف بين عامة الناس .. أو بسبب أن النص يحتمل أكثر من فهم وتفسير .. أو بسبب تقديم المتشابه على المحكم .. ومن كان كذلك وإن كان تأويله كفراً إلا أنه لا يكفر بعينه حتى تقام عليه الحجة الرسالية ويُستتاب، فإن أبى التوبة والرجوع إلى الحق يقتل مرتداً، وليس بعد الاستتابة مذهب.
__________
(1) 136 الأحكام: 5/ 112.
(1/117)
... كما حصل مع الصحابي قدامة بن مظعون ونفر معه، حيث أباحوا لأنفسهم الخمر وقالوا هي حلال، متأولين بذلك قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } المائدة:93. فاستشار عمر - رضي الله عنه - الناس في أمرهم فقالوا: يا أمير المؤمنين نرى أنهم كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله فاضرب أعناقهم، وعلي - رضي الله عنه - ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم ؟ فقال: أرى أن تستتيبهم[(1)]، فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين لشربهم الخمر، و إن لم يتوبوا ضربت أعناقهم. قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين [(2)].
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 11/403 : فإن قدامة، شربها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } . فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلاها قتلوا. وقال عمر لقدامة: أخطأت أستك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها لا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين الصالحين ا- هـ.
__________
(1) 137يستتيبهم من تأويلهم الخاطئ، وليس على أنهم كفروا بأعيانهم.
(2) 138 تقدم تخريج الحديث.
(1/118)
... وكذلك ما حصل للصحابي عدي بن حاتم عندما تأول قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } البقرة:187. ففتل في رجله خيطين أسود وأبيض ، وهو لا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إلى أن بين له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال:" إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل ".
ولم يعنفه - صلى الله عليه وسلم - على تأويله الخاطئ .. وما طلب منه أن يعيد صومه، علماً أن سحوره كان يمتد به إلى ما بعد ظهور الفجر!!
... أما من كان تأويله الخاطئ من نوع لا يحتمله النص من أي وجه من الوجوه، وكذلك لا تحتمله معاني اللغة .. ولا معاني الشريعة؛ كتأويلات الباطنية الغلاة: حيث أولوا الصلوات الخمس إلى خمسة أسماء يقولونها: علي، وحسن، وحسين، ومحسن، وفاطمة.
وصيام رمضان قالوا: هو كتمان أسرارهم .. وأسرار شيوخهم وطائفتهم وعقيدتهم ..!
وحج بيت الله الحرام: قالوا المراد به زيارة شيوخهم ومزاراتهم ..!!
فهذا النوع من التأويل كفر وزندقة لا تحتمله معاني الشريعة .. ولا المعاني اللغوية للنصوص .. لا يعذر صاحبه بالجهل أو التأويل بأي حال، بل يوقعه في الكفر والزندقة ولا بد ..!
فإن قيل: ما حدود التأويل المستساغ .. ومتى يرقى التأويل بصاحبه إلى درجة الكفر والمروق ..؟
أقول: لا يوجد حد ثابت للتأويل المستساغ بحيث يمكننا من القول بأن كل من خرج عن هذا الحد فتأويله غير مستساغ .. ولا يمنع عنه لحوق الوعيد والتكفير .. وكل من كان داخل هذا الحد فتأويله مستساغ ومقبول!
فما كان تأويله مستساغاً لشخص قد لا يكون مستساغاً لشخص آخر بحكم ما لدى كل واحدٍ منهما من العلم .. أو الشبهات أو الاعتراضات المحتملة .. وبحسب المسألة وما يكتنفها من غموض أو إشكالات .. فقد تكون معلومة لشخص فلا يُعذر بالتأويل .. ومجهولة لشخص فيعذر بالتأويل ..!
(1/119)
ولكن يمكن القول أن التأويل المعتبر له ـ في الغالب ـ قرائن تدل عليه: كأن يكون التأويل الخاطئ محتملاً من حيث الدلالات اللغوية للخطاب .. ومن حيث انسجامه مع كليات وأصول الشريعة .. أو أن يكون معتمداً في تأويله على نصوص مرجوحة أو منسوخة لا يعرف النصوص الراجحة أو الناسخة .. أو عامة لا يعرف مخصصها .. أو مطلقة لا يعرف مقيدها .. فالتأويل الخاطئ المحفوف بمثل هذه القرائن في الغالب يكون تأويلاً مستساغاً وصارفاً للكفر عن المرء لو وقع في الكفر بسببه .. ويقوي ذلك ويُضعفه القرائن المحيطة بالمتأول ذاته .. هل الأصل فيه تتبع المتشابهات وتقديمها على المحكمات .. وهل يُعرف عنه شيء من تأويلات الزنادقة الغلاة أم لا .. وهل يُعرف عنه تحكيم العقل على النقل .. وهل يُشتهر عنه أنه من أهل البدع والأهواء .. أم أن أصوله سنية سلفية .. لكنه كبا وزلّ .. وأيهما أكثر صوابه أم خطؤه .. وهل خطأه مقصوداً لذاته أم هو من قبيل الاجتهاد الخاطئ .. هذه الأمور وغيرها كلها معتبرة عند تحديد المعذور بالتأويل من غيره ممن لا يُعذر ..!
والذي يريد أن يستشرف الحكم على الآخرين ممن يقعون في الكفر ورد النصوص من جهة التأويل الخاطئ .. لا بد له من أن يكون محيطاً بكل ما تقدم من اعتبارات وقرائن .. والله تعالى أعلم!
كما يمكننا القول كذلك: أن من كان تأويله مؤداه إلى إبطال العمل بالأحكام الظاهرة للشريعة .. أو جحود الخالق - سبحانه وتعالى - .. أو إبطال مقاصد الشريعة وغاياتها .. أو رد النصوص المحكمة وإبطال العمل بها .. فهذا النوع من التأويل
ـ وإن سُمي تأويلاً ـ كفر وزندقة .. لا يمكن أن يُدرج في خانة التأويل المستساغ أو المعتبر ..!
رابعاً: عدم بلوغه النص الشرعي:
(1/120)
... دلت نصوص الشريعة أن الخطاب لا يلزم المرء إلا بعد بلوغه إياه؛ لأن إدراك مراد الشارع قبل بلوغ الخطاب متعذر، وهو شيء لا يقدر عليه الإنسان ولا يستطيعه، ومن كان كذلك يعذر بالجهل إلى أن يبلغه النص الذي به يُرفع جهله وعجزه فيما قد خالف فيه .. لأن العجز ـ كما أفدنا من قبل ـ يرفع عن صاحبه التكليف إلى حين توفر الاستطاعة ببلوغ النص إليه.
... كما في حديث الذي يرويه ابن عباس، عندما أهدى رجل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :" هل علمت أن الله عز وجل حرمها "[(1)].
... فهذا الرجل عندما أهدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، كان قطعاً يعتقد حلها بعد أن حرمها الله، لكن لعدم علمه بخطاب التحريم عذره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يكفر لاستحلاله ما حرم الله وبين له أن الله - عز وجل - قد حرمها!
... كذلك صلاة الصحابة في مسجد قباء واستقبالهم بيت المقدس بعد نزول الأمر باستقبال الكعبة، لكن لعدم علمهم بالأمر كانوا معذورين، حتى أتاهم رسول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم في صلاة الصبح فأخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلة، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا ـ وهم ركوع ـ إلى الكعبة!
... وكذلك قول الرجل للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ما شاء الله وشئت. قال:" أجعلتني لله نداً بل قل ما شاء الله وحده" وفي رواية:" ما شاء الله ثم شئت ".
... فهذا الرجل عندما قال مقولته الشركية تلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قطعاً لا يعلم أن قوله هذا من الشرك ـ لذلك عُذر ـ إلى أن بين له الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلمه .. ومن دون أن يُعنفه.
__________
(1) 139 تقدم تخريجه.
(1/121)
... ومن تأمل سبب خلاف أهل العلم في الفتيا لأدرك أن السبب الرئيسي في ذلك هو بلوغ النص الشرعي لبعضهم دون البعض الآخر، وذلك بحكم تفرق الصحابة ـ الذين منهم يُتلقى العلم النبوي الشريف ـ في الأمصار للجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله تعالى.
... لكن مما يجدر التنبيه له، أن من يجهل الخطاب الشرعي ـ القرآن والسنة ـ عن تقصير متعمد منه يستطيع دفعه وتفاديه، يختلف عمن يجهل الخطاب الشرعي عن عجز وعدم تقصير منه في بذل جهد يستطيعه .. فالأول لا يعذر بالجهل وإن ادعى أنه لم يبلغه الخطاب، وأما الآخر فهو معذور .. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
... ثم تأمل لو أن رجلاً يعيش في مجتمع قد استفاضت فيه العلوم الشرعية، وبخاصة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، يستحل لنفسه الشرك، والربا والخمر والزنى .. ثم يعتذر بعد ذلك بأن الخطاب الذي يفيد تحريم هذه الفواحش والكبائر لم يصله، علماً أنه لو بذل أقل جهد يستطيعه لأدرك حرمة هذه الفواحش ولبلغه الخطاب في حرمتها ..!
... أترى لمثل هذا ـ في دين الله تعالى ـ عذراً يعذره ..؟!
الجواب: لا .. إلا في دين ومذهب أهل التجهم والإرجاء الذين يرون الجهل عذراً على الإطلاق .. ومن دون قيد ولا شرط!!
... ـ أقول بعض أهل العلم في بيان الحالات التي يعذر بها المسلم بالجهل:
أ ـ ابن تيميه:
... قال رحمه الله: التكفير من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة.
(1/122)
ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لم يسمع بتلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً، ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه أولم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية، والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر. ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول[(1)].
... ب ـ ابن حزم:
... قال رحمه الله: الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام وسواء
علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه، وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قول الله تعالى: { وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى: { وأعرض عن الجاهلين } . فأمر أن يهدر فعل الجاهل.
__________
(1) 140الفتاوى: 3/ 21، 11/ 406 - 407.
(1/123)
... ومما يدل على أن الشرائع لا تلزم إلا من عرفها، ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من أنه لم يزجر عدي بن حاتم عما تأوله في العاقلَين لكن علمه، وسقط اللوم عن عدي لأنه تأول جاهلاً، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة إذ تكلم فيها عامداً، وكذلك ما نص من أهل قباء إلى بيت المقدس، وقد كان نسخ ذلك .. فصح كما أوردنا أنه لا نذارة بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر، وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه، فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها[(1)].
... ج ـ محمد بن عبد الوهاب:
... قال رحمه الله: فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف[(2)].
... ـ ضابط موانع التكفير: لو تأملت موانع التكفير الآنفة الذكر جميعها لوجدتها ـ على تعددها وتنوعها ـ تشترك في ضابط واحدٍ لأجله اعتبرت مانعاً من موانع التكفير ألا وهو: ضابط العجز عن إدراك مراد الشارع فيما قد حصلت فيه المخالفة ..!
... فلو تأملت أي مانع من موانع التكفير ـ الآنفة الذكر ـ التي تكلم عنها أهل العلم تجد أنه يحقق عند الجاهل المعين صفة العجز عن إدراك مراد الشارع فيما قد خالف فيه ..!
... وعليه فأيما مانعٍ لا يُحقق عند المرء صفة العجز عن إدراك مراد الشارع فيما قد خالف فيه أو جهل .. لا يُعتبر مانعاً، ولو عُد مانعاً .. فهو مانع غير معتبر شرعاً.
... هذا ضابط جامع لجميع موانع التكفير لا يمكن أن يخلو مانع منه .. فاحفظ ذلك.
... ـ قاعدة: من خلال ما تقدم نستخلص القاعدة التالية:" كلُّ كافرٍ جاهلٌ، وليس كلُّ جاهلٍ كافراً ".
__________
(1) 141الأحكام:5/ 111و 114،1/60.
(2) 142الرسائل الشخصية، ص 244.
(1/124)
... أما أنّ كل كافر جاهل فهو لوصف الله تعالى للكافرين في آياتٍ عدة من القرآن الكريم بأنهم لا يعقلون .. ولا يعلمون .. ولا يفقهون .. وأنهم عميٌ لا يُبصرون ولا يسمعون .. وغير ذلك من الأوصاف التي تدمغهم بالجهل المطبق بالحق.
... وأما أنه ليس كل جاهل كافراً .. فهو لاحتمال وجود موانع التكفير الآنفة الذكر أو بعضها بحقه التي تمنع من تكفيره بعينه كما تقدم .. والله تعالى أعلم.
ـ مسألة: شاتم الله والرسول .. هل يُعذر بالجهل ؟!
مما يثُار في هذا الزمان في هذا الزمان أن شاتم الله ورسوله يمكن أن يُعذر بالجهل ..؟!
وللرد على هذه الشبهة نقول: لا يُعذر الشاتم لله ولرسوله بالجهل أو بأي مانع آخر غير الإكراه لحديث عمار - رضي الله عنه - لما أكرهه كفار قريش على النيل من جناب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } النحل:106.
أما أنه لا يُعذر بالجهل: لاستحالة وجود مسلم ـ مهما كانت ظروفه وأحواله ـ دخل الإسلام بشهادة التوحيد ثم هو يجهل أنه يجب عليه أن يعظم الخالق - سبحانه وتعالى - ، ويوقر نبيه - صلى الله عليه وسلم - ..!
فالعذر بالجهل ـ كما تقدم ـ يكون مع العجز في دفع الجهل .. والسؤال: أين يكمن الجهل المعجز عند شاتم الله ورسوله ..؟!
بل أفسق المسلمين وأفجرهم يعلم أنه لا يجوز شتم الله ورسوله .. بل ويعلم أن الشتم يعني الكفر والخروج من الملة، حتى أن أحدهم إذا سمع الآخر يشتم، قال له: لا تكفر .. بدلاً من أن يقول له لا تشتم ..!
فافتراض العذر بالجهل في هذا الموضع من الكفر هو من ضروب الإرجاء وأهله .. أعاذنا الله منهم ومن شرهم.
(1/125)
ومن شذوذات الشيخ ناصر ـ رحمه الله ـ التي أخذت عليه أنه لا يرى كفر شاتم الله ورسوله على الاطلاق لاحتمال أن يكون معذوراً بالجهل وغير ذلك من الأعذار الساقطة الواهية، حيث يقول كما في شريطه " الكفر كفران ": لا أرى كفر شاتم الله ورسوله على الإطلاق؛ فقد يكون السب والشتم ناتجاً عن الجهل، وعن سوء تربية، وقد يكون عن غفلة .. وأخيراً قد يكون عن قصد وعن معرفة، وإذا كان بهذه الصورة عن قصد ومعرفة فهو الردة
الذي لا إشكال فيها .." ا- هـ.
قلت: وهذا قول باطل مردود .. وهو مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة .. والذي حمل الشيخ على الوقوع في هذا الخطأ وغيره فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. والتي هي أقرب ما تكون إلى أصول أهل التجهم والإرجاء .. كما بينا ذلك في مواضع عدة، وبخاصة في ردنا عليه في " الانتصار لأهل التوحيد ..".
قال ابن تيميه في "الصارم" ص546: فإن كان ـ شاتم الله ـ مسلماً وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له. ... قال عبد الله، سُئل أبي عن رجل قال:يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك ! قال أبي ـ أحمد بن حنبل ـ: هذا مرتد عن الإسلام، قلت لأبي: تضرب عنقه قال: نعم نضرب عنقه ا هـ.
... ثم قال في موضع آخر من كتابه " الصارم" ص512: إن سبّ الله ورسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذا هلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل. ويجب أن يُعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة.
وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، والمعروف بابن راهوية: قد أجمع المسلمون أن من قتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بما أنزل الله ا- هـ.
(1/126)
... وقال الشيخ محمد أنور الكشميري، في كتابه"إكفار الملحدين" ص64:
أجمع عوام أهل العلم على أن من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل، وحكى الطبري مثله عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه - صلى الله عليه وسلم - أو برئ منه أو كذبه.
قال محمد بن سحنون: أجمع العملاء على أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المستنقص له كافر، ومنه شك في كفره وعذابه كفر ا- هـ.
وقال ابن حزم في المحلى: وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يُعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى، وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام ..!
إلى أن قال: وهذا كفر مجرد لأنه خلاف لإجماع الأمة، ولحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وجميع الصحابة ومن بعدهم ا- هـ.
... لكن هل شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستتاب، ولو تاب هل يُرفع عنه حكم القتل ..؟ الذي رجحه ابن تيميه في كتابه" الصارم" وساق عليه الأدلة من الكتاب والسنة، وفعل الصحابة: أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُستتاب، وهو يقتل كفراً وحداً، فإن تاب من الكفر وكان صادقاً في توبته فإن ذلك قد ينفعه يوم القيامة أما في الدنيا يجب أن يقتل حداً، حقاً من حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عفى عن بعض من شتمه في حياته، وقبل منهم توبتهم ..؟
الجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حقه أن يعفو عمن نال من جنابه ومن حقه أن لا يعفو .. أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فمن المخول من الأمة أن يعفو عن حق هو خاص
بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ..؟!
(1/127)
... لذلك كان الخلفاء الراشدون ـ رضوان الله عليهم ـ لا يرون لشاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سوى القتل وإن تاب، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول:" إن حد الأنبياء ليس يُشبه الحدود ".
هذا إيجاز شديد فيما يتعلق في الجواب على المسألة .. فالمقام هنا لا يسمح بأكثر من ذلك .. ومن أراد التفصيل فقد أفردنا للمسألة بحثاً مستقلاً " بعنوان تنبيه الغافلين إلى حكم شاتم الله والدين " وهو مطبوع ومنشور في موقعنا على الإنترنت فليراجعه من شاء .. ومن أراد أن يستزيد فعليه بكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الصارم المسلول " فإنه حجة في بابه..!
... ـ تنبيه:
... ما قلناه عن الحالات التي لا يعذر الكافر بالجهل بسببها، يصح أن نقوله عن المسلم الجاهل لو كان جهله بسببها، وما قلناه هناك بخصوص الكافر الجاهل يصح أن يقال في المسلم الجاهل، فليراجع.
... مع وجود الفارق في أن المسلم لو وقع في الكفر بسبب حالة من تلك الحالات الأنفة الذكر، التي لا يعذر صاحبها بالجهل .. فإنه يصبح مرتداً وكافراً كفر ردة، بينما الآخر فهو كافر أصلاً.
... ـ القدر الذي تقوم به الحجة على المسلم الجاهل:
... ذكرت آنفا أن الحديث عن القدر الذي به تقوم الحجة على المسلم الجاهل يختلف بعض الشيء عما قلناه بخصوص الكافر الجاهل، فالمسلم الجاهل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويؤمن بالإسلام ولو على وجه الإجمال .. ولربما يعرف كثيراً من أحكامه التفصيلية.
ومن كانت هذه صفته لا يصح أن يقال فيه ما قيل فيمن لم يسمع قط
عن بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعرف شيئاً عن الإسلام حتى ولا أسمه.
(1/128)
... لذلك نقول: لو أن المسلم وقع في ناقضة من نواقص الإسلام عن جهل منه يعذره، فإن الحجة تقوم عليه بما يدفع جهله في هذه الناقضة التي وقع فيها، فلو استحل الربا ـ مثلاً لحداثة عهده بالإسلام ـ لا تقوم عليه الحجة لو بين له أن الصلاة فرض، وأن صيام شهر رمضان فرض، وأن الله قد حرم الخمر والميسر والزنى .. أو بُين له جميع أحكام الدين ووصله فيها الخبر باستثناء حكم الإسلام في الربا؛ لأن كل ذلك لا يوجد عنده الاستطاعة على دفع جهله في حكم الإسلام في الربا ..!
لذلك حتى تقوم عليه الحجة لا بد من أن يصله النص الشرعي ـ قال الله قال رسوله ـ الذي يدفع عنه الجهل بحكم الربى .. وبذلك تكون الحجة قد قامت عليه.
... وهذا ما فعله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما أذن لابن عباس أن يذهب لمناظرة الخوارج وإقامة الحجة عليهم بإزالة ما عندهم من شبه حتى قيل إنه رجع منهم وقتئذٍ أكثر من أربعة آلاف رجل.
وشاهدنا أن ابن عباس لم يناظر الخوارج ويقيم عليهم الحجة في وجوب الصلوات الخمس، أو صيام رمضان، أو وجوب حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، أو أن يوم البعث والنشور حق .. إنما أقام عليهم الحجة بدفع تأويلاتهم الباطلة وما عندهم من شبه.
... وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عندما ناظر القدرية حتى أظهر لهم الحق فأقروه، ثم بعد موته نقض " غيلان القدري " التوبة فصلب وقتل.
وأيضاً ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع قدامة بن مظعون عندما أول
الآية وأباح لنفسه الخمر، فأقام عليه الحجة في مسألة تأويله الخاطئ للآية، من دون أن يخوض معه في مسائل أخرى من أحكام الدين .. وهذا أمر بين لا يحتاج إلى مزيد استدلال وإيضاح.
... ـ صفة قيام الحجة على المسلم الجاهل:
(1/129)
... فهي تختلف باختلاف الجهال وحسب ما عندهم من شبه، فبعض الشبه تزول وتقام الحجة على صاحبها لمجرد بلوغه النص من الكتاب والسنة. ومثل هذا يستطيع أي مسلم ـ مهما كان مستواه العلمي قليلاً، إلا أنه حافظ للنص المطلوب فاهم لمدلولاته ـ أن يقيم عليه الحجة، وكذلك لو وصله النص عن طريق الكتاب أو المذياع وغيرها من وسائل الإعلام والإخبار، فكل ذلك يكفي لإقامة الحجة على مثل هذا الجاهل.
... ولكن بعض الشبه مصدرها الفهم الخاطئ للنص ولمراد الشارع، أو لعدم إحسان التوفيق بين النصوص .. فمثل هذه الحالة لا بد للوسيلة التي من خلالها تقام الحجة أن تحيط بقدر من العلم الذي يحقق العلم عند الجاهل فيما قد جهل فيه .. ويدفع عنه شبهته.
... والوسيلة هذه قد تتمثل في أي مسلم لكن يشترط فيه أن يكون قد أحاط علماً بشبهة الجاهل، وبقدر من العلم الذي يدفع عنه شبهته وجهله، وإلا فاقد الشيء لا يعطيه ..!
ويقوم مقامه كتب أهل العلم لما فيها من التفصيلات والشروح، و كذلك ما يكتب من مقالات إسلامية في المجلات وغيرها، وكذلك الدروس العلمية، والخطب والمواعظ التي يلقيها أهل العلم في الحلقات وعبر وسائل الإعلام المختلفة .. فكل هذه الوسائل يمكن أن تقوم بها الحجة.
... إلا أنه يشترط في جميع ما ذكرنا من وسائل أن تراعي شبهة الجاهل، وأن تتضمن الإجابة الشرعية الصحيحة على شبهته بشكل يمكنه من معرفة الحق فيما كان يجهله .. وفيما أشكل عليه!
... ولا يشترط في قيام الحجة إقناع الجاهل، فهذا أمر متعسر لا سلطان للعبد عليه إلا إذا شاء الله .. فالله تعالى وحده الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء .. وعلى يد من يشاء - سبحانه وتعالى - . ...
قال تعالى: { ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم } الأنفال: 23.
(1/130)
... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أي حرصاً على تعلم الدين لأسمعهم أي لأفهمهم. هذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدل منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين.
... فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين[(1)].
... كما قال تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهية قلوبهم } الأنبياء:2.
* * *
...
ـ هل يُعذر المسلمون بالجهل في هذا الزمان؟
... مما تقدم يُعلم أن الجهل حيثما تتوفر أسبابه ودواعيه التي لا يمكن دفعها، فإنه يعذر صاحبه إلى أن تقوم عليه الحجة النبوية، وذلك في أي زمان وأي مكان، وهذه قاعدة دلت عليها النصوص الشرعية، لا ينبغي الحياد عنها .. كما تقدم تفصيل ذلك.
... أما الإجابة على السؤال: بنعم أو لا، فهذا أمر لا نستطيع أن نجزم به على وجه التحديد أو التعيين؛ لأنه ليس بمقدورنا أن نعرف ظروف وأحوال أكثر من مليار مسلم يعيشون متفرقين في أجزاء شتى من الأرض في هذا الزمان، وننظر إلى كل واحد منهم ـ وإلى ظروفه وأحواله ـ هل يعذر بالجهل أم لا ..؟! فهذا أمر لا طاقة لنا به، وليس من اختصاصنا أصلاً أن نخوض فيه، والحق أن نوكل الأمر إلى الله تعالى فهو الخبير بأحوال عباده، و هو العليم بمن يعذر بالجهل منهم ومن لا يعذر، ومن قامت عليه الحجة ممن لم تقم عليه.
... لكن نقول على وجه العموم: إن أي زمان أو مكان استفاضت فيه العلوم الشرعية استفاضة يتعذر معها حصول الجهل عند من يصدق العزم والرغبة في طلب العلم الشرعي، في مثل هذا الواقع يضيق فيه جداً مبدأ العذر بالجهل، إذ العلم متوفر للجميع إلا من يأباه ويُعرض عنه ..!
__________
(1) 143مفيد المستفيد.
(1/131)
والمتأمل لواقع المسلمين في بلادهم، وبخاصة منها العربية يجد أن العلم الشرعي الديني قد استفاض استفاضة واسعة ما استفاضها من قبل، وذلك بسبب كثرة الوسائل المختلفة التي تقوم بنشر العلوم الشرعية، مما يتعذر معه حصول الجهل ـ وبخاصة في متطلبات التوحيد ونواقضه، وفيما هو معلوم من الدين بالضرورة ـ عند كل من يرغب صادقاً في طلب العلم الشرعي، ومعرفة ما يجب عليه نحو دينه وربه.
... ومن يتأمل الجهل في الشريعة الحاصل لكثير من المسلمين في بلادهم، يجد أن سببه الرئيسي يعود إلى الكسل في طلب العلم ـ رغم توفره ـ أو بسبب الانشغال الزائد بالدنيا وزخرفها ومتاعها، أو بسبب انعدام الرغبة الصادقة في طلب العلم، أو بسبب جفاء القلب عن ذكر الله وطاعته .. وكل هذه الأسباب لا تعذر صاحبها بالجهل لو كان جهله بسببها .. كما تقدم.
... وقولنا هذا لا يستلزم منا أن ننفي وجود أفراد أو جماعات من المسلمين يعيشون الجهل والجوع في ظروف قاهرة لا تطاق قد تعذرهم لو جهلوا في مسألة بل مسائل من مسائل الدين الضرورية، وبخاصة منهم الذين يعيشون في أدغال أفريقيا وغاباتها، أو الذين يعيشون ظروف حرب وقتال تحول بينهم وبين شد الرحال لطلب العلم الشرعي في مظانه، كما هو الحال في جنوب السودان، وفي جنوب الفلبين، وفي أفغانستان .. وغيرها من البلدان التي يُحكم فيها المسلمون بالنار والحديد، التي لا يعلم حال أهلها إلا الله - سبحانه وتعالى - .
(1/132)
... بالإضافة إلى ما سبق .. ماطرأ من إجراءات معقدة وصعبة على عملية السفر والتنقل والترحال ـ التي لم يكن سلفنا الصالح يعرفها من قبل ـ تحيل بين العباد وشد رحالهم إلى أماكن توفر العلم، وطلبه من مظانه .. فالحدود قد نصبوا عليها الحواجز أمام عبور العباد، فالمرء لا يستطيع أن يسافر إلا بعد حصوله على دفتر سموه " جواز سفر " . ولو حصل عليه في كثير من البلدان لا يستطيع أن يسافر إلا بعد حصوله على إذن خاص من الجهات الأمنية المختصة تجيز سفره، فإذا لم تأذن له فهو بعد كل ما اتخذ من اجراءات لا يستطيع السفر.. ولو أذنت له بالسفر ـ بعد الرشاوى وتدخل الشفعاء والوساطات ـ فليس كل جواز يمكِّن صاحبه من السفر في الاتجاه الذي يريد .. فكما أن العنصرية التي تقوم على أساس ألوان بشرة الإنسان موجودة .. كذلك العنصرية القائمة على أساس ألوان جوازات السفر موجود ..!!
... فالجوازات السورية والمصرية والعراقية غير الجوازات الخليجية .. والجوازات الخليجية غير الجوازات الأوربية .. ومؤخراً بحكم سياسات التضييق والإرهاب التي تنتهجها الأنظمة الطاغية باسم ملاحقة ومطاردة الإرهاب ـ زعموا! ـ لم يعد ينفع مع المسلم جواز .. أياً كان لونه .. وكان مصدره .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
... هذا واقع نعايشه .. يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم .. لا بد من اعتباره ووضعه في الحسبان عند الحديث عن الجهل ومبرراته ودواعيه .. وعند الحديث عن ضرورة التماس الأعذار للناس ..!
* * *
ـ خاتمة:
اعلم يا عبد الله أن أعظم عمل وأنبل مهمة يقوم بها الإنسان على وجه الأرض هي الدعوة إلى الله تعالى .. الدعوة إلى توحيد وعبادته - سبحانه وتعالى - .. إلى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وسجنها إلى سعة الجنة ونعيمها.
(1/133)
... قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فصلت:33.
... ومن كانت هذه مهمته لا بد من أن يتحلى بصفات وخصال هي من ضروريات ومستلزمات الدعوة الناجحة:
... منها: أن يكون رفيقاً، سهلاً، هيناً، ليناً مع الناس .. وفيما يدعوهم إليه من الخير.
... قال تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } آل عمران:159.
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" من يحرم الرفق يحرم الخير".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه ".
... ومنها: أن يجتنب الغلو في الدين والتشدد فيه، ويختار الأيسر دائماً ما خير بين أمرين كلاهما دلت عليهما الشريعة .. إقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
... كما في الحديث، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو بالدين".
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يُغالب هذا الدين يغلبه".
... ومنها: أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة .. وان يُجادل ـ بالكتاب والسنة ـ بالتي هي أحسن .. ما وجد الجدال نافعاً! ...
قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } النحل:125
(1/134)
ومنها: أن يُبشر ولا يُنفر .. وأن يراعي عقول الناس؛ فلا يُحدثهم بحديث يفتنهم فيه .. يحملهم على أن يكذبوا الله ورسوله .. وهم لا يدرون!
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ادعوا الناس، وبشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا ".
... وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله.
... ومنها: أن لا يجعل من نفسه قاضياً على العباد بغير حق .. فيدخل النار من يشاء، ويُخرج منها من يشاء .. وليعلم أن الأمر كله لله تعالى.
... ثم هو بعد كل ذلك، يجب عليه أن يصبر على أذى الناس وخلطتهم .. لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً .. يبتغي الأجر والثواب من الله تعالى وحده.
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ".
... فإن فعل ذلك وأخلص النية والعمل لله تعالى وحده .. فهو المعني حينئذٍ من قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله وملائكته، حتى النملة في حجرها ، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير"[(1)].
... نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ـ بمنه ورحمته وفضله ـ منهم .. إنه تعالى سميع قريب مجيب. ...
... { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } البقرة:286.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
ـ ملحق:
__________
(1) جميع الأحاديث التي تم الاستدلال بها في الخاتمة صحيحة ولله الحمد.
(1/135)
إتماماً للفائدة، وزيادة في النفع .. واستشرافاً لما عند الله تعالى من الأجر العظيم .. نضيف هذا الملحق الذي يتضمن الإجابة على الأسئلة التي وردتنا عبر موقعنا على الإنترنت .. ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل وقيام الحجة .. سائلين الله تعالى التوفيق والقبول.
السؤال الأول: ما حكم من يكفِّر الدعاة والعلماء الذين دخلوا المعترك الديمقراطي، وقال يكفرون بلا إقامة الحجة ..؟!!
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. لا يقدم على تكفير مجموع العلماء والدعاة بالجملة الذين دخلوا المعترك الديمقراطي أو أقروه .. عاقل يتقي ربه .. ولا يقدم على هذا الفعل الشنيع إلا كل جاهل هان عليه دينه .. ملوث بشبهات الغلاة من الخوارج، إن لم يكن هو من الغلاة الخوارج .. !!
... لكن من كفر آحاد الدعاة بعينه لدخوله المعترك الديمقراطي وتلوثه بها وبمزالقها .. فإنه يُنظر إلى حاله: إن كان من ذوي العلم والاجتهاد، وأصوله أصول أهل السنة والجماعة، ولم يُعرف عنه غلو ولا إرجاء، ثم هو كفَّر ذلك الداعية لقرائن تلزمه بتكفيره شرعاً، قد لا تكون هذه القرائن ظهرت لغيره .. فمثل هذا ليس عليه شيء ـ حتى وإن أخطأ في الحكم ـ ولا يجوز أن يُشنع عليه تكفيَره لذلك الداعية ..!!
... أما إن كان ذلك المكفِّر لذلك الداعية من عوام الناس، أو ممن عُرفوا بالطلب للعلم لكن أصوله أصول الغلاة المخالفة لأصول أهل السنة والجماعة، أو قد عُرف بالغلو والتنطع وكثرة الهوى .. فمثل هذا يُنكر عليه، ولا يُلتفت إلى تكفيره، ولا يُعتد به .. وهو متهم سواء أصاب أم أخطأ .
... والمسألة قد بحثناها بشيءٍ من التفصيل في كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية " فليراجعه من أراد المزيد .
* * *
... س2: ماذا يقول فضيلتكم في مسألة كفر التعيين بالنسبة للأحزاب المرتدة، أي هل ترون أن موانع التكفير تشمل المنتمين والمقاتلين في صفوف المرتدين أم لا ..؟
(1/136)
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. الأحزاب المرتدة المعاصرة متفاوتة ومتباينة فيما بينها من حيث صراحة الكفر ووضوحه .. ومن حيث وقوعها وممارستها للكفر البواح .. فيوجد فرق مثلاً بين الحزب الشيوعي الذي تقوم مبادئه على الإلحاد ومحاربة الأديان، وإنكار وجود الله .. وبين حزب مرتد آخر جمع بين الحق والباطل .. يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض .. ويدعو عناصره إلى التمسك بالفضائل العامة، واجتناب الرذائل المشينة .. وتحرير الأوطان وغير ذلك!
... فالذي ينتمي للحزب الأول الشيوعي لا يُعذر بالجهل ولا بأي مانع آخر من موانع التكفير .. ويكفر بعينه ولا بد .. وبخاصة إن بلغ به الأمر إلى درجة أنه يقاتل في صفوفهم ضد أهل الإيمان والتوحيد .. بخلاف الحزب الآخر الذي يحتمل وجود العناصر المضللين فيه نحو كفر وعمالة الحزب الذي ينتمون إليه .. فهؤلاء لا شك أن ساحة التأويل والأعذار تتسع بحقهم بعض الشيء؛ فلا يُكفَّرون بأعيانهم إلا بعد قيام الحجة الشرعية التي تدفع عنهم الجهل الذي كان سبباً في انتمائهم لهذا الحزب أو ذاك .. وبخاصة إن كانوا من أهل القبلة والصلاة !
... بمعنى آخر .. كلما اشتد كفر الحزب المرتد .. وكان كفره ظاهراً بواحاً .. كلما ضاقت ساحة الأعذار والتأويل بحق أفراده ولحق بهم حكم الكفر بأعيانهم وذواتهم .. وكلما كان كفر الحزب المرتد خفياً أو مبطناً وغير بائنٍ إلا للمتخصصين .. كلما اتسعت ـ ولا بد ـ ساحة التأويل والأعذار بحق أفراده التي تمنع من تكفيرهم بأعيانهم إلى أن تقوم عليهم الحجة من جهة نذارة الرسل .. وبخاصة إن كانوا من أهل القبلة وعوام الناس !!
(1/137)
... وعليه فالقول بأن كل من ينتمي لهذه الأحزاب كفار بأعيانهم ولا يُعذرون بأي مانع من موانع التكفير .. هو قول غير دقيق ولا سديد .. وكذلك من يقول أن كل من ينتمي لهذه الأحزاب من الأفراد معذورون بموانع التكفير، ولا بد من قيام الحجة على أعيانهم قبل القول بكفرهم .. هو قول غير دقيق ولا سديد ..!
... والحق الذي نعتقده صواباً هو التفصيل بين شخص وشخص .. وبين حزب وحزب .. كما تقدم في أول الجواب على هذا السؤال .. والله تعالى أعلم .
* * *
... س3: هل الحكام الذين يحكمون المسلمين في الوقت الحاضر كفار كلهم بأعينهم؛ أي نستطيع أن نقول فلان بن علان كافر أم لا .. أم أننا نكفرهم جملة لا تفصيلاً؛ أي نقول الحكام في الوقت الحاضر كفار، ولا نقول فلان بن فلان كافر .. وأين موقع العذر بالجهل وإقامة الحجة عليهم ..؟؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين . لا استحسن كلمة " كلهم " ومثيلاتها من الكلمات العامة التي لا تستثني أحداً عندما يُتكلم في مسائل الكفر والإيمان؛ لأن كلمة " كلهم " تشمل حكام أفغانستان الطالبان، وحكام الشيشان من إخواننا المجاهدين .. وغيرهم من الحكام الذين نجهل حالهم ووصفهم على وجه التحقيق والذي يمكننا من إصدار الأحكام بحقهم ..!
... ولكن الذي يمكننا قوله، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن أغلب حكام المسلمين وبخاصة منهم حكام بلادنا .. هم كفار مرتدون بأعيانهم، وقولي بأعيانهم؛ أي يمكنك أن تحكم عليهم بالكفر والردة بأسمائهم وأشخاصهم .. ولا يجوز التردد أو التوقف في ذلك !
... أما هل يُعذرون بالجهل أو بمانع من موانع التكفير ..؟
(1/138)
... فأقول: هؤلاء الطواغيت لا يُعذرون بالجهل ولا بمانع من موانع التكفير التي تكلم عنها أهل العلم .. وإقحام مسألة العذر بالجهل أو الحديث عن الموانع في هذا الموطن .. هو هزء بالدين وهو من قبيل تعطيل أحكام الله تعالى من أن تأخذ طريقها إلى حيز الواقع والوجود .. والقول بعذر إبليس بالجهل ربما يكون أصوب من القول بعذر طواغيت الحكم هؤلاء بالجهل .. والقول بضرورة قيام الحجة على إبليس قبل تكفيره لربما يكون أكثر استساغة من القول بضرورة قيام الحجة على هؤلاء الطواغيت قبل تكفيرهم .. وكلاهما خطأ وباطل !!
* * *
... س4: هناك أخ يقول أن هؤلاء القوم ـ النصارى في بلاد الغرب ـ هم ضالون وكفار بمجملهم ثم يقول: إنه لا يكفر معينهم حتى يقيم عليه الحجة؛ أي حتى يكون كافراً معانداً، أما دون ذلك فهو لا يكفرهم .. فما نصيحتكم لهذا الأخ، وما حكم من يقول ذلك .. وجزاكم الله خيراً ؟؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين . النصارى ـ أينما كانوا ـ كفار بنص الكتاب، كما قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } . وقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } .
... ومن لا يكفرهم لزمه رد الكتاب وتكذيب آيات الله تعالى .. وهذا عين الكفر البواح .. وعليه وعلى أمثاله تحمل القاعدة المعروفة: من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فقد كفر ..!
... ثم إذا كان صاحبكم لا يرى كفرهم على التعيين فماذا يقول فيهم .. هل يحكم عليهم بأنهم مسلمون ؟!
... فالمرء إن لم يكن مسلماً كان كافراً، وإن لم يكن كافراً كان مسلماً ولا خيار ثالث بينهما .. فإن كان لا يرى كفر أعيانهم لزمه ـ ولا بد ـ بأن يحكم عليهم بالإسلام .. وهذا كفر آخر إذ يسمي الكفر والشرك إسلاماً وإيماناً ..!
(1/139)
... ونصيحتنا له: بأن يتقي الله ربه .. وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله بشيء .. وأن يطلب العلم .. ويسأل إن جهل فإن دواء الجهل سؤال أهل العلم، كما قال تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
* * *
س5: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 12/488-489:" ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه . واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوا به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع ".
ما تعليقكم على هذه المقولة بالتفصيل، مع عدم إغفال أن المجادلين عن طواغيت العصر كثيراً ما يتكئون على ما نقله شيخ الإسلام عن الإمام رحمهما الله في دفاعهم عن الطواغيت ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين . ورد كلام شيخ الإسلام الآنف الذكر في
معرض حديثه عن الكفر العام والكفر المعين، وأن الكفر العام لا يستلزم دائماً تكفير المعين .. ثم استدل بكلام الإمام أحمد رحمه الله على مخالفيه من أهل التجهم والاعتزال الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق وليس كلام الله، وكيف أنه كفر بعضهم بأعيانهم ـ بسبب هذا القول ـ وكيف أنه أمسك عن تكفير البعض وحللهم من ظلمهم له .. منهم الخليفة في زمانه كالمعتصم وغيره الذي نصر القول بأن القرآن مخلوق لظنه أن هذا هو الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ..!
(1/140)
... والذي حمل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ على تكفير البعض بأعيانهم، والإمساك عن البعض رغم اشتراكهما بنفس الذنب والكفر .. هو لثبوت شروط التكفير، وانتفاء موانعه ببعض، وانتفاء الشروط وثبوت الموانع عن البعض الآخر .. وكان من هؤلاء الآخر الخليفة الحاكم في زمانه .. لعلم الإمام أن الذي حمله على هذا القول وهذا الظلم الذي نصر فيه قول المعتزلة في مسألة خلق القرآن أنه لم يرد به التكذيب ومجرد الجحود للصفات وتشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما حمله على هذا الظلم التنزيه والتعظيم للخالق كما كان يظن ..!
... لنقرأ الأسطر التي تلي الأسطر التي ذكرتها في سؤالك من كلام شيخ الإسلام وفي نفس الصفحة والمصدر يتضح لك كل ما تقدم حيث يقول رحمه الله: وقد نقل عن أحمد أنه كفر به ـ القول بخلق القرآن ـ قوماً معينين، فأما أن يُذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ لقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه، فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم . والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة، والإجماع .. ا- هـ.
... هذا هو سبب إمساك الإمام أحمد عن كفر الخليفة في زمانه .. فهل الذين يمسكون عن تكفير الطواغيت في هذا الزمان لهذا السبب أو نحوه ..؟!
... فهل هذا الكفر البواح المتعدد والمتنوع الذي يظهر من طواغيت هذا الزمان أرادوا منه التعظيم والتنزيه للخالق - سبحانه وتعالى - .. كما كان مقصود ومراد المعتصم وغيره ..حتى يُحمل عليهم مقولة الإمام أحمد في خلفاء زمانه ؟!!
... وهل طواغيت الحكم في هذا الزمان يسيِّرون كتائب الجهاد في سبيل الله لمواجهة أعداء الأمة كما كان يفعل المعتصم وغيره من حكام العباسيين .. حتى يُحمل عليهم ما قاله الإمام أحمد في المعتصم وغيره ..؟!
(1/141)
... وهل طواغيت زماننا يحكمون بما أنزل الله .. ويحبون الحكم بما أنزل الله ويحرصون عليه كما كان حال الخلفاء زمن الإمام أحمد .. حتى يُحمل عليهم ما قاله الإمام أحمد في خلفاء زمانه ..؟!
... وهل طواغيت الجور في زماننا عندما يعتقلون الدعاة والعلماء ويفتنونهم عن دينهم بالتعذيب وغيره .. هل مرادهم من ذلك كله أن يحملوهم على مراد الشارع كما كان مراد المعتصم من الإمام أحمد .. ؟!!
... فإذا علمنا أنهما لا يستويان مثلاً ـ ولا يجوز القول بغير ذلك ـ علمنا خطأ أولئك الفادح عندما يحملون مقولة الإمام أحمد التي قالها في خلفاء زمانه على طواغيت زماننا .. وعلمنا كذلك بيقين أنه ليس لهم أدنى حجة في ذلك وهم في معمعة الجدال عن طواغيت الحكم في هذا العصر .. والله تعالى أعلم.
* * *
س6: هل يجب قيام الحجة على طواغيت الحكم المعاصرين .. قبل الحكم عليهم بالكفر ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. قيام الحجة تجب على من يقع في المخالفة عن جهل لا يمكن له دفعه؛ أي أنه عاجز عن دفع جهله .. وهؤلاء الطواغيت المسؤول عنهم ليسوا كذلك .. بل هم من أعلم الناس بدين الله تعالى .. لذلك تجدهم يحسنون وضع الخطط لمحاربة الإسلام كخبراء بتعاليم هذا الدين وبمدى خطورتها عليهم ..!
... والذي يطالب بقيام الحجة على هؤلاء الطواغيت كشرط لتكفيرهم .. هو المغفل الجاهل الذي ينبغي أن تقام عليه الحجة .. وليس هؤلاء الطواغيت ..!!
* * *
... س7: كيف نوفق بين حديث كل مولود يولد على الفطرة .. وبين قول عائشة رضي الله عنها للطفل المتوفى أنه طائر من طيور الجنة .. ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قولها ذلك .. وجزاكم الله خيراً ؟
(1/142)
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. مصير أطفال المشركين يوم القيامة هي من جملة المسائل التي اختلف فيها أهل العلم .. والصواب الذي نراه: أن أطفال المشركين ـ وإن ولدوا على الفطرة ـ إلا أنه لا يُجزم لهم بجنة ولا نار؛ على اعتبار علم الله تعالى بما كانوا عاملين لو قدر لهم الحياة .. ولما سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن مصير أطفال المشركين يوم القيامة، قال:" الله أعلم بما كانوا عاملين " أي يترك أمرهم إلى علم الله تعالى فيهم؛ فلا نجزم لهم بجنة ولا نار .. وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم .. ونقله أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة، والله تعالى أعلم.
* * *
... س8: قال الطحاوي:" ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا نارا " فإذا مات شخص على الكفر فهل يجوز لنا أن نشهد له بالنار أم ماذا ..؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. مراد الطحاوي رحمه الله" ولا ننزل أحداً منهم .. " أي من أهل القبلة .. لا نشهد لأحد منهم بجنة ولا نار إلا ما ثبت في حقه النص أنه من أهل الجنة كالمبشرين العشرة من الصحابة وغيرهم ..
أما الكافر إن مات على الكفر فإننا نشهد له بالنار لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي:" حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ".
* * *
س9: ما حكم الإسلام في الجهمية المعطلة .. وفي من يقول بقولهم ؟؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. بالنسبة للجهمية المعطلة كطائفة فهي طائفة كفر وردة لقيام أصولها على جحود الخالق وتعطيل أسمائه وصفاته - سبحانه وتعالى - .. ولا أعرف أحداً من أهل العلم من توقف عن تكفيرهم.
... ولكن في تكفير الواحد المعين منهم .. لا ينبغي الإقدام عليه إلا بعد النظر في توفر شروط التكفير بحقه، وانتفاء موانعه عنه .. فقد كان الإمام أحمد رحمه الله رغم قوله بكفر قولهم إلا أنه كان يمسك عن تكفير كثير منهم بأعيانهم لعدم ثبوت شروط التكفير بحقهم عنده، وكان يدعو ويستغفر لبعضهم!
(1/143)
... قال ابن تيمية في الفتاوى 23/348: إنما كان ـ أحمد ـ يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة بينة، ولأن حقيقة أمرهم يدور على التعطيل.
... وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم؛ فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه .. ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وغير ذلك. ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول بذلك، ومع هذا فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك.
... وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله ا- هـ.
... قلت: من باب أولى الإمساك عن تكفير من وافق الجهمية في بعض قولهم والنظر إلى شروط التكفير والموانع بحقه .. وبخاصة إن كانت أصوله الأخرى أصول سنية .. وبخاصة إن كان من ذوي العلم والاجتهاد المتقدمين في خدمة الدعوة والسنة .. وبخاصة إن كان خطؤه الذي وقع فيه ناتجاً عن اجتهاد وتأويل .. فمثل هؤلاء لا بد من أن نتأول لهم ـ ونترحم عليهم ـ ونثني عليهم خيراً فيما أصابوا فيه الحق .. مع بقاء القول بخطئهم فيما أخطأوا فيه .. وكفر قولهم إن كان يرقى إلى درجة الكفر .. والله تعالى أعلم.
(1/144)
... قال الذهبي في السير30/45: غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا، وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء .. نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما اتبع فيه بتأويل سائغ، وإنما
العبرة بكثرة الحسنات ا- هـ.
... هذا ما يقتضيه الإنصاف .. وما أقل أهله!
* * *
س10: لقد تأصل عند جهمية عصرنا أن تكفير المعين لا يجوز القول به على الإطلاق إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع، سواء في أصول الدين أو في فروعه، ناسبين هذا التأصيل إلى أئمة الدعوة السلفية [ ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب ] فما مدى صحة هذا التأصيل وهذه النسبة .. مع العلم أننا لم نتمكن من الوقوف على ما كتبته في كتابيك: العذر بالجهل، وقواعد في التكفير ..؟!
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. هذا المعين إما أنه غير مسلم، وإما أنه مسلم؛ فإن كان غير مسلم يُكفر بعينه واسمه ـ ولا يجوز أن يُشهد له بغير ذلك أو يتوقف فيه ـ إلا أنه لا يُشهد له بالنار إلا بعد بلوغه نذارة الرسل؛ ونذارة الرسل تبلغه ببلوغه المعلومة التي تفيد بأن محمداً رسول الله للعالمين، أرسله الله تعالى بشهادة التوحيد.
... أما إن كان مسلماً ثم أحدث كفراً بقول، أو فعل، أو اعتقاد .. يُنظر إليه إن كان من ذوي الأعذار التي تقيل العسرات ـ وهي الموانع ـ التي جامعها العجز الذي لا يمكن دفعه .. بحيث يقع في المخالفة ـ ولو كانت كفراً ـ لعجزٍ لا يمكن له دفعه .. فمثل هذا لا يجوز أن يُحكم عليه بالكفر بعينه إلا بعد قيام الحجة التي تدفع عنه العجز فيما قد خالف فيه، وهو ما يُسمى بالشروط .. ولا فرق في ذلك بين الأصول والفروع!
... أما إن كان قد وقع في الكفر عن غير عجز لا يمكن له دفعه؛ أي أنه وقع
(1/145)
في الكفر من غير عذر معتبر، وهو قادر على أن يدفعه لكن لا يفعل لسبب من أسباب الدنيا ومشاغلها .. فمثل هذا ـ لو وقع في الكفر البواح ـ يُكفَّر بعينه ولا بد لانتفاء موانع التكفير عنه ..!
... فهذه المقولة " تكفير المعين لا يكون إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع " هي حق، ولكن كثيراً من الأحيان توضع في غير موضعها، ويريدون بها باطلاً، ويحملونها على طواغيت وأئمة في الكفر هم أعلم من إبليس ..!
... كما أن هذه المقولة المجملة .. قد حملوها من سقيم أفكارهم وإرجائهم ما يخرجها عن دلالاتها الشرعية التي قصدها أهل العلم في كلامهم وأبحاثهم !
... أما قضية التفريق بين الأصول والفروع، فقد تقدمت الإشارة أنه لا يوجد فرق بينهما، ولا يُعرف عن أحد من السلف من فرق بينهما من حيث العذر .. إن كانت هذه المخالفة وقعت عن عجز لا يمكن دفعه.
... والذي فرق بينهما من أهل العلم يُحمل كلامه على أنه لا عذر في مخالفة الأصول لاستفاضة العلم في الأمصار التي يعيشون فيها أو يقصدونها من كلامهم .. وأن العلم متيسر للجميع لمن أراده وقصده، لذا من يقع في الكفر أو الشرك لا يُعذر، لا لأنه وقع في الكفر أو الشرك، بل لأنه وقع فيه عن غير عجز .. وهو قادر على أن يدفعه وما فعل .. فما الذي منعه ..؟!
... لذلك عذروا ـ في هذا الموضع ـ في الفروع لاحتمال حصول العجز عن الإلمام في جميع فروع الدين، ولم يعذروا بالأصول، والأمور المعلومة من الدين بالضرورة لانتفاء إمكانية وجود العاجز ـ بحسب علمهم وغلبة الظن لديهم ـ عن إدراك هذه الأصول المعلومة من الدين بالضرورة لمن قصد وأراد أن يدركها أو يعرفها .. فالعلم متيسر .. وطلبه سهل .. والجهل به ناتج عن تقصير متعمد، وليس عن عجز لا يمكن دفعه!
(1/146)
... وهذا يعني أنه إذا توفرت ظروف ودواعي العجز المانع عن إدراك مراد الشارع ولو كان ذلك في الأصول .. فإنهم يعذرون بذلك، ولا بد لهم من العذر بذلك، لقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . ولقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } .
... قال الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يُعذبه على ما لم يستطعه ا- هـ.
... قلت: لأن العجز يرفع التكليف باتفاق، سواء كان هذا التكليف من الأصول أم من الفروع .. لا فرق.
... قال ابن تيمية في كتابه القيم رفع الملام ص114: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً ا- هـ.
... وقال في الفتاوى 20/61: فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ا- هـ.
... ما تقدم هو خلاصة مذاهب الفقهاء المعتبرين فيما سألتم عنه، الذين منهم شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب .. ولولا خشية الإطالة، وكثرة الأشغال لأتينا على ذكر أقوالهم قولاً قولاً، وربما بسطنا شيئاً من ذلك في أبحاثنا الأخرى ذا ت العلاقة بالموضوع، والحمد لله رب العالمين.
* * *
س11: لقد ادعى جهمية عصرنا في الجزائر الإجماع والاتفاق المطلق على العذر بالجهل، وأنها مسألة قطعية لا تقبل الخلاف، وكعادتهم نسبوا هذا القطع إلى ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وأهملوا ولم يراعوا ما كتبه أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أئمة الدعوة النجدية عن هذه القضية، فهل فعلاً هؤلاء العلماء يعذرون بالجهل أم لا ؟!
... وبخاصة أنهم لا يفصلون في إطلاق العذر، ولا في قيام الحجة، فهل يُشترط قيام الحجة على المشرك في عبادة الله، وما ضابطها وما صفتها، وما صفة من يقيمها ..؟
(1/147)
... مع العلم أنهم يوردون قولاً لشيخ الإسلام ابن تيمية مفاده: أنه يعذر بالجهل مطلقاً نظراً لعدم فشو العلم، ولغلبة الجهل، وأن هذه القاعدة من أعظم ما بينه شيخ الإسلام، وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبنى هذا القول، ولم يكفِّر الذي يطوف حول قبر البدوي، ولم يكفر ابن عربي الحلولي، في حين نجد علماء نجد يوجهون هذه النقولات بأنها قيلت مصلحة للدعوة، فما هو التوجيه الصحيح لهذا الكلام ..؟!
... الجواب: الحمد لله رب العالمين . بالنسبة للعذر بالجهل أقول: إن كان هذا الجهل عن عجز لا يمكن دفعه؛ كحديث عهد بالكفر، أو الذي يسكن في منطقة نائية لا العلم يصله، ولا هو يستطيع أن يصل العلم، أو لاندراس علوم الشريعة في البلدة التي يعيش فيها، ونحو ذلك فإن الجهل يعذر صاحبه، ويمنع عنه لحوق الوعيد .. ولا يجوز أن يُكفَّر
ـ لو وقع بالكفر بسبب ذلك ـ إلا بعد قيام الحجة الشرعية عليه؛ بإيصال المعلومة الشرعية الصحيحة التي تدفع عنه ما قد جهل به.
... والعذر بالجهل بهذا المعنى المتقدم هو موطن اتفاق جميع أهل العلم بحسب ما أعلم، الذين منهم شيخ الإسلام، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب .. وأحفاده رحمهم الله أجمعين.
... أما إن كان الجهل بفرائض الدين وشرائعه المعلومة من الدين بالضرورة ـ التي أعظمها التوحيد ـ ناتجاً عن تقصير يمكن دفعه، لكن صاحبه لا يفعل زهداً بالعلم وأهله، وانشغالاً بالدنيا وزينتها، وغير ذلك من الأسباب الساقطة .. فإن الجهل لا يعذر صاحبه، ولا يمنع عنه لحوق الوعيد وحكم الكفر لو وقع في الكفر .. وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
... فإن كثيراً من المشركين وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز .. بأنهم لا يعلمون .. ولا يفقهون .. ولا يعقلون .. وبأنهم جاهلون .. ومع ذلك فهم مشركون بأعيانهم ومعذبون يوم القيامة؛ لأن جهلهم ناتج عن إعراض عن العلم وعن تعلمه .. وليس عن عجز لا يمكن دفعه.
... والذين أخطأوا في مسألة العذر بالجهل صنفان:
(1/148)
... صنف قالوا بالعذر بالجهل على الإطلاق من دون تفصيل مستدلين بأقوال بعض أهل العلم التي تفيد العذر بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا بعد إقامة الحجة الشرعية عليه .. فحملوا كلامهم على القادر والعاجز، وجعلوهما سواء !!
... وفريق آخر لا يرى العذر بالجهل مطلقاً مستدلاً على قوله بالآيات التي تفيد أن المشركين لا يعلمون .. ولا يفقهون .. وأنهم جاهلون .. ومع ذلك فهم معذبون، متجاهلاً بذلك الآيات والأحاديث الأخرى التي تستثني من يقع بالجهل عن عجز لا يمكن دفعه ..!
... وكلاهما خطأ، والصواب الذي نعتقده، ونص عليه أهل العلم: هو التفصيل المتقدم الذكر.
... أما القول: بأن كلام الشيخ عن العذر بالجهل هو من قبيل مراعاة مصلحة الدعوة .. وليس لكون النصوص تدل على ذلك .. هو كلام غير صحيح لا يصح عن الشيخ، ولا يليق به .. وحبذا لو ذُكرت لنا المصادر التي ذَكر فيها أحفاده ذلك عن الشيخ ..!
... أما السؤال عن صفة الحجة .. وصفة قيامها على الجاهل المخالف ..؟
... أقول: المراد من الحجة هنا هي المعلومة الشرعية ـ المستمدة من الكتاب والسنة الصحيحة ـ التي تنفي عن المخالف عنصر الجهل فيما قد خالف فيه .. فلو وقع المرء في استحلال الربا مثلاً لا تقوم عليه الحجة لو بلغته النصوص التي تفيد حرمة الخمر، أو الزنى .. فلا تقوم عليه الحجة إلا بعد بلوغه النصوص التي تفيد حرمة الربا .. وهذا مثال ضربناه لكم لتوضيح الصورة، والقياس عليه.
(1/149)
... أما صفة من يقوم بهذه الحجة؛ أي بنقل هذه المعلومة الشرعية للجاهل المخالف .. تكمن في كل وسيلة تقدر على حمل هذه المعلومة الشرعية إليه؛ فقد يحملها ويقيمها عليه شخص عالم بهذه المعلومة الشرعية ـ ولا يُشترط فيه أن يكون عالماً بمجموع العلوم الشرعية كما يدعي البعض! ـ وقد يكون كتاباً، أو مجلة، أو مذياعاً، أو شريطاً مسجلاً يتضمن محاضرة أو درساً لأحد من أهل العلم تناول في درسه أو محاضرته ذكر المعلومة الشرعية التي تدفع عن المخالف الجهل فيما قد خالف فيه .. والله تعالى أعلم.
* * *
س12: أوَّل جهمية بلادنا ـ الجزائر ـ قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما فرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة، وقالوا أن الفهم فهمان: فهم الدعوة، وفهم الاستجابة .. فهل هذا صحيح .. وبارك الله فيكم ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين . كلمة " فهم الدعوة " كلمة مطاطة وحمالة أوجه، ولكن إن كان المراد منها فهم دلالات الخطاب الشرعي اللغوية بلغة يفهمها المخاطب فهذا معنى صحيح، وإن كان غير ذلك فهو معنى باطل وغير صحيح لا يريده الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا غيره من أهل العلم.
... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فإن حجة الله هو القرآن الكريم فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لا تفرقون بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلاً } .
... إلى أن قال: فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر - رضي الله عنه - بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يُعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } . [ الرسائل الشخصية:ص220 و 244 ].
(1/150)
... وقوله " وخلا من شيء يُعذر به " أي خلا من شيء يمنع من فهم الدلالات اللغوية للخطاب .. كأن يكون أعجمياً لا يفهم اللغة العربية .. أو أبكماً .. فمثل هذا لا بد من أن تقوم عليه الحجة بلغة يفهمها ويفهم ا المراد من تلك النصوص التي تتلى عليه .. والله تعالى أعلم.
* * *
... س13: يقول الشيخ أبو بصير ـ حفظه الله ـ في رسالته " مسائل هامة في بيان حال جيوش الأمة ": هذه الجيوش كافرة مرتدة لا شرعية لها، يجب جهادها وقتالها .. لا يستلزم من ذلك أن يكون كل واحد في هذه الجيوش كافراً مرتداً، بل فيها الكافر المرتد وغير ذلك لاحتمال وجود الموانع الآنفة الذكر .. الجهل .. الإكراه .. أن يكون عيناً للمسلمين .
... ثم نأتي للنقطة مثار الخلاف والنقاش، فيقول:" من ثبت لنا انتفاء موانع التكفير ـ الثلاثة الآنفة الذكر ـ عنه فهو كافر مرتد بعينه " .. فهو ـ حفظه الله ـ لا يكفر الجنود عيناً إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع .. هكذا نفهم ..؟
... فنتوجه بالسؤال: نسأل الله - عز وجل - أن يشرح قلوبنا للحق .. ما الفارق بين المرتد المقدور عليه والغير مقدور عليه، وعلاقته بوجوب أو عدم إقامة الحجة عليه ..؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. مادام المرتد المقدور عليه أو الغير مقدور عليه قد سميت كلاً منهما " بالمرتد " وحكمت عليه بالردة بعينه .. لم يعد مبرراً لذكر مسألة قيام الحجة؛ إذ قيام الحجة تُطلب وتُشترط قبل أن تأخذ الأحكام الشرعية طريقها إلى المعين .. وأما بعد أن نحكم على المعين بالردة بعينه فالحديث حينئذٍ عن قيام الحجة عليه من العبث أو الترف الجدلي لا طائل منه .. لا ينبغي أن تُذكر أو أن تُقحم .. وهو ما حُكم عليه بالردة ابتداء إلا لأن الحجة قد بلغته وقامت عليه .. فشرط قيام الحجة موجود قبل الحكم عليه بالردة .. فعلام يُقحم ثانية بعد وقوعه في الردة ..؟!
(1/151)
... وإنما الذي يُمكن ذكره في هذا الموضع هو مسألة الاستتابة: هل يُستتاب المرتد المقدور عليه أم لا .. وهل يوجد فرق بينه وبين المرتد المحارب الغير مقدور عليه أم لا .. .. وهل يوجد فرق بينه وبين المرتد المحارب الغير مقدور عليه أم لا .. والفرق بين الاستتابة وقيام الحجة فرق شاسع وبيِّن؛ فقيام الحجة تكون قبل أن نحكم على المعين بأنه كافر أو مرتد .. وتكون ـ أي الاستتابة ـ فرصته الأخيرة قبل أن يأخذ القصاص الشرعي طريقه إليه.
... بعد هذا الذي تقدم أقول: لو جاء السؤال بالصيغة التالية: ما الفرق بين من يقع بالردة المقدور عليه، وبين من يقع بالردة الغير مقدور عليه .. من حيث وجوب قيام الحجة عليه .. لكان السؤال مقبولاً ووجيهاً أكثر لعلمكم بالفارق بين المرتد وبين من يقع في الردة .. والله تعالى أعلم.
* * *
... س14: سعدنا بسرعة ردكم وقيامكم بالواجب الذي يليق بجنابكم للفصل في القضية محل النزاع .. وقد سردنا من قبل تمهيداً مبسطاً لا يخفى عليكم يبين للقراء مدى أهمية وخطورة القضية المطروحة .. ثم نتوجه لفضيلتكم بعد التعديل الذي تم بناءً على طلبكم وإيماناً بصوابه: ما الفرق بين من يقع بالردة المقدور عليه، وبين من يقع بالردة الغير مقدور عليه .. من حيث وجوب قيام الحجة عليه ..؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. تجب قيام الحجة على من يقع في المخالفة الشرعية ـ ولو كانت كفراً ـ على وجه العجز الذي لا يمكن دفعه، فمن وقع في المخالفة عن عجز لا يمكن له دفعه تُقام عليه الحجة التي تدفع عنه العجز فيما قد خالف فيه قبل أن تُحمل عليه الأحكام بعينه .. أما من يقع في المخالفة الشرعية عن جهل غير معجز يمكن له دفعه .. لكنه لسبب أو آخر ـ لا يعمل ـ ولا يحرص على دفعه .. فمثل هذا ـ لو وقع في المخالفة ـ لا يُعذر بالجهل .. ولا تجب إقامة الحجة عليه .. وأحكام الله تعالى تنزل عليه وتطاله بعينه .
(1/152)
... ولمعرفة العاجز من غير العاجز في معرفة الحق .. ينبغي النظر إلى عدة أمور منها: البيئة التي يعيش فيها .. ومنها: المسألة التي جهل فيها .. هل هي من الأمور الخفية المشكلة .. أم من الأمور الجلية التي استفاض فيها العلم ..!
... هذه قاعدة .. تُبنى عليها جميع مسائل العذر بالجهل وقيام الحجة تقريباً ..!
... والآن نأتي إلى المسألة المطروحة فأقول: لا فرق بين من يقع بالردة المقدور عليه وبين من يقع بالردة الغير مقدور عليه من حيث وجوب قيام الحجة .. لأن مناط وجوب قيام الحجة وجود الجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه .. بغض النظر عن هذا المخالف هل هو ممن يُقدر عليه أم لا .
... إلا أنه يمكننا القول أن هذا الغير مقدور عليه إذا كان ممن يمتنع بالقتال ومظاهرة المشركين ـ إضافة إلى وقوعه بالردة ـ فإنه حينئذٍ لا بد من قتاله على أنه كافر مرتد بعينه .. والله تعالى يتولى سريرته إن كانت غير ذلك .. ونحن معذورون لأنه لا سبيل لنا إلا على ظاهره الذي يلزمنا بكفره وتكفيره.
* * *
... س15: جزاك الله خيراً شيخي الكريم .. وإني لأطمع في مزيدٍ من الوقت ليزول الإشكال، ويُرفع ما عندي من اللبس، فبالله الذي لا إله إلا هو إن في حل هذا الإشكال الخير الكثير بإذن الله وما نبغي منه إلا اتباع الحق .. فنتوجه بالسؤال لفضيلتكم: ما تفسيركم لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمه العباس وذلك حين أجرى عليه أحكام الكفار في أخذ الفداء من الأسرى واعتباره كافراً عيناً في الحكم الظاهر، وما كان ذلك إلا لخروجه في غزوة بدر مع الكفار لقتال المسلمين، ولم يأخذ بدعوى الإكراه كمانع في حقه ..؟
... ولهذا روي أن العباس قال: يا رسول الله كنت مكرهاً، قال:" أما
ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله "[ مجموع الفتاوى:19/224_225].
(1/153)
... وما تفسير فضيلتكم على إجماع الصحابة على كفر أنصار أئمة الردة كأنصار مسيلمة، وطليحة الأسدي، وما ترتب عليه من غنم أموالهم وسبي نسائهم وشهودهم على قتلاهم بأنهم في النار، وهذا تكفير منهم لهم على التعيين .. رغم أن فيهم المكره والجاهل المضلل ..؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. العباس لم يكن مكرهاً الإكراه الشرعي الذي يمنع من لحوق الوعيد به لأنه كان قبل أن يُكره على الخروج للقتال يقدر على الهجرة .. وهو من الذين يستطيعون حيلة، ويهتدون سبيلاً .. لكنه لم يفعل .. فظل مقيماً بين أظهر المشركين بإرادته إلى أن أكره على الخروج معهم للقتال .. لذلك لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره بالإكراه .. فهناك فرق بين أن ينزل الإكراه بك من دون إرادتك .. وبين أن ينزل بك الإكراه بإرادتك واستشراف منك فالأول يعذر، والآخر لا يعذر.
... أما قولك أن الصحابة قد أجمعوا على تكفير أعيان أنصار مسيلمة الكذاب، وطليحة الأسدي .. بما في ذلك المكره والجاهل .. فهذا لا أعرفه .. وحبذا لو ذكرتم لنا مصدر هذا الإجماع ..؟!
... ثم كيف يكون إجماعاً وهو مخالف لقوله تعالى: { إلا من أكره } .. فمن ثبت تكفيره من
قبل السلف بعينه فهذا لا يكون مكرهاً الإكراه المعتبر .. ولا جاهلاً الجهل المعتبر ..؟!
... والمعروف أن الصحابة استنطقوا المرتدين عند استتابتهم ووقف قتالهم بأن
يقروا:" بأن قتلاهم في النار .. وقتلى المسلمين في الجنة " وهذا حكم عام .. وصيغة عامة لا تفيد تعيين أفراد المعسكرين بأعيانهم سواء عسكر المسلمين .. أم عسكر المرتدين .. والله تعالى أعلم.
* * *
(1/154)
... س16: عصمنا الله بالتقوى، ووفقنا لموافقة الهدى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } .. { وقل ربي زدني علماً } ، وبعد: لقد سعدنا كثيراً بتفسيركم لقصة العباس وموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - منه يوم بدر، وهو الموافق لتفسير الآية: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } فجزاكم الله خيراً لتنبيهنا لتلك النقطة .. وإن كان لا يزال هناك إشكال في فهمنا لمقولة شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى:19/224- 225:وقد يُقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال ويُبعث على نيته كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم، فقيل يا رسول الله وفيهم المكره ؟ قال: يُبعثون على نياتهم " وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بما يُحكم على الكفار، فالله يبعثه على نيته كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويُبعثون على نياتهم والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر ......
... ولهذا روي أن العباس قال يا رسول الله كنت مكرهاً قال: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله .. ا- هـ.
... فهذا إقرار من شيخ الإسلام رحمه الله ـ على حد علمي ـ بالكفر
حكماً وليس على الحقيقة على كل من خرج إلى القتال مع الكفار، ولو كان مؤمناً مكرهاً في الحقيقة ؟؟
... ثم سؤالنا لفضيلتكم حفظكم الله وزادكم علماً .. ما وجه استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بحديث العباس على هذا الحكم .. وحقيقة قوله " ولا يمكنه الهجرة " مع ما تقرر لدينا أنه كان يستطيع الهجرة ..؟؟
(1/155)
... هذا بالنسبة لحديث العباس أما بالنسبة لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ـ فهو على حد علمي ـ قد ثبت بالقول وبالفعل وبالإقرار، أما القول: فهو قول أبي بكر " وتكون قتلاكم في النار " ووافقه عمر وتتابع القوم على قول عم ر كما في حديث طارق بن شهاب، وأما الفعل: فهو أن الصحابة قاتلوهم جميعاً على صفة واحدة؛ وهي صفة قتال أهل الردة ولم يُفرقوا بين تابع
ومتبوع، وأما الإقرار: فهو أنه لا يُعرف مخالف أو منكر من الصحابة لهذا .
... وكون قول أبي بكر - رضي الله عنه - " وتكون قتلاكم في النار " عندما ذكرناه كدليل على تكفيرهم عيناً فإنما كان ذلك باستدلالنا على قول الطحاوي " ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا نُنزل أحداً منهم جنة ولا نارا " إنما كانت الشهادة بالنار تجوز كما لا يخفى عليكم على كل من مات على الكفر كقوله عليه الصلاة والسلام:" حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار ".
... وأخيراً حتى لا نطيل عليكم نريد من فضيلتكم توضيحاً أكثر لمقولتكم " فمن ثبت تكفيره من قبل السلف بعينه فهذا لا يكون مكرهاً الإكراه المعتبر .. ولا جاهلاً الجهل المعتبر " فأنى لهم أن يعلموا هذا وهم لم يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع لما كانوا ممتنعين بالشوكة، وقد كانوا ألوفاً، فقد ذكر
ابن تيمية أن أتباع مسيلمة كانوا نحو مائة ألف أو أكثر ..؟!
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. أجيب على ما تقد م من أسئلة واعتراضات في النقاط التالية:
... 1- يُستفاد من كلام شيخ الإسلام أن عسكر الكفر يُقاتل بما فيهم المكرهين على القتال مع المؤمنين .. لصعوبة تمييزهم عن الكافرين .. ولوجودهم في صفوف القتال مع الكافرين .. وأن المكرهين من المؤمنين يُبعثون على نياتهم يوم القيامة .
(1/156)
... مع ضرورة التنبيه إلى أن هذا المؤمن المكره الذي يكثر سواد الكافرين لا يجوز له أن يُباشر مهمة قتال المسلمين .. ولو كان مكرهاً .. فالإكراه يبرر له الخروج .. ولا يبرر له مباشرة القتال .. ولو كان على وجه الدفاع عن النفس .. وإن أدى عصيانه إلى قتله من قبل المشركين .. فدمه ليس أعز من دم إخوانه المسلمين ..!
... فإن باشر القتال مع المشركين ضد المسلمين فإنه يضعف في حقه عذر الإكراه كمانع من موانع لحوق الوعيد بالمعين .. إن لم يزل كلياً !
... 2- ويُستفاد كذلك أن هؤلاء المكرهين من المؤمنين يأخذون حكم الكافرين في الدنيا على اعتبار ظاهرهم .. وصعوبة معرفتهم أو تمييزهم .. فيأخذون لأجل ذلك وصف وحكم العسكر الذي هم فيه .. والله تعالى يتولى سرائرهم يوم القيامة .. ولو أمكن معرفتهم أو تمييزهم بأعيانهم لم جاز الحكم عليهم بالكفر أو الخلود في النار .. ولو كانوا صرعى بين قتلى المشركين .. والله تعالى أعلم.
... فإن قيل علام قد نفيت من قبل تكفير الصحابة لأعيان المكرهين على القتال في صفوف المرتدين ..؟!
... أقول: الذي نفيناه .. وننفيه جواز الحكم على المعين بالكفر أو الخلود في النار .. مع العلم المسبق أن هذا المعين إنما حمله على الوقوع في الكفر الإكراه المعتبر شرعاً.
... والذي أثبتناه ونثبته ما تقدم ذكره؛ وهو الحكم على المعين المكره بالكفر والخلود في النار لاعتبار ظاهره المكفر الذي وافته المنية عليه .. ولجهلنا بأنه من المؤمنين المكرهين المعذورين .. والله تعالى أعلم.
... 3- أما سؤالكم عن وجه استدلال شيخ الإسلام بحديث العباس على هذا الحكم، وحقيقة قوله " ولا يمكنه الهجرة " مع ما تقرر لدينا أنه كان يستطيع الهجرة ..؟!
... أقول: إن شيخ الإسلام قد استدل بحديث العباس على أن الجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر .. ولم يستدل به على مسألتنا المتقدمة أو " على هذا الحكم " كما قلت !
(1/157)
... أعد قراءة كلامه من جديد .. وإليك كلامه:" والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي أن العباس قال .. " الخ.
... فهو أولاً ابتدأ كلامه كفقرة جديدة عن الفقرة التي قبلها .. ثم جاء استدلاله بما روي عن ابن عباس كجملة تفسيرية لما جاء قبلها من كلام .. فانتبه إلى " الفاصلة التفسيرية المنقوطة " التي تفسر ما قبلها .. والتي حذفتها ووضعت بدلاً عنها عدة نقاط التي توحي بوجود كلام لشيخ الإسلام لا دخل له في المسألة قد تجاوزته للاختصار، وهذا لا شك أنه يخل بالمعنى الذي يريده شيخ الإسلام!
... 4- ومما يمكن أن يُقال كذلك أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - للعباس:" ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله "؛ أي أن ظاهرك الذي كان علينا لا يدل على أنك كنت مكرهاً الإكراه الشرعي الذي يعذر .. فالله تعالى يتولى سريرتك، وهو الأعلم بك هل كنت صادقاً في دعواك الإكراه أم لا .. والذي يعيننا على هذا الفهم أن جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رداً على كلام العباس الذي زعم فيه أنه كان مكرهاً ..!
... ومما أضعف من اعتذار العباس بالإكراه كذلك أنه قد باشر القتال .. وهذا ليس من شأن المكره كما أفدنا من قبل، كما في رواية السدي قال: لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" افد نفسك وابن أخيك "، قال يا رسول الله: ألم نصلِّ قبلتك، ونشهد شهادتك ..؟ قال:" يا عباس إنكم خاصمتم فخُصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } .
... 5- إلزام الصحابة للمرتدين بأن يقولوا:" أن قتلاهم في النار " ليس فيه دليل على موطن الخلاف؛ وهو تكفيرهم للمعين المكره من المؤمنين بأنه كافر ومن أهل النار .. وعبارتهم المتقدمة صيغة من صيغ العموم كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(1/158)
... 6- لا وجه لاستدلالك بكلام الطحاوي على تكفير المعين .. فكلام الطحاوي المنقول يفيد أنه لا يجوز أن نشهد لأحد بعينه ـ ممن لم يرد فيهم نص ـ من أهل القبلة بجنة ولا نار .. فكلامه بواد ومسألتنا في وادٍ آخر .. مع ضرورة التنبيه أنه يجوز لنا أن نشهد لأهل القبلة على وجه العموم بالجنة، كأن نقول: قتلى المسلمين شهداء وهم في الجنة .. قتلانا في الجنة .. وقتلى المشركين في النار .. ونحوها من العبارات العامة، فهذا لا حرج فيه إن شاء الله.
... 7- قولك " فأنى لهم ـ أي السلف ـ أن يعلموا هذا وهم لم يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع لما كانوا ممتنعين بالشوكة، وقد كانوا ألوفاً .. " الخ .
... أقول: كلامك هذا ليس دقيقاً؛ فقد ثبت أن الصحابة كانوا يتثبتون .. ويحققون .. ويُحاجون من يجدونه في سلطان مسيلمة الكذاب ممن أشكل عليهم حقيقة موقفه، كما حصل مع خالد بن الوليد وهو في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدوا، فأرسل مائتي فارس وقدمهم كطليعة لجيشه، وقال لهم من أصبتم من الناس فخذوه، فأخذوا " مُجاعة " في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد، قال له: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكُ كذاباً قد خرج فينا فإن الله يقول: { ولا تزر وازرة وزر أخرى " !
... قال خالد: يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه، وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري، إقرار له ورضاء بما جاء به !
... فهل لا أبيت عذراً، وتكلمت فيمن تكلم؛ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتلكم أليشكري .. فإن قلت أخاف قومي، فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ..؟!!
... فقال مُجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفوا عن هذا كله ..؟!
... قال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك ..!! [ مجموعة التوحيد:199 ].
(1/159)
... أقول: القصة فيها فوائد عدة وعظيمة يخصنا منها: إثبات ما كنت قد نفيته بأن الصحابة لم يكونوا يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع .. والله تعالى أعلم.
... 8- وفي الختام أود أن أخبرك يا صقر أني أحبك في الله .. راجياً الله تعالى أن يكثر في الأمة الصقور .. وأن يقتل خفافيش الدجى والنفاق والإرجاف ..
* * *
... س17: أحبك الله الذي أحببتني فيه .. من كان شيخه كتابه كثر خطأه وقل صوابه .. ومن تواصل مع العلماء فقه وأصاب وقلت عثراته .. أدام الله علمكم ورعاكم .
... شيخي الحبيب .. نقطة هامة لالتقاء الكلمة ووضوح المعنى الذي تبين لنا أنكم معشر العلماء ـ علماء الجهاد ـ قد تختلف عباراتكم قليلاً ولكن الرؤية والمعنى يكاد يكون واحداً باستثناء تفاوت التكفير بينكم صعوداً وهبوطاً .. ولما لا وقد شهدنا لكم بالإخلاص ولا نزكي على الله منكم أحداً وشهدتم على أنفسكم بالاتباع ورضيتم بطريقة السلف منهجاً ..
... فقولكم:" ويُستفاد كذلك أن هؤلاء المكرهين من المؤمنين يأخذون حكم الكافرين في الدنيا على اعتبار ظاهرهم .. وصعوبة معرفتهم أو تمييزهم .. فيأخذون لأجل ذلك وصف وحكم العسكر الذي هم فيه .. والله تعالى يتولى سرائرهم يوم القيامة .. ولو أمكن معرفتهم أو تمييزهم لما جاز الحكم عليهم بالكفر أو الخلود في النار .. ولو كانوا صرعى بين قتلى المشركين .. والله تعالى أعلم ".
... هذا ما كنا نريد منكم بفضل الله توضيحه .. ففقه الجهاد كما لا يخفى عليكم ليس كباقي أبواب الفقه لما في الغلط من قبل الأخوة في تفسير ألفاظه من استحلال الأموال والدماء وإحباط المسيرة الجهادية ما بين الإفراط والتفريط !
... فجزاكم الله عنا خيراً كثيراً، ونرجو من فضيلتكم نشر تلك المسألة في رسالة صغيرة على موقعكم بعد الترتيب والتنقيح لعموم الفائدة .
... وسؤالي الأخير لفضيلتكم: ما رأيكم في تلك العبارة " أن الممتنع إن قام
(1/160)
في حقه مانع لم نطلع عليه، أو لم يظهر لنا، فنحن معذورون في معاملته معاملة الكفار من قتل وغنم مال ونحوه .. ونحن غير مطالبين باستيفاء الشروط وتبين الموانع مادام تلبّس بنصرة الشرك وامتنع عن القدرة " فأرجو تنقيحها وتهذيبها .. وشكراً ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. الممتنع الذي يظاهر المشركين على المسلمين .. يُقاتل على أنه منهم، ويُعامل معاملتهم .. ولا يُشترط هنا تتبع الموانع؛ لأنه متعسر وغير ممكن .. واشتراطه يستلزم منه تعطيل الجهاد، وتعريض حرمات البلاد والعباد إلى الانتهاك من قبل الأعداء .. وقد مضت السنة أن جيش الكفار يُقاتل ومن دون التحري عن العناصر المعذورين .. فإن وجدوا وقُتلوا بُعثوا على نياتهم .. وجزاهم الله على سرائرهم.
... مع التنبيه إلى أن هذه المسألة حساسة ودقيقة .. ينبغي التعامل معها بفقه وتقوى .. وبخاصة أننا نعيش في زمان الأمة كلها ممتنعة عن الطاعة لسلطان الإسلام .. إلا من رحم الله .. لأن الإسلام ليس له السلطان الذي يذود عنه ويُقاتل دونه .. والذي يفرض على العباد الدخول في السلم والطاعة كافة!
... لذا نجد أنفسنا ملزمين ـ ومن قبيل السياسة الشرعية ـ أن نطالب المجاهدين في أصقاع الأرض بأن يُحسنوا ترتيب أولوياتهم .. والابتداء بالأشد كفراً وشراً وعداءً .. وأن لا يُعملوا السيف في الأمة .. بحجة أنهم ممتنعون عن الطاعة أو الحجة .. وأن لا يبدأوا بالذراري والنساء والشيوخ! ـ وهو ما لا نراه جائزاً ـ ومن لا زبر له يزبره .. ويتركوا طواغيت وصناديد الكفر والطغيان تعربد في البلاد وتفتن العباد .. كيفما تشاء .. والله تعالى أعلم.
* * *
(1/161)
... س18: جزاكم الله خيراً شيخنا الفاضل، وبارك فيكم وفي علمكم .. لقد أشكل علي شيء في مقالكم أرجو منكم أن تبينوه وهو قولكم عن حاطب - رضي الله عنه - :" أنه كان متأولاً في فعله .. لم يكن يعلم ـ أو يظن ـ أن هذا الذي فعله يمكن أن يرقى إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام .. أو أنه يضر في إيمانه .. ولم يكن يقصد به الغش والغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
... فما درجة قبول العذر بالتأويل .. وهل يُشترط أن يعلم أن هذا الفعل يرقى به إلى الكفر .. أليس يكفي أن يعلم أنه محرم .. وهل يُشترط عدم قصد الغش، أليس الفعل نفسه يعتبر غشاً .. وهل يُعتبر الجهل بكون الفعل كفراً مع العلم بأنه محرم نوعاً من التأويل المقبول .. نرجو أن تبينوا لنا وجزاكم الله خيراً ؟؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. أفيد على ما تقدم من إشكال وأسئلة بما يلي:
... 1- بالنسبة لقصة حاطب .. لا بد من النظر إلى مجموع الأسباب والعوامل التي أقالت عثرته، وحالت من لحوق وعيد الكفر به والتي أجملنا ذكرها في النقاط الخمس من مقالنا " حكم الجاسوس " .
... فإن اقتصر النظر على سببٍ منها دون غيرها .. صعب علينا فهم قصة حاطب والأسباب الحقيقية التي أدت إلى إقالة عثرته وحالت دون لحوق الكفر به.
... 2- عند الحديث عن صحابي بدري جليل كحاطب .. وعما كبا وزل فيه .. لا بد من أن نُعمل معه أحسن الظن والتأويل .. بما يليق بجنابه وفضله وجهاده، وحسناته .. وهذا بخلاف لو أردنا أن نتناول شخصاً معيناً مجروحاً في عدالته .. مشبوهاً في علاقاته وارتباطاته .. فإنه لا يحتاج ولا يستحق منا إلى كل
هذا التأويل والظن الحسن ..!
... 3- التأويل أحياناً يكون مانعاً من موانع لحوق الكفر والوعيد بالمعين .. وذلك بحسب نوعية وقوة التأويل واستساغته شرعاً، وعقلاً، ولغة.
(1/162)
... وعند الحكم على معين بأنه معذور بالتأويل لا بد من النظر إلى أمور منها: المسألة التي تأولها .. هل تحتمل التأويل أم لا .. والطريقة التي تأول بها هل هي مستساغة شرعاً ولغة وعقلاً .. والشخص المؤَّل ذاته .. والملابسات المحيطة به التي حملته على هذا النوع من التأويل .. والنظر إلى سيرته ومواقفه العامة من دين الله تعالى .. هل هو ممن يعهد عليهم تأويلات وتفسيرات أهل الزندقة أم لا .. فهذا كله يؤثر على تحديد التأويل المعذر من سواه .. ويُحدد الدرجة التي يُتأول له بها .. حيث هناك تأويل يمنع عن المعين لحوق التكفير لكن لا يمنع عنه التضليل والتأثيم والتعزير .. وهناك تأويل يُسقط عنه حد الردة ولا يُسقط عنه ما دونه من الحدود .. وهناك تأويل يسقطهما معاً في الدنيا والآخرة .. وهذا فقه كبير .. تفصيله يطول لا يسمح به المقام هنا .. لا بد لمن يستشرف الحكم على الآخرين بالتأويل أو عدمه أن يكون ملماً إلماماً جيداً بهذا الفقه .. والله تعالى أعلم.
... 4- حديثنا عن سلامة القصد .. وتشفعه لحاطب .. ذكرنا أن ذلك كان خاصية من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يُقيل عثرات بعض أصحابه لعلمه بسلامة سريرتهم وقصدهم وباطنهم عن طريق الوحي .. وهذه ليست لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ بمعنى لو فعل شخص في زماننا ما فعله حاطب .. لا يمكن أن نحكم على باطنه وقصده .. وإنما نحكم عليه من خلال ما يظهر لنا من كفر أو إيمان .. وهذا الذي أردناه عندما ذكرنا أثر عمر - رضي الله عنه - .
(1/163)
... 5- إذا أردت يا أخي أن تأخذ من مقالي فقط الفقرة التي أشكلت عليك الآنفة الذكر .. من دون أن تجمع بينها وبين غيرها من النقاط والكلام .. أو من دون أن تنظر إلى مجموع المقال وتحسن التوفيق بين أجزائه .. ومقدماته ونتائجه .. تظلمني .. وتظلم المقال .. وتظلم حاطباً .. وتظلم المسألة كمسألة شرعية علمية .. هذا ما يحضرني الآن .. وما يسمح به الوقت من الإجابة على ما أشكل عليكم، وما تقدم من استفسارات .. أدعو الله لي ولكم بأن يفقهنا بالدين .. وأن يجعلنا من العاملين بما نعلم .. والحمد لله رب العالمين.
* * *
س19: إننا نعيش هنا في مصر وهي بلدة مرتدة مثل جميع البلاد المسماة إسلامية في هذا الزمان؛ لتركهم دين الإسلام ودخولهم في دين الطاغوت وشرعه وحكمه .. فأهل هذه البلاد مع كونهم يقولون لا إله إلا الله، إلا أنهم ارتكبوا جميع نواقض هذه الشهادة مثل الحكم والتحاكم إلى القانون الوضعي، وعبادة القبور والأضرحة وموالاة الكفار أعداء الدين، ومحاربة أولياء الله المسلمين الموحدين ..!
والسؤال: هو أنني لا أحكم لمجهول الحال في هذه البلاد التي أعيش فيها بالإسلام الحكمي، ولا أصلي إلا خلف من أعرف عقيدته ولا آكل إلا من ذبيحة الموحدين الذين أعرفهم .. فهل هذه بدعة .. وهل قول الرجل لا إله إلا الله يكفي للحكم له بالإسلام .. وهل الصلاة تعتبر دلالة على الإسلام في هذا الزمان .. مع العلم بأن الفتوى تُبنى على أصلين وهما: معرفة حال القوم، ومعرفة الحكم الشرعي ؟؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. ارتداد الأنظمة الحاكمة لا يستلزم ارتداد
المسلمين الذين يعيشون في تلك الأمصار التي تحكمها تلك الأنظمة المرتدة ..!
(1/164)
... وأمصارنا لا تختلف كثيراً عن بلدة ماردين التي سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية .. حيث كان فيها الكفار ويمثلون الطبقة الحاكمة المتنفذة .. والمسلمون ويمثلون عامة الناس والسكان، فأجاب شيخ الإسلام 28/240: دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها .. وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه ا- هـ.
... قلت: وهذا الحكم يُحمل على أكثر أمصار المسلمين في هذا العصر لتطابق أوصافها مع أوصاف بلدة ماردين التي سُئل عنها شيخ الإسلام.
... أما قولك عن أهل مصر وغيرها من أمصار المسلمين ـ على التعميم ومن دون استثناء ـ بأنهم كفروا وارتدوا ووقعوا في جميع نواقض الإيمان .. فهو وصف غير دقيق ولا صحيح، ولا ينم عن دراية بأحوال الناس ومجتمعاتهم .. وله نتائج سيئة على دينك وآخرتك!
... فالفتوى الشرعية ـ كما ذكرت! ـ يُشترط لها الدراية بواقع المسألة، وبالأدلة الشرعية المطابقة لهذا الواقع .. وهذا ما لم تلتزم به في حكمك المتسرع ـ على العباد ـ الآنف الذكر!
... وعليه فأقول: من أظهر شهادة التوحيد .. أو الصلاة ونحو ذلك من القرائن التي تدل على إسلامه .. وجب الإقرار له بالإسلام .. والتعامل معه معاملة المسلمين .. من صلاة خلفه .. أو أكل لذبيحته وغير ذلك، ولا يجوز أن يُعامل بخلاف ذلك .. أو يُحكم له بالكفر والخروج من الإسلام إلا إذا أظهر الكفر البواح ـ من غير مانع شرعي معتبر ـ لنا فيه من الكتاب أو السنة برهان قاطع.
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله " البخاري.
(1/165)
... ولم يُلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بأن يتحروا عن اعتقاده .. وحقيقة إسلامه وإيمانه .. كما ألزمت أنت نفسك !
... وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ذات يومٍ رجلاً ـ وهو في غزوة من غزواته ـ يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال - صلى الله عليه وسلم - :" على الفطرة "، فقال: لا إله إلا الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - :" خرجت من النار ".
... هذا حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فاحذر أن تخالف حكمه وأمره .. فتهلك وتضل.
... أما الصلاة خلف مستور الحال فقد نقل شيخ الإسلام اتفاق الأئمة على ذلك، فقال 4/542: وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ا- هـ.
... ثم اعلم أن هذا الاعتقاد الذي أنت عليه ـ إضافة إلى كونه مخالفاً للكتاب والسنة، وفهم الصحابة وما كان عليه الأئمة الأربعة وغيرهم ـ فإن مبدأه من الشيطان ونفخه .. وإن منتهاه إلى شؤم وغلو شديد في الدين .. وربما ينتهي بك المطاف إلى أن لا تعتقد بوجود مسلم على وجه الأرض غيرك .. وربما يصل بك الحال أن تكفر نفسك في اليوم عدة مرات .. كما حصل ذلك لأناس غيرك بدؤوا نفس بدايتك هذه .. وإني أعيذك من ذلك!
* * *
س20: كيف نوفق بين القول بأن الإنسان يكفر إذا أقيمت عليه الحجة ولم يوجد بحقه أي مانع من موانع التكفير، وبين موقف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما أقام الحجة على الجهمية ومع ذلك لم يكفرهم بأعيانهم .. كذلك موقف الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مع المعتزلة .. رغم أنهم أقيمت عليهم الحجة .. بل هم علماء باللغة والدين ..؟!
(1/166)
... والقول بعذرهم .. يحمل كثيراً من الناس على القول بعذر طواغيت الحكم بالإكراه والجهل .. فإن قلت: جهلهم مردود، نقول: وجهل المأمون من باب أولى أن يكون مردوداً لأنه عن علم .. وجزاكم الله خيراً ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. قد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كفر بعض أعيان الجهمية الذين قالوا بأن القرآن مخلوق، وأمسك عن تكفير البعض الآخر.
... والذي حمل الإمام على تكفير البعض بأعيانهم، وإمساكه عن تكفير البعض الآخر رغم اشتراكهما بنفس الذنب والجرم أن الذي كفره بعينه يكون قد ظهر له ما يستوجب تكفيره بعينه من حيث انعدام الأعذار بحقه المانعة من تكفيره.
... أما من أمسك عن تكفيره بعينه فهو لظهور الموانع التي تمنع من تكفيره بعينه رغم اقترافه للكفر ..!
... فإن قلت: قد عرفنا بالدليل إمساك الإمام أحمد عن تكفير بعض أعيان الجهمية الذين قالوا بأن القرآن مخلوق .. فأين الدليل الذي يفيد أن الإمام قد كفر بعضهم بأعيانهم ؟
... أقول: روى صالح بن أحمد عن أبيه لما حُوّل إلى دار إسحق بن إبراهيم:
فكان يوجه إلي كل يوم رجلين، أحدهما يُقال له أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا أرادا الانصراف دُعي بقيد فزيد في قيودي. قال: فصار في رجله أربعة أقياد. قال أبي: فلما كان في اليوم الثالث دخل عليّ أحد الرجلين فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله ؟ قال: علم ُ الله مخلوق، فقلت له: كَفَرْتَ، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت له ـ أي الإمام أحمد ـ: إن هذا قد كَفَرَ .[ مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر:1/91 ].
... فتأمل كيف أن الإمام أحمد قد كفره بعينه .. لما قال مقولته الباطلة تلك !
... أما قياسك لطواغيت الحكم المعاصرين على من عذرهم الإمام أحمد ممن قالوا بأن القرآن مخلوق .. فهو قياس باطل لا يصح من وجوه:
(1/167)
... منها: أن كفر الذين عذرهم الإمام أحمد كان كفرهم من جهة تأويلهم للصفات وقولهم بأن القرآن مخلوق .. بينما كفر طواغيت الحكم المعاصرين يأتي من جهة ارتكابهم لجميع نواقض الإسلام الظاهرة منها والباطنة ..!
... ومنها: أن جهمية الصفات وقعوا فيما وقعوا فيه عن تأويل لا يمنع من تأثيمهم وتضليلهم .. ولكن يمنع بعضهم من تكفيرهم بأعيانهم!
... بينما الحكام لا يمكن أن يُقال فيما وقعوا فيه من كفر أنهم وقعوا في ذلك عن تأويل .. لا يمكن أن يُقال أنهم بدلوا الشريعة وأحلوا محلها شرائع الكفر والطغيان عن تأويل .. فضلاً أن يُقال عن تأويل يمنع من تكفيرهم !
لا يمكن أن يُقال أنهم جعلوا من أنفسهم أرباباً من دون الله .. يشرعون التشريع الذي يضاهي ويضاد شرع الله .. عن تأويل! ...
لا يمكن أن يُقال أنهم دخلوا في موالاة ونصرة المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم على ملة أهل التوحيد .. عن تأويل!
... لا يمكن أن يُقال أنهم يحاربون دين الله تعالى بكل ما أتوا من قوة ووسائل .. عن تأويل!
... ومنها: أن الذين تأولوا الصفات وقالوا أن القرآن مخلوق كالمأمون ونحوه .. أرادوا التنزيه والتعظيم .. ولم يريدوا التكذيب والجحود .. أو رد ما صح عندهم أنه من دين الله تعالى .. وهذا كان سبباً رئيسياً في إمساك الإمام أحمد وغيره من أهل العلم عن تكفيرهم بأعيانهم.
... بينما طواغيت الحكم لا يمكن أن يُقال بحقهم وبما يظهرونه من كفر بواح .. ومن أبواب شتى .. أنهم أرادوا من ذلك التنزيه والتعظيم!!
... لأجل هذه الأوجه ـ وغيرها من الأوجه مما لا يتسع المجال لذكرها هنا ـ نقول: أن قياس طواغيت الحكم المعاصرين .. على جهمية الصفات .. هو قياس فاسد وباطل.
* * *
س21: أنت تعرف يا شيخ أن القبور والمزارات منتشرة في كثير من أنحاء البلاد فمررت بأحدها فرأيت الناس يُشركون بالله بأنواع شتى من أنواع الشرك كدعاء الميت، والتمسح بقبره والطواف به وغير ذلك من أنواع الشرك.
(1/168)
فهل يجوز تكفيرهم أم لا .. قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ليس فيها دليل على عدم التكفير؛ لأن الله - عز وجل - قال { وما كنا معذبين } ولم يقل وما كنا مكفرين .. فالمرجو منك يا شيخ أن تبين لنا الدليل على عدم جواز التكفير قبل قيام الحجة من كتاب الله، وسنة رسوله وأقوال العلماء الربانيين.
... ثم هل يصح لنا أن نقول كقاعدة كل ما ارتكب فعلاً أو قال قولاً حكم العلماء على هذا الفعل أو القول بأنه من الكفر أننا نكفر الفاعل أو القائل بعينه، أما بالنسبة للعذاب فإنه يكون بينه وبين ربه بحسب قيام الحجة عليه .. وجزاكم الله خيرا ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. هؤلاء الذين يطوفون بالقبور ويدعونها هم واحد من اثنين: إما أنه كافر أصلي، وإما أنه مسلم.
فإن كان كافراً ولم يسبق له أن دخل الإسلام .. فإن بلغته نذارة الرسل .. فهو كافر بعينه معذب يوم القيامة إن مات على كفره. وإن لم تبلغه نذارة الرسل فهو كافر بعينه .. لكن لا يُجزم بعذابه يوم القيامة .. فأمره إلى الله تعالى حيث يجري له اختباراً في عرصات يوم القيامة .. وعلى ضوئه فهو إما إلى الجنة وإما إلى النار.
أما إن كان مسلماً سبق له أن دخل الإسلام ثم قارف شيئاً من هذه الأعمال الشركية الآنفة الذكر في السؤال .. فإن كان قد بلغه القرآن الكريم .. وكان طلب العلم متيسراً له لو حرص عليه .. فهو كافر بعينه معذب يوم القيامة إن أدركته المنية وهو لا يزال على كفره .. ولا يُعذر بالجهل.
أما إن كان حديث عهد بالإسلام .. ولم يبلغه من العلم ما يدفع عنه هذا الجهل .. ولم يستطع أن يقف على العلم ـ رغم حرصه عليه ـ الذي يدفع عنه الجهل بما قد خالف فيه .. الصواب في هذه الحالة أن يُقال بكفر قوله وفعله .. دون الحكم عليه بعينه أنه كافر .. أو يُجزم بعذابه يوم القيامة.
(1/169)
وهؤلاء الذين رأيتهم يطوفون حول القبور .. أنت أدرى بهم وبوصفهم .. وبالتالي من أي صنف هم .. وأي حكم يُحمل عليهم.
والجواب على سؤالك الثاني أقول: قاعدتك التي ذكرتها لا تصح .. والصواب أن يُقال: من أظهر لنا الكفر البواح ـ من غير مانع شرعي معتبر ـ أظهرنا له التكفير .. وحكمنا عليه بالعذاب يوم القيامة لو مات على كفره وشركه.
ثم أن الحكم على المعين بأنه كافر ـ وبخاصة إن سبق له أن كان مسلماً ـ يترتب عليه آثار وأحكام في الدنيا والآخرة .. فالقضية ليست مقصورة على وعيد أو عذاب الآخرة .. وبالتالي فبأي حق تُلحق به الآثار المترتبة عليه في الدنيا .. مع اعتقادك أنه جاهل معذور بالجهل .. فقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } كثير من أهل العلم يحملها على الوعيدين والعذابين: وعيد وعذاب الدنيا .. ووعيد وعذاب الآخرة .. أي أن العذاب والوعيد لا يطالهم في الدنيا والآخرة إلا بعد أن تبلغهم نذارة الرسل.
فإن قلت: علام حكمت إذاً على الكافر الأصلي المعذور بالجهل .. الذي لم تبلغه نذارة الرسل .. بالكفر بعينه .. وهذا وعيد في الدنيا؟
أقول: حكمنا عليه بالكفر بعينه لأنه لم يدخل الإسلام .. والإنسان إما أن يكون كافراً وإما أن يكون مسلماً .. والمرء لا يكون مسلماً إلا بالشهادتين أو بقرينة شرعية ظاهرة تنوب عنهما .. وهذا لم يأت بشيء من ذلك.
ثم حُكمنا عليه بعينه بالكفر لا يترتب عليه من جهتنا موقف عملي .. كجهاده .. واستحلال حرماته ونحو ذلك .. إلا بعد أن نبلغه الدعوة والنذارة فيقابلها بالصد والإعراض .. والله تعالى أعلم.
* * *
س22: هل العقل حجة من جملة الحجج الشرعية كالميثاق والفطرة، والآيات .. وإذا قلنا أن العذاب معلق بحجة نذارة الرسل فما قيمة هذه الحجج الشرعية الآنفة الذكر .. وجزاك الله خيراً.
(1/170)
الجواب: الحمد لله رب العالمين. الراجح لدي أن العقل وسيلة لفهم وإدراك الحجج الشرعية وليس حجة بذاته .. وهذا لا يعني أن العقل كنعمة لا يُسأل عنها الإنسان ولا يُحاسب.
وكون العذاب معلق بحجة نذارة الرسل .. لا يعني ولا يستلزم أن الحجج الأخرى لا قيمة لها .. بل قيمتها واضحة وبينة كسبب في هداية العباد إلى عبادة رب العباد .. { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
ولا يعني كذلك أن الحجة لا تقوم بها، بل تقوم بها .. وهي حجة على العباد .. ولكن الله تعالى قضت حكمته ورحمته بعباده أن لا يعذب أحداً منهم إلا بعد قيام الحجة عليهم من جهة نذارة الرسل.
* * *
س23: لعلك ـ يا شيخنا ـ اطلعت على شرائط فتنة التكفير للألباني وقد أكثر الشيخ رحمه الله من الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - :" قال رجل لم يعمل خيراً قط فإذا مات فحرقوه، وذروا نصفه في البر ونصفه في البحر .. الحديث " فما تعليقكم عليه .. وهل هذا الحديث يدل على عدم كفر تارك الصلاة ..؟؟
... وبالنسبة للحاكم المبدل لشريعة الله .. هل يكفر بموقعة واحدة .. أم أنه لا بد أن يكرر التبديل أو الحكم بغير ما أنزل الله، وهل هناك حد إذا تجاوزه الحاكم كفر .. وجزاكم الله خيراً ؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. ليس في الحديث المذكور دليل على عدم كفر تارك الصلاة .. وإنما فيه دليل على أن المرء الذي يقع في المخالفة ـ وإن كانت كفراً ـ عن جهل معجز لا يمكن دفعه .. أنه يُعذر بذلك.
... فهذا الرجل وقع فيما وقع فيه ـ كما يقول أهل العلم ـ من المخالفة عن جهل منه لخصائص الله - عز وجل - وصفاته .. وما يستحقه من الصفات .. ولخوفه من ربه - سبحانه وتعالى - .. لذلك أقال الله عثرته، وغفر له.
(1/171)
... بينما الشيخ ناصر فقد جعل المانع من تكفير هذا الشخص بعينه ودخوله النار رغم أنه قال الكفر .. هو أنه لم يكن يعتقد الكفر في قلبه الذي نطق به .. فعدم اعتقاد الكفر واستحلاله القلبي له هو المانع من تكفيره عند الشيخ .. وهذا خطأ فادح مرده إلى أصول الشيخ الفاسدة في مسائل الإيمان والوعد والوعيد .. وقد أشرنا إليها في مواضع عدة.
... فإن قلت كيف نفسر قوله - صلى الله عليه وسلم - :" لم يعمل خيراً قط " ..؟
... أقول: المراد أنه لم يعمل خيراً قط زائداً عن أصل التوحيد .. والصلاة من التوحيد وشرط له .. تاركها كافر مشرك .. بنص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .. هذا ما يقتضيه مبدأ التوفيق والعمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة.
... أما ما يتعلق بالشطر الثاني من السؤال الخاص بالحاكم المبدل .. فأقول: كل حاكم مبدل هو حاكم بغير ما أنزل الله، وليس كل حاكم بغير ما أنزل الله يستلزم منه أن يكون مبدلاً لحكم وشرع الله تعالى.
... وعليه فأقول: من وقع في التبديل لشرع الله تعالى ولو في مسألة واحدة فإنه يكفر .. بينما الذي يحكم بغير ما أنزل الله على غير وجه التبديل .. قبل الحكم عليه بالكفر أو عدمه لا بد من النظر إلى الدافع الذي حمله على الحكم بغير ما أنزل الله .. وطريقة حكمه بغير ما أنزل الله .. والمسألة التي لم يحكم فيها بما أنزل الله .. هل هي من التوحيد وشروطه أم لا .. وهل الأصل فيه عدم الحكم بغير ما أنزل الله .. أم أن الحكم بغير ما أنزل الله حالة شاذة بخلاف الأصل الذي هو عليه .. فهذا كله معتبر عند إصدار الحكم على حاكم بعينه بالكفر أو عدمه .. وهذه مسألة قد فصلنا فيه في كتابنا " أعمال تخرج صاحبها من الملة " يمكنك الوقوف عليه لو أردت التفصيل.
* * *
(1/172)
... س24: سبق أن ذكرت أن الذين يدخلون الكنيست أو البرلمان الإسرائيلي من المسلمين بأنهم كفار ومرتدون .. والسؤال: هل هؤلاء يُعذرون بالجهل .. ولا يُكفرون بأعيانهم إلا بعد قيام الحجة عليهم ..؟
... الجواب: الحمد لله رب العالمين. ساحة العذر بالجهل فيما يخص هذه المسألة تضيق جداً .. ولكن بحكم الفتاوى العديدة لبعض أهل العلم التي تجيز مثل هذا العمل من قبيل تقليل الضرر .. زعموا! .. فإنه من المحتمل وجود من يُعذر بالجهل ممن يقلدون هؤلاء العلماء .. وهذا إن وجد .. ودلت عليه القرائن التي تدل على وقوعه بالجهل المعجز ـ من قبيل السلامة ـ أرى أن تُقام عليه الحجة الشرعية قبل تكفيره بعينه .. والله تعالى أعلم.
* * *
... تم بفضل الله تعالى ومنته الانتهاء من تدقيق الكتاب ومراجعته .. وإضافة ما لزم إضافته .. مساء يوم الثلاثاء في الخامس من رمضان المبارك، لسنة 1422هجري، الموافق 20/11/2001 م.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهرس
... الموضوع الصفحة
... مقدمة الطبعة الثانية ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 5
... مقدمة الطبعة الأولى ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 7
... قاعدة في التكفير ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 11
... مبدأ العذر بالجهل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 17
... فيمن يفرق بين الجهل في مسائل الأصول وبين الجهل
... في مسائل الفروع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 40
... الكافر الجاهل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 45
... صفة الكافر الجاهل الذي يُعذر بالجهل ... ... ... ... .. 55
... أهل الفترة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 63
... تنبيه: أهل الفترة ممن كانوا قبل البعثة ... ... ... ... ... 69
... أهل الفترة بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... ... ... ... ... ... . 70
... حالات لا ينفع معها العذر بالجهل ... ... ... ... ... ... 71
... الحُجّة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 84
... بما تقوم الحجة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 84
... 1- القرآن الكريم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 84
... 2- السُّنَّة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 85
... 3- حجة الميثاق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 88
... 4- حجة الفطرة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 92
... 5- حجة الآيات الكونية والنفسية ... ... ... ... ... .. 95
... الموضوع الصفحة
(1/173)
... تنبيه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 103
... شبهة ورد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 104
... القدْر الذي به تقوم الحجة على الكافر ... ... ... ... .. 105
... تنبيه يتعلق بشروط صحة قيام الحجة ... ... ... ... ... 111
... قيام الحجة غير فقهها والتزامها ... ... ... ... ... ... .. 112
... صفة قيام الحجة على الكافر ... ... ... ... ... ... ... . 117
... المسلم الجاهل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 120
... خطورة تكفير المسلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... 120
... الحالات التي يُعذر بها المسلم بالجهل ... ... ... ... ... 126
... 1- حداثة عهده بالكفر ... ... ... ... ... ... ... ... 126
... 2- وجوده في منطقة نائية يتعذر وصول العلم إليها ... 129
... 3- التأويل الخاطئ للنصوص ... ... ... ... ... ... .. 131
... 4- عدم بلوغه الخطاب الشرعي ... ... ... ... ... .. 135
... أقوال بعض أهل العلم في بيان الحالات التي يُعذر بها
... المسلم بالجهل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 137
... ضابط موانع التكفير ... ... ... ... ... ... ... ... ... 138
... قاعدة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 139
... مسألة شاتم الله والرسول، هل يُعذر بالجهل ... ... ... 139
... القدْر الذي به تقوم الحجة على المسلم الجاهل ... ... . 143
... صفة قيام الحجة على المسلم الجاهل ... ... ... ... ... 145
... الموضوع الصفحة
... هل يُعذر المسلمون بالجهل في هذا الزمان ... ... ... . 147
... خاتمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 150
... ملحق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 153
... الفهرس ... ... ... ... ... ... ... ... ..
www.abubaseer.com
...
(1/174)