الضوابط الشرعية في تلقي الأخبار وتقويم مصادرها
د. عبد الله قاسم الوشلي
الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية
كلية التربية - جامعة صنعاء
المقدمة :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .. وبعد :
لما كان الخبر مادة ضرورية لحياة الإنسان وسلامة وجوده في هذه الحياة كضرورة الأكل ، والشرب ، والهواء ، كان لابد أن يكون سليماً صحيحاً نقياً ليس فيه أي فساد وتلوث ، كما هو الحال في المآكل والمشارب والهواء .
لذلك نجد العناية بالخبر، والاهتمام بمادته من قبل القرآن الكريم ، والسنة المطهرة كبيرة ، والتحذير من عدم سلامته واستقامته وصحته وصدقه شملته كثير من الآيات والأحاديث النبوية .
حيث حرم القرآن الكذب وشنع عليه حتى عده من أخلاق الكافرين ، فقال : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون } [النحل : 105] .
كما أنه أوجب قول الصدق مع سلامة مصدره ، وصحة مضمونه ، باعتباره صفة من صفات الإيمان ، والصلاح فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [التوبة : 119] ، وقال : { والصادقين والصادقات } [الأحزاب : 30].
وقال : { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } [محمد : 21].
وفي السنة الصحيحة : (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) متفق عليه. (1)
__________
(1) - محمد بن إسماعيل البخاري ، الجامع الصحيح ، طبعة دار الكتب للطباعة والنشر والتوزيع ، الرياض 1417هـ – 1996م ، 7/491 باب: 69 . ومسلم بن الحجاج ، الجامع الصحيح ، طبعة دار الكتب للطباعة والنشر والتوزيع ، الرياض 1417هـ – 1996م ، 1/2012 رقم : 2607 .(1/1)
وفي حديث آخر : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) رواه الترمذي . (1)
ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم من عند الله وأنه أصدق الحديث ، قال تعالى : { ومن أصدق من الله حديثا } [النساء : 87] .
{ وعد الله حق ومن أصدق من الله قيلا } [النساء : 122] .
{ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } [آل عمران : 95] .
كما جزم بصدق الأنبياء عليهم السلام فقال تعالى :
{ قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } [الأحزاب : 22] .
{ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [يس : 52] .
وأكد صدق المؤمنين فقال :
{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } [البقرة : 177] .
{ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [الزمر : 32].
والقرآن كله حق وصدق والمبلغ به هو الصادق الأمين الذي قال عنه ربه : { وصدق الله ورسوله } [الأحزاب : 22] ، وتلقاه الصادقون المصدقون قال تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [الزمر : 33]
__________
(1) - أبو عيسى محمد الترمذي ، السنن ، نشر مكتبة دار الدعوة بحمص ، رقم : 2520 . وأحمد بن شعيب الخراساني، السنن مع شرح الحافظ السيوطي ، وحاشية السندي ، المطبعة المصرية بالأزهر : 8/318 . وأحمد بن حنبل ، المسند، طبعة المكتب الإسلامي للطباعة والنشر - بيروت- 1/200 ، وإسناده صحيح ، صححه الترمذي ، وابن حبان ، والحاكم ووافقه عليه الذهبي .(1/2)
وقد شهد القرآن الكريم بصدق النبي الكريم فقال : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } [النجم : 3-4] ، وقال : { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر : 7] ، لذلك لا يجد المسلم أي عناء فيما يتلقاه عن هذين المصدرين ، أما ما عدا هذين المصدرين فإن المسلم بحاجة إلى أن يتحرى صدق الخبر ، وسلامته وصحته مصدراً ومادة ، ونقلاً ، وناقلاً ، مستهدياً بما بيّن له هذا الدين من ضوابط وقيود وآداب وصفات ، من شأنها تحقيق ثبوت الخبر وصحة وروده وسلامة مادته ، حتى يتحقق به النفع ويدفع به الضرر .
مبدأ الإسلام في التعامل مع الأخبار ومصادرها :
فالإسلام من خلال مصادره ، قد وضع لذلك ميزاناً دقيقاً ومبدأً أساسياً ثابتاً .
هذا المبدأ هو الذي نصت عليه الآية الكريمة ، وهي تخاطب المؤمنين : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [الحجرات : 6] ، وفي قراءه : { فتثبتوا } ، ويقول تعالى : { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [الطلاق : 2] .
وسبب نزول الآية يوضح بجلاء مدى ضرورة التمسك بهذا المبدأ والالتزام به، في التثبت من الأخبار وتقويم مصادرها ، والتأني في المواقف المترتبة عليها .(1/3)
روى الإمام أحمد ابن حنبل في مسنده بسند جيد ، عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الإسلام فأقررت به ، ودخلت فيه ، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت يا رسول الله : أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة فمن استجاب لي ، جمعت زكاته ، فترسل إلي إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت ، فلما جمع الحارث الزكاة وبلغ الإبان ، احتبس الرسول فلم يأته فظن الحارث أنه قد حدث منه سخطة ، فدعا سروات قومه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد وقت وقتاً يرسل إلي رسوله ، ليقبض ما عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله الخلف ، ولا أدري حبس رسوله إلاّ من سخطة ، فانطلقوا نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده ، فلما سار الوليد ، فرق فرجع فقال : إن الحارث منعني الزكاة ، وأراد قتلي فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث فقال : إلى أين بعثتم ؟ قالوا : إليك . قال ولم ؟ قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة ، وأردت قتله . قال : والذي بعث محمداً بالحق ، ما رأيته ولا أتاني . فلما دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي . قال:لا ، والذي بعثك بالحق فنزلت) ورجال إسناده ثقات . (1)
المبادئ التي تقررها هاتان الآيتان في باب الأخبار وتلقيها :
ولا شك أن الشخص الذي جاء بالنبأ هو الوليد بن عقبة ، والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت ، وترك الاعتماد على قول الفاسق .
__________
(1) - مسند أحمد : 30/403 رقم : 18459 ، طبعة مؤسسة الرسالة ، بيروت 1413هـ – 1993م مرجع سابق .(1/4)
وأكد كثير من المفسرين ومنهم الفخر الرازي بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بن عقبة سيئ بعيد ، لأنه توهّم فظنّ فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً ، كيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج من ربقة الإسلام لقوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } [المنافقون : 6] ، وقوله تعالى : { ففسق عن أمر ربه } [الكهف : 50] ، وقوله تعالى : { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } [السجدة :20] ، والظاهر أنه سمي فاسقاً تنفيراً وزجراً عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت ، فهو متأول ومجتهد ، ومع هذا البيان فإن من المبادئ التي تقررها هاتان الآيتان :
أن الأخبار تتلقى من العدول ، أما الفساق ؛ فيجب البحث عن حقيقة ما يصدر منهم ، أو ما يصدر عن طريقهم لأن خبر الفاسق ساقط غير مقبول ، وأن شهادة غير العدل مردودة .
وجوب التثبت من الخبر ، ومعرفة صدقه ، إذا صدر من فاسق ، وكذلك إذا جاء ممن كان حاله مستوراً .
عدم جواز اعتماد الخبر الذي لم يثبت ، وعدم الاستعجال في اتخاذ المواقف قبل التحقق والتثبت ، وذلك حتى لا يتضرر أناس من جراء ذلك .
والأحاديث النبوية الصحيحة تؤكد هذا المبدأ وترسخه ، ومن ذلك :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع) . (1)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (بحسب المرء من الكذب أن يحدث بما سمع) (2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم) . (3)
__________
(1) - صحيح مسلم : 1/1 رقم : 5 المقدمة ، مرجع سابق .
(2) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 6 المقدمة ، مرجع سابق .
(3) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 7 المقدمة ، مرجع سابق .(1/5)
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) . (1)
حرص الصحابة على هذا المبدأ وتمسكهم به :
ففي صحيح مسلم ، عن بشير بن كعب أنه جاء ابن عباس رضي الله عنهما فجعل يحدثه ، فقال له ابن عباس : عد إلى حديث كذا وكذا ، فعاد له ، ثم حدثه فقال له عد ، لحديث كذا وكذا فعاد إليه ، وقال : لا أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس : إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه ، فلما ركب الناس الصعب والذلول فهيهات . (2)
وفي رواية قال له : (مالي لا أراك تسمع لحديثي ، أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع فقال ابن عباس : إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله ابتدرته أبصارنا،وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب ، والذلول ، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف) . (3)
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تقبله عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنة) . (4)
__________
(1) - صحيح مسلم : 1/11 رقم : 7 المقدمة ، مرجع سابق .
(2) - صحيح مسلم : 1/11 رقم : 6 المقدمة ، مرجع سابق .
(3) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 7 المقدمة ، مرجع سابق .
(4) - صحيح مسلم : 1/13 رقم : 7 المقدمة ، مرجع سابق .(1/6)
وانطلاقاً من هذا المبدأ فقد وضع علماء المسلمين ، وخاصة رجال الحديث والفقه لنقل الأخبار ، وتمحيصها ، والتثبت من صحتها ، وصدقها ، قواعد ، وموازين ، وضوابط، قابلة للتطبيق على أي خبر ، لتظهر حقيقته من الثبوت وعدمه ، والصحة والبطلان ، والصدق أو الكذب ، كما حصل تطبيقها على أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتمييز بين صحيحها وحسنها المقبول وسقيمها المتردد فيه ، وغير الثابت عنه ، من الموضوع المكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما استنبط الفقهاء من النصوص الشرعية ضوابط وقيود للأخبار المتعلقة بالدعاوى ، والإقرار ، والشهادات ، وغيرها بما يضمن به حفظ الحقوق وصيانتها وعدم الاعتداء عليها بغير حق .
وها أنا أضع بين أيدي إخواننا الدارسين المسلمين ، هذه الموازين ، والضوابط ، والقيود التي اتفق عليها علماء المسلمين ونحن بحاجة إلى استحضارها دوماً في عصر ما أحوجنا إليها في يوم أصبح الكذب هو شعار الوقت ، وصار الصدق هو المنكر الذي ينسب صاحبه إلى التخلف ، والرجعية ، والتزمت والتطرف ، والأصولية ، وغير ذلك من العبارات الاستعمارية ، النصرانية اليهودية ، الكافرة ، كما أضع ، هذه الموازين والضوابط بين أيدي المسلمين ، كي يلتزموا بها ، ويتخذوها منهجاً في التعامل ، والأخذ ، والتلقي والحكم على الآخرين ، حتى نكون بحق من المهتدين ، المقتدين ، لا المبتدعين ، المنتحلين ، المغالين ، ولكي لا نصيب آخرين عن جهل بضرر ، ولا ندخل على دعوة الإسلام، من جراء ذلك أي خطر ، وحتى نلقى الله ونحن على هذا الوصف .
تعريف الأخبار لغةً واصطلاحاً :
تعريف الأخبار لغة :
والأخبار جمع خبر، وهو النبأ، وهو ما أتاك من نبأ عمن تستخبره ، يقال : خبره، وأخبره ، واستخبر ، سأله عن الخبر ، وطلب إن يخبره والاستخبار والتخبر السؤال عن الخبر ليعرفه .(1/7)
وبالجملة فهو في اللغة ما ينقل ، ويتحدث به قولاً أو كتابة (1) مع احتماله الصدق ، والكذب لذاته .
والخبر في الاصطلاح :
يتنوع بنوع مدلوله، فقد اتخذه كثير من أصحاب الفنون العلمية ، متناولاً لما تخصصوا له من فن وعلم .
فعلماء الحديث اعتبروه مرادفاً للحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أطلقوا على أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخباراً ، وعلى راويها إخبارياً ، وبعضهم عد هذا المدلول على المروي عن خبره - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ، والتابعين ، كما أن بعضهم أطلق عليها آثاراً . (2)
وعلماء التاريخ : اعتبروا ما نقلوه ورووه عن الأمم السابقة ، وأحوالها أخباراً، حتى أطلقوا على من اشتغل بعلم التاريخ إخبارياً ، كما أطلق على من اشتغل بعلم الحديث رواية ودراية محدثاً. (3)
وعلماء السياسة والإعلام : اعتبروا المتتبع للأحداث ونقلها مباشرة أو بوسائل الإعلام المعاصرة مخبراً وإخبارياً كما أطلقوا على المادة نفسها خبراً وأخباراً(4))
__________
(1) - جمال الدين ابن منظور ، لسان العرب ، طبعة دار صادر – بيروت – 1300هـ ، 25/226 . ومجمع اللغة العربية المعجم الوسيط طبعة أمواج للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – 1407هـ – 1987م صفحة : 215 مادة خبر .
(2) - د . عبدالرحمن الخميسي: معجم علوم الحديث النبوي ، طبعة دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع جدة 1421هـ – 2000م صفحة: 99. ومحمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الطبعة الثانية 1398هـ– 1978م . وصبحي الصالح : علوم الحديث ومصطلحه ، طبعة دار العلم للملايين – بيروت لبنان – 1978م .
(3) - معجم علوم الحديث النبوي : 2020 .
(4) - عبدالرحمن بن خلدون : المقدمة ، تصوير دار البيان – بيروت - : 1/9 وما بعدها .(1/8)
وعلماء الفقه يقولون : الإخباريات ثلاثة إما بحق الغير على آخر وهو الشهادة، أو بحق للمخبر على آخر وهو الدعوى أو عكسه وهو الإقرار (1) فأطلقوا على الشاهد، والمدعي ، والمقر مخبراً كما أطلقوا على الإفتاء خبراً وعلى المفتي مخبراً عن حكم الله عز وجل . (2)
وإذاً فالخبر بمدلوله العام يشمل عدة معانٍ :
فهو بمعنى تقبل أخبار الأمم السابقة وأحوالها ، وهو ما أطلق عليه فيما بعد علم التاريخ .
وهو يشمل نقل أقوال الماضي وأفعالهم ، ويدخل فيه دخولاً أولياً حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ، وهو ما اصطلح عليه باسم حديث ، وسنة ، وأثر .
وقد يتناول نقل الأحداث الماضية بالأشخاص ووقائعها ، والمواقف وأدوارها ، وهو ما يطلق عليه اسم القصص .
ومنه ما يتحدث به عن ذوات الأشخاص ، وأفعالهم ، وسيرهم ، وهو ما يسمى بعلم التراجم ، والسير .
ومنه ما يتناول نقل المعلومات عن الأشخاص ، والأحزاب ، والجماعات ، والمؤسسات ، والأمكنة ، والعلوم ، والأحكام الشرعية ، وغير ذلك مما هو مادة للنقل بالكلام ، أو الكتابة ، من مدح وذم ، وسلب وإيجاب ، ونفع وضر ، وخير وشر ، وحق وباطل ، وحسن وقبيح ، الخ .
__________
(1) - محمد المناوي : التوقيف على أمهات التعريف تحقيق محمد رضوان الداية ، طبعة دار الفكر المعاصر ، بيروت 1410هـ – 1991م صفحة: 419 .
(2) - الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه ، طبعة دار الكتب العلمية – بيروت – 1400هـ – 1980م : 2/156 ، 151-166 . ود . عبدالكريم زيدان : أصول الدعوة ، مكتبة القدس – بغداد – 1413هـ – 1992م صفحة : 77 . و د . أحمد علي طه ريان : ضوابط الاجتهاد والإفتاء ، طبعة دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع 1418هـ – 1997م صفحة : 77 .(1/9)
كما أنه تناول الدعوى ، والشهادة ، والإقرار ، كما يتناول الإفتاء. كل ذلك لفظة (خبر) التي جمعها (أخبار) تشمله بعمومها ، وتتناوله بمسماها ، ومدلولها والشريعة الإسلامية تناولته مقعدة لذلك ومحددة الضوابط والشروط ، مفرقة بين مطلق ومقيد ، وعامٍ وخاص ، ومميزة الصحيح من الضعيف ، ومبينة ما هو حلال وما هو حرام ، وما هو نافع وما هو ضار، إلى غير ذلك، كما نجد أن تشددها في ثبوته يقوى حين يكون الخبر متعلقاً بالكليات الخمس من الدين ، والنفس والعقل ، والعرض والمال قوياً.
تقسيم الأخبار من حيث الموضوع ومصدر التلقي فيها :
والأخبار في الجملة لا تخرج عن هذا التقسيم الثلاثي :
أخبار عن الماضي على تعاقب الأزمنة ، والعصور المنصرمة من حين خلق آدم عليه السلام ، وقال له ربه تعالى: { قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [البقرة : 32] ، فهي تشمل مبدأ الخلق وحتى زمن المخبر ، وعصره ، وهذا القسم يطلق عليه التأريخ ، القصص ، التراجم ، وتشمل الأقوال، والأفعال التي قيلت ، وفعلت ممن مضى في غابر الزمن .
وأخبار الزمن المعاصر الذي يضم حياة الإنسان الموجود ، والأوقات التي يعيشها في مراحل عمره إلى انقضاء حياته ، وذلك من فعل حركة هذا الإنسان ، وأقواله وأفعاله مثل نقل الوقائع ، والأحداث ، والعلوم ، والأحكام ، والمعارف ، والمكتشفات، والمخترعات ، وسائر ما هو مادة للنقل ، والحديث ، والتخاطب مع الآخرين .
فهذان القسمان : اقتضت سنة الله عز وجل أن مصدر نقله ، والإخبار عنه هذا الإنسان بما وهبه الله من علم ، ومعرفة ، وعقل ، ووجدان ، ووسائل ، وأدوات نقل ، وإرسال ، ومخترعات ، وإمكانيات ، يحقق بها هذا الغرض في أي عصر وزمن .(1/10)
أما القسم الثالث وهو ما كان فيه الحديث عن المستقبل ، في ما هو آت في الزمان كالمتنبئ بالحوادث ، ووقوعها ، أو حصول أمور يتوقع مجيئها من قبل هذا الإنسان ، فإن طريق الوصول إلى هذا التحقيق العلمي ، أو استعراض القرائن ، والدلائل ، والأحوال عن طريق إعمال الفكر ، والنظر ، والأسباب المتاحة للإنسان ، وفي مقدوره ، فهو ما يشرع فيه تفصيل ، والراجح قبولها ما دامت تعتمد على العلم ، والتجربة ، والأخذ بالأسباب، والسير مع السنن الإلهية التي أوجدها الله في مخلوقاته.
أما الحديث عن الغيبيات التي ليست في مقدور الإنسان ، ومما استأثر الله فيها بعلمه ، فطريق الوصول إليها ، ليس إلا القرآن الذي هو كلام الله الذي أحاط بكل شيء علما ، أو السنة النبوية التي هي وحي من الله تعالى قال سبحانه عن نبيه الذي علمه العالم الخبير : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى } [النجم : 3-4] .
تقسيم الأخبار من حيث الوصول إلى حقائقها :
أما الأخبار من حيث الوصول إلى حقائقها من الناحية العلمية فهي تنقسم إلى قسمين، كما حرره علماء الحديث .
قسم يتعلق بالدراية ، والذي يشمل نقل الخبر ذاته ، وضبطه ، وتحرير ألفاظه، وحقيقة مدلوله ، ومضمونه ، وعلى وجه الاختصار فهو يعني (المتن) .
وقسم يتعلق بالرواية، وهو الذي يبحث عن حقيقة الرواية ، من حيث طريقة نقلها، بأعلى عبارات النقل المثبتة له ، مثل التحديث ، والإخبار ، والتسميع ، ونحو ذلك .
وشروطها : من حيث التحمل أو السماع أو العرض أو الإيجاز ونحو ذلك .
ونوعها : من اتصال ، أو انقطاع ، أو نحو ذلك .
وحكمها : من حيث القبول ، أو الرد .
وحال الرواة : لهذا الخبر من عدالة ، وجرح ، وستر حال .
وشروطهم : في التحمل ، والأداء .(1/11)
وأصناف المرويات ، وفقهها ، الخ . (1)
وبناءً على هذا التقسيم العلمي للأخبار، يأتي تنوع الخبر من حيث القبول، أو الرد، أو بين ذلك ، فيكون الخبر على أنواع .
الأول : أن يكون خبراً يقينياً لا يتطرق إليه شك ، ولا ريب ، وهو ما كان وصفه بأعلى درجات العلم وهو عين اليقين ، أو علم اليقين المشار إليه في قوله تعالى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر : 5–7].
وطريق الوصول إلى هذا الخبر بهذا الوصف ، هو القرآن الكريم أولاً ، ثم المحسوسات ، ثم المتواتر من الأخبار بقسميه اللفظي والمعنوي ، وهو ما نقله جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب.
الثاني : أن يكون خبراً توصل إليه بالخبر النظري ، والإقناع الظاهري الذي يجعل الخبر موصوفاً بالصدق تماماً ، أو راجحاً ، أو مرجوحاً ، أو ضعيفاً ، وهو ما يسمى بالخبر الأحادي .
فهو : إما أن يكون علماً ، أو ظناً راجحاً بأدلته ، أو شكاً ، أو متوهماً فيه ، وهو الظن المرجوح لضعف أدلته ، أو لعدم ردها .
فالأولان من قبيل المقبول ، والأخيران من قبيل المردود .
الثالث : أن تكون أخباراً لا تقوم على أساس من العلم فليس لها دليل ، ولا تظهر عليها الصحة وهو الخبر المكذوب . (2)
والذي يضفي على هذه الأنواع من الأخبار ، أحد الأوصاف المشار إليها . الجهة التي تصدر عنها هذه الأخبار .
مصادر التلقي للأخبار :
__________
(1) - صديق حسن خان : الحطة في ذكر الصحاح الستة ، طباعة المكتبة العلمية – لاهور- 1397هـ – 1977م صفحة : 84-85 ، وانظر علوم الحديث ومصطلحه : 107 – 108 .
(2) - مجد الدين ابن الأثير: جامع الأصول في أحاديث الرسول، مطبعة الملاح، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط 1389هـ -1996م 1/156-159.(1/12)
والأخبار التي يتلقاها الإنسان، ويستمد مادتها ويتعامل في حياته على أساسها تتفاوت من حيث الدرجة العلمية بحسب مراتبها ، من كونها عين اليقين ، وعلم اليقين ، والعلم المجرد، والعلم الظني، والشك، والكذب المحقق، والذي يضفي عليها هذه الدرجة ويعطيها هذه المرتبة المصدر الذي منه تتلقى وأبرز هذه المصادر :
أولاً : القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وكل ما فيه ، وأخبر عنه من أخبار ماضيه ، أو حاضره ، أو مستقبله حق ، والتلقي منه يعطى أعلى درجات العلم ، وهو علم اليقين لأنه من لدن حكيم عليم خبير بصير { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك : 14]
ثانياً : السنة النبوية الثابتة والتي وصف من صدرت عنه بأنه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [النجم : 3-4] ، وأن ما جاء به هو الصدق { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر : 33] . فكل ما صح وروده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت عنه من أحكام ومواعظ ومن ذكر أخبار الأولين ، وحالهم ، وما سيقع بالعباد حاضراً ومستقبلا ، كله حق وصدق ، يعطينا متواتره : علم اليقين ، وآحاده : العلم المجرد النظري الاستدلالي .
ثالثاً : ما تركه غابر الزمان من مشاهدات ظاهره ، وآثار بارزه ، ومعالم تحكي العبر والعظات ، وكتابات منحوتة ثبت قدمها ، كل ذلك من المصادر التي يتلقى منها مادة الخبر مما يثبت بها فيما مضى من أخبار ، أو عاصر من أحوال ، ويعطي على الأقل الدرجة العلمية الظنية ، وقد عرض القرآن بهذا المصدر في أكثر من آية ، من ذلك قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [يوسف: 109 ، الروم: 9 ، فاطر : 44 ، غافر: 21، 82 ، محمد: 10] .(1/13)
رابعاً : كتب التاريخ والتراجم المدونة، والتي ضمت بين دفتيها الأخبار السابقة من بدأ الخليقة، وحتى حاضر الإنسانية، وتتحدث عن رجالهم، وأقوالهم في القديم، والحديث .
خامساً : وسائل الإعلام المسموعة ، والمرئية ، والمقروءة المعاصرة .
سادساً : الإنسان نفسه بما يحمله من خبر، ويخاطب به الآخرين .
تلك هي أهم مصادر تلقي الأخبار، ومعرفتها .
إلا أن تلقي الأخبار، وإصدارها لا يتم إلا بأداة ناظرة، أو مستقبلة، أو مدركة، أو واعية، ومميزة فاحصة، وهي كلها متوفرة في الإنسان، من بصر، وسمع، وحاسة، ولسان، وعقل، وجنان.
وصمام الأمان من جنوح هذه الأدوات، وانحرافها في سلامة التلقي، وحسن الإرسال، واستقامة التمييز، والتحليل للأخبار العلم، والإيمان، والتقوى، والأخذ بالمنهج القويم، الذي اهتدى إليه أوائل علماء المسلمين، من السلف الصالح، الراسخين المحسنين، والقواعد والضوابط التي توصل إليها الفقهاء المجتهدون، التي على أساسها تبنى المواقف وتصدر الأحكام، وتتحدد التبعات، وتنفذ التكاليف والواجبات، وها أنا سأتحدث عن هذا المنهج المتميز الفذ، وعن القواعد والضوابط الشرعية، التي يجب أن تحف بالخبر وتتوفر له حتى يكون صحيحاً ومقبولاً ويعمل به، وتتخذ المواقف على أساسه.
منهج التثبت في الأخبار وتقويم مصادرها :
منهج تلقي الخبر وتقويم مصادره الذي سنتحدث عنه فإنه يعد خصيصة من خصائص أمة الإسلام، وهو المنهج الذي لم يسبقوا إليه، ولم يأت غيرهم بأحسن منه في تحقيق صدق الخبر، وحقيقته، وبيان كذبه، وبطلانه .
هذا المنهج الذي أصبح علماً خاصاً بهذا الباب ، وفناً مستقلاً يتعلمه أولو الألباب ، ويضع الميزان الدقيق في تلقي الأخبار الصحيحة ، وإصدارها ، يوسم أو يعرف بمصطلح الحديث .
وهو وإن كان خاصاً بأحاديث ، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبه الكرام ، لكنه منهج صالح لوزن أخبار سائر العلوم ، والفنون والأحكام والأحوال ، والقصص وغير ذلك.(1/14)
وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية، اعتمد فيه على قواعد مصطلح الحديث، واعترف (مع أنه مسيحي) (1) بأنها أصح طريقة، علمية، حديثة ، لتصحيح الأخبار ، والروايات .
هذا المنهج السليم ، والميزان الدقيق ، يقوم على أساس جليل، وهو الإسناد الذي قال فيه علماء هذا الفن من السلف (الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) والقائل هو : عبدالله بن المبارك (2)، والإمام أحمد رحمهما الله ، وقال شعبة : (كل علم ليس فيه أخبرنا وحدثنا فهو خل وبقل) (3) .
وقال يزيد بن واسع: (كل دين له فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الإسناد) (4) .
وهذا الإسناد يقوم على قواعد أربع في الوصول إلى صحة الخبر :
أولاً: إسناد الخبر إلى قائله، بقول ابن سيرين فيما يرويه عنه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) (5) .
ثانياً: التوثق من الأخبار بالرجوع إلى قائلها إن كان حياً، أو إلى الثقات الذين نقلوا عنه ، وذلك بالرحلة إليه ، أو طلب الكتابة منه بما صح لديه كما ثبت من رحلة جابر بن عبدالله إلى الشام ، وأبي أيوب إلى مصر لسماع الحديث (6) .
__________
(1) - هو أسد رستم صاحب كتاب مصطلح التاريخ ، أنظر الدكتور مصطفى السباعي : السنة ومكانتها في التشريع ، طبعة المكتب الإسلامي الثانية: 107-108 .
(2) - صحيح مسلم : 1/15 المقدمة ، مرجع سابق .
(3) - ابن الأثير جامع الأصول : 1/109 ، مرجع سابق .
(4) - ابن الأثير جامع الأصول : 1/109 ، مرجع سابق .
(5) - صحيح مسلم : 1/13 المقدمة ، مرجع سابق .
(6) - أبو عمر يوسف بن عبدالبر : جامع بيان العلم وفضله ، الطبعة المنبرية 1398هـ – 1978م تصوير دار الكتب العلمية –بيروت- 1/93-94 .(1/15)
وعلى نهج الصحابة سلك التابعون ، ورجال الحديث في القرون الثلاثة المفضلة ، ومن تبعهم على ذلك في سائر قرون العلم ، وتحصيله ، ورحلاتهم معلومة مشهورة .
قال سعيد بن المسيب : (إني كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد) (1) .
وروى مسلم في مقدمة صحيحه ، عن ابن أبي مليكه قال : (كتبت إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن يكتب لي كتاباً ويخفى عني ، فقال : ولد ناصح أنا اختار له للأمور اختياراً ، واخفي عنه. قال : فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ، ويمر بالشيء فيقول والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون قد ضل) (2) .
ثالثاً : نقد الرواة وبيان حالهم ، من صدق وكذب ، وهذا باب عظيم وصل منه العلماء إلى تمييز الصحيح من المكذوب، والقوي من الضعيف وقد أبلوا فيه بلاءً حسنا ، وخصوه بعلم أطلقوا عليه علم الجرح والتعديل .
وقد وضعوا لذلك قواعد ساروا عليها ، فيمن يؤخذ منه، ومن لا يؤخذ منه ، ومن يكتب عنه ، ومن لا يكتب عنه ، ومن أهم هؤلاء الأصناف الذين لا يؤخذ عنهم الأخبار .
الكذابون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم على أن لا يؤخذ منهم خبر ، أو حديث لكذبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه . (3)
وفي الأثر المشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) . (4)
__________
(1) - أبو عمر يوسف بن عبدالبر : جامع بيان العلم وفضله : 1/94 .
(2) - صحيح مسلم : 1/13 .
(3) - صحيح البخاري : 18/19 رقم : 11424 ، وصحيح مسلم : 1/10 رقم : 2 المقدمة .
(4) - صحيح مسلم : 1/9 المقدمة .(1/16)
الكذابون في أحاديثهم العامة ، ولو لم يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } (1) سورة النحل : 105 ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) . (2)
وقد نقل عن الصيرفي والسمعاني عدم قبول خبر من عرف عنه الكذب ولو مرة واحدة ، وبالأخص إذا كان الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
أصحاب البدع ، والأهواء إذا كانت بدعتهم مكفرة ، أو كانوا يدعون إليها ، ويشمل هؤلاء في عصرنا هذا الحزبيين الذين ينتمون إلى أحزاب علمانية ، أو غير ملتزمة بالإسلام وشريعته ، أو معادية للإسلام .
الزنادقة ، والفساق ، والمغفلون الذين لا يفهمون ما يحدثون به ، قال الإمام مالك رحمه الله : (لا يؤخذ العلم عن أربعه ، رجل معلن بالسفه وإن كان أروى الناس ، ورجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا أتهمه أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحب هوى يدعو إلى هواه ، وشيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به) (4) .
__________
(1) - انظر في ظلال القرآن : 4/2196 ، وتفسير ابن كثير : 2/608 .
(2) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 7 المقدمة .
(3) - شرح مقدمة ابن الصلاح : 151 ، واختصار علوم الحديث : 85 .
(4) - السنة ومكانتها في التشريع : 92 .(1/17)
وكذلك ؛ لا يقبل حديث من لا تتوافر فيهم صفات الضبط ، والعدالة ، والفهم ، قال الحافظ بن كثير : (المقبول الثقة الضابط لما يرويه ، وهو المسلم العاقل البالغ سالماً من أسباب الفسق ، وخوارم المروءة ، وان يكون مع ذلك متيقظاً إن حدّث من حفظه فاهماً إن حدّث عن المعنى ، فإن اختل شرط مما ذكر ردت روايته) . (1)
كما انهم توقفوا في أخذ الأخبار ، والأحاديث ، وقبول الروايات ممن :
اختلف في تجريحه ، وتعديله على خلاف بين أهل العلم في ذلك .
من كثر خطؤه ، وخالف الأئمة الثقات في مروياتهم .
من كثر نسيانه .
من اختل في آخر عمره .
من ساء حفظه .
من كان يأخذ عن الثقات والضعفاء ولا يتحرى ، ولم يصرح بالسماع.
ومن طريقة وصولهم إلى معرفة ذلك كله ، النظر إلى حال الراوي في المحافظة على الطاعات واجتناب المعاصي وسؤال أهل المعرفة به، قال الحسن بن صالح بن حي : كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال أتريدون أن تزوجوه (2) مع سلوكهم طرق أخرى ذكرها علماء مصطلح الحديث . (3)
رابعاً : وضع قواعد عامة لتقسيم الأخبار إلى صحيح ، وحسن ، وضعيف ، أو إلى مقبول ومردود ، بحيث وضعوا لكلٍ تعريفاً ، وحدّاً يتميز به عن سواه ، ولا يلتبس بغيره وذلك بموجب الصفات والشروط المطلوب توافرها في روايته ومتنه، حيث :
عرفوا الصحيح بأنه : ما اتصل سنده بالرواة العدول ، التامي الضبط ، وسلم من الشذوذ ، والعلة القادحة . (4)
__________
(1) - أحمد بن شاكر : الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ، مكتبة دار التراث القاهرة 1399هـ – 1379م صفحة : 17 .
(2) - الخطيب البغدادي : الكفاية في علم الرواية ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد 1357هـ صفحة : 92 .
(3) - عبدالرحمن المعلمي اليماني : بحوث حديثية في علم الرجال وأهميته ، دار الراية للنشر والتوزيع الرياض 1417هـ صفحة 22 .
(4) - انظر نخبة الفكر للحافظ بن حجر : 2/1644 آخر شرح سبل السلام .(1/18)
وعرفوا الحسن بأنه : ما يفقد رواته أو بعضهم تمام الضبط . (1)
بينما الضعيف: هو الذي لا ينطبق عليه شروط الصحيح، أو الحسن، أو بعضها. (2)
ومدار هذه القواعد في التقسيم ، و الحكم على كل قسم على معرفة رجال السند ، وتقويم أحوالهم ، وأوضاعهم ، ولذلك لزم أن نتناول تقويم الرجال ، وموازين الحكم عليهم ، في صلاحية قبول أخبارهم ، أو ردها بمقتضى الضوابط الشرعية كما سيأتي .
وكما عرفنا من خلال تلك الأصول ، والضوابط ، والموازين ،كيف نعرف الخبر الصحيح الصادق عن سواه، أيضاً فقد ذكر علماء هذا الفن المهتمون به علامات ، ومميزات يظهر من خلالها كذب الخبر ، وعدم صلاحيته للنشر ، أو الاعتماد عليه في المواقف ، والأحكام ، وسياسة الأمور لما يتوقف على ذلك من فساد ، ويعود على الأفراد ، والجماعات ، بل ؛ وعلى الشعوب من أضرار ، وهو المعنى الذي أشار إليه القرآن بقوله : { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات : 6] ، وكما حدث للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها ، وآل أبى بكر ، بل وسائر المؤمنين من جراء حادثة الإفك التي لولا القرآن أبان عن حقيقتها ، وفصل فيها ، لكانت فتنة على المسلمين إلى يوم القيامة .
العلامات والمميزات التي يعرف بها الخبر الكاذب :
واعلم أن الأخبار : إما أن تكون متعلقة بالأحكام، والسنن، والتشريعات ، وهو ما كان خاصاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أن تكون غير ذلك ، وقد يشترك فيها ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن غيره من نقل الوقائع والأحوال وغيرها، والكل يشملها الوضع (الكذب) ويتناولها التحريم لعموم تحريم الكذب ، إلا أنه ؛ في حق الرسول أشد ، وأخطر ، لما له من صله بأحكام الدين ، وتشريعاته.
__________
(1) - المرجع السابق .
(2) - المرجع السابق .(1/19)
وها أنا أجمل العلامات ، والمميزات الدالة على كون الخبر موضوعاً ، أو أنه كذب مختلق وهو قسمان : قسم يتعلق بالسند طريق النقل، والآخر يتعلق بالمسند مادة الخبر ذاته.
أما علامات الوضع في السند فهي كثيرة أصحها :
أن يكون راويه كذاباً معروفاً به ، ولا يوجد من الثقات من يروي ذلك الخبر ويبينه.
أن يعترف ناقل الخبر بأنه يختلق الأخبار ، وينشئها .
أن يروي الخبر عن من لم يثبت لقياه به ، أو يستحيل لقاؤه به ، إما لعدم وجوده حين رواية الخبر ، أو كان في بلد تبين أن راوي الخبر لم يصل إليها .
إذا كان حالة الراوي ، وبواعثه النفسية تدفعه إلى اختلاق الأخبار ، وإنشائها بأن كان أمراً يبغضه، أو أمراً يحبه، أو جهة يبغضها ، وهو ليس بالرجل الثابت الرسين، والمتقي الأمين .
أما علامات الوضع في مادة الخبر ذاته ، فهي كثيرة جداً أهمها :
إذا كان الخبر مسنداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء بلفظ ركيك لا يدل على انه صدر من بليغ فصيح، أو لم تظهر عليه علامة نور النبوة، وجاذبية النفس ، والاطمئنان إليه ممن هم أهل خبرة في هذا الشأن والميدان وهم أهل الحديث، وهذا خاص بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أن يكون الخبر المنقول معناه فاسد ، وباطل حيث ؛ كان يخالف بديهيات الأمور ، ومعقولاتها مثل : (أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعاً ، وصلت عند المقام ركعتين) أو يكون مخالفاً للقواعد العامة في التشريع ، والأخلاق مثل: (جور الترك ، ولا عدل العرب) .(1/20)
أو مخالفاً للحس ، والمشاهدة مثل : (لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجه) ، أو مخالفاً لقواعد الطب المتفق عليها ، أو مخالفاً لما يوجبه الفعل لله من تنزيه ، وكمال مثل : (إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت فخلق نفسه منها تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً) ، أو يتناقض مع قطعيات التاريخ ، أو سنة الله في الكون ، والإنسان مثل : (خبر عوج بن عنق) ، أو يكون مشتملا على سخافات، وخرافات يصان عنها العقلاء مثل: (الديك الأبيض حبيبي ، وحبيب حبيبي جبريل) .
وقال ابن الجوزي : وما أحسن قول القائل : (كل حديث رأيته تخالفه العقول، وتناقضه الأصول، وتباينه النقول، فاعلم انه موضوع)(1).
وقال الرازي في المحصول : (كل خبر أوهم باطلاً ، ولم يقبل التأويل فمكذوب، أو نقص منه ما يزيل الوهم) .
مخالفة الخبر لصريح القرآن بحيث لا يقبل التأويل ، وذلك كثير من الأقاصيص التي يرويها المفسرون نقلاً عن بني إسرائيل .
مخالفة الخبر لحقائق التاريخ المعروفة في عصر النبوة، أو غيرها، كوضع الجزية عن أهل خيبر بشهادة سعد بن معاذ ، ومعاوية بن أبي سفيان .
موافقة الخبر لمذهب المخبر ، ونحلته إذا كان متعصباً غالياً في تعصبه .
أن يتضمن الخبر أمراً من شأنه أن تتوفر الدواعي على نقله ، لأنه وقع بمشهد عظيم ثم لا يشتهر ، ولا يرويه إلا واحد ، مثل حديث غدير خم الذي ينص على خلافة علي رضي الله عنه مع أنه قيل في جمع كبير كما في الرواية ، ولم يعمل به الصحابة ، وإنما عملوا بخلافه ، وهذا مما يدل على عدم صحة النص بالخلافة .
اشتمال الخبر على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير ، وهذا كثير في أحاديث القصاص ، وأخبارهم .
__________
(1) - الباعث الحثيث : 65 .(1/21)
معرفته عن طريق الحاسة المرهفة ، والذهن الصافي، والقلب العامر بنور الإيمان مثل قولهم هذا الحديث : (عليه ظلمة ، أو متنه مظلم ، أو ينكره القلب ، أو لا تطمئن إليه النفس) ، وقال الربيع بن هيثم : (إن من الحديث حديثاً له ضوء النهار تعرفه به، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل تعرفه بها) . (1)
ولذلك قال ابن الجزري الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم وينفر عنه قلبه في الغالب . (2)
وإذا كانت هذه العلامات ، والمميزات قد ذكرها علماء هذا الفن في حق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الكثير منها صالح لأن يطبق علي أي خبر كان ، فإجراء هذه العلامات على أي خبر يعطينا المؤشرات إلى عدم سلامته، والحاجة إلى تمحيصه، والتأكد من صحته وسلامته حتى تكون المواقف حقه ، والأحكام صحيحة ، وإجراءات التنفيذ سديدة ، والأخذ بمضامينها سليم .
الأخبار التي يرجح فيها جانب الحيطة والحذر :
إلا أن هناك أنواعاً من الأخبار قد يتجوز ، ويتساهل فيها في بعض الشروط ، والمواصفات ، ويتسامح في الطريقة ، والأسلوب الذي يتوصل به إلى احتمال الصدق في الخبر، بما يحف به من قرائن ، وشواهد تجعل المسلم يأخذها بعين الاعتبار في غير القضايا المتعلقة بالأعراض ، والدماء ، والأموال ، والعقيدة ، وفي غير الأحكام المتعلقة بالحلال والحرام، وإنما تكون في بعض القضايا الأمنية، وفي الحرب، وفي باب درء المفاسد، وتجنب الشرور، وفي الأمور الاحتياطية، اعتماداً على قاعدة قوله تعالى: { خذوا حذركم } .
__________
(1) - أحمد بن شاكر : الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث : 67 – 71 ، مرجع سابق .
(2) - إسبال المطر على قصب السكر لإسماعيل ابن الأمير : 198 ، وانظر السنة ومكانتها في التشريع : 102 .(1/22)
فإن الأخبار المتعلقة بهذه القضايا والوصول ، إلى معرفة الصدق فيها ، والصحة بمضمونها ومدلولها قد يتحقق بانتفاء بعض الشروط المطلوبة من خلال توفر بعض القرائن، والشواهد التي تؤيد صلاحيته للاعتماد عليه في مثل هذه القضايا وقد أيد ذلك دلائل ، وشواهد من ممارسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام في اعتماد مثل هذه الأحوال ، والتساهل في تلك الضوابط ، والقيود ، والشروط في قضايا الأمن والسياسة ، والحرب ، والأخذ بالحيطة ، واحتمال أسوأ الأحوال في الأخذ بمدلول الخبر ، والتعامل مع مقتضياته بما تتحقق به المصلحة ، وتدرأ به المفسدة كما سيأتي .
ولا يكون من هذا النوع الأخبار التي لا تعتمد على دليل ، وبرهان مادي ، ولا قرائن أحوال ، وشواهد مقال وتحليلات سليمة وفق نظر سليم .
هذه الأخبار التي لا تقبل هي التي تكون قائمة على الظنون، والتخمين ، والأوهام لأن هذه الأخبار منهي عن اعتمادها لأنها الكذب المحض بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات : 12] . وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .(1)
وقد ورد ذم الحكام الذين يأخذون بالظنة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ويقتل بالظنة) .
__________
(1) - صحيح مسلم : رقم : 2563 ، 2564 .(1/23)
والخبر المظنون هو الذي لا يعتمد على دليل ، وبرهان ، ولا قرائن أحوال صحيحة ، وإنما يعتمد على التحليلات المتوهمة، والتخيلات الفارغة، والقرائن غير المظنونة ، والتي تأتي من مصادر غير موثوقة ديناً ، وخلقاً ، ولا إسناداً تتوافر فيه شروط صفات القبول ، والاعتماد، والتي في مقدمتها العدل، والضبط، وغيره، وقد ذم الله عز وجل الذين يعتمدون على هذا المبدأ في اعتماد الخبر بقوله : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } سورة الأنعام : 116 ، { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } [الأنعام : 148] . { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الزخرف : 20] .
ومن هذا القبيل : الأخبار المستفادة من وسائل الإعلام العلمانية المعاصرة ، والبيانات السياسية التي ظاهرها غير باطنها ، والجمع بين المتقاطعات من الكلمات ، والتحليل للأحداث ، والأخبار من غير خبرة وبراهين ، والربط بين القضايا ، والأحداث من غير قرائن وشواهد أحوال ، كل ذلك ؛ إنما يكون في غالبه ظنون ، وتخامين ، وحدس ، وتوهم، وهو لا يغني من الحق شيئاً .
فلا توصل إلى الخبر اليقين ، ولا حتى العلم الظني الراجح الذي يبنى عليه أحكام ، ومواقف، وأعمال وإنما تستدعي من المتتبع لها البحث عن الأدلة البينة الواضحة، والمصادر الصحيحة الصادقة، والإسناد القائم على الثقات المتوفر فيهم الشروط والصفات.(1/24)
إلا أن هذا النوع من الأخبار هو الذي يستعان به في باب الحذر ، والحيطة ، والأخذ بأسوأ الاحتمال في الجانب الأمني ومن أجل دفع الشرور، ورعاية المصالح، والحفاظ على الكيان لقوله تعالى : { خذوا حذركم } [النساء : 71] . مع البحث الجاد الذي يوجبه الإسلام في التحقق من الخبر، وصدق مدلوله ، ومراميه ، وذلك بالعودة إلى أهل الخبرة، والمعرفة، وأهل الولاية ، والفقه ، والاختصاص ، قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء : 83].(1/25)
وهذه الآية تضع أمامنا التوجيه والإرشاد إلى مثل هذا النوع من أنواع الأخبار وهو خبر الإشاعات، والأخبار التي لها علاقة بأمن المجتمع، وخوفه، وفي ما يطلقه الأعداء من وسائل إعلامهم ، أو عملائهم ، أو جواسيسهم ، أو مما يشيع في مجتمع المسلمين من أخبار ناتجة عن سيره وحركته ، لها مساس بهذا الغرض قد تصدر عن حسن نية ، أو غير ذلك، فيضع لنا الميزان الدقيق في كيفية تلقيها ، وكيفية بثها ونشرها ، والمرجع الذي نعود إليه في ما نأخذ منه وندع ، ولمن ؟ وهو أمر ذو بال ، يجب أن يلتزم به كل مسلم صادق مخلص حريص على الخير لنفسه، ولأمته، وقيادته حتى في بعض الأخبار المتعلقة بالأفراد، والجماعات ، ومما يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفهمه ، أطلقت نساءك؟ فقال: لا. فقال : الله أكبر ، وذكر الحديث بطوله (1) وفي مسلم فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : لا ... ثم قال : فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } . (2)
ومن أجل أن لا يصيب المجتمع، والأفراد بسبب الأخبار المشاعة عنت ، ومشقة، وأضرار خطيرة ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على التثبت والتبين منه ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (نهى عن قيل ، وقال) ، أي الحديث عن ما يقول الناس من غير تثبت ، ولا تبين (3) .
__________
(1) - البخاري : 6/149 باب : 83 .
(2) - صحيح مسلم : 2/1106 رقم : 1416 .
(3) - صحيح مسلم رقم : 1715 .(1/26)
وفي الصحيح : (من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) (1) .
وفي سنن أبي داود : (بئس مطيه الرجل زعموا) (2) .
شرائط القبول في رجال الأخبار :
الرجال المعنيون هنا هم رجال الأخبار الذين يقوم عليهم معرفة الخبر بواسطة السند الموصل إلى الخبر ، ليعرف من خلاله صدق الخبر أو كذبه، صحته أو بطلانه ، بموجب الشروط التي وضعها رجال هذا الفن كما سبق ذكرها.
ولفظ الرجل هنا هي للغالب الأعم وإلا فالمرأة في نقل الخبر أياً كان نوعه محل قبول ورضا إذا توافرت فيها الشروط ، اللهم إلا في نقل الشهادة في الأموال فلا بد من إضافة أخرى إليها ، أو في الحدود فلا تقبل ، لاشتراط أربعة من الرجال ليس منهم نسا ء بمقتضى النص القرآن : { ثم لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [النور : 4] .
والناقل للخبر له أوصاف هي شرائط لا بد من توافرها فيه حتى يكون الخبر مقبولاً ومعتمداً ، وهي أربعة :
الإسلام ، والتكليف ، والضبط ، والعدالة . وهذه الشروط مطلوبة بعينها في الشهادة ، كاشتراطها في الرواية ، وتتفرد الشهادة بأوصاف أخرى تؤثر فيها وهي: الحرية فإنها شرط في الشهادة وليست بشرط في الرواية ، وكالعدد فإن رواية الواحد تقبل في الرواية، ولا تقبل شهادته إلا مقرونة بيمين المدعي ، إلا في بعض القضايا الاستثنائية مثل الشهادة على رؤية هلال رمضان .
فخبر الكافر غير مقبول لأنه متهم في الدين ، ورواية الصبي ترد لأنه لا وازع له عن الكذب فلا تحصل الثقة بقبوله .
__________
(1) - جامع الترمذي في العلم رقم : 9 مرجع سابق . أبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني . وابن ماجة تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، رقم : 5 المقدمة . مسند أحمد : 5/2014 مرجع سابق .
(2) - أبو داود سليمان بن الأشعث ، السنن ، بتحقيق دعاس وعبيد ، طبعة دار الحديث ، في الأدب باب : 72 . ومسند أحمد : 4/119 ، 5/401 مرجع سابق .(1/27)
والضبط هو سماع الرواية ، وحفظها حفظاً كاملاً ، وفهمها فهماً دقيقاً ، والثبات على ذلك من وقت السماع حتى الأداء ، فإذا اختل هذا الضبط لم يقبل نقله للخبر خشية الغلط فيه ، وإضافة ما ليس منه ، أو مالا يراد منه .
والعدالة : المراد بها هنا الاستقامة التامة في شئون الدين ، وسلامته من الفسق كله ، وسلامته من خوارم المروءة ، وتفصيل ذلك كما يقول الخطيب البغدادي بأنه : (من عرف بأداء فرضه ، ولزم ما أمر به ، وتوقى ما نهي عنه ، وتجنب الفواحش المفسقة ، وتحرى الحق والواجب في أفعاله ومعاملته ، والمتوقي في لفظه ما لم تألم في الدين والمروءة ، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ، ومعروف بالصدق في حديثه) (1) .
وبقول ابن الأثير : (أن العدالة لا تعرف إلا بخبرة باطنة وبحث عن سريرة العدل وسيرته) . (2)
ومقياس المروءة هذا الحديث : (من عامل الناس فلم يظلمهم ، وصدقهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخنهم ، فهو من اكتملت مروءته ، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته) . (3)
والمقياس في تعديل الرواة كما يقول سعيد بن المسيب : (إن من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله) .
ومستور الحال عند كثير من العلماء يحسن الظن به، ويقبل خبره، وهو كل حامل علم معروف بالعناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة حتى يتبين حرصه ، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين) (4) .
__________
(1) - صبحي الصالح : علم الحديث ومصطلحه : 129 مرجع سابق .
(2) - ابن الأثير : جامع الأصول 1/75 المقدمة مرجع سابق .
(3) - الخطيب البغدادي : الكفاية : 78 مرجع سابق .
(4) - الزين العراقي : التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن صلاح . تحقيق عبدالرحمن محمد عثمان ، طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، 1389هـ، صفحة : 138 ، وإن كان الحديث ضعيفاً لكن معناه صحيح .(1/28)
والعدالة شيء زائد على مجرد التظاهر بالدين والورع ، لا يعرف إلا بتتبع الأفعال ، واختيار التصرفات لتكوين صورة صادقة عن المخبر، والبحث عن عدالة الشاهد بتناول طرق من الاستقصاء الدقيق الذي لا يجرح كرامة أحد ، بل يزكي الخبر المروي من خلال تزكية المخبر الراوي ، (شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة ، فقال : لست أعرفك ، فأت بمن يعرفك . فقال رجل من القوم : أنا أعرفه . قال : فبأي شيء تعرفه . قال : بالأمانة والعدل . قال : فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ، ومدخله ومخرجه . قال : لا . قال : تعامله بالدينار والدرهم الذي بهما يستدل على الورع . قال : لا . قال : برفقتك له في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق : قال : لا . قال : لست تعرفه . ثم قال للرجل : ائت بمن يعرفك) . (1)
ومناهج المحدثين في الجرح أشد منها في التعديل ، فهم يقبلون التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور أما الجرح فيردونه إذا لم يبين سببه بياناً شافياً.
وتشدد علماء الحديث في تقويم الرجال إنما كائن في أخبار الحلال والحرام ، والسنن، والأحكام ، أما في فضائل الأعمال ، والمواعظ ،والقصص فيتساهلون ، لأنه لا ينبني على ذلك ضرر لا في الدين أو الدنيا ، بقول الإمام أحمد ابن حنبل : (إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام ، والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد ، وإذا روينا عنه في فضائل الأعمال ومالا يضع حكماً ، ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد، ولولا الأسانيد لقال من شاء ما شاء) (2) ، وما سبق بيانه شاهد على ذلك .
__________
(1) - الخطيب البغدادي : الكفاية : 84 . البيهقي السنن الكبرى : 10/125 القضاء .
(2) - ابن الأثير جامع الأصول : 1/109 مرجع سابق .(1/29)
وتشدد الفقهاء في تقويم الرجال كائن في باب الشهادة لإثبات الحقوق في الأموال والدماء ، والأعراض ، وصدور الأحكام ، أما في باب المعاملات ، والشئون الاجتماعية ، وبعض الأحوال العادية فيبدو عندهم شيء من التساهل في حدود تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وما لا يوقع في إثم ، وحرام .
ويتشدد الساسة ، والحكام في تقويم الرجال في باب الولاية ، وإسناد جلائل المهام ، والمسئوليات لما يتوقف على ذلك من قوام الحكم، وإقامة العدل ، وتحقيق الأمن والاطمئنان، ويتساهلون فيما يتعلق بنقل المعلومات ، ونقل الأخبار ، وأخذ المعلومات عن الأشخاص ، والجماعات ، وأهل الخلافات لأخذ الحذر ، والحيطة في العمل السياسي ، وشئون الجهاد ، بالاكتفاء بالدلائل ، والقرائن التي ترقى إلى مستوى الظن ، وتقرب من الترجيح لأصدق الأخبار.
ولكل قبيل مما ذكرنا في بابه أصل يرجع إليه ، مع توفر صفة التقوى ، وصدق الإخلاص .
تقويم رجال الأخبار بحسب أهمية الخبر :
واعلم أن تقويم الرجال ، ومعرفة أحوالهم ، ومدى صلاحيتهم للنقل للأخبار ، وصدقهم فيها ، وأدائها على وجه سليم صحيح ، وقدرتهم على تحليلها ، واتصافهم بالكفاءة على التعامل معها في استنباط ما تحتويه من مدلول ، ومعرفة مدى أهليتهم لتحمل التبعات المترتبة عليها ، وأداء الواجب نحوها لمن الأمور الهامة ، والمهمة الغالية الرفيعة ، كما أنه في الوقت نفسه أن الوصول إلى ذلك لمن الأمور الشاقة المضنية ، التي لا يتحملها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، والعقلية الرصينة ، والذكاء المفرط ، والعلم الراسخ الواسع ، والتقوى القوية أو المتينة ، والإيمان العميق ، وهذا هو الذي منحه الله لبعض عباده ليحفظ به دينه، وشرعه ، ويقيم الحجة به على العالمين ، ويحقق به اللطف لعباده ، والعناية بهم ، والرعاية لأحوالهم ، وسائر شئون دينهم ، ودنياهم.(1/30)
وإن أعظم مبدأ اهتم به المسلمون في هذا الصدد مبدأ الجرح والتعديل ، والجرح وصف متى التحق بناقل الخبر رواية أو شهادة أو نحو ذلك سقط الاعتبار بقوله ، وبطل العمل به . والتعديل وصف متى التحق بناقل الخبر اعتبر قوله وأخذ به (1). وإنه لمبدأ عظيم حقق ثماراً وفوائد عظيمة ، عاد نفعها وخيرها على كل المسلمين ، بل على كل بني الإنسان . وسيبقى ذلك ماثلاً لهم ما داموا به مستمسكين .
هذا المبدأ الذي دل على كلياته القرآن ، وفصل جزئياته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وطبقه واقعاً في الحياة الصحابة ، والتابعون لهم بإحسان ، فما أحق المسلمين في كل زمان إلى التزامه ، واعتماده أساساً في تعاملاتهم ، ومعاملاتهم في كثير من الشئون الحياتية .
ولقد أصبح هذا المبدأ علماً أطلق عليه علم الجرح والتعديل ، أو علم ميزان الرجال، وهو عند علماء الإسلام علم يبحث فيه عن أحوال الرواة للأخبار، وأمانتهم ، وثقتهم، وعدالتهم ، وضبطهم ، أو عكس ذلك من كذب ، أو غفلة ، أو نسيان . وهذا العلم يحقق شطراً مما ألمحنا إليه في باب توثيق الرجال بما يخص نقل الأخبار ، وتلقيها.
يقول الدكتور مصطفى السباعي عنه : (فهو علم جليل من أجل العلوم التي نشأت عن تلك الحركة المباركة - يعني حركة علم الحديث - لا نعرف لها مثيلاً في تأريخ الأمم الأخرى) (2) .
__________
(1) - ابن الأثير جامع الأصول : 1/126 مرجع سابق .
(2) - السنة ومكانتها في التشريع : 106 .(1/31)
وقد أدى إلى نشأة هذا العلم حرص العلماء على الوقوف على أقوال الرواة حتى يميزوا بين الصحيح من غيره ، فكانوا يختبرون بأنفسهم من يعاصرونهم من الرواة، ويسألون عن السابقين ممن لم يعاصروهم ، ويعلنون رأيهم فيهم دون تحرج وتأتم ، إذ كان ذلك ذباً عن دين الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل للبخاري : " إن بعض الناس ينقمون عليك التأريخ يقولون : فيه اغتياب الناس . فقال : إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (بئس أخو العشيرة) (1) ". وهكذا نجد أن الإمام البخاري رحمه الله استدل لأصل هذا العلم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وروى مسلم بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال : (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) . وعنه أيضاً قال : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (2) .
بل بالتأمل في القرآن نجد أن دليل إقامة هذا العلم هو في القرآن الكريم كما نجده في السنة ، فآيات كثيرة وردت في الثناء على الصحابة إجمالاً، وآيات أخرى فيها ذم للمنافقين إجمالاً، كما وردت آيات في الثناء على أفراد معينين وعلى جرح أفراد آخرين (3) . كما وردت آيات تنص على وجوب التثبت والتمييز بين العدل والناس في قبول الأخبار وردها من ذلك كما تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مثل ما جاء في القرآن من الثناء والذم والتعزير إلى غير ذلك .
وهذه طائفة من الأدلة القرآنية التي توضح ذلك وتجليه :
__________
(1) - السنة ومكانتها في التشريع : 110 .
(2) - صحيح مسلم : 1/14-15 المقدمة مرجع سابق .
(3) - المعلمي ، بحوث حديثية في علم الرجال وأهميته : 18 مرجع سابق .(1/32)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات : 6] . { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ } [السجدة : 18] . { وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } [النور : 4] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } [المائدة : 106] . { وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله } [الطلاق : 2] .
واعلم أن تقويم الرجال في نقل الأخبار والأحوال بالتتبع للكتاب والسنة نجده يتفاوت بحسب الخبر الذي يحمله المخبر وعظمته وخطورته وهو على مراتب .
خبر يتعلق بالأعراض والأموال والحقوق العامة فهذا الخبر قد شدد فقهاء الإسلام في ناقليه، ووصفهم، وأحوالهم، أيما تشدد، بل اشترط له من العدد كلٌ بحسب عظمته وخطورته ، وذلك بحسب تشدد النصوص من الكتاب والسنة في ذلك .
فمع صفة الإسلام ، والحرية والعدل ، والضبط ، والتكليف المشروط في أداء خبر الشهادة اشترط الإسلام في الأموال ، اثنين من الرجال ، أو رجلاً واثنتين من النساء ، أو شاهداً ويمين المدعي .(1/33)
أما في العقوبات وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيها إلا شهادة رجلين ، ولا يقبل فيها شهادة النساء وإن كثرن (1) ، أما في الأعراض : الزنا ، والقذف . فقد اشترط لها أربعة من الشهداء، ليس فيهم أحد من النساء، أو من العبيد ، أو أيمان مغلظة متكررة بعدد الشهداء عليها فيما يتعلق بالزوجين، وهي أربع شهادات بالله، والخامسة أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، وعليها غضب الله إن كان من الصادقين (2) ، قال تعالى : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } [النور : 13] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ * } [النور : 6-9]
أما فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع، والولادة، والحيض، والعدة، وما أشبه ذلك فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة عدل على الأصح . (3)
__________
(1) - يحي بن أبي الخير العمراني : البيان شرح المهذب ، تحقيق قاسم محمد النوري ، طبعة دار المنهاج للطباعة والنشر والتوزيع – لبنان بيروت – 1421هـ –2000م . وأبي محمد عبدالله ابن قدامة المقدسي المغني ، مكتبة الجمهورية العربية المصرية : 9/147 .
(2) - العمراني ، البيان : 9/324 مرجع سابق . وابن قدامة المغني : 9/147 مرجع سابق .
(3) - ابن قدامة ، المغني : 9/155 .(1/34)
وهكذا نجد أنه كلما كان الخبر يتضمن خطورة وضرراً كان التثبت في ناقليه أكثر تشدداً وتصلباً من حيث زيادة الشروط وتوفر مواصفات أخرى تتناسب ، وأهمية الخبر.
ولخطورة الشهادة في العواقب المترتبة عليها فإنها لا تجوز إلا بما تحقق فيه العلم لقوله تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف : 86] ، { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء : 36] ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (على مثلها فاشهد أو دع) يعني الشمس ، أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف وصححه الحاكم فأخطأ، ويدرك العلم في الشهادة باثنين: الرؤية، والسماع .
إذ أن من الخبر ما يحصل بالرؤية، ومنه ما يحصل بالرؤية والسماع، ومنه ما يحصل بالسماع. أما ما يقع بالرؤية فالأفعال: كالغضب، والإملاق، والزنا، ونحو ذلك، وأما ما يقع بالسماع والمشاهدة والرؤية فكالشهادة على العقود مثل : البيع، والرهن، والصلح ، والإجارة والنكاح وغيرها .
والثاني ما يعلم بالاستفاضة : وهو ما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه كالشهادة على النسب ، والولادة ، والموت ، والملك المطلق ، ونحو ذلك على تفصيل ذكره الفقهاء (1) . وقد أضاف الفقهاء شرطاً خاصاً بخبر الشهادة وقبولها ، وهو انتفاء الموانع مثل القرابة، ووجود المصلحة للشاهد ، أو دفع الضرر وغير ذلك كشهادة السيد لعبده ، والوالد لولده، والزوج لامرأته، وغير ذلك (2) . لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لا تقبل شهادة خصم ، ولا ظنين ، ولا ذي غمر على أخيه) (3) .
__________
(1) - ابن قدامة ، المغني : 9/158 – 161 . والعمراني البيان : 13/350 .
(2) - ابن قدامة ، المغني : 9/193 .
(3) - العمراني ، البيان : 13/307 .(1/35)
خبر يتعلق بإثبات الأحكام، والسنن، والحلال والحرام، فهذا ما توقف به عند توفر تلك الصفات التي أثبتها رجال الحديث من غير اشتراط لعدد، وعدم التمييز بين الرجال والنساء ، والأحرار والعبيد ، وقد مر البيان والتفصيل عنها ، وإن كان لكثرة العدد فيه زيادة في قيمة الخبر ، وصفته . حيث يوصف بالعزيز ، أو المشهور ، أو المتواتر بحسب توفر كثرة الأعداد في جميع سلسلة السند .
خبر يتعلق بإثبات زمن بعض الفرائض ، والواجبات كإثبات رؤية الهلال لشهر رمضان ، وهو ما اكتفى فيه بمستور الحال في ظل دائرة الإسلام .
وخبر تثبت به حقائق العلوم الدنيوية ، ونظرياته ، والطريق الموصل إليه العلم القائم على الدليل ، والبرهان ، والتجربة ، والمشاهدات ، وغير ذلك من وسائل العلم الصحيحة الموصلة إليه، من غير نظر في الناقل للخبر ، والمأخوذ منه في شرط العدالة ، والإسلام .
وخبر يدور في مصدر صحته على الإنسان الناقل له المستوفي لشروط النقل ، وصفاته ، أو توفر القرائن، والأحوال، أو الفراسة النابهة، والبصيرة النافذة، وتطابقها مع مدلول المقال ونصه بعد التمحيص، الذي يترجح معه صحة النقل في المقال، وذلك فيما يتعلق بأمور الحذر ، والاحتياط في باب السياسة والحرب ، وبعض شئون المجتمع .(1/36)
ومما يجدر الإشارة إليه ، والتنبيه عليه أن هذا التنويع لأحوال الرجال في نقل الأخبار واعتماده ، إنما يتم عندما يكون المجتمع المشاع عنه السلامة والالتزام بأحكام الإسلام على وجه الإجمال ، والأفراد لم يشع فيهم الكذب والإخلال بآداب الإسلام ، أما حينما ينفلت الحال ، وينعكس في مجتمعات الإسلام ورجاله ، فإن الاحتياط في ذلك يتأكد ويكون راجحاً، وذلك حسب خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذيره حيث قال : (سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم مالا تسمعون انتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم) (1) . رواه الخطيب البغدادي في الكفاية بسنده عن أبي هريرة.
وقوله: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم بالأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) رواه مسلم من حديث أبي هريرة . (2)
وقوله : (يا ابن عمر دينك دينك إنما هو لحمك ودمك فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا) (3) .
وهكذا نجد أن تقويم الرجال لنقل الأخبار ، والعلوم ، مرتبط بما يحمله ذلك الخبر من أمر يقتضي فيه المزيد من الحذر ، والاحتياط ، أو الاعتدال ، والاتزان ، أو ما دون ذلك من السماحة ، والترخص . والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
الخاتمة :
وفي الختام نخلص بعد هذه التجوالة في كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي بطون كتب التشريع الإسلامي وأصوله ، وتأريخ المسلمين ، واستقراء الأحوال والقرائن عن الأخبار وتلقيها إلى النتائج التالية :
__________
(1) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 6 المقدمة مرجع سابق .
(2) - صحيح مسلم : 1/12 رقم : 7 المقدمة مرجع سابق .
(3) - الخطيب البغدادي ، الكفاية : 78 مرجع سابق .(1/37)
الخبر أحد ضروريات الإنسان الذي يصعب عليه أن يعيش بدونه ، لذلك لابد أن يكون صادقاً وصحيحاً ومعتبراً ، وفي الحديث الصحيح : (أن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم) (1)
الصدق في القول أحد الطرق الموصلة إلى الجنة ، كما أن الكذب فيه أحد الطرق الموصلة إلى النار .
أصدق مرجعية لتلقي الأخبار اليقينية عند المسلمين كتاب الله عز وجل والصحيح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
المبدأ الذي أرساه الإسلام لتلقي الأخبار فيما عدى مصدري الكتاب والسنة الصحيحة التثبت والتبين والاستيثاق .
الأخبار التي يتلقاها الإنسان إما أن تكون فيما مضى من أحوالهم ، أو فيما تتناول واقعهم ظرفاً وزمناً وأحوالاً وبيئة وكوناً ، وإبداعاً ومخترعات وغير ذلك ، وإما ما يتعلق بمستقبله ومآله وكل نوع من أنواع هذا الخبر له مصدره ومرجعيته في تلقيه ، وله ضوابطه وقواعده في المعرفة لصدقه وصحته وتقويم تلك المصادر والمراجع .
الأخبار إما أن تكون يقينية العلم ، وإما أن تكون ظنية راجحة ، وإما أن تكون ظنية مرجوحة ، وإما أن تكون كذباً محضاً .
مصادر تلقي الأخبار هي :
كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي هي من الوحي : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى * } .
الآثار المشاهدة التي تحكي أخبار وأحوال من مضى وتركت العبرة والعظة من معالم ، وكتابات منحوته ، وأطلال وغير ذلك .
ما دونه الإنسان ورسمه في مؤلفات ومصنفات ، تحكي التاريخ الماضي وتشرح أحوال من مضى أو في الحال المعاش .
وسائل الإعلام المعاصرة المشاهدة ، والمسموعة ، والمقروءة .
وضع المسلمون منهجاً للتعامل مع الأخبار أخذاً وعطاء ومواقف يقوم على أساس جليل هو الإسناد الذي هو أيضاً يقوم على أربعة قواعد :
__________
(1) - رواه البخاري في كتاب الرقائق ، باب حفظ اللسان .(1/38)
الأولى : إسناد الخبر إلى قائله بشروط معتبرة للوصول إلى صحة الخبر وصدقه .
الثانية : التوثق من الأخبار بالرجوع إلى قائلها إن كان حياً أو إلى الثقات الذين نقلوا عنه أو بالرحلة إليه أو بالكتابة منه بما صح لديه من خبر .
الثالثة : نقد الرواة وبيان حالهم من صدق وكذب وفق قواعد دقيقة حررت في ذلك .
الرابعة : تقسيم الأخبار إلى مقبول ومردود وفق قواعد وضوابط وشروط تضمن سلامة وصحة هذا التقسيم .
ومن منهجيتهم في التحري للخبر وضمان صدقه وصحته أن لا يتلقوا أخبارهم عن من ثبت كذبه ، أو اشتهر ببدعة والدعوة إليها ، أو صاحب هوى وتعصب حزبي ومذهبي تؤيد القرائن والأحوال كذبه من أجل بدعته وهواه وتحزبه ، وكذلك لا يقبلون أخبار الزنادقة ، والفساق ، والمغفلين ، ومن لا تتوفر فيهم صفات الضبط والعدالة والفهم السليم .
من منهجيتهم التوقف في أخذ الأخبار ممن اختلف في تجريحه ، ومن كثر خطؤه وخالف الثقات ، ومن كثر نسيانه وغلب على كثير من أحواله ، ومن اختل في آخر عمره وساء حفظه ، ومن كان يأخذ عن الثقات والضعفاء ولا يتحرى - حاطب ليل - .
إن شواهد وقرائن أحوال وعلائم ومظاهر تظهر للسامع أو الناظر في نص الخبر ، أن الخبر غير صحيح وأنه مكذوب ولا يجوز التعامل معه ، نبه عليها المعنيون بالخبر وأكد عليها علماء الشرع واعتبروها علامات صحيحة للحكم على الخبر من ذلك :(1/39)
أن يكون راوي الخبر كذاباً معروفاً بالكذب ، أو أن يعترف ناقل الخبر بأنه يختلق الأخبار وينشئها ، أو إذا كانت حالة الراوي للخبر وبواعثه النفسية تدفعه إلى اختلاق الأخبار وإنشائها . هذا فيما يتعلق براوي الخبر ، أما فيما يتعلق بنص الخبر إذا كان الخبر فيه ركة لا يدل على أنه صدر من فصيح بليغ كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً ، أو يكون الخبر معناه فاسد وباطل كمخالفته لبديهيات الأمور ومعقولاتها ومحسوساتها ، أو بأن يخالف صريح القرآن ولا يقبل التأويل إذا كان حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أثراً عن صحابي ، أو مخالفة الخبر لحقائق التاريخ المعروفة في عصر النبوة أو غيرها . أو إذا كان الخبر موافقاً لمذهب المخبر ونحلته إذا كان متعصباً غالياً ، إلى غير ذلك من العلامات المميزة له والدالة على كذبه .
من الأخبار ما يرجح فيها جانب الحيطة والحذر ويتساهل في نقلها وقبولها في بعض الشروط والمواصفات ويعتمد التعامل معها في هذا الإطار بناء على قوله تعالى : { خذوا حذركم } وذلك من أجل الأمن وفي الحروب ، وفي درء المفاسد وتجنب الشرور على أن يتم التحري إذا كانت لها علاقة بالعقيدة والأعراض والدماء والأموال ، وما يتعلق بالحلال والحرام .
ناقل الخبر ومنشؤه يشترط لاعتماد خبره وقبوله والعمل به واتخاذ المواقف وإصدار الأحكام على أساسه أربعة شروط هي : الإسلام ، والتكليف ، والضبط ، والعدالة . إلا أن يكون الخبر شهادة فإن الحرية في ناقل الخبر شرط معتبر شرعاً ، وكذلك العدد على تفاوت في نوع خبر الشهادة واشتراط عدد محدد لا تقل عنه .
لقد تنوع قبول الخبر ، والتشدد في الوصول إلى صدقه وصحته عند علماء الإسلام بحسب أهميته وخطورته ، وبحسب الجهة التي يصدر عنها ذلك الخبر ومن خلال التتبع والاستقراء نجد :(1/40)
أن علماء الحديث يتشددون في الجرح ويتساهلون في التعديل ، كما أنهم يتشددون في أخبار الحلال والحرام والسنن والأحكام ، ويتساهلون في أخبار فضائل الأعمال والمواعظ والقصص .
ويتشدد الفقهاء في تقويم الأخبار حين تكون في الشهادة لإثبات الحقوق في الأموال ، والأعراض ، والدماء ، وصدور الأحكام ، بينما نجدهم يتساهلون في أخبار المعاملات وشئون الاجتماع والعادات .
ويتشدد الساسة والحكام في أخبار تقويم الرجال حين إسناد المهام والمسئوليات ، كما يتساهلون ي باب الحذر والحيطة في أخبار الأمن والحرب وشئون الاجتهاد.
إن مبدأ الجرح والتعديل بضوابطه الشرعية المار ذكرها هو الأمر الذي اعتمد عليه علماء المسلمين في تقويم الرجال وقبول أخبارهم أو ردها وعدم الاعتبار بها. وهو مبدأ قررته الآيات القرآنية وأيدته السنة النبوية ورسخه تطبيق المسلمين له في قبول الأخبار ، وهو يعد خصيصة من خصائص هذه الأمة كما فصلت ذلك ، ومع ذلك فقد كان في التعامل به مرونة ، حيث يتشدد فقهاء الشريعة في استعمال هذا المبدأ في الخبر المتعلق بالأعراض والدماء والأموال من حيث اشتراط العدد في الشهود ، كما أن الخبر في العقوبات والقصاص لا تقبل فيها شهادة النساء والعبيد ، أما فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع والولادة والحيض والعدة ونحو ذلك فإنه يقبل فيه شهادة امرأة أو خبرها .
أما الأخبار المتعلقة بإثبات الأحكام والسنن ، والآثار ونحو ذلك فإنه يكتفى في إثباته بالإسلام والعدالة والضبط سواء كان المخبر رجلاً أو امرأة أو عبداً .
هذه جملة من النتائج التي توصل إليها الباحث ولخصها في هذه الخاتمة بينما البحث يشتمل على كثير من الأحكام والضوابط الشرعية المتعلقة بالأخبار ، والله المستعان .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
المصادر والمراجع :(1/41)