د. صاحب خليل إبراهيم
الصّورة السّمعيّة في الشعر العربي قبل الإسلام
دراسة
من منشورات اتحاد الكتّاب العرب
2000
بسم الله الرحمن الرحيم
{ رَبَّنا تَقَبّلِ مِنّا إنَّك أنتَ السَّميع العَليم }
صدق الله العظيم
الإهداء
إلى والديَّ الكريمين اللّذين أنارا لي الطريق
وأخواني الأعزاء
وإلى رفيقة العمر الوفية الصابرة التي
رافقتني في رحلة التعب والجهد.
وأطفالي:
فراس..
وريّا..
ونوار..
ونورس..
أهدي هذه الثمرة عرفاناً بالجميل.
(
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنان : عبدالله أبو راشد
((
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة بين يدي البحث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد النبي العربي الأمين رسول الهدى والخير والمحبة إلى الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه الكرام أجمعين.
وبعد: منذ أكثر من سبعة عشر قرناً انسلخت من عمر الزمن وشعرنا العربي قبل الإسلام يعيش بين ظهرانينا، ويهز أسماعنا، ونتأثر به، ويحظى بأهمية استثنائية لكونه الموروث الضخم الذي تجلت إبداعاته، وبقيت محفورة بذاكرة الزمن، وظلت خالدة ماثلة بيننا، يتناقلها الرواة، وتتغنى بها الشفاه فتتسقطها الأسماع وتتلقفها من فم لفم لحلاوة إنشادها، وعذوبة موسيقاها، وسموّ معانيها التي انتظمت في إيقاع تشتاقه النفوس وتطرب له، وكأنها تعزف على أوتار القلوب، وتتأثر به ولذلك فمن حقنا أن نتفاعل مع تراثنا، وننهض بدراسته بما يتلاءم مع عظمته وأهميته، فهو سجل حافل بالمفاخر والمآثر والقيم، فضلاً عما يضم بين جوانحه من لمحات تكشف لنا الكثير من جوانب الحياة في الصُّعُد المختلفة آنذاك.(1/1)
ومهما حاولنا أن نستجلي جانباً من الشعر الجاهلي بالدراسة والتحليل تبقى جوانب كثيرة فيه بحاجة إلى دراسة وإضاءةٍ دائمتين، لكون الشاعر الجاهلي موهوباً مقتدراً استطاع ببراعته أن يكونّ لنا صوراً كثيرة لحياة العرب وقتذاك، تلك الصور المتعددة أخذت جانبين، جانب الحياة من جهة، وجانب المنظور الفني من جهة ثانية، ولا يمكن لتلك الصور أن تنسلخ عن المدركات الحسية، وخاصة السمعية، لأن الشعر الجاهلي شعر مسموع، وهذا ما يسوّغ وجود صورة سمعية فيه قبل أن توجد الصورة البصرية التي تعتمد اللون، أو التركيب، أو الشكل أو الهيئة.
بَيْدَ أن الصورة السمعية إذا ما افتقرت إلى الجوانب الأخر، البصرية منها، فهي تحمل في تضاعيفها جوانب متعددة من طبيعة تركيب الجملة الشعرية مثل اللفظة، سواء أكانت اسماً، أم فعلاً، فضلاً عن طبيعة الصوت المنطلق من الصورة سواءً أكان إنشاداً، أم دويّاً، أم تنغيماً، أم صوتَ رعد، أم قعقعة سلاح، أم حركة حيوان مع ما يطلقه من أصوات.
ولهذا فإن الصورة الشعرية في العصر الجاهلي حسية، مستمدة من البيئة لمحاولة الشاعر استدعاء الحواس لاستيعاب الصورة التي تتفاعل معها نسب تلك الحواس، ومدى استدعاء حاسة السمع بالذات وأثرها في تشكيل الصورة.
وإذا ما تجاوزنا ذلك كله إلى الجانب الشكلي، فسنجد أن القصيدة العربية قبل الإسلام قد اعتمدت الجانب الإيقاعي فضلاً عن القافية والوزن والبحر، وذلك كله إلحاح على الجانب السمعي في إطاره الشكلي.
ولذلك يبقى العصر الجاهلي هو العصر الذي استأثر بالجانب السمعي للشعر وإنشاده، وانتقاله بين العرب.
إن حبّي للعصر، واهتمامي به نابع من عمقه وثرائه، ودراستي السابقة لظاهرة من ظواهره في مرحلة الماجستير (الغربة والحنين في الشعر العربي قبل الإسلام) ورغبتي في البحث عن جانب مهم جداً من جوانبه الفنية المتعلق بالصورة السمعية، كان باعث اختياري للعصر أوّلاً، وللموضوع ثانياً.(1/2)
على أن بحثنا هذا لم يَخْلُ من صعوبات واجهته، لكونه موضوعاً بِكْراً لم يسبقنا أحد في حَرْثِ أرضه الخصبة قديماً وحديثاً، عرباً وأجانب، وهذا أمر يتعلق بالمصادر والمراجع، إذ لم تؤلف فيه الكتب، ولم تقدم فيه بحوث على صعيد الدراسات العليا سوى الإشارات العابرة التي تفتقر إلى تحليل النصوص، أو صفحات في بعض الكتب تناولت الصورة السمعية لدى شاعر واحد عوَّضَ في بعض جوانب شعره بالصورة السمعية(1)، على أن الكثير من المؤلفات قد قرنت الصورة السمعية بالموسيقى الخارجية أو الإيقاع، أو الإحساس بالمقطع والإيقاع.
وقد أفدت من المصادر العربية القديمة بالقَدْر الذي يخدم موضوع البحث في مباحثه المختلفة باقتباس من رأي ما، يدعم وجود صورة سمعية، على أن المراجع الحديثة المؤلفة والمترجمة على كثرتها انصبَّ اهتمامها على التنظير لمختلف الموضوعات، وقد أهملت أهم جانب هو التحليل، ولم أدخر جهداً في جرد الكثير منها وقراءتها على أمل أن أجد فيها ضالتي، وقد اضطررت لإهمالها لكونها لا تمت إلى بحثي بصلة، على أن ما أفدته منها كان ضئيلاً جداً قياساً إلى كثرة المطبوع منها، ويمكن مراجعة المسرد الخاص بالمصادر والمراجع في نهاية البحث.
بيد أني قد شمرت عن ساعد الجد، ورحلت مع الشعر الجاهلي متوخياً اعتماد دواوين الشعراء أساساً للبحث، وعوّلت عليها، وقمت باختيار المحقق منها تحقيقاً علمياً موثقاً ما وسعني الجهد، وما أمكن إلى ذلك من سبيل للوصول إلى الغاية، بالدقة المطلوبة، إلاّ ما ندر ممّا لم أستطع الحصول عليه لأسباب خارجة عن الإرادة.
واحتكمت إلى الشعر الجاهلي فهو مرجعي الأصيل، وزادي وزوّادتي في انطلاقي نحو أجواء الشعراء، مسافراً عبر صحرائهم المترامية الأطراف على امتداد الأفق الرحيب، معهم في حلّهم وترحالهم، مشاركاً إيّاهم آمالهم وآلامهم.
__________
(1) ينظر: الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد.(1/3)
وقد انطقوا كلماتهم فأكاد أسمعها بالرغم من شقة الزمن التي تفصلني عنهم من حقب وأحداث وأمكنة، وأكاد أحسّ أنني أشهد وقائعهم، وأجوس الديار معهم، وأسمع كل نأمة حب تدور في جوانحهم وهم في خيامهم، أو في الخليط المزايل.
كنت أستجلي أمر كلّ غامض، وأمْتَحُ من كل مصدر إذا ما تأبّى معنى، أو أشكَلَتْ صورة، بما أمدّتني به يد المُساعفة، حتى يطاوعني الشارد العصي، ويقترب مني الصوت البعيد، فكانت الثمرة هذا البحث، وقد تحدد بأربعة فصول وخاتمة، مسبوقاً بكلمة بين يدي البحث، وتمهيد يضم توضيحاً لماهيّة الصورة السمعية وأهميتها، وبسط القول في تفضيلها، وقيام العصر الجاهلي على السماع والمشافهة والرواية، مع إيضاح الروافد التي استمد منها الشعراء صورهم السمعية.
اقتضت طبيعة الفصل الأول (منافذ الأداء السمعي في هيكل القصيدة) أن يضم ثلاثة مباحث، تناول الأول مفتتح القصائد، وأهم ما ضمته من موضوعات الطلل، والطيف، والشكوى من الشيب، والنسيب والغزل، والفروسية، والحكمة، وبيّنا ما فيها من صور سمعية صريحة ومخفية، وأثر حاسة السمع على لوحات الافتتاح بالرغم من أنها توحي بالصورة البصرية للوهلة الأولى، ولكنها استخدمت الألفاظ ذات الدلالات السمعية والإيقاعية، والألفاظ الصريحة والموحية.
أما المبحث الثاني فقد انصرف إلى الرحلة بشقيها: رحلة الظعائن، حيث رحيل الأحبة، وتأثير الفراق في أحاسيس الشعراء التي انعكست على صورهم السمعية، والشق الثاني المتمثل برحلتهم هم عبر الصحراء ومخاوفها مع رفيقة سفرهم (الناقة)، وما خلّفته تلك الرحلات من آثار شعرية وصور متعددة جسدت مشاعرهم، ووصلت إلينا من خلالها أصواتهم عبر القرون التي تفصل بيننا.
كما أنها فصّلوا القول في الحيوانات المختلفة في صور سمعية، لم يتركوا منها شيئاً إلاّ وقد ذكروه.(1/4)
وتكفّل البحث الثالث بدراسة الأغراض الشعرية المهمة الرئيسة من المديح والفخر، والهجاء والتهديد والوعيد والنقائض، والرثاء، وأهمية كل غرض وأسبابه بصورٍ سمعية تباينت أساليبها وأصواتها، فلكل غرض منها أسلوب، ومنحى، وأصوات تنسجم معه.
أما الفصل الثاني فقد كان بعنوان (التشكيل الجمالي في الصور السمعية المختلفة) متضمناً ثلاثة مباحث، أُسسّتُ في البحث الأول للصورة الذهنية، ومن ثم درستُ أثرها في تشكيل الصورة السمعية، حيث تعبّر الصورة الذهنية عن المدركات الحسية وتخيّلها وتمثلها في الذهن وإعادتها إلى صور متعددة منها الصورة السمعية، تنظيراً وتحليلاً، مع إيضاح الحسيات الغائبة عن المشاعر لحظة الإبداع مع تباين حالات الانفعالات النفسية للشاعر والمتلقي مع المؤثرات الاجتماعية، والثقافية، والتفاوت الزمني بينهما.
وتناولت في المبحث الثاني (الصورة السمعية وسلطان الحواس، وترابطها بما تتولد من علائق بين حاسة السمع والحواس الأُخر وتلاحم بعضها مع بعض وأثر ذلك في تشكيل الصورة السمعية، وأهمية المدرك السمعي في تفاصيل معطيات المدركات الحسية المختلفة لاستكمال عنصر الصورة برمتها، ومن هنا تأتي أهمية تعاون الصور السمعية مع الحسية الأُخرَ، وأثر حاسة السمع وحضورها المتميز في مضمون الأداء الشعري وصوره المختلفة.
ودرست في المبحث الثالث (الصورة السمعية عبر الإيحاء) بما تشكله من صوت، أو فعل أو حركة، أو جميعها، أو بما يحاكي إيقاعها معناها، فضلاً عن تآلف الحروف وما تمنحه من قدرة على تشكيل صورة سمعية إيحائية من خلال نصوص قمت بتحليلها.
واتجهت في الفصل الثالث إلى دراسة الصورة السمعية والنسيج الشعري موسيقياً وبيانياً، عبر ثلاثة مباحث، تناول الأول، إنشاد الشعر بصورة عامة، وإنشاد الشعر الذي يمس العواطف، وقد درست أسبابه وقواعده، وعلاقاته بالعصر، وتأثيراته في كل غرض من أغراض الشعر.(1/5)
أمّا المبحث الثاني فقد تمثل في دراسة الموسيقى الشعرية بتفرعاتها المختلفة من وزن وقافية وإيقاع، وجرس، وتكرار، وأثر ذلك في التجانس الصوتي الذي يصب في الصورة.
وتضمن المبحث الثالث دراسة البيان في الصورة السمعية عبر التشبيه، والاستعارة، والكناية من خلال معطيات بيئة الشاعر وروابطه الاجتماعية، وتأثيراته النفسية، للكشف عن مراميهم، والإبانة عن مقاصدهم لتأكيد الصور السمعية، وتحقيق ما يتوخونه، وتقريب الهدف، وإحداث التأثير في بهاء صورة مؤثِّرة مسموعة.
في حين توجه البحث في فصله الرابع إلى دراسة الصورة السمعية المفردة البسيطة، والصورة المركبة المعقدة مع تحليل النصوص.
وقد اقتضت الدراسة تقسيم الصورة المفردة من خلال نسجها عبر تبادل المدركات الحسية والمعنوية بوسائل متعددة منها: التجسيم، والتجسيد، وتراسل الحواس، والوصف.
أما فيما يتعلق بالصورة المركبة فقد درست تشكيلاتها أوّلاً من الصور المفردة بتآزرها وتلاحمها، ومن السرد القصصي من خلال الحوار والحدث المتنامي، لأبيّن تشكيلات الصورة السمعية، وقدرة الشاعر الإبداعية على البحث عن وسائل وأساليب فنية تستوعب صيغ العمل الإبداعي، لتحقيق الصور السمعية في النص الذي سينشده، وتتناقله الرواة في كل زمان ومكان.
وبعد فهذا الجهد البكر في موضوعه، هو ثمرة أينعت في أرض حرثها جديد، وأوتار جديدة لقيثارة تعزف لأول مرة.
آمل أن يكون هذا البحث موضع عناية سمع علمائنا الأفاضل وأبصارهم، فما أنا إلاّ غصن في شجرة علمهم الوارفة، وصوت يصدح بأنغام معارفهم.
وأعتذر إذا ما شطّ الكلام، أو هتفت قوس في غير موضعها، أو ندّت نأمة في غير هودجها ومربعها، أو زأر أسد في غير عرينه.(1/6)
ختاماً أسأل الباري سبحانه وتعالى التوفيق لخدمة تراثنا عبر الجهد الجديد في ميدانه، فإن وفقت فيه فقد بلغت المرام والغاية، وإلاّ فهو جهد الحريص المتابع ولي نصيبي فيه من ثواب الاجتهاد، وحسبي أن يكون صوتاً داعياً للبحث في هذا المجال وإغنائه، وما الكمال إلاّ لله وحده، وبه نستعين، وله الحمد أولاً وآخراً.
(
التمهيد
ثمة أسئلة كثيرة تطرح: لماذا الصورة السمعية؟ وهل يشكل السمع صورة؟ وقد عرفنا أن الصورة تدرك بالبصر.
وربما يتبادر سؤال إلى الذهن هل هناك من سبقنا إلى مثل هذه الدراسة؟ وهل هي دراسة رائدة؟ ما هي التسويغات العلمية للصورة السمعية ومسوغات ريادة هذه الدراسة؟ وأسئلة كثيرة يمكن طرحها عن وظيفة السمع، ومسوغات حضورها في النص الشعري، وروافدها..
لا نتوخى الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل مباشر، وإنما سيتكفل التمهيد والبحث بالإجابة الوافية من خلال ما سنقدمه من معلومات وإيضاحات تخص الصورة موضوعة البحث أساساً، مقترنة بمعطياتها المختلفة، وحضور حاسة السمع بشكل مؤّثر في النسيج الشعري من خلال علاقته بالألفاظ، والأصوات، والنطق، والسمع، ضمن العصر الجاهلي، لتتكشف أمامنا –عبر ما يتيحه التمهيد- حقائق كثيرة، ومسوغات حضور الصورة السمعية بعد معرفتها، وما يتيحه تفاعلها في الشعر من تمازج يهدف إلى تحقيق الأهداف التي يتوخاها الشاعر، لأنه يتعامل مع ألفاظ مستمدة من البيئة والحياة الاجتماعية المشبعة بالتأثيرات النفسية، مع ما تتيحه تلك الأصوات من خلق انفعالات ذات مدلول في تجاربهم التي استدعت أن يوظفها الشاعر إرضاءً لنفسه أولاً بإشباع رغبته، وسد حاجته الذاتية، وإسكات صوت الأعماق، وتأثيراً في المتلقين من خلال استخدامه للألفاظ ذات الدلالة السمعية، أو الإيقاعية وزجّها في نسيج الشعر بوعي وعمق بما يتيح المجال لاستثمارها في تحقيق الغاية.(1/7)
وقد استأثرت الصورة الشعرية بشكل عام باهتمام القدامى والمحدثين، لما لها من أهمية في عالم الشعر، وانطلقوا معرّفين الصورة من وجهات نظر مختلفة، ومن زوايا متعددة، وآراء تتفق أحياناً وتفترق في بعض الأحايين، منطلقين من تأثيرات شتى، منها ما هو عربي تراثي، ومنها ما هو أجنبي، وبعضها توفيقي بين هذا وذاك، وهناك من يجترح نظرة صادقة من اجتهاد، فضلاً عن صدور كتب كثيرة تبحث في الصورة الشعرية وأهميتها من وجهات نظر مختلفة – كما قلنا- من وجهة نظر علمائنا القدامى، والفلاسفة المسلمين، والنقاد، والبلاغيين، واللغويين، والصورة عند أصحاب المذاهب الأدبية والنقدية المختلفة، ومن وجهة نظر باحثين عرب وأجانب(1).
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إطلاق اسم الصورة الفنية لتمييزها عن الصورة بشكلها العام لسحرها وجمالها وتأثيرها لأنها تأخذ بمجامع القلوب، والصورة ليست حديثة، وإنما هي قديمة قدم الإنسان، على أن الصورة الفنية بمصطلحاتها هذا ليست مدار بحثنا الأساس، وإنما أردنا من خلال هذا السياق التوصل إلى استئثارها باهتمام الباحثين والمؤلفين والشعراء والنقاد لأنها ركن أساس في شعره، وقد تناولت تلك الكتب الصورة البصرية على وجه الخصوص، ولم تخل بعض المباحث عن الصورة من الإشارة إلى المدركات الحسية الأُخَر التي تشارك في تكوينها- بالرغم من ندرتها-.
__________
(1) من الكتب التي اهتمت بالصورة: كتاب الصورة الأدبية، الصور البديعية بين النظرية والتطبيق، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري، الصورة الفنية في شعر أبي تمام، الصورة الشعرية، س دي لويس، الصورة في شعر بشار بن برد، الصورة الفنية معياراً نقدياً.(1/8)
وما دامت الصورة تحظى بهذا الاهتمام الكبير، فضلاً عن الاهتمام بمكوناتها لا سيما البصرية منها، فقد وجدنا أن نتناول بالدراسة والتحليل نوعاً جديداً من الصورة لم يتلبث عندها الباحثون بما يغنيها ويعمقها، أو يحلّل نماذجها، وإذا ما أشير إليها، فهي إشارة عابرة من دون إقامة أسس لها، ولا اقتران بالتطبيق، تلك هي الصورة السمعية التي آثرنا تناولها، والقيام بتحليل النماذج توشيجاً بينها وبين التوصيف النظري، سواء أكان مترشحاً من لمحات القدامى والمحدثين، أو خلاصة آراء استنتجناها من استقرائنا لشعرنا العربي قبل الإسلام، لينفرد هذا البحث بتأسيس جديد في ميدانه هذا.
إن الإنسان قد اهتم بسمعه منذ عصر مبكر، مذ كان يعيش في الكهوف، فكان يسمع أصوات الحيوانات المختلفة، ويسمع ما يدور في الطبيعة من أصوات، منها ما تثير مخاوفه لغموضها، ومنها ما تشعره بالخوف ليكون متحفزاً حذراً، وفي أحايين كثيرة كان يحاول تقليدها، مما يتيح لنا القول إن اللغة في أصل نشأتها سمعية، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من الأصوات
المسموعات(1).
__________
(1) الخصائص: 1/ 46.(1/9)
وإذا ما تجاوزنا تلك المرحلة إلى أخرى لاحقة نجد الإنسان قد اهتم بسمعه أيضاً، فاهتدى - قبل أن يهتم بالمدرك البصري- إلى الإيقاعات، والنغمات، والموسيقى، ذات التتابع الفني الأول الداخل في الوعي الإنساني، وهو ولا ريب نتاج سمعي قبل أن يكون نتاجاً بصرياً، واستخدام السمع ليس تعويضاً عن البصر عند فاقديه حسب، بل عند المبصرين أيضاً عبر الحواس المختلفة، لفهم الصورة المتشكلة من ألفاظ دالة عليها، والسماع يعوّض عن الرؤية، خاصة إذا كان بعيداً تتعذر رؤيته، "والإنسان يستطيع أن يدرك عن طريق الكلام أفكاراً أرقى وأسمى مما قد يدركه بالنظر، الذي مهما عبر فتعبيره محدود المعاني غامضها"(1)، على أن السمع أوجد لنا أرفع فنون الجمال(2)، وإذا كانت العين ترى الجمال فتتأثر به، فللأذن أن تراه أيضاً وتتأثر به، وأن أوتار السمع مزدوجة الوظيفة فكما تنقل المسموع تفرز ما بين المسموعات من الفروقات الجمالية الدقيقة(3).
فالموسيقى والإيقاع والحداء والإنشاد والغناء، بما فيه أغاني ترقيص الأطفال، وأغاني العمل، من حفر الآبار، وامتياح المياه كلها مدركات سمعية دخلت الأدب بعامة، والشعر بخاصة، وامتزجت مع النفس الإنسانية، على أن اللغة كما قلنا سمعية في مراحل نشأتها الأولى، اعتمدت على ما تتسقطه الأذان لحفظها وتعلمها، ومن ثم النطق بها، "واللغة تطغى على جميع ما عداها بتنوع وسائل التعبير ... وهي اللغة السمعية التي تُسمّى لغة الكلام أو اللغة الملفوظة"(4).
والعصر الجاهلي يعتمد السماع أساساً، وقد قام الرواة بدور كبير في نقل الأخبار، والحوادث، والوقائع إلى مختلف القبائل، وخاصة الشعر الذي كان ينتشر بسرعة فائقة، ولذلك جرى الاهتمام بالرواة وتتبعهم ومنحهم الثقة أو سحبها منهم.
__________
(1) الأصوات اللغوية: 15 وما بعدها.
(2) مسائل فلسفة الفن المعاصرة: 65-66.
(3) بلاغة أرسطو بين العرب واليونان: 91.
(4) اللغة. فندريس: 29.(1/10)
وإذا ما تفحصنا الشعر الجاهلي فسنجده من حيث التشكيل الخارجي يعتمد بشكل رئيس الإيقاع السمعي، لكونه مسموعاً، فضلاً عن أنه يتخذ نظام الشطرين أساساً له، قوامه الوزن والقافية، وذلك كله إلحاح إلى الجانب السمعي فيه، إذ كان يُنشد في أسواق العرب المعروفة، أو عند موارد المياه، أو في مجالس القبائل، وهذا ما سنلاحظه في مواضعه المخصصة له من البحث.
على أن لفظة السمع الصريحة في القرآن الكريم قد احتلت حيّزاً، وقد أحصينا ورودها في (186) آية على امتداد السور، عدا تكرارها ثلاث مرات في بعض الآيات، ووجدنا أن للسمع في القرآن العزيز تقدمه على البصر في
(36) آية ضمن (29) سورة(1).
في حين لم يتجاوز تقديم البصر على السمع في القرآن المجيد (سبعة) مواضع(2)، بينما قدّم سبحانه وتعالى السمع على العلم في (32) موضعاً في
(17) سورة(3).
__________
(1) منها البقرة: 7، 20، النساء: 58، 134، المائدة: 83، الأنعام: 46، النحل: 78، 108، الإسراء: 1، 36، مريم: 38، 43، طه: 46، الحج: 61، 75، المؤمنون: 28، لقمان: 28، السجدة: 9، غافر: 20، 56، فصّلت: 22، الشورى: 11، الزخرف: 40، الإحقاق: 26، يونس: 31، المجادلة: 1، الملك: 23، الجن: 1،13، الدهر (الإنسان):2، القصص: 71.
(2) الأعراف: 195، هود: 24، الكهف: 26، الفرقان: 113، القصص: 72، السجدة: 32، القلم: 51.
(3) البقرة: 127، 181، 224، 227، 244، 256، آل عمران: 34، 35، 121، النساء: 148، المائدة: 76، الأنعام: 13، 115، الأعراف: 200، الأنفال: 17، 42، 53، 61، التوبة: 98، 103، يونس: 65، يوسف: 34، الأنبياء: 4، النور: 21، 60، الشعراء: 220، العنكبوت: 5، 60، فصّلت: 36، الدخان: 6، الحجرات: 1.(1/11)
وحاولنا معرفة أسباب تقديم السمع على البصر لدى بعض المفسرين(1)، فلم نعثر على بغيتنا سوى بعض اللمحات العابرة، نعرض لها، ونعرض ما ورد من الأحاديث بصدد تقديم السمع، ثم نعرض ما عنّ لنا من آراءٍ موجزة في هذا الميدان.
فالزمخشري قال في معرض تفسيره للآية: { قل أرأيتم إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون } (2)، حيث قرن بالضياء (أفلا تسمعون)، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده(3)، وسماع تدبرٍ وإبصار لأن استفادة العقل من السمع أكثر
من استفادة البصر(4).
ووردت لفظة السمع قبل البصر في القرآن الكريم بسبب من أن الناس كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى يسمع إذا جهروا، ولا يسمع إذا أخفوا، أو أنه لا يسمع بسبب وجوده في السماء ووجودهم على الأرض، ولذا قال سبحانه وتعالى:
{ إني معكما أسمع وأرى } (5)، وقوله تعالى: "أم يحسبون أنّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } (6)، "وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أنَ الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } (7).
وجاء في الحديث: قال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول، قال الآخر يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر إنْ كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فنزلت الآية "وما كنتم تستترون"(8).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان، الطوسي، الطبرس، الزمخشري، الرازي، البيضاوي، ابن كثير، تفسير الجلالين، مواهب الرحمن في تفسير القرآن وغيرها.
(2) القصص: 71.
(3) الكشاف: 3/ 429.
(4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 521.
(5) طه: 46.
(6) الزخرف: 80.
(7) فصّلت: 22.
(8) فصلت: 22، وينظر صحيح البخاري: 6/ 161 (كتاب التفسير حم السجدة).(1/12)
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها"(1).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أتى عليك يوم أشد من يوم أُحُد فقال: "لقد لقيت من قومك شدة وأشد ما لقيت منهم يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك، وماردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله
لا يشرك به شيئاً"(2).
والذي يغلب على الظن في مسألة تقديم السمع على البصر في عدد كبير من آيات القرآن الكريم متعلق بالمسألة الإعجازية، فإن من يرى من في السماء من في الأرض أمر ميسور في الطبيعة ولكن أن يسمع الصوت من هو على بعد منه بعد السماء عن الأرض أمر معجز لا يتيسر إلاّ لقدرة متفردة هي قدرة الله سبحانه.
ومن المفارقات التي لاحظتها عند بعض المفسرين عندما يفسر أيةً تقدَّمَ فيها البصرُ على السمع، يبدأ تفسيره شارحاً السمعَ قبل البصر(3).
__________
(1) المجادلة:1 وينظر صحيح البخاري: 6/ 144 (كتاب التوحيد) والمجادلة خولة بنت حكيم وقيل بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت.
(2) ينظر صحيح البخاري: 4/ 139 (كتاب بدء الخلق). وينظر كتاب دقائق الإشارات: 199-201.
(3) الكشاف: 2/ 716.(1/13)
على أن ما توصلنا إليه فضلاً عما سبق من آراء نقول أن الله سبحانه وتعالى عندما بعث الرسل كافة إلى البشر، وخاصة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لتبليغ رسالة السماء، كانت شفاهية- سماعية، فكان السمع أولاً، والتفكر والتدّبر ثانياً، وبحصول القناعة يحصل الإيمان لدى الناس كافة، وأول ما نزل على خاتم الرسل (عليه الصلاة والسلام) قوله تعالى "اقرأ باسم ربك الذي خلق"(1) اعتمدت المشافهة والسماع، كما أن القرآن يتلى (سمعي) فضلاً عن أن أحكام العبادات فيها الكثير من المشافهة والسماع، "وكل علم يحتاج إلى السماع وأحوجه إلى ذلك علم الدين"(2)، لأن "الإيمان الذي يدركه العقل جملة، والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع"(3).
__________
(1) العلق (الأعلى): 1.
(2) الشعر والشعراء: 1/88.
(3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 9.(1/14)
ويبقى القرآن الكريم بحد ذاته معجزة، وحينما قرع سمع العرب للوهلة الأولى أذهلهم، وحين يسمعه المؤمن يخشع ويبكي، وكذلك الدخول في الإسلام وما يتعلق بالشهادتين (نطق وسماع)، ودعوات الأنبياء كانت تقوم على الاستماع لأقوالهم وحججهم، قال تعالى: "قال رب اشرح لي صدري ويّسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي"(1). وإن الكثير من الآيات دعت إلى ترك عبادة الأصنام لأنها لا تستجيب إذا دعوها لكونها لا تسمع "ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون"(2)، فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى يسمع أسرار العباد ما خفي منها وما علن، كذلك وجود التحذيرات الكثيرة التي أطلقها القرآن الكريم من عذاب جهنم، والتخويف من نارها، والتقريع، والنصح والإرشاد كلها ألفاظ اعتمدت السمع، حيث قال رب العزة: "ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون"(3).
وقد ورد في الشعر تقديم السمع على البصر في نماذج شعرية كثيرة يضيق مجال حصرها منها(4):
فيدركنا فَغِمٌ داجِنٌ
سَميعٌ بصيرٌ طلوبٌ نَكِرْ(5)
وقال المُثَقِّبُ العبدي:
هل لهذا القلبِ سَمْعٌ أوْ بَصَرْ
أو تناهٍ عنْ حبيبٍ يُدَّكَرْ(6)
وقال عمرو بن شأس الأسدي:
إيّاكَ إيّاكَ أنْ تُمنى بداهيةٍ
رقشاء ليس لها سَمْعٌ ولا بَصَرُ(7)
__________
(1) طه: 26- 28.
(2) القصص: 75.
(3) فصّلت: 19-20.
(4) بشر بن أبي خازم: ق16/ 13/ 83، ق 25/ 1- 4/ 118، الخرنق: ق / 6/ 1، 2/ 33، المثقب، ق ب / 1/ 15. النابغة الذبياني: 71، عمرو بن شأس: ق 12/1/ 80.
(5) امرؤ القيس: ق 29/ 160.
(6) ديوانه: ق ب/ 15.
(7) ديوانه: ق 12/ 80.(1/15)
التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر"(1) ومن قيمة الألفاظ التي هي أصوات أساساً تدخل في السمع وتحدث أثرها، قال ابن الأثير: "الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات، لأنها مركبة من مخارج المصروف فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح"(2)، كما قال عن الألفاظ أنها "تجرى من السمع مجرى الأشخاص من البشر"(3)، والقصيدة الجيدة تجري في الأسماع في تناسب معطياتها(4).
وليس أدل على طبيعة أصوات الألفاظ مما قاله ابن الأثير حينما مثل عند سماعه الشعر من خلال ألفاظه صوراً مختلفة فالألفاظ الجزلة عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولينٍ وأخلاق ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي"(5).
__________
(1) سر الفصاحة: 54.
(2) المثل السائر: 1/ 169.
(3) المصدر نفسه: 1/ 252.
(4) منهاج البلغاء: 93.
(5) المثل السائر: 1/252.(1/16)
على أن في عصرنا الحديث من عدّ الصوت مفتاح التأثيرات الأخرى في الشعر(1) ويندر أن تحدث الإحساسات المرئية للكلمات بمفردها، إذ تصبحها عادة أشياء ذات علاقة وثيقة بها بحيث لا يمكن فصلها عنها بسهولة، وأهم هذه الأشياء الصورة السمعية، أي وقع جرس الكلمة على الأذان الباطنة أو "أذن العقل"، وصورة اللفظ أي إحساس الشفتين والفم حينما تلفظ الكلمة(2)، والصورة السمعية للكلمات من أكثر الأحداث الذهنية وضوحاً(3)، ويستمر ريتشاردز متحدثاً عن الأفكار التي تتولد لدى المستمع في أثناء قراءته للشعر من مدلولات، وأخرى تحدثها الصور اللفظية السمعية حيث يقول "إن أولى الأفكار التي تنشا عندنا أثناء قراءتنا للشعر هي الأفكار التي تحدثها الكلمات ذاتها، وهي ما يمكن تسميته مدلولات الكلمات، غير أن هناك أفكاراً أخرى لا تقل عنها أهمية، أفكاراً قد تحدثها الصور اللفظية السمعية مثلما يحدث في حالة الألفاظ التي تحكي الأصوات"(4)، وإن الشعر يصنع من الكلمات، وأن معنى القصيدة يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعاني، وذلك التكثيف للمعنى إنما هو حصيلة لبناء الأصوات(5).
__________
(1) مبادئ النقد الأدبي: ريتشاردز: 192.
(2) المصدر السابق نفسه: 171.
(3) مبادئ النقد الأدبي، ريتشاردز: 171.
(4) المصدر السابق: 182.
(5) الشعر والتجربة: 23.(1/17)
وقد منح شوقي ضيف عنصر الصوت أهمية لكونه يميز الصيغة الشعرية إنها صوتية، فالشاعر لا ينطق شعره حسب، وإنما يحاول أن ينغمّه، وينغّم ألفاظه وعباراته حتى ينقل سامعيه وقارئيه من اللغة الاعتيادية التي يتحدثون بها في حياتهم اليومية إلى لغة موسيقية ترفعهم من عالمهم الحسي إلى عالمه الشعري، ولا نقصد الموسيقى الظاهرة وحدها: موسيقى الأوزان، والقوافي، وإنما نقصد أيضاً الموسيقى الخفية(1)، وقال أيضاً: "الشعر فنٌ سمعي، وليس فنّاً بَصَرياً"(2) والشعر أصوات انفعالية مسموعة، تنبع من مشاعر الشاعر وأحاسيسه لمخاطبة مشاعر الآخرين، ومثيرة إياها بما تحمله من انفعالات تعبّر عن الفرح والسرور، أو الحزن أو الغضب(3).
وبعد هذه الأفكار التي عرضناها مما يتعلق بوظيفة السمع وأهميتها لتشكيل الصورة السمعية وتأثيراتها نجد من الواجب أن نوضح عظمة موروثنا من الشعر الجاهلي الخالد في ذاكرتنا وذاكرة الزمن، وينبغي أن نسهم في إحيائه من وجهة نظر حديثة، ودراسته دون تعسف، أو مماحكة أو افتئات، وألاّ يشط بنا المسار إلى مسالك تبعدنا عن الحقيقة، وأنْ نتجنب سبيل الاعتساف، كما يجب ألاّ نحشر دراساتنا داخل شرنقة الجمود والتقليد.
ومن هذا المنطلق فقد قررنا أن ندرس الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الإسلام لكونها جزءاً من تجربة الشاعر، ولا يمكن فصلها عن جوهر المشاعر والأحاسيس، فضلاً عن الدلالات النفسية "لأن الشعر يكتب للعين مثلما يكتب للأذن"(4).
__________
(1) في النقد الأدبي، ضيف: 113.
(2) العصر الجاهلي: 140.
(3) في نظرية الأدب، من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم والحديث: 2.
(4) نظرية الأدب: 186.(1/18)
ونعرّفُ الصورة الشعرية بقولنا: هي رسم لوحات حيوية تعبر عن انفعالات الإنسان ومشاعره، سواءٌ أكانت حسية، أمّ متخيلة، تكشف براعة الشاعر، وقدرته وحسن ذوقه على التأثير في المتلقي، وإثارة تخيله في الذهن والواقع بألفاظ جميلة، ومعان جديدة.
والصورة الفنية من وجهة نظرنا يكون قوامها الخيال والجمال والدهشة، تدرك بالسمع والبصر وسائر الحواس، جزءاً أم هيئة، تعتمد الوصف عبر أجزاء يلمها الشاعر في ألفاظ بهية ذات معان جيدة، تثير الافتنان خارج المألوف، قد تقوم على البديع والبيان، مدارها التشبيه، وأرقاها الاستعارة، من غير إفراط، ولا تخرج عن المدركات الحسية.
الصورة السمعية:
والصورة السمعية، فضلاً عما قلناه في الصورة الفنية، تقوم على توظيف ما يتعلق بحاسة السمع، ورسم الصورة عن طريق أصوات الألفاظ ووقعها في الأداء الشعري، واستيعابها من خلال هذه الحاسة مفردة، أو بمشاركة الحواس الأخر، مع توظيف الإيقاع الشعري الخارجي والداخلي، لإبلاغ المتلقي، ونقل الإحساس بالصورة لدى الشاعر إليه.(1/19)
ولا بد لنا في هذا التمهيد من معرفة الروافد التي استمد منها الشعراء صورهم السمعية بالرغم من أن هذه العملية شائكة لمن يتصدى لها، إذا ما عرفنا أن النتاج الإبداعي لا ينسلخ عن مقومات أساس تسربت إليه بشكل وآخر، خفي وعلني، وامتزجت فيه حتى ليجد الباحث صعوبة في تلمس التشابك الحاصل في تلك المقومات التي تضافرت على تشكيل تلك النصوص الإبداعية، وقد ربط الشاعر بينها من خلال الوعي الممتزج بالإبداع، وتوظيف المؤثرات البيئية والاجتماعية، والنفسية، واللغوية، والموروث الفني، التي كونت التجربة مع بواعثها وارتباطاتها بالحاجة التي تختلج بأعماق الشاعر، فالهاجس المتوتر في أعماقه يأبى التلبث في سكون ضمن قلقه واضطرابه، فلا بد له من أن يرفع صوته، ولا بد لنا هنا من أن نتناول بإيجاز تلك المؤثرات التي استمد منها الشعراء مادة شعرهم، وخاصة فيما يتعلق بالصور ذات الدلالات السمعية والإيقاعية، وما اغترفوا منها.
على أن المؤثر الأول هو البيئة الطبيعية الجامدة والمتحركة التي عاش فيها الشاعر من خلال ما تدركه الحواس من محيطها، وما يدور حولها من صحراء مترامية ومواضع، وجبال، وكثبان، وأطلال، وجدب، وآبار، ومواضع ماء، ووديان، ورياح، وأنواء مختلفة، وشجر ونبات، وتنقلات مختلفة عبر رحلاتهم الحقيقية والموهومة من خلال رفيقة السفر (الناقة) ومشاهداتهم للحيوانات المختلفة التي حظيت بعنايتهم، فاستمدوا منها ألفاظهم وصورهم وتشبيهاتهم، فكانت وعاء لنصوصهم، وهوية تميز حياتهم البدوية، والحضرية فعرضوا لها، وبسطوا القول فيها، وتناولوا أدق التفاصيل، ولم يتركوا شيئاً إلاّ وصفوه، وشعرهم حافل بها حتى ليضيق مجال تعدادها، وخاصة أصواتهم لأنها تدخل في الصورة السمعية.
وبما أن العصر الجاهلي يعتمد النطق والسماع، فقد حفل الشعر الجاهلي بآلاف الأبيات التي أوردت ألفاظ السمع (السماع) والقول، وقد تمرد العد على الحصر فيها.(1/20)
على أن هاجس الخوف من المجهول يجسد في أعماقه مخاوف كثيرة، يفيد منها في عملية الإبداع الشعري، وقد يجد لها منافذ عبر خلوته، سواءٌ أكان ذلك مع نفسه مثل حوار العاذلة، أم في الصحراء، فيسمع أصواتاً حقيقية، أم موهومة تجد طريقها إلى شعره في ألفاظ تعبّر عن تلك الأصوات، فضلاً عما يسمعه من أصوات مختلفة في حياته اليومية في مجالات شتى، على أن الأصوات الحقيقية والموهومة، ونماذجها موجودة في مواضعها من البحث، بيدَ أننا آثرنا أن نضرب بعض الأمثلة، فمثال الأصوات الحقيقية المستمدة من البيئة التي وظفها الشاعر في الهجاء قول طرفة بن العبد:
ليت لنا مكان الملكِ عمرو
رغوثاً حولَ قُبَّتِنا تَخورُ(1)
فنجد الرغوث، وتخور، بالرغم منْ أنَ أصل الخوار للبقر فجعله للنعجة، وبذلك فقد رسم لنا صورة سمعية ساخرة للمهجو.
في حين يستخدم النابغة الذبياني ألفاظه من البيئة أيضاً للهجاء حيث يقول:
كأنك منْ جِمال بني أقيشٍ
يُقعقعُ خلف رجليهِ بشنِّ(2)
فاستخدم الشاعر (جِمال بني أقيش) لكونها ضعافاً غير عتاق، تنفر من كل شيء، وقد شبّه المهجو في خفة الرأي وقلة التبصر بخفة تلك الجمال، كما استخدم لفظة (يقعقع) محدثاً صوتاً لأنها من الألفاظ التي تحاكي معناها، فالقعقعة صوت يحصل عند تحريك أو قرع شيء يابس، وتستخدم أيضاً لصوت السلاح، والمعنى الأول هو المراد، والشن: قربة بالية يابسة إذا ما قرعت صوّتت، ومن هذا الصوت تنفر تلك الجِمال، وقد أراد بهذا المعنى قوة الهجاء، وإيذاء المهجو، فرسم لنا هذه الصورة السمعية وقد استمد ألفاظه ومعانيه وتشبيهاته من بيئته.
__________
(1) ديوان طرفة بن العبد: 96.
(2) ديوان النابغة الذبياني: 252.(1/21)
إن انفتاح الشعر على الحياة بجوانبها المختلفة يدعونا إلى الإقرار بأن انشداد الشاعر إلى واقعه كان يمثل ذلكم الواقع بتفاصيله المتباينة، ومن المحتم أن تحتل مفردات الواقع والتفاصيل اليومية مساحة القصائد، ولا بد لسلطان الحواس أن يتفاعل معها، وخاصة حاسة السمع التي دخلت في نسيج الشعر عبر الصورة السمعية، فكان لها تأثيرها الكبير في الحيّز الإبداعي، وتأثير ذلك في المتلقي، لا سيما أن الشعر كان ينشد، ولهذا فقد ، الشاعر اهتمامه إلى الصورة السمعية، حيث نجد الجدل واضحاً بين المنشد والمتلقي، بين الشاعر ونفسه، ولذلك فإن (السؤال والاستفهام) يشكل المادة الأساس في شعر الشاعر، ويدفعه إلى القصد كيما ينسجم الجانبان والشاعر والمتلقي للتفاعل مع الشعر، وهو ما يتعلق بالرافد الاجتماعي الذي لم ينسلخ فيه الشاعر عن قبيلته وقومه، بل كان يتفاعل معهم، ويتأثر ويؤثر من خلال المواقف الكثيرة في السلم والحرب معاً، فهو ينضوي تحت نظام القبيلة وأعراف القوم، وعاداتهم وتقاليدهم، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويستجيب لنداءاتهم، وينخرط في صفوف المقاتلين إذا ما داهمهم خطر أو اعتداء، فيحمل السلاح، يمتشق سيفه، ويمتطي جواده، ويجيب دعوة المستغيث، ويفخر بالانتصار، ويتغنى ببطولاته وبطولات قومه، فيستمد مادة شعره من هذا الواقع لا سيما الصور السمعية التي يهدف الشاعر إلى وصول تلك المفاخر إلى القبائل الأخر، فهو والحالة هذه لا ينسلخ عن إطار القبيلة، ولذا فهو بحاجة إلى الصوت العالي، وبحاجة إلى من يسمعه، ومن هنا كان استخدامه للصورة السمعية لإسماع صوت غضبه وفخره ومديحه وهجائه، وإظهار أصوات ذكرياته وصدى الماضي، وحبه وغزله.
على أن ارتباط الشاعر بالمجتمع يظهر لنا تصرفاته، وردود أفعاله وانعكاساتها من خلال التعامل اليومي من حب وقِلى، ووفاق واختلاف، وفقدان أحِبَّة، ولهذا فقد ظهرت الأغراض الشعرية المختلفة، ولكل غرض أصوله وألفاظه وصوره.(1/22)
في حين لا ينسلخ الأثر النفسي عن ذلك كله، فهو العامل الأساس الذي يربطه من خلال التفاعل مع المؤثرين السابقين، إذ لا يمكن أن تكون صوره الشعرية بمعزل عن تأثيرات الشاعر وهواه وميله "والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت"(1)، ومن هنا فإن التأثير النفسي نجده قد انعكس على النصوص الشعرية بدوافع شعورية ولا شعورية لا تنفصل أيضاً عن الواقع الاجتماعي والبيئي، وينبع من قيام حاجة في نفس الشاعر، فضلاً عن مدركاته الحسية الممتزجة بالتصور والخيال، وأن ارتكز على معالم واقعية، غير أنه يجد في إبداعه متنفساً لآلامه النفسية، أو تعبيراً عن خلجات نفسه لوعة وأسى، أو فرحاً غامراً ومدار الأمر لا يعدو كونه يرجع "إلى وصف أحوال الأمور المحركة إلى القول، أو إلى وصف أحوال المتحركين لها أو إلى وصف أحوال المحركات والمحركين معاً، وأحسن القول وأكمله ما اجتمع فيه وصف الحالين"(2).
على أن العوامل النفسية تعتمد مساحة التوتر القائمة بين الفعل ورد الفعل ويبقى إشباع الحاجة أو الغريزة الداخلية قائماً، ولكنه يستطيع أن يجد متنفساً له، لامتلاكه ناصية التعبير، والقدرة الإبداعية، فالهاجس المتوتر في أعماقه يأبى التلبث في سكون ضمن قلقه واضطرابه(3)، فينقل لنا أسرار النفس، والتأثيرات المختلفة، فيلتقط تلك الأسرار عن طريق حاسة السمع، ويسبغ عليها من براعته الشعرية وقدرته على صوغ تلك الأسرار ليعلنها على الملأ ثانية، فيلتقطها المتلقي واضعاً أمامه صورة سمعية، قال تأبط شراً:
لتقرعنَّ علَّي السّنَّ منْ نَدَمٍ
__________
(1) عيار الشعر: 53.
(2) منهاج البلغاء: 13.
(3) هل الإبداع حاجة أم ماذا؟ (بحث): 6.(1/23)
إذا تذكرتِ يوماً بعضَ أخلاقي(1)
إن الأثر النفسي واضح من خلال الإيحاء به عن طريق قرع السن، بيد أن الشاعر قد قرن ذلك (بالندم) اللفظة الصريحة، إمعاناً منه في إيضاح المعنى، وفرع السن أي ضرب الشيء بالشيء (سمعية)، وكذلك التذكر، على أن استخدام النون ذات الرنين والغنّة، أفاد في تقوية النغم، وتقوية المعنى والصورة، فضلاً عن استخدام نون التوكيد الثقيلة في (لتقرعن)، لإعلان الندم إيحاءً وصراحة على سوء عشرتها له، ولومها، إذا ما اضطرت إلى تذكر أخلاقه ومعاملته لها.
ويعلو صوت اللوم والعذل لكعب بن زهير من لدن زوجه، فينقله بدوره إلينا لنسمع ذلك بعد أن طفح به الكيل، ولم يعد بإمكانه التستر على ما دار بينه وبينها، ففي إعلانه راحة نفسية له، ومن هنا فالصورة السمعية تطغى على غيرها من الصور لطبيعة الموضوع وطبيعة ألم الشاعر وطبيعة الصورة:
أَلا بكَرتْ عرسي تلومُ وتعذلُ
وغير الذي قالتْ أعفُّ وأجملُ(2)
فالشاعر هنا سمع لوم زوجه وعذلها بما أثار حفيظته، وألمه نفسياً، فهب ليسمعنا ما أثارته فيه من مواجع، ولكن التأثير النفسي واضح لا ريب فيه إذا ما عرفنا أن حياة كعب تعج بمشكلات الأسرة حدَّ الإخفاق في حياته الزوجية.
وثمة رافد هو الإحساس باللغة، من خلال استخدام ألفاظ ذات دلالات سمعية وإيقاعية يستمدها من اللغة، أو أنه يتخيل أموراً من البيئة لا تتم إلاّ عن طريق السمع، فيعيد صياغتها بما ينسجم والموضوع الذي يعالجه، لينتقل إلى المتلقي عن طريق السمع أيضاً.
إن الإحساس بالسمع، وإشاعة الجرس الموسيقي قد يكون في أصوات الحروف، وأصوات الألفاظ، وما توحي به تلك الألفاظ من معان مختلفة، وهذا الأمر يكمن في معرفة الشاعر للغة وأسرارها، قال عنترة العبسي:
ولقد شَفى نفسي وأبرأَ سُقْمَها
__________
(1) ديوانه: ق 21/ 144 تحقيق علي ذو الفقار شاكر، وينظر ديوان النابغة الذبياني: 254.
(2) كعب بن زهير: 41.(1/24)
قيلُ الفوارس ويكَ عنترَ أقدمِ(1)
استخدم الشاعر هنا الأحرف المهموسة (الشين والسين) في: شفى، ونفسي، وسقمها، والفوارس، فضلاً عن الأحرف اللينة في الشطر الأول مثل الشين، والألف المقصورة، والنون، والتاء، والسين، والياء، للتعبير عن الراحة النفسية بعد توترها، على أن صدر البيت ينقسم إلى قسمين، انبثق منهما الإيقاع لحالتين نفسيتين، الأولى (ولقد شفى نفسي)، والثانية: (أبرأ سقمها) حيث ضمت حروفاً مجهورة لتأكيد الشفاء.
وإذا ما تأملنا الشطر الثاني (العجز) فسنجده قد امتاز بإيقاع طويل واحد، حيث تسلم الشاعر النداء، وفيه إرضاء لمشاعره، وإسكات لصوت غروره ومن خلال الإيقاعين الخارجي والداخلي نجد النغم المتباين في إبراز المعنى الذي عبّر عنه الشاعر ببراعته في الإعلان عن تغيير حالته المزرية إلى حالة اهتمام واعتزاز بفروسيته في المواقف الحرجة، كما أن حسن استخدام اللغة والترادف والتضاد أدى إلى خدمة صيغة الأداء المعنوي، فضلاً عن الأداء الفني عبر الصورة السمعية.
على أن الأصوات الموهومة تتمثل بالهامة والصدى وعزيف الجن نجد أمثلتها في مواضعها من البحث.
ولرافد الموروث الفني أثر في الصياغة الشعرية بعامة، وتشكيل الصورة السمعية بخاصة، وإن كانت الصورة السمعية تتفاوت من شاعر لآخر لكونها تتبع مقدرته وبراعته وما يمليه عليه الواقع والأثر النفسي في استحضار الصورة السمعية على أن من السمات العامة للموروث الفني قد تجسدت في هيكل القصيدة المتمثل بالافتتاح عبر لوحة الطلل والرحلة، والغرض، وفيما يتعلق بمنافذ الأداء السمعي:
الاستفهام، والتساؤل، وعدم الإجابة، تنتظم في بحور معينة لا تنتظم في غيرها.
وإذا كان الموروث الفني يملي على الشاعر إتباعه، فإنه يختلف مع الموروث في التفاصيل الدقيقة التي تنبثق من تجاربه بما يغني جوهر الحالة التي يتصدى لها.
__________
(1) ديوانه: ق1/ 219.(1/25)
وكذلك الجسر اللفظي الذي يساعد على الانتقال من لوحة الافتتاح إلى الرحلة فسنجده، موروثاً فنياً غير أن الشعراء قد اختلفوا في إقامة ألفاظه.
وثمة تفاصيل تتوالى، تشكل صورة الناقة القوية التي يتطاير الحصى من تحت مناسمها، يشترك فيها الشعراء، قال بِشْرُ بنُ أبي خازِم:
زَيّافةٍ بالرَّحْلِ صادِقَةِ السُّرى
خَطّارةٍ تَهِصُ الحَصى بُملَثَّمِ(1)
وقال المسيب بن علس.
وإذا تعاورتِ الحصى أخفافُها
دَوّى نواديه بظهرِ القاعِ(2)
نجد الشعراء مما تقدم يتعاورون على التعبير عن الناقة القوية النشيطة بيدَ أن التمايز قائم في التفاصيل الدقيقة المتشعبة، وتلك سمة لا يمكن نكرانها، لأن التمايز ينبع من ظروف الشاعر، ومؤثرات تفرضها البيئة بالرغم من وجود إرث فني وثقافي قد يجبرانه على عدم التخلي عنهما، ولكن قدرته ترفد الشعر بإبداعات تحفّز الشاعر، لينطلق من وجدانه وانفعاله، بما يمكنه من أن يسبغ ذلك على الشعر في مجال التجديد مما سمعه ويتمثله في الذهن، وإعادته في استجابة فنية وصورة شعرية عامة، أو سمعية تستأثر باهتمام المتلقي.
__________
(1) ديوانه: ق 31/ 179 زيّافة بالرحل: أي تسرع وتميل به لنشاطها، صادقة السرى: أي تتم سرى الليل بنشاط وصدق سير، وتصبر عليه ولا تقصّر. والخطّارة أي تضرب بذنبها يسرة ويمنة لنشاطها ومرحها، تَهصُ الحصى: أي تكسره. بملثم: أراد منهم الناقة الذي لثمته الحجارة فصلب واشتد.
(2) المفضليات، المفضلية: 11. نوادي الحصى: ما أسرع منه وتقدم.(1/26)
وبعد أن استعرضنا الروافد المؤثرة في الصورة السمعية التي استمد منها الشاعر نصوصه الإبداعية لا نهمل الجانب الذاتي أو الشخصي وتوظيفه في نسغ العمل الإبداعي المنجز، سواءٌ أكانت المدركات خارجية مستمدة من البيئة الطبيعية والاجتماعية والتأثيرات النفسية، أم ممتزجة مع ما يستدعيه الشاعر من معطياته الداخلية، وتأمله، وربطها في تصور إبداعي عبر الذهن والخيال لإعادة صياغة الصور بمهارته، وإتقانه للصنعة الشعرية وقدرته الإبداعية وبراعته الفنية.
ومما تقدم عزمنا على دراسة الصورة السمعية وأثرها في النصوص الشعرية الإبداعية لما احتلته من مساحة شعرنا العربي القديم، لأن المدركات الحسية، والسمع بالذات يستفزنا ويهيؤنا لاستقبال الصورة دون مشاهدتها، وإنما تتكون في أذهاننا عبر سماعها لنتعرف على ما يثيره الشاعر من أجواء تجاربه التي يهدف إلى أن نصغي إليها، وفي فصول بحثنا ومباحثه سنتعرف على حضور الصور السمعية في الشعر الجاهلي وأثرها وأهميتها في مجمل عملية الأداء الشعري من خلال الألفاظ الصريحة والإيحائية، والوزن والقافية والفنون البلاغية المختلفة.
في الوقت الذي يصل فيه التمهيد إلى نهايته نكون قد أجبنا عن التساؤلات المطروحة في مقدمته، ضمناً، ونرجو أن نكون قد وفقنا في عرض ما يتعلق بالبحث، وقد بذلنا ما وسعنا الجهد في طريق البحث الجديد الجاد، على أنه يبقى خطوة أولى يفعمها الطموح لتحقيق ما توخى إليه البحث ونتائجه، تتبعها خطوات لاحقة تفتح منافذ الدراسة في هذا الميدان.
ومما تقدم حاولنا التعرف على الصور السمعية في النصوص الشعرية بعد فهمها فهماً واعياً، وإبراز هويتها، ومحاولة إيجاد الجسور المختلفة التي تربط بين وعي الشاعر ووعي المتلقي من خلال تحليل الشعر في مختلف موضوعاته.
والله ولي التوفيق.
((
الفصل الأوّل
منافذ الأداء السمعي
في هيكل القصيدة
المبحث الأول ... : مفتتح القصائد
المبحث الثاني ... : الرحلة(1/27)
المبحث الثالث ... : الأغراض الشعرية
المبحث الأول
الطلل:
شغلت الأطلال أذهان الباحثين قديماً وحديثاً لِما لها من أهمية وإثارة زوايا نظر جديدة بسبب ما تحمله الأطلال من رؤية تتجدد لعمقها وغناها.
تتمثل في لوحة الطلل أبعاد مختلفة لموضوعات متباينة، وقد يُحدِّدُ معالم كل لوحة الغرضُ الأساس، والباعثُ الآني، وعمقُ التجربة، والتفوقُ الإبداعي.
وبالرغم من كون لوحة الطلل تضم إحساس الشاعر ومشاعره، لا بد له من الوقوف إما حقيقية، وإمّا منهجاً وتقليداً فنياً، ليتجاوب معه حسيّاً، ويتفاعل مع كل صوت يصدر منه للارتباط الوثيق، والإحساس العميق الذي يشدّه إلى الطلل، لأنه يمثل عنصري الزمان والمكان وما يمثلانه في حياة الشاعر من توتر وقلق، أو لحظة مستقبلية لإشاعة جوّ جديد يتوزع مساحته.
ومن هنا فإن إنشداد الشاعر إلى واقعه بمعطياته المختلفة وتفاصيله المتباينة ليتساوق مع مفردات ذلكم الواقع التي تحتل مساحة القصائد، ولا بد لسلطان الحواس أن يتفاعل معها وبخاصة حاسة السمع التي دخلت في نسيج القصيدة عبر الصورة السمعية.
ولو تأملنا لوحة الطلل لدى الشاعر الجاهلي لوجدناها تعج بالتساؤل والاستفهام والنداء عبر حوار داخلي بين أجزاء اللوحة.
فالتساؤلات، وعلامات الاستفهام تنير النص، وتفتح مغاليقه، وتكشف عما يعتمل بأعماق الشاعر ضمن حدود يشفّ عنها الوعي، والجمال الشعري، والبنية.
وعلى الرغم من الاستعمال البسيط لصيغة التساؤل في لوحة الطلل، واستخدام المفردات البيئية الواقعية نجد أنفسنا إزاء مغريات إيحائية، ومدلولات سمعية مقترنة بالتأثيرات النفسية من خلال استنطاق الطلل الذي لا يجيب، بعد أن أصبح خبراً ماضياً، ولا يمكن استرجاعه بعد أن طوى الماضي في جناحيه وخلّف الذكرى الموجعة، ولذا فإن الاستفسار من عائدية الطلل متكرر في جميع الأشعار الجاهلية ...(1/28)
يصل بنا إلى إيضاح أوسع في مسألة الهيكل اللفظي لبناء القصيدة(1).
إن التساؤل وأدوات الاستفهام ومحاولة استنطاق الطلل تؤدي إلى الصورة السمعية التي كثّفها الشاعر متحفزاً ليستقبل زخم الانفعالات المنبثقة من تجربته وانفعاله، متوسلاً بذلك إلى ما يصبو إليه عبر الألفاظ ووقع الأصوات في الأداء الشعري.
والشاعر الجاهلي يستمد قدرته على تكوين الصورة السمعية في اللوحة الطللية من الظروف البيئية والاجتماعية والنفسية التي ترفده بتفاصيل الحياة اليومية التي تشكل هاجساً قلقاً لديه، ممتزجة بقدرته الإبداعية للتعبير عن حديث النفس، وما تتطلع إليه عبر الأبعاد الزمنية الثلاثة في الماضي والحاضر والمستقبل، وما تلك الأبعاد إلاّ أصوات يبعثها الشاعر فينا تتمثل في صوت الماضي المندثر، وصوت الحاضر الذي هو صوت المتكلم الذي يكمن في تساؤله وما يثيره من استفهام، وصوت المستقبل الذي يتحرك في أعماقه عبر الفعل الذي ينوي القيام به بعد وقوفه على الطلل، ويرتبط ذلك كله بالمكان الذي يشكّل فيه زخم الانفعالات أثراً واضح المعالم، حيث يتجلى ذلك في تجربته الشعرية التي يتخفف عبرها من همومه المختلفة، ويضمنها بعض التفاصيل التي تهمه في لحظة إبداعية، متأثرة بالظروف الذاتية والموضوعية.
وأمثلة الصور السمعية في الطلل تتعاور بين استخدام الاستفهام بصيغه المختلفة والسؤال وعدم الإجابة، قال المهلهل:
هل عرفتَ الغَداةَ منْ أطلالِ
رَهْنَ ريحٍ وديعةٍ وعزالِ
فسألتُ الديارَ: هل منْ أنيسٍ؟
فتَصامتْ وهيّجت بلبالي(2)
وقال امرؤ القيس مستفهماً ومتسائلاً، وقد أشاع حرف السين المهموس الصفيري في الأداء الشعري:
لِمَنِ الديارُ عَفونَ بالحبسِ
درستْ وتحسِبُ عهدَها أمسِ
كيفَ الوقوفُ بمنزلٍ خَلَقٍ
__________
(1) دراسات في الأدب الجاهلي، منطلقاته العربية وآفاقه الإنسانية: 1/ 86-87.
(2) المهلهل: 301، بشر بن أبي خازم: ق 4/3/20 ، ق 23/4/109، ق 24/ب1/113.(1/29)
أم ما سؤالُ جنادلٍ خُرْسِ(1)
مع انتشار حرف القاف، والميم بما يساعد على تصوير وقع الصوت في نسيج الشعر.
وقال زهير بن أبي سلمى متوجعاً متفجعاً لأن الدمنة لم تتكلم ولم تنطق:
أَمِنْ أمِّ أوفى دِمْنَةٌ لمْ تَكَلّمِ
بِحَوْمانةِ الدَّراجِ فالمُتثلِّمِ؟(2)
ماذا تحيّونَ مِنْ نُؤيٍ وأحجارِ ... والشاعر الجاهلي ينقلنا إلى الجو الطللي والإفصاح عن حالته النفسية عبر الصوت المنبثق من التساؤل والاستفهام حيث تتعدد منافذ التعبير في تكوين الصورة السمعية منها القول والتحية والدعاء(3). قال النابغة مستخدماً الأفعال (عوجوا، حيّوا، تحيّون، وقفت، أسألها) فضلاً عن إشاعة بعض الحروف لتقوية الجرس الموسيقي:
0@عوجوا فحيّوا لِنُعْمٍ دمنةَ الدارِ
عنْ آلِ نُعْمٍ أموناً عبر أسفارِ(4) ... وقفتُ فيها سَراةَ اليوم أسألُها
__________
(1) امرؤ القيس: ق 52: 243، ق 16/ ب1- 2/119، ق 55/ب1-2/255، ق 73/ب1، 7/296، عبيد بن الأبرص: ق 50/ب1-2/130، عدي بن زيد: ق 12/ب1، 5/73، سلامة بن جندل: ق 3/ب1/155، ق 3/ب 1، 2، 3، 5/156، 158، النابغة الذبياني: 76، 103، 145، 184.
(2) ديوان زهير بن أبي سلمى: ق 1/ 9، قيس بن الخطيم: ق 4/ ب1/ 76، بشر بن عليق الطائي: قصائد جاهلية نادرة: 187، زهير بن مسعود الضبي: قصائد جاهلية نادرة: 87، ضابيء بن الحارث البرجمي: الأصمعيات، الأصمعية: 63، الأعشى: ق/ 1/ ب1-2/ 3، الشماخ: ق 5/ ب1/ 129، ق 9/ ب1/ 211، زيد الخيل: ق 40/ ب3/ 83، تميم بن مقبل: ق 19/ ب1/ 147، ق 30/ ب1- 2/ 216، ق 32/ ب1-2/ 238، ق33/ ب1- 2/ 255، لبيد بن ربيعة العامري: ق 37/ ب1/ 267، ق 38/ ب2/ 269، ق 48/ ب 10/ 299، كعب بن زهير بن أبي سلمى: 233-234.
(3) امرؤ القيس: ق2/ ب1-3/ 27، طرفة بن العبد: 5.
(4) النابغة الذبياني: 145.(1/30)
ومنها الكلام والحديث والأخبار(1) والنطق ومنطق السائل(2) وغيرها، وقد اكتفينا بالإشارة إليها، على أن لنا عودة أخرى لها في مواضع مختلفة من الكتاب حيثما يقتضي ذلك سياق البحث، على أن صيغ الاستفهام المتعددة، قد عبّرت عن احتدام المشاعر، ومثّلت زخم العواطف، وتضمنت إسقاطات الشاعر، لتكّون جميعاً الصورة السمعية في اللوحة الطللية(3).
علماً أن الاختلافات الواردة في الصيغ المختلفة فيه منها ما هو يخدم الموضوع أوّلاً، والتغيير من النمطية السائدة بين الشعراء ثانياً، لأن صيغ الاستفهام والتساؤل تفرض نفسها في بحور معينة دون غيرها(4)، ولا ننسى أن صيغ التعبير لا تتم عند الشاعر في تكوين الصورة السمعية إلاّ من خلال الأداء الصوتي الذي يتطلبه موقف الشاعر المقترن بحالته النفسية لدى وقوفه على الطلل.
إن صيغ الاستفهام والسؤال والنداء والتوجع هي أصوات في أصولها، يتحفز الشاعر بعدها لإحداث شيء ما، باتجاه الإثارة لفعل يتحرك في الأعماق يدفعه للتحرك على أرض الواقع أو مساحة القصيدة.
قال عبيد بن الأبرص:
أَمِنْ منزلٍ عافٍ ومنْ رسمِ أطلالِ ... بكيتَ؟ وهل يبكي من الشوقِ أمثالي؟
ديارُهُمُ إذْ همْ جميعٌ فأصبحتْ ... بسابسَ إلا الوحشَ في البلدِ الخالي
قليلاً بها الأصواتُ إلا عوازفاً ... وإلاّ عَراراً من غياهِب آجالِ
فقِدْماً أرى الحيَّ الجميعَ بغبطةٍ ... بها والليالي لا تدومُ على حالِ
__________
(1) امرؤ القيس: ق 52/ ب1- 2/ 243، النابغة الذبياني: 145- 146، لبيد، ق 48/ ب 10/ 299.
(2) امرؤ القيس: ق 16/ ب1- 2/ 119، ق 55/ ب1-2/ 255، كعب بن زهير: 234.
(3) وردت أدوات الاستفهام في أكثر من 125 قصيدة مما يتعذر إيرادها، فاكتفينا بالإلماح إليها.
(4) وردت في تسعة أبحر هي: الطويل: 37 مرة، الكامل: 23 مرة، المتقارب 13، البسيط: 10، الوافر: 7، الخفيف: 4، السريع: 4، الرجز: 1، الرمل: 1.(1/31)
فلستُ وإنْ أضْحَوْا مضَوْا لسبيلهم ... بناسيهمُ طولَ الحياةِ ولا سالي
ألا تقفان اليومَ قبل تفَرُّقٍ ... ونأيٍ بعيدٍ واختلافٍ وأشغالِ
إلى ظُعُنٍ يسلُكْنَ بين تَبالةٍ ... وبين أعالي الخَلِّ لاحِقَةِ التالي
فلّما رأيتُ الحاديين تَكَمشا ... نَدِمْتُ على أنْ يذهبا ناعِمي بالِ
رفعنا عليهن السيّاطَ فقلّصتْ ... بنا كُلُّ فتلاءِ الذراعينِ مرقالِ
فألحَقَنا بالقومِ كلُ دِفَقَّةٍ ... مُصدَّرةٍ بالرِّحْلِ وَجْناءَ شِملالِ
فَأُبنا ونازْعنا الحديثَ أوانِساً ... عليهِنَ جَيشانيّةٌ ذات أغيالِ
فملنَ إلينا بالسّوالفِ وانتحى ... بِنا القولُ فيما يشتهي المَرِحُ الخالي(1)
وفي تأملنا للوحة طلل عبيد نجد التساؤل الذي أثاره في الشطر الأول من البيت الأول متعجباً من بكائه على منزل دارس وبقايا أطلال، ويدفعه الاستفهام (هل) إلى الكفّ عن البكاء لكونه أقوى من أن يهزه ذلك الطلل ويثيره للبكاء.
فالتساؤل والاستفهام يحثّانه على تشكيل صور متلاحقة تعتمد الصوت في مؤداها حيث كانت الديار عامرة بوجود الأحبّة وأصواتهم، تضج بالحياة، وبعد فراقهم أضحت قفراً إلاّ من حركة أخرى تمزق صمتها، هي حركة الحيوانات وأصواتها مثل: صياح ذكر النعام، وقطعان من البقر والظباء، وإن عمد الشاعر إلى التراسل، مستبدلاً الوحوش بالناس، وما هي إلاّ محاولة منه للتشبث بالبقاء، لكون الحياة لا تدوم على حال.
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق 42/ 112- 114. العوازف: الرياح. العرار: صياح ذكر النعام. الآجال: قطعان البقر والظباء. تباله: موضع، الخل: الطريق بين الرمل، تكمش: جدّ وأسرع. المرقال: السريعة. الدفقة: الناقة في سيرها مثل تدفق الماء. الشملال: الخفيفة السريعة. الجيشانية برود حمر وسود. السوالف، السالفة، صفحة العنق عند معلق القرط(1/32)
إن عبيد بن الأبرص لا يستسلم إلى الماضي المشبع بالفناء، المتمثل بالانقطاع عن الأحباب وتهدّم الحياة، بل لا بد له من أن ينطلق من زاوية جديدة يتواصل فيها مع الحياة التي يعلو صوتها، فتدعوه إلى التحرك، فيتحفز، ويطلب من رفيقيه اللحاق بالظعن، ويحث السير على ناقته، حتى يصل إلى الأوانس الفاتنات، وتتنازع الجميع الأحاديث، ويمضون بالقول فيما يشتهون.
ومما تقدم نجد أن الصورة السمعية قد افتتحت الطلل، وانتشرت في أبيات اللوحة عبر ألفاظ صريحة، وبعضها قد أدّى الغرض إيحاءً وضمناً، على أن الصورة السمعية هي الغالبة على اللوحة.
فمن الاستفهام انطلق ليجد المكان الجديد البديل، حيث الملتقى بالأوانس وتبادل الحديث، ليستأثر بالزمان كي لا يفوته، مستثمراً الوقت في إحياء الأمل في نفسه من جديد، لأن الطلل يمثل (المكان- الزمان) الهارب من بين أصابعه شاء أمْ أبى.
وفي لوحة طللية أخرى نجد صيغ الاستفهام، وإن تبدو موروثاً فنياً، بيدَ أنها تقود إلى منافذ باتجاه نقلة موضوعية مشحونة بالفعل والحركة فضلاً عن الصوت، سواء أكان ذلك لفظياً صريحاً، أم إيحائياً، باتجاه تنامي اللوحة بما يفضي إلى الفعل اللاحق الذي يتوخاه الشاعر، والدخول في تفصيلات يبرع فيها بما يبعده عن النمطية التي فرضها الشكل عليه من الموروث الفني.
قال زهير بن أبي سلمى:
أمنْ أمٍّ أوفى دمنَةٌ لم تكلَّمِ
بحومانةِ الدَّرّاجِ، فالمتَثَلَّمِ
مراجعُ وشْمٍ في نواشرِ مِعْصَمِ ... ودارٌ لها بالرَّقْمَتينِ كأنها
وأطلاؤُها ينهضنَ منْ كُلِ مَجْثِمِ ... بها العِينُ والآرامُ يمشينَ خلْفَةً
فَلأيّاً عرفتُ الدارَ بعْدَ التَّوهُمِ ... وقفتُ بها منْ بعدِ عشرينَ حِجَّةً
ونُؤْياً كجِذْمِ الحوض لمْ يتثَلَّمِ ... أثافيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مْرِجَلٍ
فَلّما عرفتُ الدارَ قلتُ لربعِها(1/33)
أَلا عِمْ صباحاً أيّها الرَّبُعُ وأسْلَمِ(1)
تمثل اللوحة الماضي بدلالتين، دلالة الطلل، والزمن المتمثل بـ (عشرين حجة)، علماً أن زهير بن أبي سلمى لم يقف على طلل حقيقي لتقادم العهد، وإنما توارث هذا النمط واقتفى أثره، ونجده قد استمد عناصر البقاء والخلود من باعث الغرض في قصيدته في مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان لسعيهما في إيقاف نزيف حرب طاحنة، حيث احتوت تجربته في ظاهرها ذكرياته الماضية مع أم أوفى وأشجانه لفراقها، وفي باطنها ضمّت مخلفات حرب ضروس مع تأثيراتها المرّة، وقد منح زهير طلله من واقع بيئته المادية رموز الخلود وقد تجلّت في (الدمنة، والأثافي، والنؤي، والوشم، والحيوانات المختلفة) ليسبغ على الطلل حياة زاهية بعدما كانت قفراً.
إن غربة الشاعر في ذكرياته الراحلة مع أم أوفى، وافتقاد السلم تم مزجهما في إطار من الفن والخبرة وتراكم الثقافة التي عرف بها زهير، وتعدّى ذلك إلى الدمنة الشاخصة التي توجه إليها بهذا الاستفهام ولم تجبه، ومن هذا التوجع في الاستفهام انطلق للتعبير عما يريد ويشكّل نسيج قصيدته التي كان منفذها الأداء السمعي، وإن موقع الصورة السمعية من اللوحة له الصدارة، وإنْ تداخلت في أبيات اللوحة، لكنها واضحة وهي النقطة المضيئة إذ ابتدأ بها الشاعر واختتم لوحته بها أيضاً.
__________
(1) ديوان زهير بن أبي سلمى: ق1/ 192. الحومانة: ما غلظ من الأرض وانقاد. الدراج والمتثلم: موضعان. الرقمتان: موضع. النواشر: عصب الذراع. المعصم: موضع السوار من الذراع. العين: بقر الوحش. الآرام: الظباء. الأطلاء:ولد البقرة. المجثم: المريض. السفع: السود تخالطها حمرة. جذم الحوض: أصله. الربيع: موضع الدار.(1/34)
على أن الدمنة الشاخصة هي دليل أمل على انفراج الأزمة ووقف ما كان يسيل من دماء، وما الوشم في ترجيعه إلا ليقاوم الزمن لتبقى الدار ماثلة تتحدى فناء الذكريات وفناء القوم، وما إشاعة البهجة في الطلل من خلال العين والآرام عبر الحركة والأصوات إلاّ إتاحة حياة جديدة تتواصل مع الماضي المفقود الذي أدّى إلى اغتراب الشاعر وآلامه.
الغيث والمطر:
إلى جانب الأطلال عنى الشعراء الجاهليون بالغيث والمطر، في لوحات الافتتاح وفي لوحات أخر، لكون الغيث يرمز إلى الخصب والحياة والخلود، في حين يرمز المطر إلى الفناء، فهم يستخدمون اللفظتين على وفق ما يستدعيه الموقف، وما تتطلبه الظروف، فهو رمز فناء عندما يهطل بغزارة شديدة فينتقم من الطلل، ويعفّي الرسوم، ومن هنا ينزع الشاعر إلى تأكيد الألم الممض الذي يعتمل بأعماقه جرّاء هرب (الزمان- المكان) من حياته، وما لهما من معطيات وقيم روحية ومادية، وتلك نزعة إنسانية لا يستطيع المرء التخلي عنها، وبخاصة الشاعر، فيلتجيء إلى أن يكّون لنا صوراً سمعية تشترك فيها بعض الحواس بغية التأثير فينا.
على أن جميع ذبذبات السمع النابضة في أصوات الألفاظ (أجش سماكياً) والملّث، ورجفت رحى، والهزيم، والزجل، وأصوات النوق العشار، والحنّان، والودق، والوابل، والمزن ... ) لها معنى شكل صورة سمعية، وسنوضح ذلك من خلال تحليل تلك الاستشهادات.
وقد تفنن الشعراء في اختيار تلك الألفاظ لتشكل نسيج صورهم السمعية، فذكروا لنا السحب الممطرة المصحوبة بالصوت، إذ يستخدم النابغة الذبياني الصوت الغليظ الذي يريد به السحاب المصحوب بالرعد يسقي دار سعدي:
أَجَشَّ سماكيّاً كأنَّ رَبابَهُ(1/35)
أراعيلُ شتّى منْ قلائِصَ أُبَّدِ(1)
ونجد الهمزة من (أجشّ) قد انتشرت في نسيج البيت، كأن، أراعيل، أُبّد، مما أدى إلى انتشار نوع من النغم المتجانس، بالرغم من ثقل الهمزة، وخشونة اللفظة (أجش) المنسجمة مع غلظ الصوت.
ولو تأملنا تشكيلة الحروف من (الهمزة) الذي هو شديد لا مهموس ولا مجهور، نجد أنّ (الجيم) من (أجَشّ) احتكاكي مجهور، يتذبذب الوتران الصوتيان عند نطقه، في حين نجد (الشين) مهموساً لا يتذبذب الوتران الصوتيان عند النطق به، وهذا الجهر والهمس، والتذبذب في الوترين وعدمه أدّى إلى تشكيل صوت اللفظة الموحي بالغِلَظ، وبالتالي تشكيل المعنى بهذا الاتجاه ورسم الصورة السمعية، في حين نجد السين من (سماكيا) صفيرياً رخواً مهموساً، يجاوره في اللفظة حرف (الميم) المجهور، وحرف المدّ اللين (الألف)، والكاف المهموس، ذلك كله يعطينا نغماً متوافقاً.
كما نجد التجانس النغمي يقع في شين (أجَشّ، وشتّى، وكاف (سماكيّا، وكأن)، وباء (ربابه وأُبدّ).
من ذلك كله تتشكل لنا صورة سمعية قوية عبر أصوات الألفاظ ومعانيها ودلالاتها مما ينسجم ووقع الصوت في الأداء الشعري المتفق وغرض الشاعر في مدحه للنعمان بن الجلاح الكلبي، وذكر إغارته على ذبيان، فقوة الألفاظ من قوة الغارة مما أدّى إلى إشاعة قوة الصوت ووقعه في أداء الشاعر من خلال الصورة السمعية.
وقد يكون الصوت مطلقاً ليس على وجه التحديد إلاّ في صوت المطر الدائم الذي استخدمه الشاعر للتعفية:
دارٌ لها غَيَّر آياتِها
كُلُّ مُلِثٍّ صوبُهُ زاخِرِ(2)
__________
(1) النابغة الذبياني: 100 أجش: أجشّ الصوت: غِلَظُ الصوت، أراد أنه سحاب ذو رعد. سماكياً، منسوب إلى نوء السماك، والسماك طائفة من النجوم وهو نوء غزير الأمطار. أراعيل: طائفة من الناس أو الأنعام: شبّه السحاب بذود من النوق. الرباب: السحاب. أبّد: أي قد توحشت.
(2) الأعشى: ق 18/ 139.(1/36)
1@تَبعَّقَ ثَجّاجاً غزيرَ الحوافلِ ... نجد وقع الصوت في الأداء الشعري قد انتشر في نسيج البيت من خلال ميم (مُلِّث) المجهور لما له من رنين أنفي مستمر يتساوق ومعنى لفظة (ملث) أي المقيم الدائم المستمر.
كما نجد الصاد من (صوبه) مهموساً مطبقاً صفيرياً ينسجم والباء المجهور الانفجاري ويتساوق مع (صوبه) وهو السحاب ذو الصوت والماء الكثير الذي أدّى بدوره إلى تغيير علامات الدار.
ومن الشعراء من حدد الصوت بالرعد (رجفت فيه رحى) والرحى سحاب مستدير مستو من نواحيه يشبه الرحى في شكلها وصوتها، والصوت ثقيل في وسط شديد يتناسب ووقعة عمرو بن الحارث الغساني ببني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان التي تحدث عنها النابغة في إطار التصوير عبر استحضار الصوت حيث قال:
إذا رجَفَتْ فيه رحىً مُرْجِحِنَّةٌ
كميش التوالي مُرْثَعِنِّ الأسافِلِ(1) ... وكلُ ملثٍّ مكفهرٍ سَحابُهُ
كما أنه أوضح وقع الصوت في الأداء الشعري من خلال الصورة السمعية عبر حروف الميم، ورجفت رحى مرجحنة.
ومن الشعراء من صوَّر السحاب المصحوب بالصوت للتنوع في الصور السمعية، فهو يشبه بصوت اليراع:
عفاها كلُّ هطّالٍ هزيمٍ ... يُشَبَّهُ صُوتهُ صوتَ اليَراعِ
وقفتُ بها أُسائلها طويلاً ... وما فيها مُجاوَبَةٌ لداعيَ(2)
حيث أراد الشاعر السحاب الذي لرعده صوت تعويضاً عن عدم إجابة الطلل، ولم يرد الصوت الشديد، ولذلك شبّهه بصوت اليراع.
ومن السحاب ما يكون ذا زَجَل أي صوت رعده، وإنّما قال (زجَل) لأنه خصه بالتطريب لكونه يسقي المنازل:
فسقى منازلها وحلَّتَها ... قَرِدُ الرَّبابِ لصوتهِ زَجَلُ(3)
__________
(1) النابغة الذبياني: 195. الأعشى: ق5/ 70/ 53، ق 18/ 3/ 139، ق 35/ 19/ 235، لبيد: ق 14/ 19/ 112، الخنساء: 10.
(2) بشر بن أبي خازم: ق 23/ 109.
(3) عمرو بن قميئة: ق 10/ 52.(1/37)
ومن الشعراء من أراد بالزجل، إِرعاد المطر الشديد، وقد قرنه بالنعام لأنه شر كبير له، ويشكل نقمة لكونه سبيل هلاكه وتعليقه من أرجله، فالمطر مفزع للنعام والظليم، ومدعاة للهرب، وما استخدام (الزجل) وهو الإرعاد الشديد، إلاّ للفزع، لفزع الشاعر أولاً من الدهر وما يحدثه من خراب ودمار، وقد أورد الشاعر قصر (رَيْمان) العظيم وقد أمسى خاوياً مخرباً تسكنه الثعالب بعد ذهاب أصحابه الكرام، وما فزع النعام إلا فزعه هو أسقطه عليها:
منْ ساقِطِ الأكتافِ ذي ... زَجَلٍ أَرَّبَ به سحابُهُ
مثلِ النعّامِ مُعلَّقاً ... لمَّا دَنا قَرِداً رَبابُهُ(1)
وكأن في السحاب أصوات نوق عشاراتي عليها عشرة أشهر من حملها، وكذلك الإبل المسنة، والنوق التي اشتد فصيلها وقوي، تلك جميعها (تحنّ) وفي صوتها تطريب وهي ترعى ما أمرعت به الأرض بعد الغيث، فانسجم الحنين (صوت الناقة) مع صوت الغيث، (المزن) السحاب المثقل بالماء، ولم يستخدم لفظة (المطر) الصريحة، وابتعد عنها الشاعر لأنها تعفّي الطلول، قال:
هَبَّتْ جنَوبٌ بأعلاهُ ومالَ بهِ ... أعجازُ مُزْنٍ يَسُحُّ الماءَ دَلاّحِ
كأنَ فيهِ عِشاراً جِلّةً شُرفاً ... شُعْثاً لها ميمَ قد هَمّتْ بإرشاحِ(2)
ويسمعنا شاعر آخر صوت السحاب المتدني المصحوب بالرعد كصوت الرحى الثقيلة لقرب السحاب، فالغيث هنا قد أنبت الكلأ والعشب الحسن حتى ارتفع عن الأرض:
وغيثٍ مَرَتْهُ الريحُ فاعتمَّ نبتُهُ ... بَهيٍّ تُناصيهِ الوحوشُ قد أثمرا
إذا رَجفتْ فيه رحىً مُرجَحِنّةٌ ... تَبَعَّجَ بالرعد الحَبيُ مُسَيَّرا(3)
__________
(1) الأعشى: ق 54/ 289.
(2) أوس بن حجر: ق 5/ 16-17.
(3) امرؤ القيس: ق 60/ 266. تبعج: تشقق. الحبي: السحاب المتدني.(1/38)
في حين أسمعنا امرؤ القيس الغيث /الحنّان/، الذي له صوت مثل حنين الإبل من الاستحسان والاستطراب، إذ لم يكن الصوت مفزعاً، كي ينسجم والمنظر الممرع المليء بالكلأ، وقد نزلت فيه الإبل ترعى، بالرغم من شدة صوت الرعد بدلالة السحاب الداني من الأرض:
وغيثٍ كألوانِ الفَناقد هبطتُهُ ... تَعاورَ فيهِ كُلُّ أوطفَ حَنّانِ(1)
وإذا ما تجاوزنا السحاب إلى المطر فسنجد الصورة المدركة بالحواس وخاصة السمع، لنتعرف على أثر الشاعر الإبداعي في توظيفه الخاص للمدركات الحسية، حيث السحاب الثقيل، والمطر الدائم الرعد، وتعاقب المطر والرياح رمزي الفناء على الطلل، وبيّن لنا الشاعر وقع الصوت في الأداء الشعري من خلال الصور السمعية عبر حرف الميم المنتشر في البيت وهو مجهور ذو رنين:
فتراوحنَها وكُلّ مُلِثٍّ ... دائم الرعدِ مُرجَحنّ السَّحابِ(2)
ونسمع للمطر صوتاً:
أَرَّب على مغانيها مُلِثٌّ ... هزيمٌ ودْقُهُ حتّى عَفاها(3)
__________
(1) المصدر نفسه: ق9/ 91.
(2) عبيد بن الأبرص: ق/ 6/ 21، 34/ 1-3/ 89، ق 35/ 1/ 90، وينظر ديوان النابغة الذبياني: 89-90، وعنترة العبسي: ب2/ 336، والمخبّل السعدي: ق 31/ 6/ 132، ودريد بن الصمة: ق 17/ 56، ولبيد: ق 48/ 4/ 298.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 46/ 220، وينظر ديوان زهير بن أبي سلمى: ق9/ 2/ 100.(1/39)
استخدم بشر هنا الودق: المطر الشديد الدائم الواسع القطر لتعفية الطلل، طلل هند، وماهنيدة هنا (تصغير)، و (هند) إلا قصيدة الهجاء، أو الإبل التي أخذها لقاء هجائه أوساً. والهاء من (هند) مهموس رخو ينسجم مع حبال الهجاء الرثة البالية لقدمها، بفضل قصائد المديح التي أزجاها لأوس(1).
ويتساوق التنوين من (هند) والنون الذي فيه غنّة مع (هزيم ودقه) أي المطر الشديد الكثير الذي له صوت يتشقق بالماء تشققاً مع صوت يصدر منه.
ونسمع للمطر جلبة لشدة وقعه، وغزارته، لأنه مطر العشيّ، يسيل الأرض ويغرق الجحور، وقد أورد لفظة (الودق) أي شدة المطر مقترنة بالفرَس ذي العَدْوِ السريع على التشبيه:
خفاهُنَّ منْ انفاقِهِنَّ كأنّما ... خَفاهُنَّ وَدْقٌ منْ عَشّيٍ مُجَلِّبِ(2)
__________
(1) تروى حادثة لها أثر في حياة بشر تكمن في هجائه لأوس بن حارثة سيد بني جديلة من طيء، وذلك أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حيّ ألبسها أوساً، فحسده قوم من أهله، فطلبوا من الحطيئة أن يهجوه فرفض بعد أن أغروه بثلاثمائة ناقة، فقال لهم بشر بن أبي خازم أنا أهجوه لكم فأخذ الإبل وهجاً أوس بن حارثة. ينظر الكامل لابن الأثير: 1/ 229.
وقد أفحش بشر في هجاء أوس، وتمكن أوس من بشر فأسره، وقيل أراد حرقه، ورُوي أن أوساً أدخل بشراً في جلد بعير حين سلخه حتى جف عليه فصار كأنه العصفور، فبلغ ذلك سعدى بنت حصن أم أوس وكانت سيدة من سادات طيء، فقبّحت عمل ابنها ونصحته أن يخرجه ويرد عليه ماله الذي سلبه منه بالإغارة، ويعفو عنه ويحبوه ويكرم كي يغسل من أوس ما صنعه بشر ففعل ما أمرته به أمه، فقال بشر لأوس: لا جرم والله لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك، وصدق بشر فقد مدح أوساً وأكثر من مديحه، ينظر الكامل لابن الأثير: 1/ 229.
(2) امرؤ القيس: ق 3/ 51.(1/40)
كما استخدم الشاعر الغيث للخير، والوَدْق: للمطر الشديد، في لوحة صيد، حيث يعلو الغلامُ الفرَسَ، ويدفعه لمطاردة حمر الوحش، فَرَمَزَ للاندفاع بالوَدْق، ورمز بالغيث (الرحمة) لاصطياده، ثوراً من بقر الوحش:
وأدركهنَ ثانياً مِنْ عِنَانِهِ ... كغيثِ العشي الأقهبِ المُتَوَدِّقِ(1)
استخدم النون الثقيلة في أدراكهن للتوكيد، والنون في (ثانياً وعنِانِه) والقاف في (الأقهب والمتودَق) لتقوية الجرس الموسيقي، كما تجانس لفظ (المتودق) المتفعل مع المعنى الشديد المطر. ولا بد للمطر من أن يحدث صوتاً، ذلك كله لتشكيل الصورة السمعية.
واستخدم بعض الشعراء لفظة الوابل(2) أي المطر الشديد الذي له صوت قوي (كثير الرعد) وله هزيم مثل هزمة الناقة على ولدها، وبالرغم من ذلك فقد أمرعت الأرض:
مَرَتِ الجنوبُ له الغمامَ بِوابلٍ ... ومجلجلٍ قَرِدَ الربابَ مديمِ(3)
وكأن الشاعر قد استخدم (الوابل) لِمَحْوِ لَوْمِ عاذلته، ليعلو فوق صوتها، ويتساوق مع مفاخره في المعركة وما فيها من صراخ واحتدام الأصوات المختلط بعضها ببعض.
الطيف:
تمثلت لوحة الطيف في استحضار الماضي والمتع الزائلة، أو الرغبة في استدرار عاطفة ذوت مع السنين وانحسرت من حياة صاخبة كانت تعج باللهو أيام الشباب، أو الالتجاء إلى الطيف لردم الهوة بين اليقظة والحلم لتحقيق المعادلة الناقصة في الحياة، والاتجاه نحو اكتمالها في المنام، أو اتخاذها رمزاً ومدخلاً لينفذ الشاعر من خلالها إلى غرضه، بالرغم من قلة لوحة الطيف الافتتاحية والسمعية منها بالذات، بيد أننا وجدنا الشاعر يحاول جاهداً أن يسبغ على صورته الصوت والحركة، لأن الصورة في الأساس بصرية، على أن تطور لوحة الطيف قد تأخر عن المرحلة المبكرة في حياة الشعراء.
__________
(1) امرؤ القيس: ق 30/ 174، وينظر ديوان زيد الخيل: ق7: 4/ 36.
(2) طفيل الغنوي: ق1/ 34/ 26.
(3) لبيد: ق 13/ 112.(1/41)
ومن خلال النماذج التي سنتناولها نجد تعجب الشعراء من زيارة الطيف على بعد الدار، وشحط المزار، ووعرة الطريق، واشتباه السبل، واهتدائه إلى المضاجع من غيرها ويرشده، وعاضد يعضده، وكيف قطع بعيد المسافة بلا حافر ولاخف، في أقرب مدة وأسرع زمان ... ."(1)
قال تأبط شراً:
يا عيدُ مالَكَ منْ شوقٍ وإيراقِ ... ومَرِّ طيفٍ على الأهوالِ طَرّاقِ
يَسري على الأَيْنِ والحَيّات محتفياً ... نفسي فداؤكَ مِنْ سارٍ على ساقِ(2)
تمثلت الصورة السمعية لدى الشاعر من أدوات مختلفة، وأصوات متعددة، خارجية وداخلية، ابتداءً من النداء المفرد المعرفة في (يا عيد)، والاستفهام المراد به التعجب (مالَكَ)، وانتهاءً في تفسير الصورة.
ومنحَ الشاعر الطيفَ تجسيماً حتى جرى على ضرب من الحيّات حافياً كان ابتداءً، وكأنه في التفصيلات الأخر سائر على قدَم، مع استخدام صيغة المبالغة في (طرّاف) وتكرار الحروف مثل: القاف، والراء والسين في البيتين لتتجانس الموسيقى الداخلية، لتكون صورة سمعية ندركها بأسماعنا.
واحتل السؤال لوحة الطيف عند عمرو بن قميئة، وهو ما تبقى له بعد أن نأت أُمامةُ عنه، ولم توافِهِ إلاّ في ميعادها ليلاً، وقد اتخذ من الحبيبة رمزاً لقومه بعد أنْ حلّت القطيعة بينه وبينهم، فكان الطيف منفذاً للتعبير عن تلك العلاقة المضطربة المتوترة:
نأتك أُمامةُ إلا سؤالاً ... وإلاّ خيالاً يُوافي خَيالاً
يوافي مع الليلِ مِيعادُها ... ويأبى مع الصُّبْحِ إلاّ زيالا(3)
وتتجلى الصورة السمعية في لفظة ذات دلالة سمعية هي (الميعاد)، ولا يتم إلاّ بتقريره من طرفين، بيد أنه هنا لم يكن على ميعاد ظاهري، ولكنه إيماء داخلي، فضلاً عن الأنسنة المتمثلة بالتجسيم الذي خلعه الشاعر على الطيف.
__________
(1) طيف الخيال: 4.
(2) ديوانه: ق22/ 103- 104.
(3) ديوانه: ق 11/ 55.(1/42)
ثم يلتفت إلى الخطاب بعد أن كان غيبة بأداة استفهام (أنّى) التي تطرق الأسماع، وما توحيه تشكيلة حرف الميم منْ إيقاع في العجز من البيت الأول بما يخدم الصورة السمعية، قال عبيد بن الأبرص:
طافَ الخيالُ علينا ليلةَ الوادي ... منْ أم عمروٍ، ولم يلممْ لميعادِ
أنّى اهتديتَ لركبٍ طالَ سيرهُمُ ... في سَبْسَبٍ بينَ دكداكٍ وأعقادِ(1)
في حين كان الطيف عند الحارث بن حلّزة على عجل حينا طرقهم أسرع من الذي يسير الليل كله فلازمهم ولم يقم، كما ونسمع استفهام الشاعر عن كيفية اهتداء الطيف إليهم، وهو لا يقوى على المشي بعد أن قطع القوم الأرض الغليظة المستوية الصلبة بسيرهم حتى أصابهم الإعياء:
طَرَقَ الخَيالُ ولا كليلةِ مُدْلجِ ... سَدِكاً بأرحلنا ولم يتَعَرَّجِ
أنى اهتديتَ وكنتَ غير رَجيلةٍ ... والقوم قد قطعوا متان السّجسجِ(2)
من الأمور المتعارف عليها أن الأحلام تقرب البعيد، ومن هنا بدأ قيس بن الخطيم مستفهماً بـ (أنّى) سرى طيفها وهي غير بعيدة عنه، أو أنها بعدت عنه وهي غير سروب، فانطلق صوته يعبّر عمّا في أعماقه:
أنّى سَرَيْتِ وكنتِ غيرَ سَروبِ ... وتقربُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تمنعني يقظى فقد تؤتينَهُ ... في النوم غيرَ مُصردٍ محسوب
كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوتُ من لهو آمرئٍ مكذوب(3)
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق 16/ 47.
(2) الحارث بن حلزة اليشكري: 22. السدك: الملازم. لم يتعرج: لم يقم. الرجيلة: القوية على المشي: متان: ما غلظ من الأرض. السجسج: المكان المستوى الصلب.
(3) قيس بن الخطيم: ق 2/ 55- 57.(1/43)
وينتقل قيس بن الخطيم إلى البيت الثاني مستحضراً صورة سمعية أخرى عما تؤتيه في النوم غير مقلل أو محسوب، وقد أراد به العدّ للكثرة، ونفي التقليل، متجاوزاً ذلك إلى البيت الثالث الذي ارتفع فيه صوت الشاعر لتقرير معنى الكذب صراحة وتأكيده بالقول جهة الإخبار الذي يحتمل هنا وجه عدم الصدق، فضلاً عن وجود التكرار اللفظي (سريت- سروب) و (تقرب- تقريب)، وتكرار حرفي السين والقاف، لتشكيل إيقاع صوتي لإبراز الصورة السمعية.
ويفتتح الحطيئة لوحته بأداة التنبيه (ألا) ليشد أسماعنا إلى ما يروم قوله، مستعرضاً بُعْدَ المسافة، معدداً مخاطر الطريق التي لا تنجو منها العتاق إلاّ بالسرعة وكأننا نسمع وقع سنابكها، فضلاً عن الصحراء التي تجبرهم على عدم النطق مخافة العدو، ووسط تلك الصورة السمعية التي كثّفها الشاعر، طرقهم طيف هند، وثمة شبه بين لوحة الحطيئة ولوحة الحارث بن حلزة التي مر ذكرها، بيد أن لوحة الحطيئة أكثر إشراقاً وعناية فنية، لكونه يحكك شعره أولاً، ولقوة شاعريته ثانياً، وما يحمله من الإرث الثقافي ثالثاً، قال الحطيئة:
أَلا طرقتْ هندُ الهنود وصحبتي ... بحورانَ حورانِ الجنود هجودُ
وكم دون هند منْ عدوّ وبلدةٍ ... بها للعتاق الناجياتِ بَريدُ
وخَرقٍ يُجِرُّ القومَ أنْ ينطقوا بهِ ... وتمشي به الوجناءُ وهي لهيدُ(1)
الشكوى من الشيب:
حين نتجه إلى لوحة الشكوى من الشيب، نجد حواراً مما يقتضيه مجرى الحديث عن الذكريات الراحلة، وأيام الشباب الزائلة، والمتع المنحسرة، ليعوض الشاعر بذلك عن إعراض المرأة عنه، حين اشتعل رأسه شيباً، وتربعت الشيخوخة على زهو أيامه التي ذهب رونقها.
__________
(1) الحطيئة: ق 73/ 284- 285. بريد: سرعة. لهيد: قد لهدها رحلها: أي أثقلها وضغطها. يجر القدم: أي لا يتكلمون من الفرق كما يجر الفصيل لكيلا يوضع. الوجناء: الغليظة. وانظر شعر خفاف بن ندبة السلمي: ق 1/ ب1-3/ 27، وانظر كعب بن زهير بن أبي سلمى: 113-114.(1/44)
من هنا فالشاعر يتمرد على واقع شيخوخته، ويرفض الاستسلام لها تارة، ويفتح كوة ليطل منها على الفخر، مستذكراً ومذكّراً ما حفلت به حياته من مغامرات تارة ثانية، هادفاً إلى تحقيق معادلة الحالة السلبية التي يعيش فيها، لينتهي إلى تقرير حقيقة، أو حكمة يستدعيها موقفه من الحياة، أو ما يوحي به الباعث الآني، والغرض الأساس الذي يتوخاه الشاعر، فضلاً عن أن مسوغات الماضي في الصورة السمعية كونه صدى لذلك الصوت القديم.
وحين تستدعي الحالة الشكوى من الشيب والكبر، نجد تعدد الصورة السمعية لدى الشعراء، فقد يتعالى صوت الشكوى، وينتشر القول في مفاصل لوحته، مشيّعاً همومه عبر القول، والسؤال، والتعجب، والشكوى الصريحة من كبره(1)، والذِّكر، والسؤال، والدعوة، والكلام(2)، حيث عبّر عنها جميعاً، الأسودُ بن يعفر:
صَحا سُكُرٌ منهُ طويلٌ بزينبا ... تَعاقَبَهُ لما استبانَ وجَرّبا
وأحكمَهُ شيبُ القَذالِ عن الصِّبا ... فكيف تصابيه وقد صارَ أشيبا؟
وكان له فيما أفادَ حلائلٌ ... عجلنَ إذ لاقينه قلنَ مرحبا
فأصبحنَ لا يسألنه عن بما بِهِ ... أَصَعدَّ في عُلْوِ الهوى أمْ تصّوبا؟(3)
في تأملنا لهذا النص نجد ابتداءً الاستفهام (كيف)، وانتهاء بـ (أَصَعَّدَ) مع لفظة السؤال الصريحة، فضلاً عن الدلالة السمعية (القول)، ذلك كله يشكل منافذ الأداء السمعي الذي يقود إلى الصورة السمعية.
__________
(1) امرؤ القيس: ق9/ 262، وق 60/ 265.
(2) علقمة الفحل: ق1/ ب1-8/ 33-35.
(3) الأسود بن يعفر: ق4/ 20-21، وكذلك ق 6/ ب1-4/ 21-22. أصعد: ارتقى، تصوب: نزل.(1/45)
كما نجد التشكيلات الصوتية في الأحرف المختلفة مثل (الصاد) في (صحا، الصبا، تصابيه، صار، فأصبحن، أصعد، تصوبا)، والصاد مهموس مطبق صغيري يؤدي إلى التفخيم مما ينسجم والموضوع مثل (الصحوة، والتصابي، وغيرهما)، في حين انتشر حرف السين في بعض الأبيات مثل: سكر، واستبان، يسألنه، علماً أن السين صوت صغيري مهموس غير مطبق، قد تجانس مع الصاد في الأطباق وعدمه، فالأطباق يتساوق مع (الصحوة) وعدم الإطباق ينسجم مع (السكر) وتأثيراته.
كما نجد ضمن التشكيلات الصوتية عبر الأحرف صوت القاف في (تعاقبه، القذال، وقد، لا قينه، قلن، وتكرر صوت القاف وهو (مهموس فمي) ساعد على تصاعد الجرس الموسيقي، وتقوية الصورة المعنوية، في حين أن حروف اللين المنتشرة بين الأبيات والقافية، ساعدت على المد ليأخذ قسطاً من الراحة لكبر سنه، وعدم انقطاع نفسه.
إن الصورة السمعية في هذه اللوحة بالرغم من وجود صورٍ أُخَر، قد برزت من خلال الاستفهام وما قاده هذا المنفذ السمعي إلى تصوير حالته في اللهو والمرح وصخب الحياة، والترحيب به في كل وقت، أو في مرحلة الشيب التي فقد فيها حتى السؤال عنه، فضلاً عن تشكيلات الصورة السمعية في الإيقاع الداخلي عبر الأصوات المختلفة التي تعرضنا لها.
ونسمع بالمالكية التي ذكرها النابغة عبر القول، وقلة المنطق، والذكر، والصمت، والضحك من خلال الألفاظ ذات الدلالة السمعية، وذات الدلالة الإيقاعية، حيث قال:
عَلِقْتَ بذكْرِ المالكيةِ بعدما ... علاكَ مشيبٌ في قذالٍ ومَفرِقِ
على أنَ حجليها وإن قلتَ أوسعا ... صموتان منْ ملءِ وقلّةِ منطقِ(1/46)
وإن ضَحكتْ للعُصْمِ ظلّتْ روانياً ... إليها وإنْ تبسَمْ إلى المُزْنِ يَبْرُقِ(1)
فضلاً عما ذكرنا فقد تكررت الحروف لتقوية النغم مثل: (الميم) المجهور في (المالكية، بعدما، مشيب، مفرق، صموتان، من، ملء، منطق، العصم، تبسم، المزن)، على أن حرف القاف الفني المهموس في (علقت، قذال، مفرق، قلت، قلة، منطق، يبرق) قد شكل نغماً داخل الأبيات.
وقد تميزت الصورة السمعية عند النابغة من خلال الدلالة السمعية في الحجلين، وحفز السمع لصوتهما ضمن الدلالتين السمعية والإيقاعية، ومن هنا فقد تمكن الشاعر من أن يشكل صورة سمعية بارزة تفوقت على الصور الأخر التي شكلتها بعض المدركات الحسية، ويعود السبب إلى قدرة الشاعر على استثارة الماضي وأصوات أنسه ولهوه، وما يحدثه من وقع على النفس.
قال زهير بن أبي سلمى:
صحا القلبُ عنْ سلمى وأَقْصَر باطلُه ... وعُرّيَ أفراسُ الصِّبا ورواحِلُهْ
وأقصرتُ عمّا تعلمين وسُدِّدتْ ... عليّ سوى قَصْدِ السبيل معادِلُهْ
وقال العذارى: إنّما أنتَ عمّنُا ... وكان الشبابُ كالخليطِ نزايلُهْ
فأصبحتُ ما يعرفنَ إلاّ خليقتي ... وإلاّ سوادَ الرأسِ والشيبُ شامِلُهْ(2)
__________
(1) النابغة الذبياني: 181- 182. قذال: مؤخر الرأس. الحجل: الخلخال، صموتان أي لا صوت لهما. من ملء: من هنا للتعليل أي لأجل ملء رجليها باللحم فلا يتحرك الخلخالان. وقلة منطق: القلة هنا مستعملة في العدم، أي لأنهما لا صوت لهما، مصوغان غير فارغي الوسط.
(2) ديوانه، ق 3/ 45-46. وينظر هامش ص 45 للتعرف على الباعث الآني الذي دفع الشاعر لنظم القصيدة وهو الحرب، والصحوة تشير إلى الاستعداد لخوض الحرب، ينظر: ملامح من صور البناء الفني لقصيدة الحرب (بحث): 107.
عرّى أفراس الصبا: مثل ضربه الشاعر: أي ترك الصبا وركوب الباطل. أقصرت: كفت. سددت علي معادله: أنه كان يعدل عن طريق الصواب إلى طريق الصبا واللهو. الخليط: الصاحب المخالط. المزايلة: المفارقة.(1/47)
يعزف زهير على وتر حزين، وألم ممض لذهاب الشباب، بيد أنه تخفى وراء الصحوة التي فاجأنا بها في أول البيت، ويخبرنا أنه ترك الصبا، بعد أن ذهب شبابه، وكفّ عما عهدته منه سلمى، وعدل عن قصده، وقد دعته العذارى بالعم لكبره، فاستخدم الألفاظ السمعية في الأداء الشعري، في حين انتشرت الأفعال المختلفة في لوحته.
بيد أننا وجدنا الشاعر قد صبّ مشاعره في البحر الطويل الذي احتواها، وقد تشبث بحرف (الصاد) الذي أشاع في تلك الأبيات، لما لهذا الحرف من جرس يتردد فيها، ليمنح الألفاظ قوة الصحوة، وقوة الصبا، وقوة الكف في (أقصر)، وصرامة الاستقامة في (قصد) حتى أصبح لا يعرف إلاّ بخليقته، وهو حكم واقع لأمراء فيه.
كما استخدم زهير حرف (العين) الحلقي المجهور الذي له من القوة المضافة للمعنى، لتقوية الجرس الموسيقي، تلك الأحرف بتناسقها وحسن اختيارها قد شاركت في وضوح الإيقاع الداخلي المنسجم مع الإيقاع الخارجي لتشكيل الصورة السمعية التي برزت بفعل العوامل المختلفة التي أوضحناها، وإن كانت الصورة السمعية مترابطة مع الصور الأخر، لكنها كانت مضيئة كما الشيب.
وإذا ما تتبعنا لوحة الشكوى من الشيب عند الأعشى فسنجد الصور السمعية لها الصدارة، فهي النقطة المضيئة، ويعود السبب إلى الشاعر نفسه، وهو إبراز شاعر بلا منازع غلب الصور السمعية على أشعاره، للتعويض عن ضعف بصره، وامتياز شعره بالغناء، وقد لقب بصناجة العرب، قال الأعشى:
أَلَمْ تَنْهَ نَفْسَكَ عمّا بها ... بلى عادَها بعضُ أطرابِها
لجارتنا إذ رأتْ لِمّتي ... تقولُ لكَ الويلُ أنّى بها
فإنْ تعهديني ولي لمّةٌ ... فإنَ الحوادثَ ألوى بها
وقبلكِ ساعيتُ في رَبْرَبٍ ... إذا نام سامرُ رُقابها(1)
__________
(1) ديوانه: ق 22/ 171.(1/48)
يبدأ الأعشى لوحته مستفهماً، ويجيب بـ (بلى) لإبطال النفي، حيث الشوق يعود إليه ثانية بعنفوانه، مما حدا بجارته بعد أن رأت لمته وقد زالت، أن تقول له: لك الويل، للتقبيح، مستفهمة عن هذا الزوال الذي قبحته.
ونجد استمرار الحديث بينهما، وإن خلا من الألفاظ السمعية الصريحة، مجيباً عما استفهمت عنه بأن الحوادث (ألوت) أي ذهبت بتلك اللمة السوداء، فاختصر المواجع التي أحدقت به بلفظة (ألوى) التي لم يقف أمامها شيء، فالحياة بما فيها هشة لينة أمام الأرزاء والحوادث، ولكن الأعشى سرعان ما يتحول إلى تجارب أُخَر قد خاضها في حياته رداً على تقبيحها للشيب أو زوال لمته، وكيف ساعى النساء بعد نوم السّمار الذين كانوا يجتمعون للحديث، مستعيداً ما كان قد فقده اليوم.
وقد احتوى البحر المتقارب حسن اطّراد أفكار الشاعر ورسم صوره، وأن تكررت أجزاء هذا البحر، ولكنها ضمّت البساطة والسهولة بالرغم من أن القول فيه لغرض الموضوع جاء متلاحقاً في إنشاد ينساب بين السرعة والبطء، تبعاً لما يتطلبه المعنى، ولذا فقد استخدم أصوات اللين الطويلة سواءٌ أكانت في القافية أم في الألفاظ لما فيها من راحة للمنشد، وتوكيد للمعنى مثل: بها تعهديني، جارتنا، ساعيت، نام، سامر، رقادها.
وبالرغم من بروز الصورة السمعية بسبب الموضوع، والاستفهام الذي افتتح به لوحته مما قاده إلى الإجابة عبر منافذ الأداء السمعي أو الإيحائي، فإن صوراً أُخر عبر المدركات الحسية قد تلاحمت لتصوير ما أصاب الشاعر من لوعة، وما تعرض له من تقبيح، ولذا فرّ إلى ماضيه ليرسم صورة سمعية، ولفسح المجال أمامنا لعرض جزء من ذلك الماضي وأخباره ليتوازن نفسياً.
قال المزرد بن ضرار:
صحا القلبُ عن سلمى وملَ العواذل ... وما كاد لأياً حُبُّ سلمى يُزايلُ
فؤاديَ حتى طار غّيُّ شبيبتي ... وحتى علا وخْطٌ من الشيب شاملٌ
فلا مرحباً بالشيب من وفدِ زائرٍ ... متى يأتِ لا تُحجبْ عليه المداخلُ(1/49)
وسقياً لريعان الشبابِ فإنه ... أخو ثقةٍ في الدهر إذْ أنا جاهلُ
إذ اْلهو(1) بسلمى وهي لذٌ حديثُها ... لِطالِبها مسؤولُ خيرٍ فَباذِلُ(2)
إذا ما تأملنا لوحة المزرد فسنسمع جزعه وهو يعلن عزوفه عن صاحبته بلفظة (صحا) التي فرَغت آذاننا بعد أن ودع الشباب، على أن أبياته قد ضمّتِ عدم الترحيب بالشيب، والدعاء للشباب.
وسرعان ما يتخلص الشاعر من ثقل تأثير الشيب، وضيقه منه ومن وفادته، للهرب إلى الماضي، واجتراح مسار آخر في وصف شباب سلمى ولهوه بها، وحديثها الملذ معه، ليبعث صوت الماضي من جديد، بعد أن فقد كل شيء بزوال الشباب، وأن صبّر نفسه بالصحوة، وله من صدى صوت الماضي موقف للشباب القوي بالرغم من تخفيّه وراء الحناء التي تستر شيبه وتخفي شيخوخته، وتبقى أصوات ألفاظه تنبئ عن حالته.
وتتعدد منافذ التعبير السمعية التي تضمنت النداء والدعاء(3)، فضلاً عن القول الصريح نجد صيغاً للألفاظ السمعية مثل العذل والحديث(4) والبكاء على الشباب(5) واللوم والعذل والتصويت(6). ومنهم من يذهب إلى اللوم والعتاب(7).
__________
(1) وردت في المفضليات، المفضلية 17: والهو: وهو أصوب لسلامة الوزن، وإذا ما اعتمدنا رواية الديوان يجب أن نوصل الهمزة ليستقيم الوزن.
(2) ديوانه: ق2/ 32-33. نجد أن الصحوة قادت الشاعر في القصيدة إلى الفخر بشجاعته ووصف سلاحه.
(3) النابغة الذبياني: 184.
(4) طفيل الغنوي: 81-82.
(5) عدي بن زيد: ق 40/ 123.
(6) كعب بن زهير: 41-42.
(7) الحطيئة: ق 14/ 112- 113، ق 28/ 174.(1/50)
النسيب والغزل(1)
__________
(1) ? ... هناك من يفرّق بين النسيب، والغزل، والتشبيب، ومنهم لا يجد فرقاً لتشابكها. وقد فرق قدامة بن جعفر في نقد الشعر: 123-124 بينها، فقال عن النسيب: ذكر الشاعر خلق النساء وأخلاقهن، وتصرف أحوال الهوى معهن، والتهالك في الصبابة، والوجد واللوعة والرقة والخشوع والتشوق والتذكر، وقال عن الغزل: إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء.
وقال ابن سيدة في المخصص: 4/ 54-55:
إن الغزل تحديث الفتيات الجواري، والتغزل تكلف ذلك، والنسيب: التغزل بهن في الشعر، والتشبيب مثله. وجاء في لسان العرب مادة غزل: والغزل حديث الفتيان والفتيات، ومغازلتهن: محادثتهن ومراودتهن، وتغزل أي تكلف الغزل، وقال ابن منظور في اللسان مادة (نسب): نسب بالنساء شبب بهن في الشعر وتغزل، وجاء في مادة شبب في اللسان: تشبيب الشعر: ترقيق أوله بذكر النساء وهو من تشبيب النار، وتأريثها، وشبب بالمرأة: قال فيها الغزل والنسيب، وهو يشبب بها أي ينسب بها، والتشبيب: النسيب بالنساء. وقد استعرض الحوفي في كتابه: الغزل في العصر الجاهلي: 9-14 الآراء المختلفة حول النسيب والغزل والتشبيب والنسيب، متوصلاً إلى عدم وجود فروق بين مدلولات تلك الكلمات، في حين قال الأستاذ الدكتور عادل جاسم البياتي مفرقاً بين المدلولات، النسيب: أن ينسب الشاعر لامرأة بعينها أحبها، أو عرض لها، فإذا اقترن بذكر أحداث أو لقاء يضمنه الشاعر ذكرياته في شبيبته وإن لم يزل شاباً، أو كهولته، أو شيخوخته ذاكراً أيام شبيبته فهو التشبيب، أما الغزل فهو مديح المرأة الذي يتصل بذكر صفاتها الخلقية ومحاسنها الجسمانية، لأن المرأة لا تمدح بما يمدح به الرجل، هذه خلاصة أقوال الأوائل في العديد من المواضع يصعب حصرها مبنية على الشعر الجاهلي لكن الشعراء قبل الإسلام خلطوا هذه الفنون ببعضها، فالشاعر ينسب ويشبه، ويتغزل في وقت واحد، غير أن حدود المصطلح بقيت منظورة إلى أن اختفت معالمها في العصر العباسي. وفي رأي الباحث أن تلك المفردات متشابكة ويصعب الفصل بينها، فكثيراً ما نجد في قصائد الشعراء جميع مدلولات تلك المفردات، وفي القليل النادر من النصوص يخضع لتحديد مدلول مفردة معينة.(1/51)
انتشر الغزل والنسيب في مقدمات خاصة، هي لوحات الافتتاح، وحظيت المرأة بعناية الشعراء، ومالت إليها القلوب فطرة وفتنة وفطنة، ومن هنا فقد عني الشعراء بالجمال، وهو في الغالب محسوس، ولا نعدم وجود الجانب المعنوي.
غير أن الشاعر يصف محاسن المرأة وصفاً حسياً، ولا ننكر أن ما يغلب على وصف الجمال الصورة البصرية، فضلاً عن المدركات الحسية الأخر، ومنها السمعية.
ونجد الغزالي قد أعطى أهمية للمدركات الحسية، وأضاف إليها "البصيرة الباطنة"، القلب، انطلاقاً من النظرة الأخلاقية، وقد تحدث عن كل حاسة، وبيّن أن الحسن لم يكن مقصوراً على البصر، بل تطرق إلى الصوت الحسن(1).
والجمال محسوس متميز في مادته وصورته، تراه العين، أو تسمعه الأذن(2)، في حين يجد بعض الباحثين قلة استخدام حاسة السمع، لأنه غير أساس في جمال المرأة عند الشاعر القديم(3).
وبالرغم من ذلك فإننا لا نعدم وجود الصورة السمعية المتمثلة بالحديث بين الشاعر وحبيبته، وإبداء إعجابه بصوتها الرقيق الجميل الذي يأسر القلب عبر السمع دون البصر لأن الكلمة الأدبية عمل ... تؤدي بجانب معناها النفسي العاطفي معنى صوتياً يتممه(4)، فحديث المرأة وصوتها ينوبان عن ملاحة الوجه ورشاقة القوام(5).
وقد اتخذ بشار بن بُرْد منْ حاسة السمع وسيلة لتذوق الجمال وفهمه، والاستمتاع به مثلها في ذلك مثل العين، فلم لا تعشق الأذن وهي جارحة الجمال الموسيقي(6).
يا قوم أذني لبعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ ... والأذنُ تعشقُ قبلَ العين أحيانا
قالوا بمَنْ لا تَرى تهذي فقلتُ لهمْ ... الأذنُ كالعينِ تُوفي القلبَ ما كانا(7)
__________
(1) إحياء علوم الدين: 4/ 254- 255.
(2) في النقد الأدبي، ضيف: 77.
(3) الأسس الجمالية في النقد العربي: 132.
(4) في النقد الأدبي، ضيف: 75.
(5) رحلة الشعر: 288.
(6) الصورة في شعر بشار بن برد: 188.
(7) ديوان بشار: 4/ 206.(1/52)
ونجد من الشعراء الجاهليين من يجد لذة الحديث الذي ينطقه فم حبيبته(1)، وإن العواطف المتأججة الصادقة التي ضمتها قصائد الشعراء، ما هي إلا إعلان الشاعر عن حبه ومشاعره، وإظهار أصوات نفسه، ونبضات قلبه، حين نجد الحسرة والألم، فينشد شعره في مكان معين بقصد أن يتناهى إلى أسماع حبيبته، وعليه أن يتأنق في اختيار الألفاظ الرقيقة العذبة السلسة، ليشكّل صوراً جميلة معبّرة، في إيقاع منسجم مع مراعاة البحور الشعرية التي تضم تلك المشاعر، وقد قيل إن "المرأة هي الخالقة للقصيدة قبل أن يقولها الشاعر"(2).
قال المرقش الأكبر:
قلْ لأسماء أنجزي الميعادا ... وانظري أنْ تُزودي منكِ زادا
أينما كنتِ أو حللتِ بأرضٍ ... أو بلادٍ أحييتِ تلكَ البلادا
فاربحي أنْ أكونَ منكِ قريباً ... فاسألي الصادرين والورادا
وإذا ما سمعت من نحو أرضٍ ... بمُحَبٍّ قد ماتَ أو قيل كادا
فاعلمي –غيرَ علمِ شكٍ- بأني ... ذاك، وأبكي لمصفدٍ أنْ يُفادى(3)
في هذا الخطاب الشعري نُنْصِتُ للتشكيلات الصوتية في استخدام الألفاظ السمعية (قل، والموعد، والسؤال، والسماع، والعلم، والبكاء) للتعبير عن حالة الشاعر، ونجد الهمزة أول حرف من (أسماء) حبيبته قد انتشر في نسيج القصيدة:
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق5/ 8/ 119، عروة بن الورد: 57.
(2) رمز المرأة في أدب أيام العرب: 80.
(3) المرقش الأكبر: ق 11/ 888. فارتجي في المفضليات، المفضلية: 129.(1/53)
انجزي، أنْ، أينما، أو حللت بأرض أو بلاد، أحييت، أن أكون، فاسألي، وإذا، أو، بأني، أن، فتكرار حرف الهمزة انتشار لنوع من النغم المتجانس مع همزة أسماء) بالرغم من ثقلها، لأن الهمزة صوت شديد ليس هو بالمجهور ولا بالمهموس، والانفراج الفجائي لفتحة المزمار ينتج الهمزة، وفي ذلك جهد عضلي، ولذا تعد من أشق الأصوات، وما انتشارها في نسيج القصيدة إلا التعبير عن حالة الشاعر النفسية في ابتعاد الحبيبة، وما يعانيه من ألم الفراق، فالتجأ إلى التعدد الصوتي من خلال تكرار الأصوات (تزودي- زاداً)، و (اعلمي- غير علم)، وتكرار الأصوات في حرف الحاء (حللت- أحييت)، وتكرار حرف القاف (قل، قد، قيل)، ومن خلال التضاد (الصادرين- الورادا) و (الموت- الحياة).
وتميزت القصيدة بالحركة والأفعال، والنَّفَس المتلاحق بالرغم من صعوبة الهمزة، ولكننا نجد تلك السرعة تقل عند حرف اللين والمد (الألف) في الصوت الأخير (القافية)، وحين نصغي إلى أصوات القصيدة جيداً نجد أن عدم إنجاز (الميعاد) وعدم التزود (بالزاد)، والبعد، ذلك كله يؤدي بالشاعر إلى الموت فالمعادلة هنا إذاً تستجيب لرمز المرأة (الحياة والخصب) وفقدانها يعني الموت، وقد ذكر (أسماء) لكونها رمزاً للخصب بدلالة قوله (أحييت البلادا).
ومن خلال تلك المعادلة تمازجت عند الشاعر البنيتان الصوتية والدلالية لتكوين الصور السمعية التي عبّر من خلالها عن حبه وحياته، وتدفق نبضات قلبه، أو توقفها، وقد استخدم صوراً سمعية في بعض قصائده عبر ألفاظ ذات دلالة سمعية مثل القول والسؤال(1)، والتذكر والحديث(2).
على أن استحضار الصورة السمعية يتعدد بتعدد المفردات المقترنة بالسمع مثل: النداء، والترخيم، والطلب، والسؤال، والمواعيد الكاذبات، والقول، وغيرها، وهذا ما يتجلى في أبيات المثقب العبدي الرائعة التي عكست براعة الشاعر وانفعالاته النفسية:
__________
(1) المرقش الأكبر: ق7/ 882.
(2) المصدر نفسه: ق 12/ 888.(1/54)
أفاطم قَبْلَ بينكِ متّعيني ... ومنعكِ ما سألتكِ أنْ تَبيني
فلا تعدي مواعدَ كاذباتٍ ... تَمُرُّ بها رياحُ الصيفِ دوني
فإني لو تخالِفُني شمالي ... خلافَكِ ما وصلتُ بها يمني
إذاً لقطعتها ولقلتُ: بِيني ... كذلك أجتوي مَنْ يجتويني(1)
وحين يحتدم الشوق، وتنزع النفس للحبيبة، يحاول الشاعر أن يكف كل صوت يحاول أن يسكت صوت الشوق النابع من الأعماق، فكأنه يجيب صوت الفراق بـ (كفى- بلى) لأن طول الشوق ينسيه قول الشعر ونظم القصائد:
كفى بالنأي منْ أسماء كافي ... وليس لحبها إذْ طالَ شافي
بلى أن العزاءَ لهُ دَواءٌ ... وطول الشوقِ يُنْسيكَ القوافي(2)
ومن الشعراء من استخدم القول، والوشاة في هجران الحبيبة(3) وبثها التحية بالرغم من منطق الوشاة لتشكيل الصورة السمعية:
أَلا قُلْ لِتيا قبلَ مِرَّتها اسلمي ... تحية مشتاقٍ إليها مُتَيمِ
على قيلها يوم التقينا ولم يكن ... على منطق الواشين يصرم ويُصْرَمِ(4)
__________
(1) المثقب العبدي: ق هـ/ 28- 29. الاجتواء: لا يستمرئ البلاد.
(2) بشر بن أبي خازم: ق 29/ 142، تميم بن مقبل: ق 36/ 1-2/ 281.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 38/ 178، حاتم الطائي: 24، زهير بن أبي سلمى: ق 21/ 201، أوس بن حجر: ق 30/ 63- 64، قيس بن الخطيم: ق 5/ 101/ 102- النمر بن تولب: ق 7/ 38، أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/ 63- 64.
(4) الأعشى: ق 15/ 119.(1/55)
وقد تعددت منافذ الأداء السمعي فيما يخص الأحبة بما ضمته من القسم والأنباء(1)، واللوم والحديث والذِّكرْ والتّذكر والكلام(2) والحديث(3)، والوشاة والسؤال(4)، والسؤال والحديث والنطق والنداء والمواعيد والقول(5) قول الشاعر والاعتراف، والعلم(6)، والتحية والسلام(7)، والتحية والأصوات والقول والسؤال(8)، والقول والتذمر والسؤال والسمع والعلم(9)، واختلاف الآراء والقول والحداة والتبليغ، والقول والذكر والحديث وصوت الحلي(10).
وإذا لاحظنا الغزل في لوحات الافتتاح فسنجده من قبيل استدراج السامع والقارئ إلى تتبع القصيدة للوقوف على غرض الشاعر، أو تحركه داخل عمله الإبداعي ضمن منافذه العديدة، منها الافتتاح، للتعبير عن عاطفته، أو قد نجد تلخيصاً للغرض الرئيس مكثفاً فيها، أو أنها جزء من بنية القصيدة، أو جسر فني، ذلك كله يخضع للاجتهاد الشخصي، كما يخضع بوعي إلى تطويع تلك المشاعر للتعبير عن مدلول رمزي يرتبط بالغرض الرئيس، والباعث النفسي، والتجربة التي عاش فيها الشاعر.
الفروسية:
__________
(1) السليك بن السلكة: ق 11/ 55، زهير بن أبي سلمى: ق 2/ 31- 32.
(2) الشنفري، المفضلية: 20، المرقش الأكبر: ق 12/ 888، زهير بن أبي سلمى: ق 30/ 223، ق 34/ 239، قيس بن الخطيم: ق 1/ 41-42.
(3) الحادرة: ق 3/ 43- 46.
(4) زهير بن أبي سلمى: ق 21/ 201، كعب بن زهير: 200-201.
(5) المثقب العبدي: ق هـ/ 28، قيس بن الخطيم: ق 5/ 101-109.
(6) بشر بن خازم: ق 29/ 142.
(7) النابغة الذبياني: 325.
(8) الأسود بن يعفر: ق 49/ 53-54.
(9) المرقش الأكبر: ق 7/ 882، ق 11/ 888، بشامة بن عمرو، المفضلية: 10، كعب بن زهير: 122-123.
(10) زهير بن أبي سلمى: ق 5/ 78-80، ق 28/ 217-218.(1/56)
الفروسية والكرم صفتان متلازمتان، ومن هذا المنطلق فإننا نجد الشعراء الفرسان الأجواد قد افتتحوا قصائدهم بالعاذلة، لأنهم الصيغة الأكثر ملاءمة لتجاربهم، والأقدر على تهيئة أرضية نفسية منفتحة لتقبل ما يودون طرحه(1)، حيث يفتح الشاعر حواراً بينه وبين زوجه التي جردها من نفسه ليستمع إلى صوتين متنافرين، صوت النفس، وصوت التقاليد والأعراف، فيضعنا أمام صورة سمعية خارجية، ابتداء من الألفاظ (العذل، اللوم، السؤال، النداء، الاستفهام)، إلى الفعل والحركة عند الحوار، والأصوات الداخلية (التنازع بين صوتين).
__________
(1) ينظر دراسات في الشعر العربي القديم: 88، فيه دراسة قيمة عن المرأة في البناء الفني لقصيدة الفرسان والأجواد في العصر الجاهلي.(1/57)
وقد صوّر الشعراء بشكل عام موقفهم من العاذلة عبر حواراتهم في لوحات لاحقة للافتتاح، لينفردوا بصورة التضحية بالنفس والمال، وليبقوا في موقف المفاخرة بالرغم من هواجس الخوف التي تنتابهم على حياتهم(1)، على أن العذل في مجال التبذير من وجهة نظر العاذلة، والكرم من وجهة نظرهم قد كان المنفذ للإطلالة على الفخر الشخصي عند الشعراء بعامة(2).
تلك الأفكار أساساً وردت عند الشعراء والفرسان والأجواد في قصائدهم وخاصة في مفتتح تلك القصائد، وهذا عروة بن الورد يصور لنا حالته النفسية في حوار مع عاذلته:
أقلّي عليَّ اللومَ يا بنتَ منذرٍ ... ونامي وإنْ لم تشتهي النومَ فاسهري
ذَريني ونفسي أمَ حسّانَ إنني ... بها قبل أنْ لا أملك البيعَ مُشتري
أحاديث تبقى والفتى غيرُ خالدٍ ... إذا هو أمسى هامةً فوق صَيِّرِ
تُجاوبُ أحجارَ الكناسِ وتشتكي ... إلى كلِ معروفٍ رأتهُ ومنكرِ
ذريني أُطَوِّفْ في البلاد لعلّني ... أخلّيكِ أو أغنيكِ عن سوءِ محضري
__________
(1) طرفة بن العبد: 29، عدي بن زيد: ق 4/ 7/ 43، عنترة العبسي: ق 6/ 17/ 19/ 251-252، دريد بن الصمة: ق 19/ 60، ق 25/ 68، ق 47/ 96، لبيد: ق 14/ 107-110.
(2) أبو دؤاد الإيادي: ق 65/ 346، عبيد بن الأبرص: ق 41/ 106- 108، طرفة بن العبد: 28-29، السموءل: ق 6/ 15-16، حاتم الطائي: 17-19، 24، 39، 44، 50، عمرو بن كلثوم: ق 14/ 1-2/ 9، المرقش الأصغر: ق 5/ 543، عروة بن الورد: 33، 43، الأسود بن يعفر: ق 11/ 24، زهير بن أبي سلمى: ق 36/ 1/ 242، قيس بن الخطيم: ق 15/ 2-3/ 181، المخيل السعدي: ق 32/ 35/ 131، المزرد بن ضرار: ق 16/ 68، النمر بن تولب: ق 7/ 39- 40، عمرو بن شأس الأسدي: ق 4/ 32/ 48، كعب بن زهير: 128، أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/ 21، 123، ربيعة بن مقروم: ق 12/ 1/ 26، لبيد: ق 10/ 1/ 70، ق 14/ 107- 110، ق 35/ 58/ 246، ق 44/ 15/ 291.(1/58)
فإنْ فازَ سهمٌ للمنيةِ لم أكنْ ... جزوعاً وهل عن ذاكَ منْ مُتَأَخَّرِ
تقول لك الويلاتُ هل أنتَ تاركٌ ... ضُبُؤاً بِرَجْلٍ تارةً وبِمنْسَرِ(1)
شكل الشاعر صوره السمعية المتعددة من خلال منافذ الأداء السمعي الصريحة وغير الصريحة (اللوم، الحديث، القول)، والاستفهام، والنداء، والجواب فضلاً عن الأفعال المتعددة التي تدل على الصوت الآمر مثل: أقلّي اللوم، نامي، اسهري، ذريني.
إننا نسمع الحوار، محاولاً عروة إقناعها بصواب مسلكه، وما اختطه لنفسه، لإسكات صوت عذلها، على أن المسمع يدور في الليل بدلالة طلب النوم، أو السهر، محاولاً نصحها متشبثاً بموقفه، ولا تبقى سوى الأحاديث التي تخلده إذا ما مات وانتهى وصار هامة تجاوب أحجار الكنائس بالصدى، وتشتكي إلى كل معروف أو من تنكر، وإن في غزوه إغناء لها عن المسألة.
واستخدم الشاعر الهمزة بكثرة في قصيدته، وهو صوت بين الجهر والهمس، بيد أنه صوت قوي شديد جاء متساوقاً مع شدة الموقف الذي هو فيه، في مثل قوله: (أقلّي، أم، لا أملك، أحاديث، إذا، أحجار، أخلّيك، أكن، متأخر، أدبار ... الخ)، على أن أصوات النون والميم قد دخلت نسيج الأبيات، وخاصة الميم مع حرف الروي (الراء) مما أسبغت تلك الأصوات جرساً قوياً على الأداء الإيقاعي الداخلي لتقوية الصور المعنوية والسمعية.
على أن عروة بن الورد يسمعنا صورة أخرى تطلب منها زوجه أن يقصر عن الغزو، بيد أنه يشتكي من قولها بطرف أحور واسع، ويخبرها أنه أعد العدة لغزوة، أو معركة يخوضها ويغنيها عن رجع اللام:
__________
(1) عروة بن الورد: 66- 68. صَيِّر: حجارة، الكناس: موضع. ذريني أطّوف: أي أسير في البلاد. أخليّك: أي أقتل عنك. الضُبؤ: اللصوق بالأرض، يريد أنه يضبأ بالنهار ليخفى ويسري بالليل. فتقول هل أنت تارك أن تغزو مرة بقومٍ على أرجلهم فتغير، ومرة على خيل وهو المسر وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين.(1/59)
تقول: ألا أقصرْ من الغزو واشتكي ... لها القول طرفٌ أحورُ العين دامعُ
سأغنيكِ عنْ رَجْعِ المَلامِ بمُزْمعٍ ... منَ الأمرِ لا يعشو عليهِ المطاوعُ(1)
استخدم عروة القول، والملام، والشكوى، والأمر، وتكرار بعض الأصوات مثل (القاف) و (العين) مما أدّى إلى إحداث التناغم بين الأداءين المعنوي والصوتي، وتشكيل الصورة السمعية التي قادت إلى تشكيل صورة بصرية إلى جانبها وقد تعامل الشاعر مع صورته بقدرة فنية.
وفي الإطار نفسه نجد عامر بن الطفيل ينقل لنا صورة سمعية يخاطب فيها زوجه العاذلة دون ذكر لفظة العذل أو اللوم، بيْدَ أنه استخدم الألفاظ الاستفهام والسؤال الصريحة، وما يترتب عليها من أداء لتشكيل الصورة السمعية من خلال المعركة التي حدثت، وعلتْ فيها الأصوات، وانطلق السؤال عن الفارس الذي كان شديداً على القوم ويخاطبها بالقول: لا بد أنك سألت وعرفت، وكرري السؤال.
إن تكرار ألفاظ الاستفهام والسؤال مع تكرار حرف السين أدى إلى تحقيق نغمة عالية لتجانس تفعيلات البحر الكامل ذات الإيقاع المتواصل بما ينسجم وصورة الفخر بنفسه، قال عامر بن الطفيل:
هَلاّ سألتِ بنا وأنت حَفِيَّةٌ ... بالقاع يومَ تَوَرَّعَتْ نَهْدُ
أيُّ الفَوارس كان أنهكَ في الوغى ... للقوم لمّا لاحها الجُهْدُ
هذا مقامي قد سألتِ وموقفي ... وعنِ المسيرِ فسائلي بَعْدُ
اسألتِ قومي عنْ زيادٍ إذْ جَنى ... فيه السِّنانُ وإذ جَنى عَبْدُ(2)
ونسمع صورة أخرى شكلها عامر بن الطفيل أيضاً، حيث تلومه عرسه، بيد أنه يعلن فخره بشجاعته وكرمه من خلال الألفاظ التي استخدمها (تعلم، اللوم، القول) فضلاً عن الأفعال والحركة مثل: الجري، والفعل (قلقت) المتحركة المصوتة، قال عامر:
__________
(1) عروة بن الورد: 99.
(2) ديوانه: 41-44. الحفية: المبالغة في الإكرام والبر. تورعت: جبنت وتجنبت الحرب، نهد: قبيلة من قضاعة، أنهك: أشد. لاحها: غيرها. الوغى: الصوت في الحرب.(1/60)
لقد تعلم الخيل المغيرة أننا ... إذا ابتدر الناسُ الفَعالَ أسودُها
على رَبذٍ يزدادُ جَوْداً إذا جرى ... وقد قَلِقَتْ تحت السّروجِ لُبودُها
وقد أصبحتْ عِرسي الغداةَ تَلُومني ... على غيرِ ذَنْبٍ هَجْرُها وصُدودُها
فإنّي إذا ما قلتُ قوليَ فانقضى ... أتتني بأخرى خُطّةٌ لا أُريدُها(1)
في حين استخدم الشاعر بعض فنون الأداء الصوتي من خلال انبثاق بعض الأصوات مثل تكرار (القاف) الذي منح النسيج الشعري جرساً صوتياً عالياً مع تكرار بعض الألفاظ لتأكيد النطق والسماع، ممّا أتاح للشاعر فرصة الكشف عن الحالة النفسية لإثبات شجاعته من خلال صورة الخيل المغيرة بفرسانها في سرعة جرّاء النشاط، وقد ماجت اللبود، وفي قصيدة أخرى له لم يخرج عن صيغة السؤال، وأن المرء غير مخلّد(2).
ويفخر دريد بن الصمة بشجاعته، وعاذلته تلومه على خوض الحرب، في حين أنه يسارع إلى نجدة المستنجد به:
أعاذل إنّما أفنى شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المُنادي
أعاذل عدّتي بدني ورمحي ... وكلّ مقلص شكس القيادِ(3)
وقد تشكلت الصورة السمعية من الألفاظ الصريحة: العذل، والصريخ، والمنادي، مع استخدام الأفعال التي تقتضي الصورة أنْ تتشكل منها، مع المجانسة الصوتية التي يستدعيها الاختيار اللفظي، لنسمع الصورة التي تبرز شجاعة الشاعر، ويفخر بها، على أن البحر الوافر قد استوعب انفعاله واحتدام الزخم النفسي مع المسارعة إلى النجدة.
ويتكرر لوم عاذلته له على مخاطرته في الحروب، وهو يرجو أَلاّ تُلّح عليه في ذلك، وتتشكل الصورة السمعية من خلال الألفاظ التي لا تتعدى (اللوم والعذل والاستفهام، وبعض الأفعال) وفي إطار البحر الوافر الذي منحه الحماسة والضغط على الأصوات لتأكيد المعاني، وتقوية النغم:
أَلا بَكَرتْ تلومُ بغيرِ قَدْرٍ ... فقد أحفيتني وَدَخَلْتِ سِتري
__________
(1) عامر بن الطفيل: 45-47. الخطة: الأمر. ربذ: سريع. الجود: الجرى.
(2) عامر بن الطفيل: 55.
(3) ديوانه: ق 19/ 60.(1/61)
فإنْ لم تتركي عذلي سَفاها ... تُلمْكِ عليَّ نَفْسُكِ أيَّ عَصْرِ
أسَركِ أنْ يكونَ الدهرُ سَدّى ... عليَّ بِشَرِّهِ يعدو ويَسري
وألاّ تُرزئي نَفْسَاً ومالاً ... يَضُرُّكِ هُلْكُهُ في طولِ عُمْري
لقد كذبتكِ نفسُكِ فاكذبيها ... فإنْ جزعاً وإنْ إجمال صَبْرِ(1)
وقال دريد بن الصمة مفتخراً بشجاعته وكرمه:
أعاذل كم من نار حربٍ غشيتها ... وكم ليَ منْ يومٍ أغَرَّ مُحَجَّلِ
وإنْ تسألي الأقوامَ عني فإنني ... لمشتركٌ مالي فدوتكِ فاسألي
وما كسبت المال إلاّ لبذلهِ ... لطارقِ ليلِ أو لعانٍ مُكبَّلِ(2)
استخدم الشاعر الألفاظ الصريحة مثل (العاذل- السؤال) فضلاً عن الاستفهام، وتكرار الألفاظ لتقوية النغم في إبراز الصورة الشعرية التي اشتركت فيها بعض المدركات الحسية إلى جانب حاسة السمع، فالصورة متفاوتة في فنيتها، وقد جمعت بين الشجاعة والكرم، وتوزعت الصورة حاسة البصر (نار حرب غشيتها) وسمعية تقريرية من خلال القول والعذل، والأخرى (لطارق ليل أو لعان مكبل).
وفي إطار العاذلة في مجال الكرم وإتلاف المال قال حاتم الطائي:
مهلاً نوار أقلّي اللومَ والعَذَلا ... ولا تقولي لشيءٍ فات ما فَعَلا
ولا تقولي لمالٍ كنت مهلِكهُ ... مهلاً وإنْ كنتُ أعطي الجنَّ والخَبَلا
لا تعذليني على مالٍ وصلتُ بهِ ... رحماً وخير سبيل المالِ ما وَصَلا(3)
__________
(1) دريد بن الصمة: ق 47/ 96.
(2) المصدر السابق: ق 25/ 68.
(3) ديوانه: 39.(1/62)
نجد الحوار قام على الألفاظ السمعية الصريحة (اللوم، العذل، القول) فضلاً عن الأفعال تكرار الألفاظ، وإيقاع البحر البسيط ذات النغم العالي المتوتر الذي حمل عنف الحالة النفسية للشاعر، فكانت الصورة السمعية بهذا الاتجاه نحو المعنى والحوار أكثر من تشكيل صورة فنية، ومرد سبب ذلك إلى كون الأبيات تخرج إلى الحكمة ضمن تقرير حقيقة تهتم بالمعنى أولاً دون العناية بالصورة الفنية، ولا يخرج في أبيات له عن العذل واللوم والقول (وعاذلة هبّت بليل تلومني)(1)، وقد جرّد من نفسه عاذلتين هبتا تلومان(2).
وقال عمرو بن كلثوم:
بكرت تعذلني وَسْطَ الحِلال ... سَفَهاً بنتُ ثُويرِ بنِ هلالِ
بكرتْ تعذلني في أنْ رأتْ ... إِبلي نهباً لِشَرْبٍ وفِضال
لا تلوميني فإنيّ مُتْلِفٌ ... كُلَّ ما تحوي يميني وشمالي
لستُ إنْ أطرفتُ مالاً فَرِحاً ... وإذا أتلفتهُ لستُ أُبالي
يُخلِفُ المالَ فلا تستيئسي ... كرّيَ المُهْرَ على الحيّ الحِلالِ
وابتذالي النفسَ في يوم الوغى ... وطِرادي فوقَ مُهري ونزالي
وسمّوي بخميسٍ جَحْفَلٍ ... نحو أعدائي بِحَليّ وارتحالي(3)
نجد في قصيدة عمرو بن كلثوم استخدام التكرار في الألفاظ السمعية (تعذليني، تلوميني) وتكرار لفظة المُهر، واستخدام التضاد (حَلّي وارتحالي) مع تكرار أصوات الحروف مثل الحاء في (الحِلال، تحوي، فَرِحاً، الحيّ، جحفل، حَلّي، وارتحالي) مما أشاع ذلك نغماً متساوقاً مع إيقاع بحر الرمل ذي النغمة العالية، وإنَ فخر الشاعر بكرمه قاده إلى الفخر بخوضه الحرب، وما يصاحب النزال من جلبة وأصوات، فتارة تتشكل الصورة السمعية من الإيقاعين الخارجي والداخلي، وتارة من التخييل، فضلاً عن الأداء الصوتي باتجاه تحقيق الغرض الذي يتوخاه الشاعر.
__________
(1) حاتم الطائي: 19 وينظر تحليل الصورة في الفصل الرابع من كتابنا.
(2) المصدر نفسه: 17 وينظر تحليل الصورة في الفصل الرابع من كتابنا أيضاً.
(3) عمرو بن كلثوم: ق 4/ 9.(1/63)
ونسمع لائمة عروة بن الورد يتعالى صوتها لتخويفه من الأعداء، وتطلب منه الإقامة التي تّسرها:
أرى أمَّ حَسّانَ الغداةَ تلومني ... تُخوفني الأعداءَ والنفسُ أخْوَفُ
تقول سليمى لو أَقمتَ لَسرَّنا ... ولم تَدْرِ أنَّي للمُقام أطوّفُ(1)
أقام عروةُ الصورة على الصوت، والحركة المتمثلة بالطواف، واستخدام الضاد (الإقامة- الطواف)، وقد كرر لفظة (تخوفني- أخوف) مما أبرز صورة الصراع من خلال تنويع الأداء الصوتي اللفظي الصريح، والنغم الداخلي المتمثل بالجرس الموسيقي من خلال تكرار حرف القاف في (تقول، أقمت، للمقام)، وكذلك صوت الفاء في (تخوفيني، النفس، أخوف، أطوف) ممّا أدّى هذا التنوع في الجرس الموسيقي، إلى ضرب من الاختيار اللفظي بما ينسجم وعدم استقراره.
ويتعرض خفاف بن ندبة السلمي إلى لوم عرسه، بل إلى الأساءة، لأنه افتقر، وقد أهلك ماله بالكرم والشراب، وما ينفقه من أموال حيث ينقد تجار الخمور، وأن كرمه يمنع الإبل مَنْ أنْ تتكاثر، أو صغار الإبل أن تنمو:
أَلا تلكِ عرسي إذا أمْعَرَتْ ... أساءَتْ ملامَتنا والإمارا
وقالت أرى المالَ أهلكته ... وأحسبه لو تراهُ مُعارا
ويمنع منها نماء الإِفال ... نسيئي القِداح ونقدي التّجارا
وقول الألدّةِ عندَ الفصالِ ... إذا قمتْ لا تتركنّا حرارا(2)
فاللوم، والعذل، وأصوات القِداح، وأصوات الدراهم التي ينقدها للتجار يشكّل صورة سمعية برزت على الصور الحسية الأخر، على أن تكرار بعض الأصوات مثل الراء، والقاف، وتكرار بعض الألفاظ قد منحت الأبيات بعض الحماسة المتساوقة مع المتقارب للتعويض عن رتابة الأبيات.
الحكمة:
__________
(1) ديوانه: 107.
(2) خفاف بن ندبة السلمي: ق 14/ 77.(1/64)
للحكمة أثر بالغ في حياة الأمم والشعوب، ولا تنبثق إلاّ من التجارب الحيوية المختلفة، والشعراء الجاهليون كانت لهم القدرة الكبيرة على إيجاد الحكم سواء أكانت مستمدة من تجاربهم، واستخلاصها بدافع الحاجة إليها من مواقف الحياة، أم أنهم استخلصوها من أحداث الماضي وأخبار القرون الخالية لتكون عبرة لهم، ولا نعدم وجود بعض الخطرات التأملية التي صاغوا منها بعض الحكم، وقد انتشرت في أشعارهم، وخاصة في لوحة الغرض، أو يختتمون بها قصائدهم، كما وردت في الرثاء لاستخلاصها من الحياة والموت.
بيد أن الحكمة في مقدمات القصائد لم ترد بتلك الكثرة، بالرغم من وجود بعض القصائد القائمة بحد ذاتها على الحكمة، على أن منافذ الأداء السمعي فيها ليست بتلك الكثرة التي تشكل صوراً سمعية بارزة، بل تخلو حتى من الصور العامة إلاّ ما ندر، ويشيع الجفاف فيها، أو قل إنها تخلو من الشاعرية في أحايين كثيرة، إذ يتوخى الشاعر منها إيصال الحكمة وليس فيها من الشعر إلاّ الوزن، وقد تنسجم وحالة بعض المتلقين لموقف معين، ويبطل تأثيرها.
وقد تعددت موضوعات الحكمة، ففي صلاح الرأي والرشد قال الأفوه الأَودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
تلفى الأمور بأهلِ الرُشد ما صلحت ... فإن تولوا فبالأشرارِ تنقادُ
كيف الرشادُ إذا ما كنتَ في نَفَرٍ ... لهم عن الرشد أغلالٌ وأقيادُ
أعطوا غواتهم جَهْلاً مَقادَتهم ... فكلّهُمْ في حبالِ الرأي مُنقادُ(1)
بالرغم من خلّو تلك الأبيات من الألفاظ السمعية الصريحة في نسيجها، إلاّ أن مؤداها الذي اتخذ صيغة النطق والسمع والفعل ضمناً، والاستفهام ظاهراً منحها صيغة الأداء السمعي وضمن المدركات الحسية المختلفة بما فيها أصوات الأغلال والقيود والرأي، كما أن تكرار الألفاظ والإيقاع الخارجي أدّى إلى أن نتجه إلى الصورة السمعية في أدائها الصوتي العام.
__________
(1) الطرائف الأدبية: ق (ز)/ 10.(1/65)
وتتخذ النصيحة موقف الحكمة، وتتسرب إليها، حيث ينصح الشاعر بعدم الاهتمام بالحسّاد، وقد تعددت ألفاظ الأداء السمعي (شاكر، عابه، هاذ) وليس للحسود إلاّ لسانه المؤذي، حيث يقول الأفوه الأودي:
الخِلُّ راضٍ شاكر في عهده ... وعدّوه المقهور منه آذِ
إن عابهُ الحساد لا تعبأ بهم ... في هذه الدنيا فكم منْ هاذِ(1)
لم يخرج البيتان على النصيحة في القول والسماع، وفي إطار الحكمة في جانب تقبل العذر نجد ألفاظ الأداء السمعي مثل العذر والملامة(2)، ومن لا يتق الذم يذمم(3)، وعن الوعد وأخلاقه لا تتعدى الألفاظ السمعية فيه (لا) و (نعم)، والندم والذم(4)، وفي اجتناب الأخلاق السيئة نجد الألفاظ السمعية التي هي من صلب الهجاء (العيب) فضلاً عن أفعال الأمر(5).
وفي مجال إفشاء السر والابتعاد عن الشكوى الكثيرة قال عدي بن زيد:
ولا تفشين سرّاً إلى غير حرزةٍ ... ولا تكثر الشكوى إلى غير عابدِ
ومعذرة جرّتْ إليكَ ملامةً ... وطارف مالٍ هاجَ إتلافَ تالِدِ(6)
بالرغم من أن ألفاظ الأداء السمعي قد تعددت من خلال (تفشيّن سراً، الشكوى، المعذرة، الملامة) والأفعال التي انتشرت في البيتين، تبقى الحكمة تقريرية، مفتقرة إلى الحس الشعوري، وينطبق هذا الرأي على حكمة أمية بن أبي الصلت في الاتجاه نفسه:
بالحزمِ تظفر قبلَ الَبْأسِ والجلدِ ... والحزم بالرأي تجنيه مدى الأَبدِ
والرأي تحصين أسرارٍ تروم بها ... إدراكَ حاجك في قربٍ وفي بعدِ(7)
لا نعدم وجود ألفاظ الأداء السمعي داخل البيتين، ولا الإيقاع الخارجي (الوزن)، ولا تكرار الألفاظ التي تساعد على تقوية النغم.
__________
(1) الطرائف الأدبية: ق (ط)/ 11.
(2) المصدر نفسه: ق (دى)/ 15، ق (ز ى)/ 19.
(3) المثقب العبدي: ق (و) / 46.
(4) المصدر نفسه: ق (و)/ 45.
(5) عدَي بن زيد: ق 52/ 129.
(6) ديوانه: ق 19/ 97.
(7) أمية بن أبي الصلت: ق 37/ 204.(1/66)
ومن الموضوعات التي تطرقَتْ إليها بعضُ مقدمات القصائد: عدم طلب شيء فات، ولا تخرج هذه الحكمة على ألفاظ الأمر، والإلحاح(1)، وألفاظ (البكاء) على الشباب الذي لا يعود(2)، وأفعال الأمر في إكرام الجار(3)، والشتم والكلام السيء، والصمم في موضوع الرياء(4)، والسؤال في الحث على العلم(5).
ومن الحكم المتداولة عن بعض الشعراء أن الحذر لا يقي من الحتف والمنية، وأن الموت لا بد آت لا محالة، عبر ألفاظ النداء والاستفهام والعلم، قال الشنفري:
يا صاحبيَّ هل الحذارُ مُسلِّمي ... أو هلْ لحتفِ منيّةٍ منْ مَصْرفِ
إنّي لأعلمُ أنَ حتفي في التي ... أخشى لدى الشُربِ القليل المُنْزِفِ(6)
إننا نجد لمسة فنية وصورة متداخلة قياساً إلى ما مَرَّ من شعر ليس فيه إلاّ الفكرة والوزن وبعض الألفاظ السمعية.
في حين لا نجد عند عدي بن زيد في فكرة الزوال والإشراف على الهلاك إلاّ لفظة (فليحدث نفسه)(7)، ولا نجد في الموضوع نفسه سوى تكرار ألفاظ (الحديث، الوعد، الوعيد)(8)، وسوى أفعال الأمر (اجعل واحذر)(9).
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
أمِنَ المنون وربيعها تتوجَعُ ... والدهرُ ليس بمعتبٍ مَنْ يجزعُ
وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها ... الفيتَ كلَ تَميمةٍ لا تنفعُ
ولقد أرى أنَ البكاءَ سفاهةٌ ... ولسوف يُولَعُ بالبكا مَنْ يُفْجَعُ
وليأتين عليكَ يومٌ مَرّةً ... يُبكى عليك مُقَنّعاً لا تَسْمَعُ
والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها ... وإذا تُرَدُ إلى قليلٍ تقنَعُ(10)
__________
(1) عدي بن زيد: ق 26/ 116.
(2) عدي بن زيد : ق 40/ 123.
(3) المثقب العبدي: ق (و)/ 46.
(4) المثقب العبدي: (ق) (و) 46.
(5) أمية بن أبي الصلت: ق 135/ 309.
(6) الطرائف الأدبية: ق (دى)/ 39. و ينظر الأفوه الأودي، الطرائف الأدبية: ق (طي) 21.
(7) عدي بن زيد: ق 15/ 1.
(8) المصدر نفسه: ق 39/ 122.
(9) أمية بن أبي الصلت: ق 76/ 246.
(10) أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/ 1-3.(1/67)
أبيات أبو ذؤيب تفيض ألماً ورقّة، واستفهامهُ وتوجعُهُ يُثيران تعاطفاً معه واستسلاماً للألم العميق الذي لا دفع له، والدهر ليس براجع عمّا تكره لِما تحب.
إن مشاعر الألم الدفين لدى الشاعر انعكست على ألفاظه، حتى لنسمع كل نأمة في هيكل الشاعر الدامي، ونكاد نسمع نبضات قلبه، بيد أنه يحاول أن يخفي الفجيعة بما أسبغه من حكمة يرتفع فيها من التوجع العلني إلى صوت التأسي الشفيف في وقار الحكماء، فهو في صراع، وينبثق في أعماقه صوتان، صوت الألم، وصوت الوقار والحكمة.
صوت الحكمة يجد طريقه إلى الخارج في نصيحة اتجهت في مسارب الحكمة، يفعمها صوت الاستفهام الممتزج بالتوجع، والعتاب، والبكاء، وكلها أصوات تعبّر عن الفجيعة لا تدفع قَدَراً، ولا تعيد الذين رحلوا إلى العالم الآخر، ومن رحل لا يسمع البكاء.
على أن الأفعال، وتكرار الألفاظ قد أدّت دورها إلى جانب الألفاظ السمعية الصريحة، فتشكلت الصورة السمعية وبجانبها صورة حسية أخرى اتخذت من الاستعارة المكنية أساساً لها، وإن تكرار أصوات الحروف مثل (العين) أدّى إلى إشاعة النغم الحزين المتآلف معنى وصوتاً، وقد استوعب البحر الكامل تلك المشاعر الحزينة، وتنغيمها بين الشجو والانكسار النفسي وبين الحكمة الهادئة، ولا يخفى أن صوت الرّوي (العين) المضموم المشحون بالموسيقى المتدفقة من موسيقى النفس ونبضات القلب قد تكثف فيه المعنى وإيقاع الألم.
ومن الملاحظ أن هذه الحكمة في إطارٍ من الفنية إنما انبثقت من الرثاء الصادق، ومن أب مفجوع فقد أبناءه، ولذلك اتسمت هذه القصيدة بالذات بالشهرة الواسعة لجودتها، وتأثيرها.
وقال الربيع بن زياد في الحكمة التي تعبّر عن الأنفة والامتناع عن الضيم:
الحربُ أحلى إذا ما خفتَ نائرةً ... من المقام على ذلٍّ وتصغير(1/68)
فَأذَنْ بحربٍ يغصُّ الماء شاربها ... أو أنْ تدين إلى إحدى التحاسيرِ(1)
الحرب بآلامها وويلاتها شديدة الوقع، مُرة، لا تستساغ هي أهون مِنْ أنْ يكون مقام المرء على ذلٍ ومسكنة وتصغير شأن، أو أنْ يلتجئ المرء إلى إحدى الدواهي، فالحكمة التي استنتجها الربيع بن زياد شكلت صورة الحرب، وهولها، وهول الذل والمسكنة، وأن أهون الأمرين أن يؤذن المرء بحرب، فصوت النداء للحرب يستدعي تحفيز الذهن لذلك، فتتداعى المعاني والصور وتتجسد مأساة الحرب، وذلك كله عند الشاعر أهون من الضيم، فسلط الشاعر على حكمته وانفعالاته الخفية التي تعتمل بأعماقه، وترك لنا الخيار بين الحرب والنائرة والذل والتسليم إلى إحدى الدواهي، وهي أصوات تتصارع داخل الإنسان، على أن فروسية الشاعر تأبى ذلك، ومن هنا كان اختياره لخوض الحرب، وأن صوت (الحاء) المتكرر قد منح البيتين جرساً خاصاً يتساوق مع التأنق في اختيار الألفاظ التي تجعل (الحرب أحلى)، وقد استوعب البحر البسيط الفكرة التي تدعو إلى التمسك بالرجولة والامتناع عن الضيم.
أما فيما يخص الحكمة المستمدة مِنْ أخبار الماضين، واستخلاص العبرة منها فقال عدي بن زيد:
يوم يقولون يالَ بربر والـ ... يكسومَ لا يَفْلِتَنْ هاربُها
وكان يوماً باقي الحديث وزا ... لتْ إِمّةٌ ثابِتٌ مراتِبُها(2)
إن (القول) و (الحديث) مدار الصورة السمعية المفردة البسيطة في هذين البيتين في إطارٍ من التقريرية، فالقول ينبئنا عن الموت الذي لا يفلت منه أحد، حتى الهارب منه لا يفيده هربه، ويبقى الحديث بعدهم عن زوال النعمة والمراتب بقصد التوعية المستمرة.
__________
(1) دراسات في الأدب الجاهلي، الجزء الثاني: ق 6/ 327. نأرت نائرة في القوم، هاجت هائجة. والنائر: الملقي الشرور بين القوم. التحاسير: الدواهي.
(2) ديوانه: ق 5/ 45- 49.(1/69)
في حين يتناول لبيد بن ربيعة الموضوع نفسه (العظة بالماضي) حيث تتشكل الصورة من السؤال والاستفهام، والقول الصريح، والعلم، وحديث النفس، والموعظة، ومن الأفعال المختلفة، وعلى قَدْر من الفنية.
وساهم البحر الطويل باستيعاب الفكرة المتأملة، والعبرة المستخلصة في إيقاع خارجي انسجم مع صوت اللام المجهور المنتشر في نسيج الأبيات، والروى المضموم انسجاماً مع التحذير والعظة، كما أن تكرار الألفاظ أدّى إلى التوافق النغمي لتقوية الجانب الصوتي، فضلاً عن تكرار بعض الأصوات مثل (الميم) المجهور، مع (الهمزة) الذي لا هو مجهور ولا مهموس، حيث شَكّلا نغماً قوياً تحذيراً للنفس، وتنبيهاً لكل حي، وإِشعاراً بنهاية كل حي، حيث قال لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاولُ ... أَنَحْبٌ فيُقضى أمْ ضلالٌ وباطلُ
حبائله مبثوثةٌ بسبيلهِ ... ويفنى إذا ما أخطأته الحبائلُ
إذا المرءُ أسرى ليلةً ظنَ أنّهُ ... قضى عملاً والمرءُ ما عاشَ عاملُ
فقولاً له إنْ كان يَقْسِمُ أمْرَهُ ... ألّما يَعِظْكَ الدهرُ أمّكَ هابلُ
فتعلم أنْ لا أنتَ مدركٌ ما مضى ... ولا أنتَ ممّا تحذرُ النفسَ وائلُ
فإنْ أنتَ لم تَصْدُقْكَ نفسُكَ فانتسبْ ... لعلكَ تهديكَ القرونُ الأوائل(1)
((
المبحث الثاني
(الرحلة)
رحلة الظعائن:
للرحلة بواعث ودواع اجتماعية، وبيئية، واقتصادية، فيظعن من جرائها قوم، ويقيم آخرون، فتنشر الفرقة ظلالها على أديم الأرض، فتدمى القلوب، وتفيض ألماً وحسرة لفراق الأحبة.
__________
(1) لبيد بن ربيعة: ق 36/ 254- 255.(1/70)
وتتخذ مشاهد التحمل والارتحال صوراً شتى، تعكس الجوانب النفسية والعاطفية، فضلاً عن الجانب الفني، فيصورها لنا الشعراء مشاهد حية نسمعها من نبضات قلوبهم، ونحسها من خلال فيض أشواقهم الدافقة، وهم يتحدثون عن الحمول الظاعنات، والهوادج الراحلات، والحبيبات اللواتي يَمَّمن شَطْرَ ديار نائية، وقد خلّفن قلوباً أمست نهباً للهواجس والحرمان، متشوقةً للملتقى، وقد أرمضتها شمس الصحراء، وهن في حد وجهن، يختلسن النظرات إلى الأحبة من فتحات الهوادج.
ويقف الشاعر ذاهلاً، يملأ خافقه بلوعة الفراق، متتبعاً ركب الحبيبة التي تنكبت لحبه، وصرمت حبل الوصل بينهما، فتقطع الود، عندها تنفلت الانفعالات بفرحها وحزنها لتصوير الحالة بما يستدعيه الموقف، وما يستدره من براعته الفنية وقدرته الشعرية على التخيل، والتأمل، وكد الذهن حسب الموقف استقراراً، أو اضطراباً.
وقد آثرنا تناول الظعائن بعد لوحات الافتتاح لكثرتا وتنوعها، وعدم تناولها ضمن لوحات الافتتاح لقلتها وصورها المحدودة التي لا تخرج عن التساؤل في أغلبها(1).
وقد اتجه الظعن عبر مشاهد التحمل والارتحال إلى خطوط عامة لإبراز الصورة السمعية حيث تمثلت إبتداءً بالتساؤل التقليدي، والحوار البسيط، لإخبارنا بأمر الرحيل، ومن ثم الإيذان به، وإن غلبت الصورة البصرية عليها، حيث تطالعنا نماذج كثيرة لهذا النمط، ولم يسلم منها حتى شعراء المرحلة الثانية من العصر الجاهلي من أمثال زهير بن أبي سلمى الذي وقع في شراك التقليد الفني.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق 11/ 49، ق 15/ 61، عبيد بن الأبرص: ق 31/ 79، 49/ 49/ 127، المرقش الأكبر: ق 4/ 878، سلامة بن جندل: ق 4/ 188، زهير بن أبي سلمى: ق 5/ 78، الطفيل الغنوي: ق7/ 72، ق 31/ 107.(1/71)
وقد تعددت صيغ الاستفهام، منها ما وجه إلى شخص معين(1)، ومنها ما توجه لاثنين(2)، في حين يستمر بعض الشعراء بتساؤلاتهم دون توجيهها لشخص معين(3).
على أن الصورة السمعية قد تنحسر في بعض النماذج، لكنها سرعان ما تعود منتشرة بصيغ مختلفة منها: حداة الظعائن، وقد أشار الشعراء إليهم إشارات عبارة، بالرغم من الأهمية التي يتمتعون بها في مثل تلك المواقف، لِما لهم من إلمام بظروف الرحلة، ومعرفة بأسرار القلوب الوامقات ومواجعها، حيث يسوقون الركب إلى الفراق.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق 40/ 4/ 193، امرء القيس: ق 3/ 9/ 543، عبيد بن الأبرص: ق 10/ 4/ 30، المرقش الأصغر: ق 2/ 7/ 535، المثقب العبدي: ق ب / 4/ 16، عدي بن زيد: ق 8/9/ 60، زهير بن أبي سلمى: ق 1/ 7/ 11، الطفيل الغنوي: ق 8/ 7/ 82.
(2) عبيد بن الأبرص: ق 42/ 8-9/ 113، ق 43/ 1/ 115، زهير بن أبي سلمى: ق 50/ 5/ 279.
(3) عبيد بن الأبرص: ق 49/ 1/ 127، وينظر المرقش الأكبر: ق 4/ 1/ 878، المثقب العبدي: ق هـ/ 5/ 29.(1/72)
وكان بإمكان الشعراء الإفادة من دور الحادي وتوظيفه في إبراز ملامح فنية جديدة تمثلها صور سمعية من زوايا إبداعية متباينة، بيد أنهم آثروا الاكتفاء بالإشارة إليه لعلة قد خفيت في نفوسهم، أو بسبب عدم إثارة اللوعة الكامنة في أعماقهم وحرقة الفراق الحادة التي يمثلها الحادي حين ينطلق مؤذنا بالرحيل، وهو ناعم البال، صافي الذهن، خالي الوساد، وقد أشار عبيد بن الأبرص إلى تلك الحالة عند حاديين(1)، وتتعدد الإشارات إلى الحادي عند الشعراء(2) بحيث لا يكاد المتلقي يحس به، ولكنه يشكل مع مفردات أخر صورة سمعية بسيطة.
وإذا ما تتبعنا حركة الحمول وهي في صورتها السمعية الإيحائية فإننا نجد حركتها وهي تسير في الصحراء كحركة السفينة التي تشق عباب البحر، فالحركة والفعل والصوت الخفيف تشكل صورة مع تصوير وقع ذلك في الأداء الشعري، قال بشر بن أبي خازم:
فكأنَ ظُعْنَهُمُ غَداةَ تحمّلوا ... سُفُنٌ تَكَفّأُ في خليجٍ مُغْرَبِ(3)
لا بدّ للرحيل مِنْ صوت لِما يتطلبه من استعداد وشدّ الأمتعة فضلاً عن الجلبة قبل الرحيل وبعده، فتتمايل الطعون كما تتمايل السفن في الخليج الممتليء ماءً، وإن انتشار بعض الأحرف ساعد على إيجاد تجانس نغمي مثل الفاء في (فكأن، تكفأ، سفن) والنون في (كأن، ظُعْنَهُمُ، سُفُن) والعين والغين في (ظعنهم- غداة، مُغْرَب).
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق 42/ 10/ 113.
(2) بشر بن أبي خازم: ق 15/ 3/ 62، عمرو بن قميئة: ق 11/ 5/ 55، عبيد بن الأبرص: ق 16/ 3/ 47، عمرو بن كلثوم: المعلقة، جمهرة أشعار العرب: ب 25/ 342، بشر بن عمرو بن مرشد، المفضلية: 7/ ب 4، قيس بن الحدادية: ق 9/ 13/ 211، المتلمس الضبعي: ق 8/ 2/ 165، زهير بن أبي سلمى: ق 4/ 13/ 68، ق 5/ 6/ 80، عمرو بن شأس: ق 9/ 14/ 75، لبيد: ق 35/ 39/ 242.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 7/ 35.(1/73)
ومن هنا نجد الصورة السمعية من خلال استحضار الحركة والفعل للإيحاء بالصوت، ومن ثم وقع ذلك في الأداء الشعري:
وقال عبيد بن الأبرص:
كعومِ سفينٍ في غوارب لُجَّةٍ
تُكَفِّئِّهُا في وَسْطِ دجلةَ ريحُ(1)
1@خلايا سفين بالنواصِفِ منْ دَدِ ... وقال طرفة بن العبد:
كأنَ حدوجَ المالكيةِ غُدوةً
يَجورُ بها الملاّحُ طوراً ويهتدي ... عدوليةٌ أو منْ سفين بنِ يامنٍ
كما قَسَمَ التُربَ المفائلُ باليَدِ(2) ... يشقُ حبابَ الماءِ حيزومُها بها
شبه الشاعر الحدوج مع الإبل بالسفن العظام، تشير في مواضع تتسع بين الأودية كالرحاب، أو مجاري الماء إلى الأودية، مستخدماً الأفعال والحركة التي لا بد أنْ تحدث أصواتاً مثل: يجور، يهتدي، يشق، قسَمَ، فضلاً عن انتشار الأحرف المختلفة لتقوية النغم منها: النون في (كأن، سفين، النواصف، بن يامن، والتنوين، والفاء في (النواصف، المفائل)، والقاف في (يشق وقَسم).
ويتعدى الأمر إلى الخيام المحمولة حتى لكأننا نسمع صريرها:
شاقتك ظُعْنُ الحي حين تَحمّلوا ... فتكنسوا قُطْناً تَصِرُّ خِيامُها(3)
رحلة الشاعر:
تلك كانت رحلة الظعائن، أمّا رحلة الشاعر فقد كان يتخذها لأغراض متباينة شتى، سواء أكانت حقيقية، أم وهمية ليّسري بها عن همومه، أم أنها أصبحت تقليداً فنياً، لينفذ من خلالها إلى ما يصبو إليه، لتكون ميداناً واسعاً لتشكيل لوحات تنفتح على الغرض الرئيس.
والميدان الرحب للرحلة هو الصحراء المترامية على امتداد الأفق برمالها، وحرها، وبردها ونهارها، وليلها، بمخاوفها الكثيرة(4).
__________
(1) ديوانه: ق 10/ 31.
(2) ديوانه: ق 1/ 6-7. دَد: اسم موضع، عدوليّة: قرية بالبحرين، ابن يامن: مَلاّح. يجورُيِها. يعدل بها مرّة ويميلُ ومرّة يهتدي ويمضي للقَصْد. الحيزوم: الصدر، المفائل: الذي يلعب لعبة الصبيان العرب.
(3) لبيد: ق 48/ 300.
(4) امرؤ القيس: ق 4/ 63، عبيد بن الأبرص: ق 8/ 26.(1/74)
وصوَّر الشعراء الصحراء في رحلاتهم المختلفة، فنجد الصورة السمعية في مفازة واسعة، والريح تسحب التراب، وتجمع بعضه على بعض، وصوت الصدى يجاوب البوم.
وموماةٍ عليها نسجُ ريحٍ ... يجاوبُ بُومَها فيها صَداها(1)
وقد سمع الشعراء صياح البوم وضرب النواقس(2) كما تعاوروا على إبراز عزف الجِن في الصحراء(3)واستبدلوا الزَجَل في أحايين أُخر بالعزيف(4) وذكروا صرير الجندب(5) وعواء الذئب(6) والنطق بالهول(7).
وتنفتح الرحلة على مدارٍ واسع في الحياة، يتهيأ الشاعر فيها لاستيعاب الأحداث المختلفة، وتطوراتها عبر صيغة متجددة لاستقبال الزخم النفسي، مِمّا يتيح للشاعر من خلال التخيّل فرصة انتقال تفاصيل الحدث إلى الواقع، بغية الانفتاح على الغرض الأساس، متضمنة تلك اللوحة رموزاً مختلفة، يتوسل بها الشاعر لغرض يتوخاه بما ينسجم والحدث.
وإن الحديث عن الحيوانات التي تشكل اللوحات المختلفة من خلال الرحلة عبر الصورة العامة، يتيح للشاعر الجاهلي أن يقف في رحبة التصوير الدقيق، متأملاً في الحياة معبّراً عمّا تتطلبه المواقف المختلفة من تعبير، مجسّداً هواجسه، وما يعتريه من إحساس ورغبة عبر الصراع الذي ينسجه للصورة بعامة، والسمعية منها بخاصة، مستعيناً بخبرته، وملاحظته الدقيقة لأحوال الحيوانات، تخدمه في ذلك الطبيعة الصحراوية التي عاش فيها، وألفها، وتنقل فيها.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق 46/ 221. موماة: مفازة، الصدى: الذكر من البوم، الأعشى: ق 8/ 40/ 73.
(2) المرقش الأكبر: ق 3/ 876، الأعشى: ق 8/ 40/ 73، ق 13/ 103.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 41/ 9/ 203، المثقب العبدي: 8، زهير بن أبي سلمى: ق 25/ 212- 213، الأعشى: ق 4/ 15/ 37، ق 39/ 10/ 251.
(4) الأعشى: ق 6/ 31/ 59، ق 25/ 1/ 271.
(5) بشر بن أبي خازم: ق7/ 16/ 38، الأعشى: ق 12/ 31/ 97، أبو زبيد الطائي: ق 9/ 54.
(6) النابغة الذبياني: 149.
(7) الأعشى: ق 21/ 13/ 163.(1/75)
والناقة واحدة من وسائل الشاعر المتعددة في رحلة التحدي التي يزمع القيام بها ليقطع الصحراء المخيفة، ومن هنا ينبغي أن تتوافر فيها أوصاف الشدة والضخامة بما يتلاءم ومخاطر الرحلة، وقد حفلت الدواوين الشعرية الجاهلية بتلك الأوصاف(1).
على أن ما يهمنا هنا ابتداءً قوة تلك الناقة رفيقة الشاعر في رحلته، وقدرتها على التحمل، وهي ترافقه في حله وترحاله، متعرضة للمخاطر، وقد بسط الشعراء القول فيها من خلال الصور السمعية التي ذكروا فيها صوتها، أو صوت الفحل(2) أو الصوت القوي المسمى بـ (الصريف)(3)والبغام(4)، وتشبيه صوت الناقة بتغريد الحمام(5)، وصوت البعير الذي يشبه ترنم طائر(6)، وإذا ما هيجت للحب ارتفعت أصواتها، وحنّ بعضها إلى بعض حتى لكأن حنينها دف مخروق فهو أبحّ الصوت(7) وحنّانة معوال(8)، وتتعدد الأصوات مثل البربرة(9) وصياح الدجاج(10) والبسيسة(11) والصياح والرغو(12).
__________
(1) ينظر كتاب: أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة. محمد محمد حسين: 74- 85. وينظر كتاب: الطبيعة في الشعر الجاهلي، القيسي، في مواضع متعددة، وينظر شعر أوس بن حجر ورواته الجاهليين، تجد في هامشي الصفحتين: 327 و 344، إحصائية وافية لتلك الأوصاف.
(2) طرفة بن العبد: 12.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 31/ 7/ 153، النابغة الذبياني: 79، أوس بن حجر: ق 30/ 20-26/ 66-67، الأعشى: ق 22/ 13/ 171.
(4) عمرو بن قميئة: ق 3/ 4/ 37. البغام: صياح الظبية في الأصل، وبغمت الناقة: قطعت الحنين ولم تمده، الشماخ: ق7/ 20/ 165.
(5) المثقب العبدي: ق هـ/ 29/ 37.
(6) الأعشى: 51/ 15/ 286.
(7) علقمة الفحل: ق 2/ 50-52/ 74- 76.
(8) الشماخ: ق 40/ 4/ 460.
(9) المصدر نفسه: ق 5/ 32/ 141.
(10) المصدر نفسه: ق 5/ 41/ 144.
(11) المصدر نفسه: ق 5/ 42/ 144.
(12) المصدر نفسه: ق 9/ 5/ 212.(1/76)
ونجد صوراً سمعية عن شكوى الناقة وتأوهاتها، فضلاً عن القول والتساؤل(1) ويطلب الأعشى ألاّ تشكو إليه.
تشكى إليّ فلم أشكها ... مناسمَ تدمى وخُفَّاً رهيصاً(2)
ونقل إلى أسماعنا الشماخ أنينهن كأنه تجاوب النائحات(3) وفضلاً عن الأصوات فقد تناول الشعراء سير الناقة وهي ترمي الحصى فنسمع له صوتاً:
تَصُكُ الجانبينِ بِمُشْتَفرٍّ ... له صوتٌ أبحُّ مِنَ الرَّنينِ(4)
وقد أسمعنا امرؤ القيس صوت الحجارة التي ترميها أخفاف الإبل من كل جهة لسرعة سيرها، حتى كأنها أصوات الدراهم الزيوف(5).
ووصف لنا الشعراء أطيط النسغ، وهو كناية عن سرعة الناقة مثل جري السحاب، حتى كأننا نسمعه لصريره عند السير:
عُذافرةٍ يئطُ النسعُ فيها ... إذا ما خَبَّ رَقْراقُ الرّقاقِ(6)
وذهب الشعراء للقول إن صوت النسع يسمع عند سيرها كصرير القناة المشوية على النار عند تسويتها في الثقاف(7) وصوته مثل صوت الرتاج المغلق ذي المسامير(8) وبصوت الرماح(9).
ويضعنا الشماخ إزاء صورة غضب الناقة فيسمعنا ترديد رغائها في لهازمها عبر لفظة (تزغمت)(10).
__________
(1) المثقب العبدي: ق هـ/ 35/ 37/ 39- 40، عروة بن الورد: 67.
(2) الأعشى: ق 31/ 207، ق 5/ 23/ 47، ق 29/ 12/ 195.
(3) الشماخ: ق 1/ 6/ 68.
(4) المثقب العبدي: ق هـ/ 26/ 36، مُشتفر: حصى متفرق. تصك: ترمي – ق أ/ 19/ 9.
(5) امرؤ القيس: ق 4/ 18- 30/ 64، النابغة الذبياني: 60، 196.
(6) بشر بن أبي خازم: ق 34/ 162. الرقراق: ترقرق السراب وتلألؤه، الرقاق: جمع الرقة هي كل أرض جنب واد ينبسط عليها الماء أيام المد، ثم ينحسر عنها فتكون مكرمة للنبات.
(7) المصدر السابق: ق 29/ 14/ 145.
(8) زهير بن أبي سلمى: ق 34/ 2/ 258.
(9) الأعشى: ق 29/ 11/ 195.
(10) الشماخ: ق 9/ 10/ 213.(1/77)
ويستمر الشعراء في تشكيل الصور السمعية عبر الأصوات المختلفة، وخاصة الحيوانات التي أولعوا بها، وذكروها في أشعارهم منها، الثور الوحش، الذي عنوا به عناية كبيرة، ورسموا كل حركة له، وذكروا كل ما يتعلق به، ولم ينصرفوا من الناقة إلى الثور الوحش تشبيهاً به لقوته حسب، وإنما ليجسدّوا صراع الحياة على وفق المنهج الذي اختطه الشعراء لأنفسهم من الفخر الذاتي "وقد جعلوا الصائد يخفق كل مرة في قنصه، وهم يفعلون ذلك ليبقوا شبيه راحلتهم عزيزاً قوياً ... وأحبوا له الغلبة والانتصار ... "(1).
إن ما يهمنا هنا الصور السمعية التي وردت في لوحات الشعرية التي سرد الشعراء أحداثها في أسلوب القص، وتتعدد الصور للثور، فهو حين يرعى يجّرس مصوتاً:
مُجَرّسٍ وحِدٍ جَأْبٍ أطاعَ لَهُ ... نباتُ غيثٍ منَ الوسميّ مبكارِ(2)
وتتوالى الصور السمعية التي رسمها الشعراء لمبيت ثور الوحش في الظروف المناخية المختلفة، حيث الريح الباردة مع المطر الحاصب، تتربص به الكلاب، ويسمع صريرهن في الحندس(3).
بينما نجد صورة الثور في مبيته كالحَدّاد الذي ينفخ الفحم، حيث يدفع الريح بصدره(4)، في حين لم يتعد الدلالة السمعية الصريحة المتمثلة بالقول وهو يحدّث نفسه عند مبيته بالكثيب محتمياً من الدفقة الشديدة من المطر(5).
وتتمثل لحظة الإحساس بالخطر لدى الثور عند سماعه النبأة من المُكَلَّب:
له كل يومٍ نَبأةٌ منْ مُكَلَّبٍ ... تُريه حياضَ الموتِ ثُمّتَ تُقْلِعُ(6)
وفي بعض الأحايين يتوهم الثور صيّاداً يهم به دون أن يراه، أو يرى شيئاً من ذلك:
__________
(1) شعر الطرد عند العرب: 231.
(2) النابغة الذبياني: 151، 221، مجرّس: مصوّت، وَحِد: منفرد، جَأْب: جاف غليظ.
(3) بشر بن أبي خازم: ق 11/ 13/ 103.
(4) النابغة: 221.
(5) ديوان الأعشى: ق 52/ 32/ 279.
(6) بشر بن أبي خازم: ق 25/ 120، ق 16/ 83، النَبأة: صوت الكلاّب، المُكَلَّب: الصياد.(1/78)
يصيخ للنبأةِ أسماعَهُ ... إِصاخَةَ الناشِدِ للمُنْشدِ
ضمّ صماخيه لنكريّةٍ ... منْ خَشيةِ القانصِ والموسدِ(1)
وذكر لنا الشاعر فزع الثور وسرعة جريانه حين أحس بالصائد وسمع صوته:
فارتاعَ مِنْ صوتِ كلاّبٍ فباتَ له ... طوعَ الشوامتِ مِنْ خوفٍ ومِنْ صَرَدِ(2)
وحين أحس بصوت القناص (الرَّكْز) انفتل راجعاً موليّاً من الخوف:
أحسَّ رَكْزَ قيضٍ منْ بني أسدٍ ... فانصاعَ منثوياً والخطوُ مَقصورُ(3)
وحين تهاجم الكلاب الثور، يكرّ عليها، نجد أن الشاعر يقف مراقباً الموقف، ويفرد له صوتاً بدلالة القول الصريحة(4).
وحين يشتد الصراع بين الثور والكلاب، ويتغلب عليهن، نجدهن يتواكلن العواء:
تواكلن العُواءَ، وقد أراها ... حياضَ الموتِ شاصٍ أو نَطيحُ(5)
وقد يهرب الثور من شدة هجوم الكلاب عليه، بيد أنها تطارده في صحراء مخيفة تعزف فيها الجن(6)، في حين يختار الشاعر للثور سبيل القتال(7).
ويختفي دور الكَلاَّب في الصورة السمعية إلاّ ما ندر، حيث ينادي كِلابَه بعد أنْ طعنَ الثورُ بعضَها(8)، ولا نجد سوى قوله لها يحفزها للقتال:
حتى إذا الكلاّبُ قالَ لها ... كاليوم مطلوباً ولا طَلبَا
ذكرَ القتالَ لها فراجَعَها ... عنْ نفسِه، ونفوسَها نَدبا(9)
__________
(1) المثقب العبدي: ق أ/ 11-13. النكرية: الصوت المنكر.
(2) النابغة الذبياني: 79.
(3) أوس بن حجر: ق 21/ 42.
(4) بشر بن أبي خازم: ق 25/ 12/ 120.
(5) المصدر نفسه: ق 11/ 53. الشاصي: الذي مات فارتفعت قوائمه. النطيح: الذي مات بالنطح.
(6) المثقب العبدي: ق أ/ 28/ 13.
(7) بشر بن أبي خازم: ق 12، لبيد: ق 11.
(8) بشر بن أبي خازم: ق 21/ 19/ 104.
(9) أوس بن حجر: ق 1/ 3، ق 21/ 23/ 43.(1/79)
إن الثور الوحش بما يحيط به قد غطّى على بقرة الوحش، وبالرغم من ذلك فإن الصور السمعية في الشعر الدائر حولها تكاد تكون معدومة لولا القصة التي أوردها بقرة ضاع منها ولدها، فهي تبحث عنه دائرة صائحة سبعة أيام حتى جف ضرعها إضراباً عن الأكل، وحزناً وألماً على فراقه، ويشتد الصراع حين تسمع صوت الصياد الخفي، وتؤثر البقرة الحياة، وتنتصر على الكِلاب بعد أن آلمتها الحيرة بين الأمومة والحياة(1).
والتجأ الشاعر الجاهلي إلى حمار الوحش، مشبّهاً به ناقته، لنشاطه وسرعته، ولإبراز الهدف الذي يروم التعبير عنه من خلال تشكيل الصورة.
وقد اعتنى الشعراء بحمار الوحش، وراحوا يقصّون علينا أحداثاً مختلفة عنه، بدءاً من بحثه عن الماء، وتذكره مورداً يستطيع ارتياده، إلى الأصوات المختلفة التي يطلقها منادياً أتنه، إلى وجود خطر الصياد الذي يهدد حياته واتنه، إلى نجاته.
وما يهمنا هنا هو الصورة السمعية التي حاول الشعراء إيصالها إلى أسماعنا، للتعبير عن حالة حمار الوحش التي يروم من خلالها الشاعر التعبير عن الهموم العامة.
فهو يغرّد، أي يصيح ويصوّت في الغسق:
يُغرّدُ بالأسحار في كلِ سُدْفةٍ ... تَغَرُدَ مَيّاحِ الندامى المُطَرُب(2)
وفضلاً عن التغريد فهو في صوته كأنه صوت إنسان يدعو صاحبه ويناديه(3) وحين يدعو الأتن لشرب الماء يرن (ينهق) وهو صوت الشهيق:
أرنَّ عليها قارباً وانتحتْ له ... طَوالةٌ أرساغ الدين نَحوصُ(4)
__________
(1) لبيد بن ربيعة: ق 48/ 37- 48/ 308- 311.
(2) امرؤ القيس: ق 3/ 45.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق 11/ 25- 27/ 132- 133، الشماخ: ق 15/ 22/ 228.
(4) امرؤ القيس: ق 31/ 182، ق 6/ 79. قاربا: طالباً للماء. الطوالة: الأتان الطويلة الأرساغ. النحوص من الأتن: التي لم تحمل. انظر عمرو بن قميئة: ق 13/ 21/ 65، الشماخ: ق 6/ 16/ 155.(1/80)
ويذكر لنا الشعراء التطريب (ترديد النهاق)(1) واشتداد النهيق (السحيل) الصوت الذي يدور في صدر حمار الوحش(2) وكثرة صياحه قبل الشرب(3) وقد عبّر الشعراء عن كثرة الصياح بصخبه(4)، وتتعدد حالات الصوت عنده حينما ينشج متهيئاً للنهاق(5)، وحين تستولي علي انفعالات الغيرة وحرصه على الأتن ينهق(6)، ويهمهم أن غضب على أنثاه فيعضها وهو في سورة من الغضب:
يَعضُّ على ذواتِ الضُّعْنِ منها ... كما عَضَّ الثّقاف على القناةِ
بهمهمةٍ يرددها حشاه ... وتأبى أن تتمَ إلى اللَّهاةِ(7)
كما يوصف بالشحيج عندما نسمع فيه الحنين(8) والزجل عند الشرب(9) والمحشرج(10) الذي يتردد صوته في حلقه وجوفه عندما يرعى، ويعبّر بالتعشير عن عطشه مع أتنه، وقد أقلقه الهم والحر الشديد الذي ألهب أحشاءه(11)، فضلاً عن رجع التعشير(12) ويرجع بعد الشرب معبراً عن حالة هدوئه ومرحه(13)، كما يعبر عن شدة صوته بالصلصال(14)وقد يُجِدُّ سحيله، أي يقطع بصوته محذراً الأتن من خطر ما في صورة سمعية تتجدد مع تجدد التقطيع الصوتي المتواتر في الزمن:
__________
(1) الشماخ: ق 2/ 43/ 88، لبيد: ق 12/ 7/ 96.
(2) الشماخ: ق 2/ 43/ 88، ق 10/ 22/ 228، لبيد: ق 11/ 35- 36: 84.
(3) الشماخ: ق 2/ 37/ 86، ق 6/ 23/ 157، ق 7/ 28/ 168.
(4) سلامة بن جندل: ق 2/ 15/ 143.
(5) الشماخ: ق 2/ 53/ 93.
(6) الشماخ: ق 11/ 31/ 246.
(7) الشماخ: ق1/ 69. الهمهمة: تردد الزئير في الصدر، وكل صوت معه بحه، الثقاف: خشبة أو حديدة تسوى بها الرماح.
(8) الشماخ: ق 10: 21/ 228.
(9) الشماخ: ق 6/ 17، 20/ 155-156.
(10) الشماخ: ق 2/ 43/ 88.
(11) الشماخ: ق 16/ 9/ 301. التعشير: تتابع النهيق عشر نهقات، ووالى بين عشر ترجيعات في نهيقه.
(12) الشماخ: ق 2/ 42/ 88.
(13) الشماخ: ق 13/ 26/ 66، لبيد: ق 11/ 43/ 88.
(14) لبيد: ق 38/ 4/ 269.(1/81)
يُجِدُّ سحيلَهُ ويُتيرُ فيه ... وَيتَبعُها خِنافاً في زِمالِ
كأنَ سحيلَهُ شكوى رئيسٍ ... يُحاذِرُ مِنْ سرايا واغتيالِ(1)
وحينما يصحل حمار الوحش، فإنما يصيح بالأتن للهرب، وقد ذكر الشماخ الصحل والترجيع والنهاق في بيت واحد(2).
أما فيما يتعلق بالنعامة والظليم فلم نجد عند الشعراء إلاّ أصواتهم وبعض التشبيهات، وقد رسموا لنا صوراً سمعية من خلال النقانق، أو النقنق(3) وقد جمع بعضهم النقنق والزمار (صوت النعامة):
يوحي إليها بإِنقاضٍ ونقنقةٍ ... كما تَراطنُ في أفدانها الرومُ
صعلٌ كأنَّ جناحيهِ وجؤجؤه ... بيتٌ أطافتْ به خرقاءُ مهجومُ
تَحُفهُ هِقْلَةٌ سطعاءُ خاضعةٌ ... تجيبهُ بزمارٍ فيه ترنيمُ(4)
وقد ذكروا (العرار) صوت النعامة(5) وجمعوا بين صوت الذكر (العِرار) وصوت الأنثى (الزمار)(6)، على أن (الزجل) من أصواتها(7).
وفي معرض وجود الصياد صوّروا فزعها عندما سمعت صوته(8)، وقد وصفوا الظليم بالأسكّ المصلوم الذي لا يسمع الأصوات، وقد استخدم الشاعر الألفاظ ذات الدلالة السمعية لتشكيل الصورة:
فوهٌ كشقّ العصا لأياً تَبينَّهُ ... أَسكُّ ما يسمع الأصوات مصلومُ
حتى تَذَكّر بيضاتٍ وهيّجَهُ ... يومُ رذاذٍ عليه الريحَ مغيومُ(9)
__________
(1) لبيد: ق 11/ 84. يُجِدُ سحيله، يقطع صوته. يتير: يتبع تارة بعد تارة. الزمال: العدو. الخناف: رفع الرأس من تكبر، أو إذا مالت برأسها في أحد شقيها من نشاط.
(2) الشماخ: ق 13/ 26/ 266. الصحل: الصوت فيه بحة.
(3) امرؤ القيس: ق 30/ 11/ 170، ق 49/ 18/ 233، علقمة الفحل: ق 2/ 26/ 62 النقانق: النعام، والواحد نقنق، وإنما سمي بذلك لصوته، وهي النقنقة.
(4) علقمة الفحل: ق 2/ 62-63. الإنقاض والنقنقة: صوت الظليم. الأفدان: جمع فدن: القصر.
(5) لبيد: ق 11/ 3/ 72.
(6) لبيد: ق 2/ 42/ 18.
(7) الشماخ: ق 14/ 23/ 280.
(8) الحارث بن حلزة: ق 1/ 11/ 10.
(9) علقمة الفحل: ق 2/ 95.(1/82)
وذكر لنا عنترة العبسي الأعجم الطُمطم الذي لا يفهم كلامه كما لا يفهم كلام النعام(1).
ومن الحيوانات التي اهتم بها الشعراء: الخيل، وهي أَدْخَلُ من غيرها في الطرديات، وبالرغم من ذلك فقد شكلت صوراً سمعية مختلفة، تبعاً لطبيعة تناولها، فتندرج الصور من الوصف، إلى الصيد، والصراع.
وتتواتر الصور السمعية من خلال نعت الشعراء لآذانها ووصفها بصدق السمع وشدته(2) ووصف سرعة جريها، حيث تسمع لها خفقاً كخفق الريح إذا مرّت بشجر يشبه الأثل، إذ تشتد صوت الريح فيه(3) ووصفوا سرعة عَدْوِها بالصوت(4).
وللخيل حفيف من جراء شدة جريها، لقوة وقع حوافرها، مما يجعل الفئران تخرج من مكامنها، لما تسمع من صلابتها وقوتها(5)كما نجد صور انضباب الفرس وحفيف جريه عبر تشبيهه بالشؤبوب وصوته:
فتتبع آثارَ الشياهِ وليدُنا ... كشؤبوب غيثٍ يخفشُ الأكم وابِلُه(6)
كما نعتها الشعراء بالسبوح الجموح(7)، ولم تخرج عن إطار السرعة التي وصفها الشعراء(8)ولم يفتهم أن يصوروا صهيل الخيل في مواضع مختلفة(9).
__________
(1) عنترة العبسي: ق 1/ 30/ 200.
(2) أبو دؤاد الأيادي: ق 23/ 6/ 307، امرؤ القيس: ق 3/ 28/ 48.
(3) أبو دؤاد الأيادي: ق 23/ 5/ 307، امرؤ القيس: ق 3/ 31/ 49.
(4) امرؤ القيس: ق 49/ 18/ 233.
(5) امرؤ القيس: ق 3/ 41/ 51، الطفيل الغنوي: ق 1/ 13/ 20.
(6) زهير بن أبي سلمى: ق 3/ 55. يحفش الأكم: يكثر سيل الأكم حتى يستخرج ما فيها.
(7) امرؤ القيس: ق 32/ 12/ 187.
(8) عبيد بن الأبرص: ق 6/ 17/ 23، زهير بن أبي سلمى: ق 3/ 24/ 53، ق 5/ 12/ 82.
(9) امرؤ القيس: ق 99/ 12/ 360، عبيد بن الأبرص: ق 6/ 18/ 23، محرز بن المكعبر الضبي، قصائد جاهلية نادرة: 194، عامر بن الطفيل: 34، 95.(1/83)
وفي إطار لوحة الصيد، يصور لنا الشاعر، الغلام الذي حمل بعد جهد على ظهر الفرس لنشاطه وامتناعه، واندفع الفرس يجري بشدة، مشبهاً إياه بدفعة المطر القوية، لوقع حوافره الشديدة، وقد والى الفرس صيد الوحش، وظل الغلام يطاعنها، وتسمح أصواتها المرددة(1).
وفي لوحة أخرى نجد غلام الشاعر يستخدم فيها الفرس لصيد حمار الوحش، حتى لكأننا أمام منظر مثير حركة وصوتاً(2).
ومما يلفت الانتباه أن من الشعراء من غمد في بعض لوحاته الفنية إلى أن يقرن الفَرَس بالطير، مشبهاً سرعتها به(3) أو بالقطاة(4).
في حين وضع زهير بن أبي سلمى أمامنا صورة رائعة في لوحة صيد، حيث أهوى صقر على قطاة "ولم يعمد إلى صورة الفَرَس إلاّ ليمهد بها لصورة القطاة، متخذاً من المسلك الفني الموروث رائداً في الاختيار والحركة الفنية"(5).
وقد شبه زهير، الفَرَس، في خفتها وسرعتها بـ (قطا الأجباب):
دوَن السَّماءِ، وفوقَ الأرض قدرهُما ... عندَ الذُنابى، فلا فَوْتٌ، ولادَرَكُ
عندَ الذّنابى، لها صوتٌ، وأزملةٌ ... يكاد يخطفها طوراً، وتهتلكُ(6)
وبالرغم من خفتها وسرعتها، فهي فزعة خائفة، تطاردها قوة تتمثل بالصقر، وحركة سريعة يتنامى فيها الحدث، ويشتد الصراع، حيث الحركة والصوت نجد الصقر والقطاة في صراع فلم يحلّقا في السماء عالياً، ولم يطيرا على الأرض، وقد قاربها الصقر عند ذنبها، ولم تفته ولم يدركها، فهي بين (الفوت والدرك) ومن فزعها تصدر صوتها عند مقاربته لذنبها، كما نسمع اختلاط الصوت حين يكاد يأخذها، فتجتهد في الطيران إلى أقصاه لتبتعد عنه.
((
__________
(1) امرؤ القيس: ق3/35-44/50-52، علقمة الفحل: ق3/29-45/92-98.
(2) زهير ابن أبي سلمى: ق3/12-22/49-53.
(3) امرؤ القيس: ق49/21/234.
(4) عبيد بن الأبرص: ق6/11/26، زهير بن أبي سلمى: ق5/82، الطفيل الغنوي: ق1/51-85/
30-31.
(5) ينظر دراسات نقدية في الأدب العربي: 403.
(6) زهير بن أبي سلمى: ق5/82.(1/84)
المبحث الثالث
(الغرض)
المديح:
المديح حلقة من حلقات الأغراض الشعرية، ووعاء يصب فيه الشاعر خلجاته، ونوازعه الذاتية والجماعية، على وفق مايتطلبه الموقف الآلي بما يمليه على الشعراء الأنموذج الأفضل الذي يستحق المدح والثناء والحمد لعظيم فعاله، وبما يستوجبه استدرار الشاعر لملكته وإبداعه للتصرف في تقريب العلاقات، وإدامة الصلة، وتعميق صفة الوفاء والولاء، مقترناً بالفخر بالرغم من أن أغلبه لغايات إنسانية نبيلة.
بيد أن المدح لايخلو من نزعة شخصية، ومنفعة خاصة، فضلاً عن العاطفة الذاتية.
وتعدد ألفاظ المديح، حيث ترد عند الشعراء بلفظ: المدح، والثناء، والشكر، والحمد، والتمجيد، والتحية وكلها تدور حول معنى واحد.
وقد آثرنا تقسيم المديح على وفق تعدد الألفاظ التي أوردها الشعراء، وقد تضمنت كلها صوراً سمعية، عبر تشكيلات مختلفة بما يوجبه الموقف إزاء الممدوح، لما تمتلكه تلك الألفاظ من أصوات مختلفة تدخل في نسيج الصورة السمعية.
وقد ورد المدح بلفظه بتصريفاته المختلفة(1) وقد شكل بعض الشعراء الصورة السمعية من ألفاظ المدح والقول والسماع، فضلاً عن الجرس الداخلي لها:
لَعَمري لنعمَ الحيُّ إن كنتَ مادحاً ... هُمُ الأزد إن القول بالصدق شايع
كرامٌ مساعيهم جسامٌ سماعُهم ... إذا ألغتِ الناس الأمورُ الشرايعُ
يُشرّفُ أقواماً سوانا ثيابُنا ... وتبقى لهم أنْ يلبسوها سمايعُ(2)
__________
(1) المثقب العبدي: ق ب/6/16، دريد بن الصمة: ق12/42.
(2) عبيد بن عبد العزى السلامي، قصائد جاهلية نادرة: 123-124.(1/85)
ومنهم من يستخدم ألفاظ التبليغ بالمدح لجهة الممدوح(1) ومنهم من مدح النطق غير المتعجل، حيث النطق بالمعروف، ومخفوض الحديث، والبعد عن الفحشاء، ووصفه بالبلاغة(2) فضلاً عن الإشادة ببقاء المنطق وصلاحه(3).
ومن الألفاظ التي استخدمها الشعراء في موضوعة المدح: (الثناء) بمعنى المدح، وإظهار الطاف الممدوح على رؤوس الإشهاد، بترديدها(4).
ولم يكتف الشاعر بذكرها، إنما يسوق لفظة أخرى (تسمع) إمعاناً منه في توكيد السماع:
هذا الثناء فإنْ تَسمعْ به حَسَناً ... فلمْ أعرض أبيتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ(5)
__________
(1) حاتم الطائي: 30، عروة بن الورد: ب1/68، زهير بن أبي سلمى: ق1/25/17، ق 8/1/97،، ق38/9/248، الأعشى: ق2/33/19، مقاس العائدي: المفضلي: 84/ب1.
(2) امرؤ القيس: ق73/5/296، الأسود بن يعفر: ق13/27-28/30، عبيد بن العرندس الكلابي، الحماسة البصرية: 1/151، زهير بن أبي سلمى: ق3/38/59، ق4/32/77، ق12/149.
(3) الربيع بن ضبيع الفزاري، دراسات في الأدب الجاهلي: جـ2 ق8/231، كعب بن سعد الغنوي، شعراء النصرانية قبل الإسلام: 747، 750. عمرو بن شأس: ق23/2/92، الخنساء: 263، حسان بن ثابت: 35، 53.
(4) الحارث بن حلزة: ق5/2/19، الأسود بن يعفر: ق23/1/35، النابغة الذبياني: 112، 142، 211، زهير بن أبي سلمى: ق10/20/121، ق22/2/203، ق43/18/262، أوس بن حجر: ق12/6/27، الطفيل الغنوي: ق6/17/66، عنترة: ق1/41/205، الحصين بن الحمام المري: 108، الأعشى: ق11/22/91، ق73/42/223/، أمية بن أبي الصلت: ق1/6/53، ق113/3/287، الحطيئة: ق83/1/302.
(5) النابغة الذبياني: 88، الصفد: العطاء.(1/86)
وقد ترد ألفاظ: الثناء، والمدح، والثواب، والقول بيت واحد، أوفي عدة أبيات عند بعض الشعراء(1).
وقد تجمع ألفاظ سمعية مثل: الثناء، والقول، والتحية في بيت شعري واحد أيضاً(2).
ومن خلال ذلك تتشكل لنا صور سمعية عبر أصوات الألفاظ ووقعها في الأداء الشعري.
__________
(1) سلامة بن جندل: ق7/3-4/205، زهير بن أبي سلمى: ق22/2/302، ق44/11/265، أوس بن حجر: ق12/6/27، أمية بن أبي الصلت: ق:113/3/287، الأعشى: ق33/39، 42/223، ربيعة بن مقروم. الضبي: ق8/14/20، زيد الخيل: ق38/9/78، الحطيئة: ق83/1/302.
(2) لبيد بن ربيعة: ق2/16/8، حسان بن ثابت: 72.(1/87)
ومن ألفاظ المديح التي استخدمها الشعراء (الحمد) بمعنى الثناء (1) وقد صوّر لنا أحد الشعراء صورة سمعية فضلاً عن المدركات الحسية الأخرى عبر المعطيات الخارجية لبيئته الطبيعية، والاجتماعية، والسياسية، في إطفاء نار قومه، وإضرام النيران في العدوّ، ولم ينس التأثيرات النفسية في الانتصار على الأعداء، وقد أفاد من المعطيات الداخلية في تصور الأشياء عبر الذهن التي تستدعيها الحواس، والقدرة على صياغتها شعرياً ببراعة، فكان أنْ صوّر لنا الموقف يتصاعد في أفقه (الحمد) في تجانس (حمدت- خمدت)، وإبراز حالة الانتصار، ودحر العدوان من خلال التضاد بين (خمدت- شبّت) حيث قال:
إنّي حَمِدْتُ بني شيبانَ إذْ خَمدتْ ... نيرانُ قومي وفيهم شَبَّت النارُ(2)
__________
(1) بشر بن خازم: ق24/5/114، تأبط شراً: ق22/15/170، امرؤ القيس: ق59/19/64، عبيد بن الأبرص: ق3/8/4، ق19/13/54، طرفة بن العبد: 92، حاتم الطائي: 14، 44، المرقش الأصغر: ق2/357، عدي بن زيد: ق6/19/52، النابغة الذبياني: 93، 176، السليك: ق23/65، زهير بن أبي سلمى: ق10/10/118، ق50/9/280، أوس بن حجر: ق12/6/27، قيس بن الخطيم: ق2/9/61، عنترة: 14/1/80، الحصين بن الحمام المري: 107، مالك بن حريم: ق12/173، أمية بن أبي الصلت: ق21/12/177، ق 46/1/220، ق12/1/302، الأعشى: ق7/9/65، ق11/31/91، ق17/21/137، ق33/39/223،/ ق36/22/239، أبو زيد الطائي: ق35/13/106، لبيد: ق8/3/46، ق26/15/177، الحطيئة: ق7/30/80.
(2) يزيد بن حمار السكوني: حماسة أبي بن أبي تمام: التبريزي: 1/108، وفي الهامش قبل اسمه عدي بن يزيد.(1/88)
وفي إطار المديح تتخذ الصورة السمعية طريقها عبر ألفاظ المديح التي منها (الشكر) مما يوجبه فعل الجميل وقوله، ولابد مِنْ أن يرتفع به صوت الشاعر ليجازي ممدوحه على صنيعه(1).
على أن المديح يتخذ نهجاً إيحائياً "يحمل دلالات عميقة تؤدي إلى إقرار المعنى والتسليم به"(2).
قد جعلَ المبتغونَ الخيرَ في هَرمٍ ... والسائلونَ إلى أبوابهِ طُرُقا(3)
أو كما قال:
تَراهُ إذا ماجئته مُتَهَلّلاً ... كأنكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلهُ(4)
الفخر:
توزع الفخر قصائد الشعراء، لما يتطلبه من مواقف بطولية، وانتصار، ومايستدعيه موقف الحماسة والتفاخر عبر فرصة سانحة قد هيأتها الظروف الملائمة للتعبير عن قيم يجد في الخروج عليها ضرباً من مخالفة المألوف، وتنكباً عن قيم البطولة الفردية والجماعية.
وقد تفنن الشعراء في التغني بالفروسية وقيمها من خلال التفاخر، وماتنطوي عليها من مخاطر، وخوض غمار الوغى، ومقارعة الخصوم بالسلاح، وتصوير مايحتدم من صراخ وصياح، إنهم أبطال لايهابون الموت، لم يتسرب الخوف إلى نفوسهم، وإنما النصر هو حليفهم، وله ينشدون، لتبلغ أخبارهم أسماع القبائل، ولذلك، فلذة النصر لاتفارقهم، لأنهم فرسان ذوو نجدة، واقتحام للشدائد.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق9/1-7/41-42، امرؤ القيس: ق33/198، ق57/260، النابغة: 55-56، زهير بن أبي سلمى: ق3/37/59، محرز بن المعكبر الضبي: 196، عوف بن عطية، المفضلية: 94/ب6، دريد بن الصمة: ق37/1/90، أمية بن أبي الصلت: ق12/177، الخنساء: 121.
(2) شعر أوس بن حجر ورواته الجاهليين: 452.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق4/23/76.
(4) زهير: ق3/35/75.(1/89)
كان الشعراء الفرسان يعنون بالخيل بصفة عامة، ولذلك، فقد أسهبوا في وصفها، لما لها من أهمية في حروبهم، لسرعتها، وقدرتها على التحرك، في الأماكن السهلة والشديدة(1)، وسرعة جريها في الغارة(2)، وإذا ما خاض الفارس حرباً يجد خفّة في الحركة على فرسه من كرّ، وإقبال، وإدبار(3) بل يجيش ويسمع في جريه اهتزام جوفه مثل غلي المرجل(4) على أنها تملك قوة إصاخة للسمع(5)، ويكثر صهيلها إذا مااشتدت المعركة(6)، وتسمع حمحمتها إذا ما اشتد وقع الرماح(7).
ومن الصور السمعية التي عني الشعراء بها هي ازورار الفَرَس من أثر القَنا، ويشكو بالعَبرة والتحمحم، ولو عرف الكلام لتكلم(8)، في حين يخاطبه الشاعر، ويزجره، وينبئه أن الفرار خزاية(9).
__________
(1) أبو دؤاد الأيادي: ق61/7،9،10/342.
(2) امرؤ القيس: ق8/8-10/87.
(3) امرؤ القيس: ق1/55/21، ق1/50/19، ق8/11/87.
(4) المصدر نفسه: ق1/53/20.
(5) أبو دؤاد الأيادي: ق23/10/307.
(6) عمرو بن كلثوم: ق8/4/7، سلامة بن جندل: ق4/11/193، المزرد بن ضرار: ق15/17/35، عامر بن الطفيل: 95، لبيد: ق26/46/187.
(7) أبو دؤاد الأيادي: ق60/39/341، عنترة العبسي: ق1/75/217، عامر بن الطفيل: 34، 134.
(8) عنترة العبسي: ق1/57-76/217-218.
(9) عامر بن الطفيل: 61/62.(1/90)
وقد صور لنا الشعراء أن فرسان الخيل أعلم من غيرهم، وهم أسود في الحرب(1) وأن أنباء شجاعتهم مع الركب المخفّين(2) وأن يسأل السائل عن مجدهم في الحروب يُنبأ، ويخبر ويُحدّث(3).
__________
(1) عامر بن الطفيل: 45، 61.
(2) الطفيل الغنوي: ق3/1، 3/41.
(3) المهلهل: 269، الشنفرى: ق1/33، تأبط شراً: ق56/1/148، الفند الزماني: ق4/31، 37/13، بشر بن أبي خازم: ق8/1/40، ق10/6/44، ق23/11/110، ق28/6، 13/138-140، ق38/8/180، ق39/9، ق10/188، ق41/18-20/206، امرؤ القيس: ق99/5، 11/359-260، عبيد بن الأبرص: ق3/27/7، ق39/10-98-99، المرقش الأكبر: ق7/10/883، طرفة بن العبد: 104، الحارث بن حلزة: ق9/7/22، حاتم الطائي: 22، الأفوه الأودي: ق ج/7، ق: بك/23، عدي بن يزيد: ق4/7/43، الحارث بن ظالم المري: ق1/258، دريد بن الصمة: ق1/5/29، ق5/12/101، زهير بن أبي سلمى: ق52/24/296، اوس بن حجر: ق3/1/9، عنترة العبسي: ق1/49-50/207، ق21/-3/292، ق22/2/293، مالك بن حريم الهمداني: ق1/1/167، امرؤ القيس بن عمرو بن الحارث السكوني، قصائد جاهلية نادرة: 152، رويشد بن كثير الطائي، الحماسة، التبريزي: 1/47، زهير بن مسعود الضبي، قصائد جاهلية نادرة: 88، 95، وداك بن ثمل المازني، الحماسة، التبريزي: 1/33، الأعشى: ق6/54-55/13، عامر بن الطفيل: 37-44-48-52-55-78، العباس بن مرداس: ق44/3/119، ق29/6-7/92، ق64/1/134، زيد الخيل: ق13/3/46، ق38/1/76، ق56/1/100، ق59/4-5/103، لبيد بن ربيعة: ق35/77، 91، 92/250-253.(1/91)
ويفتخر العربي بشجاعته فهي دليل قوة، واستعداد لخوض الحرب، ومقارعة الخصوم، وتحقيق الانتصار، وقد استخدم الشعراء ألفاظاً سمعية مثل: علمت، وقلت، مع استخدام ألفاظ القَسَم، والتبليغ، والصهيل المسترعد، والسؤال والخبر(1) بالرغم من للحرب أنياباً صريفها صوت الحديد لهولها(2).
إن نَفْسَ الفارس. مفتخراً تنزع لخوض غمار الحرب، ويجد في دعوته لها شفاء لنفسه(3) ويفتخر حين يدعونه باسمه والرماح متشابكة في المعركة(4)، ويفتخر إذا ذَكَرَ الحرب ذاكروها، لأنها ميدان تختبر فيه الشجاعة(5)، ويغنّي لملاقاته الأعداء ليقتص منهم:
أُغْني غِناءَ الذاهبيـ ... ـن أعدُّ للأَعداء عَدّاء(6)
حتى إن عدّوه يستنجد بقبيلة أخرى لإدراكه ونجدته وتخليصه منه(7) وإن الفارس لايخشى من صولة المتهدد، فهو يقتحم الغمار(8).
وتعبّر الصور المختلفة عن شجاعتهم، وتبليغ القبائل بقتل السراة في حرب كشّرت عن ناب وإضراس، وهي ميدان فخرهم(9).
__________
(1) تأبد شراً: ق22/18/108، أوس بن حجر: ق54/2/130، قيس بن الخطيم: ق5/19/113، زبان بن سيار: المفضلية: 103/ب6، المفضل النكري، المفضلية: 69/ب23، الأعشى: ق77/28، 30/355، عامر بن الطفيل: 34-36-37-95-116-117، ربيعة بن مقروم الضبي: 19/24، 37-39-44-45/42-46، لبيد: ق14/16/111.
(2) الربيع بن زياد: د: ق1/320، دراسات أدبية حـ2.
(3) عنترة العبسي: ق1/78/219.
(4) المصدر نفسه: ق1/73/216.
(5) عامر بن الطفيل: 36.
(6) عمرو بن معد يكرب: ق20/17/69.
(7) المصدر نفسه: ق5/2/36.
(8) عامر بن الطفيل: 58.
(9) العباس بن مرداس: ق56/1-2/126.(1/92)
ويفتخرون بانتصاراتهم في حروبهم، وحسن بلائهم بفزع البيض وأصوات السيوف(1) بل نقلوا أصواتهم في حومة الوغى(2) ويعلموننا بصبرهم وجلدهم(3)، وإذا ماسمعوا نداء هبوا لتلبيته في خوض الحرب، حيث تختلط نداءاتهم وأصواتهم بأصوات الخيل(4).
ولم يكن الشاعر الجاهلي في معرض مفاخرته إلاّ مزهواً وهو يدخل حرمة الوغى، ويقارع خصومه، فيودع شعره تفاصيل الحروب المختلفة حين يواجه تحدياً يهدد حياته وقبيلته، ليثبت شجاعته وقدرته على دحر الأعداء، ليكون موقع الرأس بين قومه، فنجد صوراً سمعية مختلفة، ولذا فقد استخدم الشاعر ألفاظاً تدل على ذلك مثل الوغى: أي الأصوات في الحرب، ثم كثر ذلك حتى سموا الحرب وغى، والوغى: غمغمة الأبطال في حومة الحرب(5).
__________
(1) المهلهل، أخبار المراقسة: 277.
(2) المفضل النكرى، الأصمعية: 69/ب23.
(3) عامر بن الطفيل: 64-119.
(4) بشر بن أبن خازم: ق2/18/10/، ق23/19/112، طرفة بن العبد: 29، الحارث بن حلزة، ق1/20/10، عدي بن زيد: ق4/8/43، دريد بن الصمة: ق19/1/60، قيس بن الخطيم: ق17/2/206، عنترة العبسي: ق6/7/248، العباس بن مرداس: ق57/2/127، الخنساء: 93.
(5) لسان العرب، مادة (وغى).(1/93)
وقد خلّف لنا الشعراء صور الوغى تضج بالأصوات والحركة، معبرة عن قوتهم، وسحقهم للعدو، وانتصارهم عليه(1).
إن من دواعي فخر العربي أن يهب لتلبية الدعوة دفاعاً عن حق، ودفعاً لشر، أو درءاً لخطر العدوان، ويجد في تلبية نداء الداعي المثوب الذي يستصرخ النخوة لنجدته مجالاً رحباً لإثبات قدرته وقوته، وإبراز تفوقه في ميدان الحرب.
وقد تمثلت الصورة السمعية في تلك الألفاظ التي امتلكت قدرة على إثارة الفرسان، لما يشكله الصوت من صورة لها مدلولها في الإثارة والانفعال، والرد السريع لما تعكسه من انفعالات نفسية، يجد الفارس في صوت الداعي المثوب فرصة سانحة لحضوره البطولي، وإشباعاً لرغبته، وميداناً لفخره، فضلاً عن أن نجدة المستغيث تنبع من فعل نبيل، وفرح لتلبية دعوته للإغاثة، عبر الصوت، والحركة، والفعل، حيث تتشكل الصورة السمعية التي احتلت حيّزاً في مساحة الأداء الشعري، بما يتيح للشاعر أن يحقق ذاته عبر نصرة المظلوم، مع سرد التفاصيل الدقيقة حتى لنجد جميع الشعراء يشتركون في مضمون واحد، حتى صار تقليداً متبعاً يكاد لايخرج عن دائرته.
__________
(1) المهلهل: 229-236-271-282-298-299، امرؤ القيس: ق77/17/321، عبيد بن الأبرص: ق39/12، 22/99-100، زهير بن جناب، أخبار المراقسة: 237-238. عمرو بن كلثوم: ق14/6/10، الربيع بن زياد: ق1/320، عروة بن الورد: 97، المتنخل الهذلي (مالك بن عويمر) ديوان الهذليين: 2/25، أوس بن حجر: ق2/8/6، عنترة العبسي: ق1/52/209، ق9/332، ق18/6/336، خراشة بن عمرو العبسي: المفضليات، المفضلية: 121/ب10، الأسعر الجعفي، الأصمعيات، الأصمعية: 44/ب17-18، عمرو بن الأسود: الأصمعية 21/ب4، ودّاك بن ثمل المازني، حماسة أبي تمام، التبريزي: 1/31، الأعشى: ق16/25، 26/131، عمرو بن الأطنابة، حماسة أبي تمام، تحقيق عبد المنعم، رقم 727/534، عامر بن الطفيل: 43،90-120-121، الخنساء: 6-11-155.(1/94)
على أن الدعوة تتدرج من دعوة للنزال والاستعداد له(1) إلى الإنقاذ وانجلاء الكرب(2) إلى الإجابة وإن لم يدعه(3)، وقد وجدنا من الشعراء من خرج عن هذه الصحوة بعد أن كبر(4) في حين لايستجيب بعضهم حين يدعى إلى الغدر(5).
__________
(1) المهلهل: 219.
(2) بشر بن أبي خازم: ق26/22/128، ق30/4/151، ق46/23/224، امرؤ القيس: ق84/1/342، ق90/2/347، حاتم الطائي: 7، 14، 26، زهير بن أبي سلمى: ق10/7/116، ق52/17/294، الطفيل الغنوي: ق6/20/66، أوس بن حجر: ق48/21/120، قيس بن الخطيم: ق4/6/80، عنترة العبسي: ق1/73/216، وانظر الهامش، ق23/2/294، عمرو بن براقة الهمداني، قصائد جاهلية نادة: ب9/100وب6/102، معقر بن حمار، قصائد جاهلية نادرة: ب20/111، دريد بن الصمة: ق6/1/36، ق15/19/48، ق23/3/66، ق52/1/103، عامر بن الطفيلي: 82، الشماخ: ق2/24/81، ق7/15/164، عمرو بن معد يكرب: ق2/1/136، ق84/6/180، الخنساء: 189، 192، زيد الخيلي: ق13/4/46، ق6/1/91، تميم بن مقبل ق25/43/196، لبيد: ق/22/10، ق25/4/173، ق43/1/286، حسان بن ثابت: ق27/7/116.
(3) حجية بن المضرب، الحماسة، التبريزي، 2/36.
(4) النمر بن تولب: ق31/19/86.
(5) عمرو بن معد يكرب: ق4/12/35.(1/95)
ولا تخرج الصورة السمعية في إطار (الدعوة) على الإطار التقليدي من حيث إيراد الألفاظ (دعا، وتدعو والداعي، ودعوا، ودعوة، ويدعون، ودعتنا، ودعانا) وتصريفاتها(1)، مثل:
دعا معاشر فاستكّت مسامِعُهُم
يالَهْفَ نفسي لو تَدعو بَني أَسَدِ(2)
1@إليه كإرقال الجِمالِ المَصاعبِ ... وقول الآخر:
رجالٌ متى يُدْعوا إلى الموتِ يُرقلوا
إذا فزعوا مدّوا إلى الليل صارخاً
كموجِ الأتيِّ المُزْبِدِ المُتراكبِ(3)
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق3/8، 15/21، ق45/3/218، عبيد بن الأبرص: ق3/12/4، طرفة بن العبد: ب19/110، الحارث بن حلزة: ق2/2/17، زهير بن جناب، أخبار المراقسة: 338، السموءل: ق7/13/19، الأفوه الأودي: ق2/11، ق بي/14، ق ز ي/19، ق بك/22، دريد بن الصمة: ق60/2/107، النابغة الذبياني: 53، الطفيل الغنوي: ق6/19/66، قيس بن الخطيم: ق4/13/84، مضرب بن ربعي، الحماسة، التبريزي: 1/33، الأعشى: ق4/47، 64/41، 43، ق23/11/175، أبو الطحان القيني: ق4/163، مالك بن حريم: ق1/1/167، ق6/1/168، وقصائد جاهلية نادرة: 221، زيد الخيل الطائي: ق13/8/47، لبيد: ق2/22/10.
(2) عبيد بن الأبرص: ق20/58.
(3) قيس بن الخطيم: ق4/48.(1/96)
وقد احتلت ألفاظ المثوب، والداعي المثوب مكانها في الصورة السمعية لدى الكثير من الشعراء(1)، فضلاً عن إجابة المستغيث إذا دعا(2) وإغاثة الصارخ الفزع بسرعة الإجابة وسرج الخيل:
كُنّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ
كان الصُراخُ له قَرْعَ الظنابيب(3)
ووصف الشعراء أصوات السلاح في المعركة، حيث نسمع صوت الخوذ تقرع بالسيوف، عبر صورة سمعية جميلة:
فلولا الريح أسمعَ أهلَ حَجرٍ
صليلَ البَيْضِ تُقْرَعُ بالذّكورِ(4)
ويسمعنا شاعر آخر صليل السيف في الدروع:
وسابغةٍ منْ جيادٍ الدرو
عِ تَسْمعُ للسيفِ فيها صَليلا(5)
وحين يحمي وطيس المعركة تسمع وقع السيوف:
وسمعتَ وقعَ سيوفِنا برؤوسِهم
وَقْعَ السَّحابةِ بالطِّرافِ المسرجِ(6)
__________
(1) المهلهل: 261، 299، الشنفرى: ق1/6/32، عمرو بن قميئة: ق2/8/32، الأفوه الأمدي: ق ح/1/11، سلامة بن جندل: ق2/24، 31/148، 152، الطفيل الغنوي: ق3/7، 33/42، 49، ق7/29/79، أوس بن حجر: ق28/10، 13/58، 59، ق29/1/61، الأعشى: ق16/40/133، ق30/24/203، امرؤ القيس بن عمرو السكوني، قصائدها جاهلية نادرة: ب34/152، عوف بن الأحوص، المفضلية: 108، مضرس بن ربيعي، الحماسة، التبريزي: 2/42، يزيد بن الصعق، الأصمعية: 45، ربيعة بن مقروم الضبي: ق4/14/11.
(2) امرؤ القيس: ق79/127/335، زهير بن أبي سلمى: ق51/22/228، الطفيل الغنوي: ق3/6/42، 6/29، 30/68-69.
(3) سلامة بن جندل: ق1/28/125، زهير بن أبي سلمى: ق2/12/34، ق13/9/156، ق14/6/160، ثعلبة بن عمرو العبدي، المفضلية: 74/ب7، عمرو بن معد يكرب: ق19/2/61، لبيد بن ربيعة: 26/59/191.
(4) المهلهل: أخبار المراقسة: 277، البيض: الخوذ، الذكور: السيوف.
(5) عبد قيس بن خفاف البرجمي، الحماسة، التبريزي: 1/312، عمرو بن كلثوم، المصدر السابق: 1/183، بشامة بن عمرو، المفضلية: 10/ب35، عمرو بن معد يكرب: ق45/11/14.
(6) الحارث بن حلزة: ق9/8/22.(1/97)
ويفتخر الفرسان باستخدام السيف الذي جلا القين مَتْنَهُ فَحَدّهُ(1)، وقد اعتنى بصقله ليكون خفي الجرس عند استلاله(2)، وقد يصبح سيفاً قضماً متكسراً من كثرة استخدامه في الضرب(3)، على أن ألفاظ السلاح كثيرة(4) ولكننا اكتفينا بما يخص أصوات السلاح.
ويسمعنا أبو دؤاد الأيادي صياح الردينيات صياح العوالي من خلال صورة مركبة حيث يقول:
تَصيحُ الردينياتُ في حجباتهم
صياحَ العوالي في الِّثقاف المُثقَّبِ(5)
وقد أحكمت، فهي قليلة الزيغ من سَنٍّ وتركيب(6)، ويصور لنا الشاعر حالة الفرسان في الحرب وهم يسنّون الأسنة، وإذا ما تنادوا فإنهم يصبحون كالنحل المتعطف(7) والطعن بالسمهرى الصلب من الرماح المقصد (المكسر)(8)، وإعادة الكَرّ إذا ما الرماح تكسرت(9) والطعن بمطارد الخَطّي(10) حتى تدخل الريح في صدر القتيل فَتُصَوِّرت:
وفي صدرِهِ مثلُ جيْب الفَتا
ةِ تشهق حيناً وحيناً تَهِر(11)
1@رَصائعُ قد نيطت إليها ومحملُ ... وقد صور لنا الشعراء القسّي بالهتوف المصونة، إذا أنبض فيها سمعتَ لها صوتاً إذا ما خرج السهم عنها سُمِعَ لها رنين وصوت مثل صوت المرأة الثكلى:
هتوفٌ من الملس المتونِ يزينها
__________
(1) خراشة بن عمرو العبسي: المفضلية: 121/ب13.
(2) راشد بن شهاب اليشكري: المفضلية: 86/ب5.
(3) المزرد بن ضرار: ق1/49/45.
(4) ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في دواوين شعراء المعلقات العشر (الدراسة): 426-454.
(5) أبو دؤاد الأيادي: ق2/1/283، عمرو بن معد يكرب: ق19/14/64.
(6) سلامة بن جندل: ق1/19/113.
(7) الطفيل الغنوي: ق3/7/42.
(8) عنترة العبسي: ق14/2/280، عمرو بن شأس الأسدي: ق1/25/32.
(9) عامر بن الطفيل: 38، عبد الشارق عبد العزى الجهني، الحماسة، التبريزي: 1/172.
(10) أوس بن حجر: ق14/9/30، العباس بن مرداس: ق20/27/17، المطارد: مايقي من الرماح إذا تكسرت.
(11) أوس بن حجر: ق14/10/30.(1/98)
مُرَّزأةٌ عَجلى تُرِنُّ وتُعْوِلُ(1) ... إذ زلّ عنها السهمُ حَنَّتْ كأنها
وإذا ما مسته الأنامل صَوّت(2)، ولم يفت الشعراء تصوير مشاهد الحرب، حيث تسمع عويل النساء عبر صور سمعية، دلالة على انتصاراتهم:
فما تركوا في عامرٍ من مَنوِّهٍ ... ولا نسوةٍ إلاّ لهنَّ عويلُ(3)
في الوقت الذي يفخر فيه عمرو بن كلثوم أن نساءهم لاتنوح على قتلاهم:
معاذ الإله أنْ تنوحَ نساؤنا ... على هالكٍ أو أن تضج من القتل(4)
في حين اعترف عمرو بن معد يكرب بولولة نسائهم، فضلاً عن ولولة نساء أعدائهم(5).
__________
(1) الشنفرى: لامية العرب: ب12، 13/33-34، الطرائف الأدبية: ق هي/7، 9، 14/38، ق و/4/34، أوس بن حجر: ق35/34/89، راشد بن شهاب اليشكري: المفضلية: 86/ب6، صخر الغني، ديوان الهذليين: 2/60 عمرو بن معد يكرب: ق49/4-5/122-123، ربيعة بن مقروم الضبي: ق19/17/41.
(2) أبو المثلم الهذلي، ديوان الهذليين: 2/232.
(3) سلامة بن جندل: ق4/14/194، عامر بن الطفيل: 92، 95، 100، لبيد: ق2/22/10.
(4) الحماسة، التبريزي: 1/183.
(5) عمرو بن معد يكرب: ق2/4/31.(1/99)
وينطلق الشاعر في فخره من موضوعات شعره المختلفة، يستشرف القيم العليا، والمثل الحميدة، والمعاني السامية التي تفخّم الذات، وتعظّم القبيلة وتمجدها، لتسمو على غيرها، لما للشعر من أثر في سرعة انتشار أخبار أمجادها ومفاخرها ومآثرها، من شجاعة وكرم ومروءة، والفخر بالنصر في المعارك، ليبقى المفتخر في أحسن صورة على صعيدي الذات والجماعة، وهم لايكتفون بالانتصار في حروبهم، وفخرهم في ذ ... لك، إنما يسعون إلى إذاعته عن طريق التبليغ ليصل إلى سمع القبائل(1).
الهجاء:
يُعَدّ الهجاء فناً، أو غرضاً من أغراض الشعر الرئيسة، للتعبير عن غضب الشاعر وسخطه السريع على المهجو، ينشده على مسامع الناس، للانتقاص منه، وقد يتعدى ذلك إلى الجماعة، وهو رد فعل لموقف معين يتعرض له الشاعر، فلا يجد مندوحة عن استخدام سلاح الهجاء إزاء الخصوم، والهجاء مؤثر لا ريب، ولذا فإن الناس تحاول أن تتقيه ماوسعها الجهد، لأنه سيبقى وسُبّة، يتعدى الموقف الآني إلى الأجيال المتعاقبة، ويبقى الدهر. على أن ألفاظ الهجاء قد وردت في الفخر، ولم تقتصر على الهجاء المحض.
وقد تشكلت منافذ الأداء السمعي من خلال الألفاظ التي استخدمها الشعراء في الهجاء منها:
الذم(2)، وماذكرها بعض الشعراء إلاّ للترفع عنها، ومحاولة إبعاد ذم الناس لهم بوسائل شتى منها التحول. بالرغم من كون الشنفرى كان مفتخراً:
__________
(1) تأبط شراً: ق45/1/129، الفند الزماني: ق3/3/9، امرؤ القيس: ق45/1/210، حاتم الطائي: 8، 23، 30، سلامة بن جندل: ق8/1/206، قيس بن الخطيم: ق5/9/113، ق11/6/154، ق15/12/184، ق23/1/216، حجل بن نضلة، الأصمعية: 43، العباس بن مرداس: ق10/1/47، ق39/1/110، الخنساء: 236، تميم بن مقبل: ق27/1/201، لبيد: ق14/16/111.
(2) أبو دؤاد الأيادي: ق60/11-12/338، الخرنق: ق10/1/37، راشد بن شهاب اليشكري، المفضلية: 86، الطفيل الغنوي: ق36/2/109، خفاف بن ندبة: ق1/12/30، الحطيئة: ق37/4/197.(1/100)
ولولا اجتناب الذَّأْمِ لمْ يُلْفَ مَشْرَبُ ... يُعاشُ به إلاّ لديَّ ومأكلُ
ولكنَّ نَفْساً حُرّةً لا تُقيّمُ بي ... على الذّامِ إلاّ ريثما أَتَحول(1)
وقد بذل الشعراء جهدهم للدفاع عن العشيرة باللسان واليد اتّقاء الذم(2) وبالوفاء(3)، والكرم(4)، وإتلاف المال(5)، والمال المذمم(6).
ويذهب زهير بن أبي سلمى إلى الحكمة ليقرر لنا حقيقة الذم عندما يوضع المعروف في غير محله عبر صورة سمعية انتشرت فيها أحرف النون والتنوين، والميم والتجانس بين (أهْلهِ، عليه) ولفظة الذم المشددة:
ومنْ يجعل المعروف في غير أهلهِ ... يكن حمدُه ذَمّاً عليه ويندمِ(7)
ومن يتعفف يبتعد عن الذم في إطار صورة سمعية بصرية مشتركة:
ومالَمَعَتْ عيني لغرّةِ جارةٍ ... ولا ودّعتْ بالذم حين تَبينُ(8)
__________
(1) الشنفرى: لامية العرب: 39-40، بشر بن أبي خازم: ق40/9/194.
(2) عبيد بن الأبرص: ق19/11/45.
(3) السموءل: ق6/12/16، زهير بن أبي سلمى: ق1/52/26.
(4) السموءل: ق1/20/10، حاتم الطائي: 25، 27، 35، 37، النابغة الذبياني 194، الشماخ: ق3/8/107.
(5) المرقش الأصغر: ق5/2/543.
(6) مالك بن حريم: 12/2-4/173.
(7) زهير بن أبي سلمى: ق1/26.
(8) قيس بن الخطيم: ق13/165.(1/101)
على أن الألفاظ ذات الدلالة السمعية الصريحة التي احتلت موقعها من الهجاء هي: (الشتم والسب)، وقد وردت لفظة (الشتم) عند الشعراء بالرغم من أنهم كانوا يتقونه بوسائل شتى بالبذل تارة، وبالحلم تارة، وفضح موقف المنافق(1)، وباستدرار موقف الحكمة، وعدم التسرع في اللجوء إلى الشتم:
ومَنْ يجعل المعروف منْ دونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ، ومَنْ لايَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ(2)
وقد وردت لفظة (القصب) بمعنى الشتم(3)، كما استخدم بعض الشعراء كلمة (السب)(4) ومنهم من نبذها(5).
وتعدد ألفاظ الهجاء، حيث تتخذ من الهزء والسخرية موقفاً يتألم منه المهجو:
أتهزأُ مني إن سمنت وان ترى ... بوجهي شحوبَ الحق والحقُ جاهدُ(6)
__________
(1) تأبط شراً: ق6/35/77، طرفة بن العبد: 90، السموءل: ق2/6/11، حاتم الطائي: 45، 49، 50، المتلمس الضبعي: ق42/1/325، المثقب العبدي: ق و /14/46، عدي بن زيد: ق 11/13/70، ق 16/41/91، عنترة العبسي: ق1/84/222، الحادرة: ق1/2/39، راشد بن شهاب اليشكري: المفضلية: 86/ب4، الجميع (منقذ بن الطماح): المفضلية: 109/ب6،8، معبد بن علقمة، الحماسة البصرية: 1/9، زهير بن قيس: ق21/1/53، ق22/1/53، العباس بن مرداس: ق7/9/42، ق36/1/105، عمرو بن معد يكرب: ق70/4/164، حسان بن ثابت: 113.
(2) زهير بن أبي سلمى: ق1/26.
(3) عروة بن الورد: 25/ب3.
(4) الفند الزماني: ق4/46/14، المتلمس الضبعي: ق9/9/191، الطفيل الغنوي: ق1/77/36.
(5) زهير بن أبي سلمى: ق10/11، 12/118، المخّبل السعدي: ق26/1/128، الشماخ: ق5/15/
134، الحطيئة: ق1/24/18.
(6) عروة بن الورد: 52، المخبل السعدي: ق20/1/127، الأعشى: ق14/13/113.(1/102)
ومن تلك الألفاظ (يقرف) أي يذكر المهجو بسوء(1)، والإهانة(2) واللعن(3) والنطق والمنطق القذع الباطل(4)، ويذهب الشعراء إلى ضرورة حفظ اللسان(5)، لما له من حدّةِ كحدِ السنان، وإنْ ورد ذلك في معرض الفخر:
فأصبحت أعددتُ للنائبا ... تِ عِرْضاً بريئاً وعَضْباً صَقيلا
ووقعَ لسانٍ كحدِّ السِّنانِ ... ورمحا طويلَ القناةِ عَسولا
وسابغةً منْ جيادِ الدرو ... عِ تسمع للسيفِ فيها صليلا
كماءِ الغدير زفّتهُ الدبورُ ... يجرّ المدجج منها فضولا(6)
__________
(1) حاتم الطائي: 38.
(2) ربعة بن مقروم الضبي: ق19/20/42.
(3) حاتم الطائي: 33، عبد قيس بن خفاف: المفضلية: 117.
(4) امرؤ القيس: ق14/12/112، وينظر أشعار النساء: 164، 165، النابغة الذبياني: 165، 181، 259، زهير بن أبي سلمى: ق5/33/89، ق25/10/214، ق29/1/221، أوس بن حجر: ق38/11/129، الأعشى: 15/2/119، ق18/38/143، أمية بن أبي الصلت: ق5/8/158، رويشد الطائ، الحماسة، التبريزي: 2/200، العباس بن مرداس: ق65/7/135، الشماخ: ق3/6/106، عمرو بن معد يكرب: ق12/11/45، الخنساء: 261، لبيد بن ربيعة: ق4/6/26، ق4/28/33، ق35/70/249، حسان بن ثابت: 230.
(5) امرؤ القيس: ق9/5/90، طرفة بن العبد: 54، 79، 92.
(6) بعد قيس بن خفاف: المفضلية: 117، عروة بن الورد: 96، ذو الأصبع العدواني: المفضلية: 31، زهير بن أبي سلمى: ق19/33/188، ق43/13/261، ق51/7/284، قيس بن الخطيم: ق11/2/153، أبو الطمحان القيني: ق14/3/163، زيد الخيل: ق39/5/81، الخنساء: 206، حسان بن ثابت: ق2/2/25.(1/103)
وفي مجال الهجاء استعمل الشعراء ذم اللسان لما فيه من ثقل وعدم إفصاح(1) في حين يمدح لعدم وقوعه في اللحن(2)، وتعرض الشعراء للندامة على إطلاق اللسان بما لاتحمد عقباه(3)، وطلب النطق بالعدل(4).
كما عبر الشعراء عند الهجاء بالكلمات القاسية(5)، والكلام السيء(6)، والكلام الزائد والناقص(7)، والكلام السلاق(8)، وإظهار عورات الكلام(9)، واستخدام الألسن والكلام الشديد وتمثل ذلك بالسهام(10)، واستخدام الكلام غير المفهوم الذي يلاك باللسان لعدم إبانته(11)، والصدود عن الكلام(12)، إلى عدم استطاعة التكلم(13)، وبالتالي الخرس والصم(14)، تلك كلها شكلت صوراً سمعية مختلفة.
__________
(1) امرؤ القيس: ق39/2/202، زهير بي أبي سلمى: ق12/7/149، ق28/13/220، ق41/2/253.
(2) سويد بن أبي كاهل: ق18/3/41.
(3) النابغة الذبياني: 259، زهير بن أبي سلمى: ق3/38/59، ق25/11/215، الحطيئة، ق37/3/197، حسان بن ثابت: 92.
(4) عدي بن زيد: ق23/37/107. ... ... ... ...
(5) بشر بن أبي خازم: ق43/12/164.
(6) المثقف العبدي: ق و/15/46.
(7) زهير بن أبي سلمى: ق/هـ/28، بشر بن عليق الطائي، قصائد جاهلية نادرة: 188، الحطيئة: ق21/1/333.
(8) عدي بن وداع (قصائد جاهلية نادرة): 61.
(9) كعب بن سعدي الغنوي: 751.
(10) لبيد بن ربيعة: ق26/71/194.
(11) المهلهل: 347، الأسود بن يعفر: ق33/1، 2/38، النابغة الذبياني: 145-146، عنترة العبسي: ق1/2/186، لبيد بن ربيعة: ق48/10/299.
(12) حاجز بن عوف، قصائد جاهلية نادرة: 83، عنترة العبسي: ق10/2/270. الأعشى: ق6/9/55.
(13) المهلهل: 280، النابغة الذبياني: 98، زهير بن أبي سلمى: ق1/1/9 المخبل السعدي: ق40/132.
(14) الأسود بن يعفر: ق33/1، 2/38، زهير بن أبي سلمى: ق9/2/100.(1/104)
وإلى جانب ذلك فقد تناول الشعراء في مجال الهجاء عبر منافذ الأداء السمعي: القوافي التي يهون السوط إزاءها(1)، والقصائد المغلغلة(2)، والرسالة(3)، والمأكلة(4)، ومقالة كاذب(5).
وأن من الشعر ماتحمله الرواة إلى كل مكان مثل نوافذ السهم إذا خرج عن الفوق لم يردّه أحد:
وليس الجهل عن سنٍّ ولكنْ ... غَدَتْ بنوافذِ القولِ الرّكابُ(6)
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق19/2/97، عبيد بن الأبرص: ق30/9/77، النابغة الذبياني: 251، زهير بن أبي سلمى: ق7/7/95، الأعشى: ق19/13/151، ق/73/5/345، العباس بن مرداس: ق29/2/91.
(2) المهلهل: 275، عميرة بن جعل: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 2/650، حاتم الطائي: 39، الحارث بن ظالم المري: ق9/266، حـ2، النابغة الذبياني: 105، الأعشى: ق27/1/185، عصام بن عبيد الزماني، الحماسة، التبريزي: 2/4، صخر الغي، ديوان الهذليين: 2/59، الحطيئة: ق1/20/16، سويد بن أبي كاهل اليشكري: ق17/2/40.
(3) تأبط شراً: ق30/2/129، طرفة بن العبد: 77، 113، حاتم الطائي: 30، 41، عروة بن الورد: 25، الحارث بن ظالم المري: ق4/63، النابغة الذبياني: 129، زهير بن أبي سلمى: ق1/25/17، قيس الخطيم: ق23/1/216، العباس بن مرداس: ق67/5/137، عمرو بن شأس: ق20/1/90، زيد الخيل الطائي: ق39/5/81، الحطيئة: ق1/20/16، ق9/1/314 (رواية السكرى).
(4) عدي بن زيد: ق22/5/100، النابغة الذبياني: 251، 266.
(5) الحارث بن ظالم المري: ق8/1/266.
(6) عامر بن الطفيل: 20.(1/105)
وقد جعلوا من الرسالة الرسول إلى المهجو(1)، على أن من الشعراء من استخدام لفظة التبليغ الشفاهية ذات الدلالة السمعية لإيصال الصوت إلى المهجو ونجد (ألا أبْلِغ) التي يستفتح بها الشاعر قصيدته، أو في أثنائها، إنّما تعبّر عن المعاناة في إطار المناخ المنفعل ضمن تفاصيل الأحداث التي تتسمُ بالتقليد في استخدام صيغ التعبير ولكنها منبثقة من مواقف نفسية متأزمة، مفعمة بالحركة والأصوات(2) وقد تضمن هذا الغرض ألفاظاً صريحة به مثل الهجاء:
فيا عجبا أَيُوعدني ابنُ سعدى ... وقد أبدى مساؤَهُ الهِجاءُ(3)
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق2/7/8، ق4/7/21، ق41/21/207، حاتم الطائي: 23، الربيع بن زياد، ق3/324، النابغة الذبياني: 71، سلامة بن جندل: ق8/1/206، زهير بن أبي سلمى: ق6/7/92، ق38/9/248، قيس بن الخطيم: ق/18412، مالك بن حريم الهمداني: ق2/1/167، العباس بن مرداس: ق65/1/135.
(2) بشر بن أبي خازم: ق4/7/21، ق18/5/95، ق41/21/207، طرفة بن العبد: 77، 113، عميرةُ بنُ جُعَل: المفضلية: 64/ب7، حاتم الطائي: 41، الخرنق: 37، الأسود بن يعفر: ق35/3/343، الحارث بن ظالم المري: ق24/272، النابغة الذبياني: 259، زهير بن أبي سلمى: ق6/7/92، ق7/1/94، ق37/1/245، أوس بن حجر: ق42/1/109، بشامة بن الغدير، المفضلية: 122، الأسعر الجعفي (مرتد بن أبي حمران الجعفي)، الأصمعية: 44، قيس بن الخطيم: ق10/15/149، العباس بن مرداس: ق29/1/91، ق65/1/135.
(3) بشر بن أبي خازم: ق1/16/4، ق19/1/97، ق34/11/164، وينظر ديوان طرفة بن العبد: المعلقة/75/35، والمتلمس الضبعي: ق2/1/42، وزهير بن أبي سلمى: ق43/11/260، وأوس بن حجر: ق44/1/111، والحادرة: ق2/1/39، وزبان بن سيّار المري: المفضلية: 103، وعوف بن عطية: الأصمعية: 59، والجميع (منقذ بن الطماح)، المفضلية: 109، ودريد بن الصمة: ق26/2/71، والأعشى: ق38/5/247، والعباس بن مرداس: ق65/6/135، والحطيئة: ق77/1/295.(1/106)
كما تضمن ألفاظاً غير صريحة:
ومهتزعٍ حالاً ولؤمَ خَليقةٍ ... صَقَعْتُ بِشَرٍّ، والآلفُّ لواقحُ(1)
عِلماً أن بعضهم أطلق ألفاظاً تدل معانيها على الهجاء، فضلاً عما يتضمنه الشعر من هجاء(2).
واستخدم الشعراء من ألفاظ الهجاء (اللوم) لتكدير المهجو بالكلام:
بني عامر غضّوا الملامَ إليكمُ
وهاتوا فعدّوا اليوم فيكم مشاهدي(3)
وقد يتعرض الشاعر هو الآخر للوم من لدن الآخرين، وقد يعرف سبب ذلك اللوم، أو لايعرفه، ومن الشعراء من يقرّ بأن اللوم الذي تعرض له إنما هو نابع من قتال فيكون والحالة هذه باعثاً على الفخر(4)، في حين يلام الشاعر وهو لايعرف لماذا ليم(5)، أو تعرض للوم ولم يكن هو السبب في ذلك(6)، ومنهم من يرد اللوم إلى المسيء(7) ومن يضل لايعدم اللائم(8) وعدم توجيه الملامة إلاّ لمن بدأ بها:
ولاتُلْحِ إلاّ مَنْ ألامَ ولاتَلُمْ
وذا الذمّ فاذممهُ وذا الحمد فاحَمْدِ(9)
__________
(1) سلامة بن جندل: ق5/5/199، مهتزع: مسرع. الصَّقْع: الضرب على الشيء اليابس وغير اليابس.
(2) بشر بن أبي خازم: ق16/23-30/86-89، ق17، وينظر ديوان المتلمس الضبعي: ق4/15/95، ق4/18، 19/99، وأوس بن حجر: ق1/24/4، والأعشى: ق15.
(3) عامر بن الطفيل: 52، 69، 73، 83، 99.
(4) الفند الزماني: ق4/39/14.
(5) طرفة بن العبد: المعلقة /69/33، الخطيئة: ق13/8/106، ق58/2/461.
(6) عمرو بن قميئة: ق16/2/73، طرفة بن العبد: 52، النابغة: 54، عامر بن الطفيل: 99.
(7) أمية بن أبي الصلت: ق102/5/277.
(8) المرقش الأصغر: ق2/20/، 22/537، المخبل السعدي: ق33/5/132، النمر بن تولب: ق45/4/121.
(9) عدي بن يزيد: ق23/37، 38/107.(1/107)
وإذا ما وقعت الملامة يبتهل بعضهم إلى الله ليصرف عنه لومة المتلوم(1)، وبعضهم لن ينصرف عنه اللوم مهما فعل(2)، ومنهم من يذهب لقضاء حاجة اللائم(3) في حين يأبى اللوم جرّاء التبذير(4)، ومن يسعى يحمد أو يلام(5)، وإن اللوم من شيمة السفيه(6)، وقد يتعرض الشاعر للوم من جراء الوداع(7) وذرف الدموع(8)ومن جراء الأمر المريض(9)، والبخل المقيت(10).
على أن هناك من يشعر بالخوف من الملامة(11) ومن يصاب بالجزع من جرائها(12).
ومن الهجاء (التعبير) وهو تقبيح القول والفعل، وينسب الشاعر للمهجو كل مايمت إلى العار حقاً وباطلاً، وقد ردّ بعضهم على ذلك في معرض الفخر:
تُعَيِّرُنا أنّا قليلٌ عديدُنا
فقلتُ لها إنّ الكرامَ قليلُ(13)
واستخدم المتلمس الضبعي، التعبير، للتعبير عن ذلك الغربة فقال:
عَيّرتموني بلا ذنبٍ جواركمُ
هذا نصيبٌ منَ الجيرانِ محسوسُ(14)
__________
(1) أمية بن أبي الصلت: ق119/2/290.
(2) ذو الأصبع العدواني: المفضلية: 29.
(3) عنترة العبسي: ق1/6/188.
(4) النمر بن تولب: ق44/15/118، حجية بن المضرب: الحماسة، التبريزي: 2/35، كعب بن زهير: 128، 156، لبيد: ق35/58/246.
(5) لبيد: ق44/13/291.
(6) لبيد: ق42/3/279.
(7) الأعشى: ق9/1/77.
(8) الشماخ: ق7/5/162.
(9) المخبل السعدي: ق18/2/127.
(10) زهير بن أبي سلمى: ق9/12/104.
(11) النابغة الذبياني: 165.
(12) الأفوه الأودي: ق زى/14/19.
(13) السموءل: ق1/3/8.
(14) المتلمس الضبعي: ق/4/18/99.(1/108)
كما عيّروه بأمه(1) ومنهم من يعيّر بما يخشى أنْ يُعيَّر به(2) وبنسبه(3) ويذهب التعبير إلى الزاد والشراب(4)، والتعبير على قتل الضعيف:
تُعيُّرنا كعبٌ كلاباً وقتلها
وَيُقْتَل أدنى مِنْ كلابٍ وأضعفُ(5)
وهناك من يُعيَّرُ بالفخار(6)، ومنهم من يحاول أن ينفي العار عن قومه(7).
ومن الألفاظ التي شَكَّلتْ منافذَ الأداء السمعي عبر استخدامها هي (لحا، اللاّحي،...) وقد تداخلت في السب والشتم والقبح واللعنة، على أن من الشعراء من قَبّحها، واستخدمها لذم منْ سعي في قيام الحرب وإشعال نارها(8)، وبالرغم من ذلك، فإن المرء ليس ببعيد عن الملحاة والشتم(9)، في الوقت نفسه نجد من تخلى عن النزق واللحاء(10)، ويرتفع صوت الشاعر للكفِ عن اللحو إلاّ لمن لحا والترك أولى(11) ومن خلال ذم تلك الصفة لانجد إلاّ المنافق يلوم نفسه(12).
__________
(1) المتلمس الضبعي: ق1/1/14، ق4/18/99، ق32/1/311، عروة بن الورد: 78/103.
(2) النابغة الذبياني: 124.
(3) النابغة الذبياني: 224-225.
(4) أوس بن حجر: ق20/3/38، وينظر سيرة بن عمرو الفقعسي، الحماسة، التبريزي: 1/81/ب3، أبو المثلم الهذلي، ديوان الهذليين: 2/227، 231، المخبل السعدي: ق28/29/129.
(5) تميم بن مقبل: ق25/24/194.
(6) العباس بن مرداس: ق17/12/64.
(7) الأعشى: ق59/1/305.
(8) قيس بن زهير: ق4/1/37.
(9) الجميع (منقذ بن طماح) المفضلية: 19/57، كعب بن زهير: 213.
(10) عبد قيس بن خفاف البرجمي، الحماسة، التبريزي: 2/312.
(11) عدي بن يزيد: ق23/38/107.
(12) سويد بن أبي كاهل: ق10/89/33.(1/109)
وبيد أن لفظ (لحا) قد أدّى إلى تجارب أُخَر استوعبتها موضوعات الشعراء المختلفة من خلال مايُحدثه الأثر النفسي الذي يترك بصماته على الشعر استجابة للبواعث الآنية، حيث يعاصي الشاعر من لحاه في حبه للحبيبة(1)، أو يفارقها فراق الهاجر اللاحي(2)، في الوقت الذي لايتقبل منها اللوم ويطلب تأجيله إلى وقت آخر(3) وتتعدد ألفاظ الهجاء منها العيب كما قال لقيط:
إذ عابه عائب يوماً فقال له
دَمِّتْ لجنبكَ قبل الليلِ مضطجعا(4)
إن اللطام وقول السوء محمولُ ... وقد ذهب البيت مذهب الأمثال، حيث يُضرب في الاستعداد للأمر قبل حلوله، ومما استخدم الشاني(5) والناطق المرقش(6) والطبخ (الكلام القبيح)(7) وقوارص الكلام(8) والازدراء(9) وحدّ الأظفار، وهو مثل يضرب للشتم والأذى(10)، والفَنَد: القول القبيح(11).
التهديد والوعيد:
التهديد أو الوعيد لفظتان مختلفان لفظاً لمعنى واحد، فالتهدد والتهديد والتهداد من الوعيد والتخوف، والوعيد والتوعد هو التهدد، ويقال أوعده وتَوَعَّدَه(12) وتلك الألفاظ سمعية تدخل في نسيج الشعر تؤدي معناها عبر ماتشكلّه من أصوات لتوضح لنا الحالة النفسية للشاعر، عبر التعدد الصوتي.
__________
(1) امرؤ القيس: ق73/23/299.
(2) أوس بن حجر: ق5/1/13.
(3) المصدر نفسه: ق5/6، 7/14.
(4) لقيط بن يعمر الأيادي: 48، ذهب البيت مذهب الأمثال. دَمِّتْ لجنبك: تهيأ للأمر قبل وقوعه.
(5) الحارث بن حلزة: 1/65/15.
(6) المصدر نفسه: 1/21/11.
(7) المصدر نفسه: 1/40/13.
(8) السموءل: ق6/10/16، الأعشى: ق1/2/151.
(9) العباس بن مرداس: ق15/1/58.
(10) الطفيل الغنوي: ق5/15/58.
0@ولا احدد أظفاري أقاتله
(11) أبو المثلم الهذلي: ديوان الهذليين: 2/227.
(12) ينظر لسان العرب: مادة (هدّ) و (وعد).(1/110)
وقد وجدنا أن لفظة الوعيد هي الأكثر شيوعاً في الشعر الجاهلي، ونجد هذه اللفظة في قصائد الهجاء والمديح، ينبثق معناها من الفخر الذاتي والقبلي، للتقليل من شأن التهديد وشأن مطلقها.
وردت لفظة الوعيد عند بشر بن أبي خازم في هجائه لأوس بن حارثة الذي أوعده بقومه وكثرتهم، فيرد عليه بالمثل، ولا يأبه لوعيده، ويبلغه بذلك عن طريق الرسول، حيث الإبانة عن الموقف يحتم النطق والسماع:
ألا أبلغْ بني لأمٍ رسولاً
فبئسَ محلُّ راحلةِ الغريبِ
وذلك منْ ملمّاتِ الخطوب ... أَتُوعدني بقومكَ يابنَ سعدى
وحولي مِنْ بني أسَدٍ حلولٌ
مُبِنٌّ، بين شبّانٍ وشِيبَ(1)
وفي الإطار نفسه يردّ عبيد بن الأبرص على امرئ القيس وعيده يهجوه ساخراً منه لما آل إليه مصير حجر:
أَتُوعدني أسرتي وتركتَ حجرا
يُريُغ سوادَ عينيهِ التُّرابُ(2)
1@بين حقلٍ وبينَ هُضْبٍ ذُبابِ ... في حين نجد حاتم الطائي يرد على المُهَدّد تهديده، ووعيده لمنعته وعزّه، فضلاً عن قوة الممدوح (الحارث بن عمرو والد النعمان) حينما أطلق سراح أسرى من قوم حاتم، وشبّه حاتم الطائي قوم الحارث بالليوث الغضاب وبذلك فقد سَدّ منافذ الوعيد على مُطلقيه:
أيها المُوعدي فإنَّ لبوني
حيثُ لا أرهبُ الخزاةَ وحولي
ثعليون كالليوثِ الغضابِ(3)
في حين نجد الأسود بن يعفر يعبّر عن الوعيد الذي أتاه عن ابني أنس، فمن هوله تطرح الآرام أولادها نقصاً، ومن جرائه تكره الذئاب ريح مرابض الغنم والظباء والبقر:
أتاني عن أبي أنسٍ وعيدٌ
ومعصوبٌ تخبُّ بهِ الركابُ
__________
(1) ديوانه: ق4/21، ومابعدها، المُبِنّ: المقيم من الابنان وهو اللزوم والإقامة بالمكان.
(2) ديوانه: ق1/1.
(3) ديوان حاتم الطائي: 8 لبوني من الشاة والإبل ذات اللبن، ذباب: اسم جبل بالمدينة، ثعلبون: من بني ثعل. وينظر ديوان حاتم أيضاً: 17، وينظر ديوان دريد بن الصمة: ق29/76، وق30/78، وق63/110، وينظر عميرة بن جُعل، المفضليات، المفضلية: 64.(1/111)
وعيدٌ تُخْدجُ الآرامُ منهُ
وتكرهُ بَنَّةَ الغَنَمِ الذّئابُ(1)
أراد الشاعر أن يعبّر من خلال البيتين عن الوعيد الذي لاينفذ، من خلال صورة رسمتها الألفاظ السمعية مثل (الوعيد، وخبب الركاب)، ممّا أدى الوعيد إلى أن تخدج الآرام وهي بطبيعتها لاتخدج وتكره الذئاب ريح مرابض الغنم وهي لاتكرهه، بل هي مدعاة لجذبها إليه.
فلولا الألفاظ السمعية التي رسمت لنا صورة أولى، مارسمت الصورة الثانية، لو لم ينطق أبو أنس الوعيد وسمعه الشاعر لما تشكّلت الصورة التي تخيلها الشاعر، على أن البحر الوافر استوعب تلك الصورة، بالرغم من الثقل في الموسيقى الداخلية في تقارب حرف الباء من (معصوب تخب).
ولولا تساوي عدد السواكن في التفعيلات مثل (أتاني عن، ومعصوب، وعيد تخدج الآرام) مع عدد المتحركات (أبي أنس، تخب به، وتكره بنّة الغنم) لتناسب حلاوة الإيقاع وَحَلَتْ في السماع، وبخاصة إذا قلّتْ السواكن.
وإذا ماتأملنا الوعيد لدى النابغة سنجده من نوع آخر، وأن انبثق هذا الغرض من المديح، ولكنه تهديد صادر من الملك، مما أخاف النابغة وأقلقه، وأقض مضجعه إذ إن هذا التهديد صوت مرتفع لايعلوه صوت، ما جعل النابغة في نظر الناس كأنه أجرب قد طلي بالقار لابتعاد الناس عنه، فالوعيد هزّ كيانه كله:
فلا تتركنّي بالوعيد كأنني
إلى الناس مطليٌّ بهِ القار أجربُ(2)
__________
(1) الأسود بن يعفر: ق2/20. معصوب: كتاب، بنة الغنم: ريح مرابض الغنم والظباء والبقر. والآرام لاتخدج.
(2) النابغة الذبياني: 56، وينظر الصفحات: 60-87-169-256.(1/112)
حيث يظهر صوت النابغة متوسلاً بعدم تركه بالوعيد (الصوت القوي) الصادر من الأعلى إلى الأدنى، حيث نصغي للتشكيلات الصوتية في استخدام النون ذات الرنين والغُنّة، مما تحدث نغماً يثير النابغة ليغدو قلقاً، وقد ورد رنين النون المشددة في (تتركنّي، وكأنني، والناس، وتنوين "مطلي")، إذ تتصاعد الأصوات في أعماق الشاعر بعد سماعه(الوعيد) الذي سيفقد بموجبه صلته بالنعمان أولاً، والناس ثانياً، ممّا أثّر ذلك في نفسيته، ولو كان يعلم أن هجاءه يصل إلى النعمان لما هجاه، في حين كانت النصوص التي مرّت بنا لم تأبه بالتهديد والوعيد منهم أوس بن حجر الذي بادر المُهَدّد بالإجابة وأنه سوف يلقى منه مالا يسرّه:
ألَمْ يعلم المُهدي الوعيدَ بأنني
سريعٌ إلى مالا يُسَرُّ له قرني(1)
1@لست على الأعداءِ بالقادرِ ... ونجد الأعشى من موقع القوة ردَّ على الوعيد:
أَجَذَعاً(2)تُوعدني سادراً
انظرْ إلى كفٍّ وأسرارها
هل أنت إنْ أوعدتني ضائري(3)
فرسم لنا صورة واضحة التحدي بتأثير منافذ الأداء السمعي عبر الاستفهام، ولفظة (توعدني) الذي كررها، ولو لم تكن تلك الأصوات السمعية لما تشكلت الصورة الكلية، بالرغم منْ أن هذا الوعيد ليس بجديد، والمُهدِّد أضعف منْ أن ينال عدوّاً به بأذى.
وتشكلت الصورة الثانية من جراء الصورة الأولى بدعوة الشاعر ذلك المتهدد الحائر أن ينظر إلى كفّه ليقرأ أسرار الغيب، ومن ثم يخبره هل وعيده يضرّ عدوّه؟، حيث امتزجت الصورة السمعية بالبصرية، وماتشكيل هذه الصورة إلاّ بفعل طبيعة الشاعر وقدرته على استيحاء الصوت لرسم الصورة.
__________
(1) أوس بن حجر: ق54/130.
(2) أصاب التفعيلة زحاف مركب هو (الخبل) فانتقلت إلى (فعلتن).
(3) الأعشى: ق18/145.(1/113)
على أن البحر السريع قد استجاب لأفكار الشاعر، وماتنطوي عليه من هجاء، فالإيقاع السريع ينسجم والحالة النفسية التي عليها الشاعر وإن كان هذا البحر يجهدهُ في الإنشاد، بيد أنّه يأخذ نفساً وراحة في ألف المدّ اللينة في كل من (سادراً والأعداء، والقادر وأسرارها، وضائرى).
وقد ردّت الخنساء، وعيد دريد بن الصمة وتهديده بالزواج منها بأمر عزم عليه أخوها صخر:
أُيُوعدني حُجَيَّةُ كلَ يومٍ
بما آلى معاوية بن عمرو
تَخفّى جمعهم في كلِ جُحْرِ(1) ... قُبَيِّلةٌ إذا سمعوا بذعرٍ
فاستخدمت الخنساء قوّتها الشخصية على وعيد دريد، على أن الصورة الكلية شكلّتها لفظة سمعية (أيوعدني) وتكرار هذا الوعيد كل يوم، ولفظة (سمعوا) التي تجعلهم يتخفون /كلما سمعوا/ ذعراً في كل جحر مثل الحيوانات.
والتجأت الخنساء إلى التشديد في (حجيّه) و(قبيّلة)، مع المجانسة بين (ذعر وجحر) لتقوية النغم من جهة، وتقوية الصورة المشوهة لدريد وقبيلته عندما صغّرت لفظة القبيلة، كما تجانس الإيقاع الخارجي في البحر الوافر لتحقيق الغرض الذي توخته الخنساء.
إن حسن استخدام الشاعرة للأداء السمعي ورسم صورة كاريكاتيرية يعود إلى طبيعة الشاعرة وقدرتها.
النقائض:
أساس النقائض الهجاء، حيث ينقض الشاعر ماقاله الشاعر الأول من هجاء له، والنقائض في الشعر الجاهلي، ولكنها شكلت نواة النقائض في العصر الأموي، وبالرغم من ذلك فالنقائض قد ضمنت ألفاظاً سمعية مثل: القول، والشتم، والهزء، وهي لاتخرج عن ألفاظ الهجاء المختلفة، وفي رأينا لاتشكل إضافة ماهو جديد في أدائها السمعي.
ومن تلك النقائض ماحدث بين قيس بن زهير وعروة بن الورد، قال قيس بن زهير:
أذَنْبٌ علينا شتم عروة خالَهُ ... بقرّة أحساءٍ ويوماً ببدبَدِ
__________
(1) الخنساء: 120-121. حجية: لقب هجت به الخنساءُ دُريدَ بن الصمة.(1/114)
هَلُمَ إلينا نكفكَ الأمرَ كُلَّهُ ... فَعالاً وإحسانا وإنْ شئتَ فابعدِ(1)
فأجابه عروة بن الورد:
إني امرؤٌ عافي أنائي شركةٌ ... وأنتَ امرؤ عافي أنائك واحدُ
أتهزأُ منّي أنْ سمنتَ وأنْ تَرى ... بوجهي شحوبَ الحقِ، والحقُ جاهدُ(2)
وتستمر المهاجاة والمنافرة بين قيس بن زهير(3)، وعروة بن الورد(4)، ولاتخرج الألفاظ السمعية عن (الشتم، والقول) ضمن إطار الهجاء.
وكان النابغة قد ردّ على هجاء زرعة العامري فردّ عليه عامر بن الطفيل بأبيات لاتخرج عن منافذ الأداء السمعي من حيث الألفاظ (مبلغ، الجواب، القول، مقالتي، علمتم).
ومما قاله عامر بن الطفيل:
أَلا من مُبْلغٌ عنّي زياداً ... غداةَ القاعِ إذْ أَزفَ الضِّرابُ
وإنّي سوف أحكمُ غَيْرَ عادٍ ... ولا قدع إذا التُمسَ الجَوابُ
وليسَ الجهلُ عن سنٍّ ولكنْ ... غَدَتْ بنوافِذِ القولِ الركابُ
فإنّ بني بغيضٍ قد أتاهمْ ... رسولُ الناصحينَ فما أجابوا
ولا ردّوا مَحورةَ ذاك حتى ... أتانا الحِلْمُ وانخرقَ الحجابُ
فإنّ مقالتي ماقد علمتمْ ... وخيلي قد يحلّ لها النهابُ(5)
في حين رد عليه النابغة، ولم يخرج عن لفظة القول:
فإنْ يَكُ عامرٌ قد قال جهلاً ... فإنَّ مَظَنَّةَ الجهلِ الشّبابُ(6)
ومن تلك النقائض ماكان بين الحادرة وزبّان بن سيّار(7) ومما قاله الحادرة في هجو زبّان بن سيّار:
فإنْ تحسبوها بالحجابِ ذليلةً ... فما أنا يوماً إنْ ركبتُ ذَليلُ
سأمنعها في عصبةٍ ثعلبيّةٍ ... لهم عددٌ وافٍ وعزّ أصيلُ(8)
__________
(1) شعره: ق22/53. قرة إحساء وبدبد: مواضع معروفة في شبه الجزيرة العربية.
(2) ديوانه: 21.
(3) شعره: ق21/53.
(4) ديوانه، 127-128.
(5) ديوانه: 19-21. القدع: الهيوب للشيء. المَحُورَة: الجواب.
(6) ديوان النابغة الذبياني: 57.
(7) ديوان الحادرة: ق5/97، وق6/98.
(8) ديوانه: 101.(1/115)
ويلاحظ من النص أن الحادرة يفتخر في معرض التعريض بزبّان، وقد تخللت البيتين ألفاظٌ توحي بالسمع (تحسبوها) و(عدد) فضلاً عن الأفعال التي تدل على الحركة مثل (تحسبوها، وركبت، وسأمنعها). على أن (العين) حرف حلقي مجهور قد انتشر في البيت الثاني قد أفاد في تقوية النغم والمعنى.
ولم نجد رداً لزبّان بن سيّار إلاّ ماقاله في الحادرة:
كأنكَ حادرةُ المنكبـ ... ين رصعاء تُنْقِضُ في حائِرِ
عجوز الضفادع قد حَدَرتْ ... تطيفُ به ولدةُ الحاضِرِ(1)
وقد عرَّضَ به من خلال التشبيه، وجعله مشتهراً ينظر الناس إليه لمنكبيه الضخمين وبسبب هذه الأبيات سُميَّ الشاعر بالحادرة فغلب عليه، وقد شبهه خصمه بالضفدعة الغليظة، وهو هجاء خرج عن المباشرة عبر الألفاظ السمعية الصريحة، على أن التشكيلات الصوتية انتشرت في البيتين من خلال حرف (الضاد) المجهور المطبق في (تنقض والضفادع والحاضر) ممّا أدّى إلى قوة الصوت وإبراز الصورة القبيحة للمهجو وهذا ماتوخاه الشاعر.
وثمة نقيضة لأنس بن العلاء أخ بني الحارث بن الخزرج يرد على قيس بن الخطيم، على أن قصيدة ابن الخطيم لم تخرج عن ألفاظ (التبليغ، والرسالة، (الهجاء)، فضلاً عن الفخر بفروسيته عبر الأفعال الدالة على ذلك، ولفظة (الحمد) و(التذكر)(2).
في حين أن نقيضة أنس بن العلاء قد ضمت لفظة (الحمد) وذهبت القصيدة إلى الفخر الذاتي والقبلي، في حين توجد نقائض بين العباس بن مرداس وخفاف بن ندبة السلمي، لم تخرج في ألفاظها السمعية عند الشاعرين عن (الشتم، والزعم، والمعايب، والكذب، والقَسَم، والهجاء، الخبر، العلم، والقوافي، التعبير، التبليغ، الوعيد، والسؤال).
ولم تتضح قصيدة الهجاء ونقيضتها إلا في قصيدة العباس بن مرداس:
ألم تَرَ أنّي كرهت الحروب ... وإني ندمتُ على مامضى
__________
(1) ديوان الحادرة: 97 الهامش.
(2) ديوان قيس بن الخطيم: 216-217، ونقيضة أنس بن العلاء في ديوان الحادرة أيضاً:(1/116)
ندامة زارٍ على نفسهِ ... تلك التي عارها يُتَّقى
وأيقنت أنّي لما جئته ... من الأمر لابسُ ثَوبَيْ خَزى(1)
وقد نقضه خفاف بقوله:
أَعباس إما كرهت الحروب ... فقد ذقت منْ عَضِّها ماكفى
أألقحت حرباً لها درة ... زبونا تسعّرها باللظى
فأصبحت تبكي على زَلَّةٍ ... وماذا يردُّ عليك البُكا(2)
نجد الهجاء في قصيدة العباس بن مرداس قد ضم ألفاظاً سمعية مثل إعلان الندم على مامضى وإعلان كرهه للحرب، وتوجيه العتاب للنفس، والعار الذي يتقى نتيجة الهجاء، واليقين، والأمر، والخزي.
في حين استخدم خفاف الاستفهام والبكاء، فضلاً عن الصورة العامة للسخرية بالمهجو وقد ردّ على ندامة العباس بأنه هو الذي اختار طريق الحرب، مؤكداً ذلك عبر الأفعال المُشدّدة (عضّها، ودرّة، تسعّرها، اللّظى، زلّة، يردّ).
الرثاء:
الرثاء: تعبير عن عاطفة إنسانية جياشة، تفيض بالألم، ولوعة لايرقى إليها الشك، تتوضح من خلالها صلة الشاعر المرتبطة بالمرثي.
ولايخرج الرثاء عن تعداد صفات المرثي ومحاسنه، وشجاعته وكرمه، فهو والحالة هذه جزء من المديح والفخر.
ومهما تكن بواعث الرثاء، وأسبابه المختلفة، فإننا سنتناول الصورة السمعية في شعر الرثاء فقط(3).
وبالرغم من ذلك كله فقد ظل الرثاء مستودعاً لآلام الشعراء، ومتنفساً لهمومهم وتعبيراً عن الفروسية والشجاعة والكرم، وانعكاساً للحرمان الذي سيعانونه من رحيل فقيدهم إلى العالم الآخر، فضلاً عن التحريض على الثأر.
وأول مايقع في باب الرثاء (النعي) حيث يدور الناعي بين الناس ليظهر الخبر ويذيعه بشكل واسع، كي تتسقطه الأسماع، ومن هنا تتشكل الصورة السمعية البسيطة:
__________
(1) ديوان العباس بن مرداس: ق1/29-30.
(2) العباس بن مرداس: 30 الهامش.
(3) ينظر كتاب: الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، بشرى محمد علي الخطيب، فيه جهد قيم لمن يود استرفاد المزيد مما يتعلق بهذا الفن.(1/117)
لمّا نعى الناعي كليباً أظلمتْ ... شمسُ النهار فما تُريدُ طلوعا(1)
وكثيراً ماتقوم النائحة بالبكاء على الميت بصياح وعويل وجزع، فيستخدم المهلهل الصائحات(2).
ويذهب الشعراء إلى ذكر الندب بمعنى (بكاء الميت وتعداد حسناته)(3) حيث يجري توظيف الألفاظ السمعية في الخطاب الشعري، وقد استخدم المهلهل (الندب)(4) وقال عبيد بن الأبرص:
لا أعرفنّك، بعد الموت تندبني ... وفي حياتي مازُوّدتَني زادي(5)
وقال الربيع بن زياد:
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يضربن أوجههن بالأحجارِ(6)
__________
(1) المهلهل: ق13/281، ق31/301، وينظر ديوان طرفة بن العبد: 41، عبد الله بن ثور العامري: 159، أعشى باهلة (عامر بن الحرث)، الأصمعية: 24/ب6، النمر بن تولب: ق37/2/99، ق40/1/109، الخنساء: 81، 159، 165، لبيد: ق20/1/164.
(2) المهلهل: 277، وينظر: الشنفرى: ق(ى)/1/35، والفند الزماني: 7/ب5، بشر بن أبي خازم: ق23/2/123، الأفوه الأودي: ق جي/15، عدي بن زيد: ق23/49/109، بشر بن عليق الطائي، قصائد جاهلية نادرة: ب7-28/189-190، عمرو بن قعلس المرادي، قصائد نادرة: 44، معقر بن حمار، قصائد جاهلية نادرة، ب17/114، النابغة الذبياني: 74، أمية بن أبي الصلت: ق124/13/298، أبو زيد الطائي: ق23/1/84. الخنساء: 28-33-165-181، لبيد بن ربيعة: ق2/22/10، ق18/14/162، ق53/1/332.
(3) الصحاح: 1/223.
(4) المهلهل: 344، بشر بن أبي حازم: ق26/23/124.
(5) عبيد بن الأبرص: ق16/9/48.
(6) شعره، دراسات في الأدب الجاهلي: الجزء الثاني، ق2/322، وينظر: أعشى باهلة، الأصمعية: 24، عدي بن يزيد: ق3/25/40، ق23/48/109، عامر بن الطفيل: 92، الخنساء: 28، لبيد: ق25/1/173، ق8/23/53.(1/118)
وكثيراً مانجد البكاء(1) المصحوب بالصوت والندب والعويل في الشعر الجاهلي(2)في حين نقل لنا عبد بن الأبرص صورة سمعية شبّه بكاءه ببكاء الحمامة:
وقفت به أبكي بكاءَ حمامةٍ ... أراكيّةٍ تدعو الحمامَ الأواركا
إذا ذكرتْ يوماً من الدهر شجوها ... على فرع ساقٍ أذْرَت الدمعَ سافكا(3)
في حين سفّه أبو ذؤيب الهذلي البكاء عبر صورته السمعية، وإن كان قد ابتدأها بالصورة البصرية قائلاً:
ولقد أرى أن البكاءَ سفاهةٌ ... ولسوفَ يُولَعُ بالبكا مَنْ يُفْجَعُ
وليأتينَّ عليكَ يومٌ مَرَّةً ... يبكي عليكَ مُقَنَّعاً لاتسمعُ(4)
بينما ينقلنا متمم بن نويرة إلى صور رائعة توضح موقفه من لائميه:
لقد لامني عند القبورِ على البُكا ... رفيقي لِتذرافِ الدّموعِ السوافكِ
أمِنْ أجلِ قبرٍ بالملا أنتَ نائحٌ ... على كلِ قبرٍ أو على كلِ هالكِ؟
فقلت له: إن الشّجا يبعثُ الشّجا ... فدعني فهذا كلُهُ قبرُ مالِك(5)
__________
(1) لسان العرب، مادة بكى. والبكاء: يقصر ويمد، قاله الفرّاء وغيره، إذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها.
(2) المهلهل: 344، وينظر ديوان امرئ القيس: ق4/46/69، وعبيد بن الأبرص: 3/29/7، ق39/5/98، والحارث بن حلزة: 1/5/9، والأسود بن يعفر: ق6/1/21، وكعب بن سعد الغنوي: 748، والأعشى: ق65/55/321، ودريد بن الصمة ق22/1/63،وتميم ابن مقبل: ق25/15/192، والخنساء: 25-70-161-188-260. ولبيد: ق8/18/51.
(3) عبيد بن الأبرص: ق37/3-4/92، وينظر صخر الغي الهذلي: 2/66، 67، والخنساء: 111،
163.
(4) أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/3.
(5) ديوانه: 125.(1/119)
على أننا نجد العويل قد تخلل الكثير من شعر الرثاء(1)، ويتداخل العويل مع البكاء والنواح في بيت واحد(2) والنوح والندب(3)، والمُعْوِلات والنوائح(4).
وقد احتل رثاء النفس موقعاً متميزاً في شعرنا العربي الجاهلي لما فيه من ألم ولوعة(5). وإن كان هذا اللون قد اتجه إلى الفروسية وإبراز الشخصية، فضلاً عن النواح والنحيب والحسرة، ومثّل ذلك بشر بن أبي خازم فأبرز لنا الصور السمعية عبر مفرداته مثل: السؤال، والعلم، والنحيب، والاستغاثة:
فمن يكُ سائلاً عن بيتِ بِشْرٍ ... فإنَّ لهُ بجنبِ الرَّدهِ بابا
ثوى في مُلْحَدٍ لابُدَّ منهُ ... كفى بالموتِ نأياً واغترابا
رهين بلى، وكل فتى سيبلى ... فأذري الدمع وانتحبي انتحابا
مضى قصد السبيل وكل حي ... إذا يُدعى لميتته أجابا(6)
وتزخر قصيدة عبد يغوث بالصور السمعية، وهو يرثي نفسه بعد أنْ أيقنَ أن جذوة حياته ستنطفئ، لامحالة، وقد ابتدأها باللوم، والعلم والتبليغ، والقول، والسؤال، والسمع، وأناشيد الرعاة، والضحك، والغناء، فضلاً عن الأفعال التي تدل على الحركة، والألفاظ ذات الدلالة السمعية، نذكر منها:
أَلا لا تلوماني كفى اللوم مابيا ... وما لكما في اللوم خيرٌ ولاليا
فيا راكباً إمّا عرضتَ فبلّغن ... ندامايَ مِنْ نجرانَ أنْ لاتلاقيا(7)
__________
(1) تأبط شراً: ق22/15/107، الربيع بن زياد، دراسات في الأدب: الجزء الثاني، ق2/322، الخنساء: 125-180-221-224-226.
(2) الفند الزماني: ق2/22/8، النابغة الذبياني: 74، عامر بن الطفيل: 92.
(3) السموءل: 29، المثقب العبدي: ق أ/14/8، حاجز بن عوف، قصائد جاهلية نادرة: 79.
(4) أمية بن أبي الصلت: ق18/4/168.
(5) .الممزق العبدي: المفضلية: 80.
(6) بشر بن أبي خازم: ق5/27، امرؤ القيس: ق46/213، أفنون التغلبي، مجلة كلية الآداب: 299-300، المتلمس الضبعي: ق17/256.
(7) المفضليات: المفضلية، 30.(1/120)
ولانعدم وجود تتابع الصور السمعية عند شعرائنا وخاصة عدي بن زيد(1).
وفي مجال الرثاء كثيراً مانجد الشعراء يختتمون قصائدهم بالدعاء والسقيا لأمواتهم:
سقاكَ الغيث إِنك كُنْتَ غَيثاً ... ويُسْراً حينَ يُلْتَمَسُ اليَسار(2)
ولعل الروعة الفنية والأثر النفسي يتجلى في الصورة السمعية للخنساء:
وقائلةٍ: والنَّعشُ قد فاتَ خَطْوَها
لتدركهُ: يالَهْفَ نَفسي على صَخْرِ
ألا ثكلتْ أُمُّ الذين مضوا به
إلى القبر، ماذا يحملونَ إلى القبرِ
فلا يَبعدْنْ قبرٌ تضمَّنَ شَخْصَهُ
وجاءتْ عليهِ كُلُّ واكلةِ القَطْرِ(3)
إن الألم يتفجر من تلك الأبيات، فيبعث الأسى والتعاطف من السامعين للفاجعة العميقة عبر جدلية الموت والحياة، الجفاف والخصب، القول والصمت، السرعة والبطء، فضلاً عن وحدتي الزمان والمكان، الزمان بأبعاده الثلاثة، والمكان المطلق (الحياة) والمكان المُقَيَّد (القبر).
ولابد للنعش من أن يسبق الخطوات كلها ليدرك مستقره، ذلك كله يجري عبر إيقاعين خارجي وداخلي، يتمثل الأول في حركة الحياة المستمرة، ويتمثل الثاني في الصمت (الموت) المستقر الأخير الذي يسلب كل شيء، بالرغم من كونه حقاً لانزاع فيه.
وبالرغم من التوجع، والتأسي، والاستغاثة، يبقى التساؤل قائماً: ماذا حملوا إلى القبر؟ وهل حملوا غير المكارم والشجاعة؟..
من هذا الصراع في الوجود، ومن تفاعل العلاقات، والأضداد، والدلالات في نسيج الأبيات، تشكلت الصور السمعية عبر تلاحم المستويات النفسية، والدلالية والمعنوية، والصوتية، وتحقق الانسجام والتلاحم ليحدث الانفعال المطلوب، حيث تتوهج العاطفة الصادقة بروح الأسى العميق.
((
الفصل الثاني
التشكيل الجمالي في الصور السمعية المختلفة
__________
(1) ديوانه: ق3/40، ق18/96.
(2) المهلهل،أخبار المراقشة: ق7/272، المتلمس الضبعي: ق17/256، أوس بن حجر: ق40/22/106. الخنساء: 15، 86-92.
(3) ديوانها: 86-92.(1/121)
المبحث الأول ... : أثر الصورة الذهنية في تشكيل الصورة السمعية
المبحث الثاني ... : الصورة السمعية وسلطان الحواس
المبحث الثالث ... : الصورة السمعية عبر الإيحاء
المبحث الأول
أثر الصورة الذهنية في تشكيل الصورة السمعية
الصورة الشعرية مثار جدل كبير بين القدامى والمحدثين، فماهيتها تمثّل الصوت والصورة المتخيلة، أو المتصورة، في حين تمثل الصورة الدال والمدلول، وهما صورة الأشياء في الوجود.
على أن التصور لتكوين الصورة الذهنية، لابد له من أن يعتمد شيئاً سابقاً شرطاً لتحقيق هذا الوجود "فمن التصور مالا يتم إلا بتصوير يتقدمه، كمالا يمكن تصور ا لجسم مالم يتصور الطول والعرض والعمق"(1).
ومن هنا فإن هذا التحديد يشمل الصور الحسية المختلفة الحادثة في الذهن بعد غيابها، كي يتمكن الإنسان من تخيلها وتصورها ليس على صعيد الفكر المطلق المجرد الكلي(2).
والذهن على سبيل المجاز، هو القوة في العقل والمُسْكَة(3)، وقوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة، والباطنة، معدة لاكتساب العلوم(4).
وحازم القرطاجني لا يبتعد عن الفارابي في تفسيره لتكوين الصورة الذهنية العامة، إلا أنه أقام الحدود للتعبير عن تلك الصورة بالألفاظ حيث قال:
"إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان" فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أُدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ"(5).
__________
(1) رسالة عيون المسائل، الفارابي: 56، وانظر هذا هو الفارابي، مدخل وتمهيد: 4.
(2) المصدر السابق: 56.
(3) أساس البلاغة: مادة: ذهن.
(4) التعريفات: 63.
(5) منهاج البلغاء: 18-19.(1/122)
وقد أضاء لنا حازم طريقين لاقتباس المعاني واستشارتها وتشكيل الشاعر لصوره هما: الأول: الاقتباس لمجرد الخيال وبحث الفكر، والثاني: الاقتباس بسبب زائد على الخيال والفكر.
فالأول يكون بالقوة الشاعرية بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي فيها تلتئم، ويحصل ذلك بقوة التخيل والملاحظة ... وأن تنشئ على ذلك صوراً شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض.
والثاني: اقتباس المعاني منه بسبب زائد على الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل ... فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوّغ له معه إيراد ذلك الكلام(1).
ومن هنا يمكننا القول إن الصورة الذهنية تمتزج بالعلوم التي يكتسبها الإنسان، ويؤلف منها صوراً يتولاها المتلقي بالتأمل والقراءة والسماع، أي أنها معنى كامل يكونه قصد الشاعر يستند فيه إلى المعرفة.
على أن فاعلية الصور الذهنية تكمن في ارتباطها بالإحساس(2)، ولذا يقول بريت عن الصور الذهنية: "فالأشياء التي ندركها تقع على أعضاء الحس لدينا وتنتج صوراً في الذهن، وتبقى هذه الصور مخزونة في الذاكرة عندما لايغدو للأشياء ذاتها وجود"(3)وهي الصورة الذهنية التي نعنيها، ويقول عنها بول ريفردي: "إن الصورة إبداع ذهني صرف، وهي لايمكن أن تنبثق من المقارنة، وإنما تنبثق من الجمع بين حقيقتين واقعتين تتفاوتان في البعد قلة وكثرة"(4).
__________
(1) منهاج البلغاء: 38-39.
(2) نظرية الأدب: أوستن وارين ورينيه ويليك: 241.
(3) التصور والخيال: 18.
(4) التفسير النفسي للأدب: 70.(1/123)
ويتضح لنا من استعراضنا لماهية الصورة الذهنية أن المعنى متخيل، ولابد من أن يحمل إشارات وأشياء محسوسة في ذهن الشاعر، ومن ثم تنتقل إلى ذهن المتلقي في صيغ وأساليب متعددة، قوة وضعفاً، وضوحاً وإبهاماً، تبعاً للطبيعة البشرية، وتمثيلاً للقدرة الإبداعية التي يتسم بها الشاعر، والصورة في تكويناتها لابد أن تتفاوت بين المبدع والمتلقي نتيجة للتباين بين الاثنين في لحظات الانفعالات النفسية لدى الشاعر، ولحظة السماع، فضلاً عن الواقع الاجتماعي، والتفاوت الزمني بين الشاعر والمستمع.
على أن مايقرب تلك الصور الذهنية اعتمادها الأصوات المختلفة لكي يفهمها المستمع بعد أن كانت في ذهن الشاعر منسوجة من الحسيات الغائبة عند لحظة الإبداع، وتشكيل رموز لها عبر معارف اكتسبها من خلال "تذكر هادئ لما سبق من تجارب حية"(1)، فتثير الصورة مجموعة من الروابط بين الصور الحسية المختلفة بما فيها حاسة السمع عبر الألفاظ، أو الأصوات، أو الموسيقى الخارجية(2) على أن الصورة السمعية للكلمات من أكثر الأحداث الذهنية وضوحاً(3) لذلك، فإن أصل الفن يكمن في القدرة على تكوين الصور الذهنية، والفن يحكمه الخيال وثروته الصور الذهنية، على أن الخيال يسبقه الفكر وهو شرط ضروري له، فكانت فاعلية العقل الفنية، أي مقدرته على تكوين الصورة الذهنية أسبق من فاعليته المنطقية(4).
__________
(1) النقد الأدبي، سهير القلماوي: 65.
(2) ينظر الفصل الثالث من كتابنا هذا.
(3) مبادئ النقد الأدبي، ريتشاردز: 171.
(4) قصة الفلسفة: 580-581.(1/124)
قال مثسن: يرى اليوت أهمية الخيال السمعي وهو نوع من الإحساس يتغلغل إلى ماوراء الفكر والشعور(1)، ولايتم الخيال السمعي عن طريق موسيقى الألفاظ وحدها، وفي نظر اليوت فإن دلالات الألفاظ تكوّن إلى حد بعيد هذا الخيال... بل ويتجاوز ذلك إلى مايضيفه عليها الشاعر من نفسه(2)، ومن هنا يمكن للشعر أن يؤثر في القوة المتخيلة عند المتلقي فتحدث الإثارة المقصودة مما يفرض على المتلقي حالة نفسية هي بمثابة الاستجابة التخييلية للقصيدة(3)، حيث تتم عملية الفعل ورد الفعل ومعرفة مدى الاستجابة بين الشاعر والمستمع، "ولايخفى ما لهذه الحاسة من أهمية في إدراك الجمال فهي عماد كل نمو عقلي وأساس كل ثقافة ذهنية(4).
على أننا سنتناول في هذا المبحث الصور الذهنية السمعية من جوانب أفرزتها الدراسة بعد هذا المدخل، نظراً لأهمية حاسة السمع في إدراك عناصر الإثارة الصوتية المختلفة، وأثر الصورة الذهنية في تشكيل الصورة السمعية:
هناك من الصور السمعية ماتقوم على (التوهم، نتيجة للقلق والخوف، أو إسباغ جو الرهبة، والمخاطرة الكثيرة التي يتعرض لها الإنسان في مسيرة وسط الصحراء المترامية الأطراف، الشاسعة الأبعاد، وهو يشق طريقه فيها لأغراض شتى.
__________
(1) فائدة الشعر وفائدة النقد: 17، ينظر ت.س. اليوت الشاعر والناقد ترجمة إحسان عباس، ص174، وقد اقتبسه مترجم كتاب فائدة الشعر وفائدة النقد. ينظر: الأرض اليباب: ترجمة لؤلؤة: 31-32.
(2) فائدة الشعر وفائدة النقد: 18،19.
(3) مفهوم الشعر: 246، 247.
(4) الصورة في شعر بشار: 169.(1/125)
وهو في مسيره في الصحراء إذا ما سمع العزيف، كالطبل، المتمثل بصوت الرمال في الصحراء، إذا ماهبت عليها الرياح الشديدة، فعزف الريح يفزعه حتى تذهب به الظنون مذاهب شتى، فيخاله عزيف الجن.وقد قال الجاحظ مصوراً لنا هذه الحالة: "ويكون في النهار ساعات ترى الشخص الصغير في تلك المهامة عظيماً، ويوجد الصوت الخافض رفيعاً، ويسمع الصوت الذي ليس بالرفيع مع انبساط الشمس غدوة من المكان البعيد، ويوجد لأوساط الفيافي والقفار والرمال والحرارة، في أنصاف النهار، مثل الدوى، من طبع الوقت وذلك المكان عندما يعرض له وفي تعليل مايتخيله الأعراب من عزيف الجن"(1).
ويستمر الجاحظ يعلل لنا هذه الظاهرة: "أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، وعملت فيه الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء، والبعد من الأنس استوحش. الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن تفكر، وداخلته الظنون الكاذبة، والأوهام المؤذية، فصورت له الأصوات، ومثلت له الأشخاص وأوهمه المحال"(2) والجن من حكمها أن تهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي(3).
ولذا فهو يتصور أشياء لا وجود لها، واختلط عليه: "وإذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، ... فرأى مالا يرى، وسمع مالا يسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل"(4).
ومن هنا كان التوهم الذي يعلق بالذهن بعد تصوره وسماعه، وعلى مافي اتساع الفلاة، وماتخفيه من مفاجآت، فإن الصوت المُدَوّي فيها يحسبه السامع صوت الجن، وليس مبعث الخوف ليلاً صوت الجنّان، وإنما ينبعث الصوت ظهراً أيضاً وفي الهاجرة(5)، حيث الأرض القفراء البعيدة التي خلت من الماء والأنيس، فتشتد الوحشة، ويزداد الخوف.
__________
(1) الحيوان: 6/248.
(2) الحيوان: 6/249، مروج الذهب: 2/160.
(3) مروج الذهب: 2/160.
(4) الحيوان: 6/250.
(5) بشر بي أبي خازم: ق41/203، المثقب العبدي: ق أ/16/8.(1/126)
ومن الشعراء من يستعير العزيف "الشديد للإبل"(1)، وقد اعتاد بعضهم سلوك الطريق التي يسمع فيها صوت الجن، أو يسمع غناءها(2).
وفي إطار (عزيف الجن) نجد زهير بن أبي سلمى، قد عنى ببعض التفاصيل نطمح من خلالها إلى الكشف عن الجوانب النفسية، حيث صور البلدة الخائفة تسمع فيها عزيف الجن، حتى الثعالب من رهبتها تصيح، فضلاً عن الفؤاد الذي ينزوي رهبة، ويجزع من هولها، فتوجه الشاعر إلى تلك البلدة على ناقة صلبة شديدة ضخمة الخلق، تميزت بالقوة والنشاط:
تَسْمَعُ لِلجنِّ، عازفينَ بها
تَصْبَحُ، منْ رهبةٍ، ثَعالِبُها
يَصْعَدُ، مِنْ خَوْفِها الفؤادُ ولا
يَرْقُدُ، بعضَ الرُّقادِ صاحِبُها
كلّفتُها عرْمِساً، عُذافِرَةً
ذاتَ هِبابٍ، فَعْمَاً مناكِبُها(3)
على أنَّ من الشعراء من أشار إلى وجود عزيف الجن في الأطلال(4)، ومحاولة كشف تلك الأصوات على التوهم، بيد أنها كانت غريبة عليهم، وكلامهم كرطانة الأحباش(5)، ويذكر لنا بعضهم موضعاً فيه جِنّ غلاظ الأعناق، تتهدد وتتوعد بالأحقاد وأخذ الثأر، أقدامها ثوابت، مستعيراً تلك الصفات للرجال(6)، في حين من اتخذ اتباعه من الجن تروي أقواله وتعزفها(7).
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق32/8-9/84.
(2) طرفة بن العبد: 130، المثقب العبدي: ق أ/28/13، الأعشى: ق4/15/37، حسان بن ثابت: 293.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق25/213، تَضْبَحُ: تصبح، يصعد: ينزوي. الهباب: النشاط. الفَعْم: الممتلئ.
(4) أوس بن حجر: ق37/2/94، الأعشى: ق3/10/251.
(5) الأعشى: ق3/10/251، لبيد: ق11/3/72.
(6) لبيد: ق48/71/317.
(7) امرؤ القيس: ق78/7/325.(1/127)
وممّا يُقام على التوهم مما يستدعيه الذهن ويستحضره من الخيال، أي من الصور المحسوسة التي سبق أنْ شاهدها، صورة الأعداء وقد انكبّوا على الحِراب يسنّونها دونما هوادة، بغية إثارة قومه، ليكونوا على أهبة الاستعداد، وتحذيرهم من عدوهم، ليحرّضهم على الاستعداد، لأن للسنّ صوتاً، وللتجمع حركة وجلبة وصوتاً مما يبعث ذلك كله على الخوف:
في كُلِّ يومٍ يَسنّون الحِرابَ لكم ... لايهجعون إذا ماغافلٌ هَجَعا(1)
وفي حالة سَنِّ الزجاج كأنهم خشرم متعاطف إذا ماتنادوا للحرب، مصوراً حالة قوتهم ليبعثوا الخوف والرعب في قلب الأعداء، فمن صورة سن الزجاج ومايصاحب ذلك من صوت، ونداء الصورة السمعية.
فباتوا يسنّون الزجاج كأنهم ... إذا ما تنادوا خشرمٌ مُتحَدِّبُ(2)
وتتعالى الدعوات إلى حدّ الشّفار لحزّ الحلوق، وحلب العروق، لإحداث الرهبة والخوف في قلوب الخصوم من خلال الأصوات التي تنادي بأخذ الثأر، وأصوات الشحذ، وصوت شخب العروق، مما يبعث الرهبة، هي صورة تخييلية استحضرها الشاعر في ذهنه وأعاد صياغتها على وفق مايتطلبه الموقف:
إنْ نحنُ لم نثأرْ بهِ فاشحذوا ... شفاركمْ منّا، لحزِّ الحلوقْ
ذبحَاً كذبحِ الشاةِ لاتتقي ... ذابِحَها إلاّ بِشَخْبِ العروقْ(3)
ومن الصور في هذا المجال: الضرب بالسيف، وقطع الدروع، والجواشن التي أحكم صنعها وعملها، ممّا يستدعي إثارة الرعب في الصفوف ليعمل عمله لما له من تأثير نفسي، ترافقه أصوات الضرب بالسيف، وقطع الحَلَق:
وأَضربُ بالسيف يوم الوغى
أقدّ به حَلَقَ المُبْرَم(4)
__________
(1) لقيط بن يعمر الأيادي: 37.
(2) الطفيل الغنوي: 42.
(3) المهلهل، أخبار المراقسة: 284.
(4) عامر بن الطفيل: 120.(1/128)
وهناك من الصور الذهنية النابغة من التخيل، التي يسبغ عليها الشاعر من المعارف والعلوم، والقصص، والأمثال، فضلاً عن التأمل، مايجعلها متغيرة تبعاً لهدف الشاعر من الحسي إلى المجرد، أو بالعكس، بإطلاق الألفاظ التي تتلاءم مع كليهما، تتضمن خواصهما، أو أن الشاعر يقوم بتوضيح المجردات أو المعنويات بألفاظ تعبّر عن المدركات الحسية، ويتوقف ذلك على قدرة الشاعر الإبداعية في جعلها محسوسة بالبصر والسمع، كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: "لأن الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاؤوا... فيقرّبون البعيد، ويبعدّون القريب..."(1).
وقد أكد هذا المعنى حازم القرطاجني بقوله: "قلَّ مايخفى عليهم مايظهر لغيرهم، فليس يقولون شيئاً إلاّ وله وجه"(2).
وذهب بعض الفلاسفة المسلمين إلى كون الشعر محسوساً، والمحاكاة فيه إمّا أنْ تكون محاكاة أشياء محسوسة بأشياء أخر محسوسة، وأمّا أنْ تكون محاكاة أشياء معنوية بأشياء محسوسة(3).
وقد أوضح هذا الأمر ابن رشد حين قال: "وإجادة القصص الشعري والبلوغ به إلى غاية التمام متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو القضية الواقعة التي يصفها مبلغاً السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه"(4)، على أنَّ ابن مسكويه بيّن أهمية الحواس في إدراك مالا تدركه، بسبب من الأنس بالحواس والإلفة لها(5) لأن الصور الحسية تقوم بمهمة تقريب الأشياء المجردة والأمور المعنوية وتوضيحها، أي تقريب ماهو غائب عن الحس بما هو حسّي للجمهور الذين يعجزون عن إدراك الأفكار المجردة إلاّ عن طريق الحس والتخييل(6).
__________
(1) زهر الآداب: 1/633.
(2) منهاج البلغاء: 144.
(3) فن الشعر من كتاب الشفاء: 190.
(4) تلخيص الشعر: 124، فن الشعر: 229.
(5) الهوامل والشوامل: 240-241.
(6) ينظر كتاب: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين: 230.(1/129)
واستطاع بعض الشعراء أن يوظف قصص الموروث الغيبي، والحكايات، من خلال ماتحمله من رموز ينبثق منها مغزى يتخفى الشاعر وراءه ليعبر عن حالته، أو حالة قومه، ومن الصور التي استحضرها الشاعر الجاهلي توظيفه (الحيّة) في الصورة الذهنية السمعية، حيث نجد للحية رموزاً في الأيام وأشعارها، وهي أيضاً موروث شعبي تناهى إلى الشاعر من أجيال بعيدة متقدمة، -كما يقترن ذكرها بالمرأة كثيراً، ولم يعدّوا الحية من فصائل الجان حسب، بل هي بنت الجان(1).
وفي تأملنا لقصيدة النابغة الذبياني من حديثه (الحية) وصاحبها، حيث روى لنا حكايتها ملخصة(2)، وقد ضرب بها مثلاً، وساق حكايتها ليوضح لنا حالته مع قومه، مثل حالة الحية وأخي الرجل الذي قتلته، حيث يقول النابغة:
كما لقيت ذات الصَّفا منْ حليفِها
ما انفكّت الأمثالُ في الناسِ سائِرَه
وإنّي لألقى من ذوي الضغن منهمُ
وما أصبحت تشكو منَ الوجدِ ساهره(3)
يعقد الشاعر حواراً مع الحية وأخي القتيل، بدلالة الألفاظ السمعية (القول، الدعوة، التواثيق بالله) لتشكيل الصورة السمعية من:
فقالت له: ادعوكَ، للعقل وافياً
ولا تغشِيَنِّي منك بالظلمِ بادِرَه
فواثقها باللهِ حينَ تَرانينا
فكانتْ تَديهِ المالَ غِبّاً وظاهره(4)
__________
(1) كتاب أيام العرب قبل الإسلام: 204-205.
(2) أمثال العرب للضبي: 177-179. أن حية قتلت شخصاً، ولكنها عقدت مواثقة بينها وبين أخيه، قررت أن تعطيه مالاً بين يوم وآخر، بيد أن الطمع قد أخذه، فلم يجد بداً من قتل الحية ليأخذ الكنز الذي تملكه دفعة واحدة بدلاً من الانتظار لمدة طويلة، وفي الوقت نفسه يحقق ثأر أخيه، فضربها بالفأس فأخطأها، ولم تقتل، فدعاها إلى الميثاق ثانية وإكمال الدية، فرفضت هذا العرض لخيانته.
(3) النابغة الذبياني: 131.
(4) المصدر نفسه: 132.(1/130)
نجد الشاعر قد مزج بين المعنوي (العقل- التراضي- الظلم)، وبين الحسّي (الدلالة السمعية) لإدراك مالا يدرك بالحواس، والأفعال، التي تدرك لتوضيح المجرد المعنوي، فالظلم لا يدرك إلاّ بالفعل الحسّي:
فلّما توفى العقل إلاّ أقلّهُ
وجارتْ به نَفْسٌ عَنِ الخيرِ جائره
تذكَرَ أنّى يجعل الله جُنَّةً
فيصبحُ ذا مالٍ ويقتل واتره
فلّما رأى أنْ ثَمَّرَ الله مالَهُ
وأثَّلَ موجوداً وسَدَّ مفاقِرَهْ
أَكَبَّ على فأسٍ يحدُّ غُرابَها
مُذَكّرةٍ مِنَ المعاولِ باتِرَه
فقام لها مِنْ فوقِ جُحْرٍ مُشَيَّدٍ
ليقتلها أو تُخطئُ الكفُّ بادره(1)
نجد الشاعر قد مزج بين الاستفهام الاستنكاري (كيف) الذي استخدمه في معنى النفي بالتذكر (السمعي) فاختلط الحسي بالمعنوي لتسويغ قتل الحيّة بعد انتفاء اليمين المانع من قتلها (سمعي)، ليستحوذ على الكنز (الحسي)، وقد دأب على فأس يحدها عن طريق الحك بحديد أو حجر، (وهي أصوات نسمعها) لتصير شفرة الفأس حادة سريعة:
فلما وقاها الله ضربةَ فأسِهِ
وللبِرِّ عينُ لاتُغَمِّضُ ناظِرَهْ
تَنَدَّمُ لمّا فاته الذَّحْلُ عِنْدَها
وكانتْ له إذْ خاسَ بالعهدِ قاهِره
فقالَ: تعالي نجعل الله بيننا
على مالِنا أَو تُنْجِزي لي آخِرَهْ
فقالتْ يمينُ الله أَفْعَلُ إنني
رأيتُكَ مسحوراً يَمينُكَ فاجِرَه(2)
إن الموعظة التي سردها لنا النابغة معنوية، بيد أنه قرّبها لنا بالحسية، فـ (العين ساهرة) على الظاهرة (بصرية)، والبرّ (معنوية)، ولكنها في الأصل برّ الحيّة بقسمها، فخرج المعنوي بالحسيّ السمعي (القسم)، وإنما أراد بـ (العين) العِلم، و(الغَمْض) الغفلة، فهما لفظتان معنويتان، قرّبهما الشاعر بما هو حسي عن طريق (البَصَر) لأنهما حقيقة عقلية، ولذلك أخبرنا الشاعر أنّ الله سلَّمها من القتل لكونها برّت بقسمها، في حين خان مواثقها العهد.
__________
(1) النابغة الذبياني: 134.
(2) النابغة الذبياني: 134-135.(1/131)
ويعود الشاعر إلى عقد (الحوار) ثانيةً بعد أنْ أدركتها السلامة، بدلالة الألفاظ السمعية (القول- القَسَم)، وانتهت القصة بندم أخي القتيل، وابتعاد الحيّة عنه بالرغم من وجود المدركات الحسيّة، إلاّ أن الذي يهمنا منها هو الصورة السمعية التي شكلت أهمية لابد منها في تسلسل القصة، ومايتطلبه السياق، وتأكيد الحدث، وإيصال المغزى عبر الصورة الحاصلة في الذهن وعكسها إلى المتلقي بصورة سمعية مختلفة بدلالة الألفاظ الصريحة والموحية، والاستفهام، والقسم، وأصوات حكّ الفأس وحدّها، وتكرار أصوات الحروف لتقوية الجرس الموسيقي لتأدية مهمة الإيقاع الداخلي، فضلاً عن الإيقاع الخارجي لإبراز الجانب المعنوي الذي استوعبه الجانب الحسي للإفادة منه في الحياة في إطار التجربة النفسية، والإفادة من القصص، والأمثال، المعنويات، واستحضارها في الذهن، ومايسبغه عليها بدوره من سمات المدركات الحسية، وتوظيفها للتعبير عن حالة معينة وتصويرها، يتوخى الشاعر منها العبرة، واستخلاص نتيجة تنسجم مع الباعث الآنّي في إطار من الحوار، ومن خلال استخدام الدلالات السمعية المختلفة والإيقاعية الداخلية والخارجية.
الخرافة: الهامة والصدى
إن من العرب من يزعم أن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مامات أو قتل لم يزل مطيفاً به متصوراً إليه في صورة طائر يصرخ على قبره، مستوحشاً وهو يسكن في الديار المعطلة والنواويس، وحيث مصارع القتلى وأجداث الموتى(1).
وكانت العرب تقول: إذا قتل الرجل فلم يدرك بثأره خرج من هامته طائر يسمى الهامة، فلا يزال يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله فيسكن(2) وهي خرافة مبعثها ولوعهم بالثأر والتحريض عليه(3).
__________
(1) مروج الذهب: 2/135-154.
(2) الأمالي، للقالي البغدادي: 1/129.
(3) الحياة العربية من الشعر الجاهلي: 494.(1/132)
إن (الهامة والصدى) من الصور الذهنية، حيث يكمن فيها الانحراف عن الاعتيادي وغير المألوف إلى غيره، إذ يصوّر لنا الشعراء الأشياء المجردة أو المعنوية (النزعة للثأر) بالمدركات الحسية (البصرية+السمعية) في أغلب الأحيان، وتصوير (النفس) المعنوية بالحسية (طائر) يقترن بالسمعية (يصرخ)، مستوحشاً يصيح: اسقوني اسقوني، لايسكنّه إلاّ الثأر، وهي طريقة جرّد منها الشعراء صوتاً يصرخ، محرّضاً على تلبية نوازع النفس الداخلية التي لاتهدأ إلاّ بأخذ الثأر، وإن التخييل جعل عملية التصوير في الأذهان حاصلة لقوة الإدراك، ممّا يؤلف الشاعر بين المحسوسات والمعنويات، وإبراز الثأر (المعنوي) بإسباغ الحسيّ ليرى ويسمع، حيث يعمد الشاعر إلى صياغة المعطيات الموروثة بما يسبغه عليها من معطى تأملي، وقدرة على الربط بين المحسوس والمجرد عبر التخييل ضمن براعة الشاعر وإبداعه، فضلاً عن المعطى النفسي، والباعث الذي يستجيب للموروث القديم، والاستجابة للباعث الآني، كي يحدث التناسب بينهما.
وقد تناول الشعراء هذه الصورة الذهنية:
سُلِّطَ الدَّهرُ والمنونُ عليهم
فلهم في صدى المقابرِ هامُ(1)
إن الصورة أساساً هي معنوية تمثلت في (الدهر- المنون) ولكن الشاعر ألّف بين المحسوس والمعنوي بما أسبغ عليهما من صورة ذهنية محسوسة سمعية، حيث ينطلق الصوت للثأر بعد أنْ تسلطت المنون التي أدت إلى هذه النتيجة حيث صور المقابر، و(صياح) الطائر المتوحش الذي يبعث الخوف في النفوس، ويحفّز أهل القتيل، ولايهدأ (الصوت) إلاّ بأخذ الثأر.
قال عبيد بن الأبرص:
في كلِّ وادٍ بينَ يَثـ ... ـربَ فالقُصورِ إلى اليمامه
تطريبُ عانٍ أو صيا ... حُ محرّقٍ أو صوتُ هامه(2)
__________
(1) أبو دؤاد الأيادي: ق60/339.
(2) ديوانه: ق48/125، حاتم الطائي: 23-24، الأسود بن يعفر: ق12/1/25، النمر بن تولب: ق7/1-2/40-41.(1/133)
يسمعنا الشاعر أنّات الأسير المترددة، أو ضياع المحرق، وصوت الصدى، أو البومة التي تألف المقابر وتصيح ولاتهدأ إلاّ بقتل قاتله، تلك الصور تستدعي الذهن ليتحفز لإعادة تشكيل الأحداث والمدلولات في صور سمعية، فضلاً عن الدلالات السمعية والألفاظ المختلفة (التطريب، والصياح، وصوت الهامة) والأداء النغمي والإيقاع الخارجي.
وجسد ذو الأصبع العدواني قول الهامة:
ياعمرو ألاّ تدعْ شَتمي ومنقصتي
أضْرِبْكَ حيثُ تقولُ الهامةُ اسقوني(1)
في إطار من التهديد لابن عم له يشتمه وينال منه، ويدس عليه عند أعدائه، فانطلق صوت التهديد لكي يترك ابن العم الشتم والمنقصة، وقد استحضر الشاعر صوت الخرافة المتمثل بالهامة والصدى ليسمعه ماتقول: (اسقوني اسقوني)، فيكون مصيره القتل، لإسكات ذلك الصوت الذي ينادي بالثأر.
ومن الصور الذهنية التي شكلت صوراً سمعية لوحة الصيد والصراع، حيث استخدم الشاعر في لوحاته (الثور) رمزاً، ونجد الشاعر لا يذكره إلاّ ومعه المطر لأنه يفرح به(2) وهو مقدس عند القدماء في وادي الرافدين لكونه يرمز إلى القوة والخصب(3)، ولذلك نجد أن كل لوحة تسرد لنا قصة الثور يصاحبها المطر.
والبقرة الوحشية، أو الثور، رمز للقوة والبطولة الفردية ولهذا نجدها دائماً تتغلب على الكلاب إلاّ فيما ندر.
وفي هذا الموضوع يقول الجاحظ: "ومن عادة الشعراء، إذا كان الشعر مرثية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحاً، ... أن تكون الكلاب هي المقتولة"(4).
__________
(1) المفضليات، المفضلية: 31.
(2) الأغاني: 5/93، 96، 97 (دار الكتب)، كتاب أيام العرب: 201 ومابعدها.
(3) مواقف في الأدب والنقد، قصة ثور الوحش وتفسير وجودها في القصيدة الجاهلية: 773 ومابعدها.
(4) الحيوان: 2/20.(1/134)
ومن هنا فالبحث يرى أن لوحة الصيد والصراع هذه متخيلة لاستنزال الغيث، وإحلال الخصب بدلاً من الجفاف، وخدمة للغرض الذي يتوخاه الشاعر لإثبات القوة الفردية له أو لممدوحه.
وإذا ماتتبعنا تلكم اللوحات الذهنية المستندة إلى أساس التقاليد سنجدها ذات معنى كامل، يكونه قصدٌ يستند إلى معرفة "فالصورة الذهنية لا يمكن أن يكون لها من غير المعرفة التي تؤلفها"(1).
ولوحة الصيد لدى الشاعر الجاهلي صورة ذهنية مرجعها المعرفة، والطبيعة وإن لم يلتقطها منها مباشرة، بل التقطها من الموروث التقليدي.
وإذا ما تتبعنا لوحة صيد لبشر بن أبي خازم فسنجد الثور قد ألجأته الريح الباردة الشديدة التي تحمل الحصباء مع المطر في صحراء مقفرة ليبيت على جنبه وخده، ولا يسمع سوى صرير الريح والحصباء، أو دقائق البَرَد والثلج، وعند الصباح تبادره الكلاب، ويدور القتال بينهما، فلما رأى الصياد أن كلابه قد طعنت ناداها من بعيد، في حين كان الثور شعلة من نار لبياضه وخفته.
إن اللوحة قد حفلت بالصور الحسية بعد أن كانت ذهنية، ولكنها لم تكن خلواً من الصور السمعية مثل: صورة البرَد والريح والمطر وصوت الصياد، وتتابع صوت الصاد المهموس المطبق الذي دلّ على صوت وخوف مثل (حاصب)، صحراء، صرير، أصات) وماأشاعه من جرس موسيقي داخلي ونغم صاخب يخدم الصورة السمعية:
فألجاهُ شَفّانُ قَطْرٍ وحاصِبُ
بصحراءَ مَرْتٍ غيرِ ذاتِ مُعَرَّسِ
وَبتْنَ رُكوداً كالكواكبِ حَولهُ
لهنَّ صريرٌ تحتَ ظلماءَ حِنْدِسِ
فلمّا رأى رَبُّ الكِلابِ عذيرَها
أصاتَ بها مِنْ غائطٍ مُتَنَفِّسِ(2)
__________
(1) المعنى الأدبي، وليم راي: 31.
(2) بشر بن أبي خازم: ق21/103-104. الشفّان: الريح الباردة مع المطر. الحاصب: ريح شديدة تحمل التراب والحصباء. صحراء مَرْت: قفر لا نبات فيها. الغدير: الحال. الغائط: المتسع من الأرض المتنفس: المتسع.(1/135)
وخرج الثور منتصراً في لوحة أخرى، ولما اشتد الصراع بينه وبين الكلاب ولما لم تقدر عليه تواكلت العواء(1)، وقبل بدء الصراع سمع نبأة وهو لا يخطئ في سمعه(2) فارتاع من صوت الصياد(3).
على أن لوحة الصيد التي تتحول إلى صراع تكاد تكون متطابقة في إطارها العام، بل حتى تتطابق في الألفاظ، ولذلك أضحت تقليداً يترسمه الشعراء.
ومن الصور الذهنية لوحة حمار الوحش والصياد، وصورة حمار الوحش تمثل الكفاح ضد الطبيعة، والخطر الخارجي، ذلك الصراع الأزلي من أجل البقاء، حيث المغالبة الشاقة للمكاره، والجلد على المشاق، والتحمل غيرة على اتنه من الفحول، وحمايتها من الصياد.
إن لوحة الصراع مع الطبيعة القاسية، والانفلات من الصياد وكلابه تمثّل رمزاً للجماعة التي تنتصب لهم شباك الموت في كل مفازة، وعند تجمع المياه، حيث يبل الحائم الصدى عطشه. بيد أن منطق الصراع هو الذي يسود إما بانتصار حمر الوحش، وإما الصياد.
ويستشرف الشاعر في مثل هذه اللوحات الأبعاد النفسية، متصوراً في ذهنه مواقف متعددة، يرويها لنا، متوسلاً بها التعبير عن الحياة، ومايكتنفها من مخاطر، ومايلفها من مواقف مختلفة، مفعمة بالتناقضات حيث "يرصع تجربته هذه بلمحات من أفكار تخطر في ذهنه...، يعبئ حواسه كلها من أجل عملية البناء الشعري(4).
وإذا مانجح الشاعر في نقل الصورة الذهنية إلى المتلقي، فقد تحررت من أسارها داخل الشاعر، ليتفاعل معها المستمع، ليتحسر بوقعها الصوتي والجمالي، وإذا ماحصل التفاعل معها تحقق المجهود الفكري والنفسي.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق11/53.
(2) المصدر السابق: ق16/83 ولوحة الصراع هنا ناقصة. وانظر 25/120، 121
(3) النابغة الذبياني: 79.
(4) شعر الطرد عند العرب: 289.(1/136)
وعند التفاعل مع النص يتحرر الشاعر والمتلقي من أسار الذهنية المحضة إلى الوضوح، وهو مايتوقف على قدرة الشاعر وإبداعه من جهة، وثقافة المتلقي من جهة ثانية، فضلاً عن وعي الفاصلة الزمنية بينهما.
إن لوحة صيد حمار الوحش، لوحة صراع شغلت ذهن الشاعر الجاهلي لكونها تمثل الجماعة، وهي وإن كانت تستند إلى الصراع الواقعي فهي ذهنية، ولذلك فهي "تنحرف عن المعتاد القياسي لابد وأن يكون لها انحراف مرافق عن الاستعمال العادي"(1).
فقد يمضي الشاعر مصوراً حمار الوحش في لوحة الصيد مُيمّماً وأتنه صوبَ الماء حيث يتربص به الصياد، يمنّي النفس والعرس. والأولاد بصيد يحسر عن وجوههم الشحوب ويسكت أصوات الجوع، فيرمي السهم، أو يرسل عليها كلابه، تروي الأتن ظمأها على عجل بحماية الحمار، وتلوذ بعد ذلك بالفرار، ويطيش السهم الذي ساقه وترٌ قويّ ويمضي مصوّتاً مترنماً دون فائدة للصياد(2).
ويرسم لنا الشاعر صورة سمعية لصيد حمار الوحش بمفرده، حيث راقبه الصياد، ورماه بالسهم فأخطأه، وقد استعان الشاعر بالصور الحسية المتعددة وصولاً إلى الصورة السمعية (صوت وتر القوس) ليوضح لنا الحالة، وهي قاتلة لا محالة، وقد ربط بين صوت الوتر وبين النائحة، للضربة المميتة التي أخطأت حمار الوحش، فاستحضر الصورة الذهنية السمعية:
مَعَهُ مُتابِعَةٌ إذا هو شَدَّها
بالشِّرعِ يستشزي له، وَتَحَدَّبُ
ملساءُ، مُحْدِ لهُ كأنَّ عَتادَها
نَوَّاحةٌ نَعَتْ الكرامَ مُشَبِّبُ(3)
__________
(1) نظرية الأدب: 236.
(2) زهير بن أبي سلمى: ق24/207-211، الأعشى: ق15/121.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق24/209-210. المتابعة: القوس المنقادة لمطواع. الشِّرع: جمع شرعة وهي الوتر، يستشزي: يرتفع ويتحدب. المُحْدِلَة: التي أعلاها أوسع من أسفلها. العَتاد: وهو صوت وترا لقوس إذا رمي عنها. المشبب: النائحة تشبّب الحزن وتؤرثه.(1/137)
وقد يصف الشاعر الحمار وأتنه وتعنيفه لهن، ويجمعهن ليشربن الماء محاذراً الصياد، مصوتاً على أتنه لنشاطه وهياجه (صورة سمعية) بدلالة إيقاعية (أَرَنَّ) وصوتية صاح:
أرنَّ على حُقْبٍ خيال طروفةٍ
كذَوْدِ الأَجيرِ الأربع الأَشِراتِ(1)
وفي صورة أخرى دعا حمارَ الوحش غديرٌ للماء فراح يحدو أتنه قسراً بصوت مرّن، شهيقه مثل منفاخ الحداد، له زجل حسن الترجيع والترنم والتطريب (صور سمعية)، وهو يذود عنها، وقد شرد أقرانه، وراح (يتسمع) الصوت الخفي خشية أن يدهمه صيّاد على حين غرّة، يتنقل من مكان إلى آخر له جلبة (حركة وصوت) فأوردهن الماء، وصاح للانصراف إلى مكان أمين، ولم يلق وأتنه صياداً:
دَعاهُ مَشْرَبٌ مِنْ ذي أَبانٍ
حِساءٌ بالأباطحِ أو غديرُ
فَظلَّ بهن يحدوهنَّ قصداً
كما يحدو قلائِصَهُ الأَجيرُ
أَقبُّ كأنَّ مَنْخِرَهُ إذا ما
أرنَّ على تواليهِنَّ كِيرُ
له زَجَلٌ تقولُ: أصوتُ حادٍ
إذا طلبَ الوسيقةَ أو زميرُ
وأصبح في الفلاةِ يُديرُ طرفاً
على حذرٍ تَوَجُّسُهُ كثيرُ
له زَجَلٌ كأنَ الرِّجلَ منهُ
إذا ماقامَ مُعْتَمَدَاً كسيرُ
فخاضَ أمامهن الماءَ حتّى
تَبَيّنَ أنَّ ساحَتَهُ قفيرُ
فَلمّا أنْ تَغَمَّرَ صاحَ فيها
ولمّا يَعْلُهُ الصّبحُ المنيرُ(2)
وفي لوحة صيد للأعشى أن الحمار أتى عين الماء، وفرح الصياد، وهيأ سهماً محدداً، يسوقه وترٌ قوي، فيمضي مصوّتاً مترنماً، وقذف به فمرعت صدر الحمار فجرى الحمار والأتان تجري معه، وحمي جوفهن من شدة عَدْوهِ فكأنه قمقم يغلي، حيث تتبدى لنا الصور الحسية المختلفة، ومنها الصور السمعية المفردة والمركبة مرت في الذهن مستمدة من الواقع والخيال:
فلّما عفاها ظَنَّ أَنْ ليسَ شارباً
__________
(1) امرؤ القيس: ق6/79. أرن على حقب: أي صوت على أتنه وصاح بها.
(2) الشماخ: ق6/154-157. التوجس: التسمع إلى الصوت الخفي. التغمر: شرب دون الري. ذو أبان: موضع. الأقب: الضامر البطن. الوسيقة: الأنثى.(1/138)
من الماء إلاّ بعدَ طولِ تَحَرُّمِ
وصادف مِثْلَ الذئب في جوف قُتْرَةٍ
فلمّا رآها قالَ ياخيرَ مَطْعَمِ
وَيَسَّرَ سهماً ذا غِرارٍ يَسُوقُهُ
أمينُ القُوى في صُلْبَةِ المُتَرَنِّمِ
فَمَرَّ نَضِيُّ السَّهْمِ تحتَ لَبانِهِ
وجالَ على وحشِّيه لم يُثَمْثِمِ
وجالَ وجالتْ ينجلي التّربُ عنهما
له رَهَجٌ في ساطعِ اللونِ أَقْتَمِ
كأنَّ احتدامَ الجوفِ في حَمْي شَدِّهِ
ومابعده منْ شَدّهِ غُلْيُ قُمْقُمِ(1)
في حين نجد الحمار يقتل في إحدى لوحات الصيد(2)، وإذا ما تأملنا في اللوحة واستقرينا المواقف المختلفة في القصيدة، نجد العواطف الخائبة والوجع، وشبح الفراق يمتد بين المحبّين، والدهر المفرّق بينهم هو الصياد، إذ تُنبئنا القصيدة بهذا الفراق:
أَلا ناديا أظعانَ ليلى تُعَرِّجِ
فقد هِجْنَ شوقاً ليتَهُ لمْ يهيجِ
أقولُ وأهلي بالجِناب وأهلها
بنجدين لاتَبْعَدْ نوى أُمِّ حَشْرَجِ
وقد ينتئي من قد يطولُ اجتماعُهُ
وَيَخْلِجُ أَشطانُ النَّوى كُلَّ مَخْلجِ
وكيف تلاقيها وقد حان دونها
بنو الهَوْنِ أو جَسْرٌ ورهْطُ ابنِ حُندُجِ(3)
إن لوحة الافتتاح هذه قد صورت لنا حياة الشاعر، وعكست موقفه من الحبيبة مستعيناً بالتفصيلات الدقيقة، إذ اختزلت لنا الموقف النهائي (الفراق).
بيد أن لوحات الافتتاح لاتشي بالغرض الأساس في معظم الأحايين.
__________
(1) الأعشى: ق15/121. عفاها: أتاها يقصد عين الماء. مثل الذئب: الصياد. القترة: ناموس الصائد، دخل فيها واختبأ. ذا غرار: أي حد. أمين القوى: الوتر. نضي من نضى: خلع ونزع. الوحشي: الجانب الأيمن وقيل الأيسر. الثمثمة: الاحتباس. الرهج: الغبار. شده: عَدْوُه.
(2) الشماخ: ق2/73، 79. الجناب: موضع. يخلج: يجذب أو ينتزع.
(3) الشماخ: ق2/73، 79. الجناب: موضع. يخلج: يجذب أو ينتزع.(1/139)
على أن وقفة تأمل لمسار تلك اللوحة تمنحنا مانستدل به على أن الشاعر كان في أهنأ لحظات حياته مع الحبيبة، ولكن الفراق آلمه، وأثار مكامن المواجع مع مايساور الشاعر من حزن عميق.
إن الدهر الذي عجل بالفراق، هو الصياد نفسه الذي قتل الأحقب بعدما كان يرعى ما أنبته الربيع، معشّراً، وناهقاً، بعيد مدى التطريب، وأولُ نهيقه السحيق وهو (أشد من النهاق) ونهايته نشيج محشرج(1).
ومن خلال متابعتنا لشخصية الصياد نجدها تكاد لاتمثل لنا شخصية رئيسة، وقد تغيب في أحايين كثيرة، ولم تشكل لنا صورة سمعية، إلا القوس، وحالة حمار الوحش والأتن الخائفة.
وقد وصف أوس، حمار الوحش، والصياد، وصفاً حسياً، وسرد لنا القصة، ووصف القوس، وذكر لنا نذيرها (صوتها) وأردفها بالعزيف:
على ضالةٍ فرعٍ كأنَّ نذَيرَها
إذا لمْ تُخَفِّضْهُ عنِ الوحش عازِفُ(2)
((
المبحث الثاني
الصورة السمعية وسلطان الحواس
ترتبط الصورة بشكل عام بروابط عديدة لا يمكن التنصل منها وإلاّ انهارت الصورة، فهي تقوم على أساس المدركات الحسية المختلفة، تنبع من الذات، ومن التجارب الحياتية والواقعية، ممتزجة بالخيال.
فإذا كان الشعر لغة –وهو كذلك- فعبر هذه اللغة تكمن ألفاظ تعبر عن حواسنا، مشكّلة صُوراً تمثل تلك المدركات الحسية، عبر الأفعال والصفات، أو مما تتركه من تأثيرات عبر الدال والمدلول.
ومهما كانت الصور ذهنية فإنها رهن باستعادة التصورات، والقيام بمقارنتها وربطها مع قدرة إبداعية، لتنبثق صورة شعرية من تعاون بعض الحواس التي أدركت أهمية العلائق التي تربط بينها.
__________
(1) المصدر نفسه: ق2/86-88. (الشماخ)
(2) أوس بن حجر: ق 30/71. النذير: الصوت. عازف: مصوّت وعزيف.(1/140)
وإن النمو العضوي داخل القصيدة قد لايتمّ إلاّ بترابط بعض الحواس ببعضها، إذ إن تساوقها يتولد من داخل العلائق التي يتطلبها النص، إذ يقضي بيت شعري، يتطلب المعنى فيه، أو –عبر حاسة معينة- أن تنبثق حاسة ثانية وثالثة ورابعة، ليتم المعنى وتكمل الصور الحسية، وقد لاتتشكل الصورة النهائية إلاّ بتضافر عدد من الحواس.
ولاشك أن المتعة الفنية في ترابط الحواس أجمل فنّياً، عِلْماً أنّ لها النصيب الأوفى في شعرنا العربي.
كما أن الإحساس بالجمال لايقتصر على حاسة واحدة حسب، وإنّما ثمة حواس مختلفة يمكن بوساطتها التحسس بجمال الصور، نظراً لما تشكّله تلك الحواس من أثر في تحقيق الغرض الذي يتوخاه الشاعر.
ولذا فإن هذا البحث قد قام بدراسة الصورة السمعية والصور التي تشكلها الحواس. الأخر وتعاونها معاً لإبراز الصورة التي كان يروم الشاعر إبرازها.
ويمكن للصورة التي يؤثر فيها سلطان الحواس أن تلقى الاستجابة من المتلقين، نظراً لما لها من تفاعل كلي، ليس لتأثير حاسة واحدة "لأن الجهاز العضوي بأكمله وليس فقط جهاز الإبصار هو الذي يتفاعل في كل فعل من أفعاله(1)". وتتعدد طرق الاستمتاع وتتباين في الأشياء التي يتمثل فيها الجمال(2)، على "أن مخاطبة الحواس، والتمرد على الدلالة الحرفية، واكتشاف علاقة، وتحرك الخيال... تمثل أهم ماينبغي أنْ يتحقق في الصورة الشعرية"(3)، فالانطباع الذي يصل من خلال حاسة معينة كالسمع مثلاً لايلبث أن يثير إيحاءات بحواس أُخَر مثل البصر: أو اللمس(4).
وإذا ما تتبعنا مجالس الشراب والغناء فسنفرز طبيعة موقع الصورة السمعية من غيرها من الصور الحسية المختلفة، وتبيان السبب، سواءٌ أكان سبب ذلك طبيعة الصورة، أم طبيعة الشاعر، أم طبيعة الموضوع.
__________
(1) الفن خبرة: 205.
(2) ينظر ميادين علم النفس: 468.
(3) الصورة والبناء الشعري: 38.
(4) ينظر كتاب: نظرية البنائية في النقد الأدبي: 472.(1/141)
وقد اخترنا الأعشى لأنه يرتاد مجالس الشراب والغناء والحانات بكثرة ولتنقله الدائم من مكان إلى آخر، وقد شاعت لديه الصور الحضرية، وفي تتبعنا لمجلس شراب وغناء له وجدناه قد اختار مجلسه في خباء قد أظل بابه سقف ممدود ووجود جارية قد طلت جسمها بالمسك والزعفران (صورة شمية لمسية)، ومن الأكمام المشقوقة عبر فتوق قميصها يتحسس الندماء جسمها، تدير أصابعها على أوتار المزهر فكأن أنغامه كلام، ويشرب الصحب الخمر حمراء وسط شواء اللحم.
اللوحة تنبئ كما تقدم عن مجلس شراب وغناء، وأنس ولهو وفرح، وتفتح النفوس حتى يقصر اليوم الطويل بين أولئك الفتية وهم في الخباء، حيث يعمد الأعشى إلى وصف المكان والزمان، ويبدأ بالفعل الأول، والصورة الأولى بشرب الخمر باستخدام حاسة الذوق:
وقد أقطعُ اليومَ الطويلَ بفتيةٍ
مساميحَ تُسقى والخِباءُ مُرَوَّقَ(1)
وينتقل إلى صورة لاحقة، هي صورة الجارية التي طَلَت جسمها بالمسك والزعفران فبدتْ بشرتها صفراء، ومن هنا نجد تعدد الصور الحسية، فطلي الجسم (صورة لمسية)، ولابد أن تفوح رائحة المسك والزعفران (صورة شمية) ولون البشرة أصفر (صورة بصرية)، وتحسن الجسم عبر الأكمام (لمسية):
وَرادِعَةٍ بالمسكِ صفراَ عندنا
لِجَسِّ النّدامى في يَدِ الدِّرْعِ مَفْتَقُ(2)
ولابد من أن تقود هذه الصور إلى صورةٍ أو صورٍ لاحقة، مثل طلب الغناء من الجارية (سمعية)، قامت إلى مزهرها (آلة سمعية)، وقد أدارت أصابعها على أوتاره فانبعثت منها الأنعام، مس الأصابع (لمسية)، إنبعاث الأنغام (صورة سمعية):
إذا قلتُ غَنّي الشَّرْبَ قامتْ بِمِزْهَرٍ
يكادُ إذا دارتْ لَهُ الكفُّ يَنْطِقُ(3)
__________
(1) الأعشى: ق33/19/219.
(2) الأعشى: ق33/20/219. ردعه بالمسك: لطخه به. الدرع: القميص.
(3) المصدر السابق: ق33/21/219.(1/142)
وتتابع الصور ليكمل بعضها بعضاً، حيث يشوى اللحم، ومنها نجد حاسة الذوق، ومن انبعاث رائحة الشواء تتحقق حاسة الشم فيها، ويعود الفتيان إلى شرب الخمر (ذوقية) ذات اللون الأحمر (صورة بصرية)، وإذا ما سقطت فيها القذى يظهر صفاؤها (لمسية) وعندما يتذوقها الشارب يظل يتلمظ تلذذاً واستعذاباً (ذوقية):
وشاوٍ إذا شئنا كَميشٌ بِمِسْعَرٍ
وصهباءُ مِزْيادٌ إذا ماتُصَفَّقُ
تُريكَ القَذَى منْ دونِها وهي دونَهُ
إذا ذاقها مَنْ ذاقَها يَتَمَطّقُ(1)
ولنا أن نجدَ أثر الحواس وتتابعها في اللوحة التي تشكلتْ فيها الصور المتعددة من بصرية وذوقية ولمسية وسمعية وشمية، على أن موقع الصورة السمعية هنا بالرغم من بروزها وتميزها إلا أنها جاءت ضمن عدة صور مترابطة قادت إلى تشكيل الصورة السمعية، لأن طبيعة الموضوع اقتضت مجلس شراب ورقص أساساً.
وفي لوحة ثانية للأعشى يقول فيها:
وطلاءٍ خسرواني إذا
ذاقَهُ الشيخُ تَغَنّى وأرْجَحَنْ
وطنابير حسانٍ صوتُها
عند صَنْبحٍ كُلّما مُسَّى أَرنْ
وإذا ماغَضَّ من صوتيهما
وأطاعَ اللّحنُ غَنّانا مُغَنْ
وإذا الدَّنُّ شِربنا صَفْوَهُ
أمروا عَمْراً فناجَوْهُ بِدَنْ
بِمَتاليفَ أهانوا مالهمْ
لغناءٍ وَ للِعْبٍ وأَذَنْ(2)
__________
(1) الأعشى ق33. المصدر نفسه: ب22، 23. كميش: مسرع. المسعر والمسعار ماتسعر به . النار: أي توقد.
(2) الأعشى: ق78/14-19/359. الطلاء: الخمر. أرجحن: مال واهتز. الطنبور والصنبح والون: من آلات الطرب. المسمع: المغني. صفو الشيء: خالصه. عمرو: اسم الساقي أو صاحب الحانة. متاليف: جمع متلاف وهو المبذّر. اذن سماع: فعله: أذن كـ (علم).(1/143)
في تأملنا لهذه اللوحة في إطارها العام، يقول الأعشى إذا ماذاقها الشيخ الفاني ارتدّ إليه شبابه، فمال متغنياً واهتز، وغنّى المغني على ألحان الطنابير الحسان، والصنج الرنّان، فإذا مافنى صوته وخَفَت، انبعث الصنج يجيبه الونّ، يمهدان للغناء من جديد، فإذا أطاعت الألحان خفت رنين الأوتار، وانطلق المغنّي بصوته الصداح.
نجد في هذه اللوحة الصور السمعية تترى الواحدة تلو الأخرى، بعد الصورة الذوقية عندما ذاق الشيخ الفاني الخمر، تغنى (سمعية)، ومال واهتز (حركة+فعل)، وتتابع الألفاظ ذات الدلالات السمعية والإيقاعية، السمعية المتمثلة بالآلات الموسيقية (الطنابير-الصنج، الونّ)، وعند ملامسة الصنج (يرن)، والرنين دلالة إيقاعية، وتختلط الدلالة السمعية (المسمع، والصوت، والغناء، والمغن) بالإيقاعية (الرنين)، وبتضافر الحواس تشكلت الصور المتعددة (الذوقية+ السمعية+ اللمسية)، ونجد أن الصورة السمعية في هذه اللوحة لها الصدارة لكون اللوحة قامت أساساً على مجلس الغناء والشراب، بالرغم من تداخل بعض الصور الحسية وخاصة الذوقية واللمسية، ولابد منهما لعلاقتهما بمجمل الغناء والشراب وماتتطلبه الحالة.
ولنا أن نتأمل لوحة تميم بن مقبل، وكيف وظّف الحواس في إبراز الصور المتلاحقة في ليلة شراب وغناء، فيبدأ بوصف المكان، حيث رمل مستدير، تحيط به جبال، مستضيئاً بالسليط المصوّب على الذبال، والصورة كما نرى بصرية، يتطلبها وصف المكان ومايدور حوله:
بِتْنا بِدَيِّرَةٍ يُضيءُ وجوهَنا
دَسَمُ السليطِ على فتيلِ ذُبالِ(1)
ثم انتقل إلى صورة لاحقة هي النشوة (لمسية) بعد الشراب (ذوقية) من زقّ عظيم ضخم داكن أغبر يميل إلى السواد (بصرية) شدّتْ أرجله بالحبال (لمسية):
حتى انتشينا عندَ أدكنَ مَتْرَعٍ
جَحْلٍ أُمِرَّ كراعُهُ بعقالِ
ممَا تُعَتّقَ في الدِّنانِ كأنها
__________
(1) تميم بن مقبل: ق33/13/257.(1/144)
بشفاهِ ناطِلِها ذَبيحُ غَزالِ(1)
على أن تلك التفاصيل قد أفضت إلى غناء القينة وسماعهم إيّاه (صورة سمعية) حتى نال الشاعر من الطرب والنشوة والخيلاء فجر ثوبه (لمسية)، وأعقب ذلك صياح القينة (سمعية)، وقد أسبغ عليها صفات تمثلت بطول العنق حسنته (بصرية)، تركض بساقها مايلي الخلخال من الثياب، متبذلة في ثوب واحد (لمسية) تحرك أوتار العود مع غنائها بصوت أجش فيه غلظ وبحّة، متتابع غير منشقّ، يزيد مرّة ويستقيم أخرى، وفيه حشرجة (سمعية)، حيث صاحب الغناء، العزف، والتلون بالصوت وماذكره لتلك التفاصيل الدقيقة إلاّ ليمنحنا فرصة التعرف على مجلسهم، ومادار فيه من غناء وشرب وحركات، وقد برزت الصورة السمعية إلى جانب الصور الحسية الأخر، لطبيعة الموضوع، مجلس شراب وغناء.
صَدَحَتْ لنا جيداءُ تركضُ ساقُها
عندَ الشُّروبِ مجامعَ الخلخالِ
فَضُلاً تُنازِعُها المحابِضُ صوتَها
بأَجَشَّ لا قَطِعٍ ولا مصحالِ(2)
__________
(1) تميم بن مقبل: ق33. المصدر نفسه: ب14-15/258. الجحل: الزق العظيم. كراعه: رجله. العقال: الحبل الناطل: الذي يصب الخمر.
(2) تميم بن مقبل: ق33/258-259. تركض ساقها: أي تركض بساقها مايلي الخلخال من الثياب. الشروب: القوم يشربون ويجتمعون على الشراب. فضلاً: متبذله في ثوب واحد. المحابض: الأوتار. القطع: الصوت المتقطع. المصحال: من الصحل: انشقاق الصوت.(1/145)
في تأملنا للوحتي الأعشى، ولوحة ابن مقبل، نجد تبايناً في المكان ابتداء، فابن مقبل اختار المكان في صحراء حيث الرمل المستدير الذي تحيط به جبال، في حين كان مجلس الأعشى في خباء قد أظل بابه سقف ممدود، وإذا ماطلب الغناء من الجارية عزفت بأوتاره فكانت أنغامه مقام الغناء، في حين القينه عند ابن مقبل قد غنّت بصوت فيه بحّة، في حين نجد الأعشى في لوحته الثانية في غرف عالية وظل ظليل مع آلات موسيقية متعددة يصاحبها الغناء، اقتضتها طبيعة الصورة، لأنها مستمدة من الواقع الحضري ومافيه من استخدام آلات العزف المختلفة.
إن التباين بين الألفاظ والصور في شعر الأعشى وابن مقبل يمنحنا الفرصة للقول بحضرية الصورة عند الأول، وبدويتها عند الثاني، تبعاً للمعطيات الاجتماعية والبيئية التي شكلت الصياغة الفنية للوحاتهما في التباين الحاصل في تناول التفصيلات في نسغ تلك القصائد.
وقد تأثر شعر الأعشى ورقّ لفظه للأجواء اللاّهية ومجالس الشرب والغناء حتى تغنى القيان بشعره بسبب "الجرس الصوتي والموسيقي الراقصة هي التي جعلت المغنين والقيان يكثرون من غناء شعره"(1).
على أن مجالس الشراب والغناء متفرقة في القصائد، ومجتمعة في لوحات عديدة ولشعراء عديدين قد تباينت فيها طبيعة الصورة السمعية في أهميتها وبروزها، أو تداخلها مع الصور، ومن الصور السمعية البارزة لوحة امرئ القيس، حيث جعلها نقطة مضيئة بسبب من طبيعة الشاعر الذي أراد أن يُسرّي عن نفسه المكروبة بالعزف ليعلو صوت المزهر على صوت الجيش لكثرته:
وإنْ أُمسي مكروباً فياربّ قينةٍ
مُنَعَّمَةٍ أعملتُها بِكِرانِ
لها مزهرٌ يعلو الخميسَ بصوتِهِ
__________
(1) القيان والغناء في العصر الجاهلي: 246، وانظر: 247، 249، 250.(1/146)
أَجَشُّ إذا ماحرّكَتْهُ اليَدانِ(1)
وتجيء الصورة السمعية متداخلة ومرتبطة مع الصور الحسية عند طرفة بن العبد حيث يصف مجلس شراب وأنس. وفيه قينة إذا ماطلبوا منها الغناء غنّت، فالصورة مرتبطة متداخلة لم يفصل فيها الشاعر، لأنه ميال إلى الخمر أكثر من ميله للغناء ولذا فإن طبيعته قد تحكمت في الصورة، لولعه بالخمر وقد عدّه من اللذات التي يجب العكوف عليها مادامت الدنيا زائلة:
إذا نحن قلنا: اسمعينا انبَرتْ لنا
على رسلها مطروقةً لم تَشَدَّدِ(2)
وفي مجلس شراب حضره زهير بن أبي سلمى نجد الصورة السمعية لم تتميز بسبب طبيعة الشاعر الذي كانت لديه مهمة وهو في عجلة من أمره، وقد كان المجلس لالتقاط الأنفاس من رحلة تعب، حتى إن وصفه لهذا المجلس. كان سريعاً يتساوق مع المهمة التي انتدب لها في مساعدة رجل غطفاني قُمِرَ في بني عليم، فالصورة جاءت نتيجة لطبيعة الشاعر وطبيعة الموضوع:
وقد أغدوا على ثُبَةٍ كِرامٍ
نشاوى واجدينَ لما نَشاءُ
لهم راحٌ وراووقٌ ومسكٌ
تُعَلُّ به جلودُهُمُ وماءُ
يجرون البرود وقد تمشت
حميّا الكأس فيهم والغناء(3)
__________
(1) امرؤ القيس: ق8/86: الخميس: الجيش. كران: العود الذي يضرب به. على أن الصور السمعية البارزة وردت عند الأعشى في قصائده: 6، 22،36،55،63،64، بسبب من طبيعة الشاعر الميالة إلى تلك المجالس الحضرية التي يستدعي فيها الغناء العربي على الآلات الموسقية المختلفة التي من شأنها إبراز الصورة السمعية، فضلاً عن أن الشاعر ميّال إلى السمّع لأنه أعشى للتعويض عن النظر.
(2) طرفة بن العبد: 26.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق11/135. الثبة: جماعة من الناس. واجدين: قادرين. الراح: الخمر الراووق: المصفاة. تعل جلودهم: تطيب بالمسك مرة بعد أخرى. حميا الكأس: سورتها وصدمتها في الرأس.(1/147)
ونجد الصورة السمعية عند عبده بن الطبيب في مجلس الشراب مرتبط بالرغم من مجيئها في نهاية الأبيات، ويبدو أنها قد جاءت على المزاج بدلالة اللفظة (وأحياناً يعلّلنا شعر) أي يلهينا غناء القيان، إذ أن المجلس معقود أصلاً للشراب، وبالرغم من ذلك فقد كان الغناء فيه جميلاً، تطريباً وترجيعاً، وشبهه باللون (أصباغ السقوف) يصفها الناس لحسنها:
لنا أصيصٌ كجِذمِ الحوض هَدَّمَهُ
وَطْءُ العِراكِ لديه الزِّقُ مغلولُ
ثم اصطحبتُ كُمَيْتاً قَرْقفاً أنُفاً
من طيِّبِ الراحِ، واللذَّاتُ تعليلُ
صِرْفاً مزاجاً وأحياناً يُعَلِّلنا
شِعْرٌ كَمُذْهَبَةِ السِّمانِ محمولُ
تُذري حواشِيَهُ جيداءُ آنِسَةٌ
في صوتِها لسماعِ الشَّرْبِ ترتيلُ
تغدو علينا تُلَهِّينا ونَصْفِدُها
تُلقى البُرودُ عليها والسّرابيلُ(1)
والصورة السمعية عند حسان بن ثابت مرتبطة بغيرها من الصور الحسية التي سبقتها، على أن تلك الصورة السمعية تكاد تكون عابرة لطبيعة الموضوع الذي تطرق إليه الشاعر في معرض الاستذكار، وإنما صرف عنايته إلى وصف النساء وتشبيههن بالظباء:
ظل حولي قيانه عازفات
مثل ادم كوانس وعواط(2)
__________
(1) المفضليات، المفضلية: 26. أصيص: دن مقطوع الرأس. الكميت: الخمر. القرقف: التي تصيب شاربها رعدة. أنف:لم يشربها أحد قبله، يعللنا شعر: يلهينا غناء القيان. السمان: وشي. نذريه: نرفعه. الآنسة: المنبسطة المتحدثة.
(2) ديوانه (البرقوقي): 291. عواط: ظباء. كوانس: مستكنة.(1/148)
وجاءت الصورة السمعية عند حسان بن ثابت أيضاً مرتبطة حتى تكاد تحسبها مهملة، فمجلسه كان في الحانوت مع ندمان له يقضون اللذاذات من لهو وإسماع، ولابد للمجلس أن تنبثق منه أصوات مختلفة، بيد أن الشاعر قد كثفها وحصرها في زاوية حتى تكاد مهملة إذ لم يفصل تلك اللمحة، وإنما اكتفى بلفظتي (الندمان، وإسماع)، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة المكان ووقت الشاعر وطبيعة الصورة التي لم تعن إلا بالوصف والتشبيه الذي يخص الخمر، لأن غرض الشاعر التسرية بشربه:
وقد غَدوتُ إلى الحانوت يصحبني
منْ عاتقٍ مثلِ عينِ الديك شعشاعِ
تغدو عليَّ وندماني لِمِرْفَقِهِ
نقضي اللذاذاتِ مِنْ لهوٍ وأسماعِ(1)
وتكاد تكون الصورة السمعية مستقلة عند علقمة الفحل، حيث صوت المزهر، وانصرف بعد ذلك إلى القوم ووصف الخمر، وتعداد مزاياها حتى تكاد تحسب الصورة السمعية مستقلة، بسبب طبيعة الشاعر الذي يميل إلى الخمر دون الغناء والعزف:
قد أشهدُ الشَّرْبَ فيهم مِزهرٌ رَنمٌ
والقوم تصرعهم صهباءُ خرطومُ(2)
ولنا أن نتأمل الصورة السمعية وسلطان الحواس في موضوع الاغتراب النفسي من خلال النداء، سواء أكان بالحرف، أم اللفظ الصريح، أم المخفي، لنتعرف على مكانة الصورة السمعية من الصورة الحسية الأخر وسبب ذلك، عبر ثنائية الصورة الحسية (السمع والبصر) أو عبر تعددها لتشمل جميع الحواس.
فمن صور الاغتراب النفسي ومن خلال الرثاء عبر ثنائية الصورة الحسية في بيتين اجتمعت فيهما حاستا (السمع والبصر) قال المهلهل:
ياخليليَّ ناديا لي كُليباً
عَلَّ صوتاً يكون مُتاحا
ياخليليَّ ناديا لي كُليباً
قبل أنْ تُبْصِرَ العيونُ الصَّباحا(3)
__________
(1) حسان بن ثابت: 312. العاتق: الخمر القديمة. مثل عين الديك: صافية الشعشاع: الممزوجة.
(2) ديوانه: ق2/68. الرنم: المصوّت، المترنم. الصهباء، منْ أسماء الخمر. الخرطوم: أول خروجها من الدّن.
(3) المهلهل: 223.(1/149)
بدأ الشاعر بـ (يا) النداء متدرجاً إلى لفظة النداء الصريحة، فهو نداء سريع في إطار الرثاء والندب، إذ لايملك الشاعر إلاّ أنْ يطلب كليباً، ويتمنى أنْ يُلَبّى نداءه (علَّ صوتا) فحقق بذلك صورة سمعية.
ويتكرر نداؤه عبر الصورة السمعية المقترنة بالصورة البصرية (أن تبصر العيون الصباح)، أي في الوقت الذي ندب فيه المهلهل كليباً كان الليل الذي يبدو فيه الشاعر قد تعرض لنكران زوجه له لمّا رأته كاسف اللون، لايطيق المزاح، فتساوقت الصورتان السمعية والبصرية في إبراز حالة التأزم النفيس، والإحساس بالغربة الذي سببّهُ فقدان أخيهن ومايلاقيه من زوجه، فانبثقت الصورة السمعية الحادة لتبديد وحشته، وأعقبها بالصورة البصرية المتمثلة بسواد الليل، والضيق الذي يعانيه، فحضور كليب هو الصباح في نظره، وبالتالي انفراج الأزمة، على أن الصورة السمعية كانت البارزة لطبيعة الموضوع، وأزمة الشاعر النفسية واغترابه، وتميز الأداء الصوتي.
وفي إطار الرثاء شكّلت الخنساء صورة سمعية يعلو فيها صوت مشاعرها تجاه أخيها صخر، معبّرة عن آلامها لفقده، ومثّله ينعى ويبكى عليه، وينطلق الدعاء باللعنة على من يعذلها في ذلك، فالاغتراب بالنفسي نسمعه من خلال رثائها حيث تقول:
لقد صوّتَ النّاعي بفقد أخي الندى
نداءً لعَمري لا أَبالَكَ يُسْمَعُ
فَمَنْ لِقرى الأضياف بعدكَ إنْ هُمُ
فِناءَكَ حلّوا ثُمَّ نادوا فأَسمعوا
ومَنْ لجليسٍ مُفْحشٍ لجليسهِ
عليهِ بجهلٍ جاهداً يَتَسَرَّعُ
دعوتُ لها صَخْرَ النَّدى فوجدتهُ
لها يَسَراً يُجلى به العُسْرُ أَجْمَعُ(1)
نجد الألم يعتصر قلبها منذ أن صوّت الناعي بفقد صخر، ويشتد الحزن مع تكرار النداء، والقسم، والاستفهام، فضلاً عن الصورة السمعية غير المباشرة المتمثلة بالمجالس ومايدور فيها من كلام، وخاصة الكلام الفاحش من جليس لجليسه، يفض فيه النزاع صخر.
__________
(1) الخنساء: 159-160.(1/150)
فأثر الاغتراب النفسي واضح على الخنساء لفقدها أخيها التي كانت مزهوّة به ومفتخرة، وإنْ كنّا نجد صوراً ذوقية ولمسية وبصرية، إلاّ أن الصورة السمعية التي تخللت نسيج الأبيات وترابطت مع الصور الحسية المختلفة، كانت هي البارزة بتأثير الموضوع (الرثاء) الذي يدل على صدق المشاعر تجاه الفقيد، ومثل صخر ينعى علناً ويبكى عليه، وهو المعوّل في الشدائد، وقرى الأضياف، وحل المنازعات حتى أن الضيوف أسمعوا صخراً صوتهم عندما حلوا في فناء الدار، تلك الصفات لابد أنْ تجهر بها الخنساء، وكانت الصور سانحة للأذن أنْ تشكلها عند سماعها بما فيها من مشاعر الأخت الباكية الملتاعة، ومع كل لفظة تنطقها يتدفق الحزن والألم الممتزج بالفخر.
فتصوير الحالة عبر السماع جاء مشحوناً بالأصوات، والتوتر النفسي، لأن صخراً ليس شخصاً عادياً لديها، بل كان يملأ عليها وجودها، وما تعداد محاسنه ومآثره إلا للتعويض عن إحساسها بفقده أولاً، وليبقى حديثاً لها وللناس ثانياً.
وينطلق حاتم الطائي من حالة نفسية متأزمة، مثقلة بذل الغربة بسبب الابتعاد عن الأهل والوطن:
لَشِعْبٌ مِنَ الريَّانِ أَمْلَكُ بابَهُ
أنادي به آل الكبيرِ وجعفرا
أَحَبُّ إليَّ منْ خطيبٍ رأيته
إذا قلتُ معروفاً تَبَدَّلَ مُنْكَرا(1)
استخدم الشاعر لفظة (أنادي) منَ النداء، والخطيب الذي يمثّل الكلام أو الصوت، وكذلك القول، لتشكيل الصورة السمعية التي برزت بشكل لافت للسمع بالرغم من وجود الصورتين البصرية واللمسية، فالشاعر يرفض المُلْكَ الواسع مع ذلك الغربة الذي مثّل له بوجود الخطيب الذي يراه الناس ويسمعون صوته، ولكنه يغيّر الحقائق، حيث يجعل قول المعروف منكراً، فالشاعر يرضى بالشيء، اليسير القليل الصغير في موطنه الذي مثّله بـ (الباب) ينادي به قومه، وإن كانوا لايرونه أو يسمعونه لهو أحب إليه من السعة مع المذلة.
أراني لَدُنْ أنْ غابَ قومي كأنما
__________
(1) ديوانه: 21.(1/151)
يَراني فيهم طالبُ الحقِ أرنبا
دعا قومَهُ حولي فجاؤوا لنصرِهِ
وناديتُ قوماً بالمُسَنّاةِ غُبَّبا(1)
ينطلق الأعشى من الاغتراب المكاني –النفسي، ومايعانيه المغترب من ألم، فيشكّل صورة بصرية سمعية، فهو يشكو من هوان أمره لغياب قومه عنه حتى غدا أرنباً في نظر الآخرين لكونه غريباً، وحين دعا الباحث عن الحق قومه، فنصروه، وحين نادى الأعشى قومه لم ينصره أحد لاغترابه عنهم، فتساوقت البصرية والسمعية وتعاونا على إبراز حالة الاغتراب الحادة للشاعر وتأثير ذلك عليه، على أن الصورة السمعية بارزة ولها موقعها.
وفي مجال الاغتراب من نوع آخر، هو الشعور بالغربة من الموت، والتمسك بالحياة، ويمكن أن يكون هذا الاغتراب في تضاد (الحياة- الموت)، أي مادام كل شيء للفناء، وأن الحياة لابد زائلة، ومادام الخلود غير ممكن فإن الغربة قائمة مادامت المنية دائمة، ولهذا نجد منَ الشعراء من ينطلق في الحياة بما ملكت يداه، وبهذا الصدد قال طرفةُ بن العبد:
فإنْ كنتَ لاتستطيع دَفْعَ مَنيّتي
فَذَرْني أبادِرْها بما ملكتْ يَدي
فلولا ثلاثٌ هنَّ مِنْ حاجةِ الفتى
وَجَدِّكَ لم أَحفلْ متى قامَ عُودَّي
فمنهن سبقي العاذلاتِ بِشَربَةٍ
كُمَيْتٍ متى ماتُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وكرّي إذا نادى المضاف مُحَنَّبَاً
كِسيدِ الغَضا نَبَّهتْهُ المَتَورِدِ
وتقصيرُ يومِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ
ببهكنة تحتَ الطِّرافِ الممددِ(2)
__________
(1) الأعشى: ق14/115.
(2) ديوانه: 28-29.(1/152)
يغور الشاعر عميقاً في نسيج أبياته من خلال الزمن الذي يجري، وقد استقى منه تجربته هذه عبر ثنائية التضاد (الوجود- الفناء)، حيث ينقلب الإنسان إلى الحسيّة لأنه يدرك عدم السيطرة على الزمن، بل استحالة الإمساك به، فهو منفلت دائماً، ويؤول المصير إلى الفناء لا محالة، ومن هنا تكمن عبثية التقيد به من وجهة نظر الشاعر، ولذا نجده يصل إلى قمة التوتر في استكناه تفاصيل حسية تثري الاحتدام النفسي في أعماقه، وتستجيب لزخم انفعالاته الحادة في اتجاه معاكس للفناء.
ومن هنا فإن نظرة طرفة للوجود نظرة مقبلة على الحياة للتمتع بلذاذاتها طالما ليس باستطاعة أحد دفع منيّته، ولذلك انطلق في لوحته قائلاً:
فإن كنت لاتستطيع دفع منيتي
فذرني أبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي
تضمن هذا البيت (أصواتاً) داخلية وخارجية في أعماقه، خرجت إلى لفظة (ذرني) أدركتها حاسة السمع، وانتقلت بها إلى حاسة اللمس (بما ملكت يدي) التي أفضتْ إلى صورتين، السمعية (العاذلات)، والذوقية (بشربة) أراد بها الخمر، وهي حمراء تميل إلى الكلفة (بصرية) تزاد بالماء، فيعلو الحباب (لمسية)، وتلك الصور الحسية اجتمعت في بيت شعري واحد، وهي تفاصيل استدعاها الخمر ومايتصل به من تقاليد شائعة، ومما ملكت يده: (كَرُّه) إذا (صوّت) الذي التجأ إليه (نادى) بعد أنْ أحاط به الأعداء (صورة سمعية) مثل ذئب الغضا يطلب الورد (ذوقية).
وطالما لم يتمكن من الإمساك بالزمن، وتمتعه بما ذكر لنا، فهو يقصّر يوم الدجن، كما يوم الندى واللهو، فهو وليلته قصيران يقطعهما باللهو والسرور والحسناء في بيت من أدم.
فالزمن المنهزم هنا يتمثل بيوم الدجن، بنهاره وليله (صورة بصرية)، والسرور واللهو تشترك فيه الحواس المختلفة.(1/153)
وما موقف طرفة هنا إلاّ رد فعل لتجاوز الفناء، عبر لحظة مواجهة له، فانثالت تلك الصور المتعددة في انسياب وزخم انفعاليين يعكسان واقعه للتغلب على حالة الرعب التي سيطرت عليه، وبالرغم من بروز الصورة السمعية لطبيعة الموضوع ومايتطلبه الموقف البطولي الذي يفتخر به الشاعر، فإن لسلطان الحواس أثراً رئيساً في تشكيل الصورة العامة.
وإذا ما انتقلنا إلى موضوع آخر حيث حديث الذكريات توظيف امرئ القيس للحواس في صوره المتعددة في إطار من الحوار الذي ساد الأبيات، ليوضح لنا حالته مع فتاته ومعاناته في لقائها ومحادثتها، لنتبين بعد ذلك موقع الصورة الحسية المتعددة، قال امرؤ القيس:
سَمَوتُ إليها بعدَما نامَ أهْلُها
سُمُوَّ حَبابِ الماءِ حالاً على حالِ
فقالتْ سبَاكَ الله إنّكَ فاضحي
ألستَ ترى السُّمَارَ والناسَ أَحوالي
فقلتُ يَمينُ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً
ولو قَطَّعوا رأسي لديكِ وأوصالي
حَلَفْتُ لها باللهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ
لناموا فما أنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
فَلَمّا تنازعنا الحديثَ وأَسْمَحَتْ
هَصَرْتُ بغصنٍ ذي شَماريخَ ميَّالِ
وصرنا إلى الحُسنى وَرَقَّ كلامُنا
ورضتُ فَذَلَّتْ صعبةً أيَّ إذلالِ(1)
منذ البدء استخدم الشاعر الصورة اللمسية عند نهوضه من مكانه إليها في حذر، وشيئاً بعد شيء كي لايشعر به أحد، مثل حباب الماء الذي يعلو بعضه بعضاً في ملامسة رقيقة وعلى مهل، وبعد أن مسَّ أهلها النوم:
سموتُ إليها بعدما نامَ أهلُها
سموَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ(2)
بعد أنْ مّهدَ الشاعر للّقاء، بخطوته الأولى عبر الصورة اللمسية، استدعى الموقف الصورة السمعية (فقالت) مع الاستفهام (ألَسْتَ) المقترنة بالصورة البصرية:
فقالت: سباكَ الله إنّكَ فاضحي
الستَ تَرى السّمارَ والناسَ أَحوالِ(3)
__________
(1) ديوانه: ق2/20-25/31-32.
(2) امرؤ القيس: ق2/20-25/31-32.
(3) المصدر السابق: ق2/20-25-31-32.(1/154)
ويردفها الشاعر بصورة سمعية متكررة مثل: القول والقَسَم، ممتزجة بصور لمسية (أبرح قاعداً+ قطع الرأس. والأوصال):
فقلت يمينُ اللهِ أبرحُ قاعداً
ولو قطّعوا رأسي لديكِ وأوصالي(1)
وتكرر الصورة السمعية في القَسَم الكاذب بانقطاع حديث السّمار ولانار للاصطلاء، وقد ناموا، وموجها بالصورة اللمسية (نوم السمّار).
حَلَفْتُ لها باللهِ حَلْفَةَ فاجرٍ
لناموا فما أن من حديثٍ ولا صالِ(2)
ويستدعي الصورة السمعية في تنازعه الحديث معها، فلما انقادت وسهلت بعد الصعوبة والامتناع، استدعى الصورة اللمسية لضرورتها لتكملة المعنى عبر الصورة، حيث جذبها الشاعر إليه:
فلّما تنازعنا الحديثَ وأسمحتْ
هصرتُ بغصنٍ ذي شماريخَ مَيّال(3)
وينتهي بعد هذه المعاناة إلى استخدام صورتين، الأولى سمعية، والثانية لمسية:
وصرنا إلى الحسنى ورقَّ كلامُنا
ورضتُ فَذَلّتْ صعبةً أيَّ إذلالِ(4)
نجد الشاعر قد أبرزَ الصورة السمعية بالرغم من أنها جاءت متساوقة مع الصورة الحسية المتعددة، بيد أن طبيعة الموضوع اقتضت أن تبرز الصورة السمعية، إذ لولا استخدام الصوت والإقناع لما توصل إلى تشكيل الصور الحسية الأخر.
وفي إطار الموضوع نفسه نجد الأعشى في قصيدته يشبه ماعرضنا من أنموذج لامرئ القيس في هذا المجال وفي بعض التفصيلات، بيد أنَ المحصلة النهائية واحدة في النظرة إلى المرأة من حيث السيطرة والاستمتاع، بالرغم من أنَّ أمرأَ القيس. هو نفسه بذل محاولاته، حين قد أرسل الأعشى رسولاً صادقاً معتمداً.
علماً أن قصيدة الأعشى قد حوت صوراً سمعية أكثر من قصيدة امرئ القيس، وأكثر بروزاً بسبب ما يقتضيه الموضوع من حديث وحوار يبذله الرسول، وميل الشاعر إلى الصور الحسية وخاصة السمعية بسبب ضعف البصر، قال الأعشى:
__________
(1) 1-5) امرؤ القيس: ق2/20-25/31-32.
(2) امرؤ القيس: ق2/20-25/31-32.
(3) امرؤ القيس: ق2/20-25/31-32.
(4) امرؤ القيس: ق2/20-25/31-32.(1/155)
فبعثتُ جِنّياً لنا
يأتي بِرَجْعِ حديثِها
فمشى ولمْ يخشَ الأنيـ
س فزارَها وخَلا بِها
فَتَنازعَا سرَّ الحديـ
ـثِ فأنكرتْ فَنَزا بِها
عضبُ اللسان متقنٌ(1)
فَطِنٌ لما يُعنى بِها
صَنَعٌ بِلينِ حديثِها
فَدَنَتْ عرى أسبابِها(2)
وفي مجال الاعتذار قال النابغة الذبياني:
وَعيدُ أبي قابوسَ في غيرِ كُنْهِهِ
أتاني ودوني راكِسٌ فالضَّواجِعُ
فَبِتُّ كأنّي ساورتني ضَئيلةٌ
مِنَ الرُّقْشِ في أنيابِها السّمُّ ناقِعُ
يُسَهَّدُ منْ ليلِ التَّمامِ سليمُها
لحلْي النساءِ في يديهِ قعَاقِعُ
تَناذَرَها الرّاقونَ مِنْ سوءِ سَمْعِها
تُطَلِّقُهُ طوراً وطوراً تُراجِعُ(3)
اتخذ الشاعر من الوعيد مشروع قلق وخوف، حتى اتخذت الحواس مجالها ليوضح لنا مدى قدرته على إسباغ ما تؤدّيه من صور في تقريب صورة خوفه وقلقه من خلال الأداء الفني.
وفي استقراء دقيق لأبيات النابغة نجد تفصيلات الصورة الكلية لخوفه من طبيعة الطرح الواقعي وما تتطلبه من تأثيرات الحواس المتعددة لاستكمال تفصيلات الحالة القلقة الحرجة.
كأن الشاعر من جرّاء الوعيد قد وثبت عليه حيّة (لمسية) من الرقش لونها أسود وأبيض (حاسة البصر)، في أنيابها السم ثابت (ذوقية).
وينتقل الشاعر إلى البيت الآخر الذي هو نتيجة للبيت الأول، حيث ينقلنا إلى صورة لمسية (السهد) إذْ لم يلامس النومُ جَفنيه، فاللّديغ لا يمكن له أن ينام، وقد جرت العادة أنْ توضع في يديه أسْوِرَة، إذا ما حرّكها أحدثتْ حركة وصوتاً. (صورة سمعية) كي لا ينام ويدبّ السمّ فيه (لمسية).
يُسَهَّدُ منْ ليلِ التَّمامِ سَليمُها
لحلي النساءِ في يديه قَعاقِعُ(4)
__________
(1) اصاب: التفعلية زحاف (الخزل). وهو مركب من الإضمار والطي
(2) ديوانه: ق 39/253.
(3) النابغة الذبياني: ديوانه: 164.
(4) النابغة الذبياني: 164.(1/156)
ويعلم الجميع أنَّ تلك الحلي لا تفيد الملدوغ، وقد تعالت أصوات المعوذين (سمعية) وأقوالهم المتعددة بشفائه، وما يطلقون من كلام يشبه نفثات السِّحر، والحيّة طبعاً لا تسمع تلك الأقوال، والألم يترك اللديغ ثم يراجعه كأنهُ زوجٌ يُطَلّق زوجه ويراجعها:
تَناذَرها الراقونَ مِنْ سوءِ سَمْعها
تُطَلِّقُهُ طوراً وطوراً تُراجِعُ(1)
إنَّ الصورة السمعية وإنْ جاءت متداخلة مع الصور الحسية المختلفة، إلاّ أنها كانت بارزة لطبيعة الحالة التي تتطلب تشكيل الصورة السمعية، ولا نغفل الصور الحسية التي أدّت أساساً إلى تشكيل الصورة السمعية.
الصور التي تعرضنا لها هي حصيلة المدركات الحسية التي شاركت في إيضاح حالة النابغة التي أثَّر فيها وعيد أبي قابوس، ممّا كشف الشاعر عن حالته النفسية السيئة، بعد أن تلاشى حلمه، وكاد يطل على عالم الفناء من خلال سرده لحالة اللديغ.
وفي موضوعة الاعتذار نتناول أنموذجاً آخر للنابغة الذبياني لنتعرف على طبيعة وجود الصورة السمعية من الصور الحسية، قال النابغة:
أَتاني أَبَيْتُ اللَّعنَ أنكَ لمتني
وتلك التي أهتمُّ منها وأَنْصَبُ
فَبتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَ لي
هَراساً بهِ يُعلى فِراشي وَيُقْشَبُ
حلفتُ فلم أتركْ لنفسكَ ريبةً
وليسَ وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ
لَئِنْ كُنتَ قد بُلِّغْتَ عنّي خِيانَةً
لمبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وأَكْذَبُ(2)
__________
(1) النابغة الذبياني: 164. وورد (تناذرها الراقون من سوء سعها) ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2: 34.
(2) النابغة الذبياني: 54.(1/157)
نجد الصورة السمعية قد طغت على الصور الأخر مثل اللمسية والذوقية، والبصرية ضمناً، ويبدو السبب في ذلك فضلاً عن الغرض (الاعتذار) الذي يفترض أن يكون قائماً على السمع، أن تشكيل الصورة الأولى قاد إلى الصور السمعية المعتادة، وإنْ ضمّتْ في نسيجها صوراً متعددة غير سمعية، وأن الأبيات تنطق بذلك، ابتداء من (أبيت اللعن) التي تقال للملوك عند التحية والمكالمة، وهي (دعاء) تنفي أن يأتي الملك أمراً يذم على فعله، مما جعل الشاعر أن يكون مريضاً، (البيت الثاني)، انطلق في البيت الثالث بالقَسَم لتبرئة موقفه، وفي البيت الرابع يضع سبب اللوم على الواشي.
وتتعدد نصوص الاعتذار عند النابغة، ويختلف موقع الصورة السمعية بروزاً واضحاً، أو قليلاً، وعلاقتها بالصور الحسية المتعددة، فنجد الصور الحسية طغت وتكاد الصورة السمعية تختفي إلاّ من الخطاب الضمني المخفي(1)، في حين برزت الصورة السمعية إلى جانب الصور الحسية لأن الشاعر ابتدأ اعتذاره بالقَسَم، ومحاولة نفي التهمة عنه(2)، ونجد الصورة السمعية مترابطة في اعتذاره وجاءت بعد صورة بصرية، وإنْ كان حق الصورة البصرية أنْ تتأخر لأنها نتيجة لقول الوشاة(3)، ونجد ضمور الصورة السمعية ولا تخرج عن منافذ الأداء السمعي، في حين تبرز الصور الحسية في إطار من الفنية(4).
وإذا ما تأملنا نصوص عمرو بن قميئة وهو سابق للنابغة نجده قد اعتذر لعمه مرتد بن سعد حيث قال:
لعمرك مانفسٌ بجدٍّ رشيدةٌ
تؤامرني سرّاً لأصرم مرثدا
وإنْ ظهرت منه قوارصُ جَمَّةٌ
وأقرع في لومي مراراً وأصعدا
على غيرِ ذنبٍ أكونَ جنيتُهُ
سوى قولِ باغٍ كادَني فَتَجَهدا(5)
__________
(1) النابغة الذبياني: 67.
(2) المصدر السابق: 85-89.
(3) المصدر السابق: 116-117.
(4) المصدر السابق: 204-205.
(5) عمرو بن قميئة: ق1/29-30.(1/158)
إنَ الصورة السمعية على بساطتها قد برزت على غيرها من الصور الحسيّة البارزة والمخفية، البصرية، و(اللمسية) في ظاهرها (القوارص) التي تعني الكلام الجارح، وفي أنموذج آخر للشاعر نفسه يعتذر فيه للمنذر أمير الحيرة نجد الصورة السمعية قد طغت على الصور الحسية، البصرية واللمسية. لن صورة الانطلاق الأولى سمعية أدّت إلى أنْ تحتل الصورة السمعية موقعها البارز:
فأهلي فداؤك مستعتباً
عتبتَ فصدّقتَ فيَّ المقالا
أتاكَ عَدوٌّ فصدّقتَهُ
فهلا نظرتَ هُديتَ السؤالا
فما قلت: مانطقوا باطلاً
ولا كنت أرهبه أنْ يُقالا
فإنْ كان حَقّاً كما خبّروا
فلا وصلتْ لي يمينٌ شمالا(1)
ومما تقدم نجد أن ورود الصورة السمعية واتضاح مدى استخدامها بين الصور الأخر، وبروزها وعدم بروزها في نماذج الاعتذار إنّما يعود إلى نقطة انطلاق الشاعر، وزاوية النظر التي ابتدأ منها في إعلان القطيعة، متعرضاً إلى أسبابها فتتشكل الصورة الأولى، فهي التي تُحدّد الصور الحسية اللاحقة وكثرتها أو قلّتها وموقعها في اللوحة، ويضمنها الصورة السمعية، علماً أنَّ نماذج الاعتذار لا تخلو من الصور السمعية وإنْ كانت مترددة لا تتعدى ألفاظ الأداء السمعي.
وفي مجال الكرم والفروسية قال حاتم الطائي:
وإني لأُقري الضّيفَ قبلَ سُؤالهِ
وأطعَنُ قِدْماً والأَسِنّةُ تُرَعُفُ(2)
أتاح لنا حاتم الطائي في بيت واحد أن نطّلع على أثر الحواس في تشكيل الصورة، حيث يروم من خلالها أن يثبت كرمه وشجاعته.
فقرى الضيف (صورة ذوقية)، وقبل سؤاله (سمعية)، والطعن من شيمه لإثبات فروسيته (صورة لمسية)، حتى لنجد الأسنة تسيل منها الدماء (بصرية- لمسية).
__________
(1) المصدر السابق: ق15/71، على أن النابغة قد أخذ بيته من عمرو بن قميئة قال عمرو: ... فلا وصلتْ لي يمينٌ شمالا
0@فإن كان حقّاً كما خبروا
وقال النابغة: 205:
ولو كفّي اليمين بَغَتْكَ خوناً ... لأفردتُ اليمينَ عَنِ الشِّمالِ
(2) ديوانه: 37.(1/159)
فقد تضافرت الصور الأربع لتحقيق صفتين لا يتخلى عنهما (الكرم والفروسية) ولم يبتعد في تصوير ذلك عن بيئته، ولم ينس الأثر النفسي في استفزاز الحواس لرفد الصورة الكلية التي يتمتع بها الفرسان الأجواد.
وقد جاءت الصورة السمعية متداخلة مع بقية الصور، ومتساوقة معها لطبيعة الموضوع الذي فرض ذلك.
وفي المجال نفسه يصف زهير بن أبي سلمى ممدوحه هرم بن سنان بالكرم والجرأة في الحروب:
قَدْ جَعَلَ المُبتغونَ الخير في هَرمٍ
والسائلونَ إلى أبوابهِ طُرُقا
وليس مانع ذي قربى وذي نَسَبٍ
يوماً ولا مُعْدماً منْ خابطٍ وَرَقا
ليثٌ بَعَثَّرَ يَصطادُ الرجالَ إذا
ما كذّب الليثُ عَنْ أقرانِهِ صَدَقا(1)
ترابطت الصور الحسية مِنْ لمسية وذوقية وبصرية وسمعية، على أن الصورة السمعية قد أخذت موقعها بعد تلك الصور، تبعاً للسياق الشعري، ومايترتب عليه من فكرة وطبيعة الموضوع الذي ابتدأ به الشاعر المتعلق بالكرم أولاً.
وفي الكرم وحده قال زهير بن أبي سلمى:
تَراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلّلاً
كأنكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُه(2)
تشكلت في هذا البيت صورٌ بصرية ولمسية، وسمعية، وجاءت الصورة السمعية مترابطة مع بقية الصور لطبيعة الموضوع الذي يقتضي سياقه العام أنْ تتأخر الصور السمعية، وقد ابتدأ الشاعر التصوير بسرور الكريم بمن سأله كما يستبشر الإنسان بأن يوصل ويعطي.
وفي مجال الفروسية قال عامر بن الطفيل:
دعاني سُمَيْطٌ يومَ ذلك دعوةً
فَنَهْنَهْتُهُ عنه والأسنّةُ شُرَّعُ
ولولا دفاعي عن سُمَيْطٍ وكرّتي
لعالجَ قِدّاً قفله يتقعقعُ(3)
__________
(1) زهير بن أبي سلمى: ق4/76-77، معدما: مانعا، الخابط: طالب المعروف. عثّر: اسم موضع.
(2) زهير بن أبي سلمى: ق ق3/57.
(3) ديوانه: 82 نَهْنَهْتُ: كففتُ الأعداء عنه، القد: السوط. القفل: الجلد اليابس. يتقعقع: يصوّت عند التحريك.(1/160)
والدعوة من المستنجد فهبَ لنجدته، وقد ترتبت نتائج تلك الدعوة على شكل صورة سمعية.
وفي مجال الفروسية قال العباس بن مرداس:
وسرنا كموجِ البحرِ تطمو سيولُهُ
بِخَيلٍ تراها في العَجاجَةِ تمزعُ
فقامتْ بنو عوفٍ وقد حَمِيَ الوغى
ينادون عَمْراً والأسنةُ تنجعُ(1)
اعتمد الشاعر الحركة والتشبيه والفعل، فضلاً عن الأصوات المختلفة، أصوات الحرب، وأصوات المقاتلين، وكانت الأسنة تطعن ليسيل النجيع.
فالصور تعددت منْ بصرية ولمسية وسمعية، وقد ترابطت الصور، إلاّ أن الصورة السمعية كانت بارزة بسبب الموضوع الذي يتطلب أن تبرز الصورة السمعية إذ لابد أن تتعالى الأصوات في الحرب.
ومادمنا في موضوعة الشجاعة، فلنتأمل ماصوّره الشاعر عن حالة المقاتل الطعين، قال قيس بن الخطيم:
يهون عليَّ أنْ تَرُدَّ جِراحُهُ
عُيونَ الأواسي إذْ حَمِدْتُ بلاءَها
وكنتُ امرءاً لا أسمعُ الدهرَ سُبّةً
أُسَبُّ بها إلاّ كشفتُ غِطاءَها(2)
نجد في هذين البيتين مدركات الحواس قد أثّرت في إبراز الصورة الشعرية المنعكسة من الواقع، وتعامل الشاعر معها بطبيعة الإبداعية في إعادة تشكيلها شعرياً.
صور لنا شدة جروحه وفظاعتها باستعمال حاسة اللمس، حيث لايمكن النظر إليها، ولذلك صدّتْ تلك الجروح عيون النساء المداويات، لهولها (صورة بصرية)، وقد هوّن عليه ذلك حمده الأثر فيها، أي أنه حمد بلاءه في تلك الجروح (سمعية –بصرية- لمسية):
يهون عليَّ أنْ ترُدَّ جراحُهُ
عيونَ الأواسي إذْ حَمِدْتُ بلاءَها(3)
__________
(1) ديوانه: ق57/127. تمزع: تتقطع وتتطاير. النجيع: الدم الذي يضرب إلى السواد، هو دم الجوف خاصة.
(2) ديوانه: ق1/48-49.
(3) قيس بن الخطيم: ق1/48-49.(1/161)
ويعطف على ذلك بصورة سمعية (لا يسمع الدهر مثلبة وعارا) بصورة لمسية (إلا كشفت غطاءها). من فنيّة الصورة البصرية، والابتداء بها، إلاّ أن الصورة السمعية ظلت بارزة، لقدرة الشاعر الفنية، وطبيعة الصورة الشعرية، وطبيعة الموضوع.
ونسمع صورة العذل ونتعرف على موقعها من الصور الحسية المختلفة، قال تأبط شراً:
يامَنْ لِعذّالةٍ خَذّالةٍ أَشِبِ
حَرَّقَ باللوم جلدي أيَّ تَحراقِ(1)
يدل البيت على الشكوى بدلالة أصوات (العذّالة، واللّوام، والنداء، والاستفهام المتضمن إظهار التألم والتوجع، والعجز عن دفع العذّال، وأيّ التعجب لتشكيل الصورة السمعية.
كما يتضمن صفة الأشب المختلط الذي لايستقر على رأي، أي الحركة الدالة على عدم الثبات على قصد، فهو خذّال.
على أن الصورة اللمسية تمثلت في (حرّق جلدي) فجعل اللوم (صورة سمعية) بدلاً من النار، أي جعله يحرق بلسانه، فقد أسبغ الشاعر على الصورة جمالاً ولتكون أعمق وقعاً، وأكثر عمقاً، وأبلغ صياغة، فضلاً عن صيغة التضعيف التي تفيد التكثير والمبالغة.
إن الصورة اللمسية المتمثلة بالحرق من الداخل (القلب) وصولاً إلى الجلد قد عمّق الصورة السمعية وأوضحها في تحقيق التحسس بها حيث تؤثر على نبضات القلب وبالتالي لم يعد يسمع تلك النبضات، على أننا لانعدم وجود السمعية في (حرّق الجلد) أوحى بها الشاعر لأن الحرق باللسان الجارح أعظم من حرق الجلد الظاهري، وقد تميّزت الصور وبضمنها السمعية لطبيعة الموضوع، وإنْ بدا ظاهرياً أنها متداخلة مع الصورة اللمسية.
وفي مجال العذل واللوم قال أوس بن حجر:
هَبَّتْ تلومُ وليستْ ساعةَ اللاّحي
هلاّ انتظرتِ بهذا اللومِ إصباحي
إنْ أشرب الخمرَ أو أُرْزأ لها ثَمنَاً
فلا محالةَ يوماً أنّني صاحي
ولا محالةَ منْ قبرٍ بِمَحْنِيَةٍ
__________
(1) ديوانه: ق21/140.(1/162)
وكفنٍ(1) كسراةِ الثور وضّاحِ
دعِ العجوزين لا تسمعْ لِقيلِهما
واعمدْ إلى سيّدٍ في الحيِّ جَحجاح(2)
تشكلت أبيات أوس بن حجر من صور سمعية (تلوم –تسمع- قيلهما) لينقلنا إلى الجو الذي دارَ فيه الحوار مع لائمته، على أنه أشار إلى جانب آخر من الحوار مع والديه، والطلب بعدم سماع قيلهما.
وبالرغم من الصور السمعية التي ابتدأ بها أبياته، فقد أشرك التضاد (الليل والصباح) صورة بصرية، السواد المتمثل بالظلام، والصباح المتمثل بالنور والضياء (البياض) وكذلك بياض الكف كظهر الثور الأبيض، فقد كملت الصورتان إحداهما الأخرى، وهما نتيجة منطقية.
يتضح من الأبيات أن مبعث اللوم هو شربه الخمر، ولذلك فالصورة الذوقية قد ترتبتْ بعد السمعية والبصرية، وإنْ كان حكمها أنْ تتقدم على السمعية، ومن المسائل الحتمية لابد للإنسان منْ أن يرحل على الحياة، فالقبر والكفن إذاً يشكّلان صورة لمسية لأنهما من مستلزمات الرحيل عن الدنيا.
ومن هنا كان للحواس أثر في تكوين الصور المتعددة التي أنهاها بالصور اللمسية التي ختم بها حياة الإنسان.
ويبدو أن أمراً مهماً قد شغل الشاعر فأرّقه، حتى قرر أنْ يُسَرّي عن نفسه، ويقطع ذلك الأرق بشربه الخمر، حتى إذا مالاح نور الصباح، سعى إلى شخص كريم هو سيد القوم.
وقد أخفى ببراعةٍ الباعثَ الرئيس في همّه وأرقه عندما تعرّض لعذل زوجه ولومها له، منطلقاً في تسويغ الخمر، التمتع بالحياة طالما يؤول مصيره إلى الفناء.
وقد تجاوز لوم والديه العجوزين أيضاً، هذا هو الباعث الخارجي على القول، أمّا تجربته ومعاناته النفسية فقد تجلّت في الأرق وشرب الخمر والذهاب إلى كبير القوم.
__________
(1) لحقها زحاف مركب "الخبل" من الخبن والطي، ويدخل أربعة ابحر: البسيط والرجز والسريع والمنسرح.
(2) ديوانه: ق5/14.(1/163)
إن الصورة السمعية بالرغم من كثرة الصور الحسية المتعددة وتداخلها، كانت واضحة فقد ابتدأ بها لوحته واختتمها، وإن طبيعة الموضوع قد حددت الصورة وقادتْ إليها وشكّلت نسيجَ الأبيات صورٌ حسيّة احتلّت موقع الصدارة، لأن الأساس الذي انبثقت منه الصور هو الصورة الذوقية (شرب الخمر) الذي أدّى إلى الصورة السمعية (هبت تلوم)، بيد أن الشاعر جعل النتيجة أولاً والسبب ثانياً، بسبب نمط الموروث الفني الذي درج عليه الشعراء من الابتداء باللوم والعذل دون مقدمات.
((
المبحث الثالث
الصورة السمعية عبر الإيحاء
إنَّ الروح الإنسانية بطبيعتها الشفافة تستجيب إلى الشعر، وتهتزُّ له، منفعلة به، معنى وإيقاعاً، همساً، أو صوتاً عالياً على وفق مايتطلبه موقف الشاعر، وطبيعة المعنى، والعلاقة بين المعنى والوزن، فضلاً عما تثيره الألفاظ، من معان مباشرة أو إيحائية، تثير التفاعل مع الشعر، إذْ تتشكل الصورة أساساً من إقامة علاقة ترابطية بين الألفاظ الموحية بالصوت، أو القائمة من تشكيل مجموعة الأصوات في النسيج الشعري، أو اللفظة التي يحاكي إيقاعها معناها، أو اللفظة ذات الدلالة السمعية.
قد يكون ذلك في بيت شعري مفرد، أو مجموعة أبيات، حيث تتجاوز الصور لتكوّن إيحاءً معيّناً لإحداث الاستجابة لها، والانفعال بها.(1/164)
إن الأصوات النابعة من الشعر الجيد الجميل تؤثر فينا، ويتضح تأثيرها في المعنى الموحى به عبر الصوت المموسق، حيث يتكثف المعنى، فنجده عبر إيحاء الجرس الموسيقي للفظة، أو في معناها الواضح تارة، وفي معناها الخفي تارة ثانية، إذ إن لحاسة السمع قوة في التقاط الأصوات المتمثلة بالألفاظ عند نطقها لتكوين الصورة السمعية، فضلاً عن الحركة التي توحي بها الصورة، ونحس بها منتشرة في مفاصل الشعر بما توحيه الأصوات من معان تدل عليها، أو بما تشكله الأفعال والحركة التي لابد لها مِنْ أن توحي بإضافةٍ ما، يبرع فيها الشاعر، ويحرص على إيصالها عبر صورة صوتية تلتقطها أسماعنا.
وللألفاظ أهمية لايمكن الاستغناء عنها في دلالتنا إلى المعنى وتشكيل الصور المختلفة بما فيها السمعية، وبهذا الصدد قال ابن الأثير: "إنَّ الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص منَ البشر"(1).
والألفاظ الموحية تتحدد بموجبها العلاقات التي تقود إلى الصورة السمعية
لأن "الصوت في معظم الحالات هو مفتاح التأثيرات الأخرى في الشعر"(2).
ومن الإيحاء مايكون في لفظة واحدة مفردة أو لفظتين في أكثر من موضوع، مع اختلاف الصورة ودلالة الصوت فضلاً عن الموسيقى العامة الخارجية والداخلية.
يجتهد الشاعر في إظهار قدرته الإبداعية عبر نقله حالة قطاة تشكو العطش دون الإشارة إلى الشكوى، وتشرب مافضل من الإنسان، والمعروف عنها أنها أسرع الطيور وِرْداً للماء، فقد سرت لترد الماء، وجوانبها تصوّت ليبسها، إذْ أورد الشاعر لفظة (تتصلصل) وهي لفظة مضعفة مكررة، وبمجرد سماعها أوحى جرسها بمعناها، حيث تشكلت الصورة السمعية من الحركة والأحناء المصوّتة ليُبْسها، حيث قال الشاعر:
وتشربُ أسآرى القَطا الكدْرَ بعدما
سَرَتْ قَرَباً أحناؤُها تَتَصَلْصَلُ(3)
__________
(1) المثل السائر: 1/252.
(2) مبادئ النقد الأدبي: 192.
(3) الشنفرى: لامية العرب: 47.(1/165)
إن الألفاظ هنا نسجت هذا البيت الشعري الجميل، وهي التي أثارت المعنى المكثّف المنبئ عن العطش، وهو الشعر المطبوع على الإيحاء، يكمن في ذاته جمال الصورة، ولذا قيل: "من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيلَ بعد الطلب له... كان نيله أحلى وبالميزة أَوْلى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف"(1).
وقد تكمن قدرة النص على الإيحاء، واكتشاف الطاقة الشعرية عبر النسيج الشعري، وماتتيحه الألفاظ من تشكيل للصورة من خلال الحركة والفعل، أومن خلال الحركة والفعل والصوت.
حيث تمنحنا معطيات التجربة الشعرية في إطار التشكيل الحسي كدلالات للألفاظ توحي بالصورة السمعية المطلوبة.
وقد استخدم الأعشى (الصلصة) أي رنين الخلخال لحالةٍ ثانية:
وساقانِ مارَ اللّحمُ مَوْراً عليهما
إلى منتهى خَلْخالِها المُتَصَلْصِلِ(2)
حيث يقودُ الشاعر خياله إلى وصف (قتيلة) صاحبته، مستخدماً لفظتين هما: (الخلخال) الذي يُنبئ عن صوت إذا ماحُرّك بفعل، والمتصلصل الذي نسمع صوته ورنينه، فهو يريد أنْ يشعرنا بمشيها وحركتها ورقصها عبر صورة سمعية أوحى لنا بها عن طريق رنين الخلخال، ومن هنا نجد اختلاف الدلالة في الصورة السمعية بين استخدامي الشاعرين، فالدلالة الأولى كانت لصوت الأحناء اليابسة للدلالة على العطش، والثانية كانت للمشي والرقص للتحسس بالجَمال، وقد برع الشاعران في استخدام الدلالتين، ووفّقا في الإيحاء السمعي عبر الصورتين، وإن كان التعبير فيهما عن الصوت واضحاً.
وفي إطار استخدام اللفظة قال سلامة بن جندل:
وَمُهْتَزِعٍ حالاً ولؤمَ خَليفةٍ
صَقَعْتُ بِشَرٍّ والأكفُّ لواقِحُ(3)
أوحى لنا بالصورة من خلال لفظة (صَقَعْتُ) التي تعني الضرب على الشيء اليابس، وغير اليابس، وماينتج عن الضرب من صوت، والمهتزع المسرع إلى اللؤم والشر، وقد جابهه الشاعر بالبطش.
__________
(1) أسرار البلاغة: 126.
(2) الأعشى: ق77/351.
(3) ديوانه: ق5/199.(1/166)
وضمن الإيحاء الصوتي جريان الماء مع صوت:
أو جدولٌ في ظلالِ نخلٍ
للماءِ منْ تحتهِ قَسيبُ(1)
أوحى لنا الشاعر بصورة سمعية بدلالة إيقاع لفظة (قسيب) وجرسها الموسيقي، حيث عبّر عن جريان الماء مع صوت، إذْ أوضح لنا سقوط السعف أو اللّيف في الجدول، وعندما يجري الماء من تحته يحدث صوتاً هو القسيب.
في حين استخدم أبو ذؤيب الهذلي (العجيج) لصوتِ الماء الذي يسيل، أوحى به بعد أن شبّه السحاب بإبل مقرونة فانقطعتْ أقرانها فتبددت، فضربها مثلاً للسَّحاب فأراد به تفرقه:
لكلِ مسيلٍ منْ تهامةَ بعدما
تقطّع أقرانُ السَّحاب عجيجُ(2)
وقد تكون اللفظة موحية بالمعنى مثل (عوى الذئب)، أو (دعا)، أو لواه القوت، سواءٌ أكانت اللفظة ذات دلالة سمعية أم إيقاعية، حيث يحاكي صوتها معناها.
فدلالة عوى الذئب، أو دعا، أو لواه القوت، تدل على (الجوع)، إذ يتكشف معنى الجوع عند الشنفرى، حيث عوى ذئبه فأجابته ذئاب جائعة مثله، بيض ليس لها غير الجلد والعظم، مضطربة في مشيها، تتقلقل (تتحرك عظامها) فنسمع لها صوتاً مثل القداح التي تحرّكها كفّ المقامر:
فَلمّا لواهُ القوتُ منْ حيثُ أَمَّهُ
دعا فأجابه نظائرُ نُحَّلُ
مهلهلةٌ شيبُ الوجوه كأنّها
قِداحٌ بِكَفِّي ياسرٍ تتقلقلُ(3)
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق5/12، وينظر فقه اللغة: 321، قسيب: صوت الماء تحت ورق أو قماش.
(2) ديوان الهذليين: 1/55.
(3) لامية العرب: 42.(1/167)
نجد أن هذه الصورة قد قامت على الأفعال والحركة والصوت، مثل: لواه، أمَّه، دعا، أجابته، يتقلقل، فضلاً عن حرف القاف القوي الشديد، وقد أوحى الشاعر بالصورة السمعية في البيت الثاني بالصوت المنبثق من حركة كف المقامر لتحريك القداح، في حين كانت الصورة السمعية في عجز البيت الأول صريحة بألفاظها (دعا- فأجابته) وقد استطاع الشنفرى أن يوصل صوت بطنه الخاوية، وهو يَعْد ومُسْرِعا، كما أوحى لنا عن حالته النفسية المتأزمة، ومعاناته الشديدة حتى قرنها بالذئاب الجائعة، وأتاح لنا عبر التشبيه أيضاً تصوير نحولها بالقداح المتحركة، وما تصويره هنا إلا للتأثير في استمالة مشاعرنا نحو التعاطف مع الوحوش التي صوّرها.
وفي صورة مماثلة أوحت بالجوع قال تأبط شرا:
ووادٍ كجوفِ العيرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ
بهِ الذئبُ يعوي كالخليع المُعَيَّلِ
تَعَدّى بَزْيزازَةٍ تعجُّ مِنَ القوا
ومَنْ يكُ يبغي طُرْقَةَ اللّيلِ يُرْمِلِ
فقلتُ له لمّا عوى إِنّ ثابتاً
قليلُ الغنى إنْ كنتَ لمّا تَمَوَّلِ
كلانا إذا ما نالَ أفاتَهُ
ومَنْ يحترث حرثي وحرثَكَ يُهْزَلِ(1)
شكّل الشاعر الصور السمعية من عواء الذئب الذي يصيح في الصحراء مشبّهاً إيّاه بالمقامر كثير العيال، أو (المخلوع من القبيلة) مر على أرض غليظة تصوت ويتردد فيها الصوت لخلوها وقد قل زاده فحاوره الشاعر عندما عوى، وأخبره أن ثابتاً لا يغنيه ولا هو يغني ثابتاً، وكلاهما يطلب، ومن يطلب منا لا يدرك مراده.
__________
(1) ديوانه، ذو الفقار: ق 28/182-1983. الخليع: المقامر، المعيل: كثير العيال، بزيزازة: الغليظة من الأرض. تعج: تصوت. القوا: الخلاء القفر. يرمل: يقل زاده، حرثي وحرثك: أي من يطلب مني ومنك شيئاً لم يدرك مراده علماً أن البيت الثاني تعدى بزيزارة. هكذا وردت في الديوان، ولكن في إثبات التاء كسر في الوزن. ولا يستقيم الوزن إلاّ في حذفها وتصير التفعيلة (مفاعيل) بتحريك اللام.(1/168)
أن الصورة السمعية هنا أشد وضوحاً من الصورة عند الشنفرى، وإنْ كان الشنفرى أشد إيحاء وأعلى فنية، ولكنهما أوحيا لنا بالجوع.
وقد اشترك الشاعران في تكرار الحروف، وخاصة (القاف) بالدرجة الأولى منها، والعين والحاء عند تأبط شرا لإشاعة النغم العالي، ولكنّ الشنفرى استخدم تكرار الألفاظ في البيت الأخير لاحداث الجرس الموسيقي بدلا من الصورة السمعية الصريحة لانعدامها.
على أن الصورة لذئب المرقش الأكبر تختلف عن سابقتيها، فالذئب جائع وقد أكرمه الشاعر بقطعة من الشواء(1).
وتختلف الأساليب في الإيحاء، ففي المثالين السابقين لذئبي الشنفرى وتأبط شرا، ذكر الشاعران المعنى الموحى به (الجوع)، وقد عكس بعض الشعراء الأمر فذكروا لنا الجوع، وأوحوا لنا بصوته وحركته:
فإنْ خَفَّتْ لجوعِ البطن رجلي
فَدقّ اللهُ رِجلي بالمعاصي (2)
شمل الإيحاء في هذا البيت حركة الرجل، وأصوات تنقلّها المستمدة من جوع البطن التي تسمع أصواتها، فالحركة جاءت نتيجة لصوت الجوع، حتى نجده يتألم من وجع في رجله من كثرة المشي، وإن الأصوات المنبعثة هنا من النص توحي بها الأفعال والحركات، وقد تتضاعف تبعاً للألفاظ التي كثفت المعنى عبر إيقاعاتها الداخلية المشحونة بإيحاءاتها.
وقد ينبثق الصوت أحياناً من الفعل المعبر عن تصويت الجوع في البطن، كالفعل (يختفق) حيث يصف الشاعر جائعاً تحرّك أفعوان بطنه، قال الحطيئة:
شامَ ناراً باللّوى اقتدحَتْ
وشجاع البطن يَخْتَفِقُ(3)
أما فيما يتعلق بالصورة السمعية الإيحائية المعبّرة عن الحركة والصلابة، فقد أوحى بهما الشنفرى من خلال قوله:
إذا الأمعزُ الصوّان لاقى مناسمي
تطايَرَ منهُ قادِحٌ وَمْقَلَّلُ(4)
__________
(1) المرقش الأكبر: ق3/876-877.
(2) عبيد بن الأبرص: ق30/78 معصت رجله معاصا: أصابه التواء في عصب رجله، أو وجع من كثرة المشي.
(3) الأشباه والنظائر: 1/129، وينظر شعر قيس بن زهير: 7.
(4) لامية العرب: 42.(1/169)
فالحركة والصلابة هما سمتان رئيستان في هذا البيت أوحى بهما الشاعر لنسمع تلك الصورة، حيث استعار أخفاق البعير لنفسه للتعبير عن تدريبه المستمر في المشي على أحجار الصوان الملس دون أن تتأثر رجلاه، بل أن تلك الأحجار تتطاير من تحت قدميه متكسرة، ويخرج منها شرر وصوت لاصطدام بعضها ببعض بقوة، فأصوات الألفاظ، والإيقاع الداخلي، والقافية كلها شكلّت صورة سمعية أدّت المعنى المطلوب، وذلك ما يتوخاه الشاعر لتحقيق ذاته.
وفي إطار الصورة السمعية الموحية بالصوت جرّاء الصلابة والقوة، تتشكل لنا صورة ناقة قوية شديدة، وقد نعتها بالصخرة لصلابتها، ترجُمُ المرتفعات، فيتكسر من تحتها الحصى والأحجار، كسرةً كسرةً، أو فلقة فلقة:
عرمسٌ ترجُمُ الإكامَ بأَخفا
فٍ صلابٍ منها الحصى أَفلاقُ(1)
إنّ ما استخدمه الشاعر يوحي بالصلابة الذي يعني بالتالي إحداث صوت عندما تتكسر الأحجار والحصى بأخفافها.
وقد استخدم الشاعر (أخفاف) وقرنها بلفظة (صلاب) كي لا يتبادر إلى الأذهان معنى الرخاوة التي تتسم بها الأخفاف، لضعف حرف الفاء الذي دخل في تركيب اللفظة، ولرخاوة حرف (الخاء)، ولذلك قرنها بلفظة (صلاب) التي تحتاجها الأخفاف، ولكنّ الشاعر قد أفسد الإيحاء في جانب منه عندما ذكر (صلاب) ولكنه كان على وعي باستخدام اللفظة كي لا يؤاخذ على المعنى في (أخفاف).
على أن الصلابة دخلت (الصاد) لما لها من أثر يُرى ويُسمع ويُلمس، وكذلك استخدام الشاعر (افلاق) وهي الكسر الصغيرة، حيث تضمنت صفتين، الأولى رخوة، لما أصابها من تكسير بدلالة حرف الفاء في (افلاق)، وهي في الوقت نفسه قوية صلبة لوجود حرف (القاف) الذي يوحي بالصلابة، واستخدام لليابس. "حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"(2).
__________
(1) الأعشى: ق32/211
(2) الخصائص: 2/158.(1/170)
وفي انتقالة أخرى لصورة سمعية إيحائية في إطار الناقة، تتشكل لنا صورة لها تسمعنا قوّتها وشدّتها، خاصة عندما شبهها الشاعر بمطرقة الحدّادين الصلبة القوية الشديدة الوقع، وإذا ما ضرب بها الحداد نسمع لها صوتاً قوياً:
فسلّ الهمّ عنك بذاتِ لوثٍ
عُذافرةٍ كمطرقةِ القُيونِ(1)
يتضح ممّا تقدم مِنْ نماذج صلابة الناقة وقوتها أنها موروث فني لا بد منه للدلالة على قوة الناقة وتحملها في طريق الرحلة الطويل، الرحلة الحقيقية والموهوبة، بيد أن التباين يقع في التفاصيل الدقيقة التي تظهر براعة الشاعر في قدرته على التصوير المؤثر الموحي.
وقد تعددت صور الإيحاء عن الصلابة والصوت، ففي الصورة الأولى تتكسر الأحجار بمناسمه، والثانية بالإخفاق الصلاب، والثالثة شبهها كمطرقة القيون، مع استخدام قرائن الصلابة مثل (الحجر الصوّان، قادح، مفلل، الحصى، أفلاق، والمطرقة).
ومما يوحي بالصوت مشي الإبل مثل: الخبب(2)، والنجاء(3)، والإرقال(4) والمرود والتخويد والرسيم والوجيف(5).
في حين استخدم الشعراء (الشكوى) صريحة في وصف الناقة(6)، لأنها تتأوه تأوه الرجل الحزين(7)، حتى تسمع أنينها بكل سهب(8).
ومن الصور السمعية الإيحائية، فزع الثور، وحركته، وتوجعه، وما يصاحب ذاك من صوت، حيث قال الشاعر:
أخرجتهُ قَهباءُ مُسْبَلةُ الوَدْ
__________
(1) المثقب العبدي: ق( هـ) /34.
(2) بشر بن أبي خازم: ق1/6.
(3) المصدر نفسه: ق7/5/35. المتملس الضبعي: ق6/8/142، أوس بن حجر: ق1/7/2.
(4) عبيد بن الأبرص: ق40/7/102- علقمة الفحل: ق1/11/37، ق1/5/39.
(5) المثقب العبدي: ق(أ) /9/18، ق(ز) 8/49، ق(هـ) 21/34.
(6) الأعشى: ق1/33/7، ق5/27/47.
(7) المثقب العبدي: ق(هـ) /35/39.
(8) الشماخ: 1/6/68.(1/171)
قِ رَجوسٌ قُدّامُها فُرّاقُ(1)
وصف لنا الثور الذي أفزعته سحابة غزيرة المطر لشدة وقعها، وما تحدثه من صوت، والسماء تشتد رعودها، تلك الأصوات أفزعت الثور وأخرجته من مكانه مضطرباً متوجعاً مثل الناقة التي يشتد بها المخاض ثم تلقى ولدها من شدة الوجع بدلالة المعنى.
فالألفاظ المستخدمة أفعال لها دلالالتها الصوتية في الفزع، وما يحدثه الوجع من آلام، يصحبها الصوت.
إن ما اتّسق مْن أصوات كامنة في الألفاظ يوضح قدرة الشاعر على تشكيل الصورة الموحية بالصوت لنتمكن من إدراكها بالسمع، فيما يتعلق بالثور، أو الرعد، من خلال لفظة (رجست التي أوحت لنا بصوت الرعد، وصوت الوجع عند المخاض، إذْ أوحى الشاعر لنا بتلك الأصوات عبر ألفاظ موحية، يمكن عدها صوراً إيحائية مركبّة لتعددها.
وقال لبيد:
جُنوحَ الهالكيّ على يديهِ
مُكّباً يجتلي نُقَبَ النِّصالِ(2)
إنّ حركة انكباب الثور ورفعه رأسه وتحريكه، مثل جلوس الصيقل لجلي السيف بالمسَنّ، يجعلنا نسمع صوت الجلي عبر لفظتها، وقد أوحى بها الشاعر من دون أنْ يذكر الصوت صراحة فضلاً عن الحركة.
وفي صورة موحية بالسمع للأتان:
فشجّ بها الأماعز فهي تهوي
هُوِيَّ الدّلو أسلمها الرِّشاءُ(3)
إنّ تأمل الصورة التي رسمها لنا الشاعر، والإمعان في طبيعة توظيف الألفاظ الموحية بالصوت من خلال الأفعال (شجّ، تهوي، أسْلَمَها) نجد الشاعر يركب الأرض ويعلوها لوعورتها، وكثرة الحصى فيها، والأتان "الأماعز" تسرع محدثة صوتا في سيرها مثل الدلو الملأى التي ينقطع حبلها، وتسقط ثقيلة يسمع صوت سقوطها.
__________
(1) الأعشى: ق32/213. الأقهب: فيه حمرة فيها غبرة. الودق: المطر. رجست السماء: رعدت رعداً شديداً وأمطرت. الفرّاق: جمع فارق وهي الناقة يشتد بها المخاض.
(2) ديوانه: ق11/78. الهالكي: الصقيل. جنوح: إكبابه وميله وانحرافه على يديه.
(3) زهير بن أبي سلمى: ق11/130.(1/172)
إذْ أوحى الشاعر بالمعنى الخفي والصوت الكامن في ذلك الخفاء، لندركه بأنفسنا، ونستنتجه بإحساسنا، ونلتقط بآذاننا الصورة السمعية فيه.
وقد تباينت الصور السمعية الإيحائية من شاعر لآخر تبعاً للفكرة التي يعالجها الشاعر وإنْ كانت في إطار حيوان معيّن، ففي صورة الأعشى نجد ثور الوحش قد أهزله الجوع، وأفزعتُ السحابة الراعدة، ولم ينم ليلة كأنه كان متوجساً من الصائد ومطاردة كلابه له لاقتناصه وقد عضها الجوع، تلك المعاناة كلها والمخاوف جفّلته من الرعد، وقد خرج متوجعاً كتوجع الناقة عند المخاض.
وَصَوَّرَ لبيد مبيت الثور يدير قرنه حالاً بعد حال، واستعداده وحركته الدائمة لمواجهة هجوم الضواري له من الكلاب، تلك الحركات وما يصاحبها من صوت هي مثل جلد السيف، ولا بد للجلي منْ إحداث صوت.
ونجد في (الزئير) الصوت الصريح دلالة إيقاعية على الصورة السمعية، توّخي الشعراء من خلالها الإيحاء بالقوة الشديدة، وقد أوحى المهلهل بقوة الأعداء، وشدة بطشهم عبر (الزئير) وليس عدلاً من أخيه كليب أن يترك قومه لبطش الأعداء، قال المهلهل:
على أنْ ليسَ عدلاً مِنْ كُليبٍ
إذا ما الأسُد صالَتْ بالزَّئيرِ(1)
وقال المهلهل أيضاً مستخدماً الإيحاء نفسه، ولكن في معنى آخر، حيث أوحى لنا بأن بني الشقيقة هم الأبطال الأقوياء، وقد تآزروا ولجّوا في الزئير لتخويف الأعداء:
فدىً لِبنَى الشقيقةِ يومَ جاؤوا
كأُسْدِ الغابِ لجّتْ في الزئيرِ(2)
وقد أوحى لنا النابغة بالخوف هرباً من النعمام، ناعتاً إيّاه بالأسد، مسوّغاً الهرب بن لا يمكن للإنسان أن يقر في مكان يسمع به زئير الأسد، وإن الوعيد بقوته مثل الزئير:
أُنْبئِتُ أنّ أبا قابوس أوعدني
__________
(1) المهلهل: 261.
(2) المهلهل: 262، بشر بن أبي خازم: ق17/20/93، ق46/24/224 عروة بن الورد: 62 الأسود بن يعفر: 25/1/36، النابغة الذبياني: 87، زهير بن أبي سلمى: ق37/4/245، الخنساء: 71.(1/173)
ولا قرارَ على زَأْرٍ مِنَ الأسَدِ(1)
وفي مجال صوت القوس قال الشاعر:
هَتوفٌ مِنَ المُلْسِ المُتُون يَزينُها
رصائعُ قد نِيطتْ إليها ومِحْمَلُ
إذا زَلَّ عنها السّهمُ حنّتْ كأنها
مُرَزّأَةٌ عَجْلى تُرِنُّ وتُعْوِلُ(2)
يصف الشاعر القوس والسهم، فالقوس هتوف ذات صوت كأنه الهتاف إذا ما خرج عنها السهم صوتت مثل امرأة كثيرة (الرزايا، تصوّت)، وترفع صوتها بالبكاء، وقد جرى نعت رنّة الوتر أو صوت السهم بالحزن والثكل لأنها تشبه رمية القدَر التي لا تخطيء وهذا هو السرّ الكامن في حزنها، ولو كانت مصوّتة للفرح لأخذت موحيات الصورة السمعية بُعْداً آخر يحمل مستلزمات إيحائها.
وقد استخدم الشاعر الألفاظ التي تحاكي في إيقاعها معناها مثل (هتوف، حنّت، ترّن، وتُعول) ليرسُمَ لنا صورةً سمعية.
ومن خلال القوة التي تميز بها الشجاع واستخدام السلاح الذي يوحي بالفخر قال زهير بن أبي سلمى:
أليسَ بضرّابِ الكماةِ بسيفهِ
وفكّاكِ أغلال الأسيرِ الُمقَيّدِ(3)
إذا ما تجاوزنا المعنى الظاهري في الفخر فسنجد القوة في الألفاظ (ضرّاب، فكاك، مقيد)، وكذلك الكماة، والسيف، والأغلال.
بيد أن تلك الألفاظ لا بد لها من قوة يقوم بها الكَميُّ، ولا بد من أن الضرب بالسيف يحدث صوتاً، كما تحدث أغلال الأسير المقيّد، فضلاً عن فكّها وما يحدثه من صوت، جعلنا الشاعر نصغي إلى تلك الصورة السمعية بما أوحته لنا منْ أصوات، فالفارس يمارس فروسيته حين يفك أغلال الأسير، ويضرب بالسيف، وهذا ما يمنحه القوة، وقد أدّى الإيحاء الصوتي مهمته في إيصال الصورة السمعية.
وتتعدد وجوه الإيحاء فتشمل الفخر والوصف بعامة، والموضوعات القائمة بذاتها قد تستغرق عدة أبيات، أو لا تتعدى البيت الواحد.
__________
(1) النابغة الذبياني: 87.
(2) الشنفرى: لامية العرب: 33-34، المتون: الصلبة. رصائع: خرز. نيطت: عُلّقَتْ زل: خرج.
(3) ديوانه: ق18/187.(1/174)
ففي مجال الوصف وبخاصة وصف الفرس نقلنا امرؤ القيس خلال الإيحاء الصوتي إلى صورة سمعية، حينما وصف جواده عبر الحركة الشديدة بدقة، مثل سقوط الصخر الذي يقذفه السّيل منْ أعالي الجبال حتى لكأننا نسمع صوته:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مُدْبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السّيلُ مِنْ عَلِ(1)
وبالرغم من اعتماده التشبيه في جعل صلابة الفرس وصلابة حافره بالجلمود، فقد استطاع أن يوظف ذلك ببراعة، والكشف عن المدلولات النفسية باستدعاء الصلابة والحركة في توظيف غير مباشر، موحياً بالصورة السمعية من خلال استخدام المفردات القادرة على الوصول إلى تحقيق الهدف، فضلاً عن الكشف عن معطيات الظروف الاجتماعية والبيئية التي امدّت النص بملاحظات دقيقة عبر انتقالها، حيث سنحت الفرصة لاستخدامها بوعي لإحداث التأثير المطلوب، فالإيحاء السمعي، إيحاء مركّب هنا لأنه عبّر عن صوت حركة الجواد، وصوت تدحرج الصخر.
وفي وصف الحركة السريعة، وتشكيل الصورة ذات الإيحاء السمعي قال امرؤ القيس:
سَبوحاً جموحاً وإحضارُها
كمعمعةِ السَّعَفِ المُوقَدِ(2)
بالرغم من التنبيه الذي استخدمه الشاعر لحكة الفرس في عَدْوِها وسرعتها بمعمعة السعف المشتعل، فالشاعر أوحى لنا بصورة سمعية خفية امتدتْ من صوت سرعة الفَرَس في عدّوها، إلى صوت لهيب النار الذي شبّ بالضرام في السعف الموقد، حيث جمع صورتين سمعيتين إيحائيتين، على أن الدلالات الصوتية في الألفاظ المختلفة قد تباينت في رخاوتها وشدّتها، فالسين في (سبوح) و(السعف) قد عبّرت عن خفة (الفَرَس) التي تسبح لاختلاف السبح عن العَدْ وكحالةِ السعف لضعفه أمام النار التي تلتهمه.
غير أننا نجد القوة في صوت (جيم) جموح، وهي على وجه السرعة، أي الفَرَس تذهب على وجهها، وكذلك القوة صوتي (العين والميم) من (معمعة) فأوحى لنا الشاعر بالمعنى عبر صورة سمعية إيحائية.
__________
(1) امرؤ القيس: ق1/19.
(2) امرؤ القيس: ق31/187.(1/175)
ويجري تصوير الخيل المغبرة التي تَعدو خبباً، حيث قال الشاعر:
على شُعْثٍ تخبُّ على وجاها
كما خَبَّتْ مُجَوَّعَةً ضِرُاء(1)
التقط الشاعر الصورة السمعية من حالة قتالٍ لخيلٍ تجري بالرغم من تشكيها من وجع في باطن حوافرها، كما تعدو الكلابُ الضارية المُجَوّعة نحو الصيد، دون أن يذكر الشاعر التّشكي من الوجع صراحة، وإنما استخدم الفعل (تخبّ) وهو ضرب من العَدْو الذي يمثّل الحركة الشديدة، بالرغم من الوجى (الوجع) وكلاهما يوفران الصوت الذي هو أساس الصورة السمعية.
والحركة تتيح للفارس حرية التنقل، حيث استعمل عنترة العبسي الكرّ، والفرّ، والإقدام عبر عدة أفعال (يلحقوا، أكرر، يستلحموا، أشدد، يلفوا، أنزل) لتبيان شدة الموقف، وإبراز الملاءمة، حسبما يتطلبه الحال، في الوقت الذي تحتدم فيه المعركة لا يخلو من انبعاث أصوات فيها، سواء أكانت من الخيل، أم أصوات المقاتلين أم منْ صليل السيوف:
إنْ يلحقوا أكررْ وإنْ يستلحموا
أشدُدْ وإنْ يُلْفَوا بضنكٍ أنْزِلِ(2)
وقد صوّر الشعراء عبر الوصف صوراً سمعية إيحائية وصريحة مع التشبيه، حيث استخدم امرؤ القيس لفظة (ينتقدن) منْ تنقاد العملة وما تحدثه من صوت، بيد أنه آثر أن يجري من خلال وصفه لحالتين تشبيهاً بينهما، جرّاء الحالة النفسية التي أوحت لنا بالسرعة، ونفاد الصبر، وبغية تحقيق رغبة ما، استخدم الشعراء صوت الدراهم الزائفة من خلال لفظة (ينتقدن)، وسنوضح الصورة الإيحائية بعد سماعنا لقوله:
كأنَّ صَليلَ المروحينَ تُطيرُهُ
صليلُ زيوفٍ يُنْتَقدْنَ بِعبقرا(3)
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق1/6. ضراء: جمع ضرو وهو الضاري الذي اعتاد الصيد وضرى به.
(2) عنترة العبسي: ق6/248.
(3) امرؤ القيس: ق4/64. الصليل: الصوت. المرو: الحجارة. عبقر: موضع باليمن وكانت دراهمه زيوفا.(1/176)
فالشاعر صوّر لنا صوت الحجارة مثل صوت الدراهم المزيفة الرديئة لكثرة نحاسها فهي أشد صوتاً من الدراهم الصحيحة، وإيحاؤه بالسرعة جاء نتيجة قوة راحلته وسرعتها بحيث تتطاير الحجارة وتصوّت جراء وقوع بعضها على بعض مثل صوت الدراهم الزيوف التي ينتقدها الصيرف.
فالصورة السمعية التي أوحى لنا بها تدل على رغبته الملحّة السريعة في الوصول إلى من سيشاركه في قتال أعدائه (لترفهِ وفضلهِ) من خلال سرعة الناقة وقوتها.
وأوحى لنا الأعشى بصورة سمعية تنبيء عن حالته النفسية، وقد نفذ صبره، مستخدماً (التنقاد) للإيحاء السمعي:
دراهِمْنا كُلُّها جَيِّدٌ
فلا تَحْبسَنّا بِتَنْقادِها (1)
صور لنا (النقّاد) يسمع )(رنين) العملة الصادقة الصحيحة ليميزها من الرديئة المغشوشة، فضلاً عن أن لفظة (تنقاد) توحي بالقوة النابعة من صلابتها، ورنّة الصدق في العملة.
والنقاد عادة يحتاج إلى وقت وسماع، ولذلك نفذ صبر الشاعر، فالتجأ إلى طلب السرعة للإفادة من الوقت، فيصيح: دراهمنا كلّها جيّدة، ليست بحاجة لنقدها وتفحصها، فيجتمع صوتان، صوت الشاعر، وصوت الدراهم في مجال الصورة السمعية الإيحائية.
وفي موضوع الرثاء قال النابغة الذبياني مصوّراً ما أصاب الناس من هول بموت حصن بن حذيفة عبر صورة سمعية إيحائية مع تأثيراتها النفسية:
يقولونَ "حِصْنٌ" ثم تأبى نُفُوسّهم
وكيف بحصنٍ والجبالُ جُنوحُ
ولم تلفظِ الموتى القبوُر، ولم تَزَلْ
نجومُ السماءِ، والأديمُ صَحيحُ
فَعمّا قليلٍ ثم جاءَ نَعِيّهُ
فباتَ نَدُّي القوم وهو يَنوحُ(2)
إن الناس ينطقون باسم (حصن) بقصد نعيه، فلا يقدرون على إكمال كلامهم للعبرة التي تخنقهم، وتأبى نفوسهم وأفواههم إكماله.
__________
(1) الأعشى: ق8/71.
(2) النابغة الذبياني: 78، جُنوح مثل قعود، جنحت: إذا بركت الناقة تميل على أحد شقيها.(1/177)
ويضعنا أمام تساؤل مبالغ فيه، كيف يهلك حصن، ولا تندك الجبال بهلكه، ولا تنشق الأرض، ولا تزول نجوم السماء، ولا يتصدع أديم السماء فالحالة النفسية تتراءى من وراء هذه الصور الإيحائية الدالة على هول الموقف، دون تصريح، وفي هذا يكتسب الإيحاء قوة فنية تقرّبه من قوة الدلالة الموضوعية..."(1).
وللتعبير عن موقف، وحالة للكرم تتعلق بالشخص نفسه (حصن بن حذيفة الفزاري) الذي رثاه النابغة الذبياني، صوّر لنا زهير بن أبي سُلمى كرم الممدوح بصورٍ إيحائية منها الصورة السمعية:
بَكَرْتُ عليهِ غُدَوةً فوجدتُهُ
قعوداً لديهِ بالصّريمِ عواذِلُهْ
يُفَدِّينَهُ طوراً، وطوراً يَلُمْنَهُ
وأعيا فما يَدرينَ أينَ مَخاتِلُهْ
فَأَقْصَرْنَ منه عنْ كريمٍ مُرّزأً
عزومٍ على الأمرِ الذي هو فاعِلُهْ(2)
أوحى لنا الشاعر بكرم ممدوحه عن طريق قعود العواذل لديه، واللوم مستمر على مابدر منه في تبذير الأموال، حيث بَيْدَ أنْ بالملاينة والبحث عن سبل للخديعة عن طريق تفديته بالقول (نحن نفديك) حتى إذا مال إليهن بدأنّ بالعذل ليتقبل ذلك منهن، وبالرغم من ذلك، كله فهو لم يستجب لهن ولم يكف عن الكرم، وإنما كان عزوماً على فعل أمرٍ يروم تنفيذه.
وقد عبرّ الشاعر عن كرم الممدوح بفنّيةٍ عالية، وبإيحاء يمثّل براعة زهير وقدرته على الصياغة الشعرية الجيدة.
وفي موضوع النسيب والغزل، وعبر استذكار الماضي يسُمعنا الشاعر صورة إيحائية تمثّل الرقّة والمتعة والصوت الهادئ، وهي ذكريات يشعر بلذّتها، قال زهير بن أبي سلمى:
__________
(1) النقد الأدبي الحديث، غنيمي: 454.
(2) ديوانه: ق3/56- 578. الغدوة: البكور، وهو ما بين الفجر والشروق.
الصريم: جمع صريبة وهي رملة تنقطع من معظم الرمل. اقصرن: وليّنَ وكففنَ عن عذله: المرزا: المصاب بماله كثيراً.(1/178)
متصبي الحليم بالحديثَ يلَذُّهُ ... وأصواتِ حَلْيٍ أو تحرَكِ دُمْلُجِ (1)
إنها تستهوي وتشوق بحلو الحديث، حيث يتساوق تأثير الصوت بحلاوته وعذوبته مع أصوات الحلي إذا ما تحولت تحرّكُ المشاعر، فهي تُلْبَسُ للزينة وإسباغ الجمال، والكشف عن زينةٍ أخرى ومفاتن مختلفة، وإن لصوتها وقعاً في النفس بإيحاء صوتها لصور تثير المخيلة، على أن صوت الحَلْي لا يخدش السمع، شأنه شأن الحديث الحلو.
ويسمعنا الشماخ صورة إيحائية قبل الفراق:
وكادتْ غَداةَ البينِ ينطقُ طرفُها
بما تحت مكنونٍ مِن الصَّدْرِ مُشْرَجِ
وتشكو بعينٍ ما أَكَلّتْ رِكابَها
وقيل المنادي: أصبحَ القوم أدلجي(2)
بالرغم من اعتماد الشماخ (تراسل الحواس) فإنه اختار النطق للعين، لتكشف عمّا يطوي الصدر من أسرار، وأراد القول إنّ المرأة غداة الفراق تبكي، فَيُعْلَمُ ببكائها عما في ضميرها فقام النطق مقام البكاء.
وقد اختار لفظة (الشكوى) ذات الدلالة السمعية للعين (تراسل حواس) أيضاً، وقد طال السفر، وأتبعها بدلالة أخرى (أكلّ) ركابها، وصار النعاس يغالبها، فجعل الشماخ ذلك (شكوى) علماً أن المنادي يدعو للسير ليلا.
ومن خلال ما تقدم نجد أن الإيحاء الصوتي قد شكّل صوراً سمعية عبر النماذج التي مرت، وحللنا مضامينها، وأصواتها.
ويكمن في الإيحاء متعة وقدرة وبراعة وفن، ويجري الاهتمام (بما تحمله الكلمات من طاقة.. وقدرة على الإيحاء، وتتوقف هذه الإيحاءات على اختياره للكلمات)(3).
(((
الفصل الثالث
الصورة السمعية والنسيج الشعري موسيقياً وبيانياً
المبحث الأول ... : إنشاد الشعر
المبحث الثاني ... : موسيقى الشعر والصورة الشعرية
المبحث الثالث ... : البيان في الصورة السمعية
المبحث الأول
(
__________
(1) ديوانه: ق28/219. تصبي: تستهوي. الدملج: حلي يلبس في المعصم.
(2) ديوانه: ق: 2/77، الإدلاج: السّيُرفي الليل، أشرج صدره، على كذا: أي طوى.
(3) الفنون والإنسان، مقدمة موجزة لعلم الجمال: 68-69.(1/179)
إنشاد الشعر)
توطئة:
ثمة سؤال يطرح: إذا ما أردنا أن ننشد شعرا جاهلياً أو نقرأه بصوت مرتفع، فهل سنحسن ذلك مثل شاعره، ونؤّثر في مستمعينا؟
لا شك أن من الأفضل أن ينشد الشاعر شعره بنفسه لمعرفته بخلجات نفسه، وعاطفته، ومشاعره، وهو أعرف من غيره بانفعالاته، فيجسدها أفضل من غيره، تبعاً للمواقف المختلفة من فرح أو ألم، أو مدح، أو رثاء، أو هجاء، أو حماسة، أو غزل على أن "كل قراءة بصوت عال، أو إنشاد للشعر هو أداء للقصيدة، وليس القصيدة ذاتها، وهو يقف على صعيد واحد مع أداء العازف لقطعة موسيقية(1).
وهذا ما يوضح لنا الفارق الزمني، ولحظة إبداع القصيدة، إذ إن الإبداع وما يصاحبه من مخاض وتوترات حادة، وانفعالات مختلفة، وما يرافقها من ظروف متباينة يخضع للزمن، وليس لزمن إنشاد القصيدة، ومن هنا يمكن القول إن حالة التوتر تختلف اختلافاً بيناً بين لحظة الإبداع ولحظة الإنشاد، على أننا لا ننفي أن إعادة القراءة مرات قد يجعلنا نستشف أشياء جديدة بما يجعل المنشد يتوصل إلى قدر معين من إبراز معطيات القصيدة.
__________
(1) نظرية الأدب: 186.(1/180)
وحتى الإنشاد يخضع للزمن، فكل إنشاد جديد هو زمن جديد، قد يتحسن فيه الإنشاد، أو يسوء، وهذا الأمر يتوقف على المنشد ومدى استعداده،وموهبته، وقدرته على الكشف، أو أن لحظة الإنشاد تنسجم مع نفسيته وتوجه القصيدة ومعناها العام، أو لا تنسجم، فالقدرة على الإنشاد الجيد يتبع الحالة النفسية أيضاً، وللمهارة دور مهم في عملية الإنشاد(1)، لأن مما يزيد في حسن الشعر، حسن الإنشاد وحلاوة النغمة(2). على أن الجانب الصوتي من الشعر قد يكون عاملاً مهماً في النسيج العام، ويمكن لفت النظر إليه بوسائل عديدة، كالوزن، وأنماط الحروف الصوتية المتعاقبة، والجناس، والسجع، والقافية، والإيقاع، الخ(3) ولذلك فالتمتع بقراءة الشعر لا تتم إلا بقراءته بصوت مسموع، وإذا ما قريء صامتاً وأثار الإعجاب، نجد المتذوق يعيده بصوت مسموح استحساناً وإمعاناً في المعنى والصور.
ومهما يكن فإن إنشاد الشعر قد خفت وطأته منذ عصر التدوين، وإن القصائد بدأت تتنازل في كثير من جوانبها السمعية إلى الجانب البصري.
__________
(1) نظرية الأدب: 189.
(2) نقد النثر: 90.
(3) نظرية الأدب: 188.(1/181)
بيد أن الشعر بالرغم من ذلك كان يدرس ويقرأ لأنه محتاج إلى السماع(1) ولا يمكننا أن نغض الطرف عن العصور اللاحقة منذ العصر الإسلامي حتى عصرنا الحاضر، من أن الموضوعات وأشكال التعبير المتمثلة بالأجناس الأدبية، والدلالات السمعية والإيقاعية قد تعرضت للتغيير تبعاً للمؤثرات البيئية والاجتماعية والنفسية التي دخلت في نسيج الشعر، فالإسلام قد حظر على الشعراء أشياء كانت سائدة قبله، فضلاً عن العوامل الحضارية في العصور اللاحقة، ودخول المولد، والاختلاط بالأمم، وصولاً إلى عصرنا الذي انطلقت فيه الدعوات المختلفة إلى الشعر المهموس، والمكتوب، وما رافق ذلك من ظهور المطابع وانتشارها، وظهور المذاهب الأدبية المتعددة، وخاصة الرمزية التي ضاقت ذرعاً بالصوت الجهير ووقوفها عند حدود الصور المرئية (2)، وتصاعد الدعوات المختلفة إلى إلغاء نظام الشطرين والقافية وتعدى ذلك إلى إلغاء التفعيلة والوزن كلياً، وظهور قصيدة النثر(3)، إلى جانب الشعر الحر والمرسل والمطلق والحديث، ومن هنا لا ننكر أن البصر قد أخذ حيّزاً من السمع بيد أنه بقي محتفظاً بقيمته، ولم ينحسر شعر الشطرين، فهو ينشد في كل مكان، علماً أن أنماط الشعر الأخرى تقرأ بصوت مسموع، وقد التجأ الشعراء إلى التعويض عن الإيقاعات الخارجية بالداخلية.
وفي العصر الحديث يتوضح لنا أن الكتابة تدخل ضمن الأنظمة الإشارية، وإن كانت السمعية إشارية أيضاً، غير أن الكتابة التي تعتمد حاسة البصر مكانية، بأشكالها المختلفة وزخرفها الهندسي، وهكذا تفرض الكتابة على اللغة طابعاً خطياً مستقيماً، وسمة تتابعية، ووجوداً مادياً.. لا يملكه الكلام"(4).
__________
(1) ينظر الشعر والشعراء: لابن قتيبة: 1/88.
(2) ينظر النقد الأدبي الحديث: 418.
(3) ينظر قصيدة النثر حقيقتها، أبعادها، مذاهبها (بحث)
(4) البنيوية وعلم الإشارة: 125.(1/182)
على أن الصوتية تختص بالزمان والفضاء، لأن الموجات الصوتية تنتشر فيهما، ومهما يكن من أمر الكتابة وكونها بصرية مع اعتمادها الحواس الأخر، إلا أنها تبقى سمعية الطابع في تآلفها وترابطها في الحروف، والألفاظ، والجمل وإيحاءاتها..
وبعد هذه التوطئة الضرورية، والموقف العام من الإنشاد في العصر الجاهلي، لا بد لنا من أن نتناول الإنشاد وما يتعلق به تفصيلياً:
عرف الشعر الجاهلي بالإنشاد، أساسه الصوت يطلقه الشعراء، وتتلقفه الأسماع.
والإنشاد لغة(1): هو رفع الصوت. والنشيد: الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضاً.
وإنشاد الشعر فن وموهبة، حيث تكمن القدرة فيه على التلوين الصوتي، لإيصال المعنى، وإبراز الصور الجميلة بفعل عوامل أدائية كثيرة بمعرفة التنغيم، والضغط على الكلمات، أو طريقة العزل، والتنفس الصحيح غير المخل، فضلاً عن الصوت الجميل المؤثر الذي يسيطر على الأسماع، الخالي من عيوب النطق.
إن عيوب النطق تؤثر في الصوت وفي الأداء، وقد فطن لها علماؤنا، وأسهبوا في الحديث عنها(2).
والإنشاد قديم جداً كما تذكر المصادر، يعود إلى المواسم الاحتفالية، أو بيوت الآلهة(3) نظراً لأهمية تلك المناسبات التي كان الشعر فيها واحداً من التقاليد التي كانت تمارس في العهد الوثني حين ينشد للاله فيستجيب لهم بعد الإنشاد(4).
وقد أشار الأعشى إلى هذا المعنى قائلاً:
رَبّي كريمٌ لا يكدّرُ نِعمةً ... وإذا يُناشَدُ بالمهازقِ أَنْشَدا(5)
__________
(1) لسان العرب: مادة "نشد".
(2) الحيوان: 1/7، 12،15 البيان والتبين: 1/34-39، المخصص: 1/118-119-122.
(3) ينظر تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام: 39ط 1989م.
(4) ينظر أولية الشعر العربي (بحث): 10-11.
(5) ديوانه: 34/239.(1/183)
وكان الشاعر يقف فينشد قصيدته، ويتلقاها عنه الناس ويروونها(1) وقيل عن العرب: "وأما العرب فلم يكن في أمة من أمم الأرض شأن للإنشاد ارفع منه عندهم"(2).
ولا بد أن يستدعي الإنشاد طريقة خاصة، سواء أكاد ذلك يتعلق بالمنشد وطريقته وأسلوبه، أم في الشعر للتأثير بالسامعين، وبخاصة إذا ما عرفنا أن الظروف آنذاك مواتية للإنشاد، إذ لا توجد وسيلة غيرها.
وكثيراً ما ينشد القصيدة صاحبها، ويستحسن ذلك منه، لأنه أعرف من غيره بخلجات نفسه، ونبضات قلبه، وأدرى بما يعانيه، ويعلم بالمواطن التي يريد تأكيدها من إثارة حماسة، أو تعبير عن انفعال معين، أو إيراد حكمة أو الإفصاح عن لطيف معنى، أو تبيان موقف عاطفي وإنساني، إلى غير ذلك من موضوعات مختلفة، فضلاً عن الفهم العميق لتجربته التي تشربت بعواطفه المتقدة، وأحاسيسه الحية، وانفعالاته المحتدمة، ومشاعره المتأججة، فهو أقدر من غيره على إبراز ذلك كله عبر سلسلة من القواعد معروفة من جهر، وهمس، وتعجب، واستفهام، ونداء، وغيرها من قواعد تخص النسيج الشعري.
فالإنشاد، والسماع "أَبٌ للملكات اللسانية"(3)، حتى كان يوصف الإنشاد لجودته بالغناء، وتغريد الطيور، وقد قيل: "إنَّ الغناء ميزان الشعر"(4).
وقد عبّروا عن أهمية الإنشاد، وارتباط الشعر بالغناء "كانت العرب تغني "النَّصْب"، وتمد أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء، ولهذا قال حسان:
تغنّ في كلّ شعر أنت قائله ... إنّ الغناء لهذا الشعر مضمارُ(5)
والشعر توأم الغناء، ومن لوازمه حسن الإنشاد والذي يحلو بحلاوة الصوت اللين المطرب(6).
__________
(1) العصر الجاهلي: ضيف: 114.
(2) الياذة هوميروس: المقدمة: 38.
(3) مقدمة ابن خلدون: 454.
(4) الموشح: 39-40، ينظر العمدة: 2/313.
(5) الموشح: 39-40، ينظر العمدة: 2/313.
(6) الشعراء وإنشاد الشعر: 93.(1/184)
إن صلة الإنشاد بالشعر صلة وثيقة "كانت الموسيقى عند العرب معروفة باللفظ العام وهو الغناء ومعناه الأول الإنشاد" (1)، وكان الإنشاد والشعر متحدين، ثم ما لبث المنشد أن أصبح شخصاً آخر غير الشاعر وغير المغني(2).
ومما يروي أن السُّليك قد غنى بقوله:
يا صاحِبيّ ألا لاحيّ بالوادي ... سوى عبيد وام بينَ أعوادِ(3)
وقال المزرد بن ضرار:
فقد علموا في سالفِ الدهر أنني ... معنٌّ إذا جَدَّ الجراء ونابلُ
زعيمٌ لمن قاذفته بأوابدٍ ... يُغني بها الساري وتُحدى الرواحلُ(4)
ومما يذكر أن النساء كن يعجبن بصوت امرئ القيس، حيث قال:
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيطٌ إلى صوتِ أعيسا(5)
وقد اشتهر من الشعراء بإجادة "الإنشاد" الأعشى، الذي سُمّي بصناجة العرب بالرغم من التفسيرات المختلفة التي كانت وراء التسمية(6).
وللإنشاد تقاليد خاصة تميز الشعراء، زعم أبو عمرو بن العلاء إن الشعر لا ينشد في الجاهلية إلاّ على وضوء كالذي فعلوه مع قصيدة المتلمس الميمية(7) وما فعله الملك عمرو بن هند مع الحارث بن حلزة من تكريم ورفع الحجب بينهما لحسن ما سمع من شعره، ثم أدناه وقرّبه(8)، وإنشاد الأشعار عند الطواف بالكعبة (التلبية)(9).
__________
(1) الموسيقى العربية: 66-
(2) الشعر والإنشاد: 71.
(3) الشعر والإنشاد: 71.
(4) ديوانه: ق247
(5) ديوانه: ق13/106، وينظر: الفن ومذاهبه في الشعر العربي: 41 وما بعدها.
(6) ينظر الشعر والشعراء: 1/264، الأغاني: 9/109، (دار الكتب)، العمدة: 1/13، 2/181، الشعراء وإنشاد الشعر: 56، القيان والغناء: 23.
(7) الاصمعيات، الاصمعية: 92، ينظر كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان: 35- ينظر طبقات النحويين واللغويين: 39، وتاريخ الأدب العربي قبل الإسلام: 50.
(8) العمدة: 1/43- 44.
(9) رسالة الغفران: 279-282.(1/185)
ومن الشعراء من ينشد الشعر قاعدا، ومنهم من ينشده واقفاً، قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي: أنشد أبو السائب المخزومي قول الخنساء:
وإنَّ صخراً لمولانا وسيّدُنا ... وأن صخراً إذا نشتو لنَحّارُ
وإنَ صخراً لتأتمُ الهداةُ بهِ ... كأنه عَلم في رأسِهِ نارُ
فقال: الطلاق لي لازم، إنْ لم تكن قالت هذا وهي تتبختر في مشيها، وتنظر في عطفها(1)، أي أنه تخيل ذلك، علماً أننا لا نملك شواهد عن الطرائق التي كانوا ينشدون فيها أشعارهم.
وما ذكر من تبختر الخنساء في مشيتها، والنظر في عطفها إلا لتتجانس الحركة مع الصوت في أثناء الإنشاد.
وكان كعب بن زهير إذا أنشد شعراً قال لنفسه أحسنت وجاوزت والله الإحسان فيقال له: أتحلف على شعرك فيقول نعم لأني أبصرُ بهِ منكم(2).
كما أن من طقوس إنشاد الشعر، اللباس، والعناية به(3).
وللإنشاد أهمية جمالية، فإنه يرفع من قدر الشعر، أو يحط منه تبعاً لحسن الإنشاد أو سوئه.
والإنشاد يتطلب المجالس والأماكن العامة، حيث الأسماع، وقد قيل: "إن لا شيء. أسبق إلى الأسماع، وأوقع في القلوب، وأبقى على الليالي والأيام من مثلٍ سائر، وشعرٍ نادر"(4).
ولكثرة الاهتمام بتلك المجالس على المنشد أن يعرف "إنه ليس شي" يقوم مقامه في المجالس الحافلة، والمشاهد الجامعة، إذا قام به منشد على رؤوس الاشهاد.
ولا يهتز ملك، ولا رئيس لشيء من الكلام كما يهتز له، ويرتاح لاستماعه، وهذه فضيلة أخرى لا يلحقه فيها شيء من الكلام.. إن مجالس الظرفاء والأدباء لا تطيب ولا تؤنس إلاّ بإنشاد الأشعار ... "(5).
__________
(1) زهر الآداب: 2/927، ديوان الخنساء: 79-80 مع وجود تغيير في صدر البيت الثاني ( اغر ابلج تأتم الهداة به).
(2) المستطرف: 1/130.
(3) البيان والتبيين: 3/115 وينظر العمدة: 1/131.
(4) كتاب الصناعتين: 143-144.
(5) كتاب الصناعتين: 143-144(1/186)
ولذلك فإن أهمية الإنشاد تكمن في قدرة المنشد على إيصال المعنى، وإثارة العواطف، والتعاطف، والاستجابة عبر تكوين الصور.
وقيل "إن الشاعر إذا أنشد شعره، تظهر عليه الوجمه، وإذا أنشد لغيره لا يبالي ما حدث من استحسان أو استقباح" (1).
والمجالس متباينة، والمقاصد مختلفة، وأمور الحياة متعددة "وقد قيل لكل مقام مقال، وشعر الشاعر لنفسه وفي مراده، وأمور ذاته: من مزح وغزل ومكاتبة ومجون وخمرية، وما أشبه ذلك، وغير شعره في قصائد الحفل الذي يقوم به بين السماطين..(2).
ونظرة ابن رشيق هذه نظرة نقدية، تجعل الشاعر في موقف الناقد من شعره إذا ما أراد أن ينشد أشعاره في تلك المجالس لأهميتها وخطورتها، ولذلك "لا يقبل منه هذه إلاّ ما كان محكّكاً، معاوداً النظر فيه، جيداً، لاغث فيه ولا ساقط ولا كلف"(3)، في حين يترك الشاعر شعره لنفسه وفي مراده وأمور ذاته بما يتطلبه الموقف والمقام، والشعراء أقدر من غيرهم على معرفة أشعارهم "إنّما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله"(4) وقيل أيضاً يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه"(5).
ومن هنا إذن نجد الإنشاد يتخذ طرائق متعددة وكما قيل، لكل مقام مقال"، وبالرغم من أهمية الإنشاد وجماليته، وأثره النفسي والاجتماعي لم يصل إلينا ما يجعلنا أن نتبين كيف كان ينشد في العصر الجاهلي، غير أننا سنتناول الإنشاد وعلى وفق ما أوردته المظان من نتف نادرة، مع ما سمعناه وعرفناه وتعلمناه.
__________
(1) انباه الرواة: 1/366
(2) العمدة: 1/99، وينظر أيضاً المصدر نفسه 1/117.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) اعجاز القرآن: 121.
(5) العمدة: 2/104، وينظر كتاب: الشعراء ونقد الشعر، وكتاب: الكتاب والمصنفون ونقد الشعر، فيهما جهد قيم لمن يسترفد المزيد في هذا المجال.(1/187)
يختلف الشعر من شاعر لآخر، بما تتيحه خصائصه وقدرته الإبداعية، وحالته النفسية، وطبيعة توجهه في الحياة، وما يختاره من مواقف بإرادته الواعية، كما أن للموضوع صلة بما يختاره من ألفاظ في أوزان معينة، فهي في حقيقتها أصوات ذات إيقاع معين يتساوق مع انفعالات الشاعر، يجسدها شعراً يخترق الأسماع لتعيها القلوب، مكونه صوراً سمعية، تتفاوت في شدتها ورخاوتها، ولكنها في تواصلها تكوّن ذبذبات متصلة تلتقطها الأذن، ليحدث بعد ذلك الأثر المطلوب تجاوباً، أو نفرة، رقة وعذوبة، أو لماً، أو حماسة وتوثباً، تبعاً للإيقاع وتفاوته، قوة وشدة، أو رخاوة، لكونه يعبّر عن درجة الانفعال الداخلي لدى الشاعر، إذ من خلاله نجده ينتقل إلى قلب المتلقي عن طريق السماع، أو ينفر منه، وللشعر العربي إيقاع كلاسيكي تام وهو محكم الوزن دقيق التحديد والتعيين، وهذه حقيقة لا تحتمل الشك بيد أن المنشدين لا ييسرون لنا –في الغالب- طرق سماع ذلك الإيقاع وتذوقه"(1).
والموضوعات المختلفة التي يتناولها الشاعر لا بد أن يكون إنشادها متساوقاً معها، معبّراً عنها، فضلاً عن البحور التي تضمها، واللغة التي تنسجم معها، إذ لكل حالة لبوسها ليحسن التعبير عنها، فإن نسب ذل وخضع، وإن مدح أطرى وأسمع، وإن هجا أخلّ وأوجع، وإنْ فخر خبّ ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حنّ ورجع ... (2).
وإذا ما تتبعنا إنشاد الرثاء فإننا سنجد قصائده أجود الأشعار" وقد قيل لا عرابي ما بال المراثي أجودَ أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق"(3).
__________
(1) فن إنشاد الشعر العربي: 15.
(2) العمدة: 1/199.
(3) البيان والتبيين: 2/330.(1/188)
هذه المقولة تعبر عن الألم الممض الذي يعتمل بأعماق الإنسان، فيهز الصوت المؤثر المسامع، ويؤثر في النفوس، حتى لتتأثر الحواس الأخر لتشارك المنشد المتألم ألمه "والألم الذي يعبر عنه بالصوت يؤثر فينا على وجه العموم تأثيراً روحياً أبلغ من تأثير الألم الذي يعبر عنه بقسمات الوجه، وحتى بالحركات، والشعر نفسه ليس في حقيقة أمره إلاّ جملة من الكلمات المختارة يقصد بها الشاعر إلى أن يهز الأذّن هزاً أقوى"(1).
وشعر المراثي كثير ومتنوع، وأساليبه متنوعة في القصائد الطوال أو في المقطعات، ومن حيث مقدمات القصائد، والألفاظ والأوزان والانفعال الحاد، والانفعال الهادئ وقد تتمثل في القصائد أحزان الشاعر نفسه وآلامه، وموقفه من المرثي، وتصوير الظروف التي أدت إلى موته أو مقتله، أو استشهاده، وتبيان شجاعته وأخلاقه، وتعداد صفاته المحمودة، فضلاً عن
موضوعات يذكرها الشاعر عن الموت والفناء والخلود والبقاء، وقد
يخلص إلى تقرير حكمة حيوية.
ويثير الرثاء في السامعين الحماسة، إذا كان الشاعر يهدف إلى إثارة المشاعر، وتأليب القوم بإثارة الرغبة في أخذ الثأر(2).
وقد يصبح الموقف العام للشاعر ضعيفاً بفقدان المرثي كحال المهلهل(3)، والخنساء التي كانت كالرمح الصلب الذي انكسر بعد فقدان أخيها صخر وغيابه من حياتها(4).
على أن الشاعر في الرثاء استخدم صيغاً كثيرة منها: صيغة المبالغة، وتكرار الألفاظ والجمل، وتكرار الأشطر(5).
__________
(1) مسائل فلسفة الفن المعاصر: 79 وما بعدها.
(2) المهلهل (أخبار المراقسة) ق11/ 279، ق12/ 280.
(3) المهلهل (أخبار المراقسة) ق11/ 279، ق12/ 280.
(4) ديوانها أنيس الجلساء: راجع قصائدها.
(5) المهلهل (أخبار المراقسة) ق1/269، ق8/276، ق16/286 ق18/ 289، أوس بن حجر: 4/102.(1/189)
إن انفعالات الشاعر الحادة، والهادئة لها أثر نفسي في نظم الشعر وإنشاده، ولذلك نجد الأوزان الطويلة قد ضمّت الانفعالات الهادئة، في حين أن الانفعالات الحادة قد ضمتها الأوزان القصيرة(1) ولكل قاعدة استثناء.
وتدور قصائد الرثاء في مختلف القوافي المتحركة والساكنة والمضعفة، كما هي في سائر الموضوعات المختلفة.
على أن الشعراء قد ابتعدوا ما وسعهم الجهد عن القافية الساكنة، لأنها توحي بالجفاف والصمت والسكون، على أن القوافي المضعفة كانت قليلة أيضاً لما فيها من فخامة وقسوة(2).
وفيما يتعلق بإنشاد شعر المديح، فهو صوت الشاعر لتبيان المناقب المختلفة التي يتحلى بها العربي من عزة وإباء وشجاعة وحسن الجوار والكرم، سواء أكان المدح يتعلق بالملوك أم الأشخاص، أم القوم، وإنما امتدحوا لخصال حميدة فيهم، أو أفعال عظيمة، أو خدمات جليلة قدموها، فاستحقت إعجاب الشعراء، وانبروا لمدحهم، تعبيراً عن الروابط الإنسانية، والخلجات العاطفية، مرتبطة بالإعجاب والتقدير، مقترنة بالتأثيرات النفسية والاجتماعية.
ولا بد للشاعر من أن يكون معبراً عن تلك الحالات والروابط بشكل يعزز ثقة الناس بها، من خلال قدرة الشاعر وبراعته في إزجاء المديح للممدوح بما يستحقه ويعزز تلك الأفعال المجيدة والصفات الحميدة في النفس البشرية، وإعطائها أهمية للارتفاع بالقيم إلى مستوى أعلى، لتبقى تلك الفضائل سمة للشخصية العربية بعامة والقيادية بخاصة.
وقد أدرك الشاعر الجاهلي أن منازل الممدوحين تتفاوت بالرغم من أن صفاتهم قد تكون متقاربة، وتبعاً لذلك فقد كان الشاعر يستجيب للمواقف الكريمة، مشيدا بها، مدافعاً عنها، داعياً إلى الاقتداء بها، حريصاً على تأكيد القيم، واتخاذها سلوكاً دائماً.
__________
(1) امرؤ القيس ق21/134، السليك: ق20/63، لبيد: ق18/158 ق27/201.
(2) ينظر الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام: 248-249.(1/190)
بيد أن ما ذكرناه يبقى في مدار الشاعر وهيكله، مترسخاً في وعيه، متفاعلاً معه، متفننا بإيضاحه في صورة متعددة، تحكي عن شرف المواقف المجيدة، لتلقى آذاناً صاغية، بما يسر المتلقين، ويتجاوب مع اتفقوا على تفضيله، واجمعوا على تمجيده، وبما ينسجم وهيبة الممدوح، ويتساوق مع أصوات الذات والجماعة.
فينشد الشاعر شعره في مجلس الممدوح، أو بين الناس، أو في الأسواق المختلفة، لتتناقله القبائل، وترويه، فيشيع في كل مكان
وللشعر أهمية في المجالس المختلفة ولذلك قيل "إنه ليس شيء يقوم مقامه في المجالس الحافلة، والمشاهد"، إذا قام منشد على رؤوس الإشهاد،.. ولا يهتز ملك، ولا رئيس لشيء من الكلام، كما يهتز له، ويرتاح لاستماعه"(1).
ومن هنا فإن الشعر الذي ينشد بين السماطين يجب أن يكون محكّكاً، وأن يكون الشاعر قد عاود فيه النظر جيداً، لاغث فيه، ولا ساقط، ولا قلق(2).
ولذلك نجد بعض الشعراء من يحكك شعره وتمكث القصيدة عاماً كاملاً، وكانت تسمى تلك القصائد بالحوليات، والمنقحات، والمحكمات(3).
وقال الأصمعي عن الشعراء الذين ينقحون شعرهم "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر"(4).
وكثيراً ما كانت تعقد المجالس، ويحضرها خاصة القوم، ومجالس يحضرها عامتهم، فكانت "لا تطيب، ولا تؤنس إلا بإنشاد الأشعار"(5).
وقد مدح زهير بن أبي سلمى سنان بن أبي حارثة المرى وهرم بن سنان:
هنالك إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخْبلوا ... وإنْ يُسْأَلوا يُعطوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا
وفيهم مقاماتٌ، حسانٌ وجوهُهم ... وأنديةٌ، ينتابُها القولُ والفِعلُ
وإنْ جِئتَهمْ ألفيَت حولَ بيوتهم ... مجالسَ قد يُشفى بأحلامِها الجهلُ
وإنّ قام فيهم، حاملٌ قال قاعدٌ ... رَشَدْتَ فلا غُرْمٌ عليكَ ولا خَذْلُ
__________
(1) كتاب الصناعتين: 143.
(2) العمدة: 1/199.
(3) البيان والتبيين: 2/9.
(4) البيان والتبيين: 2/13.
(5) كتاب الصناعتين: 144.(1/191)
وهل يُنْبتُ الخطيَّ إلاّ وشيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلاّ في مَنابِتها النَّخْلُ(1)
استخدم الشاعر في النسيج الشعري الألفاظ السمعية (يسألوا، القول المجالس) وتكرار الحروف مثل: السين لتقوية النغم الموسيقي، والبحر الطويل الذي استوعب المديح بما ينسجم وجلال قدر الممدوحين.
على أن التعظيم والتبجيل، وعلى مكانة الرجلين قد ظهرت جلية في القصيدة مع القافية المضمومة التي دلت على التفخيم، وقد تجانست المضمومة معها.
إن من مدركات الحواس (السماع)، سيرورة الخبر وذيوعه، فيتحدث به الناس في كل مكان، وتحمل الركبان خبر الثناء:
أبا مِسْمَع سارَ الذي قد صنعتُمُ ... فأنْجَدَ أقوامٌ بذاكَ، وأعرقوا
وإنَ عتاقَ العيس سوف يزَورُكُمْ ... ثَناءٌ على أعجازِهِنّ مُعَلَّقُ
بهِ تُنقَضُ الأحلاسُ في كلِ منزلٍ ... وتُعقَدُ أنساعُ المطيّ وتُطْلَقُ(2)
فالشاعر وضعنا أمام صور سمعية مترابطة، ابتداء من إنشاده، حيث يعلو صوته لإثارة حاسة السمع، إلى رصد حالة ذيوع الخبر عبر تخيّله، حيث يتحدث به الناس في نجد والعراق، متدرجاً إلى التخيل الآخر الذي يكمن في صور لاحقة بيانية، حيث كرائم الإبل تتوجه إلى الممدوح، وعلى أعجازها قد علق الثناء.
على أن الأفعال المتعددة، والحركة المستمرة التي تخللت نسيج الأبيات قد منحتنا تفاصيل متلاحقة كونّت صورة سمعية بمختلف معطياتها، فوصف الشاعر الحركة والفعل والصوت مما يجعلنا نعد ذلك كله من مستلزمات الصورة السمعية.
__________
(1) ديوانه: ق2/42-44.
(2) الأعشى: ق33/223، الأحلاس جمع حلس: وهو ما يوضع تحت الرحل مباشرا لظهر المطية كي لا يؤذيها.(1/192)
ومن طبيعة العربي أن يتغنى بالشجاعة والبطولة والفروسية والكرم، ويفخر بخوضه غمار الحروب، ويعبّر عن واقعه أصدق تعبير، لأنه ليس شاهد عيان حسب، بل شارك في تلك الوقائع، وإن كانت تلك المفاخرات لا تخلو من المبالغات التي هي جزء من النفس الإنسانية في تعظيم الذات والجماعة، وهي جزء أيضاً لا ينفصل عن الشعر بحد ذاته، قال المهلهل:
فلولا الريح أسمعَ أهلَ حجرٍ ... صليلَ البيض تُقْرُع بالذّكورِ(1)
من المعروف أن حروبهم كانت بالجزيرة، وحجر: قصبة باليمامة، فلولا الريح لسمع أهل حجر الصليل، فالأصوات المستخدمة أشاعت نغماً نسمعه في الصورة التي شكلها المهلهل.
ولا بد عند إعلان مفاخرهم وبطولاتهم من ذكر آلات الحرب وأصواتها التي شكلت الصورة السمعية التي انبثق التشبيه منها لاستثارة الصوت والنغم:
ونسمُع للهندي في البيضِ رنة ... كرنّةِ أبكارٍ زُفِفْنَ عرائسا(2)
ومن ذكر عويل النساء الذي شكل صورة لمشهد أو مسمع مأساوي عبر الأصوات المختلفة من التسوية والعويل:
فما تركوا في عامرٍ مِنْ منوِّهٍ ... ولا نسوةٍ إلاّ لهنَ عَويلُ(3)
ويسمع عنترة شكوى الفرس(4)، وقال عامر بن الطفيل:
ونحن الأولى قدنا الجيادَ على الوَجا ... كما لَوّحَ القوّاس نَبْعاً وسأسَما(5)
إذا هيأ الشاعر السمع لاستقبال ما يثيره الوجع من شكوى وألم عبر الإيقاع الصوتي للألفاظ.
وقد تنوعت البحور التي ضمت الفخر والحماسة، ولم تقتصر على بحر دون آخر، وقد استخدم عمرو بن كلثوم، البحر الوافر، الذي يضج بالحركة والحماسة والجرس العالي الذي انبثق من عنف المناخ النفسي للشاعر.
فإنَ قناتنا يا عمرو أعيتْ ... على الأعدادِ قبلكَ أنْ تلينا
__________
(1) أخبار المراقسة: ق8/277.
(2) عمرو بن معد يكرب: ق45/114.
(3) سلامة بن جندل: ق4/194، عامر بن الطفيل: 95/100.
(4) ديوانه: ق1/75- 76/217-218.
(5) ديوانه: 117- سأسم: الأبنوس. الوجا: ان يتشكى الفرس حافره.(1/193)
إذا عَضّ الثقافُ بها اشمأزتْ ... وولته عَشَوْزنَةً زبونا
عَشَوزنةً إذا غُمِزَتْ أرنّتْ ... تَشجّ قفا المُثّقفِ والجبينا(1)
واستخدام الشاعر الألفاظ التي تدل على الصلابة، وأردفها بـ (لاتلين) ولفظة الثقاف: الخشبة التي تقوم بها الرماح، و(العشوزنة) الصلبة، إذا ما غمزت أرنت فصوتت، كما استخدم الأفعال التي تدل على القوة والصلابة، فضلاً عن استخدام حرف (القاف) الذي كرره عدة مرات المعبر عن التشنج، وكذلك حرف العين والضاد من أحرف الأطباق شديد مستعل يحتاج إلى جهد عضلي يتناسب والمعاني العنيفة، لتتجانس مع (عشوزنة) التي تمثلت فيها قوة الجرس، بالرغم من كونها ثقيلة، وقد اسبغ عليها حرف الزاي من (زبونا) ثقلاً آخر، فضلاً عن كون الزاي والشين من أصوات الصفير، وما تكرار الحروف إلا خدمة لتحقيق الانفعال المطلوب عن الأداء الموسيقي ويتساوق مع الفخر الذي شكل النغمة الأساس في قصيدة عمرو بن كلثوم مما نحسه ونسمعه من الإيقاع الحماسي المتدفق الذي استوعبه البحر الوافر.
ومما لا شك فيه أن الألفاظ التي يستخدمها الشاعر في الفخر
والحماسة وهو ينشد قصيدته لا بد لها من أن تفعل فعلها في السامعين
لتحقيق غاية الشاعر.
ومن القصائد التي ألقيت بين يدي الملك عمرو بن هند، قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري:
واتانا عن الأراقم أنبا ... ءٌ وخطْبٌ نعنى به ونساءُ
إنَ أخوانَنا الأراقم يغلو ... نَ علينا في قيلهم إحفاءُ
يخلطونَ البريءَ منّا بذي الذَّنْبِ ... ولا ينفعُ الخليَ الخَلاءُ
أجمعوا أمرَهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحتْ لهمْ ضَوضاءُ
مِنْ مُنادٍ ومِنْ مُجيبً ومنْ تَصهاِ ... ل خيلٍ خلالَ ذاكَ رُغاءُ
أيها الناطقُ المرقّشُ عنّا ... عند عمرو وهَلْ لذاكَ بقاءُ
لا تخلنا على غراتِكَ أنّا ... قبلِ ما- قد وشى بنا الأعداءُ
قبل ما اليوم بيّضتْ بعيونِ الناس ... فيها تَعَيُّطٌ وإباء(2)
__________
(1) جمهرة أشعار العرب: 354.
(2) ديوانه: ق1/10-11.(1/194)
هي قصيدة فخر وحماسة، امتازت بجودة نسيجها الفني، ومضامينها التي عبرت عن أيام ووقائع امتازت بالمآثر، وقد احتشدت فيها الصور السمعية المفردة والمركبة، وامتلأت بالأصوات، حيث تتابعت الصور السمعية عندما تعرض الشاعر للأراقم من إجماع أمرهم واتحاد كلمتهم، وعقد ما اتفقوا عليه ليلاً، ومن ثم تنفيذه صباحا عندما سمع صياحهم وجلبتهم، وقد علت أصوات الداعين والمجيبين واختلاطها بصهيل الخيل والإبل لتجمعهم في مكان واحد، وما تلك الضوضاء العالية إلا استعداد للحرب وما يتطلبه الموقف، ليبين لنا طبيعة أعدائه، وحبهم للعدوان، وقد استوعب البحر الخفيف عبر إيقاعاته الموقف الذي صوره الشاعر.
وقد تميز الإيقاع الداخلي الذي هيأته الأصوات المتتالية الحلقية (القاف)، والنون ذات الرنين والغنة، والهمزة، والهمزة الذي هو لا مجهور ولا مهموس، فضلاً عن أصوات الألفاظ ذات الدلالة السمعية وتداخلها أدى إلى أن يكون جرس الأبيات عاليا لإيصال الصورة السمعية، مع الانفعال النفسي
على أن الصورة السمعية التي تلت الصورة مباشرة هي صورة الناطق همسا في أذن صاحب الشأن (الملك عمرو بن هند) بقصد إثارته على (تغلب) حيث نجد أن صوت الشاعر قد خفت حدته، لأن الوشاية لدى الملك بحاجة إلى تزيين القول مع روية، والشاعر في معرض التعرض بالخصم لايضاح بطلان وشايتهم، فلا بد أيضاً من أن ينهج السبيل نفسه في الهدوء المطلوب، ولكي لا تستقر الوشاية في مسمع الملك وقلبه، يتساءل هل للوشاية أن تدوم؟ وهو يعني أنها لا تدوم لأن الباطل لا يبقى.
فكان الشاعر متمكنّاً من قصيدته وإنشادها، وقد برع في الدفاع عن قومه، حتى رفع الملك عنه الحجب وقربه، إعجاباً بما أنشد، بعدما كان ينشد من وراء سبعة حجب ثم يغسل أثره بالماء كما يفعل بسائر البرص.
إن حدة النغمة وهدوءها تنسجم مع طبيعة الصورة التي يشكّلها الشاعر، مع تأثير الانفعالات النفسية وطبيعة الموضوع.(1/195)
ومن أغراض الشعر، غرض آخر هو الهجاء، ينشده الشاعر للتعبير عن سخط وغضب لموقف معين، ينفث فيه سخطه على المهجو فرداً أم جماعة، بألفاظ جارحة وصور مؤذية.
وينشأ الهجاء بتأثير مواقف الحياة الكثيرة، ليس بفعل الحرب وحدها، فتنعكس تلك المواقف على الشاعر، لما له من خوف ورهبة، فيلجأ إليه منتقماً.
ويتداخل الفخر والحماسة والمديح بالهجاء، ومن شدة وقعه وأثره، فقد عد من عمل السحرة والشياطين، وقد تطرق إليه الشعراء أنفسهم(1).
ومما يدخل في الروع امعاناً في التأثير النفسي، وإيغالاً في صب اللعنات ان يرتدوا أزياء غريبة، ومما يروي بهذا الصدد دخول لبيد على النعمان وقد حلق رأسه وترك ذؤابتين، وقد دهن أحد شقي رأسه، ولبس حلة، وأرخى ازاره، وانتعل نعلاً واحدة، ثم صار يهجو خصمه، وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء(2)، وذلك مما يستدعيه الأثر النفسي في إنزال اللعنة على المهجو.
ومن خوف الهجاء كانوا يشدون لسان الشاعر بنسعة كما فعلوا بعبد يغوث بن صلاءة الحارثي(3)، حيث يمحق الهجاء الفضائل كلها، وكان سادة القوم يبكون خوف الهجاء، ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم من أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسب به الأحياء والأموات، إنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق(4).
ويتنوع الشعر المنشد ما بين الهجاء المقذع والسباب، والهجاء بأسلوب مغاير يتخذ من الاستهانة بالخصوم، أو الغض منهم بتجاهلهم، على أن من خصائص شعر الهجاء قصر قصائده، وأكثره مقطعات لأنه ملائم لسيرورته وذيوعه وانتشاره، ويتنوع الشعر بتنوع الهجاء المقذع، والهجاء الهادئ.
__________
(1) الأعشى: ق12/95-96، سويد بن أبي كاهل: ق10/34-35.
(2) امالي المرتضى: 1/134.
(3) المفضلية: 30
(4) ينظر البيان والتبيين: 4/41.(1/196)
أما فيما يخص الإيقاع فيكون قوياً شديداً في الهجاء المؤذي، وفيما يخص الصورة السمعية فإنها هي أيضاً تكون شديدة على السمع، تنفر منها الآذان، وربما ينشد الشاعر هجاءه بصوت جهير كي يبلّغ هجاءه لمن يقصد، يساعده في ذلك البحر الشعري.
ونجد زهير بن أبي سُلمى يهدد بهجاء الحارث بن ورقاء الصيداوي الذي أغار على قوم زهير، واستاق أبله وراعيها يساراً، عبر أداء صوتي رسم لنا صورة سمعية للتهديد:
تَعْلَمَنْ، ها –لَعمرُ اللهِ- ذا قَسَماً ... فاقدرْ بذرعكَ، وانظرْ أينَ تَنْسَلِكُ
ليأتيّنكَ منّي منطقٌ قَذَعٌ ... باقٍ، كما دَنَّسَ القُبطِيَّةَ الوَدَكُ(1)
قارتاع الحارث من قصيدة زهير ورّد عليه إبله ويساراً، وقد استخدم زهير الألفاظ السمعية بصيغة الأمر (تعلمن) أي أعلم، و(هاء) التنبيه، وصيغة القسم (لعمر الله) وأردفها بلفظة لتوكيد القسم، وفعل الأمر (قدّر) أين تضع خطوك واستخدم التوكيد في (ليأتينك) اقبح الشتم والهجاء (قذع) يجري على أفواه الرواة على مدى الدهر، ويدنس عرضه، ونجد أن البحر البسيط قد استوعب الحالة النفسية لزهير، واستوعب التهديد في إيقاع يتناوب بين السرعة والاعتدال مع ما فيه من جرس داخلي يتلاءم مع التهديد، ذلك كله شكل صورة سمعية.
وفي أسلوب آخر للهجاء، يتخذ الشارع من الاستهانة بالخصم وسيلة للتعبير عن الغرض بهدوء مقترن بالإيلام، حيث مثله زهير في هجاء آل حصن:
وما أدري –وسوف، إخالُ أدري: ... أقومُ آلُ حصن أمْ نِساءُ؟
فإنّ قالوا: النساء، مخبّآتٍ ... فحُقّ لكلِ مُحْصَنةٍ، هِداءُ
وإمّا أنْ يقولَ بنو مصادٍ: ... إليكمْ، إنّنا قومٌ بِراءُ
وإمّا أنْ يقولوا: قد وفينا ... بذّمتنا، فعادّتُنا الوفاءُ
وإما أنْ يقولوا: قد أبينا ... فَشَرُّ مواطنِ الحَسَبِ الإباءُ(2)
__________
(1) زهير بن أبي سلمى: ق5/88-89.
(2) ديوانه: ق11/136-138.(1/197)
على أن تكرار لفظة القول أدت إلى أن يكون الخطاب مباشراً مما يسوغ إمعان الشاعر في تشهير آل حصن والتعريض بهم حتى جاء آل حصن إليه بعد هذه القصيدة معتذرين، ويتضح من القصيدة أنه يهزأ بهم ويتوعدهم، مستخدماً صيغ السؤال للاستهزاء والسخرية المرّة، على أنه كرّر أشطراً فيها تكرير للفظة السمعية المباشرة (القول) وقد تضمنت التوعد والاستخفاف، وشكل التكرار صوراً من توتر الإيقاع وشدة وقعه من خلال ترجيع تلك الأصوات.
على أن "أسلوب الهجاء الوضوح والبساطة وقلة الصنعة والتكلف، لأن الهجاء وليد الفطنة وسرعة الخاطر واللمحة الدالة، وهذا يتجافى مع التقعير والتكلف وإطالة التفكير.." (1).
قال شمر بن عمرو الحنفي:
ولقد مررتُ على اللئيمِ يسبّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني(2)
تميز هذا البيت بالحركة (المرور)، والأفعال المختلفة، والألفاظ السمعية الواضحة مثل (يسبني، قلت، لا يعنيني) وقد كرر حرف التاء اللّين، وهو من أحرف الذلاقة واللّين، حيث يسهل على اللسان النطق به بما ينسجم، ووصف الشاعر نفسه بالحلم واحتمال أذى اللئيم في سماحة.
على أن تكرار الحروف أدى إلى تكرار الأصوات في القاف والنون مما أدى إلى أن تنطق الصورة، ويسمعها المتلقي لتتضح أمامه صورتان صورة اللئيم وصورة الكريم، الأولى تمثلت بالشتم، والثانية (قلت لا يعنيني).
__________
(1) الشعر الجاهلي، خصائصه وفنونه: 244.
(2) الاصمعيات، الاصمعية: 38.(1/198)
ومن الموضوعات المحببة للشاعر الغزل والنسيب، حيث يرق فيه الشعر ويعذب، لما يمتاز به من طلاوة(1)، ورونق(2)، وإنشاد عذب تنبثق منه أصوات متعددة من تجانس الألفاظ، وتوافق الحروف، والجرس الموسيقي مع كل حالة من حالات الشاعر مثل قول طرفة بن العبد:
وفي الحي احوى ينفض المرد شادن ... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد(3)
فالتجانس في الحاء (الحي- احوى) والاختلاف في الضاد والظاء والطاء (ينفض- مظاهر- سمطي)، والسين والشين (سمطي- شادن).
وقد ينطلق الشاعر في الغزل والنسيب على سجيته، معبرا عما في نفسه بعفوية مثل تغريد البلبل الذي يجد في نفسه حاجة للتغريد في أي وقت يشاء فيطلق صوته.
وقيل إن شعر الشاعر لنفسه وفي مراده وأمور ذاته من فرح وغزل يقبل منه في تلك الطرائق عفو كلامه، ودون تكلف(4).
على ألا يذهب بنا الظن أن الشاعر لا يجود قصيدته، بيد أن هذا الشعر لا يد أن يكون جميلاً عذباً لأنه يمس العواطف الإنسانية، يتهادى على لسان الشاعر لتسمعه المحبوبة، بما يرضيها وينسجم مع مواصفاتها، أو يعبر عن غرض الشاعر، وبالتالي يأخذ هذا الشعر طريقه إلى سمع الناس، وتتناقله شفاه الرواة على اتساع الصحراء وامتداد الأفق، وفي الأسواق، ومجالس القبائل.
__________
(1) الطلاوة: الحسن والبهجة، وحديث له طلاوة، وعلى كلامه طلاوة: اللسان طلي. ووصف القدامى الشعر الجيد بالرونق والطلاوة: كتاب الصناعتين: 63، وتكون بائتلاف الكلم من حروف صقيلة، وتشاكل يقع في التأليف: منهاج البلغاء: 225، وانظر معجم النقد العربي القديم 2/116-117.
(2) الرونق: ماء السيف وصفاؤه وحسنه، ورونق الشباب: أوله وماؤه. اللسان: رنق والرونق: الكلام إذا انقطعت أجزاؤه ولم تتصل فصوله ذهب رونقة وغاض ماؤه، إنما يردف الكلام إذا جرى جريان السيل وانصب انصباب القطر: كتاب الصناعتين: 49.
(3) ديوانه: 7، المرد: شجر الإراك.
(4) العمدة: 1/199.(1/199)
والصورة السمعية في الغزل والنسيب ليست قليلة مقارنة إلى الصورة البصرية التي يعتمدها هذا النوع من الشعر، طالما أن الشعر الجاهلي وبخاصة الغزل والنسيب يعتمد التشبيهات الحسية، وفي ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نرصد الكثير من الشعر العاطفي بهذا الاتجاه، واقترانه بالألفاظ السمعية، والأصوات المتعددة إلى جانب الوزن الشعري، والجرس الموسيقي، وتناغم الألفاظ، وتآلف الحروف، وتكرار المفردات والأصوات والجمل، سواءٌ أكان ذلك لتقوية النغم، أم تقوية المعنى عبر الصور السمعية المختلفة لأن تكرار الألفاظ من شأنها تقوية النغم وإكساب الإيقاع الداخلي قدرة التردد الصوتي الواضح في اكتساب صيغة الإنشاد القائمة على السماع، وإيصال الغرض المطلوب في أسماع المتلقين "ولا شك أن الطريقة التي كان يلقى بها الشعر كانت لها صلة قوية بهذا النوع من التكرار(1).
وإذا ما تأملنا نسيج الصور السمعية، عند إنشاد الشعر المرتبط بالعاطفة، نجد الشاعر يدرك أن إثارة العواطف أقدر من غيرها على تحقيق الغرض.
وبالرغم من أن شعر الغزل والنسيب عبّرت عنه الصور البصرية، بَيْدَ أنَ الرؤية لا تحجب وجه الحقيقة في كون استحضار الألفاظ السمعية لتشكيل الصور السمعية ضمن إطار القصيدة يعد استكمالاً للصور الأخر الشمية والذوقية وفي طليعتها البصرية.
وتتجلى العاطفة في شعر الغزل والنسيب حيث يشكو الشاعر "شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلب، ويصرف إليه الوجوه، وليسترعي به إصغاء الأسماع، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وألف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم.."(2).
__________
(1) الشعر والشعراء: 81.
(2) الشعر والشعراء: 81.(1/200)
هذا الرأي في إطاره العام ينسجم وتوجهنا في البحث عن شعر العاطفة الذي كان ينشد وقتئذ، بغض النظر عن التفسيرات والمدلولات المختلفة التي تحملها المرأة التي دخلت في نسيج الشعر عبر مدلولات نفسية وفنية وموضوعية، في اللوحات المتعددة، في الوقت الذي يمكن الإفادة من تلك المدلولات، فإن البحث ينطلق في حدوده بجد، محاولاً أن يبين ملامح الإنشاد العاطفي قدر الإمكان من خلال التصور، ومن خلال إقامة علاقات ترابطية بين الوزن والإيقاع وتآلف الأصوات، والتكرار النغمي، وتبيان قدرة الشاعر على استدعاء الأسماع للإصغاء، فالذي يستلذه السمع منها، ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح"(1) ومن هنا تكمن قيمة اللفظة وحسنها وجمالها، لأن "الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات، لأنها مركبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح(2) ومن هنا تكمن قيمة اللفظة وحسنها وجمالها، لأن "الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات، لأنها مركبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح"(3).
ولذلك نجد أن بكاء الشاعر على الأطلال، وذكر أهلها، إنما هو صادر عن عاطفة بالرغم من أن تلك اللوحات تحتمل ضروباً من التفسير، وما تنطوي عليه من احتمالات لرموز كثيرة تتباين فيها وجهات النظر(4).
__________
(1) المثل السائر: 1/91
(2) المصدر نفسه: 1/169
(3) المصدر نفسه: 1/169.
(4) ينظر دراسات في الأدب الجاهلي: 1/59-61، المرثاة الغزلية في الشعر العربي: 50، ينظر الغربة والحنين في الشعر العربي قبل الإسلام، فيه استعراض لآراء القداس والمحدثين.(1/201)
وما دام الشعر غناء، فلا بد للشاعر من أن يتغنى بعاطفته يشاركه الناس أحاسيسه وشوقه(1)، وحنينه(2)، ويستمعوا إلى شكواه وألمه(3) ويستميل الحبيبة إليه عن طريق إنشاده الشعر الذي يتغنى بجمالها ومحاسنها ومفاتنها، ولا بد أن يتحدث المحب إليها، ويسمعها شعره الذي يعبر عن حبه لها" وهذه العاطفة ناشئة من عدة انفعالات هي الحنو، والجنس، والاحترام، والعطف(4). قال المرقش الأصغر:
صحا قلبَهُ عنها على أنَ ذِكْرَةً ... إذا خَطَرتْ دارتْ به الأرضُ قائما
أَلا يا اسلمي ثم اعلمي أنَ حاجتي ... إليكِ، فردي منْ نوالكِ فاطما
أفاطم لو أنَ النساءَ ببلدةٍ ... وأنتِ باخرى لا تبّعتُكِ هائما(5)
إن ما يربط بين الصورة التي شكلّها المرقش الأصغر الانفعال النفسي الناشئ، من (صحا قلبه) عن حب فاطمة وذكراها التي تعاوده، وما يصيبه من دوران الأرض به يكشف عن تعلقه بها، وحاجته إليها، وتتبعه لها هائماً، فضلاً عن الأداء الصوتي في (ذكرة) التي تحمل طاقة تصويرية قادت إلى إيقاعات متتابعة في التنبيه، والعلم والنداء مما أدى إلى تشكيل الصورة السمعية والصورة الكلية.
ومن خلال تتبعنا لنصوص الغزل والنسيب نجد الشعراء يبدعون في هذا النوع من الشعر لأنه يمس العواطف التي تنسجم وعواطف الآخرين، لذلك فهو يسمع ويحفظ ويروى، ويلقى الحفاوة من لدن المستمعين على اختلاف منازلهم ومشاربهم.
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق25/ 1-4/118، ق28/1/137، أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/ 63-64.
(2) عبيد بن الأبرص: ق31/5/80، طرفة بن العبد: 45 حاتم الطائي (كرنكو): 34، عمرو بن كلثوم، جمطرة: أشعار العرب: ب27/343 المتلمس الضبعي: ق4/82-85. ابو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/63.
(3) طرفة بن العبد: 52
(4) العقل الباطن: 78.
(5) شعره: ق2/534-536.(1/202)
وقد أعجب الشعراء بالنساء وحديثهن، فلا غروان ينظم الشعر وينشده، ليعلن فيه عذوبة حديثهن(1) وبهذا الصدد قال قيس بن الخطيم:
ولا يغّث الحديث ما نَطَقَتْ ... وهو بفيها ذو لذّة طَرفُ
تخزنهُ وهو مشتهى حَسَنٌ ... وهو إذا ما تكلمتْ أُنُفُ(2)
وفي هذا المثال نجد الصورة قامت على الحديث والنطق والتكلم فضلاً عن تكرار الحروف التي شكلت الإيقاع الداخلي.
ويتحاور الشاعر معهن، وينقل لنا ما دار بينه وبينهن من حوار (3)، وتتعدد أغراض الشعر العاطفي، فمنه ما يعبر عن أمل بوصال الحبيبة، ومنه ما يكون تعبيراً عن حاجة حسية، مثلما يتغزل بعض الشعراء بالقينات والجواري بعامة، أو في مجالس الشراب والغناء(4).
((
المبحث الثاني
موسيقى الشعر والصورة السمعية
__________
(1) بشر بن أبي خازم: ق5/8/119، عروة بن الورد: 57.
(2) ديوانه: ق5/109، وينظر ديوان عدي بن زيد: ق72/2/138، سويد بن أبي كاهل: ق1/19/25، تميم بن مقبل: ق31/28/232.
(3) امرؤ القيس: ق1/11-15، ق2/32، ق3/42، علقمة الفحل: ق3/9- 10/83
(4) امرؤ القيس: ق14/110(1/203)
تمتاز اللغة العربية بالموسيقى، والإيقاع، والرنين، وتعبّر عما يجيش بصدر الإنسان، فضلاً عن الشاعر الذي يتأجج عاطفة ويضطرم مشاعر، وتحتدم في صدره أنفاس حرّى لمواقف شتى تتجاوب مع أصداء القلب عبر نبضاته، ومن هنا فإن الشعر تعبير عما يعتمل بأعماق الشاعر من فرح وألم، ويستطيع بلغته الحية المطواع أن ينقل لنا تجاربه الحيوية، وأفكاره وانفعالاته النفسية في إطارٍ من التوحد القومي، فتنشد قصائده وتروى في كل قبيلة، وفي كل مجلس، والعرب أمة شعر، والشعر ديوان العرب، هو سجل مفاخرهم ومآثرهم، تسجل فيه بطولاتهم وأحداثهم، وهو الأثير عندهم، فما بفضله قول، ولا شأو يصل إليه غيره، سواء أكان ذلك في شدتهم أم في رخائهم، وما أعذبه حين يجري على لسانهم، لا تعد له أهمية، فهو المقدم عندهم، قد كان حداء للإبل في أوليّته الموغلة في القدم، المتأبية على التحديد، حين كان على نحو من التطريب، والترنم، والتنغيم الفطري، إلى تطوره، ونضجه، وتكامله في العصر الجاهلي حين قُصّد القصيد، وطُوّل الشعر.
وقد اقترن الشعر العربي على امتداد تاريخه بالوزن، إذ إنه واحد من دعائمه الأساس، والوزن هو انتظام الألفاظ في إيقاع موسيقي خارجي، حيث يتميز الوزن الشعري عن غيره بأنه وزن عددي، بتعاقب الحركات والسكنات التي تشكل الأسباب والأوتاد والفواصل وتكرارها على نحو منتظم، بحيث يتساوى عدد حروف هذه المقاطع من أزمنة النطق بها في كل فاصلة من فواصل الإيقاع"(1).
ويذهب العقاد إلى أن اللغة العربية لغة شاعرة قد انتظمت مفرداتها وتراكيبها، ومخارج حروفها على الأوزان والحركات(2)، وهذا الانتظام بنية صوتية موسيقية لها دور عميق في تجسيد التجربة والدلالة.(3).
__________
(1) ينظر فن الشعر من كتاب الشفاء: 161، تلخيص الخطابة: 590-591، الموسيقى الكبير: 1058، نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين: 248.
(2) اللغة الشاعرة: 21
(3) في الشعرية، أبو ديب: 87-88.(1/204)
ومن هنا فإن التلاحم قوي بين الشعر الموزون والصوت، فالنسيج التركيبي الإيقاعي للوزن يتصل بالنسيج التركيبي للأصوات بدلالة الألفاظ، مفردة ومركبة، هذا التلاحم القوي المنتظم في إيقاع متناسق يشكّل البحر الشعري الذي له خصائصه الوزنية والنفسية، تتشكل داخله الأصوات اللغوية بتفرعاتها كلها (الصريحة منها والإيحائية، التآلف والتنافر)، فضلاً عن المعنى، ذلك كله يصل إلينا عبر الأذن، حيث تتكون الصورة السمعية بخاصة، والصورة المطلقة بعامة لاعتمادها النطق والسماع.
فظاهرة الوزن التي انتظمت اللغة داخلها على وقف سياق موسيقي، ممتزجة بالمعنى، ودلالاته الصوتية لا تخرج عن كونها نسيجاً تآلف مع وحدات كلامية راقية تسمو على النثر الاعتيادي، وتفوقه مكانةً وانفعالاً واستجابة، لما للنفس البشرية من ميل شديد إلى الشعر الفني لتوافر عناصر مختلفة فيه تستقطب الاهتمام من نفحة شعرية، وروعة فنية، فضلاً عن الموسيقى، والخيال، والعاطفة، والفكرة.
وللموسيقى أهمية كبيرة إذ إنها تؤثّر في تكوين الصورة السمعية التي ندركها من خلال النطق بها مُنَغّمة.
والذي يهمنا هنا هو الموسيقى فضلاً عن الوزن الذي هو جزء من الموسيقى، والذي يعرف به صحيح الشعر من مكسوره، بيد أن الموسيقى أشمل وأعم، وفيها من الخصائص الكثيرة ما تفضل به على الوزن وحده، ويندرج تحتها الكثير من المسميات الداخلة في النسيج الشعري.
على أن الوزن المعين له إيقاع معين، وهو التكرار الموسيقي الخارجي المتكون من تفعيلات الشعر المعروفة، غير أن هذا الإيقاع يمتاز بشدته وخفته، بسرعته وبطئه، تبعاً لطبيعة الوزن وما تنطوي عليه الألفاظ من معان، وما تضمه جوانح الشاعر من أحاسيس ومشاعر تتساوق مع الحركات والسكنات النابعة من التجربة الشعرية والتأثيرات النفسية.(1/205)
وإذا ما أصاب الشاعر في اختيار الإيقاع الحسن في شعره فهو "إيقاع يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه حسن تركيبه واعتدال أجزائه(1)، على أن الإيقاع يتعدى سمته الخارجي إلى إيقاع داخلي سنتناوله في موضعه من البحث.
والإيقاع أساس القول الشعري الجاهلي، لأنه قوة حيّة تربط بين الذات والآخر، من حيث إنه نبض الكائن، ومن حيث إنه يؤالف بين حركات النفس وحركات الجسم، وقد تميز الجاهليون العرب، في الإيقاع الشعري من غيرهم من الشعوب الأخر بشيء أساس هو القافية(2).
وإذا ما تتبعنا مفهوم الإيقاع عند ابن سينا فسنجده "هو تقدير ما الزمان النقرات فإن اتفق أن النقرات منغمة، كان الإيقاع لحنيا، وإذا اتفق إن كانت النقرات محدثة للحروف المنتظم منها كلام كان الإيقاع شعرياً، وهو بنفسه إيقاع مطلقاً"(3).
والإيقاع الشعري لا يحدث إلاّ من انسجام موزون متساو لأن "الشعر هو الكلام المُخيّل المؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة"(4).
والإيقاع هو الذي يبرز تأثير البنية الصوتية بوضعها في قوالب زمنية تمارس من خلالها الإيحاء(5) والإيقاع حركة متنامية يمتلكها التشكل الوزني(6).
وإن الإيقاع دقيق الصلة بالنغم، والبيت الصالح للإنشاد مؤلف من وحدات متوالية، وغالباً ما يتسع الإيقاع بحيث يضم الإيقاع والنغم كليهما(7).
__________
(1) عيار الشرع:15.
(2) الشعرية، أدونيس: 27
(3) جوامع علم الموسيقى ابن سينا: 81
(4) المنزع البديع: 407 وشرح الموزونة بقوله: إن يكون عددها إيقاعياً، ومعنى كونها متساوية، هو أن يكون قول منها مؤلفاً من أقوال إيقاعية، فإن عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر.
(5) نظرية البنائية في النقد الأدبي: 473
(6) في البنية الإيقاعية للشعر العربي: 231.
(7) نظرية الأدب: 212.(1/206)
ويعني النغم أو التنغيم حسن الصوت في القراءة أو الإنشاد، والتطريب في الغناء، ويقول الفارابي أعني بالنغم الأصوات المختلفة في الحدة والثقل التي يتخيل كأنها ممتدة(1)، على أن مفهوم الإيقاع قد اتسع، فإنه يمكن أن يأتي من نبرات الجُمَل فضلاً عن الإيقاع الهارموني (الجناسات)(2)، حيث يتخذ الإيقاع مساراً آخر حين يتغلغل بعيداً وراء مستويات الفكر.. حين يدل على كيفية توحيد الشاعر بين الماضي والحاضر.. ولا بد للإيقاع من أن يجسد إحساساً حادّاً لشيئين هما موسيقى الألفاظ ومضموناتها المتنوعة الغنية(3).
الجرس الموسيقي:
وإذا ما انتقلنا إلى جانب آخر من الموسيقى الشعرية الذي نعني به (الجرس الموسيقي) فهو الكلام، وجرست وتجرست: أي تكلمت بشيء وتنغمت(4).
والجرس: الصوت، وقيل: الصوت الخفي، وقيل: الحركة، وتنصرف اللفظة إلى نغم الكلام، ويقال: أجرس: علا صوته(5).
على أن الجرس يعد من الموسيقى الداخلية للألفاظ لأن "الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، كالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبح"(6). وإن حد الكلمة "جرس صوتي مقطع بانتظام"(7).
وقد أطلق رتشاردز على الجرس (الصورة السمعية) فقال "يندر أن تحدث الاحساسات المرئية للكلمات بمفردها، إذ تصحبها أشياء ذات علاقة وثيقة بها، بحيث لا يمكن فصلها عنها بسهولة، وأهم هذه الأشياء (الصورة السمعية) أي وقع جرس الكلمة على الأذن الباطنية، أو أذن العقل"(8).
__________
(1) الموسيقى الكبيرة: 86.
(2) نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين 55-56
(3) ينظر: ت. س اليوت الناقد والشاعر: 174-175.
(4) لسان العرب، مادة (جرس)، وينظر د. روس في البلاغة العربية وتطورها، وينظر جرس الألفاظ ودلالتها: 11، واللفظ وعلاقته بالجرس الموسيقي (بحث)
(5) لسان العرب: مادة (جرس).
(6) المثل السائر: 1/91-169.
(7) فن القول: 152.
(8) مبادئ النقد الأدبي: 171.(1/207)
إن من أهم الوسائل التي يستعملها الشعراء القدامى في الإبانة عن فكرهم وانفعالاتهم، كانت ألفاظهم تحكي بجرسها الصوتي الطبيعي، أو العمل أو الحركة أو الانفعال الذي ينقلونه(1)، ولذا فإن جرس الألفاظ هو الموسيقى اللفظية.
القافية:
إن من يتتبع القافية بالدرس والتمحيص سيجدها سمعية موسيقية، إذا لا توضع اعتباطاً وكيف ما اتفق، بل تكون ملتحمة بالبيت بشكل جوهري، مكملة له، تسبغ عليه موسيقى خارجية وداخلية، وتكون ذات سياق محكم باتقان، تتساوق فيه ضمن الحروف والحركات، وإن كانت تشكل بحد ذاتها مقطعاً صوتياً إيقاعياً منسجماً متماثلاً منتظماً في مجالي الموسيقى والزمن، فضلاً عن تأثير الطابع النفسي لها.
والقافية هذه الموسيقى التي تتردد في كل بيت بانسجامها وإيقاعها تفضل البيت كله بجودتها "وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة، أرفع من حظ سائر البيت"(2).
وبتتابعها تكون موسيقى، وسميت قافية لكوناه تقع في آخر البيت، وهي مأخوذة من قولك: قفوت فلانا إذا تبعته، وقفا الرجل إثر الرجل إذا قصة، وقافية الرأس مؤخرة(3).
وما القافية عند العرب إلاّ تكرير لأصوات لغوية بعينها، وتكريرها هو السبب في إحداث النغم في الأبيات(4).
وقد عرف العرب القافية، واستخدموها في شعرهم، وتعد من أهم عناصر الشعر الرئيسة(5).
وانصرفت عناية الشعراء إلى القافية بشكل لافت للنظر، فكانوا يقدّمون الشاعر الذي يحسن الإتيان بها(6).
__________
(1) الشعر الجاهلي، النويهي: 1/69.
(2) البيان والتبيين: 1/112.
(3) القوافي لأبي يعلى: 59- ينظر: اللغة الشاعرة: 20.
(4) القافية والأصوات اللغوية: 9.
(5) ينظر: نقد الشعر: 17.
(6) ينظر: فحولة الشعراء: 12(1/208)
وينقل لنا الجاحظ عن صحيفة بشر بن المعتمر كيف يختار القافية المناسبة والأوقات المناسبة لها(1)، وإن انصراف العناية بالشعر إنّما هو بالقوافي(2)، وتأكيد ضرورة اختيار أعذب القوافي وأشكلها للمعنى الذي يراد بناء الشعر عليه(3)، وملاءمتها للسمع(4)، وإن القافية إذا أسقطت قفز من الكلمات قسط كبير من الموسيقى الأثرية(5).
ومهما يكن فالقافية ظاهرة بالغة التعقيد، فلها وظيفتها الحاصلة في التطريب كإعادة أو ما يشبه الإعادة للأصوات(6).
وتعد القافية "صورة تضاف إلى غيرها، وهي كغيرها من الصور لا تظهر وظيفتها الحقيقية إلاّ في علاقتها بالمعنى،.. والقافية تكرار موسيقي"(7).
والقوافي على أنواع منها ما يكثر دورانها في الشعر، ومنها ما يقل استعمالها ومنها ما تنفر منه الأذواق.
وتخضع القوافي وحسن اختيارها، نسيجاً ومعنى وموسيقى لقريحة الشاعر، وقدرته وبراعته، وذوقه، وملكته اللغوية.
ولا بد للقافية من أن تكون عذبة وحلوة في رنينها ونغمتها، وعلى الشاعر أن يتجنب حروف الروي الثقيلة البشعة مثل حروف (التاء، والخاء، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والغين، والذال، والواو، والزاي) لقلة استعمالها، وثقل موسيقاها وعدم الميل لها، وفقدانها للعذوبة والحلاوة، فضلاً عن كزازتها.
على أننا سنتناول نماذج شعرية بالتحليل لإيضاح الأثر الموسيقي فيها الخارجي والداخلي، وعلاقة أصوات الحروف في تشكيل الصورة السمعية.
قال المهلهل:
نُبئّتُ أنَّ النّارَ بعدَكَ أُوقِدتْ
واستَبّ بعدَكَ يا كُليبُ المُجْلِسُ
لو كنتَ شاهدهم بها لم ينبسوا ... وتكلمّوا في أمرِ كلِ عظيمةٍ
__________
(1) ينظر: البيان والتبيين: 2/127.
(2) ينظر الخصائص: 1/84
(3) ينظر: عيار الشعر: 170
(4) حديث الأربعاء: 1/138
(5) ينظر: ت.س اليوت الناقد والشاعر: 182
(6) نظرية الأدب: 208
(7) بنية اللغة الشعرية: 74(1/209)
وذراع باكيةٍ عليها بُرْنُسُ ... فإذا تشاءُ رأيتُ وجهاً واضحاً
تأسى عليك بعبرةٍ وتَنَفَسُ(1) ... تبكي عليك ولستُ لائمَ حُرّةٍ
عندما أراد المهلهل أن يعبّر عن خلجاته النفسية إزاء مقتل أخيه كليب فاتخذ ابتداء من البحر الكامل إيقاعه الخارجي لما فيه من زخم لاحتواء احتدام المشاعر لما يعتمل في أعماقه من أسى على فقد كليب، نظراً لما يحفل به هذا البحر من موسيقى تجعله جليلاً مع عنصر ترنمي ظاهر"(2)، على أن نغمة الأسى والحزن واضحة لما يضمه فضاء الأبيات من تضاد بين حالتين، الأولى في عدم إيقاد النار والنبأ بإيقادها، هدوء المجلس وأصطخابه بالسب والتكلم، وعدم التكلم والبكاء وعدمه، مما ترك هذا التضاد أثراً يميل بالشاعر إلى أنْ يذكر الحرة الباكية، ويترك لومها، لتأسى عليه تأوهاً وتحسراً للتعويض عنه.
ومن الملاحظ أن الشاعر منذ البيت الأول قد قرع أسماعنا بـ (نُبِّئْتُ) ليعلن استياءه من حالة القوم بعد ذهاب أخيه، وينقل المهلهل الإيقاع الداخلي إلى حرف (النون) فنجده منتشراً في مفاصل الأبيات ثماني مرات بما فيها التشديد في (ان) و(النار)، والنون مجهور شديد أغن، ونحس بالثقل الشديد عند قراءة قوله (نبئت ان النار) لتجاور النونين وهما من مخرج واحد، ولتوالي تذبذب الوترين الصوتيين بعد ضغط الهواء ومروره جزئياً عن طريق التجاويف الأنفية، من خلال اعتماد طرف اللسان أصول الأسنان العليا واللثة والتصاقه بهما.
ويشيع التنوين ست مرات، على أن (الباء) احتلت موقعها إحدى عشَرة مرة، وهي حرف مجهور شديد انفجاري، وجاءت (الميم) في سبعة مواضع، وهي صوت مجهور يتذبذب فيها الوتران الصوتيان حال النطق به.
__________
(1) أخبار المراقسة: ق12/280.
(2) المرشد إلى فهم أشعار العرب: 246(1/210)
وإذا ما تأملنا أبيات المهلهل فسنجدها قد استخدمت (الكاف) عشر مرات ابتداء من الحرف الأول من اسم (كليب) لخلق تجانس صوتي بين كليب والأصوات الأخر، لأن الكاف صوت مهموس، بالرغم من كونه شديدا، فاورد: بعدك 2+ كليب+ تكلموا+ كل+ كنت+ (باكية + تبكي) + عليك 2).
على أن حرف السين المهموس ورد ثلاث مرات في أربعة أبيات عدا القافية التي كانت متلائمة مع البحر ومشاعر الحزن التي تتفاوت حدتها في أعماق الشاعر.
في الوقت الذي نقف فيه عند المتلمس الضبعي لنسلط الضوء على بضعة أبيات من قصيدته السينية نتذكره عاشقاً غريباً، أرمضه الحنين إلى وطنه العراق، وعصف به الشوق إلى أهله، تلبث في معبد الحب، واكتوى بناء الجوى، فانداحت كلماته المغمسة بنجيع الألم، ترمض الأحشاء، وتثير كوامن الأسى والتعاطف
يقول المتلمس الضبعي:
حَنّتْ قلوصي بها والليلُ مُطَّرِقٌ ... بعدَ الهُدوءِ وشاقتَها النَّواقيسُ
أنّى طُرِبْتِ ولم تُلْحَيْ على طَرَبٍ ... ودونَ إلْفكِ أمْراتٌ أماليسُ
حَنّتْ إلى النخلةِ القُصوى فقلتُ لها ... بَسْلٌ عليكِ ألا تلكَ الدّهاريسُ(1)
القصيدة من البحر البسيط "وللبسيط جلالة وروعة، وفيه بقية من استفعالات الرجز ذات دندنة تمنع نغمة من أن يكون خالص الاختفاء وراء كلام الشاعر (2).
إن الإيقاع الخارجي للوزن انتظمت فيه الصور السمعية بتدفقها، واسمعتنا نبضات الشاعر عبر حالته النفسية المتأزمة، وحنينه الطاغي، حيث تجلى الإيقاع بالنغمة العالية، متفاوتاً بين الخفة والثقل.
__________
(1) ديوانه: ق4/82، وينظر ديوان عبيد بن الأبرص: ق31/5- 6/80.
(2) المرشد إلى فهم أشعار العرب: 414.(1/211)
وإذا ما تتبعنا النسيج الشعري لقصيدة المتلمس فسنجد علامتين رئيستين هما (الحنين، الهدوء)، الحنين الصاخب، والهدوء المؤقت، الحنين الذي يصاحبه الطرب، الذي هاجته النواقيس، والهدوء المؤقت المرتبط بسواد الليل الذي مبعثه الأرض الواسعة المستوية الجرداء التي تبعث الخوف حيث تكمن خلفها الدواهي.
إن الحنين والهدوء حركتان خلقتا تضادا في نفس الشاعر، لبعث حالة الاستقرار لإنهاء الاغتراب، في حين أن المسافة البعيدة المتمثلة بالأرض الجرداء ومجابهة الدواهي تمثل حالة الاغتراب الحاد العميق، حيث تتشكل ثنائية القبول والرفض، القبول المتمثل بالحنين وعدم اللوم، والرفض المتمثل بالخوف المقابل.
إن الصورة السمعية تتكرر في نسيج الأبيات، من الحنين (صوت الطرب) سواء أكان ذلك عن حزن أم فرح، إذ كرر الشاعر (حنت) والطرب، مؤكداً تقوية المعاني الصورية في أسماعنا، وإبراز طغيان الحنين الذي تخفى به الشاعر خلف ناقته.
إن تكرار حرف (القاف) المهموس الشديد في (قلوص ومطرق والنواقيس، والقصوى، وقلت) قد زاد من جلجلة الإيقاع الداخلي للتعبير عما يعانيه الشاعر من تشنج وانفعالات داخلية صعدها الحنين العارم، على أن تكرار حرف (السين) في القصيدة المتوافق مع القافية يحمل الجرس الموسيقي صوتاً قوياً يتفق فيه حنين الناقة مع أصوات النواقيس، ويوحي باليأس في الأبيات اللاحقة.
كما أن معطيات (النون، والتنوين) ذات الجرس العالي داخل نسيج القصيدة أشاعت النغمة الحزينة داخلها، بيد أن وقع الجرس عبر الألفاظ يستلذه السمع بما يشكله من صور سمعية تتساوق معها نغمة القافية التي جرسها من جوهر الغُنّة، وهي تبعث على التطريب، غير أن القصيدة تقع تحت نوعين من الإيقاع الداخلي: السريع والبطيء، يتخللان القصيدة في استخدام أصوات اللين (الألف والواو والياء)، حيث استطاع المتلمس أن يربط تلك الأصوات بموضوعة (الحنين) إذ جاء (الواو) في:(1/212)
قلوصي، والهدوء، و(الألف) في: شاقتها، والنواقيس، وامرات، واماليس، والدهاريس، فضلاً عن (الياء المتكررة)، لذلك كله من أجل توكيد المعنى في الصور المختلفة، فلفظة (الليل) تعرضت لصوت اللين (الياء) للتعبير عن طوله وشدة سواده، يماثله الهدوء والسكون، ولذلك كانت الناقة تشتاق لأصوات النواقيس، فاقتران تلك الأصوات بصوت اللين في النواقيس جاءا منسجمين في إطالة موسيقى الكلمة لينسجم مع الحنين لكثرة الشوق، والاستماع لتلك النواقيس.
وضمن البحر البسيط، والإيقاعين: الخارجي والداخلي، والحروف المتكررة، ومد الناقة صوتها (حنت) طرباً إلى إلف، أو وطن، والطرب، والقول تأكدت صور سمعية لدى السامع، وقد برزت الصورة السمعية على غيرها من الصور لطبيعة الموضوع ولطبيعة الحنين الطاغي في أعماق الشاعر.
إن علاقة أصوات الحروف بتشكيل الصور السمعية ينبع من التكرار أيضاً، لأن التكرار تجانس إيقاعي داخلي – وإن بدا ظاهرياً- يسعى من خلالها الشاعر إلى إحداث تأثير صوتي في المتلقي ولفت سمعه عبر تشكيل صورة سمعية (صوتاً ودلالة)، وقد تتحول الدلالة إلى صورة سمعية ذهنية مقترنة بالأصوات التي أدت إلى تشكيلها "فعند حصول الشعور باللفظ يبادر الذهن إلى تفسيره، على وفق ما اقترن به من معنى، لأن للألفاظ صوراً دلالية استقرت في أذهان الناطقين بتلك الألفاظ"(1).
ومن أمثلة ذلك أصوات حرف القاف والشين في قول امرئ القيس:
وقد رابني قولها: يا هنا
هُ ويحكَ الحقتَ شرّاً بشرّ(2)
وقول حسان بن ثابت في تكرار السين، والحاء، والذال، والراء مما أدى إلى الأداء النغمي لاستيعاب التشبيه وتأكيد المعنى من خلال أصوات الحروف، والقسم فضلاً عن أصوات الأداء السمعي:
فوقفتُ في البيداءِ أسأَلُها ... أنّى اهتديت لمنزلِ السَّفْرِ
__________
(1) القيمة المعرفية للألفاظ اللغوية (بحث): 4.
(2) ديوانه: ق29/ 160(1/213)
وحلفتُ لا أنسى حديثكِ ما ... ذكرَ الغَويّ لذاذةَ الخَمْرِ(1)
ومن التكرار ما يتجانس مع القافية وغيرها لفظا ودلالة، ومنها ما يتفق لفظاً ويختلف في الدلالة، ومنها ما يختلف في اللفظ والدلالة، سواء أكان في نوع الحروف أم في شكلها وصوتها من الهيئة الحاصلة من الحركات والسكتات، أم في عددها أم في ترتيبها.
ومن التكرار ما يتجانس مع القافية لفظاً ودلالة لتقوية النغم وتقوية الصورة السمعية عبر الصورة التي تمثل التضاد في القلة والكثرة، والتأثيرات النفسية التي يحدثها التعبير في هذه الظاهرة التي يهتم بها العرب آنذاك:
تُعَيِّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنَ الكرامَ قليلُ(2)
وقد استخدم الشاعر حرف (القاف) الحلقي الذي أشاع تجانساً في الصورة عبر معطيات المعنى المتضاد.
ومن أمثلة ما يتفق لفظاً ويختلف في الدلالة في نوع الحروف وعددها في غير القافية مثل (الخرق): الأرض الواسعة التي ينخرق فيها الريح، والخرقاء: الناقة النشيطة، حيث جرى تصوير الصحراء وصوت الريح، والناقة التي تشكو من التعب والسأم:
واقطعُ الخَرْقَ بالخرقاءِ قد جَعَلتْ ... بعدَ الكلالِ تَشكّى الأَيْنُ والسَّأَما(3)
فضلاً عن النغم المنبعث من حرف القاف من الخرق والخرقاء، والأصوات في اختلاف الدلالة بينهما.
ومنها ما يختلف في اللفظ والدلالة مثل (اسف، وخلف) في قول بشر بن أبي خازم:
هلْ للحليمِ عن ما فاتَ منْ أسَفِ
أمْ هلْ لعيشٍ مضى في الدهرِ منْ خَلَفِ(4)
إن اختلاف الصوت في (اسف وخلف) في العروضة والضرب أشاع نغماً، بيد أن الصور هنا قائمة على تصوير الماضي والحاضر، فضلاً عن أصوات الاستفهام التي ساعدت على تصوير الحالتين في الماضي والمستقبل، وحرقة النفس على الماضي.
وكقول امرئ القيس في اختلاف اللفظ والدلالة في (عسعسا، واخرسا):
__________
(1) ديوانه: 224-231 (البرقوقي)
(2) السموءَل: ق1/8.
(3) النابغة الذبياني: 218.
(4) ديوانه: ق32/157.(1/214)
ألِمّا على الربّعِ القديمِ بعسعسا ... كأني أُنادي أو أُكَلِّمُ أخْرَسا(1)
إن الصورة أساساً سمعية من خلال النداء أو تكليم الأخرس بدلالة المفردة السمعية (أخرس) بيد أن اختلاف اللفظ وانسجام الإيقاع الصوتي اشاعا موسيقي منسجمة في البيت لتقوية الصورة السمعية فيه.
وإن استثمار البديع في الشعر لإحداث تناغم صوتي في الإيقاع الداخلي من خلال التجانس المتعدد في النوع والكم مما يغري بوجود هندسة صوتية لتشكيل صورة سمعية، حيث يتحرى الشاعر عن الأصوات الموسيقية المتجانسة على وفق معايير خاصة تقوم على التجانس مما يؤدي إلى ائتلاف اللفظ والوزن فضلاً عن تقوية النغم على الصعيد الإيقاعي "لأن الصوت آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت"(2).
إن تجانس الأصوات من تجانس الحروف والألفاظ والجمل والقافية مع الإيقاع فتجد التلاحم والائتلاف قائماً مما يسبغ على الشعر جودة وحلاوة فتجده مسبوكاً "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"(3).
فالائتلاف بين اللفظ والوزن لا يسعى إلى تقوية النغم على صعيد الإيقاع حسب بل هو "تأكيد الوصف، أو المدح، أو الذم، أو التهويل، أو الوعيد"(4).
وممّا جاء لتأكيد الوصف قول المنخل اليشكري:
فَدَفعتُها فَتدافَعَتْ ... مَشْيَ القَطاةِ إلى الغَدير
ولثمتُها فَتَنَفستْ ... كتنفسِ الظّبي الغَريرَ(5)
__________
(1) ديوانه: ق13/105.
(2) البيان والتبيين: 1/79
(3) المصدر نفسه: 1/67.
(4) ينظر تحرير التحبير: 375، خزانة الحموي: 164-165.
(5) الأغاني: المجلد الثالث عشر- القسم الرابع: 360 (دار مكتبة الحياة- دار الفكر، الشماخ: ق2/42/88.(1/215)
تبرز الصورة من خلال الأفعال المختلفة التي احتلت مساحة البيتين، فأسبغت حالة من العلاقة القائمة بين الشاعر وفتاته، وتصوير ممارستها، كما نجد العلاقة القائمة بين الحروف، وهي علاقات الرقة المنسجمة مع الموقف المفرح والحالة النفسية التي هما عليها، حيث انسجمت تلك الحروف مع الإيقاع لإبراز الصورة السمعية (ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي الغرير) فالفاء المتكرر هنا صوت مهموس احتكاكي" عند النطق به تقترب الشفة السفلى من القواطع العليا وتلامسها بحيث تسمح للهواء المزفور ينفذ من خلالها مع حدوث الاحتكاك(1) هذا الصوت رسم لنا صورة تنفس الفتاة وسماع هذا التنفس وتشبيهه بتنفس الظبي، على أن التكرار في لفظة التنفس، قد قوت الإيقاع والصورة السمعية غير الصاخبة.
وقال السموءل مؤكداً معنى المدح:
ونُنكِرُ إنْ شئنا على الناسِ قوْلَهمْ ... ولا ينكرونَ القولَ حينَ نقول(2)
إن ألفاظ الأداء السمعي التي شكلّت الصورة قد تعددت (بالنكران والقول)، مما أدى إيقاع الألفاظ المتكررة إلى تقوية المعنى الذي يقودنا إلى التصوير من خلال تصور القوم إزاء حالتي الضعف والقوة، فالقوم ضعفاء لا يستطيعون رد قول قوم الشاعر، في حين صور السموءل حالة قومه بالقوة والمهابة والسطوة والجاه. بحيث لا ينكر الناس قولهم، إنه توظيف إيحائي يوظف الحالة النفسية عبر طاقة الألفاظ وتكررها (ننكر ونقول)، فالصورة السمعية بالرغم من تشكيلها بألفاظ ذات دلالة سمعية، فإنها قامت على إبراز المشاعر والحالة النفسية الكامنة في الناس وقوم الشاعر، وهو سلوك صوره السموءل من الحزم والإرادة والقوة لقومه، والضعف والخوف للناس.
وفي إطار الذم قال بشر بن أبي حازم:
فَمَنْ يَك مِنْ جار ابْنِ ضَبّاء ساخراً
فقد كانَ في جارِ ابنِ ضَبّاء مسخرُ(3)
__________
(1) علم الأصوات العام: 121.
(2) ديوانه: ق1/10.
(3) ديوانه: ق6/85- ق19/2/97.(1/216)
إن التكرار هنا في (ساخرا ومسخر) أفاد في تكوين صورتين، الأولى صورة المستهزئ الذي يسخر من جار بن ضباء، والصورة الثانية بالضد منها تماماً، حيث تنقلب الصورة من المستهزئ إلى المُسْتَهْزَأ به، مع ما يصاحب ذلك من تأثيرات نفسية، حيث يختفي الرنين من تنوين (ساخرا) إلى (سخر)، حيث تتضافر أصواتها لإبراز معناها وتأثيرها النفسي في الذي سخر به، فالميم صوت أنفي مجهور عند النطق به يحبس الهواء ويضغط في الفم، والسين صوت صفيري احتكاكي، والخاء احتكاكي، والراء هذا الصوت المجهور المتكرر الذي يحتوي على رنين صوتي، فتتعاون تلك الأصوات المجهورة والمهموسة لتؤدي المعنى المطلوب عبر الصورة التي شكلها لنا الشاعر.
وفي الوعيد كرر زهير بن أبي سلمى عبارات وألفاظاً توخي منها تقوية النغم والصور الشعرية فقال:
وإما أن يقولوا: قد وفينا ... بذمتنا فعادتَنا الوفاءُ
وإما أنّ يقولوا: قد أبينا ... فَشَرُّ مواطن الحَسَب الإباءُ(1)
ابتداء رسم لنا الشاعر صورة للوفاء بإيفاء ما بذمة القوم، كما رسم صورة للرفض وما يترتب عليها من شر.
فالقول هنا يتوجب عليه الوفاء إذا كان بالإيجاب، ويترتب على القول بالرفض (الشر)، فالتكرار كان لتقوية الصورة التي أكدت المعنى، سواء أكان ذلك في تكرار القول أم في تكرار الوفاء، على أن حرف القاف الذي تكرر عدة مرات قد ساعد أيضاً على إبراز هذا الصوت الحلقي لتقوية النغم والمعنى والصورة، على أن للحالة النفسية التي عليها الشاعر أثرا في رسم الصورة واستخدام الألفاظ السمعية والتكرار، لابلاغ تلك الحالة للخصم المقصود بها التهديد، وما تكرار القول إلا لطبيعة الخطاب الموجه لبني عليم للتشهير والتذكير من خلال إشاعة النغم القوي المتكرر.
__________
(1) ديوانه: ق11/137-138، وينظر ديوان الأعشى: ق9/25- 27/79.(1/217)
على أن التكرار باب يتسع للجناس بأنواعه المختلفة، وتفرعاته المتعددة المتباينة، آثرنا أن تنضوي تلك المسميات تحت التكرار لشموليته ورحابة ما يضمه من تكرار في الحروف والألفاظ، أو العبارات، أو الأشطر، سواء أكان التكرار لتقوية المعاني الصورية أم النغمية، أم المعاني التفصيلية الملفوظة أو الملحوظة.
وآثرنا أن ندرج البديع(1) ضمن التكرار الصوتي (اللفظي) فهو به الصق، لكونه يشكل أصواتاً إيقاعية داخل النسيج الشعري، لتوخي الفائدة أوّلاً، واستكمال جوانب الموضوع ثانياً.
والتجنيس تكرار موسيقى، وهو "ما تكون الكلمة تجانس أخرى في تأليف حروفها وما يشتق منها"(2)، أي بتجانس اللفظ مع اختلاف الدلالة، وبالرغم من قلته في الصورة السمعية فهو قد ورد عند بعض الشعراء:
بحسامِ سيفكَ أو لسانِكَ والـ ... ... كَلِمُ الأصيلُ كأَرْغَبِ الكَلِمْ(3)
__________
(1) البديع لغة، مما جاء في لسان العرب، مادة (بدع) البديع المحدث العجيب، المبدع، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، وفي العمدة: 1/265، البديع، هو الجديد ، وينظر كشاف اصطلاحات الفنون مادة بدع.
(2) البديع لابن المعتز: 25، وينظر كتاب الصناعتين: 330.
(3) طرفة بن العبد: 92.(1/218)
حيث جانس الشاعر بين الكلم (الكلام البليغ)، والكلم: الجرح، حيث نجد أن تكرار النغمة في اللفظتين أثر في تشكيل الصورة الجزئية والصورة الكلية، فالجزئية في الشطر الأول، إذ صور لنا الشاعر السيف القاطع بإضافة الحسام لتخصيص القطع بحسم الأمر وإحداث الجرح، والصورة الجزئية الثانية تمثلت بإضافة الكلام البليغ النافذ (ألفاظ سمعية) إلى اللسان والمراد به هجو العدو وإحداث الجرح البليغ، لأن جرح اللسان أبلغ من جرح السيف، فحصيلة مزج الصورتين وترابطهما تنتج الصورة المركبة، وبالتالي تتضح أمامنا الصورة الكلية، حيث اتجه التصوير للسيف القاطع الجارح واللسان الحاد الجارح أيضاً، ومن هنا فالنغمة بصوت (الكلم) تختلف في المعنى بقرينة السيف أو اللسان، فاللسان ينطق ويجرح بنطقه (الهجاء) الأحاسيس والمشاعر، والكلم (الجرح) بقرينة الحسام يؤذي ويؤلم، وهذا النغم المتباين أثر في تشكيل الصورة، ولولا هذا التباين لما حدثت الصورة، والتجنيس الموفق يتبع قدرة الشاعر على الإفادة منه عبر التكرير اللفظي لإحداث النغم لخدمة المعاني الصورية والجرس الداخلي.
وقال أوس بن حجر مجانساً بين (حيّوا) من التحية، والحي: المكان:
قد قلتُ للركب لولا أنهمْ عَجلوا ... عرجوا فحيّوا الحيّ أو سيروا(1)
انبثق الجرس الموسيقي من تكرار حرفي الحاء والياء في (حيّوا) والحي، فضلاً عن المجانسة بين اللفظتين لإشاعة النغم في نسيج البيت الشعري، كما أن اختلاف الدلالة له أثره في تشكيل الصورة الجزئية صوتياً، وامتداد أصوات الألفاظ ذات الدلالة السمعية، فضلاً عن أصوات الحروف في (عجلوا وعوجوا) ذلك كله ساهم في تشكيل الصورة الكلية المتمثلة بمخاطبة الركب المتعجل، والطلب منه تحية القوم الذين يسكنون الحي، أو أن يتابعوا سيرهم، فالصورة إذا قامت على الأصوات والأثر النغمي، فتلك العلاقات اغنت الصورة التي نقلت المعنى سمعياً عبر الصورة الصوتية.
__________
(1) ديوان أوس بن حجر: ق21/40.(1/219)
وجانس أمية بن الصلت بين (اعتبت) من العتاب، و(معتب) اسم فتاة:
فما أعتبْت في النائباتُ مُعَتّبٌ ... ولكنّها طاشَتْ وضَلّتْ حلومُها(1)
أحدثت اللفظتان (اعتبت ومعتب) نغماً من التجانس أولاً، ونغما من اختلاف الدلالة، ثانياً، كما قامت الصورة على العلاقات بين الحروف وخاصة (التاء) التي تكررت بشكل لافت للسمع، وقد استمدها الشاعر من اسم الفتاة (معتب)، وإشاعه في البيت، كي يشيع في نفسه وعن طريق السماع راحة نفسية، أو لتأكيد المعنى غير ما يحدثه هذا الصوت من نغم بما ينسجم والموضوع الذي توخاه الشاعر.
ويتخذ التكرار مع ما يتجانس مع القافية لفظاً ودلالة لتقوية النغم من جهة، ولتوكيد الدلالة من جهة ثانية بعدا آخر في التأليف بين الحروف والمعنى، فيكرر الشاعر اللفظة في بيت لاحق لبيت سابق، مثال ذلك امرؤ القيس (2) وتأبط شراً بقوله:
لكنّما عِولي إنْ كنت ذا عِوَلٍ
على بصير بكسْب الحمدِ سَبّاقِ
مرّجع الصوت هَدّاً بين أرفاقِ(3) ... سَباقِ غايات مَجْد في عشيرتهِ
__________
(1) أمية بن أبي الصلت ق118/289.
(2) ديوانه: ق52/244.
(3) ديوانه، تحقيق علي ذو الفقار شاكر، ق21/135-136، وينظر ديوانه عبيد بن الأبرص: ق21/2/100، ق8/1- 3/24-25.(1/220)
في تتبعنا للجانب الصوتي للألفاظ المتجانسة نجده قد أشاع نغماً من خلال تكرار تلك الألفاظ (سباق) و(عولي- عول) لتأكيد المعنى، فضلاً عن التشديد في (سبّاق) الذي منح الصوت إصراراً على أنه طلاب لوجوه الحمد ومآثر الشكر في البيت الأول (القافية) و(سباق) في البيت الثاني لإحراز المجد وقصبات السبق بين أهله وعشيرته، ليصبح بهم آمراً ناهياً، فكانت (سبّاق) نمطاً صوتياً في التكرار يخدم المعنى، والجرس الداخلي، اذان قوة النغم انبثقت من التشديد في (سباق، ومرجع، وهدا) مما يتساوق مع أصوات تلك الألفاظ، والتأثير في الصورة وشحنها بطاقة تضغط على المدرك السمعي، وبالتالي النفسي له أهميته إلى جانب الأصوات والجرس الموسيقي الداخلي في تشكيل الصورة التي تجعله آمراً ناهياً عبر صوت مردد غليظ شديد يهد قلوب الرفقة.
ومن تكرار الألفاظ وتجانسها مع القافية في بيت واحد مستقل، ما وجدناه عند بشر بن أبي خازم(1)، وامرئ القيس(2)، وعبيد بن الأبرص(3)، والسموؤل(4)، وعدي بن زيد (5)، والنابغة الذبياني(6)، وزهير بن أبي سلمى:
فَمَنْ مُبْلِغُ الاحلافَ عنّي رسالةً ... وذُبيانَ هلْ اقسْمتُمُ كلَّ مُقْسَمِ؟(7)
ومَنْ يجعل المعروف من دونِ عرضهِ ... يَفِرْهُ، ومَنْ لا يَتّقِ الشتمَ يُشْتَمِ(8)
هذا وليس كَمَنْ يعيا بِخُطّتِهِ ... وَسْطَ النَّديِّ إذا ما ناطِقٌ نَطَقا(9)
__________
(1) ديوانه: ق5/8/27.
(2) ديوانه: 59/263.
(3) ديوانه: ق3/8/4/- 37/3/92.
(4) ديوانه: ق 1/17/10.
(5) ديوانه: ق9/18/65
(6) ديوانه 124
(7) زهير بن أبي سلمى: 1/17.
(8) المصدر نفسه: ق1/26
(9) زهير بن أبي سلمى: ق4/77- ق52/1/294- وينظر ديوان الأعشى: ق1/1/3- ق2/82/25- ق17/21/137- ق27/19/187.(1/221)
إن التأثيرات الصوتية المنبعثة من تكرار الألفاظ التي وردت في الأبيات السابقة مثل (أقسمتم كل مقسم) ومن لا يتق الشتم يشتم، وإذا ما ناطق نطقاً، قد أشاعت عبر الألفاظ جرسا موسيقيا يؤكد المعنى والصورة والنغم، إلى جانب أصوات الألفاظ ذات الدلالة السمعية، وخاصة في (تبليغ الرسالة) في البيت الأول، والألفاظ الإيحائية في البيت الثاني التي وصفت الكرم والجرأة والبلاغة إذا ما قام في مجلس القوم ناطقاً.
على أن التكرار داخل البيت الواحد قد احتل حيزاً كبيراً من مساحة الشعر الجاهلي، فقد ورد بصيغة (الصوت) مع تصريفاته المختلفة(1)،
__________
(1) أبو كبير الهذلي، ديوانه الهذليين: 2/113، وينظر ديوان امرئ القيس: ق13/106- الطفيل الغنوي: ق4/1/52.(1/222)
والحديث(1)، و(النبأ +انبئته (2) و(التذكر+ ذكرت + تذكرتهم) (3)، والدعاء وتصريفاتهم (4) والشكوى والأرنان(5)، والصياح(6)، و(المدح +الشكر +الوعد+ الذكر + اطيط)(7) و(الزجر+ العتب)(8)، و(اللوم +الهزح+ التبليغ)(9)، والحمد(10) و(يغط +يسأل +سائل + دب+ دبيب +هديل(11)و(تخشخش- خشخشت – وعدتك –موعدا- كموعد)(12)، و(الحمد- للحمد)(13) و(بلغت- لمبلغك- صريف- (مقالة –مقالتهم +(تكلم –كلامه)+ (حيوا –تحيون) +(تكلمنا –كلمتنا)+ (تخبرني –أخبرها)+ (عاتبة- العاتب)(14)، والعلم (15)، و(سألنا- التساءل+ اسأل- سؤالك+اساءلت- تسائل)(16)،
__________
(1) امرؤ القيس ق17/127- ق30/168- عبيد بن الأبرص: ق12/4/38.
(2) امرؤ القيس: ق32/185.
(3) بشر بن أبي خازم: ق21/2/100، عبيد بن الأبرص: ق8/1- 3/24- 25.
(4) امرؤ القيس: ق6/23/268، عنترة العبسي: ق6/6/247، أبو خراش الهذلي (خويلد بن مرة)، ديوان الهذليين: 2/136، كعب بن سعد الغنوي: شعراء النصرانية: 747- الأعشى: ق4/64/33، ق15/43/125.
(5) الشنفرى، لامية العرب: 46/ ب34، وينظر اللامية: 38/ ب7.
(6) أبو داؤد الايادي: ق2/1/283
(7) بشر بن أبي خازم: ق1/13/3- ق9/2/41، ق11/5/82- ق21/2/100- ق29/14/145.
(8) عمرو بن قميئة: ق13/14/64 –ق15/20/71
(9) امرؤ القيس: ق43/208، ق47/216- ق46/213
(10) عبيد بن الأبرص: ق3/8/4، عدي بن زيد: ق6/19/52، زهير بن أبي سلمى: ق19/42/190.
(11) عبيد بن الأبرص: ق5/19/14، ق5/24/14- ق5/24/14، ق5/46/19، ق13/6/43.
(12) علقمة الفحل: ق1/30/45-ق3/8/82.
(13) عدي بن زيد: ق6/19/52.
(14) النابغة الذبياني: 55-86-98-145-146-147.
(15) زهير بن أبي سلمى: ق1/49-25
(16) زهير بن أبي سلمى: ق1 /الهامش/ 29، ق3/47/61، الأعشى: ق6/55/ 61 ق15/4/119- أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/1/139..(1/223)
و(وشي- وشاة)(1)، و(صوته الصوت)(2) و(شكت +تشكى)(3)، و(لام –لائم)(4)، و(سمعت بسمع –اسمع –السامعون)(5) ، و(سأوصي –وصاة)(6)، و(يصيح –صياح) (7)، وانطقتني –نطقت)(8)، و(يستجيب –مجيب+ (غياث –يغيثه) (9).
والترصيع من الصور السمعية، يتمثل بالإيقاع الداخلي المتوازن بتوازن الألفاظ ويتوخى من الترصيع "تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجع أو شبيه به أو من جنس واحد في التصريف"(10)، وهو إيقاع يستميل السامع إليه عبر نغمة متوازنة، كما ورد عند تأبط شراً: (عذّالة خذّالة)، فاللفظتان متوازنتان مما أثارا نغماً، وتأثيرا موسيقياً فضلاً عن التشديد فيهما مما يقوّي هذا النغم الذي ينسجم في الإيقاعين الخارجي والداخلي وتأثير ذلك في سمع المتلقي:
يا مَنْ لِعذّالةٍ خَذّالةٍ أَشبٍ ... حَرَّقَ باللوم جلدي أيّ تَحراقِ(11)
فالصورة هنا سمعية تأثرت بالإيقاع المنسجم، فضلاً عن تساوق التشديد والتنوين لإحداث الانسجام المطلوب.
على أن امرأ القيس قد أورد لفظتين مسجوعتين هما (مكر- مفر)، وأتبعها بلفظتين متضادتين (مقبل – مدبر)، دلالة على الحركة والسرعة في الإقبال والإدبار والحركة الدائمة المنسجمة مع (العدوان) التي اتخذت صفة الاضطراب وعدم السكون:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كتيسِ ظِباءِ الحُلَّبِ العَدَوان(12)
__________
(1) زهير بن أبي سلمى: ق21/2/201
(2) الطفيل الغنوي: ق4/1/52.
(3) الشنفري، لامية العرب: 46/ ب34- الأعشى: ق31/11/207.
(4) الأعشى: ق9/1/77.
(5) الأعشى: ق12/31/97- ق28/29/193.
(6) الأعشى: ق14/5/113
(7) ساعدة بن جؤية، ديوان الهذليين: 1/30/205.
(8) أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين: 1/1/139.
(9) كعب بن سعد الغنوي: 747.
(10) نقد الشعر: 40.
(11) ديوانه: تحقيق ذو الفقار: 21/140.
(12) ديوانه: ق8/87- ق1/50/19 الحلب: نبات ترعاه الظباء، العدوان الشديد العدو(1/224)
كما ورد له أيضاً (فتور القيام، قطيع الكلام)(1)، ومما جاء من الترصيع عند أوس بن حجر (هدلا مشافرها – بحا حناجرها)، الصورة هنا ارتبطت بالحناجر المبحوحة ولذا كانت المشافر هدلاً، فالتساوق جاء في صورة انسجم فيها الصوت مع الحالة عبر نغم متجانس.
هُدْلاً مشافرُها، بُحّاً حناجِرُها ... تُزجي مرابيعها في صَحْصَحٍ ضاحي(2)
هذا الترصيع ذو الجرس الداخلي الذي أدى إلى إيقاع منسجم مع الانفعالات النفسية للشاعر، منح الصورة السمعية قدرة أدائية متميزة تعويضاً عن البحر البسيط الذي يبدو أنه يستطيع بإيقاعه أن يستوعب أحاسيس الشاعر، ولذلك اتجه إلى استخدام التكرار المتمثل بالترصيع، لما له من قدرة على تشكيل إيقاعات داخلية تتساوق مع الحالة التي يروم الشاعر التعبير عنها، فضلاً عن صوت (الحاء) المهموس الذي تكرر في البيت بشكل لافت للسمع، الذي أسبغ على إيقاعات الترصيع ومن ثم الصورة أداء متميزاً عبر عن صوت الرعد، ومن هنا جاءت الصورة السمعية متميزة فرضتها قدرة الشاعر في استيحائها من اللجوء إلى إيقاع التكرار، على أننا لا نغفل الأثر النفسي في صياغتها من طغيان مشاعر الفرح بالغيث.
ويتخذ التكرار صيغاً متعددة تدخل في نسيج الإيقاع الداخلي لشكيل التآلف الصوتي عبر الألفاظ المختارة، من خلال تكرار بعض الحروف.
ومن تكرار الأصوات بعينها في بيت واحد، أو عدة أبيات تكمن موسيقى عذبة، أو زخرف صوتي، يكشف الشاعر فيه عن مقدرته الإبداعية في إقامة تجانس صوتي من خلال حروف بذاتها من جنس القافية مما يشكل صوراً سمعية.
قال امرؤ القيس:
__________
(1) امرؤ القيس: ق29/13/157.
(2) ديوانه: ق5/17. هدل: مسترخية، تزجي: تسيم وترعى، الصحيح: المكان المستوي الظاهر، المرابيع: المرباع: الناقة التي تضع في ربعية النتاج وهو أوله، وإنما يعني أولادها.(1/225)
تقول وقد مالَ الغبيطُ بنا معاً: ... عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ فانزلِ(1)
نلاحظ الشاعر قد كرّر صوت اللام خمس مرات مجانسة للقافية (اللام) من تقول، ومال، ولام الغبيط والقيس، فانزل، على أننا نجد علاقة بين الميلان والنزول في المعنى.
ونجد صوت اللام وهو المجهور الشديد المستمر منتشراً في أكثر أبيات المعلقة، حتى ليمكننا أن نعد هذا الصوت هو مفتاح القصيدة.
على أن زهير بن أبي سلمى(2) قد كرّر صوت الميم في معلقته سوى بيت واحد خلا منه باستثناء قافيته.
وتتعدد الأمثلة في نماذج شعرية كثيرة يضيق بنا مجال حصرها.
وإذا ما تتبعنا بعض القصائد فسنجد أن الشاعر يكرر حرفاً معيناً من أبياته، مستمداً من أحد أحرف اسم زوجه، أو حبيبته، أو صاحبته، فقد أخذ امرؤ القيس حرف الميم من (فاطمة) وكرره في عدة أبيات لإحداث التجانس الصوتي لما لهذا الحرف الأنفي المجهور من رنين، وقد دخل على الأفعال التي ضمت معاني القوة، وأوضحت الآثار النفسية للشاعر:
أفَاطمَ مهلاً بعضَ هذا التّدللِ ... وإنّ كنتِ قد أزمعتِ صَرمي فأجملي
أَغرّك مني أنّ حبّكِ قاتلي ... وأنكِ مهما تأمري القلبَ يفعلِ(3)
ونجح صوت (الميم) في إبراز الصورة السمعية من خلال ما أدّاه في إيضاح الانفعال النفسي المقصود لحالتي الحب واستجابة القلب لكل ما تأمر به الحبيبة، وحالة الخوف من الهجر، وما يترتب عليه.
__________
(1) امرؤ القيس: ق1/11، عبيد بن الأبرص: ق12/1/38 (الحاء)، ق19 (الدال)، ق20-21 (الدال)، ق28 (السين) مع القافية. وينظر: بشر بن أبي خازم: ق25 (العين) مع القافية، ق18 (الراء) مجانسة للقافية.
(2) ديوانه: ق1/8/29، وانظر ديوان زهير أيضاً: ق2/31-44 (مجانسة صوت اللام للقافية. وعلقمة الفحل: ق1/33-49 مجانسة صوت الباء مع القافية عدا بيتين. وق2-79، جانس فيها صوت الميم مع القافية خلا أربعة أبيات من مجموع 55 بيتاً.
(3) امرؤ القيس: ق1/12 وما بعدها(1/226)
وحين يذكر (ليلى) نجده يكرر اللام في جميع الأبيات التي ذكر فيها ليلى(1) وعندما يذكر (نعما) يكرر (العين) في عدة أبيات(2).
ونجد زهير بن أبي سلمى يكرر حرف الميم من (أم أو في) في معلقته، فكان حرف الميم هو مفتاح معلقته، وهو حرف يطرد ذكره في أكثر أبياتها ليوائم رويها(3):
أمْن أم أوفى دمنُة لم تَكَلّمِ ... بحومانِه الدّراجِ، فالمتثلم
فلما عرفتُ الدارَ قلتُ لريعها ... ألا عمْ صباحاً أيها الربع واسلمِ(4)
الميم: حرف مجهور انفي له رنين، وما استخدامه هنا من لدن زهير إلا لجهره ورنينه، لا سيما زهير قد وقف على الأطلال وطرح تساؤله، ولكنها لم تجبه (لم تتكلم) بيد أنه بعد أن عرف الدار حياها، ودعا لها أن تسلم، ذلك كله بحاجة إلى الصوت المصحوب بالرنين لتقوية الصوت الجهير المتسائل، وإعلان حالة الشاعر، في الصوت المرتفع بالتساؤل والتحية والدعاء، حتى الصوت في أعماقه انطلق جهراً لما له من أثر في نفسه ليسمع إيقاع حالته النفسية المتوجعة المتحفزة للاستقرار، وتحقيق السلم بعد الاقتتال، بدلالة الدمنة الشاخصة، وتحيتها والدعاء لها، على أن استخدام الميم المجهور استدعاه إعلان المدح لداعيتي السلام وحقن الدماء.
وقد اختار زهير حرف اللام من (سلمى) وكرره في أكثر أبيات قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب من سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفرَ منْ سلمى التعانيقُ فالثّقْلُ
تأوّبني ذِكْرُ الأحبّةِ بعدما ... هَجَعْتُ ودوني قُلّةُ الحَزْنِ فالرّملُ(5)
وكرر قيس بن الخطيم (العين) من (عمرة)(6)، وإذا ما تجاوزنا ذلك إلى صناجة العرب (الأعشى)، فإننا سنجده قد اختار (التاء) من اسم صاحبته الذي أشار له بـ (تيا) وإشاعة في أكثر أبيات القصيدة:
__________
(1) امرؤ القيس ق73/296-297.
(2) امرؤ القيس ق73/296-297.
(3) قضايا الشعر في النقد العربي: 10/73
(4) زهير بن أبي سلمى: ق1/ 9-10 وما بعدها.
(5) ديوانه: ق2/31- 32- 44
(6) ديوانه: ق4/76- وما بعدها(1/227)
أتشفيكَ "تيا" أم تركتَ بدائِكا ... وكانتْ قتولاً للرجالِ كذلكا(1)
ولا يختلف الأمر معه في قصيدة أخرى اختار فيها اللام من (ليلى)(2)، واختار ابن مقبل اللام من ليلى أيضاً(3)، واختار لبيد (الميم) من (سلمى)(4).
وقد يكون مبعث تكرار حرف من أحرف اسم الحبيبة ذا أثر نفسي يستطيبه الشاعر ليشيع في نفسه وسمعه إيقاعاً ذا نغمة معينة قد تؤنسه فيطرب لها، وهو بدوره يحاول أن ينقله إلينا عبر الإيقاع الذي اختاره، وقد يتخذ من الحرف مكاناً في نسيج الشعر تبعاً لحالته وغرضه الأساس وتجربته وباعثه الآني.
أسماء النساء:
ويتحقق الإيقاع الصوتي من خلال استخدام الشعراء لأسماء النساء وإشاعة حرف من الاسم، أو حرفين في أغلب أبيات القصيدة، فتنتشر موسيقى داخلية عبر تكرار الاسم أو أحد أحرفه البارزة.
احتلت النساء حيزاً كبيراً في الشعر العربي قبل الإسلام، سواء أكان ذلك في لوحات الافتتاح، أم في اللوحات التالية لها، أم في صلب القصيدة، والقصائد التي تخلو من أسماء النساء قليلة قياساً إلى انتشار الأسماء، بل حتى تعددها أو تكرارها في القصيدة الواحدة.
وقد تعدد المدلول الرمزي لتلك الأسماء بسبب اختلاف تجارب الشعراء الشخصية، واستحالة توافق المواقف في حياتهم إلاّ في الأطر العامة وافتراقها في التفصيلات الدقيقة.
وقد يكون الاسم حقيقياً، أو مستعاراً، بَيْدَ أنّ ما يهمنا هنا هو مدى علاقة الاسم بالوزن والقافية، وتكرار أحد حروفه في نسيج القصيدة، وأثره في الإيقاع، وتحسين موسيقى الشعر بحيث يكسبه رونقاً، فضلاً عما يسبغه على المعنى من تجانس.
__________
(1) الأعشى: ق11
(2) الأعشى: ق12
(3) تميم بن مقبل: ق41
(4) لبيد: ق11(1/228)
وقد قيل "وللشعراء أسماء تخف على ألسنتهم، وتحلو في أفواههم، فهم كثيراً ما يأتون بها زوراً نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب، وجمل، وزينب، وأشباههن"(1).
ونحن لا ننكر هذا الرأي المتقدم، على أننا يمكن أن نعزو اختيار الاسم إلى تأثيرات مهمة تتمثل في:
1-التأثر بالموروث وأتباعه، بما يتيحه له من اختيار الاسم مع ما ينسجم وذوق الشاعر، أو مدى شيوع الاسم وانتشاره بما يقرره الذوق العام.
2-واقعية الاسم، إذ يتبدى لنا موقف الشاعر الواضح إزاء ذلك الاسم من خلال الحدث الواقعي الذي انبثق منه العمل الإبداعي عبر تجربته الحيوية التي انعكست على بعض شعره.
3-التخفي وراء أسماء عديدة للنساء، وهو موقف يتضح في معطياتهم الشعرية الكثيرة بما يتلاءم ومعالجات الشعراء لموضوعاتهم.
4-توظيف الاسم فنياً، لوقعه الموسيقي، أو لملاءمته مع الوزن والقافية، وعلاقته بأبيات القصيدة، وما يملكه من قدرة في منح القصيدة التجانس الصوتي المطلوب، وتأثير ذلك في الصورة السمعية، فضلاً عما يشيعه من متغيرات نفسية واجتماعية وذوقية بما يخدم موضوع الشاعر، وتوتراته وانفعالاته.
على أن حرف السين كان أكثر شيوعاً من غيره لدى الشعراء الجاهليين، وتلك ظاهرة لا يمكن أن نعزوها إلى عنصر المصادفة المفرغة من المحتوى الفني(2).
__________
(1) العمدة: 2/121/122
(2) دراسات نقدية في الأدب العربي: 75، وقد جرد أربعين ديواناً فوجد أن (35) ديواناً. تشترك في استخدام السين. وقد قمنا بجرد أكثر من ستين ديواناً فكانت النتيجة الغلبة لحرف السين.(1/229)
ومن حيث تعلق الاسم بالوزن، قد تنسجم أسماء رباعية في وزن معين مثل: سلمى، ليلى، وأشباههما، أو ثلاثية تنتهي بتنوين مثل (هند، دعد، زهر، جمل، نعم..) في وزن آخر، وكذلك الأسماء الخماسية، أو المرخمة، وأحياناً يلجأ الشاعر إلى التصغير أو إلى همزة الاستفهام، أو غير ذلك مما يجعل الاسم منسجماً مع الوزن ويؤدي إلى إحداث إيقاع منسجم(1).
وإن اختيار حرف السين (2)، المهموس له علاقة بالأجواء التي رسمها الشاعر ابتداء من الطلل البالي، والسعادة المفقودة، والأسى المتسرب إلى النفس، واستحضار الذكريات، ويترفق امرؤ القيس بالحديث عنها، وتلين نفسه لها، فالنغم المتكرر من السين المهموس المتساوق مع أسرار النفس والأسى المتسرب فيها أثّر ذلك في الصورة السمعية.
وبالرغم من الذكريات التي يسردها امرؤ القيس يوضح فيها لهوه، فإن القافية (اللام) المنتهية بكسرة جاءت مناسبة لانكساره النفسي.
على أن حرف (السين) المهموس، قد تساوق مع حرفي: التاء، والثاء المهموسين، وتلك الأحرف قد انتشرت في نسيج القصيدة بشكل يثير الانتباه(3).
بيد أننا لا نستبعد أن يكون اسم (سلمى) رمزاً للمملكة الضائعة التي خلفت في نفسه ألما وحسرة.
__________
(1) المصدر السابق: 74.
(2) امرؤ القيس: ق2، عدتها 54 بيتاً، تكرر حرف السين (51) مرة في (34) بيتاً.
(3) تكرر حرف التاء (87) مرة في 54 بيتاً، وتكرر حرف (الثاء) 16 مرة.(1/230)
وما استخدام حرف (السين) المترافق مع سلمى، إلا لإشاعة جو نغمي لتقوية الصورة المعنوية، ومنها الصورة السمعية، وتقوية النغم، على أننا اخترنا بعض القصائد لعدد من الشعراء تكرر عندهم اسم (سلمى)(1).
__________
(1) امرؤ القيس: ق4/54/ 29/47. وقد رمزنا لـ (ق) بالقصيدة. والرقم الثاني: لمجموع أبيات القصيدة. والرقم الثالث: لعدد الأبيات التي تكرر فيها الحرف، والرقم الأخير يمثل عدد المرات التي تكرر فيها الحرف. وانظر امرأ القيس: ق31/24/11/14 مع تكرار أحرف التاء والشين، ق55/26/16/26، مع تكرار حرفي الشين والثاء في الأبيات التي خلت من السين، وانظر زهير بن أبي سلمى: ق2/41/39 مع تكرار حرف (التاء، والثاء)، ق3/47/ 20/34، ق28/29/13/19، ق32/27/15/20. ولاحظنا تكرار الحرف الثالث (الميم) من سلمى 69 مرة في القصيدة نفسها، ق44/24/10/15، على أن حرف الميم قد تكرر (53) مرة.
ووجدنا عند النابغة الذبياني أن حرف السين من (سعاد) تم استخدامه كما يأتي: ص58/10/9/11، وقد احتل حرف التاء والثاء مواقعهما بالتسلسل بعد حرف السين. وفي ص215/27/15/21، وص262/21/9/10، وقد تعاقبت بعد السين الأحرف: التاء، والشين، والثاء.
أما سعدي، وسعداك عند النابغة أيضاً فقد كانت كما يأتي: ص89/55/33/47، وفي ص184/30/20/29، وأما (أسماء) عند النابغة فقد كانت في ص195/31/14/16، وإذا ما أخذنا الحرف الأول (الهمزة) من (أسماء) فسنجده قد تكرر في القصيدة نفسها في ص195، تكرر (34) مرة في (22) بيتاً من أصل (31) بيتاً. وكانت الهمزة عند زهير من (أسماء) في ق4/33/24/45، (ق9/37/32/56 وق21/8/7/21، ووجدنا حرف السين من (سلمى) عند الأعشى على الوجه الآتي: ق39/51/23 في حين تكرر الحرف الثالث (الميم) من القصيدة نفسها (68) مرة وفي ق78/16/11/18. وقد تتبعنا اسم (مية) فوجدنا تكرار حرف الميم عند النابغة ص76/50/46/120، أما (أميمة) عند زهير فقد تكررت الهمزة (43) مرة في القصيدة رقم (24) من أصل (33) بيتاً، والميم، الحرف الثاني تكرر (76) مرة.(1/231)
وحرف السين عند النابغة(1) من سعاد قد انتشر (21) مرة، وقد تعاقبت الأحرف بعد السين، مثل التاء، والشين، والثاء، وكلها أحرف مهموسات، على أن موضوع القصيدة في الفخر قد تساوق مع حرف الميم المهجور (القافية) المنتهي بالمد الذي ساعد على تخفيف شدة الميم:
يُنْبِئْكَ ذو عرضهم وعالِمُهُمْ ... وليس جاهلُ شيءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِما(2)
في حين نجد القافية (النون) المضمومة المهجورة الشديدة قد انبثقت من تفخيم النابغة للنعمان بن المنذر، ولكنها قد تساوقت أيضاً مع الأحرف المهموسة: السين، والتاء، والشين، والثاء، فالشين من (الشامتين) بالرغم من كونها مهموسة، كانت سبب استسلام الشاعر للحزن.
وقال الشامتونَ هوى زيادٍ ... لكلِ مَنّيةٍ سببٌ مُبينُ
أغيركَ مَعْقلاً أبغى وحِصناً ... فأعيتني المعاقِلُ والحصونُ(3)
فالمهموسات أشاعت نغماً حزيناً متساوقاً مع حزن الشاعر، على أن نغم النون أدى إلى حالة تفخيم الممدوح للاحتماء به.
في حين استخدم النابغة حرف السين من (سعدى وسعداك) 19 مرة في قصيدة تعدادها 18 بيتاً، يمدح فيها النعمان بن وائل، مستخدماً قافية (الدال) المكسورة، وقد اعترف بالجميل لممدوحه، لإنقاذ النواهد(4)، كما أنه قد خص قصيدة أخرى بقافية الدال المكسورة حيث عبرت عن الانكسار النفسي بالرحيل.
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً بهِ ... إنْ كانَ تفريقُ الأحبّةِ في غَدِ(5)
فالنغم المتكون من الكسرة، والدال المهجورة قد انتشرا في نسيج البيت (بِغَدٍ، به الأحبة) لتصوير عنف الفراق وقوة الزمن.
__________
(1) النابغة الذبياني: 215-218.
(2) النابغة الذبياني: 215-218.
(3) النابغة الذبياني: 264-266، وانظر ص58
(4) المصدر نفسه: 89-93
(5) المصدر نفسه: 93(1/232)
واستخدم زهير بن أبي سلمى حرف السين من سلمى(1) مع قافية اللام المضمومة واللام صوت مجهور شديد يناسب هذا التفخيم ومكانة الممدوح وينسجم مع قوة السلاح والحرب، وقوة المحاربين.
وفي قصيدة له استخدم فيها السين من سلمى أيضاً مع قافية اللام المضمومة، والقصيدة فيها من الفخر والمدح ما جعل ذلك يتساوق مع صوت اللام المجهور الشديد:
عزيزٌ إذا حَلّ الحليفان حوله ... بذي لَجَب لَجّاتُهُ وصواهِلُهْ
فاقبلتُ في الساعين أسألُ عنهُمُ ... سؤالكَ بالشيءِ الذي أنتَ جاهِلُه(2)
كما استخدم زهير بن أبي سلمى (الهمزة من أسماء) في قصيدة غرضها الرئيس المدح:
وذاكَ أحْزَمُهُمْ رأياً إذا نَبَأ ... مِنَ الحوادِث غادى الناسَ أو طَرَقا
قد جعلَ المبتغونَ الخيرَ في هَرِمٍ ... والسائلونَ إلى أبوابهِ طُرُقا
هذا وليس كمن يعيا بخطتِهِ ... وَسْطَ النّديّ إذا ما ناطِقٌ نَطَقا(3)
بالرغم من شدة الهمزة التي انتشرت في الأبيات، إلا أننا نجدها قد تكررت بشكل مناسب بما ينسجم وحرف (القاف) المهموس الشديد في (القافية) التي ساعدت على المد ليريح المنشد والسامع، وهي الراحة التي يجدها الشاعر والناس عند الممدوح.
واستخدم زهير حرف الهمزة أيضاً من (أسماء) في قصيدته الهمزية المضمومة، وقد وجدنا فيها ثورة نفس، وألماً مشرباً بالأمل(4).
__________
(1) ديوانه: ق2/31
(2) زهير بن أبي سلمى: ق2/60-61
(3) المصدر نفسه: ق4/75-76-77
(4) زهير بن أبي سلمى: ق21(1/233)
وإذا ما انتقلنا إلى حرف الهاء من (هند) فإن تكرارها قد أشاع جواً نغمياً(1) وقد استخدم طرفة بن العبد(2) حرف الهاء في قصيدة يهجو فيها عبد عمر بن مرشد، قافيتها لام مضمومة تتلاءم مع الشدة التي يعامل بها المهجو مع الأقارب، وسوء معاملته لهم وفي الوقت نفسه يعامل الأباعد مثل الرياح الرخية اللينة، فكانت قصيدته تعبّر تارة عن السخط بألفاظ القوة كقوة (الضمة) على الكلام، فكانت الهاء المهموسة (الملاينة والسكون)، والسين المهموسة متساوقين في النغم مع الشدة واللين وحسب الموضوع الذي تستوعبه بما يقتضيه الموقف، حيث يقول:
دَبَبْتَ بسرّي بعدما قد عَلِمْتَهُ ... وأنتَ بأسرارِ الكرامِ تَسولُ
وإنَ لسانَ المرءِ ما لمْ تكنْ له ... حَصاةٌ على عَوراتِهِ لدَليلُ(3)
وقال الأعشى:
فهو مشغوفٌ بهندٍ هائمُ ... يرعوي حيناً وأحياناً يحنْ
بلعوب طيّب أردانُها ... رَخْصةِ الأطرافِ كالرئم الأغن(4)
يفرغ الشاعر في هذه القصيدة لنفسه، تهيجه ذكريات الحب، وقدَ ضجت بالصور السمعية لأنه أنشدها في مجلس شراب وغناء.
استخدم اسم (هند)، حيث كرر حرف (الهاء) منه عشر مرات في ستة أبيات، ولقد كانت الهاء منسجمة تماماً مع الملاينة، ولكن النغم يتصاعد والجرس يعلو في استخدام النون (القافية) الساكنة، نون الغُنّة، وكذلك التنوين، وقد ورد صوت النون في (22) موضعاً وهو من أحرف الذلاقة ويسهل على اللسان النطق به، كما ورد حرف (الدال) من (هند) أربع مرات.
إن الأعشى قد تفنن في اختيار قافيته ذات الرنين "فصنع من المفردات النفسية المعنوية قافيته المناسبة"(5).
__________
(1) امرؤ القيس: ق18/7/6/10، ق54/20/10/16.
(2) طرفة بن العبد: ص76/15/10/15
(3) طرفة بن العبد: 80. وانظر النابغة ص178/6/4/9، الأعشى: ق78/11/11/18.
(4) الأعشى: ق78/357.
(5) الصورة الفنية معياراً نقدياً: 424.(1/234)
إن اتفاق القافية مع الألفاظ الموضوعية ذات الإيقاع الموسيقي والدلالي، والرنين، قد أحدث تجانساً مع بحر الرمل الليّن الذي استجاب لموضوع الشاعر وتقبل الأصوات المختلفة فيه مع المدركات الحسية المتعددة، وإن كان الشاعر قد ابتدأ بحرفين سهلين رخوين هما (الفاء والهاء) مع صوت لين (الواو) تجمعها كلمة (فهو) حيث قال: (فهو مشغوف بهند هائم).
ويتضح مما سبق أن التآلف الصوتي ينبع من تآلف الحروف وتكريرها، وإشاعتها في النسيج الشعري، ويتوقف ذلك التوافق والتآلف على مقدرة الشاعر في إحداث أصوات بعينها مما يخلق معه التجانس الصوتي (الموسيقي).
((
المبحث الثالث
البيان في الصورة السمعية
إن من خصائص الشعرية العربية، اتصافها بالبيان، وقد استخدمه الشعراء لإيضاح مراميهم، والإبانة عن مقاصدهم، وإبراز معانيهم بصورة متعددة لا لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليه القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام(1)، على أننا لا ننفي التمايز بين الشعر، لأنه يقوم أساساً على قدرة الشاعر وبراعته وموهبته.
وقد تعددت وجوه البيان من التشبيه، إلى الاستعارة، إلى الكناية، حيث تظهر أمامنا الصور المختلفة بما فيها الصور السمعية، ففي تشكيلها تبرز الدلالات، ويقوم الترابط بين جميع الصور، وبالتالي يتأكد المعنى في الصورة عن طريق السمع.
__________
(1) البيان والتبيين: 1/76، وقد عرفه السكاكي في مفتاح العلوم: 77" فهو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان ليتحرز على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد، وينظر: الإيضاح للقزويني: 2/212، وينظر كتاب: أصول البيان العربي، فيه استعراض شامل لتعريف القدامى للبيان.(1/235)
وتتعدد الصور السمعية في البيان العربي بوجوهه المختلفة، حيث يستخدم الشعراء الألفاظ السمعية، والإيقاعات، والجرس الموسيقي في فنون البيان المتعددة، عبر معطيات بيئة الشاعر وروابطه الاجتماعية، وتأثيراته النفسية، وموروثه الفني، والتقليد في بعض الأحايين.
ولذلك فإن استخدام الألفاظ السمعية وما يدل عليها، يعد من ضرورات استكمال الصورة العامة في القصيدة، فضلاً عن منحنا القناعة بموجب استخدام الأصوات المختلفة التي تكون الصورة السمعية، ويشكل نسيجها مادة ذات دلالات مؤثرة وقتئذ، حيث مرحلة الشفاهية القائمة على النطق والسمع، ولذلك فوجوه البيان "ضرب من الملاحظة الذكية لخصائص الأشياء تسبب تنافذاً حسياً في عقد المقارنات.. وعلى قَدْرِتَنا فذ الحس تتولد خصائص المتشابهات"(1).
ومن الأساليب التي استخدمها الشعراء: التشبيه:
التشبيه
يكتسب التشبيه أهمية في شعرنا قبل الإسلام لما له من إيضاح وبيان حالة في مختلف المواضع التي يستخدمها الشاعر، سواء أكانت الحالة عامة أم خاصة، قوة أم ضعفاً، صلابة أم لينا، مدحاً أم ذماً، والتشبيه يزيد المعنى وضوحاً، ويكسبه تأكيداً"(2).
وقد وجدنا الشاعر الجاهلي يستمد تشبيهاته من واقعه الذي عاش فيه، فبيئته كانت زاخرة بالصور والمظاهر، فجاءت تشبيهاته انعكاساً لذلك الواقع المتنوع بتنوع المواقف والأحداث، ومع ما ينسجم والوضع النفسي للشاعر.
فيقدم الشاعر صوراً سمعية رائعة عبر تشبيهات واقعية ممتزجة بالمجاز، متضمنة الغرض المقصود "تذلل على دقة الوصف والتحليل"(3).
__________
(1) الاستعارة في البحث البلاغي، المفهوم الوصفي الاصطلاحي (بحث): 234.
(2) كتاب الصناعتين: 263.
(3) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي:27(1/236)
على أننا لا نعدم وجود تشبيهات وقعت في إسار المجاز، إلا أن ما يهمنا هنا هو التشبيه الذي جمع بين شيئين يدخل ضمن الحواس، وخاصة حاسة السمع، سواء أكان المشبه يشكل صورة سمعية أم المشبه به، وعند إيضاح المعنى وإكساب التأكيد من لدن الشاعر لا بد من استخدام الصورة السمعية لهذا الغرض في مواضع لا يمكن فيها إلا استخدام الصوت مما يستدعيه الموضوع، وتلازم الفكرة، وتعلق الصور الواحدة بالأخرى لإحداث التأثير المطلوب.
تنطلق التشبيهات مع ما ينسجم والموقف الذي يكون فيه الشاعر، ومن هذه المنطلقات فإن المهلهل وقت اشتداد الحرب بينه وبين بكر، ومقتل أخيه كليب، فإنه يشبّه بني الشقيقة (وهم حي من ذهل بن شيبان) بالأسود التي تلج بالزئير (صورة سمعية) وظفها الشاعر في التشبيه لما تستوعبه الصورة من تنامي في الحدث مع تصوير الانفعال النفسي:
فِدىً لبني الشقيقةِ يومَ جاءوا ... كَأُسْدِ الغاب لَجَّتْ في زئيرِ(1)
على أن الأفعال (جاءوا ولجت) أوحت بالحركة وخاصة (لجت) دلت على الالحاح.
ويشبه الشاعر غيظ الزوج (صوته المختنق) بصوت البكر (الفتى من الإبل) الصعب الذي يشبه حبل في خناقه ليراض به فيسمع له غطيط، هذه الصورة تدعو حاسة السمع إلى التقاطها والتواصل مع الإيقاع الذي تكون بفعل التكرار (غط- يغط) مع حالة الاختناق، فالتشبيه قام على غطيط البكر، فهو لغيظه يردد صوتاً كصوت المختنق، ولولا التوظيف السمعي الجيد لم تظهر الصورة البيانية بهذه البراعة:
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال(2)
فالتشبيه المنبثق من الصورة السمعية منحها أداء صوتياً أشاعه الموقف القوي للشاعر إزاء المشبه.
ويشبه زهير بن أبي سلمى صوت الإنسان بصوت الظليم والضفدع والدجاجة (النقيق).
__________
(1) أخبار المراقسة: 276
(2) امرؤ القيس: ق2/33(1/237)
ومن ضروب التشبيهات، مشي الحبيبة المتمهلة، فيخيل للناظر أنها تسير فوق أرض قد غطتها الأوحال، خشية الزلل، أو كأنها تشتكي ألما في بطن قدمها، بسببه لا تقوى على الإسراع، ولذلك فالتشبيه هنا حركة، على أننا نميل إلى المعنى الثاني (الشكوى من الألم) وما يثيره من توجع، فالصوت هنا إيحائي، كما عمد الشاعر إلى البحر البسيط وإيقاعاته التي لا تخلوا من الجرس الواضح، ولجوء الشاعر إلى التكرار والترصيع للتعويض عن الصوت الصريح:
غَرّاءُ، فرعاءُ، مصقولٌ عوارِضُها ... تَمشي الهُوينا كما يَمشي الوَجى الوَحِلُ(1)
فحركة المشي البطيئة شبهها الشاعر بمشي من به ألم، مما اضطر الأعشى إلى تحميل الجرس الداخلي مهمة أداء الصورة السمعية.
ويصور الأعشى صراخ القوم، حيث يشبهه بصرخة الحبلى التي تعينها القابلة في المخاض من خلال الملاحظة لهذه الحالة، فالتشبيه هنا قائم أساساً على الصورة السمعية، وقد انبثقت من الحالة التي تكون عليها الحبلى من آلام وصراخ، على أن تكرار حرف الصاد قد أدى إلى إيقاع متوتر، فضلاً عن القسم، ذلك كله ناشئ من حالة الشاعر النفسية المتوترة، حتى تداخلت الأصوات، لتظهر لنا معاناة الشاعر، بحيث لم يتضح المعنى في التشبيه، وإن كان قائماً على الصورة السمعية، بسبب اضطراب الشاعر، لا سيما البيت الثالث محذوف أصلاً سوى كلمة مما أخل بالمعنى والتشبيه:
فإنّي وربّ الساجدين عَشِيّةً ... وما صَكّ ناقوسُ النّصارى أبيلُها
أصالحكم حتى تبوؤا بمثلِها ... كصرخةِ حُبلى يَسَّرَتْها قَبولُها(2)
ويشبه لنا الشاعر صوت صدر زوجه بجرة فارغة إذا ما قرعت صوتت، إذ وظف تفصيل تلك الصورة السمعية من خلال الواقع المادي:
رجعتُ إلى صدرٍ كجرّةِ حَنْتَمٍ ... إذا قُرِعَتْ صفراً مِنَ الماءِ صَلّتِ(3)
__________
(1) الأعشى: ق6/55.
(2) الأعشى: ق53/177. الابيل: الراهب. القبول: المرأة التي تستقبل الولد عند الولادة.
(3) عمرو بن شأس الأسدي: ق10/79.(1/238)
إن أوضح سمات هذا التشبيه قيامه على الصورة السمعية التي انبثقت من حالة الشاعر النفسية المتأزمة في تصوير علاقته مع زوجه أم حسان، فقام التشبيه على الأصوات التي دلت على خلو الصدر من الحنان بدلالة تشبيهه بالجرة الفارغة إذا ما قرعت صوتت، وقد تميز هذا التشبيه ببراعة الشاعر، ومنحه قدرة الاستيعاب النفسي المنبعث من فقدان الحنان.
وقالوا في التحذير من ميسم الشعر، ومن شدة وقع اللسان، ومن بقاء أثره على المهجو(1)، حيث جرى تشبيه ما يجرحه اللسان بالهجاء والذم وشدته بما يبلغه السيف من أثر:
ولو عن نثاغيره جاءني ... وجُرْحُ اللسانِ كجرحِ اليَد
لقلتُ مِنَ القولِ ما لا يزا ... لُ يُؤْثَرُ عنّي يَدَ المُسْنَدِ(2)
نجد حالة الألم التي طغت على مشاعر امرئ القيس من خلال البحر المتقارب ذي النغم الرتيب، الذي انبثق من حالة الحزن والسهر، واستغراق النفس في الهدوء من أثر الحزن، وانتهى به إلى تشبيه الهجو والذم الذي تعرض له بالجرح، فكانت متابعة الشاعر تقريرية للتعبير عن حالته النفسية، بيد أن الأداء التصويري يتخذ مجرى آخر، حيث يعمد إلى الألفاظ السمعية (قلت- القول) التي تحفظ وتروي أبد الدهر.
إن تشبيهات اللسان بالحسام القاطع، والهجو الشديد، وحد السنان، والمقراض القاطع، تشبيهات أضحت تقليداً فنياً، بيد أن الشاعر ينطلق من الأثر النفسي في تصوير الهجاء على أشد ما يكون لحسم المواقف، لما له من أثر جارح، وما يلحق العار بالمهجو، ولذلك فإن هذا الغرض يتيح للشعراء ضربا من المعالجة الآنية، فضلاً عما يسبغه داخل نسيج الشعر من تنامي الانفعالات، وانفتاحها على الفخر، غير أن التشبيهات الجيدة لا تتشكل إلا بعد خفة حدة التوتر الآني وإتاحة فرصة للتأمل، ومن ذلك نجد الشاعر يخبرنا أنه أعط لساناً شبهه بالحسام يقطع به شغب العدو الألد:
__________
(1) البيان والتبيين: 1/156.
(2) امرؤ القيس: ق32/185-186، نثا: حدث بالخبر وإشاعه وأظهره.(1/239)
فولّيت ذا مجدٍ وأعطيت مسحلا ... حُساماً به شَغْبُ الألَدّ نَهوضُ(1)
وأراد الشاعر الهجو الشديد، فشبه اللسان المراد به الكلام النافذ القوي الذي يبلغ في الكناية كأوسع ما يكون الجرح عليه من وسع(2).
ويشبه الشاعر الحجج المفحمة القاطعة للعدو (وقع اللسان) بحد السنان، وهو في موضع الفخر بعد أن كبر سنه، وقد تجاوب البحر المتقارب برتابة نغمه مع كبر سنه:
فأصبحتُ أعُددتُ للنائبا ... تِ عرضاً بريئاً وعضّباً صقيلا
ووقعَ لسان كَحَدّ السّنانِ ... ورمحاً طويلَ القناةِ عَسولا(3)
على أن النغم الذي أحدثه حرف السين المنتشر في البيت الثاني قد أدى مهمة حماسية تمخض القول فيه عن التشبيه.
ويشبه الأعشى لسانه بالمقراض من قصيدة له في هجاء بعض قومه ومعاتبتهم بعدما كبر وكف بصره، فلم يبق له إلا لسانه للدفاع عن أعراضهم، فالتشبيه قام أساساً على الصورة السمعية:
وادفعُ عنْ أعراضِكم وأعيركم ... لساناً كمقراضِ الخَفاجيّ مِلْحَبا(4)
في حين يشبه الكلام الشديد، والمناظرة الحامية بالسهام، وانطلق في تشبيهه من الصوت والحركة في إطار بحر الرمل الذي امتاز بإيقاعاته المتلاحقة التي انسجمت مع تدفق الشاعر:
إذا دعتني عامرٌ انصرُها ... فالتقى الألسنْ كالنبلِ الدّول(5)
وتشبه الخنساء القافية (القصيدة) – المقصود بها الهجاء- بحد السنان(6) ووقع القافية (قصيدة الهجاء) مثل وقع الصخرة بشدتها(7)، وتلك التشبيهات لم تخرج في إطارها الفني والموضوعي عما سبقها من تشبيهات.
ويشبه الشاعر صوت الإبل وهي تحن بدف مخروق، وهو أبحّ الصوت:
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق31/81 نهوض: تحطيم.
(2) طرفة بن العبد: 92/ ب6، وص136/ ب4. عامر بن الطفيل: 20.
(3) عبد قيس بن خفاف، المفضليات، المفضلية: 117. العسول: المضطرب اللين.
(4) ديوانه: ق14/117.
(5) لبيد: ق25/194.
(6) أنيس الجلساء: 216
(7) تميم بن مقبل: ق31/26/231(1/240)
تتبع جُوُناً إذا ما هيّجتْ زَجلتْ ... كانَ دُفّاً على علياءَ مهزومُ(1)
يصف الشاعر لنا حالته في السفر أو الغزو، هو وقومه، حيث يصحبون معهم الإبل ويقودون الخيل للحفاظ على نشاطها، بيد أن تلك الإبل إذا ما هيجت للحلب ارتفعت أصواتها وحن بعضها إلى بعض.
وشبه هذا الحنين بالدف المخروق للبحة في أصواتها (حنينها)، أو أن حنينها لكثرتها يشبه هزمة الرعد (صوته) وهو على مكان مرتفع، لكون الحنين أو صوت الرعد يكون أبين في السمع.
إن هذا التشبيه المستمد من البيئة تم قيامه على الصورة السمعية، بدلالة المفردات الإيقاعية المتمثلة بـ (الزجل) وتشبيهها بالدف المخروق مما تساوق الحنين المبحوح بصوت الدفء المبحوح أيضاً، على أن البحر البسيط بإيقاعاته وتوزيع نغمه، استطاع أن يستوعب التشبيه بتدفقه وتشكيله عبر الصورة السمعية.
ويشبه حنين الإبل وصوتها بصوت القصب المجوف الذي تمسكه أيدي الزامرين، قال سبيع بن الخطيم التيمي:
بانَتْ صَدوفٌ فقلبُه مخطوفُ ... ونأتْ بجانبها عليكَ صَدُوفُ
إمّا تَرَى إبلي كأن صدورَها ... قَصَبٌ بأيدي الزامرينَ مَجُوفُ
فزجرتُها لمّا أذَيتُ بِسَجْرِها ... وقفا الحنينَ تَجَرّرٌ وصَريفُ(2)
استخدم الشاعر الصورة السمعية في تشكيل تشبيهه للإبل التي تحن وصوتها مثل صوت القصب، وإن كان الشاعر قد استمد تشبيهه من البيئة، بيد أنه عبر عن حالته النفسية وحنينه لصاحبته (صدوف) التي رحلت عنه، وخلفت حنينه إليها الذي تخفى وراء إبله الذي لم ينقطع، بل تبعه التجرر والصريف، واختار الشاعر لفظة (التجرر) إلى الذكريات التي بدأ يستعيدها.
__________
(1) علقمة الفحل: ق2/74.
(2) المفضليات، المفضلية 112. بانت: انقطعت. نأت: بعد. المجوف: الواسع الجوف، يريد أن أبله تحن. أذيت: تأذيت. السجر: فوق الحنين من الإبل قفا: تبع. التجرر: التفعل من الجرة، وهي ما يخرجه البعير ونحوه من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.(1/241)
إن اختيار سبيع للألفاظ ذات الدلالتين السمعية والإيقاعية كان موفقاً إلى جانب استخدامه للفنون البيانية مع الظرف النفسي للتعبير عن حنينه العارم، فضلاً عن البحر الكامل وحدة إيقاعه الذي استوعب حالته النفسية مع ما في حرفي الفاء والصاد المتكررين اللذين اختارهما من اسم صاحبته (صدوف) من جرس موسيقي لتشكيل الصورة السمعية الكلية بما فيها التشبيه.
ومن التشبيهات التي شكلها الشعراء، تشبيه صريف الناب مثل تغريد الحمام(1) وصريف ناب الجمل بترنم طائر الاخطبان، دلالة على نشاطه وقوته وقدرته على التحمل، فيحرك نابيه لينتج عنهما صريف يترنم به باعثه النشاط والفرح:
كأنَ صريفَ نابيه إذا ما ... أمَرَهُما تَرْنمُ أخطبانِ(2)
فأصل التشبيه قام على الصوت الذي انطلق من مرور الناب على الناب كأنه ترنم الطائر، وثمة تشبيهات سلك الشعراء فيها مسلكاً تقليدياً من حيث تشبيه الناقة بالأصوات المختلفة دلالة على نشاطها وحيويتها مثل تشبيه صراخها بصرير الأخطب(3)، أو بصوت الدجاج وقت الصبح(4)، كما جرى تشبيه صوت النوق انينهن عند المشقة والتعب بصوت النائحات وتحاورهن(5)، ويشبه الشاعر صياح الناقة وجلبتها بصرير شوكة الحائك التي يسوى بها السداة واللحمة، معتمداً الأصوات الناتجة عن الشوكة على أن الشاعر قد استعان بأصوات الحروف مثل (الصاد والسين) لتقوية الأداء النغمي لضعف صوت الشوكة، على أن صوت الصاد لم يسلم من الثقل في (صرير الصياصي) لتقارب مخرجهما وتقاربهما في تشكيلة الحروف:
__________
(1) المثقب العبدي: ق هـ /29/37.
(2) زهير بن أبي سلمى: ق51/286. أمرهما: حركهما. الخطبة: الخضرة، الاخطبان: طائر.
(3) الشماخ: ق4/2/426. ملحق الديوان، وينظر ديوان تميم بن مقبل: ق30/14/219.
(4) الشماخ: ق5/41/144.
(5) المصدر نفسه: ق1/6/68.(1/242)
وإنْ ضُرِبَتْ بالسّوطِ صَرَّتْ بنابِها ... صريرَ الصيّاصي في النسيجِ المُمَّدَدِ(1)
وفي مجال تشبيه صوت قائمتي الناقة الأماميتين في مسيرها بنواح آبنة الجون، وانطلق التشبيه من صوت الحصى المتطاير مثل نواح تلك المرأة المشهورة بنواحها، وقد شارك الأداء الموسيقي في إبراز رنة الحزن ومتساوقاً معها، فضلاً عن الألفاظ التي توالت الكسرة فيها جاءت منسجمة وحالة الندب والنوح مع تصوير حركة الناقة مع النائحة التي تضرب صدرها بجلد:
كأنما أوبَ يديها إلى ... حيزومها فوقَ حصى الفَدْفَدِ
نوحُ آبنةِ الجون على هالكٍ ... تندبه رافعةَ المْجلَدِ(2)
ووصف الشعراء سير الإبل، وتطاير الحصى أو الحجارة، والأصوات المختلفة التي تظهر من جراء سرعتها، فقد شبه امرؤ القيس صوت الحجارة التي ترميها الناقة ووقوع بعضها على بعض بصوت الدراهم الرديئة، لأن صوتها أشد من صوت غيرها لكثرة نحاسها: معتمداً على الصورة السمعية بين المشبه به، وتكرار الصاد، والأصوات المنبعثة من البيت أدت إلى الإيقاع العالي، الذي نشأ من جراء حرف الصاد في (صليل) وصوت النقود الزائفة مما يدلل على نشاطها لا سيما أن راكبها فتى نشيط:
كأن صليلَ المروحين تطيرهُ ... صليلُ زيوفٍ يُنْتَقدنَ بعبقرا(3)
__________
(1) الحطيئة: ق7/75 (الهامش)
(2) المثقب العبدي: ق أ/8 ابنة الجون: امرأة من كندة عرفت بشدة النوح. المجلد جلد تضرب به النائحة صدرها. الحيزوم: وسط الصدر.
(3) امرؤ القيس: ق4/64. الصليل: الصوت. المرو: الحجارة.(1/243)
وقد شبه طرفة بن العبد صوت تكسر الحجارة بالفراش الطائر(1)، على أن من تشبيهات الشعراء مشي الناقة في باطن الوادي واصطدام وظيفتها بالحصى الغليظ بالتعزاف المرن(2)، وتشبيه صوت رمي الحصى المتفرق على جانبيها بصوت أبح من الرنين(3)، وتشبيه ما تنفي يداها من الحصى بحجارة تقذف بها رحى اليد التي يقال لها غريبة التي يتعاوها الجيران، إذ اعتمد الشاعر الإيحاء المتمثل بصوت ما تقذفه يداها، كما أوحى بصوت الرحى وما تقذفه، على أن أصوات الحروف المتكررة (الفاء) والألفاظ (نفي)، (ما تنفي) والنون والتنوين وما فيهما من ترنم وغنة قد أشاعا الصوت في نسيج البيت الشعري:
كأن نفيّ ما تنفي يداها ... قذاف غريبةٍ بيدَيْ مُعينِ(4)
وقد شبهوا أخفاف الإبل وهي تكسر الحصى بالمطارق:
ولها مناسُم كالمواقع لا ... مُعْرٌ أُشاعِرُها ولا دُرْمُ(5)
لكي يمنح الشاعر لتلك الأخفاف القوة جردها من الشعر واللحم وشبهها بالمطارق، ولتقوية الأداء الإيقاعي استخدم حرف (العين) الحلقي في بعض الألفاظ، كما أشاع (الميم) للغرض نفسه.
__________
(1) ديوانه: 55/ ب31
(2) المثقب العبدي: ق أ 18-19/9.
(3) المصدر السابق: ق هـ 26/36.
(4) المصدر نفسه: ق هـ 27/37. المعين: إن يستعين مدير الرحى بيد رجل أو امرأة يضع على يده إذا أدارها.
(5) المخبل السعدي، المفضليات، المفضلية: 21/ ب31. المنسم: طرف خف البعير، المواقع: المطارق: معر: جمع أمعر: وهو قليل الشعر. درم جمع ادرم: لم يتبين حجمه لكثرة لحمه.(1/244)
أما الخيل فقد شبهها الشعراء بمختلف التشبيهات، ولكننا وجدنا بشر بن أبي خازم يشبه زفير المنهزم من العدو بنحيط الخيل (أصوات زفيرها من الأعياء)(1) ، وقد ذهب امرؤ القيس إلى تشبيه الشيء بالشيء حركة وخاصة السرعة(2)، وقد شبه حفيف الفرس بصوت الريح الذي يمر بشجر الأثاب فيزداد الصوت(3)، كما شبه صوت جوفه عند الجري بغلي المرجل(4)، وشبه سرعة الفرس يف عدوها وإحضارها بصوت النار في السعف(5).
وشبه استجابة إناث الخيل لصوت الفحل، باستجابة الحسان إلى صوت المغني، لما في صوت الفحل من تأثير يدعو إلى الاستجابة، كما هو صوت المغني الجيد الذي له قدرة كامنة لإثارة المتلقين واستجابتهم له، وقد اعتمد الشاعر الألفاظ السمعية (الصوت ومسمع) فضلاً عن النون والتنوين اللذين أشاعا جرسا موسيقياً معبراً عن الصورة السمعية:
إذا دعاهن ارعوين لصوتِه ... كما يرعوى غيدٌ إلى صوتِ مُسْمِعِ(6)
وشبه الشاعر صوت الفرس لحسنه بصوت المزامير(7)، وصياح الخيل بصياح الندامى(8)، والخيل سهلة العدو في تباري الأسنة كأنها كلاب مسعورة أحست بصوت الكلاب(9)، وتشبيه صوت الفرس بصوت الحجر الذي يرميه الصبي(10).
على أن علقمة الفحل قد شبه نقنقة الظليم للنعامة بما لا يفهمه غيرهما بتراطن الروم بما لا يفهمه غيرهم:
يوحي إليها بإنقاضٍ ونقنقةٍ ... كما تراطنَ في أفدانِها الروُم(11)
__________
(1) ديوانه: ق9/17/46.
(2) ديوانه: ق1/50/19.
(3) امرؤ القيس: ق3/31/49.
(4) المصدر نفسه: ق1/53/20.
(5) المصدر نفسه: ق32/12/187.
(6) الطفيل الغنوي: ق4/52.
(7) المزرد: ق2/17/35
(8) عمرو بن معد يكرب: ق42/2/107.
(9) الطفيل الغنوي: ق1/26/24
(10) تميم بن مقيل : 10/71/99.
(11) ديوانه: ق2/62.(1/245)
ويصف أن مقبل الظليم المرتاع، ويشبه صوته بهدير الفحل بين الإبل(1) ويشبه صوت الحمار بصوت إنسان يدعو صاحبه ويناديه(2)، ويشبه حمي جوفه من شدة عدوه جرياً بعد جري بقمقم يغلي(3)، وكأن ترديد صوت نهاقه بصوت من يتغنى بالرجز(4)، كما شبه صوته بصوت الحادي، أو صوت مزمار(5) وصوت منخريه (صوت الشهيق) بحركة منفاخ الحداد وصوته(6).
ومما شبه جرع الحمير الماء وصوته في حلوقهن بصوت حصى يقذف في الماء، ونجد أن البحر المتقارب قد استوعب الصورة العامة، والتشبيه بخاصة فضلاً عن النغمة التي شكلتها أصوات النون والقافية والعين والتاء:
يبادِرنَ جَرْعاً يواتِرْنَهُ ... كفرعِ القليب حصى القاذفينا(7)
وقال تميم بن مقبل مشبهاً صخب حمار الوحش، وكثرة صياحه بصياح عبد اغار العدو على أهله في الصباح:
صَخِبٌ كأنَ دعاءَ عبدِ منافَةٍ ... في رأسهِ عقب الصّباحِ الجافل(8)
ومما تقدم فإن تشبيهات الشعراء قامت على الصورة السمعية بدلالة ألفاظها أو الإيقاعات الداخلية وهي تشبيهات مستمدة من البيئة.
وينتقل الشعراء إلى تشبيه الشيء بالشيء صوتاً وحركة وهيئة، من ذلك تشبيه غناء الذباب بصوت الشارب المترنم، وهو من التشبيهات العقم، من يقلدها يفتضح أمره، ولم يسبق أصحابها إليها، ولا تعدى أحد بعدهم عليها، واشتقاقها فيما ذكر من الريح العقيم، وهي التي لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة"(9)، وبهذا الصدد قال عنترة العبسي:
فترى الذّبابَ بها يُغنّي وَحْدَهُ ... هِزَجاً كفعلِ الشاربِ المُترنّمِ
__________
(1) ديوانه: ق10/62/95.
(2) زهير بن أبي سلمى: ق 11/37/133.
(3) الأعشى: ق15/23/121.
(4) الشماخ: ق 8/51/199
(5) الشماخ: ق6/17/155
(6) المصدر نفسه: ق6/16/155.
(7) كعب بن زهير: 108.
(8) ديوانه: ق30/224.
(9) العمدة: 1/298. منهاج البلغاء: 194-195.(1/246)
غَرِداً يسنّ ذراعَهُ بذراعِهِ ... فعلَ المُكبِّ على الزنادِ الأجْذَمِ(1)
قام الوصف أساساً لتكوين الصورة السمعية العامة، وبالتالي إقامة التشبيه على تلك الصورة، إن وجود روضة كثيرة العشب، مخصبة يألفها الذباب، ويكثر طنينه فيها، من هذا المنظر استمد عنترة تشبيهه لطنين الذباب الذي لا يفهم أطلق عليه تسمية (الغناء)، وشبهه بغناء السكران وتتابع صوته الذي يمده ويرجعه في غمرة النشوة، وقد لا يفهم من السكران شيء كما هو طنين الذباب، كما وشبه عنترة العبسي (الذباب) يحك ذراعيه الواحدة بالأخرى، برجل مقطوع الكفين يورى زناداً بحده بين ذراعيه.
إن الشاعر قد عالج الصورة السمعية العامة والتشبيه القائم عليها بفنية وصياغة بارعة اتسمت بجمال الأداء الفني، مستخدماً ما فيها الأصوات السمعية والإيقاعية، مع الحركة وما يصاحبها من صوت في (يسن، فعل المكب)، على أن تكرار الأصوات (للغناء، الهزج، الترنم، الغرد، السن) مع ما في البحر الكامل من تتابع في الإيقاع ونغمة عالية أدى ذلك كله إلى الأداء الصوتي المعبر والتشبيه المتميز الذي سمي بالعقم وأثار الإعجاب بالبيتين.
في حين نجد كعب بن زهير حاول تقليد تلك الصورة، أو في الأقل الاقتراب منها مشبهاً طنين الذباب غير المفهوم بغناء السكران الذي تعقد لسانه، فهو يغني ولا يفهم من غنائه شيء، وإن قام التشبيه على الصورة السمعية، لكنه لم يكن بتلك الجودة والبراعة التي امتلكها عنترة في تشكيل تلك الصور، قال كعب بن زهير:
ومستأسدٍ يندى كأنَ ذُبابهُ ... أخو الخمر هاجْت شوَقُه فتذّكرا(2)
كما شبه الحطيئة صوت الذباب بصوت الشارب المتغرد، ولكنه لم يكن هو الآخر بجودة تشبيه عنترة ولا يرقى إليه، قال الحطيئة:
تُراقبُ عيناها إذا تَلَعَ الضُحى ... ذُباباً كصوتِ الشاربِ المُتّغرِدِ(3)
__________
(1) عنترة العبسي: ق1/197-198.
(2) ديوانه: 123.
(3) ديوانه: ق5/ 77(1/247)
ومن الشعراء من شبه صوت الذباب وفتنة طيرانه في العشب بصهيل الخيل لقوة الطنين(1).
وتتعدد التشبيهات القائمة على الصورة السمعية، وفي إطار تشبيه الشعراء غناء الحمام بغناء السكارى قال الطفيل الغنوي:
يغنّي الحمام فوقها كلَ شارقٍ ... غناءَ السّكارى في عريشٍ مُظللِ(2)
وجرى تشبيه غناء الحمام بالغناء المطلق(3)، وبمأتم أنواح(4)، وبأصوات نساء من النبط مثاكيل اجتمعن للنوح(5).
وفي مجال القطا شبه الشعراء أصوات أفراخ القطا بقراءة عجم(6) وثمة من شبه أصوات أسراب القطا لكثرتها في القفز بأصوات زجال حداة(7).
ومن الشعراء من شبه أصوات الطير بشكل عام بأصوات (الجرّام) الذين يصرمون التمر(8).
وضمن لوحة الطلل شبه الشاعر السحاب الذي لرعده صوت بصوت اليراع، تعويضاً عن عدم إجابة الطلل له، وقد أقام التشبيه على الصوت الصريح، واللفظة المتضمنة صوت الرعد (الهزيم) ذات الدلالة الإيقاعية، فتكرار الألفاظ (صوته –صوت)، وحرف الصاد والهاء، أدى ذلك إلى إشاعة النغم وتدفقه المنسجم مع البحر الوافر الذي استطاع أن يحتوي مشاعر الألم والفراق والبكاء:
عفاها كلُ هطّالٍ هزيمٍ ... يُشَبَّهُ صوتُهُ صوتَ اليَراعِ(9)
وثمة من شبه صوت الرعد بصوت الرحى(10)، وتشبيه صوت الرعد والرياح بالذي يرفع الطبل فيضربه(11)، وشبه عروة بن الورد زئير الأسد بصوت الرعد لشدته وقوته (12).
__________
(1) تميم بن مقبل: ق38/3/289- ق39/30/309.
(2) الطفيل الغنوي: ق6/64.
(3) تميم بن مقبل: ق41 /16-17/320.
(4) عمرو بن شأس الأسدي: ق1/10/29.
(5) تميم بن مقبل: ق41/17/320.
(6) كعب بن زهير: 77/ ب15.
(7) تميم بن مقبل: ق41/15/319.
(8) النمر بن تولب: ق42/9/112.
(9) بشر بن أبي خازم: ق23/109. الهزيم: السحاب الذي لرعده صوت.
(10) امرؤ القيس: ق60/9/266.
(11) المصدر نفسه: ق78/20/328.
(12) ديوانه: 62.(1/248)
ومن تشبيهات صوت القتال بصوت الحريق الذي يأتي على أجمة القصب قول المفضل النكري:
كأنَ هزيزنا يوم التقينا ... هزيز أباءةٍ فيها حريقُ(1)
استخدم الشاعر (الهزيز) مكرراً، الذي يعني الصوت سواء أكان من صوت دوران الرحى، أم صوت حركة الريح، لما يمنحه التكرار من نغم، فضلاً عن النون والتنوين في (التقينا) وتنوين تاء (إباءة) التي استوعب البحر الوافر تلك الأصوات الداخلية في تتبع الصورة عبر التفعيلة المتكررة (مفاعلتين)، والتفعيلة (فعولن) التي ضمت (اللقاء) الذي أدى إلى حدوث الحريق، هذا اللقاء أو التماس، أو الاحتكاك أدى إلى الحريق المصحوب بالصوت، صوت اللقاء وصوت الحريق.
ومن تشبيهات أوس بن حجر للسحاب المحمل بالمطر وصوت الرعد المصاحب له بالنوق العشار التي خشنت أصواتها، وهمت بأرشاح لبنها قوله:
فالتَج أعلاهُ ثم ارتجَ أسفلُه ... وضاقَ ذرعاً بحملِ الماء منصاحِ
ينزُع جلدَ الحصى أجشّ مبتَركُ ... كأنه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي
كأنَ فيه عشاراً جلّةً شُرُفاً ... شُعْثاً لها ميمَ قد همّتْ بإرشاحِ(2)
إن الصورة السمعية الكلية التي شكلها أوس بن حجر، وقيام التشبيه عليها إنما ترشحت من الأثر النفسي ومشاعر الغبطة من خلال وصف السحاب المشبع بالماء، حيث صور صوت أعلى السحاب وأسفله بصوت غليظ، وماء الغيث يسوق أمامه كل ما يعترضه، ولقوته (ينزع جلد الحصى)، وقد شبه صوت الرعد في السحاب كأن فيه النوق العشار التي بحت حناجرها
__________
(1) الأصمعيات الأصمعية: 69.
(2) أوس بن حجر: ق5/16-17. التج: صوت. منصاح: منشق بالماء. ابترك: أسرع في العد ووجد فيه. الداحي الذي يلعب بالخشبة تمر على وجه الأرض. اللهاميم: النوق. أرشاح: إذا اشتد فصيل الناقة وقوي لأنها تحن.(1/249)
واستطاع أوس إلى جانب تشبيه الرعد بصوت النوق التي انتجت وهي تسيم وترعى أولادها، إن يشيع نغما داخلياً عبر الجرس المنبثق من تكررا أحرف (الحاء) و(الجيم) ، و(الشين)، فضلاً عن توظيف الترصيع الذي أسبغ إيقاعاً مضافاً مع تتابع النون والتنوين ليتساوق الإيقاعان الخارجي مع الجرس الموسيقي داخل نسيج الأبيات، لنقل مشاعر الفرح وإيصال الحالة النفسية للشاعر من خلال الصورة السمعية، والتشبيه السمعي الصريح مع الأداء الإيقاعي المتميز الذي عمد اوس إلى إقامته ليتميز بقدرته الفنية وبراعته في نقل الأثر النفسي الذي أحس به، على أن أوسا قد أحسن في وصف السحاب بصورته السمعية العامة وتشبيهه القائم عليها.
وشبه أصوات الرعد في السحاب بأصوات مرباع غانم، صاحب الجيش:
كأنَ فيهِ لمّا ارتفقتُ له ... رَبْطاً ومرباعَ غانمٍ لَجبا(1)
ومن الشعراء من شبه صوت الريح المتردد في جنبات الصحراء وأرجائها الذي يغرس الرعب في القلوب بصرخات الجن في جلبتها ولعبها، فإلى جانب صوت الريح استخدام الشاعر حرف الجيم الذي أشاع أداء صوتياً ونغماً يتساوق مع الرهبة من الجن:
كأنَ هزيزَ الريح بين فروجِهِ ... عوازفُ جنٍ زرنَ جنّاً بِجَيْهَما(2)
ومنهم من شبه صوت السيف ورنته المحزنة بصوت الأبكار اللائي زففن عرائس لهن صوت فيه أسى وهن أسيرات، أو مفارقات للأهل، أو زففن دون رغبتهن، فالتشبيه غريب وإن قام على الصورة السمعية.
ونسمع للهندي في البيض رنة ... كرنةِ أبكارٍ زُففن عرائسا(3)
وشبه علقمة الفحل صوت الدروع بخشخشة الحصاد إذا ما هبت عليه ريح الجنوب:
تَخَشْخَشُ أبدانُ الحديدِ عليهمُ ... كما خشخشت يبسَ الحصادِ جَنوبُ(4)
__________
(1) لبيد: ق4/30.
(2) الشماخ: ق44/ ملحق الديوان/ 461، جيهم: موضع يكثر فيه الجن.
(3) عمرو بن معد يكرب: ق45/114.
(4) ديوانه: ق1/45.(1/250)
هذا البيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر الحارث بن شمر، ويصف مقاتليه بالبطولة والشجاعة بحيث أن الدروع التي يلبسونها تخشخش (تصوت صوتاً خفيفاً من جانب ولسرعة التنقل في الحرب من جانب آخر، وشبهها بالحصاد اليابس الذي يصوت إذا ما هبت الريح، على أن البحر الطويل قد استوعب تدفق الحالة النفسية للشاعر لا سيما أن أخاه قد وقع أسيراً لدى الممدوح، وتكرار (الخشخشة) أدّى إلى حدوث انسجام في الأداء الإيقاعي.
وشبه الأعشى صوت الدروع بحفيف الحصاد حين تهزه الريح العنيفة في سكون الليل(1)، وجرى تشبيه صوت وتر القوس بصوت الثكلى(2)، وصوت الوتر بصوت الناقة العاطف على البو(3) وهي الناقة المرزأة بولدها.
ونجد عدة تشبيهات لدى تميم بن مقبل حيث يقول:
في ظهر مَرْتٍ عساقيلُ السرابِ بهِ ... كأنَ وَغْرُ قطاهُ وغْرُ حادينا
كأنَ أصواتَ أبكارِ الحمام به ... من كلِ محنّيةٍ منهُ يُغنينا
أصواتُ نسوانِ أنباطِ بمصنعةٍ ... يَجّدْنَ للنوح واجتبنَ التّبابينا
صوتُ النواقيس فيه ما تفرطهُ ... أيدي الجلاذي وجُونٌ ما يُغفّينا
كأنَ أصواتها مِنْ حيثُ تسمعُها ... صوتُ المحابضِ يَخلجن المحارينا(4)
__________
(1) ديوانه: ق12/47/99.
(2) الشنفري، لامية العرب: 34، وينظر ديوان الشماخ: ق8/37-191.
(3) كعب بن زهير 149.
(4) ديوانه: ق41/321. الجلاذي: خدام المعبد. الجون: المصابيح، المحابض: اخشاب يخلجن: يذبن. المحارين: حب القطن. المرت: القفر. المصنعة: قرية. يجدن: لبسن. التباين: السراويل القصيرة.(1/251)
إن تأمل الأداء الصوتي في أبيات الشاعر قد انبثق من لوحة الطلل بعد أن عرج على ديار الحبيبة لتحيتها، وقد وصف لنا الطريق الذي سلكه، مستخدماً التشبيه في تشكيل صورة البيانية القائمة على تشبيه أصوات القطاة لكثرتها بأصوات الحادين، وانطلق في التشبيه الثاني من أصوات أبكار الحمام بأصوات نساء من النبط مثاكيل اجتمعن للنوح، وقام الثالث على تشبيه أصوات النواقيس بأصوات منادف ينزع بها الحب عن القطن، وقد انطلقت تلك التشبيهات من الصور السمعية التي شكلها الشاعر من دقة ملاحظاته، سواء أكان في الإطار البياني، أم في إطار الصورة العامة، علماً أنه استخدم (الأصوات) الصريحة: أصوات الحمام، وأصوات النساء، وأصوات النواقيس، واستخدم الوغر (الصوت) فضلاً عن لفظة (تسمعها) الصريحة، كما أن تكرار (الصاد) الذي أشاع نغماً منسجماً مع حالة التوتر ومواجع الألم في نفس الشاعر التي احتواها البحر البسيط عبر إيقاعاته لما امتاز به هذا البحر من تدفق صوتي ساعد على استيعاب حالة الألم التي اعترت الشاعر إزاء الحبيبة واندراس الأثر، والقفر الموحشة، مما أدى به إلى تشبيه أصوات القطاة بأصوات الحداة حين يسرقون ركب الحبيبة، وكذلك أصوات أبكار الحمام بأصوات نساء قبطيات نائحات، فكانت تشبيهاته منسجمة مع حالته النفسية التي عبرت عنها الأصوات والتشبيهات وجلبة إيقاع البحر والنغم العام.
وشبه الشاعر صوت الحلي بصوت الريح، مستخدماً صوت السين المهموس لتقوية النغم، وتحسين الأداء الصوتي بما ينسجم والتشبيه القائم على الصورة السمعية ليمتع سمعه بمشيتها من خلال ما يحدثه الحلي من أصوات:
تَسْمَعِ للْحَلي وسواساً إذا انصرفتْ
كما استعانَ بريحٍ عِشرقٌ زَجِلُ(1)
__________
(1) الأعشى: ق6/55. العشرق: شجرة فيها حب صغار. الزجل: الصوت الرفيع.(1/252)
وشبه تميم بن مقبل تردد أصوات الدلاء في البئر بأصوات كؤوس الشراب، وآلات العزف كالمزهر، وهو تشبيه مستمد من البيئة البدوية والحضرية(1).
الاستعارة
الاستعارة ذات تأثير وإثارة حين تتفاعل مع أطرافها في نسيج الشعر ببراعة الشاعر فتظهر الصورة بعامة، والصورة السمعية بخاصة حين يتلقاها المستمع، لما لها من قدرة على التصوير، لأن "الاستعارة تفعل في نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة"(2).
ومن خصائصها أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ.. فإنك لترى بها الجماد حيا ناطقاً،.. والأجسام الخرس مبينة.."(3).
والاستعارة علاقة لغوية تكون صوراً تقوم على انتقالات الألفاظ المختلفة بأصواتها بين الدلالات الثابتة للكلمات المختلفة، ومن هنا تقوم حيوية الاستعارة وعدم الثبات(4).
قال امرؤ القيس:
وليلٍ كموجِ البحر أرخى سدولَهُ ... عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بجوزِهِ ... وأردفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ
ألا أيّها الليلُ الطويلُ ألا انجلي ... بصبحٍ وما الأصباحُ فيكَ بأمثلِ(5)
في إطار الحالة النفسية ينقلنا الشاعر عبرا استعاراته إلى صور سمعية توضح لنا ضيقه بالحياة، وتبرمه منها بما شكله من لفظ يعبر عن المشافهة والسماع (فقلت)، والحركة بالأفعال (غطى، وأردف، وناء).
وإن كان شبه الليل بموج البحر فقد استعار لليل السدول امعاناً منه في التعبير عن الظلام الشديد الذي لا ينتهي، متستراً وراء المحسوسات اللونية، فهو استعار لليل جوزاً (وسطاً) يمتطى، وإعجازاً وكلكلاً ينوء به، للدلالة على البطء الشديد كما البعير إذا نهض بصدره يتحول ثقله إلى مؤخرته، ولا يستطيع النهوض إلا بصعوبة وبطء.
__________
(1) ديوانه: ق16/8/125.
(2) كتاب الصناعتين: 275.
(3) أسرار البلاغة: 41.
(4) ينظر العبارة: 19، وينظر كتاب: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين: 214.
(5) ديوانه: ق1/18.(1/253)
عبر هذه الصورة التي انتشرت فيها الأفعال والحركات البطيئة التي كونت استعارات ناجحة صوَّر لنا تبرمه، وضيقه، وقلقه النفسي، وعدم انفراج أزمته في استرداد مملكة أبيع الضائعة(1)، حيث آلى إلا أن يشرك السمع في الصورة المشتركة بين البصر والسمع واللمس.
وفي صورة استعارية اشتركت فيها المدركات الحسية: السمعية والذوقية والبصرية (اللون) والشمية لمتابعة النشوة التي تمتع بها، وآثر الشاعر تحفيز حاسة السمع إذا لم يقو على إبقاء تلك النشوة مستترة، فاعلن عنها بالقول وللتوكيد في استيعاب المتعة عبر الأثر النفسي المنبثق من اللحظة المفرحة.
إذا ذقت فاها قلتُ: طعمُ مُدامةٍ ... مُشَعْشِعَةٍ تُرخي الإزارَ قديح(2)
على أن الصور السمعية تترى من خلال استعارات الشعراء مثل استعارة التغريد لحمار الوحش(3)، والبقاء في الديار من خلال القرينة (يغنيهم فيها نقيق الضفادع)(4)، وشكوى الفرس بعبرة وتحمحم(5)، والطلب من الناقة أن تنتجع الأسود، مشبها الأسود بالمرعى بعد أن طلب منها ألا تشتكي(6).
__________
(1) ينظر الغربة والحنين في الشعر العربي قبل الإسلام 124.
(2) عبيد بن الأبرص: ق10/29- البيت فيه إقواء.
(3) امرؤ القيس: ق3/45.
(4) النابغة الذبياني: 172.
(5) عنترة العبسي: ق1/75-77-217-218.
(6) الأعشى: ق1/33-37/7.(1/254)
وقد صور لنا المسيب بن علس جيشاً كثيفاً بمجرد أنهم قد دعوا دعوة(1)، وتبليغ النعمان بالذم (فمجدك حولي ولؤمك قارح)(2)، في حين وضع الأعشى أمامنا صورة سميعة في تصريحه بقيام الأسود وزئيرها بدلالة المحذوف (كيد الأعداء) ووجود القرينة المانعة (لا يستفز) أي لا يخاف، وقد انبثقت الاستعارة هنا من الصورة السمعية، في مسلك فني استوعب قدرة الشاعر على التعبير، والإفادة من الأداء السمعي في (الزئير) الذي يفتخر بأنه لا يستفزه بالرغم من الطاقة التصويرية التي تحملها تلك اللفظة، وقد منحت الاستعارة هنا الصورة أبعادها النفسية بالرغم من الرتابة في البحر المتقارب:
وقد يئس الأعداءُ أنْ يستفزني ... قيامُ الأسودِ وثْبُها وزئيرها(3)
ويضعنا أوس بن حجر أمام صورة الحديث الذي ينتهب(4)، ويصور لنا الشاعر القصيدة الغربية التي تنتقل على أفواه الرواة (بلفظ المشبه) وحذف المشبه بـ (القصيدة/ الفتاة) بقرينة مانعة (حكيمة)(5)، في الوقت الذي يضع أمامنا صورة التهديد المتبادل وقول القوافي (القصائد) التي تذهب مذهب الأمثال، وتبقى على السنة الرواة ولا تنسى(6) فهي استعارات قائمة أصلاً على التصوير السمعي، لكونه المنطلق الأساس في تركيب تلك الاستعارات.
وقد صور لنا الشتائم (المشبه المحذوف) بعقارب القول التي يزجيها (المشبه به) لنتخيل القول القارص(7) مع ما يحمله القول القارص من انفعال نفسي حاد يمثله الاغتراب الذي شكل تلك الصورة الاستعارية.
ومزج الأعلم الهذلي بين الصورة السمعية والبصرية حين شبه أهله بالعراء حين ذكرهم بالشعث التوالب لما فيها من غبرة وبذاذة الهيئة وسوء الحال(8).
__________
(1) لسان العرب، مادة (هلب)
(2) عمرو بن كلثوم: ق41/1/22.
(3) الأعشى: ق82/373.
(4) أوس بن حجر: ق21/9/40.
(5) الأعشى: ق3/10/27.
(6) الأعشى: ق19/17-18/151.
(7) المصدر نفسه: ق54/24/287.
(8) ديوان الهذليين: 2/18/81.(1/255)
وفي إطار التوظيف السمعي بطبيعة الصورة البيانية المتعلقة بالاستعارة قول عبده بن الطبيب:
إذا أشرفَ الديكُ يدعو بعضَ أسرتهِ ... لدى الصباحِ وَهُمْ قَومٌ معازيلُ(1)
فالقوم هنا وإن كانت الفظة في الظاهر لا تفيد أكثر من معنى الجمع، فإنها مقيدة من حيث أراد أن يعطيها شبها مما يعقل، فالشاعر لم يجتلب الاسم المخصوص بالآدّميين حتى قدم تنزيلها منزلتهم فقال (هم) فتى بضمير من يعقل.. وإذا كان الأمر كذلك كان (القوم) جارياً مجرى الحقيقة، وهي استعارة معنوية(2) ولكنها قامت على التصوير السمعي.
ونجد صورة الجني (الرسول) الذي بعثه ليأتي برجع حديثها (جوابها)(3).
ومن الصورة الاستعارية السمعية التي زخرت بالألفاظ التي شكلتها إيقاعات حققت قدرة الشاعر في استخدامها من جو المديح، وإن خلا البيت الأول من الأداء السمعي الصريح إلا من إيقاع البحر الخفيف:
ظبيةٌ من ظباء بطنِ خُسافٍ ... أمُّ طفلٍ بالجوِّ غير ربيب
كنتُ أوصيتُها بأن لا تُطيعي ... فيَّ قولَ الوشاةِ والتّخبيبِ(4)
وقد اتخذ الأداء النغمي في البيت الثاني قوة الجرس الموسيقي من تتابع الألفاظ السمعية التي جاء متممة للاستعارة التي تكونت بصورة البيت الأول، ولذلك فالإستعارة لا قيمة لها دون البيت الثاني.
ويصور لنا لبيد اليوم المطير باستعارة ريح الجنوب التي تحلب الغمام مثلما تحلب الناقة، حيث شاركت الصور السمعية (المجلجل) إلى جانب الصور الأخر البصرية واللمسية، حيث المطر الشديد المصحوب بصوت الرعد، على أن الاستعارة لم تكتسب تلك الصورة المتميزة لو لم تقرن بالجلجلة:
__________
(1) المفضليات: المفضلية: 26/ب67.
(2) أسرار البلاغة: 39.
(3) الأعشى: 39/15/253.
(4) الأعشى: ق68-333. بطن خساف: برية. الجو: الأرض. ربيب: ابن امرأة الرجل من غيره. خيبة تخبيا: خدعه وغشه وأفسده.(1/256)
مَرَتِ الجنوبُ له الغمامَ بوابلٍ ... ومجلجلٍ قَرِدِ الرّبابِ مُديمِ(1)
وقد وفق الشاعر في استخدام البحر الكامل بإيقاعه المتتابع وحيوته مع ما فيه من ترنم ظاهر.
ونجد صورة استعارية شاركت فيها الصورة السمعية في تشبيه النساء في الهوادج بالظباء في كناسها جماعات تصر خيامها لجدتها(2).
الكناية:
تنبض الكناية بالحركة والجمال لما فيها من تصرف بليغ، وصور سمعية جميلة، بأسلوب يشير إلى معان أخر خفية "يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له"(3).
وقد استوعب الشعراء أسلوب الكناية، لأنهم يستمدون صورهم من الحياة وتقاليدها وأعرافها وما يجري على مسرحها.
وعبر الشعراء في العصر الجاهلي بأسلوب الكناية عما هو محمود لتأكيده، وعما هو مذموم لتجنبه، على أن المهارة في اصطياد الكناية تنبع من قدرة الشعراء أنفسهم في استخدامها تبعاً لموهبتهم.
وبالرغم من أن الكناية تلويح، ورمز، وإيحاء، فإننا وجدنا فيما يخص موضوعنا في نسيج بعض نماذجها صوراً سمعية عبر ألفاظ صريحة، سنحاول أن نسلط الضوء عليها:
قال الشنفري:
فيا جارتي وأنتِ غيرُ مليمةٍ ... إذا ذُكرتْ ولا بذاتِ تَقَلَّتِ
تَحُلُّ بمنجاةٍ من اللّوم بيتَها ... إذا ما بيوتٌ بالمذمِة حَلَّتِ
أميمةُ لا يُخزى نَثاها حَليلهَا ... إذا ذُكَر النسوانُ عَفّتْ وَجَلّتِ
إذا هو أمسى آبَ قُرّةَ عينهِ ... مآبَ السعيدِ لم يَسَلْ أينَ ظَلَّتِ(4)
__________
(1) الأعشى ق14/112. مرت: حلبت. قرد الباب: قرد: مجتمع. الرباب: السحاب الذي تراه كأنه متدلي، مديم: دائم.
(2) لبيد: ق47/12/300.
(3) نقد الشعر 155/156، ينظر دلائل الإعجاز: 66، وينظر كذلك كتاب: الكنابة أساليبها وموقعها.
(4) المفضليات، المفضلية: 20، تقلت: تبغضت.(1/257)
وفي معرض تحليلنا لأبيات الشنفري نجده قد كنى عن (العفة والحياء) جوهر المرأة، لكونهما من سمات الشرف الرفيع الذي يحافظ عليه المجتمع العربي.
فقد استخدم الشنفري الألفاظ السمعية (وأنت غير مليمة+ إذا ذكرت+ اللوم + المذمة + يسل – المسهلة من يسأل) ليصور عبر ألفاظ سمعية (عفتها وحياءها) فإذا ما ذكرت النساء فهي لا تلام، وإذا ما ذمت بيوت (كناية عن نسبة) فهي بمنجاة من الذم لابتعادها عن الفعل القبيح الذي يجلب المذمة، وإذا ما تحدثت عن زوجها فهي لا تخبر عنه إلا خيراً، وإذا ما ذكرت النساء فحظها منه العفة، وحسن السيرة، وحين يعود الزوج لا يسأل أين ظلت، لما تتمتع به من ثقة عالية لديه.
ومن خلال ما تقدم، فالشنفري قدم صوراً سمعية للمرأة العفيفة، بألفاظ صريحة متوسلاً بها الوصول إلى العفة المكناة، ولأهمية ذلك فقد أعلنها أمام الجميع، منشداً ومترنماً، ومفتخراً بأعظم مزية تتمتع بها المرأة، ولا سبيل على التعبير عما يروم إلا بألفاظ سمعية وما توحيه، فالكناية قامت على الأصوات التي شكلت صورة سمعية.
واستخدم الشنفري الكناية أيضاً للتعبير عن الحياء والخجل عبر ألفاظ سمعية فرسم صورة المرأة الحبيبة التي تغض طرفها إلى الأرض ولا ترفع رأسها، ولا تلتفت، كمن فقد شيئاً يبحث عنه في الأرض، وإذا تكلمت فلا تطيل كلامها، بل ينقطع خجلاً وحياء.
كأن لها في الأرضِ نسياً تَقصُّهُ ... على أمهّا وإنْ تُكَلّمْكَ تبْلَتِ(1)
__________
(1) المصدر نفسه: تبلت: تتقطع في كلامها، لا تطيله.(1/258)
على أن التكرار في الألفاظ المختلفة (إذا ذكرت، إذا ذكر النسوان، إذا ما بيوت، إذا هو، قد أفاد الصورة التفصيلية، وتقوية المعنى، فضلاً عن تقوية النغم، وإن توالي أصوات (التاء) اللافتة للسمع قد أدى إلى ضرب من الأداء الصوتي إلى جانب النون والتنوين ساعد على تنوع الإيقاع للتعويض عن البحر الطويل وتعرضه للقبض والكف في (مفاعيلن) الحذف الياء والنون، وهما زحافان مفردان، الأول غير مأنوس، والثاني قبيح.
وقد كنى امرؤ القيس عن الحياء والخجل بقوله (تقطيع الكلام)، من خلال الصورة السمعية(1)، غير أن الكتابة عند علقمة الفحل هي الأخرى قامت أصلاً على القصور السمعي، عندما كنى عن الصون والعفة من خلال صورة المرأة التي لا يمكن أن يكلمها أحد، وأنها عن قوة الإرادة، ومن منطلق العفة لم تفشِ السر:
مُنَعَّمَةٌ لا يستطاعُ كلامُها ... على بابِها مَنْ أَنْ تُزارَ رقيبُ
إذا غابَ عنها البعلُ لمْ تُفْشِ سِرَّهُ ... وترضى إيابَ البعلِ حينَ يؤوبُ(2)
على أن البحر الطويل بإيقاعه، وطبيعة الكناية القائمة على الصورة السمعية لإبراز العفة والصون أدى إلى استخدام الإيقاع الداخلي المنسجم مع أحرف اللين مثل (لا يستطاع كلامها، على بابها)، وغيرها، مما يؤدي الغرض المطلوب صوتياً لتحقيق ما يتوخاه الشاعر من إبراز صورة الصون والعفة ، في حين اختلف الإيقاع وأخذ جانباً آخر حين قال: (لم تفشِ سره)، في هاتين اللفظتين قدرة تصويرية سمعية كبيرة، نهضت عليها الكناية الثانية (الصون)، ففي (الإفشاء) معنى (الانتشار السريع)، وإن كانت اللفظة (تفش) قد ضمت أصواتاً مهموسة تنسجم وإفشاء السر، وللفظة (السر) صوتان الأول و(السين) المهموس، والثاني (الراء) المجهور المكرر، مما ينسجم الصوتان والمعنى الخطير الذي يكمن في (السر)، ومن هنا نجد أن الكناية قامت على التصوير السمعي.
__________
(1) ديوانه: ق 29/13/157.
(2) ديوانه: ص 1/ب3-4/33.(1/259)
وكنى امرؤ القيس باللسان عن السر الذي يحفظه، أو يذيعه(1) على أن قيس بن الخطيم كنى عن عفة اللسان بـ (ولا ودعت بالذم حين تبين)(2) وحفظ سمعة الجارة حين تغيب، حيث قامت الكناية على التصوير السمعي:
وَكَنَّت الخنساء عن عفة اللسان بعدم الشتم:
ولا يقومُ إلى ابنِ العمِ يشتمهُ ... ولا يدبُّ إلى الجاراتِ تَخويدا(3)
نجد في بيت الخنساء مشاركة الصوت والحركة البطيئة أو السريعة التي جلبت صوتاً، الصورة السمعية التي قامت عليها الكناية، إذ استطاعت الخنساء أن ترصد ذلك وتتسمعه عبر الملاحظة الدقيقة والترصد والسماع، حيث تساوق الشتم الذي اتسم بالسرعة، وبين سرعة السير في إبراز تلك الكناية.
وتتعدد الكنايات منها العزم على الغوث بقول الشاعر (قرع الظنابيب)(4)، وفي مجال الكناية عن سرعة السير استخدم الشاعر الاطيط النسع(5)، تلك الكنايات قامت أساساً على التصوير السمعي، فلولا صوت القرع لما كانت الكناية، ولولا صوت سير الجلد (الاطيط) لما عرفنا كناية الشاعر.
وإذا ما انتقلنا إلى نوع آخر من الصورة السمعية للكناية عن الكرم الذي عرف به العرب قديماً وحديثاً، فسنجد رموزاً تعبر عنها، من ذلك، قول مالك بن حريم الهمداني:
وثانيةٌ أن لا أُصَمِّتَ كلبَنا ... إذا نزلَ الأضيافُ حِرْصَاً لنودعا(6)
لأن النباح يجلب الضيوف، واصماته يذهب إلى البخل، لأن نباح الكلب يحفز كلاباً أخرى للنباح ليهتدي الضيف إلى المضيف.
وثمة صورة أخرى للكرم كنى عنها الشاعر بقوله:
يُغَشْونَ حتى ما تهرُّ كلابُهُم ... لا يسألونَ عَنِ السَّوادِ المُقْبِلِ(7)
__________
(1) ديوانه: ق 9/5/90.
(2) ديوانه: ق 13/7/165.
(3) انيس الجلساء: 065 التخويذ: السير السريع.
(4) سلامة بن جندل: ق1 / 125، الظنابيب: الضنبوب: الساق، وقيل عظم الساق.
(5) بشر بن أبي خازم: ق 34/7/162. اطيط النسع: صوت سير الجلد.
(6) الأصمعيات، الأصمعية: 15/ب16.
(7) حسان بن ثابت: البرقوقي: 365.(1/260)
عبرت الكناية من خلال الوصف الذي شكل صورة سمعية ليس عن الكرم حسب، بل استمراره لأنهم (لا يسألون عن السواد المقبل)، وهذا ما توخاه الشاعر من الكناية التي قامت على الصورة السمعية، فـ (ماتهر كلابهم) حيث يجبن الكلب لكثرة غشيان الضيوف واعتياد تلك الكلاب على تلك الحالة، وهي كناية ذات أسلوب آخر للكرم.
ومن أطراف الصور السمعية التي ذهب الشاعر إليها مكنياً عن الكرم في أوقات الشدة، وهي صورة قامت أصلاً على التصوير السمعي:
إذا البازلُ الكوماءُ راحْتَ عَشِيّةً ... تُلاوِذُ مِنْ صوتِ المُبِّسينَ بالشَّجَرِ(1)
هي صورة للكرم قد ارتبطت بأوقات الشِّدة، حيث تهرب الإبل بسبب جفاف الضروع، لائذة بالشجر، محتمية به، حينما تسمع أصوات المبسين (بس. بس) التي يطلقها من يقوم بالحلب، كما عبرت الصورة عن شدة الحال التي ترتبط دائماً بالكرم.
في حين يذهب شاعر آخر إلى أبعد من ذلك في استخدام الكناية القائمة على التصوير السمعي لتصوير كرم فرسان قومه الذين سقطوا قتلى، وغنى حالهم، بالعزف وتناوح القينات، وسبب هذه الكناية هو الفخر، إذ لم يكتفِ الشاعر مفتخراً بالأحياء، بل تعداه إلى الأموات، حيث نسمع صورة القينات وعزوفهن:
فلتعزفِ القيناتُ فوقَ رؤوسِهم ... وشرابُهُمْ ذو فَضْلَةٍ وَمُحْنَّبُ(2)
__________
(1) امرؤ القيس: ق 25/142.
(2) عبيدبن الأبرص: ق 3/4 . محنب: الشواء الذي لم ينضج، ثم أعيد فتدخن ففسد.(1/261)
وتنبثق الكناية، الصورة التي يشكلها الشاعر للطبيعة وشدة الحر، وحرارة الشمس الشديدة، فنسمع صواديح النهار (صوت الجنادب)، فاستطاع الشاعر أن يقيم كناية على تلك الصورة السمعية التي توحي لنا أنه خرج في الحر الشديد في المكان الموحش المقفر المفزع مشيراً إلى شجاعته، على أن الجندب إن ومض في شدة الحر لم يقر على الأرض، ونقز وطار فيسمع لرجليه صرير، فانبثقت الكناية من الصورة السمعية، وارتكزت عليها، والكناية تشير إلى قدرة الشاعر على تحمل الصعاب، قال بشر بن أبي خازم:
أرمي بها الفلوات ضامزة إذا ... سَمِعَ المُجدُّ بها صريرَ الجُنْدُبِ(1)
ويماثله في ذلك المثقب العبدي حين تنطلق الصوادح صائحة من شدة الحر، فيسوغ مدح نفسه بالشجاعة لكونه يخرج ممتطياً راحلته في مثل هذا الوقت، والصورة السمعية كانت أساساً للكناية التي استخدمها الشاعر، ولا تخرج في نمطها عن سابقتها في بيت بشر بن أبي خازم.
وآمتْ صواديحُ النهارُ وأعرضتْ ... لوامعُ يُطوىَ رَيْطُها وبرودُها(2)
ويسمعنا عبيد بن الأبرص كناية عن العزة، وعدم الخضوع، في التمرد وعدم الطاعة من خلال معطيات النص عبر الألفاظ الإيحائية في الشطر الأول، ومن خلال (لقاح) التي توحي بأصوات ينبئ عنها السبي أو الأسر مما يتعلق بالاستغاثة، أو أصوات القيد والأغلال، فضلاً عن الألفاظ السمعية (ندبوا، أجابوا)، في الشطر الثاني حيث يمكن أن نتصور معركة يعلو فيها صوت المستغيث من خلال ندبهم لخوض تلك الحرب وسرعة إجابة ذلك النداء:
أَبَوْا دِينَ الملوكِ فهم لَقاحٌ ... إِذا نُدِبوا إلى حربٍ أجابوا (3)
__________
(1) ديوانه: ق 7/16/38، ق 9/12/45.
(2) المثقب العبدي: ق جـ / 20. آمت: اشتد حرها، اللوامع: السراب، الربط: الثياب البيض.
(3) ديوانه: ق 2/1. اللقاح، القبيلة التي لا تدين للملوك، أو لم يصبها سباء أو أسر.(1/262)
فالكنايةقامت على الصورة السمعية الإيحائية، غير أن الصورة السمعية بعامة قد برزت من خلال التمرد على الملوك، وخوضهم الحرب إذا مادعوا إليها.
وعبر معاناته في الغربة، واشتياقه لأهله بعد تذكرهم، كنى الشاعر عن الفروسية والكرم(1).
ومن أثر الألفاظ الدالة على الكناية صورة سمعية متميزة لعنترة ينشدها على مسامعنا بالرغم من اشتراكها مع الصور البصرية، لكنها تنطوي على جهد وحركة توثب، حيث يقول:
إنّي أُحاذِرُ أَنْ تقولَ ظعينتي ... هذا غبارٌ ساطعٌ فَتَلَبَّبِ (2)
كنى عن الحرب باستخدام القول الذي ينطوي على التنبيه من لدن الظعينة:
التنبيه المنذر عن قيام الحرب من الغبار المرتفع الذي ينبئ عن حدوث غارة، فتدعو للتحزم والتشمر من خلال لفظة (تلبب) المشددة لما فيها من حزم وحسم وشدة، بيد أن عنترة الفارس، كان قد أخذ حذره كي يتجنب قول الظعينة من وجود غارة، معبرة عن خوفها في مثل هذا الموقف الصعب إذا ما سبيت، على أن للعامل النفسي أثراً واضحاً في هذا البيت، قد التفت إليه عنترة فهو فارس القبيلة بلا منازع، وإن من أخلاقه وفروسيته أن يحمي الظعينة، فبالرغم من اتكاء الكناية على خاصرة الصورة البصرية فإننا نكاد نسمع أصوات الصراع النفسي في أعماق عنترة.
وفي إطار الاغتراب النفسي نجد في نسيج الصورة السمعية (عد الحصى) كناية عن الحيرة، قال امرؤ القيس:
ظللتُ ردائي فوقَ رأسيَ قاعداً ... أعدُّ الحصى ما تنقضي حَسَرائي(3)
قامت الكناية عند امرئ القيس على الصورة السمعية التي وصلت إلينا عبر عد الحصى، وحسراته المتتابعة، التي تكاد تحرق أنفاسه، فالأثر النفسي الشديد واضح فيها وإن صور لنا حالته قاعداً وقد ظلل رأسه بردائه (صورة بصرية).
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق 8/2/24.
(2) عنترة العبسي: ق 11/274.
(3) امرؤ القيس: ق /6/78.(1/263)
وحين ينبسط الحال، ويسود الرضا، ويحدث التوافق يرق الكلام كناية عن الوفاق والمباضعة، حيث صور الشاعر لنا حالته معها، وكأننا نسمع رقة كلامهما، وإن استخدم ألفاظاً في الشطر الثاني تدل على معاناته مثل (رضت، صعبة)، قال الشاعر:
فصرنا إلى الحُسنى وَرَقَّ كلامُنا ... ورضتُ فذلّتْ صعبةً أَّى إِذلالِ(1)
ويكنى عن الصالحين بأهل الرشد والرأي لدوام الصلاح فيهم(2)وكنى الأعشى الأذى المميت بالعقرب، فصور لنا الناس يعلنون الكراهية له، وتتعالى أصواتهم التشهيرية، حيث تستولي عليه حالة الفزع التي سببتها الغربة التي أوصلتها إلى مثل هذه الحالة المزرية، وتعرضه لقوارض الكلام:
أرى الناس هرّوني وشُهِّرَ مَدخلي ... وفي كلِ ممشى أَرصَدَ الناسُ عقربا(3)
وفي مجال الكناية عن الصبح، استخدم لبيت أصوات الدجاج (منطق الدجاج) وضرب النواقيس، كلها ألفاظ سمعية تشكلت في نسيج البيت للوصول إلى الكناية(4).
وقد كنى ابن مقبل عن فراغ المدن إذا ما ضرب طن وترنم، وقد قامت الكناية على الصورة السمعية من خلال استحضار ألفاظ تؤدي باستعمالها إلى تشكيل الصورة، فضلاً عن دلالة الألفاظ الإيقاعية مثل (الاهتزاز والترنم):
تمززتُها صِرْفاً وقارعتُ دُنَّها ... بعودِ أراكٍ هَزَّهُ فَتَرنَّما(5)
((
الفصل الرابع
1 ـ الصورة السمعية المفردة.
2 ـ الصورة السمعية المركبة.
الصورة السمعية المفردة:
__________
(1) المصدر نفسه: ق 2/32.
(2) الأفوه الأودي، الطرائف الأدبية: ق ز / 9/10.
(3) ديوانه: ق 14 / 113. هر الشيء: كرهه، مدخلي: مذهبي. أرصدوا عقربا: مثل: أي أقاموا في طريقة الأذى.
(4) ديوانه: ق 4/6/26.
(5) تميم بن مقبل: ق 37/288.(1/264)
الصورة المفردة، أو البسيطة، هي جزء من مجموعة من الصور تتسق في تسلسل لتكوين الصورة المركبة التي تفضي إلى معرفة الصورة الكلية للقصيدة في المحصلة النهائية، وقد تكون الصورة برمتها حسية، أو معنوية، تلخّص بمفردة، تتكثف فيها، عندها يمكن القول إنها صورة جميلة، أو قبيحة، أو معتمة أو مفرحة، أو حزينة إلى غير ذلك..
وقد تشكل الصورة المفردة أهمية في حد ذاتها في ما تمنحه من دلالة معنوية صوتية، أو نفسية، أو كليهما معاً.
وبالرغم من فرديتها وبساطتها فهي في موضعها وعلاقاتها في النص ذات أهمية، إذ تترابط مع غيرها من الصور لتشكل قصيدة، أو قطعة، أو لوحة تتكون من عدد من الصور البسيطة، أو قد تشكّل إلى جانب الصور الأخر المتعددة صوراً مركبة.
بيد أن للصورة المفردة البسيطة قدرة على انتزاع إعجابنا، وإثارة دهشتنا، حيث يمزج الشاعر الحسية بالمعنوية، أو بالعكس، أو أنه يخلع صفات متعددة عليهما في نسيج تنسجم فيه لحمته مع سداه.
أولاً: تنسج الصورة المفردة عن طريق تبادل المدركات الحسية والمعنوية، ويتم تشكيل هذه الصورة من خلال خلع صفات الحسية على المعنوية، أو بالعكس بوسائل متعددة منها:
التجسيم: حيث يتم تحويل المعنويات المجردة إلى حسيات(1) تنسجم مع الحواس.
التجسيد: ويتم بخلع الملامح الإنسانية وصفاتها وأفعالها على المعنويات والحسيات.
ثانياً: تراسل الحواس:
حيث تتكون الصورة بتبادل الحواس في خواصها، وخلع صفة حاسة على حاسة أخرى لتقوم مقامها.
ثالثاً: الصورة السمعية المفردة عبر الوصف:
أولاً ـ نسج الصورة المفردة عن طريق تبادل المدركات:
آ ـ التجسيم:
__________
(1) أساس البلاغة: 94.(1/265)
إن إيضاح المعنى، والإبانة عنه بصورة فنية يعود إلى قدرة الشاعر الإبداعية في تشكيل صورة بعيدة عن النسق المألوف، وبغية تحقيق ذلك، يلجأ الشاعر إلى التجسيم، فيسبغ على المعنويات المجردة صفات الحسيات مع ما ينسجم والحواس، حيث يتجلى المعنى ويتوضح، لأن "كل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلاً على حاله من هيئات الأحوال المطيفة به واللازمه له"(1)، وفي كثرة التخييل في أجزاء الصورة عند تفصيل دقائقها يتجلى الحسن فيها، ولهذا قيل: "وكلما كثرت التخاييل زاد التفصيل حسناً"(2).
ويعد التجسيم عنصراً من عناصر الصورة وتزيينها للإبانة عن التخيلات الشعرية، والاهتداء إلى مافيها من حسن، يقول امرؤ القيس:
لياليَ يدعوني الهوى فأجيبُهُ ... وأعينُ مَنْ أهوى إليَّ رَوانِ(3)
نجد الشاعر قد أكسب الهوى وهو (معنوي) صفة حسية، فغدا كياناً أمامنا نسمعه يدعو الشاعرإلى اللهو، فيسمعه، ويستجيب له، وسط فتيات كلفات به، لا يتحولن بأبصارهن إلى غيره، فالتجسيم هنا ينطق ويدعو ويجاب، ومن ثم الاندفاع، فالصوت المنبثق نسمعه وقد رسم لنا الصورة عبر التجسيم والأداء النغمي الداخلي وخاصة النون، مع الإيقاع الخارجي للبحر الطويل الذي استوعب التدفق النفسي للشاعر.
ويقول حاتم الطائي:
لياليَ يدعوني الهوى فأجيبه ... حثيثاً ولا أرعي إلى قولِ زاجِرِ (4)
يقدم لنا الشاعر صورة (للهوى) المعنى الذي يدعوه، فيجيبه، لما فيه من دواعي السرور والنشوة، واللهو، أيام الاستقرار التي يبدو أنه فقدها أو افتقدها، بعد أن:
صحا القلبُ عن سلمى وعن أُمِّ عامرِ ... وكنتُ أراني عنها غير صابرِ
ووشتْ وشاةٌ بيننا وتقاذفتْ ... نوى غُربةٍ مِنِ بعدِ طولِ التّجاورِ(5)
__________
(1) منهاج البلغاء: 98.
(2) المصدر نفسه: 101.
(3) ديوانه: ق 8/85.
(4) حاتم الطائي: 25، 24.
(5) حاتم الطائي: 25، 24.(1/266)
وعندما أكسب الهوى (المعنوي)، الصفات الحسية (يدعو) عبر التجسيم أضحت الصورة تعبيراً عن أيام خلت، قضاها باللهو والسرور، بالرغم من قول الزاجر الذي لم يعره أهمية وقتذاك.
بيد أننا نجد الألم يعتصره بعد أنْ صحا القلب، ووجد أحداثاً جساماً، حيث ضمت الصورة المجسمة أمامنا رمزاً مفاده: قصر عمر الهوى، ولهذا استجاب لمّا دعاه إليه، على أنّ للصورة امتداداً نغمياً، وجرساً موسيقياً، يتساوقَ معَ سُرعة الإجابة لداعي الهوى، ولم يسمع قول الزاجر، بيد أنه صحا بعد أن تدخل الوشاة، وسمعت أصواتهم.
قال النابغة الذبياني:
قالتْ له النفسُ إني لا أرى طَمَعاً ... وإن مولاكَ لمْ يسلمْ ولمْ يَعِدِ(1)
استخدم الشاعر هنا الحديث الداخلي، حديث النفس (نفس الثور)، حينما دخلت في حوار، حيث تحدثت مع كلبي الصياد، (واشق وضمران) بعد إصابة الثاني، وكانت نتيجة الصراع كما صورها الشاعر خسارة الكلب، من خلال (النفس) التي أسبغ عليها الحسيّة لتخبر (واشق) بما حَلَّ به (ضمران) ليكف عن الهجوم، وإلاَّ سينتظره المصير الذي آل إليه واشق، فضلاً عن أنَّ الكلاّب لن ينجو، ولا هو يتمكن من نيل بغيته في الصيد الذي أَمَّلَ نفسه فيه وعائلته، فالصورة المجسمة أيضاً قامت على حديث النفس والاستماع لها.
وإذا ما انتقلنا إلى الأعشى في هذا المضمار فسنجده قد استخدم الصور المجسمة في العديد من الموضوعات، فقد أكسب (الحمد) المعنوية صفة الحسية، حيث يقول:
فتىً يَشتري حُسْنَ الثَّناءِ بمالِهِ ... إذا ألسنةُ الشهباءِ أَعْوَزَها القَطْرُ(2)
وكما قال الشاعر:
تشتري الحمدَ بأغلى بيعهِ ... واشتراءِ الحمدِ أدنى لِلْرَّبْحْ(3)
__________
(1) النابغة الذبياني: 81.
(2) الأسود بن يعفر: ق 23 / 35، زهير بن أبي سلمى: ق 10/13/119.
(3) الأعشى: ق 326/293 ، ق 78/24/359، الحطيئة: ق /7/30/80.(1/267)
إنَ ما أسبغه الشاعر على الحمد من صفة الحس قد استحضر أمامنا الربح والفوز، فالحمد الذي هو الثناء، يشتري مِنْ لدنِ أناسٍ بأغلى الأثمان، هم أهله، لأن الحمد كلفته المشقة، وبذل الجهد.
والحمد لا يشترى لأنه معنوي، غير أنَّ الشاعر يهدف إلى تجسيم تلك الصورة السمعية لاستحضار المعنى النبيل لعمل الخير، ومن ثم نيل الثناء جزاء على التضحية.
ويضعنا الأعشى أمام صورتين: الربح والخسارة، حيث يكمن الأول في البذل، والثاني في البخل أو الإساءة.
وتتعدد النماذج التي جَسّمها الشاعر، فالذِّكْرُ يسير(1)، والوعيد يأتي(2)، وللرأي حصاد(3).
ب ـ التجسيد:
من الأساليب التي استخدمها الشعراء في تشكيل الصورة الفنية، التجسيد، حيث يتم إكساب المعنويات، والحسيات غير العاقلة صفات الإنسان، أو أفعاله، ومن خلال ذلك يمكن لنا معرفة إسقاطات الشاعر النفسية، والدلالات التي توخّاها من الصور السمعية التي شكّلها من جرّاء الباعث النفسي عبر تجربته، ومن خلال الصورة تتجلى قدرته على إيصال الغرض الذي يصبو إليه.
ومن المحسوسات التي أسبغ عليها الشعراء (الحية) (4) التي جعلها الشاعر تتكلم، وتُقسِم، وتحاور، وكيما تتفاعل الصور لتبدو لنا أكثر تأثيراً في بيان الحالة.
في حين خلع الشاعر صفات الإنسان على الدّيك فهو ينطق(5) والطير تُخبر:
تُخبّرهن الطّير عنكِ بأوبةٍ ... وعين أقرّتْ نومَها بلقائِكَا (6)
__________
(1) الأعشى: ق 17/14/135.
(2) المصدر نفسه: ق 19/5/149.
(3) المصدر السابق: ق 15/6/119.
(4) النابغة الذبياني: 132.
(5) الأعشى: ق 5 / 15/ 47.
(6) المصدر نفسه: ق 11 / 91.(1/268)
هناك أوبة للممدوح فيها مال ومجد يعوضان البعد والفراق، وفرحة اللقاء وشوق له من المنتظرات بلهفة لتلك العودة، فجعل الشاعر الطير تخبرهن بقرب تلك الأوبة، وعلى ذلك الأمل المرتجى تنام العيون قريرات، فالصورة قائمة أساساً على الصورة السمعية المفردة من خلال التجسيد المتمثل بالإخبار:
ومن تلك الصور: الثور يقول(1)، والحمار يكثر التذمر(2)، والخيل تنادي:
وخيلٍ تُنادي لا هوادةَ بينها ... مَرَرْتَ لها دونَ السَّوامِ وَمَرَّتِ
كأنَّ مُدلاًّ مِنِ أَسْودِ غِيابَةٍ ... يكون لها حيثُ استفاءَتْ وكَرَّتِ(3)
عمدت الخنساء في هذين البيتين إلى التجسيد من خلال إكساب الخيل صفة الإنسان، فجعلتها (وخيل تُنادي)، في الوغى دون لينٍ أو هوادةٍ، تنادي فرسانها لكي تبرز للأعداء، وقد مرَّ مراسها على صخر، وقد كان صخر للخيل إذا رجعت عليه، وتنادت للكَّرِ، بمنزلةِ الأسد الذي يحمل فلا يكذب.
فالمرثي هنا عاش فارساً محارباً ينهزم منه العدو، وجلّت الخنساء بينه وبين السوام، بدلالة التجسيد، لإظهار القوة والشدة في المعركة، ولهذا يمكن تخيّل الصورة في إطار التجربة التي عرضتها الشاعرة، مع تأثيراتها النفسية والدلالية، وأسمعتنا الخيل التي تنادي في صورة سمعية للوغى وما يتعالى فيها من أصوات محتدمة، فضلاً عن أصوات الحروف التي أشاعت نغماً منسجماً يساعد على التخييل السمعي.
وقد يبعث الشاعر الحياة في غير الأحياء، ويمنحها إرادة بخلع فعل الإنسان عليه، فنجد (الصنج) يبكي، وتمثلت الصورة السمعية بدلالات صوتية وإيقاعية داخلية وخارجية.
ترى الصنبح يبكي له شجوَهُ ... مخافةَ أنْ سوفَ يُدعى بِها(4)
__________
(1) الاعشى: ق 52/32/279.
(2) الأعشى: ق65/32/325.
(3) أنيس الجلساء: 20، مرت: مَرَّ مِراسُها عليك، استفاءت: أي تنادَتْ وتراجعتْ وكرّتْ.
(4) الأعشى: ق 22/173.(1/269)
والمزهر ينطق، حيث جَسَّدَ الشاعر الصورة السمعية من خلال المفردات السمعية والإيقاعية، والبحر الذي استوعب تلك الصورة، والجرس الموسيقي:
إذا قلت غنّي الشَّرْبَ قامتْ بمزهرٍ ... يكادُ إذا دارتْ له الكَفُّ ينطِقُ(1)
ونجد الصنج يعزف، والونّ ينادي: هي صورة سمعية مجسدة، ساعد بحرُ الرمل على تجسيدها أيضاً لتتابع إيقاعه، بالرغم منَ الأصوات المنبثقة من النص مثل (المسمع، الصوت، العزف، النداء):
وإذا المُسْمِعُ أفنى صوتَهُ ... عَزَفَ الصنجُ فَنَادى صوتُ ونْ(2)
وأكسب الشعراء المعنويات صفات الإنسان المادية لغرض تجسيدها، لنتمكن من تخييلها، عبر صورةٍ فنيةٍ تخدم التجربة الشعرية، حيث جسّدوا لنا الجِن تعزف في المهامه والقفار لإدخال الرهبة في القلوب، في الوقت الذي يستخدم الشاعر فيه توابعه لتروي مايقول وتعزفه، وهي صورة سمعية شكلتها أصوات المفردات الواضحة التي استوعبت المعنى والصورة؛ فضلاً عن إيقاع البحر الطويل:
أنا الشاعر المرهوب حولي توابعي ... مِنَ الجنِ تروي ما أقولُ وتعزفُ(3)
إنَ عزيف الجن يمكن سماعهُ ليس ليلاً حسب، بل حتى في الظهيرة، إنّما ينطلق ذلك العزف عندما تخلو الصحراء من أي صوت ليكون تأثيرها أشد وأقوى في بعث الخوف في القلوب(4).
إنَّ هذا العزيف قديم ليس وليد رحلاتهم(5)، ويستمر الشعراء في تقديم صورهم عن الجن وهي تعزف في الفيافي المقفرة(6).
وقد وردت صورٌ للتجسيد مختلفة مثل القول يقضي، والصورة السمعية هنا تشكّلت من الألفاظ التي تمثلها السمع، من القول الذي يقضي والاعتراف:
__________
(1) الأعشى: ق 33/219.
(2) الأعشى: ق 78/359.
(3) امرؤ القيس: ق 78/325.
(4) بشر بن أبي خازم: ق 41/9/302.
(5) طرفة بن العبد: 130.
(6) المثقب العبدي: ق أ / 16 ، 28/8-13، زهير بن أبي سلمى: ق 25 / 213، أوس بن حجر: ق 37/ 2/94، الأعشى: ق 4 / 15/ 37، لبيد: ق 11/3/72/ حسان بن ثابت: 239.(1/270)
قد قلتُ قولاً فقَضى بينكم ... واعترف المنفورُ للنافرِ(1)
والمنطق يأتي، حيث جَسَّدَ الشاعر المنطق في إطار من الصورة السمعية التي تكفّلت بمهمة الأداء الصوتي والمعنوي، من خلال الجرس الموسيقي الداخلي والإيقاع الخارجي:
لِيأتِيَنْهُ مَنْطِقُ سائرٌ ... مُسْتَوْسِقٌ لِمُسْمِعِ الآثرِ(2)
والقوافي تزور:
إليكم قبل تجهيز القوافي ... تزور المنجدينَ معَ الرياحِ (3)
والمنية تنطق: فالتجسيد صورة سمعية، من الصوت والفعل، والرهبة، تكفل الأداء النغمي والإيقاعي في تشكيل الصورة:
وَيَقْسِمُ أمرَ الناسِ يوماً وليلةً ... وهم ساكتونَ والمنيّةُ تنطقُ(4)
ثانياً: تراسل الحواس:
وفي مجال بحث الشاعر عن أنماط جديدة في تشكيل الصورة الفنية لجأَ إلى التراسل (التبادل) في وظائف الحواس مجازاً.
بيد أنها لاتخرج عن وظائفها في حياتنا، حيث تتلاحق الصور، وتتابع في إرسال الشيء بعد الشيء وتواليه، بنقل الصورة إلى العقل، ومن ثم إعادتها ثانية في صورة شعرية فنية منحرفة عن الواقع، ولكنها غير خارجة عن إطار الحواس إلاّ في الوظيفة، لأن "الانفعالات التي تعكسها الحواس قد تتشابه من حيث وقعها النفسي، فقد يترك الصوت أثراً شبيهاً بذلك، الذي يتركه اللون، أو تخلّفه الرائحة"(5). ومن هنا يتم التراسل بخلع صفة حاسة على حاسة أخرى(6).
ونجد المسيب بن علس قد خلع على القصيدة (السمعية) صفات الحاسة الذوقية (القصيدة تردالمياه) في إطار التجسيد أوّلاً، والتراسل ثانياً(7).
في حين خلع حاسة السمع على البصر، فسمع بعينه، فضلاً عن أنَ حاسة البصر قد قامت بوظائف الحواس الأخر:
__________
(1) الأعشى: ق 18/143.
(2) الأعشى: ق 18/143. استوسق الأمر: أمكنه. الآثر: الذي يأثر الخبر أو الشعر ويرويه.
(3) الأعشى: ق 73/219.
(4) المصدر نفسه: ق 33/219.
(5) الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 251.
(6) الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة: 53.
(7) المفضليات، المفضلية: 11/ب16.(1/271)
وخلٍّ كنتُ عَيْنَ الرشدِ منهُ ... إِذا نَظَرْتْ، ومستمعاً سميعا(1)
وقال عبيد بن عبدالعزى السلامي ابن عم الشنفرى:
يُشَرِّفُ أقواماً سوانا ثِيابُنا ... وتبقى لهم أنْ يلبسوها سَمايعُ(2)
فهو هنا خلع صفات حاسة على حاسة، فالثياب (لمسية)، والسمايع:الذِّكْرُ المسموع (سمعية)، فجعل السماع بدلاً من اللمس التي تتحول إلى البصر، ومن ثم إلى السمع.
وقال عبيد بن العزى السلامي أيضاً:
جرى بيننا منهم رسيسٌ يزيدنا ... سقاماً إذا ما استيقنتهُ المَسامِعُ(3)
نجده أيضاً قد خلع صفات حاسة السمع على اللمس، فالحمى تحس باللمس، فتجد الحرارة، وليس بالسمع، ولكنه جعل ذلك، من باب خلع صفة حاسة على حاسة، فكأنما يسمع نبضات قلبه، حيث تختل عندما يصاب الإنسان بالحمّى.
وقد يصرف الشاعر الحواس إلى غير غاياتها عبر تداخلها، فاللِّين يدل على حاسة اللمس، والحديث نتاج حاسة السمع، فيستخدم الشاعر الليونة والرقة للتأثير على الفتاة كما يسلس له القياد:
صَنَعٌ بلينِ حديثِها ... فَدَنَتْ عُرى أسبابِها(4)
وتجد الحديث (حاسة سمعية)ثوباً ينزع (حاسة لمسية):
وإذا تنازعك الحديـ ... ـثُ ثنت وفي النفس ازوراره(5)
جعل الشاعر حاسة البصر تنطق:
وكادتْ غداةَ البينِ ينطقُ طرفُها ... بما تحت مكنونٍ مِنَ الصَّدْرِ مُشْرَجِ(6)
وقد يخلع الشاعر في نوع آخر من التراسل صفات المحسوسات العاقلة على المحسوسات غير العاقلة، لتكتسب القدرة على محاكاة الإنسان ومحاورته، للكشف عن الأثر النفسي، عبر تصوير أدق الأحاسيس والانفعالات.
فنجد الشاعر عبر التراسل قد أسبغ على ناقته قدرة الشكوى والتأوه من السفر الدائم، والمحاورة والاستفهام، والجرس الداخلي:
إذا ما قمتُ أرحلّها بليلٍ ... تَأَوهُ آهةَ الرجلِ الحزينِ
__________
(1) عروة بن الورد: 104.
(2) قصائد جاهلية نادرة: ق1/124.
(3) المصدر السابق: ق 1 / 121.
(4) الأعشى: ق 39/253.
(5) الأعشى: ق 20/153، ق 39/17/253.
(6) الشماخ: ق 2/77.(1/272)
تقولُ إذا درأتُ لها وضيني ... أهذا دينهُ أبداً وديني
أكلُّ الدَّهرِ حَلٌّ وارتحالٌ ... أما يبقى عليَّ وما يقيني(1)
هذه الشكوى تعبرعن انتقال الألم في نفس الشاعر إلى الناقة عبر الذهن والوعي الباطني، وهي شكوى الشاعر أساساً، وضجره من الترحال المستمر، ليكمل المثقب بتلك الأبيات، ماينقصه من التعبيرعن عوالمه النفسية من خلال شكوى الناقة كما يظهر ماكان متوارياً من تلك الخفايا في العقل الباطن.
وللأعشى في هذا المجال أمثلة لشكوى الناقة:
وتراها تشكو إليَّ وقد آ ... لت طليحاً تحذى صدورَ النِّعالِ
لا تَشْكِي إليَّ مِنْ الم النَّسْـ ... ـع ولا مِنْ حَفَاً ولا مِنْ كِلالِ
لا تَشَكِّي إليَّ وانتجعي الأسْـ ... ـوَدَ أهلَ النَّدى وأهلَ الفعالِ(2)
وماثله عنترة العبسي حين اشتكى له حصانه، بعد أنْ خلع عليه صفة المحسوس العاقل:
فازوَّرَ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبانِهِ ... وشكا إليَّ بعبرةٍ وتحمحمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ... أو كانَ يدري ما جوابَ تَكلّمي(3)
وعَّبرَ عامر بن الطفيل عن شكوى فَرَسَهِ بقوله:
أكرُّ عليهمَ وَعْلَجاً ، وَلبانُهُ ... إذا ما اشتكى وقعَ الرِماحِ تحمحما(4)
وللتراسل جانب آخر هو التبادل في الهيئات المحسوسة العاقلة، فتجد جمال الصور الفنية المتولدة من هذا التراسل، فضلاً عن التمكن في نقل الأحاسيس الدقيقة، والانفعالات النفسية التي يثيرها هذا التبادل في الهيئات، حيث تتفاعل الحواس فيما بينها، في الوقت الذي تختلط فيه الحقائق بالخيال ببراعة الشاعر في التراسل البيئي.
__________
(1) المثقب العبدي: ق هـ/39/40 ـ درأتُ لها وضيني: إذا بسطته على الأرض ثم أنخته عليه لتشد عليه الرحل.
(2) الأعشى: ق 1 / 7، ق5، /27/47،ق 31/11/207، ق 39، 43، 257. طليحاً: معيبة متعبة.
(3) ديوانه: ق 1 / 217/218.(1/273)
وقد ذهب بعض الشعراء الجاهليين هذا المذهب في التراسل، فهذا عبيد بن الأبرص قد أبدلَ السكان من البشر بمجموعة من النعام يسقن أخرى مع أفراخهن، كما أوجد ظباء في الديار الخاليات أيضاً، وإن خلا هذا التراسل من الصورة السمعية، بيد أنَ الشاعر يعمد في صورة لاحقة إلى التراسل، وقد أوردنا التراسل الأول لضرورته عند تحليل التراسل الثاني، قال عبيد:
بَدّلْتُ منهمُ الديار نعاماً ... خاضباً يزجينَ خيطَ الرِّئالِ
وظباءً كأنهن أباريق لجينٍ ... تحنو على الأطفالِ(1)
ولكنَّ الشاعر يعود ثانية ليستبدل النعام والظباء بـ (عِرْسِهِ) الغضبى التي تروم فراقه، وإن كان هذا الاستبدال يوحي بالانتقال الموضوعي لتشكيل صورة سمعية من خلال المحاورة التي علت فيها أصوات كعب تدعوها لرفض العاذلين وأن تلزم حياءها، وتحولها من موقف سابق إلى آخر لاحق يحقق للزوج الاطمئنان الشخصي الذي يتوخاه:
تلكَ عِرْسِي غضبى تُريد زيالي ... أَلِبَيْنٍ تُريدُ أَمِ لِدَلالِ؟
فارفضي العاذلين وآقْنَيْ حياءً ... لا يكونُ عليكَ خطّ مثالِ
ثمّ قالتْ: فدىً لِنفسِكَ نفسي ... وفداءٌ لمالِ أهلكَ مالي(2)
في تحليل النص نجد الشاعر قد صور لنا معاناته مع زوجه، حيث تروم مفارقته بعد أنْ كبر، وفات وقت الدلال والشباب، وقد بخل أعوانه عليه بمواساته ولذلك، التجأ إلى الديار مستبدلاً قاطنيها من الهيئة المحسوسة العاقلة بالهيئة المحسوسة غير العاقلة (النعام)، لوصل ما انقطع بينه وبين عرسه من علاقة عبر بعثه الحياة في الديار من خلال هذا التراسل، غير أنه سرعان ما يعود إلى الهيئة العاقلة المحسوسة (المرأة)، متحدثاً إليها، عسى أن ترفض قول الوشاة العاذلين، وأن يعود الصفاء إليهما كما كان سابقاً.
__________
(1) عبيد بن الأبرص: ق 41 / 106. خاضبات: مخضرة السيقان، يزجين: يسقن، والخيط: جماعة النعام. الرأل: فرخ النعام.
(2) المصدر نفسه: ق 41/106 ـ 110، ينظر ديوان طرفة بن العبد: 70، استبدل النعام بالإماء.(1/274)
ولأوس بن حجر قصيدة استخدم فيها التراسل، ساقه إليه خلاف مع قطيعة (أميمة)، سببه الوشاة، فاستبدل المحسوسات العاقلة (أميمة)، بالمحسوسات غير العاقلة (العِين والآرام)، والسّخال، لتبدد وحشة المكان، وتبعث جواً من المرح، واللهو فيه، تعويضاً عما افتقده.
ثم عاد إلى التراسل، فاستبدل المحسوسات غير العاقلة بالمحسوسات العاقلة (أميمة)، وقدأشار إليها بالضمير في (سألت)، والوشاة، لإيضاح حقيقة القطيعة، حيث قال:
تَنَكَّرَ بعدي مِنْ أُميمةَ صائفُ ... فَبْرَكٌ فأعلى تَوْلَبَ فالمَخالِف
بها العِينُ والآرامُ ترعى سِخَالُها ... فَطيمٌ، ودانٍ للفِطامِ وناصِفِ
وقدْ سأَلتْ عنّي الوشاةُ فَخُبِّرَتْ ... وقد نُشِرَتْ منها لَديَّ صحائِفُ(1)
نجد الأصوات قد تعالت من التراسل الثاني الذي تلاحمت فيه لتشكيل الصورة السمعية، تلك الأصوات التي سمعتها الأذن تمثلت بـ(السؤال، الوشاة، والخبر، والنشر)، لإيضاح صورة القطيعة، فضلاً عن حرف الصاد الحلقي الذي أشاع جرساً متآلفاً، والتاء المهموس الذي انتشر في البيت الأخير وبقية الأبيات لتقوية النغم الداخلي الذي خدم الأداء الصوتي لإبراز الصورة السمعية التي نجد الأثر النفسي واضحاً فيها من خلال الأسى، وحديث الشجن الذي اتّسمت به الأبيات.
ثالثاً: الصورة المفردة عبر الوصف:
يدخل الوصف في نسيج الصورة الشعرية، فهو فن وأسلوب، يدخل في موضوعات الشعر المختلفة وأغراضه، ولا يقتصر على الطبيعة وموجوداتها حسب، بل يتعداهُ إلى مظاهر الحياة المتعددة.
__________
(1) أوس بن حجر: ق 30/63-64. صائف. وبرك، وأعلى تولب والمخالف: مواضع العِين: بقر الوحش، الآرام، الظباء. سخالها: جمع سخل وهو ولد الظبي وشبهه. الناصف: الذي بين الفطام والدنوّ منه.(1/275)
وبالرغم من الاختلاف الحاصل بين القدامى والمحدثين حول تعريف الوصف وطبيعته(1)، فأنه يعني الإبانة والظهور(2)، والكشف والإظهار(3)، وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى كاد يمثله عِياناً للسامع(4).
ولأهمية الوصف يمكننا أنْ نعرف الصورة المفردة من خلاله مما سجله القدامى في شعرهم. يقول امرؤ القيس:
وغيثٍ كألوانِ الفَنا قد هَبَطْتُهُ ... تعاور فيه كل اوطف حنان
على هيكلٍ يُعطيكَ قبلَ سؤالِهِ ... أفانينَ جَرْيٍ غيرَ كَزٍّ ولا وانِ(5)
وصف في هذين البيتين المكان، حيث تعاقب فيه سحاب دان من الأرض، يسمع لصوته ولرعده حنين مثل حنين الإبل، وكأن له خملاً لكثافته.
ويصف لنا أنه هبط هذا الغيث على فرس ضخم كهيكل النصارى، وهذا الفرس يعطيك ماعنده من الجري قبل أن (تسأله) إياه دون ضن، أو بطء، فالصورة السمعية التي تمثلها الأذنُ عبر التقاطها من خلال صوت الرعد الحنّان، وسماع صوت جري الفَرَس السريع قبل أن يكلمه أو يطلب منه ذلك، ولولا الصورة السمعية المتمثلة بالسحاب الراعد عن الشعراء في وصفها، وإن كان الوصف استغرق في تشكيل عدة صور حسية، إلاّ أن الوصف أدّى إلى صورة سمعية عبر الصوت الصريح والأفعال المختلفة وأصوات الحروف المختلفة التي أشاعت نَغَماً خَدَمَ الأداء الصوتي.
وقد وصف النابغة الذبياني المتجردة، وقدّم لنا مجموعة من الصور المفردة البسيطة الجميلة المتلاحمة التي توالت فيها الأصوات المختلفة من (مرنان، الزعم، القول، الحديث، التكلم وغيرها، حيث تشكلت صورة سمعية من المفردات والأصوات والمعاني من خلال الوصف الذي التجأ إليه الشاعر:
في إِثْرِ غانيةٍ رمتكَ بسهمها ... فأصابَ قلبَكَ غير أن لم تُقْصِدِ
__________
(1) ينظر: فن الوصف وتطوره في الشعر العراقي الحديث، فيه تلخيص قيّم لآراء القدامى والمحدثين عن الوصف.
(2) لسان العرب، مادة "وصف".
(3) العمدة: 2/295.
(4) العمدة: 2/294.
(5) ديوانه: ق 9/91.(1/276)
ولقد أصابَ فؤادَهُ مِنْ حُبِّها ... عن ظهرِ مِرنانٍ بسهمٍ مُصْرَدِ
زعم الهمام بأنَ فاها باردُ ... عَذْبٌ مُقَبَّلَهُ شَهيُّ الموردِ
زَعَمَ الهُمامُ ولمْ أذْقُهُ أَنَّهُ ... عذبٌ إذا ما ذقتَهُ قلتَ ازْدَدِ
لو أنَّها عَرَضَتْ لأشْمطَ راهبٍ ... يخشى الإله صَرورةٍ مُتَعَبِّدِ
لرنا لرؤيتها وحُسْنِ حديثِها ... ولخالَهُ رَشداً وإِنْ لَمْ يَرْشَدِ
بِتَكَلُّمٍ لو تسطيع كلامه ... لَدَنَتْ لهُ أَروى الهضابِ الصُّخَدِ(1)
وصف لنا النابغة الذبياني، المتجردة، مُظْهِراً حسنَها وبهاءها في صور متلاحقة متتابعة، فهو قدم لنا صورة حسناء غنيت عن الزينة، بجمالها الطبيعي، رمته بسهم حسنها النافذ، وقد صوتت القوس حين خروج السهم.
ولنا بعد ذلك أن نستمع إلى الأصوات المختلفة مثل (الكلام والحديث والزعم) فضلاً عن متابعتنا لدقائق التفاصيل، وامتداد الصوت عبر الأنغام المختلفة من أصوات الحروف، أومن الألفاظ، أو من الإيقاع الخارجي فانتقل إلى وصف فمها البارد العذب،وطلب الاستزادة، حتى لو أنها بدت للراهب المتعبد الذي لا يتزوج كي لا تشغله امرأته عن العبادة لرنا لمشاهدتها، والاستماع لحسن حديثها، حيث تخللت الصورة ألفاظ سمعية موحية نستنتجها من النص.
من هذا الوصف المباشر يخلص الشاعر إلى صورة أخرى مفادها أن أنثى الوعول لو استطاعت أن تكلم تلك الحسناء لنزلت من الهضاب لتأنس بجمالها.
فالنابغة قد أحسن في وصفه للمتجردة، ونجح في توظيف صوره، لإثارة التحسس بجمالها، إصابته بسهمها، وقد سمع صوت القوس.
وكاد الوصف يستحوذ على الشعر الجاهلي برمته، لأنه مستمد من البيئة والطبيعة، من بشر، وحيوان، ونبات، وموضوعات متعددة، ولسعته آثرنا الاكتفاء بما عرضناه لندلل على الصورة الوصفية السمعية المفردة البسيطة.
((
الصورة السمعية المركبة:
__________
(1) النابغة الذبياني: 94-98.(1/277)
أولاً: تتشكل الصورة المركبة من مجموعة من الصور المفردة البسيطة في تآلف وانسجام تتضمن فكرة ما، أو عاطفة، أو حالة معينة، أو موقفاً يفرضه الباعث الآني مع الغرض الرئيس.
أي أن الشاعر يستطيع أن يزاوج بين الصور، وقد يتضمن هذا التزاوج أكثر من صورتين: "إن الصورة الواحدة ترسم وتوطّد بالكلمات التي تجعلها حسية وجلية للعين أو للأذن أو للمس ـ لأي من الأحاسيس ـ، ثم وضع صورة أخرى قربها، فينبلج معنى ليس هو معنى الصورة الواحدة منهما ولا هو معنى الصورة الثانية ولا حتى مجموع المعنيين معاً، بل هو نتيجة لهما، نتيجة للمعنيين في اتصالهما وفي علاقتهما الواحد بالآخر.(1).
ومن هنا فإن الصور المتزاوجة أو المترابطة تحتشد لتشكيل صورة مركبة، متضمنة تفاصيل دقسقة وشروحاً توضيحية تخدم المعنى، عبر نموٍّ مستمر لتحدث تأثيراً في المتلقي كان قد توخاه الشاعر.
ثانياً : ويتم تشكيل الصورة المركبة عن طريق السرد القصصي.
الصورة السمعية المركبة:
قال علقمة الفحل:
طحا بِكَ قلبٌ في الحِسانِ طروبُ
بُعيدَ الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشيبُ
وعادتْ عوادٍ بيننا وخُطوبُ ... تُكلّفني ليلى وقد شَطَّ وَلْيُها
على بابِها مَنْ أنْ تُزارَ رقيبُ ... مُنَّعَمَةٌ لا يُستطاعُ كِلامُها
وتُرضي إيابَ البعلِ حينَ يؤوبُ ... إذا غابَ عنها البعلُ لم تُفْشِ سِرَّهُ
يُخَطُّ لها مَنْ ثَرَمْداءَ قَليبُ ... وما أنت أم ما ذِكْرُها رَبَعِيَّةً
بَصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ ... فإِنْ تسألوني بالنساءِ فإنني
فليسَ لَهُ مِنْ ودّهُنَّ نَصيبُ ... إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قَلَّ مالُهُ
يُرِدْنَ ثَراءَ المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ
وَشَرْخُ الشبابِ عندهنَّ عَجيبُ(2)
__________
(1) الشعر والتجربة: 77.
(2) ديوانه: ق 1 / 35.(1/278)
في تأملنا لِلَوْحَةِ علقمةَ نجد الصورة المركبة متمثلة بنزوع النفس إلى الماضي، حيث الشباب الذي يتسع فيه القلب، لأن يستحقه الفرح، هذا النزوع إلى الماضي ماهو إلاّ فورة نفسية رام من خلالها الشاعر أن يعيد الشباب إلى عروق جفت، أو عظام معزوفة، ومغامرات خبت، وزهو فقد تألقه، ولهو ذهبت حيويته.
فلجوء الشاعر إلى الماضي كان منفذاً للإيحاء والإيهام بأنه محتفظ بحيويته، ليبعد عن أسماعنا الحسرة الدامية، والحقيقة المؤلمة في ذهاب الشباب، ومجيء الشيب، وضياع العمر الراحل المنفلت من بين يديه شاء أم أبى، عبر الأصوات المختلفة التي شكلها الشاعر ليستعيد ذكريات الماضي.
بعد هذا التأمل لمجرى اللوحة نتابع ما تسقطته الأذان من أصوات وسماعها، وما شكلته الألفاظ، والبحر الطويل بإيقاعاته، والجرس الموسيقي المنبثق من تآلف الحروف وأصواتها لتكوين الصورة المركبة بعد سلسلة من الصور المفردة.
في مقدمته صور لنا ليلى تدعوه إلى الدنو منها، بالرغم من بعد عهدها من القرب والجوار، وما حالت بينهما من شواغل، فهو هنا على جهة التوهم من ندائها له، غير أنه يكابر في عدم الاعتراف بذهاب الشباب.
فهولا يستطيع الوصول إليها لمحادثتها ـ وإن دعته ـ لوجود الرقيب الذي يحفظها، ولكنها لم تفشِ سر زوجها إذا ما غاب عنها، فهي تحفظه في غيبته، وهي صورة معنوية للعفة، وصورة سمعية في الوقت نفسه من خلال تصوير غياب الزوج عنها وعدم إفشاء السر، والترحيب في حال أوبته:
ويعلن الشاعر تخليه عنها فيقول:
وما أنت أم ما ذِكْرُها رَبَعِيَّةً
يُخَطُّ لها مَنْ ثَرَمْداءَ قَليبُ(1)
ويتصاعد الصوت في أعماقه ليجهر به متحولاً إلى القوم في صورة مفردة أُخرى: شكّلها السؤال، والأداء الإيقاعي الخارجي، والنغم الداخلي الذي أشاعه صوت السين المهموس.
فإِنْ تسألوني بالنساءِ فإنني
بَصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ(2)
__________
(1) علقمة الفحل: ق 1 / 35.
(2) المصدر نفسه: ق1/135.(1/279)
ويسارع إلى الإجابة عن السؤال:
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قَلَّ مالُهُ
فليسَ لَهُ مِنْ ودّهُنَّ نَصيبُ(1)
1@بروضةِ نُعميٍّ فذاتِ الأجاولِ ... إن شحنة الألم التي غمرت الشاعر لرحيل الشباب وحلول الشيب، أشاعت جواً من الاضطراب النفسي، دفعه إلى هذا النسيب ليتخفف من وطأة الإحباط النفسي، ومن خلال التوظيفات السمعية تشكلت الصورة السمعية البسيطة المفردة الخافتة الموحية تارة، والمباشرة تارة ثانية حسب الموقف، غير منفصلة عن عنصري الزمان والمكان.
وفهو لم يقل (تدعوني) صراحة، قال: (تكلفني)، وقال: كلامها، ولم يقل حديثها، ولم تفش سر البعل، إذ توحي بالصمت، وإن كانت دلالة ذات إيقاع سمعي.
ولكنه بعدأنْ أعيته الحيلة ولم تُجْدِه نفعاً محاولته العابثة في النزوع إلى الماضي، عاتب نفسه في ذكر هذه المرأة البعيدة عن دياره وقبيلته.
ويتصاعد لديه صوت ملّح للتخلص من المأزق الذي وقع فيه، هو السؤال عن النساء ومعرفته عنهن الشيء الكثير، فينتهي إلى تقرير حقيقة، "إذا شاب المرء أو قل ماله لا ودّ له عندهن".
وتشكيل الصورة المركبة في لوحته هذه مايسمى بالبناء الدائري، لأن الشاعر ابتدأ لوحته بذهاب الشباب ومجي الشيب، ثم ختم لوحته بالمضمون نفسه.
قال النابغة الذبياني:
أهاجَكَ مِنْ أَسماءَ رسمُ المنازلِ
تَهادَيْنَ أعلى تُرْبِها بالمناخِلِ ... أَرَبَّتْ بها الأرواحُ حتى كأنّما
كميش التّوالي مُرْثَعِنِّ الأسافلِ ... وكلّ مُلِثٍّ مكفَهرٍّ سحابُهْ
تَبَعَّقَ ثَجّاجاً غزيرَ الحوافلِ ... إِذا رَجَعَتْ فيهِ رحىً مُرجَجِنَّةٌ
عهدتُ بها حيّاً كراماً فَبَدَّلتْ
خناطيلَ آجالِ النِّعاجِ المطافِلِ (2)
__________
(1) المصدر نفسه: ق1/36.
(2) ديوانه: 195.(1/280)
يقّدم لنا النابغة معاناة الغربة عبر مفتتح قصيدته المتمثلة بلوحة الطلل، وباعثها وقعة الغساني ببني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، فتركت أثراً بالغاً وآلاماً شديدة لدى الشاعر، لكونهم لم يستمعوا إلى نصيحته، فكان أنْ حلّ بهم الدمار والخراب، كما تعاورت الرياح والأمطار على الطلل لتعفيته.
فالصورة المركبة تشكّلت من الصور المفردة المستمدة مِنَ الطلل، إذْ حشد الشاعر رمزين للفناء هما: الرياح الملّحة، والأمطار الثقيلة الراعدة جرّاء السحاب المتراكب، فتعاور الرمزان على الخراب.
فالصور تعددت من الاستفهام، ومن صوت الرياح، وصوت المطر الذي يرعد مشبّهاً صوته بالرحى، وهو المطر الغزير الذي لِصَبِّهِ صوت، ولاستمراره وقع، على أن الأفعال المشددة هي الأخرى شاركت في النغم لينسجم مع تلك الأصوات: صوت الرياح، وصوت المطر الشديد، مثل: أَرَبْتْ، المُكْفَهِر، المرثَعن، تَبَعَقّ، بدلت، ثَجّاج، وقد تساوقت تلك الأفعال مع ما تؤديه في النسيج الشعري صوتاً ومعنى، فضلاً عن الجرس الموسيقي المنبعث من تآلف الأصوات المختلفة مثل تكرار (الرّاء)، الشديد ذي النغمة المرجعة التي يهتز بنطقه الوتران الصوتيان بما يخدم الإيقاع الداخلي والمعنى والصورتين السمعيتين المفردة والمركبة، كما كان لصوت النون والتنوين لما فيهما من رنين وغنة من أثر في الأداء الفني للصورة وإبرازها، لتتميز أكثر من غيرها بالرغم من وجود صور حسية إلى جانبها، ذلك كلَّه احتواه إيقاع خارجي تمثل بالبحر الطويل الذي استوعب الصورة السمعية، فضلاً عن المعنى والتأثير النفسي للشاعر مع القافية المجرورة المتمثلة بحرف الروّي ومجراها الكسرة، والروي صوت مجهور أدّى جرساً داخلياً خدم الأداءين الصوتي والمعنوي في تساوق التّرب بالمناخل، والسحاب مرثعن الأسافل، وغزير الحوافل،(1/281)
والصورة اللاحقة كانت في مجال التراسل، حيث أبدل الشاعر سكان المنازل بالجماعات المتفرقة من الأنعام مِنْ وعول ونعاج، وإيحاء الصورة السمعية منها بما يصاحبها من أصوات وحركة.
ومما تقدم لاحظنا كيف تعاورت تلك الصور المفردة متزاوجة لتشكيل الصورة المركبة عن الغربة، من خلال الطلل ورمزي الفناء والرياح والأمطار الراعدة، تلك الغربة التي أدّت بالشاعر لأن يقطع التواصل الذي كان قائماً بينه وبين قومه بدلالة غضبه/ المتمثل بتسليط الرياح والأمطار الراعدة على الطلل، وبالتراسل الذي أسبغه باستبدال الحيوانات بالبشر.
ومن الصور المركبة لوحة النابغة التي يقول فيها:
يا دارَ ميَّة بالعلياءِ فالسَّنَدِ
أقوتْ وطالَ عليها سالفُ الأَبَدِ
عيتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... وقفتُ فيها أُصيلاناً أُسائِلُها
والنُّؤيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ ... إلاَّ الأواريَ لأيا ما أُبيِّنُها
ضربُ الوليدةِ بالمسحاةِ في الثَّأَدِ ... ردّتْ عليهِ أقاصيهِ وَلَبَّدَهُ
وَرَفَّعَتْهُ إلى السِّجفينِ فالنَّضَدِ ... خَلَّتْ سبيلَ أتيٍّ كانَ يحبسهُ
أمستْ خلاءً وأمسى أهلُها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ(1)
لا يخفى أن الغرض الرئيس هو مدح النعمان بن المنذر، والاعتذار إليه ممّا بلغه عنه من وشاية بني قريع في أمر المتجردة.
بيد أنَ الأثر النفسي واضح من خلال تجربته التي شفَّ عنها النص من خلال سماعنا لصوته عبر ندائه المترجع ـ الذي لا يتضح إلا عن طريق النطق به وسماعه ـ لمفارقته دار (مَيَّة)، وسؤاله الموجع عنها، وعدم تمكّن الطلل من الإجابة، فضلاً عن الحركة التي تنطلق من الأفعال المختلفة، فيقع في حيرة من أمره، ويلفه الاضطراب، ويشتد قلقه فلذا نجده "يمرر من خلال حيرته الواقعة بين تساؤله وطلله الضائع أحاسيس الوحدة والغربة والانعزال"(2).
__________
(1) النابغة الذبياني: 76.
(2) لوحة الطلل في القصيدة الجاهلية (بحث): 39.(1/282)
فالنابغة يغرينا بربط لوحته هذه بالباعث النفسي المتوتر القلق على مصيره في بلاط النعمان، ومن هنا فإن الربط بين ماضيه المتمثل بالطلل وحاضره الذي سيفضي به إلى المستقبل المجهول، ينبعث أمامه في أصوات متداخلة تتهادى على شفتيه، ويسمعها المتلقي عبر صورة مركبة حية قائمة تبرزها الكلمات، هي أصوات الماضي والحاضر والمستقبل، والتشبث بالمكان المنفلت غير المحدود بموضوع في ذاته إلاّ من دار (مية) لكونها (الدار وميَّة) علامة بارزة في ذاكرته وعاطفته ترمز إلى النعمان وبلاطه.
فمن السؤال والصمت تتحرك لوحة الطلل عند النابغة، وتعتمد شكل الحوار الخارجي البسيط، حيث يفتتح الشاعر صورته السمعية المفردة بـ(يا) صيغة النداء التي قرع بها الأسماع، وينطلق سؤاله، ولكن دون جدوى، فما بالربع مِنْ أَحَدْ.
وينعطف إلى الحوار الداخلي عبر الحركة التي تعتمل بأعماقه من الوقوف والسؤال، وعدم الإجابة، والردّ، وضرب الوليدة، وخلت، ويحبسه، ورفعته، إنها أفعال قوية شديدة.
فضلاً عن وجود ألفاظ مثل: الأواري، والنؤي، والمظلومة (اليابسة)، والجَلَدْ: الصلبة: هي أصوات تعبّر كلها عن الصلابة بما يناسبها، وما التشديد على الكلمات إلاّ تشديد الشاعر على قهر الزمن للحياة، والذي يعبّر بدوره عن قهر النعمان له، وهي ألفاظ دلت على رموز البقاء والخلود تساوقت مع الألفاظ الدالة على الصلابة تشي هي أيضاً بتشبث الشاعر بعلاقته مع النعمان، وحرصه على العودة إليه وقبول اعتذاره.
فالألفاظ هنا أدّت "بجانب معناها النفسي العاطفي صوتاً يُتَمِّمه"(1)
__________
(1) مسائل فلسفة الفن المعاصر: 79 ومابعدها.(1/283)
أراد النابغة أن يكسر حدة صمت الطلل، فانطلق بالسؤال، يرمي إلى الهدف الأبعد وهو ردم الهوة التي اخترمت العلاقة، وأحدثت القطيعة بينه وبين النعمان، فكانت حالة الاغتراب، ولهذا فقد التجأ النابغة إلى النبع الأول، إلى عاطفته وماضيه وذكرياته عبر تساؤله، فأبان عن ألمهِ وقلقهِ، وتوتره بالصورة السمعية" والألم الذي يعبر عنه بالصوت يؤثر فينا على وجه العموم تأثيراً أبلغ من تأثير الألم الذي يعبر عنه بقسمات الوجه.. والشعر نفسه ليس في حقيقة أمره إلاّ جملة من الكلمات المختارة يقصد بها الشاعر إلى أنْ يهزّ الأذن هزّاً أقوى"(1)
ولابدّ لنا مِنْ أنْ نتوقف عند الصورة المفردة الثانية (وقفتُ أُسائِلُها) و(عيّت جواباً)، فالنابغة لم يذكر لنا الصمت، وإنما قال (عيّت جواباً)، إمعاناً منه في استخدام كلمات قوية تثير السمع، وأنّى للصخور الإجابة، ولكن سرعان ما يتدارك الشاعر الموقف فيذكر لنا مسوّغات عدم الإجابة (ومافي الربْعِ من أحد) لتكتمل الصورة.
إنّ التنوع الذي سلكه النابغة في اللوحة أدى به إلى إيجاد تنويعات متماثلة عبرت عن حقيقة واحدة هي الإقفار في صورة واحدة للبيتين الأول والثاني من القصيدة في صورة سمعية.
واستطاع الشاعر في صورة أخرى مفردة أن يعيد إلى أسماعنا حكاية (لُبَدْ) التي أوحى بها، متجاوزاً بها فناء المكان بفعل تسليط الزمان إلى العلاقة الفاترة بينه وبين النعمان، معلّلاً نفسه بحكاية لُبَد التي أسقط عليها حالته النفسية التي تشف عن حالة الوفاق مهما طالت فلابد لها من أن تنتهي، فربط القطيعة بالزمن الذي أثّر في الديار.
__________
(1) الشعر والتجربة: 23.(1/284)
وبالرغم من ذلك فهو لم ييأس من عودة العلاقة، متشبثاً بها عبر استيعابه لرموز الخلود في لوحته الطللية، وبما أنه قد عانى من الاغتراب (القطيعة) التجأ إلى طلل مَيَّة، يناجيه، للتعبير عن حالة نفسية، مصوراً من خلال الطلل ماضيه مع النعمان بأصوات حسيّة مختلفة، أثارتها الألفاظ التي كونّت الصورة المفردة وشكّلت بعد ذلك الصورة المركبة إذ "إن معنى القصيدة إنّما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعان. وذلك التكثيف للمعنى الذي نشعر فيه في أية قصيدة أصيلة إنّما هو حصيلة لبناء الأصوات"(1).
وتتلاحم أجزاء قصيدة النابغة بعضها ببعض، فتتعالى فيها الأصوات المختلفة من: صريف الأنياب، وصوت كلاّب، وقول النفس، والقَسَم، ومقالة الأقوام، والنبأ، وزئير الأسد، والثناء، والسماع، وغيرها، ذلك كله يؤدي إلى التواصل اللفظي الشفاهي وتمثله في الأذن لتكوين صورة سمعية من مفردة، وصوت، ومعنى.
إنَ تساؤل النابغة، وعدم تلقي الإجابة يتماثل في ثنائية، هي، الفاصلة الزمنية، بين مَيّة ودارها، وبين قربه من النعمان ، وبعده عنه، إنها أصوات معبرة تنشد في كل مكان لكونها مدحاً، واعتذاراً، يجب أن يصلا إلى أسماع الناس ليشهدوا على أقواله، وإلى أسماع النعمان، ليهتز انتشاءً بقدرته، والاعتراف بقوته، وسلطته وخضوع النابغة له أمام الناس جميعاً.
ومن أمثلة الصورة المركبة قصيدة قيس بن منقذ السلولي المعروف بابن الحدادية:
أَجِدِّكَ إنْ نُعْمٌ نأَتْ أنتَ جازِعُ
قد اقتربَتْ لو أنَّ ذلك نافِعُ
نَوالاً ولكنْ كُلُّ مَنْ ضَنَّ مانِعُ ... قد اقتربتْ لو أنَّ في قُرْبِ دارِها
فما نَوَّلَتْ واللهُ راءٍ وسامِعُ ... وقد جاوَرَتْنا في شهورٍ كثيرةٍ
وَسَلْ كيف تُرعى بالمغيب الودائعُ ... فإِنْ تَلْقَيَنْ نعُمَى هُدِيتَ فَحَيِّها
على عَجَلٍ: أيَّانَ مِنْ سارَ راجعُ ... وقلتُ لها في السِّرِ بيني وبينها
__________
(1) الشعر والتجربة: 23.(1/285)
وَشَحْطُ النوى إلاَّ لذي العهدِ قاطِعُ ... فقالتْ لقاءٌ بعَدَ حولٍ وحجّةٍ
ويسترجعُ الحيَّ السَّحابُ اللوامِعُ ... وقد يلتقي بعد الشِّتاتِ أولو النَّوى
ليفجَعَ بالأظعانِ مَنْ هو جازِعُ ... سعى بينهم واشٍ بأفلاقٍ بِرْمَةٍ
وَرَصَّفَهُ واشٍ مِنَ القومِ راصِعُ ... بكتْ مِنْ حديثٍ بَثّهُ وأَشاعَهُ
ولا تَتَخالَجْكِ، الأُمورُ النَّوازِعُ ... بكتْ عينُ مَنْ أبكاكِ لا يعرِفُ البُكا
أَلاَ كُلُّ سِرٍّ جاوزَ اثنينِ شائِعُ ... فلا يَسْمَعَنْ سرّي وسركِ ثالثٌ
وكيف يشيعُ السرُّ منِّي ودونَهُ
حِجَابٌ ومِنْ دونِ الحِجابِ الأضالِعُ(1)
كان قيس الحدادية يهوى (نُعَماً) الخزاعية بنت ذؤيب، وتسمى أم مالك، وكانت بصحبة أخيها قبيصة ممن خرجوا إلى مصر والشام لأنهم أجدبوا.
ذلكم هو الظرف الخارجي، والباعث الآني الذي دفع الشاعر إلى قول النص. أما تجربة الشاعر النفسية التي نستشفها من خلال الصورة المركبة الكلية فهي الحرمان الصريح من خلال الفكرة العامة التي تشابك فيها النسيب مع الغزل للتعبير عن حالة حب انتشرت على مدى اثنين وأربعين بيتاً، تداخلت فيها لوحات الرحلة، والظعن، والوشاية، تضمنت حواراً عذباً شفّافاً رقيقاً، فكأن القصيدة لوحة واحدة طويلة.
توحدت القصيدة بألم الفراق جرّاء الرحيل من جانبين: رحيل حبيبته، ورحيله هو أيضاً لتعرضه للخلع من لدن قبيلته، وعانى من الفراق الخاص الذي يقطع كل صلة بحبيبته بسبب الوشاية.
__________
(1) شعره: ق 9/210-212 . أفلاق: جمع فَلَق: وهو المطمئن في الأرض بين ربوتين، وبِرْمَة: موضع، الراصع، المزّين للكلام. تتخالجك: تتنازعك. والنوازع التي تنزع النفوس من صدرها.(1/286)
وانطلقت نفس المشاعر على سجيتها، حتى نكاد نلمس أنها انعتقت من القيود الفنية في تقسيم القصيدة إلى لوحات كما هو في الموروث الشعري، وإن تخللت القصيدة لوحتا رحلة وظعن، ولكنهما قد تداخلتا بجسري لفظ ذابا في القصيدة نفسها بشكل فني رائع،وحسبه أنْ زاد فيه النأيُ ألماً وشوقاً دون أن يتكلف في التعبير، حتى لتصلح أن تكون قصة.
في الصورة المفردة الأولى ومن خلال البيتين اللذين افتتح بهما الشاعر قصيدته نجد صوت الاستفهام الذي شكل بداية لصورة سمعية، بيد أن الأصوات التي خلقها حرف القاف الحلقي (اقتربت، قرب، قد)، والتشديد، والتكرار، (اجدّك)، وضن، نوّلت، شكّلت صورة سمعية مفردة هي صوت الذكريات، والجزع، وعدم النوال.
ثم يسترسل إلى لفظة (سامع) في البيت الثالث، التي تعني السماع المباشر بعد أنْ مهدّ له بالبيتين السابقين، فهو يشهد الله سبحانه وتعالى (راء وسامع) على ما بَثّه على مسامعنا مِنْ حالته مع (نُعْم).
إنَ العلاقة بين الشاعر وحبيبته يثير في فضاءِ القصيدة ثنائيات تتمحور حولها، يلتقطها المتلقي عبر رموز مختلفة تتمثل في الشك بتأثير الفراق من خلال ثنائية القرب والبعد، وعدم اختلاف الحالة فهما سيّان: عدم (النوال، والضن)، واللقاء وقطعه، والشتات ـ اللقاء، راجع ـ قاطع، وكذلك عبر ثنائية المتواليات (التحية والسؤال)، فالتحية هنا تسبق السؤال، والسُّحُب اللوامع مع الماطرات دلالة الخصب، وبين الجَدْب الذي اتخذه الشاعر رمزاً لشيئين الأول يتمثل في الباعث الآني: الرحيل، ويتمثل الثاني في جدب العلاقة، فضلاً عن وجود الصورة السمعية الواضحة في (وقلت لها ـ فقالت)، من خلال المحاورة التي تلتقطها الأذن وتمثلها وترسم لها صورة سمعية من خلال الحديث في السرخوف إذاعة الحديث وما يتعلق به من أصوات النفس، ووجيب القلوب والجرس الداخلي لأصوات الحروف.(1/287)
تلك الثنائيات من خلال رموز القصيدة أثارت انفعالات الشاعر في صورة سمعية مفردة موحية تارة، وواضحة تارة ثانية، حيث نشر التناغم بين تلك الرموز ظلاله على القصيدة، فتحولت الصورة إلى الأذن لالتقاط حديث النفس التي أفضت به حالة الشاعر التي تشكو من الجدب الحقيقي، عبر أصوات النفس ورغباتها.
وثنائيته الأخرى (الجنس)، فيتحول الجدب إلى قتل الوعد، والقضاء على الأمل، وانحسار الخصب الذي يبقى سرّاً في السحابة الماطرة، عبر أصوات الأفعال وتساوقها النغمي الداخلي.
فكشفت الصورة عن بعدها النفسي الذي تجلى فيه الإحباط، وجسدته فاعلية التضاد في الثنائيات التي ذكرناها آنفاً، فضلاً عن ثنائية الزمن المُغْلَق المحدد (الشهور، وحول، وحجّة)، والزمن المطلق (السحاب اللامع)، وإن كان يُخيّل إلينا أنه زمن مغلق لتكون في وقت محدد يلائمه، بيد أنه قد يتأبّى علينا في حينه، ولا يتكون، أو يتكّون ويستعصي على الإمطار، على أنّ الصورة السمعية مجالها الزمان مع أصواتِ جلبةِ سكانِ الحي حين عَوْدَتِهم، فهي أصوات موحية.
وفي صورة مفردة أُخرى اجترحت قصيدة قيس بن الحدادية مشاعرً محب فارقته حبيبته بسبب الجدب، فنأت إلى مساقط الغيث والخصب، وبسبب الوشاية التي شكّلت لنا صوراً سمعية بلغة عذبة بسيطة، تميّزت بسهولة ألفاظها، فعبّرت عن أغوار نفسه، حتى لنجد الألفة تشيع فيها، فكانت قريبة من القلب، ملتصقة به عبر الأذن، فكونّت صورة سمعية مركبة بعد أن قذف بها القلب إلى اللسان فتهادت المشاعر ضمّها الحوار المنشر في القصيدة، فهو يدعو على الواشي الذي بث حديثاً وأشاعه، فبكتْ من جرائه الحبيبة (بكت عين من أبكاكِ ... ).
ويحملنا على أنْ نشاركه في الاستماع إليه، والإصغاء إلى صورته السمعية التي ذهب فيها إلى تقرير حكمة ثابتة في إطارٍ من الفنية من خلال الأذن التي تسمع السر، ومن خلال الأصوات الأُخر:
فلا يسمعنْ سرّي وسرَّكِ ثالثٌ
أَلا كُلُّ سرٍّ جاوزَ اثنين شائِعُ(1/288)
وكيف يشيعُ السرُّ منِّي ودونَهُ
حِجابٌ ومِنْ دونِ الحِجابِ الأضالع(1)
كان الشاعر صادقاً في نقل أفكاره وأسمعنا ما يعتمل بأعماقه، حينما قَدَّم لنا مجموعة مِنَ الصور المفردة لتقديم الصورة المركبة التي عبّرت بأمانةٍ عن خلجات نفسه التي كانت تتشظى من ألم الفراق، ولوعة الحرمان، وكان واضحاً صريحاً في نقل الحوار الذي كان بينه وبينها في صور متعددة تسربت إلى النفس عبر السماع لرّقتها، مما جعلنا نتعاطف معه من خلال الإصغاء لأصوات النفس والقلب الصريحة والموحية.
وفي صورة مركّبة لكعب بن زهير تَتّحد أجزاء الأبيات وتتصاعد منها أصوات متعددة صريحة ومخفيّة، من السؤال، والتذكر، والحديث، وجلبة الجن، وتواصل تلك الأصوات وتمثلها في الأذن لتكوين الصورة السمعية المفردة وتلاحم أجزائها لتكوين الصورة السمعية المركبة بالرغم من التنافذ الحسي المتداخل بين الصور المختلفة:
أَنَّى أَلَمَّ بكِ الخيالُ يطيفُ
ومطافُهُ لك ذِكرةٌ وشُعوفُ
مِنْ آل خولَةُ كُلَّها معروفُ ... يسري بحاجاتٍ إليَّ فرُعنني
مالا أنال فإنني لعزوفُ ... فَعَزَفْتُ عنها إنما هو أَنْ أرى
ولما أَلَمَّ مِنَ الخطوبِ عروفُ ... لا هالكٌ جَزَعاً على مافاتني
صفراءُ آنسةِ الحديثِ بمثلِها
يَشفي غليلَ فؤادِهِ الملهوفُ(2)
في البدء لابدَّ لنا من القول إنَ حياة كعب قد تميزت بمعاناته المتمثلة في عدم الاستقرار، سواءٌ أكان ذلك في قبيلته، أم في مشكلاته العائلية مع زوجه، وعدم انسجامه معها.
إن القصيدة انبثقت من إحساس الشاعر، وألمه النفسي العميق، ومعاناته الصادقة، تلك الأسباب، وما أسبغ عليها من إنسيابية وحيوية، ضمن صياغة فنية كانت كافية لأن تغرينا للإصغاء لها، وتتبعها لنلمس تألق الشاعر فيها.
__________
(1) المصدر السابق: 212.
(2) ديوانه: 113 -114.(1/289)
التجأ كعب إلى لوحة الطيف والخيال هرباً من الواقع، للعثور على بغيته بعد أنْ أخفق في تحقيق مايصبو إليه مع امرأته في الواقع المعيش، فلابد هنا من إيجاد وسيلة بديلة للواقع، فالتجأ إلى الحلم لتطوف عليه المرأة التي يجد فيها المثال لينعم بالاستقرار.
ومزج الشاعر في لوحته صوتاً من صوت الواقع، وصوت الحلم، فبدأ صورته السمعية المفردة مستفهماً بـ(أنّى) زاره طيفها، ولا يترك السؤال حائراً، والاستفهام مجهولاً دون إجابة، بل يوافينا بها، مستحضراً (الذِكرى) نقيض النسيان، ليبقى القلب ولوعاً بذكراها، حتى يذهب به بعد أن يغشاه الحب، ويحرق قلبه.
ففضاء الصورة عبر القصيدة تحوم فيه ثنائية صوتي النسيان والذكرى، وينتقل من الفراغ إلى الولوع، لشيء من السكون إلى المطاف، على أن هذا الخيال قد سرى بحاجات أفزعته.
وفي صورة لاحقة بات مختصراً من لدن الجِن، وأصبح ميئوساً منه لذهاب عقله، وقد عبّرت عن ذلك ثنائيات الهدوء واحتضاره، من العقل إلى الجنون، من خلال جَلَبة الجِن وتغييرٍ ظاهرين، وارتعاد فرائص الشاعر (صورة سمعية)، في استحضارات ينعدم فيها الصوت، لما تتوسل به الجن من طرائق غيبية خارقة، أسطورية، بالرغم من أنَّ الشاعر لم يستحضر صورة تفصيلية للجِن، ولا كيف سيطرت عليه، وإنما اكتفى بالتلميحات إليها، وأوضح لنا آثارها.
بَيْدَ أنه مزج الصورة السمعية بالصورة البَصَرية في البيت الرابع (إنما هو أن أرى) بالصّور الحسية المختلفة من ذوقية ولمسية وشمية (مالا أنال).
غير أنه في صورة لاحقة يعيدنا إلى الصورة السمعية (آنسة الحديث) عَبْرَ صور متداخلة، لونية (صفراء)، فيطيب مزاجه من أثر الطِّيب (شمية) ويرهف السمع، ويأنس بالحديث المتناغم، فيأبى إلاّ أنْ ينقل ذلك لنا عبر الصورة السمعية، فلا يفصّل في حديثها، لأنه تركه للمتلقي إيحاءً لكل حالةٍ بما يُماثِلها.(1/290)
ولا ننسى التجانس والتكرار اللفظي بين (يطيف ومطاف)، و(عزفت وعزوف)، و(فَرُعْنَني ـ ريع)، لِمَا يحدثه مِنْ تأكيد المعنى، وما يؤدّيه من إيقاع داخلي نكاد نسمعه.
عبّرت صورة كعب المركّبة عن صوت الأعماق منْ خلال الحلم، لتحقيق مايطمح إليه من تحقيق رغبته في إيجاد المرأة المثلى لتكون مدعاة للاستقرار بعد الاضطراب، على أنَّ البحر الكامل قد استوعب مشاعر كعب بن زهير، عبر إيقاعاته المتناغمة وصخبها، متساوقاً مع تكرار الألفاظ ذات الدلالة الإيقاعية لتكوين صور سمعية مفردة ومركبة من اللفظة والصوت والمعنى والجرس الداخلي والإيقاع الخارجي.
السرد القصصي:
يُعَدُّ السرد القصصي أو الحكائي من وسائل الشعر لتحقيق الصورة المركبة، ولانعدام وجوده في الشعر الجاهلي الذي وجد فيه وسيلة جديدة للإبداع، ليصوّر لنا بعض الأحداث التي يروم إيصالها إلينا مما استقاها من الواقع، أو التاريخ، أو الحكايات، والأمثال، أو لَوَّنَها بالخيال السمعي.
على أن تراث العرب الشعري لم يكن بمنأى عن السرد القصصي في بعض جوانبه فلا تخلو قصائد الشعراء منه خاصة افتتاحيات قصائدهم، فضلاً عن وجوده في أغراضها، كما أشار الشعراء إلى أحداث الأيام ووقائعها إلى جانب الأساطير(1).
ومن يستقرئ الشعر الجاهلي يجد في بعض نصوصه حواراً بسيطاً ولا يخرج عن نطاق المساجلة الآنية، والفكرة المؤقتة، والتأثر الذاتي، ولكنه يمثل اتجاهاً قصصياً، ومجرى حوار كان يأخذ بُعْدَهُ في الواقع الشعري ويرسم ملامح توجهات قصصية معروفة"(2).
__________
(1) ينظر كتاب أيام العرب في الجاهلية: 77.
(2) لمحات من الشعر القصصي في الأدب العربي: 33.(1/291)
ولذا فإن التوجه لبناء الحدث بناءً حوارياً يتمثل في إخضاع التجربة الموضوعية نفسها لنمط من المعالجة السردية من خلال استخدام عنصر الحوار، أو تنامي الحدث وشموله لتفاصيل متماسكة تؤدي من خلال تتابعها إطار القصة ومنطقها السردي(1).
وكانت القصيدة تسير إلى أنواع أكثر تعقيداً.. حيث يميل إلى الحكاية والحبكة والسرد والروح القصصي ثم يقترب من الدراما(2).
ويبدو أن السرد القصصي أقدر على استيعاب التجربة الشعرية، وتكوين الصور المركبة، لِما يقتضيه الموضوع المطروح من تطويع في إطار فني يستدعي توافر الإقناع عبر تصوير الصراع النفسي المنبثق من الرغبة الذاتية وواقع القبيلة، ومن ثم الانتهاء إلى معالجته.
ومن هنا تجد النصوص التي امتازت بسردها القصصي قد تمثّلت في (الظعن)، وقصص ثور الوحش، وحمار الوحش، والنعامة، والصيد عن طريق الفَرَس، وحوار العاذلة، فضلاً عن الحكايات المأثورة، والقصص الموروثة مثل قصة النبي سليمان (عليه السلام)، وزرقاء اليمامة، وقصة السموْءل الذي استودع امرؤ القيس عنده دروعه وسلاحه ومقتل ولده، وتسخير ذلك كله للغرض الأساس الذي كان يهدف إليه الشاعر.
وعبر هذا السرد القصصي نجد أمرأ القيس يقيم محاورة مع عنيزة، عامداً فيها إلى ضرب من تشكيلِ صورةٍ مركبة من خلال حشد الصور المفردة المتآزرة بعضها مع بعض في ضربٍ من التفصيل والشرح المسوّغ، لتتفاعل مجتمعة مكوّنة الهدف الذي يسعى إليه الشاعر من محاورته في أنه قد تمكن من عنيزة:
ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ ... فقالتْ لكَ الويلاتُ إِنكَ مُرْجِلِي
تقولُ وقدْ مالَ الغَبيطُ بِنا معاً ... عَقَرْتَ بعيري يا امرَأَ القيسِ فانزلِ
فقلتُ لها سِيري وأرخي زِمَامَهُ ... ولا تُبعديني من جَناكِ المُعَلَّلِ
__________
(1) دراسات نقدية في الأدب العربي، البناء القصصي في القصيدة الجاهلية: 83.
(2) الأصول الدرامية في الشعر العربي: 57-58.(1/292)
فمثلكِ حُبلى قد طرقتُ ومرضعاً ... فألهيتُها عَنْ ذي تمائمَ مُغْيَلِ
إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفتْ له ... بِشِقٍّ، وَشِقٌّ عندنا لَمْ يُحَوَّلِ(1)
انبثقت من تلاحم أبيات امرئ القيس أصوات مختلفة من الحوار بينه وبين عنيزة، ومن أصوات الأفعال المختلفة، ومن لفظ التقبيح الذي انطلق صوته صائحاً به مقبّحاً فعله، ومن الأصوات المخفية التي تَشَكَّلَ انتشارُ خبرهما ومن ثم الفضيحة، وبكاء الطفل، وغيرها، كما أن تكرار الألفاظ، وتكرار أحرف القاف والنون والتنوين أثّرا في إشاعة النغم القوي في الأبيات، ممّا تمثلته الأذن عبر التقاطها لتلك الأصوات جميعاً وتشكيل الصورة السمعية.
فالصورة المفردة الأولى صوّرت لنا دخوله الهودج، وقد تعالى صوتها بالدعاء عليه (لكَ الويلات)، لأنها والحالة هذه ستكون راجلة، وهي تحذّر الفضيحة، فضلاً عن عدم استيعاب الهودج لشخصين.
والصورة الثانية تعكس ميلان الهودج وقد (أخبرته) بضرورة النزول
لجرح بعيرها، في حين تأتي الصورة الثالثة لتوضح لنا قوله بأن تسير وتهون من الأمر. وألاّ تبالي بشيء سواء أعقر البعير أمْ لمْ يعقر، وإلاّ يبتعد هو عن التمتع بجمالها، على أنّ للأداء الصوتي الداخلي أثراً آخر في تكوين الصورة السمعية من خلال صوت النون والتنوين للترنّم والغُنة وأثر ذلك في الأذن.
__________
(1) ديوانه: ق1/ 11-12.(1/293)
ثم ينقلنا إلى الصورة الرابعة التي تمثل إحدى مغامراته، حيث يوضح لنا طريق إخبارها، إعجاب النساء به، الحُبالى والمرضعات منهن بالذات، كيما ينفي عن نفسه (الفِرْك) أولاً، وإظهار ولعهن به ثانياً، ولكنه يقدّم لنا صورة سمعية خفية إيحائية عبر لفظة (مُغَيَل) فإذاما بكى الطفل قربته إلى حَلَمةِ ثديها فيرضع لبنا ليسكت، لأنه إذا ما استمر في البكاء والصراخ سيفضحها، وهي في حالة مريبة، غير أنّ الشاعر يتحول إلى الصورة السمعية الصريحة (بكاء الطفل)، وبالرغم من ذلك، فهي لم تتحول عنه، تظل متعلقة به، فصراخ الطفل الصريح والإيحائي شكلّ صورة سمعية متلاحمة مع صور حسية أخر.
ومن خلال الصور السمعية المفردة وتضافرها تشكلت الصور السمعية المركبة، من لحظة دخوله الخِدْر وتمنّع عُنيزة إلى لحظة التمتع (بالجَنى المعلّل)، وإعجاب النساء به عبر تشكيلات صوتية متعددة من المفردة، والمعنى، والصوت الصريح والمخفي، والجرس الموسيقي، والإيقاع الخارجي.
وقد يتجه الشاعر إلى جعل الحدث يتنامى بشكلٍ يؤدي إلى توافر مناخ القصة المتكاملة بأبعادها الفنية، كما في قصيدة عروة بن الورد في فراقه لزوجه ليلى بنت شعواء التي مكثّتْ عنده زمناً، ثم فاداها وهو سكران، وقد استخدم اسم (سلمى) في القصيدة بدلاً من (ليلى) الاسم الحقيقي، وسرد لنا قصته معها، وصوّر لنا ندمه على افتداء امرأته، قال عروة بن الورد:
أرقتُ وصحبتي بمضيف عَمْقٍ ... لبرقٍ في تِهامةَ مُسْتَطيرِ
إذا قلتُ استَهلَّ على قَديدٍ ... يَحورُ رَبابُهُ حَوْرَ الكسيرِ
تكشفَ عائذٍ بَلْقَاءَ، تَنفي ... ذكورَ الخيلِ عنْ ولدٍ شَفورٍ
سقى سلمى، وأينَ ديارُ سلمى؟ ... إذا كانت مجاورةَ السَّديرِ
إذا حَلّتْ بأرضِ بني عليٍّ ... وأهلي بين إِمْرَّةٍ وكيرِ
ذكرتُ منازلاً مِنْ أُمِّ وَهْبٍ ... مَحَلَّ الحيِّ أَسْفَلَ ذي النَّقيرِ
وأحدثُ معهداً منْ أُمِّ وَهْبٍ ... مُعَرِّسُنا بدار بني النَّضيرِ(1/294)
وقالوا: ما تشاءُ؟ فقلتُ: ألهو ... إلى الإصباحِ، آثَرَ ذي أَثيرِ
بأنسةِ الحديثِ رضاب فيها ... بُعَيْدَ النومِ كالعِنَبِ العصيرِ
أطعتُ الآمرينَ بصرمِ سلمى ... فطاروا في عَضاةِ اليَستعورِ
سَقوني النسيء ثم تكنفوني ... عداةُ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزورِ
وقالوا: لستَ بعدَ فداءِ سلمى ... بمغنٍ ما لديكَ، ولا فقيرِ
ألا وأبيكَ لو كاليومِ أمري ... وَمَنْ لكَ بالتَّدَبُرِ في الأمورِ
إذاً لملكتُ عصمةَ أُمِّ وَهْبٍ ... على ماكانَ مِنْ حِسَكِ الصدورِ
فيا للناسِ كيف غلبتُ نفسي ... على شيءٍ ويكرهُهُ ضَميري
ألا يا ليتني عاصيتُ طَلْقَاً ... وجبّاراً ومَنْ لي مِنْ أَمِيرِ(1)
يقدم لنا الشاعر في هذه القصيدة التي تصور أسفه وندمه على افتداء امرأته ومفارقته لها عبر صورها المفردة التي شكلت بتلاحمها صورة مركبة لأحزانه.
فالصورة الأولى أخبرتنا كيف أرَّقَهُ وصحبه في مضيف عمق بالمدينة بَرْقٌ قد انتشر في تهامة، وهو يكاد لا يقول قد هطل المطر على قديد (محل من مكة على مرحلتين)، حتى يتبدد السحاب، ويتكشف كما تكشف ناقة ذات ولد عن بطنها الأبيض، وهي تذود الخيّل عن ولدها برجلها، فالصورة تشكّلت من التشبيه والمدركات الحسية بضمنها (السمعية) عبر الاستفهام الخفي، والقول الصريح، والأفعال والحركات، والجرس الموسيقي لتكرار حرف القاف الحلقي وما أشاعه من نغم.
وتنقلنا الصورة الثانية إلى تذكر إقامتها معه في مختلف الأماكن، وتذكره أحدث مكان كانا فيه معاً، مما يستدعي (التذكر) صورة سمعية، إلى استثارة الحواس جميعها في حالة بعث الماضي بأحداثه وذكرياته وما يتعلق برجع صدى الماضي.
ثم ينتقل بنا الشاعر إلى تصوير لهوه معها في ديار أهلها قبل أن يفاديها في صورة مفردة ثالثة، مستنهضاً المدركات الحسية من لون (بَصَرية)، وحديث (سمعية)، ونوم (لمسية)، والعِنب العصير (ذوقية ـ لمسية)، ونجد أن الصورة السمعية لم تنفرد وإنما تزاوجتْ مع صور حسية متعددة.
__________
(1) ديوانه: ق 1 /11-12.(1/295)
وفي الصورة الرابعة يصوّر لنا كيف أنه أطاع (الآمرين)، بترك سلمى وأخذه الفداء مساعدة منهم، وتفرقهم عنه بعدما سقوه مُسكراً أنساه الحب، فصوتُ الندم يتعالى في نسيج الشعر من خلال الأفعال التي ساقها مشكّلةً في أساسها صورةَ الندم عبر أسماعنا تفاصيل ماحدث له.
وفي الصورة الخامسة نجده يصحو ويتألم، لو كان يملك أمره لم يفارقها، وأمسكها على مابينه وبين قومها من العداوة و(يستغيث) ممّا حلَّ به منْ ألم الفراق وما اعتراه من ألم على ما غلبته النفس على شيء كان قد أضمرَ ألاّ يفعله ثم فعله، وكان يقول: ليتني عصيت أمر الفداء، وعصيت أمرها وأمر أهلها، فالصورة تشكّلت من أصوات عديدة منها الاستغاثة، والندم لعدم امتلاكه أمره، كما نسمع صوته في القَسَم والاستفهام والتمني، والتمرد على الأمر الذي أطاعه وأَضَرَّ بهِ، فضلاً عن تكرار أصوات النون ذات الرنين والغنة المتساوقة مع حالة الأسى.
إنَّ التآزر والتآلف بين أجزاء قصيدة عروة بن الورد بعضها ببعض قد أدّى إلى تشكيل الصورة المركبة من خلال الصورة المفردة، على أننا قد سمعنا الأصوات المختلفة التي أطلقها الشاعر من جهة الإخبار في وصف الأرق، والقول، والحركة، والأفعال، والاستفهام، والذكر، والحوار، والحديث، وإطاعة أمر الآمرين، وشهادة الكذب والزور، والقَسَم، والاستغاثة، فضلاً عن تكرار أصوات الأحرف المختلفة، مثل: القاف، والسين، والنون، لما لها من أثر يشكّل تدفقاً نغمياً يتيح للبحر الوافر من خلال تفعيلاته المتلاحقة أن يستوعب حالة الأسى والانكسار، تلك الحالة التي تساوق معها حرف الروي (الراء)، المجرور المعبّر عن آلام الشاعر وانكساره النفسي.(1/296)
على أن الشاعر كرر (السين) تسع عشرة مرة، الذي اختاره من اسم (سلمى) في قصيدته(1)، التي اخترناها للتحليل، والسين صوت مهموس، قد يكون اختيار الشاعر له لأنه يشيع في نفسه إيقاعاً خاصاً يذكّره بسلمى لحبه لها، والتعويض عن الحرمان منها، وبعدها عنه.
إن حشد تلك الصور المتآزرة مع الأداء الموسيقي الخارجي والداخلي في هذا السرد القصصي قد شكّل لنا صورة مركبة لندم الشاعر وحزنه وأساه على مابدر منه وفرط به، ومفارقة سلمى إلى الأبد.
ويعرض الأعشى علينا محاورة بينه وبين الخَمّار في أسلوب قصصي جميل حيث يقول:
أَتاني يُؤامرِني في الشمو ... لِ ليلاً فقلتُ لها غادِها
أَرِحنا نباكر جَدَّ الصَّبو ... حِ قبلَ النفوسِ وحسّادِها
فقمنا ولمّا يَصِحْ ديكنُا ... إلى جونةٍ عندَ حَدّادِها
تَنَخَّلَها مِنْ بكارِ القطافِ ... أُزيرقُ آمنُ إِكسادِها
فقلنا له هذه هاتِها ... بأدماءَ في حَبْلِ مُقتادِها
فقال تزيدونني تسعةً ... وليستْ بِعَدْلٍ لأَندادِها
فقلتُ لمنصِفنا أُعْطِهِ ... فلّما رأى حَضْرَ شُهّادِها
أضاءَ مظَلَّتَهُ بالسرا ... جِ والليلُ غامرُ جُدّادِها
دراهِمُنا كُلُّها جَيِّدٌ ... فلا تَحْبِسَنّا بِتَنْقادِها
فقامَ فَصّبَّ لنا قهوةً ... تُسَكِّنُنا بَعْدَ إِرْعادِها(2)
__________
(1) قصيدته التي اخترناها للتحليل ضمت ستة عشر بيتاً.
(2) ديوانه: ق 8/69-71.(1/297)
تعرض الأعشى لأدق التفاصيل، واصفاً كلَ شيءٍ، وقدّم حشداً من الصور المفردة بهدف الوصول إلى الصورة المركبة التي تعبّر عن تنامي الحوار للوصول إلى اللهفة على الخمر لتتمشى في المفاصل وترعدها وتستسلم إلى اللذة فتهدأ، مستخدماً المدركات الحسية المختلفة: البَصَرية، والسمعية، واللمسية، والذوقية، بما يخدم الحالة النفسية من ناحية، وتشكيل الصور المفردة لتكوين الصورة المركبة من ناحية ثانية، على أن الصورة السمعية كان لها الموقع المتميز لطبيعة الموضوع الذي فرض الحوار، ولطبيعة الشاعر الذي امتاز بصوره السمعية لكونه أعشى ولكون مجلس الشراب يتطلب الصور السمعية.
فالأعشى ابتداء ومن خلال الصورة الأولى، يصوّر لنا مجيء الخمّار يشاوره في أمر خمرٍ ليلاً، فدعاه لأن يبكّر بها إليه، وقد رجعت نفسه واستراح من الإعياء وهو يطالب التعجيل بالصبوح، فالصورة قائمة على أصوات سمعية من القول والفعل والجرس الموسيقي.
ثم يقدّم لنا الصورة الثانية قيامه وأصحابه والديك لم يصح بعد (سمعية)، إلى خابية الخمر النفيسة السوداء المطليّة بالقار عند صاحبها، وهي متخيرة من بكار القطاف، وطلبوها من الخمّار، وهم يبذلون في ثمنها ناقة بيضاء في حبل العبد القائم على خدمتها لا تخرج تلك الصورة عن الحوار.
وفي الصورة الثالثة: نجد الخمّار يتلكأ في إجابتهم لِما يبتغون (فيساومهم) فيطلب زيادة، وهنا يتصاعد الاحتدام النفسي الداخلي لدى الأعشى، وينفذ صبره، فيطلب من الخادم إعطاءه مايريد خوف ضياع الوقت في المساومة، حيث تتعالى أصوات المساومة والمحاورة.(1/298)
أمّا الصورة الرابعة فتنقلنا إلى الخمار العلج عندما رأى الخادم يُخرج المال، أضاء خباءه الكبير بالسراج وقد بدت هدبه متدلية وقد غمرها الظلام، وراح ينقد الدراهم، ويسمع رنينها، يميز العملة الصحيحة من الزائفة، مما ساعدت هذه الصورة السمعية على ازدياد التوتر لدى الأعشى، وإن سبقت الصورةُ البصرية السمعية، ولكن السمعية قد طغت على غيرها من الصور بسبب ما أشاعته صورة عد الدراهم وسماع رنينها لنقدها.
وفي الصورة المفردة الخامسة تمر اللحظات بطيئة ثقيلة حتى إن صبر الأعشى قد نفد فصاح متعجلاً معلناً أن الدراهم جيدة، وليست بحاجة إلى تنقاد، فيعمد الخمّار إلى الدّن، فيصب لهم الخمر، فالصوت مازال منبعثاً نسمعه من الأعشى ومن صوت الدراهم.
ثم يحشد الشاعر الصورة السادسة، فيصوّر لنا الخمر قد تمشّت في مفاصلهم، فأرعدتها، ثم استسلمت تلك المفاصل للذة الخمر فسكتت، فالفعل والحركة فضلاً عن الرعدة وإسكانها كأنما نسمعها بآذاننا.
ومن خلال المحاورة بين الأعشى والخمّار، عبر الأصوات المنبعثة من الصورة مثل: القول، وصياح الديك، وطلب الزيادة، وتنقاد الدراهم عبر رنينها، والإرعاد، ومن الأفعال المختلفة، والألفاظ الموحية بالصورة السمعية، ذلك كله أدّى إلى التواصل السمعي عبر ما تتلقفه الأذن لتشكيل الصورة السمعية، على أن الإيقاع المتتابع المتدفق في بحر المتقارب قد استوعب الأسلوب القصصي ومافيه من حوار وأصوات نسمعها من خلال الصور التي شكّلها الأعشى في أداء نغمي يمنح فرصة السماع أكثر من التنافذ الحسي للمدركات المختلفة التي ساهمت بدورها في تشكيل الصور.(1/299)
كان الأعشى بارعاً في نقل هذه الحالة عبر نسيجه القصصي حتى لكأننا نقرأ، أو نسمع قصة حديثه في متابعة فنية دقيقة لأجزاء الحوار، فضلاً عن الحبك، القصصي، والاعتناء بعنصري الزمان والمكان لأهميتهما في ازدياد التوتر النفسي، ومن ثم تنامي الحدث عبر الصور المفردة التي كوّنت الصور المركبة من خلال الصراع النفسي، وتنامي الحركة، وقد فرضت الطبيعة الموضوع التي تقتضي المحاورة والأصوات، وتفنن الشاعر، تميّز الصورة السمعية.
واتخذ حاجب بن حبيب الأسدي من ضغوط زوجه على بيع فرسه (ثادق) مادة قصصية في حوار تضمن وصفاً دقيقاً لمزايا فَرَسِه من خلال الصور السمعية المفردة التي صبّها جميعها في نسيج الصورة المركبة التي مثّلت الصراع النفسي الذي تمكّن منه في أن يتخلى عن فروسيته أو لا يتخلى، قال حاجب:
باتَتْ تلومُ على ثادقٍ ... ليشرى فقد جَدَّ عصيانُها
ألا إنّ نجواكِ في ثادقٍ ... سواءٌ عليَّ وإعلانُها
وقالتْ: أَغَثْنا به إنّني ... أرى الخيلَ قد ثابَ أثمانُها
فقلتُ ألمْ تعلمي أَنَّهُ ... كريمٌ المَكّبةِ مِبْدانُها
تراهُ على الخيلِ ذا جُرأةٍ ... إذا ما تَقَطَّعَ أقرانُها
وقلتُ ألمْ تعلمي أنَهُ ... جميلٌ الطُّلالةِ حُسّانُها(1)
بالرغم من اصطناع تحريض زوجه على بيع الفَرَسْ، وتجريد اللائمة من نفسه، فالقصة جاءت رد فعل، لما للأصوات المتناقضة التي تعتمل بأعماقه، تتمثل ببيع الفرس وعدم بيعه.
ففي بيعه إنقاذ لحالته من جهة، وفقدان لصفة الرجولة والفروسية من جهة ثانية، فهو والحالة هذه يجعلنا نستمع إلى الصوتين المتناقضين، ذلك كله عبر الحوار (اللوم) و(النجوى)، ومافيها من إيحاء نحو الإغراء والتأليب والسّعي في سبيل تحقيق مأرب.
إن الصورة الأولى قد انبثقت من اللوم والتحريض على بيع فرسه لشدة ما أصابهم من عوز في سنة مجدبة، لينتفع بثمنه بعدما زادت أثمان الخيل، حيث يتصاعد صوت اللوم، وإصرارها على بيعه.
__________
(1) المفضليات، المفضلية: 110.(1/300)
وفي الصورة الثانية يبدي عدم تقبله لملامتها، سواء أسّرتها أمْ أعلنتها، ويوّجه لها الخطاب، ويذكّرها بقوته، وكيف يهزم الأعداء حين يحمل عليهم، ثم يعمد إلى وصف الفَرَسْ وإظهار حسنه، فلفظه (إعلانها) قوة للصورة السمعية نفسها لأن النتيجة هي التحريض.
تلك الصور المفردة البسيطة قد شكّلت الصورة المركبة ألا وهي الاعتزاز بالفَرَسْ لأنه رمز الرجولة والكرم والفروسية، والقطعةُ كلها صورة حوارية سمعية إلى جانب صور سمعية متعددة وافرة العطاء تمثلت في (العصيان واللوم والنجوى والإعلال والقول والإغاثة، والعلم)، إلى جانب الأفعال المختلفة فضلاً عن أن الإيقاع الداخلي في النون والتنوين ظلَّ مشحوناً متتابعاً في الجرس الموسيقي المشبع بالغنة والرنين في نسيج الأبيات، وقد عبّر هذا الجرس على المناخ النفسي للشاعر وحالته، وموقفه من عاذلته، على أن البحر المتقارب وفّر له الإيقاع المناسب في تلاحقه واستيعاب الصورة السمعية من خلال الحوار والتحريض على بيع الفَرَس.
وثمة نصوص امتازت بالسرد القصصي التي فيها حوار العاذلة، وهو حوار طوّعه الشاعر عبر اختياره لشكل فني معيّن قادر على استيعاب الصراع النفسي بين الرغبتين الذاتية والجماعية، على أن تتوافر وسائل الإقناع في منفذ فني،وبالتالي الوصول إلى المعالجة، وهي غاية الشاعر ومبتغاه، يضعها في صورة مركبة من خلال التفصيلات الجزئية عبر الصور السمعية المفردة البسيطة.
فالإطار الفني هو تجريد عاذلة متخيّلة وإجراء حوار معها، ونماذج حوار العاذلة كثيرة، وخاصة لدى الشعراء الأجواد والفرسان، وحوارياتُهم تضم صوراً سمعية حيّة غزيرة بمادتها، ولعل حاتم الطائي في قصائده يمثل تركيزاً لهذه الظاهرة حيث يقول:
وعاذلة هبّت بليل تلومني ... وقد غابَ عَيّوقُ الثريا فَعرَّدا
تقول ألا أمسكْ عليكَ فإنني ... أرى المال عند الممسكين مُعَبَّدا
ذريني وحالي إن مالكِ وافرٌ ... وكلَ امرئٍ جارٍ على ما تعودا(1/301)
ذريني لا ألوكِ ألاّ خليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانَكِ مِبْرَدا
ذريني يكنْ مالي لعرضي جُنّةً ... يقي المالُ عِرضي قبلَ أن يتَبَّددا(1)
يرسم لنا الشاعر صوراً مفردة للحوار تسعى بتآزرها لتكامل الصورة المركبة للكرم الذي يدافع عنه على وفق منطق معقول مقترن بالحكمة ضمن تجربته النفسية، لأن الكرم والفروسية صنوان لا يفترقان، إذا ما فقد أحدهما لم يبق للثاني وجود، ولذلك نجد حاتماً، يضعنا أمام الصورة الأولى السمعية ـ البصرية في الوقت نفسه، حيث هبّت تلومه في الليل على إعطائه المال وتبذيره في كل جهة، وتطلب منه أن يمسك عن التبذير فهو ذو قيمة عند المُمسكين، وقد قامت العلائق الصوتية مشكّلةً الصورة السمعية من خلال صورة العاذلة التي هبّت (الفعل) الذي يبين لنا استعدادها في الليل لإقلاق راحة الزوج، حيث استطاع الشاعر توظيف الزمن إلى جانب المكان الذي ضمهما لإجراء الحوار، الذي ضم ألفاظ:العاذلة، واللوم، والقول، وطلب إمساك المال.
ثم قدّم لنا صورة مفردة أُخرى تضمنت تفصيلات تخدم الصورة المركبة، حيث يطلب منها أنْ تتركه على حاله، لأنه تعود على هذا الكرم وأنه لم يلجأ إلى أموالها، وهو لا يبطئ في (إجابة) من (يسأله)، ولابدّ لها من أن تكفّ (عذلها)، وألاّ تترك (لسانها) الحاد مسلّطاً عليه كالمبرد، وهو ذات دلالة سمعية.
وحينما يبذل المال فهو وقاية للعرض الذي يجب أن يحمى، فهو باق، والمال لا محالة زائل.
فمن خلال استدعاء الأصوات المختلفة التي شكلتها الألفاظ ذات الدلالة السمعية، من عذل ولوم، وقول، والطلب بعدم تبذير المال، والأمر بالإمساك به، واللسان السليط كالمبرد الذي أُعدّ للعذل الشديد، على أَنْ أصوات الصراع داخل النفس هي التي انطلقت في الحوار الذي اتخذه الشاعر مجرى فنياً لتثبيت الموقف الذي يدعو إليه حاتم باستمرار كي لا تنثلم رجولته وفروسيته المقترنة بالكرم، ووقاية للعرض.
__________
(1) ديوانه: 17.(1/302)
وقد استوعب البحر الطويل هذا الحوار، والفكرة، والصراع، ومنح الصورة السمعية تشكيلها المناسب من إيقاعاته الخارجية.
على أن الجرس الموسيقي كان ميّالاً للنغم العالي نتيجة الحالة النفسية والحوار الذي استدعى الشدة وخاصة من جانب العاذلة، وقاد هذا الصراع إلى التفصيلات الجزئية من خلال استخدام قدرات صوتية تمثلت في حرف (العين) الحلقي المجهور الذي انتشر في جميع الأبيات، وحرف القاف الفمي المهموس الذي أدّى مهمة نغمية تساوقت مع الفكرة والصورة الشعرية بعامة، كما أدّى صوت النون والتنوين مهمة إشاعة الجرس الموسيقي لتقوية الأصوات المتعددة في تركيب الألفاظ لتقوية المعنى والصورة.
وقد أتاح صوت (الدال) المجهور في القصيدة حدة، وحدة مضاعفة للتشديد فيه لإبراز الصورة السمعية للعاذلة.
ونتناول بالتحليل أنموذجاً آخر لحاتم الطائي،حيث تناول عاذلتين ممّا أدى إلى اختلاط الأصوات بلا شك بلومهما للشاعر، وقد اشتدت وطأة العذل عليه من خلال صوتهما، فضلاً عن الألفاظ السمعية المختلفة التي انتشرت في الأبيات، على أن الإيقاع الخارجي الذي استوعبه البحر الطويل أدّى مهمته الموضوعية والصوتية بالرغم من الجلالة التي يمتلكها البحر الطويل، وحسبُنا أن نجد التكرار الصوتي والموضوعي من خلال تكرار (تلومان، ملوما) و(الإتلاف ومتلاف)، وإن تكرار (التاء) المهموس خمس عشرة مرة في خمسة أبيات يشيع ضرباً من النغم، مع تكرار (الفاء) ثماني مرات أشاع نغماً متجانساً مع ما يعتور المال من تبذير وإتلاف، ولا تحكمه صروف الدهر، وإذا ما أصغينا لصوت (الميم) وجدناه قد تكرر تسع عشرة مرة مع القافية، وقد نعده مفتاح الصورة السمعية بخاصة والشعرية بعامة لأن النتائج قد تلخصت في القافية، ملوما، مغرما، تصرما، محكما، وغيرها، وما أحدثه هذا الصوت من إيقاع داخلي لإبراز الصورة السمعية.
وعاذلتين هَبّتا بعد هَجْعَةٍ ... تلومانِ مِتلافاً مفيداً مُلَوَّما(1/303)
تلومان لمّا غوّرَ النجمُ ضِلَّةً ... فتى لا يرى الإتلافَ في الحمدِ مغرَما
فقلتُ وقد طالَ العتابُ عليهما ... ولو عذراني أَنْ تبَينا وَتُصْرَما
ألاّ لاتلوماني على ما تَقَدَّما ... كفى بصروفِ الدهرِ للمرء مُحْكِما(1)
عُرف حاتم الطائي بجوده وكرمه، لا يضاهيه فيه أحد، وإن كانت هي الصفة الأعم الأغلب للعرب.
ولكنه عرف أَنْ الخلودَ والحمد لا يتحققان إلاّ بالبذل، فضلاً عن إحساسه العميق بجسامة ما يثيره الحرمان، ولأية هاوية تدفع به صرخاته المؤلمة المدوية.
فتعامل حاتم مع العاذلتين بكرمه من جهة وقد أبرز صوت النفس، وتعامل مع تفاصيل قصائده بقدرة فنية ميزته عن الآخرين بتجريد عاذلتين من جهة ثانية.
يثير حاتم أسماعنا ابتداءً بالأفعال (هبّتا) و(تلومان)، ففي (هبّتا) يحفزنا لشيء ما، في الهبوب من توثب، وانبرتا تلومان متلاف المال، فاختار الهبوب بعد هجعة ولمّا غوّر النجم، ليذهب حاتم أبعد في إيغاله لتصوير الحالة ليشق اللومُ صمتَ الليل وسكونه (صورة مفردة)، لأن الوقت المتأخر أدعى للعاذلتين للانطلاق بعذلهما، في حين أنَ الشاعر وقد تحلل من كل ما يشغله وقد خلد إلى نفسه، فاختيار الليل هنا كان موفقاً.
وتترى الصورة المفردة، وتتداخل الأصوات متلاحقة تطرق الأسماع من: الحمد، والقول، والعتاب، والعذر، وتكرار اللوم، والعلاقات الثنائية تؤسس المعنى لإيجاد الصورة السمعية مثل: الهبوب ـ البهجة، واللوم ـ الحمد، والهجعة ـ اللوم، ولا تنفصل هذه الصورة السمعية المفردة عن عنصري الزمان والمكان لكونهما دخلا في تكوين الصورة، باستثارتهما لهدوء المكان وصمته، حيث الليل ولمّا غوّر النجم.
__________
(1) ديوانه 44.(1/304)
وينتهي الشاعر إلى كف اللوم، لأن صروف الدهر تتحكم بالإنسان شاء أم أبى، وفي رأينا أن صوت الواقع كان قوياً جداً، بحيث استدعى عاذلتين، أو صوتين لمواجهة صوت واحد، هو صوت النفس، غير أنه يتغلب في نهاية المطاف عليهما، ليذعنا له، مستمراً مع ما جرى عليه العرف والتقاليد من إطلاق النفس الكريمة على سجيتها.
ولنا أن نحلل لوحة لدريد بن الصمة، وهو من الشعراء الفرسان حيث غزا نحو مائة غزوة ما أخفق في واحدة منها"(1). وإفراطه في بذل المال لمن يستحقه.
أعاذلَ كمْ مِنْ نارِ حربٍ غشيتها ... وكم ليَ مِنْ يومٍ أَغَرَّ مُحَجَّلِ
وإنْ تسألي الأقوامَ عنّي فإنني ... لمشتركٌ مالي فدونك فاسألي
وإني لعفٌّ عن مطاعمَ تُتَقى ... ومُكْرِمُ نفسي عنْ دنيّاتِ مأكلِ
وما إنْ كسبتُ المالَ إلاّ لبذلهِ ... لطارِقِ ليلٍ أو لعانٍ مُكَبَّلِ(2)
إن علاقة الشاعر بين هذه الأبيات وسياق تجربته الشعرية المنبثقة من تجاربه الحياتية علاقة مرتبطة بمحورين رئيسين هما الفروسية والجود، وعلاقتهما بالصورة السمعية، من خلال الأصوات المتعددة.
إن صوتين متناقضين ينبعثان من نفس الشاعر، في ثنائية خوض الحرب وعدم خوضها، والجود وعدمه، ينقلهما عبر اللائمة إلى قصيدته التي تنفتح على عالم رحب اتخذ الشاعر من مسارحه ميداناً لإثبات فروسيته بما ينسجم وحياته وبيئته من طَرَف، وما يتطلبه الموقف من كرم (المعادلة للفروسية)، في الطرف الثاني كما لايغترب عن موقف ثابت ويتخلخل التجانس في سيادة الأعراف، هذا ما أوحت به الصورة المركبة من خلال الصور المفردة التي تآلفت فيما بينها.
__________
(1) الأغاني: 9/2 (ساسي).
(2) دريد بن الصمة : ق 47/96 ، وانظر الديوان: ق 19 / 60، ق 25/68، وانظر دواوين الشعراء، حاتم الطائي: 17، عمرو بن كلثوم: ق 14/9-10 عامر بن الطفيل: 57، عمرو بن معد يكرب، ق 19/60-61، لبيد بن ربيعة: لبيد: ق 8/46-47. ق 14/107 -110.(1/305)
فالصورة السمعية في هذه اللوحة تشابك فيها التناغم بين المعنى والأثر النفسي فضلاً عن الأثرين البيئي والاجتماعي والإيقاعين الخارجي والداخلي في البحر الطويل وفي أصوات الحروف وما شكّلته من جرس موسيقي.
فالصورة السمعية المفردة قد كشفت ابتداءً عنها (ألف) النداء القريب، متساوقة مع (كم) على جهة الإخبار، ومنظر النار الهائلة، وما تثيره من أحوال وفزع وخوف، التي غشيتها، وحقق أياماً غرّا محجلات، وقد حقق زهواً أيضاً.
من خلال الترابط السمعي والبصري بدلالة النداء والخبر ونار الحرب المستمرة مع الترابط النفسي.
وذهب دريد لتأكيد ذلك، باجتراح وسيلة تطرق أسماعنا، فانبثق صوت آخر حثّها على سؤال الأقوام، وكرره لتحقيق ذاته، وترسيخ قناعتها به، فهو لا يكتفي بقوم، بل أقوام، لِما له من أيادٍ أطلقها، وأفضال انتشرت بين الأقوام وذاعت، إذْ لم يعد هذا الأمر سراً، وقد عرف الناس به، ولا مجال لصوت النفس الخفي أن يجد سبيله إليه يتخلخل تجانسه مع نفسه، وينأى عن عالم الفروسية والكرم، وقد تخللت اللوحة أداة التوكيد، والأفعال المشددة، والاستثناء بما يخدم توجه الشاعر لغرضه الأساس، بالرغم من بساطة الصور المفردة التي شكّلت صورة مركبة عن كرمه وفروسيته وفخره بهما.
بيد أنَ تلك الصورة المفردة لم تنفصل عن سياقها وغرضها ضمن النداء. والاستفهام، والسؤال، والتوكيد فضلاً عن الأصوات الموحية في الصورة الشعرية المتمثلة بـ(طارق الليل) وما يصاحبه من حركة وجلبة وأصوات ونباح، أو الأسير المكبّل نكاد نسمع صوت قيوده، وغير ذلك من الصور التي استوفى فيها الشاعر تفصيلات دقيقة في جانب من الصورة السمعية، ويتمثل الجانب الآخر فيما يمنحه الأداء الفني من خلال التكرار في الألفاظ (تسألي ـ فاسألي)، وانسجام إيقاعها مع (نفسي) مع إيقاعات البحر الطويل.
وتصور لنا قصيدة قيس بن عَيزارة حالته النفسية في الأسر، يقول قيس:(1/306)
لَعَمْرُكَ أنسى روعتي يوم أَقْتُدِ ... وهل تتركنْ نفسَ الأسيرِ الروائعُ
غَداةَ تناجَوا ثُمّ قاموا فأجمعوا ... بقتلي سُلكى ليس فيها تنازُعُ
وقالوا عدوٌّ مُسْرِفٌ في دمائِكم ... وهاجٍ لأعراضِ العشيرةِ قاطِعُ
وقلتُ لهم شاءٌ رَغيبٌ وجاملٌ ... وكلّكُمْ من ذلك المالِ شابِعُ
وقالوا لنا البلهاءُ أوّلَ سُؤلةٍ ... وأعراسُها، واللّهُ عنّي يُدافعُ
وقد أمرتْ بي رَبّتي أُمُّ جُندبٍ ... لأُقْتَلَ لا يسمعْ بذلكَ سامِعُ
تقول اقتلوا قيساً وحَزّوا لسانَهُ ... بِحَسْبِهمْ أنْ يقطعَ الرأسَ قاطِعُ
ويأمرُ بي شُعْلٌ لأقتَلَ مُقْتَلاً ... فقلتُ لِشَعْل بئسما أنت شافِعُ
سرا ثابتٌ بِزِّى ذميماً ولَمْ أكنْ ... سَلَلْتُ عليهِ شَلَّ منّي الأصابِعُ
فويلُ أمِّ بَزٍّ جَرَّ شَعْلٌ على الحَصى ... فوّمر بَزُّ ما هنالكَ ضائعُ(1)
__________
(1) قيس عيزارة، ديوان الهذليين: 3/76-78.(1/307)
قص علينا الشاعر قصته في الأسر، وتشاور القوم عليه، بالقتل عبر صورة مفردة بسيطة تلاحمت لتكوين الصورة المركبة التي تكشف عن حالته السيئة، وهو بين الموت والحياة، بين الحرية والقيد (الأسر)، وانتشرت فيها الأصوات المتعددة من القَسَمْ، وأصوات الخوف، والاستفهام، والمناجاة، والتنازع، والخلاف في الرأي، والقول، والهجاء، والسؤال، والأمر، والسّمع، والدعاء عليه، وصوت جرّ السيف على الحصى، فضلاً عن أصوات الأفعال والحركات، والألفاظ الإيحائية، فضلاً عن إيقاع البحر الطويل الذي عبّر عن الأسى الذي يعتمل بأعماق الشاعر وحالته النفسية اليائسة، واستطاع البحر الطويل أن يستوعب الموضوع، على أن الجرس الموسيقي للحروف التي تكررت في النص قد ساعد هو الآخر على تقوية الأداء الموسيقي فصوت (العين) المتكرر أشاعَ نَغَماً في نسيج الأبيات، ونغماً متوالياً في القافية التي خدمت الفكرة والصورة، حيث امتلكت شحنات لخدمة الأداء الشعري إذ تكثفت فيها خلاصات لأدق التفاصيل، إلى جانب أثرها النفسي والنغمي، حيث تجمع (الخوف) في (روائع)، والمناجاة والموافقة على القتل بالإجماع وليس في ذلك (تنازع)، وحين يصاب باليأس يدعو الله سبحانه لـ(يدافع) عنه، حين قرروا قتله سراً كي لا يسمع بمقتله (سامع)، وغيرها.
ففي الصورة الأولى المفردة ينقل لنا الشاعر حالته النفسية المتسمة بالخوف، وما جرّ عليه من تأثير ممّا أدّى به إلى (القَسَم) الذي شكّل بداية الصورة السمعية، إنه لا ينسى خوفه في موضع (اقتد) حين أسرته فَهْم، غير أنَ مخاوفه وقلقه قد ازدادت حينما (تناجوا) فيما بينهم، وأجمعوا أمرهم على قتله بلا خلاف، وسوّغوا أمر قتله لكونه قاتلاً وهجّاءً، وقاطعاً للرحم. فهي صورة سمعية تشكلت ابتداءً من نفسه في القَسَم وتذكر الموضع الذي أُسر فيه، وسماعه تشاورهم على قتله.(1/308)
وتنبثق الصورة الثانية السمعية حين (حاورهم) عارضاً عليه أمواله وجِماله، وهي كفيلة بإشباعهم لقاء تركه حيّاً.
ويبدو أن ما عرضه عليهم قد أغراهم، مما دفعهم لأن (يطلبوا) منه أيضاً (البلهاء) ناقته الكريمة وأولادها، هذا الإغراء أتاح للصورة السمعية المفردة أنْ تمتد من خلال استمرار المحاورة بدافع الطمع.
ويقطع الشاعر حوار المساومة، وينتقل إلى صورة سمعية أُخرى يصل فيها الإيذاء النفسي ذروته التيئسية من النجاة، وتشتد وطأة هذا الإيذاء نفسياً حين (تطلب) امرأة الآسِر أن يقتل قيس (سرّاً)، كي (لايسمع) به أحد، وأنْ يحزّوا (لسانه)، فضلاً عن قطع رأسِهِ، وينطلق (صوت) تأبط شراً (آمراً) بقتله، ويخاطبه قيس مقبّحاً فعله، وقد كان يرجو أنْ يكون شافعاً له.
وفي صورة لاحقة مفردة، يصوّر لنا الشاعر قيس بن عيزارة، تأبطَ شراً يسلب منه سيفه، ويتقلده، فيجرّ على الحصى حتى صارتْ به وقرات، ويبدو من هذه الصورة أن تأبط شراً قصير القامة في حين كان قيس بن عيزارة طويلها، فالوَقْرُ في السيف أثّر في قيس وأثار أحزانه وآلامه.
إن الصورة السمعية تشكلت من جَرِّ السيف على الحصى لِمَا يُحدثه من صوت (فعل وصوت)، ومن (ويل) صوت للتقبيح، فالوَقْر في السيف أدّى إلى إيذاء قيس نفسياً، فدعا عليه وهو رَدٌّ فعل طبيعي.
هذه قصة قيس التي تعددت فيها الصور المفردة التي اتسقّت متتابعة لتشكيل الصورة المركبة وإثرائها، لتوضح لنا غربته المرحلية في موضع (اقتد)، وغربته، عن الحياة في محاولة قتله، مع ماداخلَ ذلك من انفعالات نفسية حادة، وتداخل الأصوات المختلفة سواءٌ أكان قد سمعها عبر الحاجز الذي كان يفصل عنهم، أم من خلال أصوات المحاورة التي جرت بينه وبين آسريهِ، فضلاً عن النغم الداخلي، والإيقاع الخارجي.
الخاتمة.(1/309)
بعد أن سمعنا غناء الشعراء، وطوفنا معاً في عوالمهم المختلفة، وجدناهم منشدين مجيدين، تناقلت الرواة أشعارهم، وأخبارهم، ومآثرهم، فالصدق رائدهم، والمحبة من طبعهم، فإن عشقوا شفّت قلوبهم حتى لتكاد تراها وهي تطفر من بين أضلاعهم، وتسمع نبضات قلوبهم الوالهة، وأن تذكروا الأحبة تصاعدت مناجاتهم في أفق العواطف المحتدمة، حيث يظل الحنين صوتاً متميزاً معبّراً عن أسرار القلوب التي ما فارقها نداء الفاتنات اللواتي أنطقن حتى العيون لحلاوة حديثهن.
إن حياتهم مشحونة بزخم الانفعالات، تتردد فيها أصوات متعددة، وموروثهم الشعري حافل بالهامس والجهير من الأقوال، والأفعال، على امتداد صحرائهم، ولهم في كل جانب من جوانبها الرحبة خبر ورواية وحديث، ومهما حاولنا أن ننطقها تبقى أسرارها مثيرة غامضة غموض صحرائهم واتّساعها، وتبقى عصيّة على النطق مثل أطلالهم.
وبالرغم من ذلك كلّه فإننا ما وسعنا الجهد في هذا الكتاب في البحث قد وجدنا شعرهم عبر صوره السمعية التي عبّرت عن مختلف جوانب الحياة آنذاك، كانت شهادة صادقة لحياتهم عبر احتدام انفعالاتهم وزخم أحداثهم.
ومن هذا المنطلق فإن الكتاب قد تناول الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الإسلام للكشف عن أهمية تلك الصورة، ومدى انعكاس ذلك في أشعارهم واقتضت طبيعة بحثنا أن يكون في أربعة فصول وكلمة وتمهيد، وخاتمة، ومسرد بالمصادر والمراجع.
تناولت في التمهيد أسباب اختيار الصورة السمعية وأهميتها، وجدّة الموضوع وأسباب تقديم السمع على البصر، والروافد المتعددة التي استمد الشعراء منها صورهم السمعية المشحونة بالانفعالات النفسية، وما تثيره الصورة السمعية في مجمل عملية الأداء الشعري.(1/310)
وقد توجه الكتاب في فصله الأول إلى تناول (منافذ الأداء السمعي في هيكل القصيدة)، عبر ثلاثة مباحث احتلت لوحاتُ الافتتاح المبحث الأول منه، حيث تضمن الطلل، والطيف، والشكوى من الشيب، والنسيب والغزل، والفروسية والحكمة، واستطعنا أن نبين زخم انفعالات الشعراء، وتكثيف تجاربهم فيما عبر الصور السمعية، في الوقت الذي يسود الاعتقاد فيه بأن تلك اللوحات بصرية، في حين عجّت لوحات الطلل بالتساؤل وأدوات الاستفهام، والألفاظ ذات الدلالة السمعية (النطق) مثلاً في محاولة لاستنطاق الطلل، فضلاً عن أصوات الأبعاد الزمنية الثلاثة المتمثلة في أخبار الماضي، والحاضر الذي هو صوت الشاعر، وصوت المستقبل الذي يتحرك في أعماقه من خلال الفعل الذي ينوي القيام به.
وقد وجدنا أن لوحة الطيف لوحة ثرّة بالمعطيات الصوتية، وهي في الرأي السائد، صورة بصرية ولكنها لا تخلو من صورة سمعية، لما تضمنته من نداء، واستفهام، وتساؤل، وتنبيه، وتجانس في الموسيقى الداخلية المتآلفة من تكرار الحروف، فضلاً عن الألفاظ ذات الدلالة الإيقاعية، والإيقاعات الخارجية التي يشكلها البحر الشعري.
على أن لوحة الشكوى من الشيب قد ضمت صوراً سمعية عبر انتشار الألفاظ ذات الدلالة السمعية (القول، والسؤال، والدعوة، والكلام، والضحك، والبكاء، واللوم، والعذل)، وغيرها، ليستدعي الشاعر حالة الشكوى من الشيب وتربع الشيخوخة على زهو أيامه التي ذهب رونقها، وخفت صوت حيويتها وبهائها.
وأما لوحة الغزل والنسيب فقد تكونت صورها من المدركات الحسيّة، إلاّ أن الصورة الغالبة عليها هي البصرية، غير أننا وجدناها قد تشكلت من الصور السمعية.
في حين تفنن الشعراء في لوحة الفروسية، والتغني بها، لأنها تمثّل التضحية بالنفس والمال، من خلال صيغة فنية ممثلاً بحوار العاذلة الذي يشكّل صوراً سمعية متعددة من خلال منافذ الأداء السمعي الصريحة والمخفية.(1/311)
في حين نجد في لوحة الحكمة التجارب الحيوية المختلفة، وقد تضمنت صوراً سمعية صريحة وإيحائية، مع تعدد منافذ الأداء السمعي فيها.
وتضمن المبحث الثاني، رحلة الظعائن، حيث نسمع مايدور في لحظات الوداع من وجيب القلوب المشغوفة بالفاتنات، المتصدعة من فراقهن، وفي أصواتهم رنّة الحزن والأسى، وحديث الفراق في لوحاتهم، فضلاً عن دعواتهم على الحداة الذين نزعوا الأماني من الصدور عندما آذنوا بالرحيل، وقطعوا الصلات والأواصر.
أمّا رحلاتهم هم فقد احتلّت هي أيضاً أهمية في حياتهم للتعبير عن أغراض شتّى، فكانت الصحراء الشاسعة ميداناً فسيحاً، حيث يعشقون رمالها، ويجوبون فلواتها المهلكة في النهار القائظ الموحش، وفي جوف الليل المخيف الذي لا يغفو فيه أحد من عزيف الجن، وأشياء غامضة تبعث على الرهبة، ولم ينسوا رفيقة سفرهم الناقة، فإنها حظيت بمكانة رفيعة في قلوبهم وأشعارهم، ولم يتركوا صغيرة أو كبيرة إلاَّ وذكروها في صورهم السمعية.
كما تأملوا الحيوانات المختلفة، وأصغوا لأصواتها، وتابعوا حركاتها وأفعالها، فبرعوا بوصفها، فكانت تزخر داخل صورهم السمعية.(1/312)
وتناول المبحث الثاني أبرز الأغراض الشعرية، المديح، والفخر، والهجاء الذي ضم التهديد والوعيد والنقائض، والرثاء، وأهمية كل غرض وبواعثه وتأثيراته النفسية المختلفة ومنافذه السمعية المتعددة، متعرضاً للمديح، حيث عَدَّهُ الشاعر الجاهلي وعاءً يصب فيه المشاعر والخلجات، والنوازع الذاتية والجماعية لتخليد السمات الحسنة المرتبطة بالقيم والمثل، وقد استثرنا الصور السمعية في هذا الغرض على وفق استخدام الشعراء للألفاظ التي وردت فيها، مع استدعاء الحواس الأُخَر لإحكام الصورة، على أن الفخر مما يلحق بالمديح، وقد تفنن الشعراء فيه لما يضمه من قيم ومخاطر، وخوض غمار الوغى، ومقارعة الخصوم بالسلاح دفاعاً عن أرض وعرض وسيادة، وقد ضَمَّنت تفاصيلها الدقيقة الكثير من الصور السمعية، من قعقعة السلاح، وصهيل الخيل، ودعوات القتال، والاستغاثة، والإجابة، وغيرها، وحسبهم أنهم فرسان، ذوو نجدة، ونخوة واقتحام.
وإذا ما تجاوزناه إلى الهجاء نجد له أهمية لكونه سلاحاً فعّالاً ضد الخصوم، تحاول الناس أن تتقيه بمختلف الوسائل، وما وسعها الجهد لتنأى عن لعنته مدى الدهر، وقد تطرقنا للصور السمعية عبر تشكيلاتها المختلفة، وبخاصة الألفاظ ذات الدلالات السمعية والإيقاعية الصريحة والمخفية، واتجاهات استخدامها.
غير أن الرثاء قد استأثر بعاطفة إنسانية جياشة إزاء المرثي، وهو مستودع للآلام، ومتنفس لهمومهم، وانعكاس للحرمان الذي سيعانونه من رحيل فقيدهم إلى العالم الآخر، من ذلك كله تشكلت ألفاظ الرثاء المختلفة الخاصة به، وكوّنت رنة الأسى في نسيج الشعر الخارجي والداخلي صوراً سمعية حزينة مؤثرة تنسجم والدلالات النفسية والمعنوية والصوتية.(1/313)
أمّا الفصل الثاني فقد ضم ثلاثة مباحث، تناول الأول أثر الصورة الذهنية في تشكيل الصورة السمعية، حيث يقوم المعنى على التخيل بما يحمله من إشارات وأشياء محسوسة، على أن مايقرّبها من ذهن المتلقي اعتمادها الأصوات المختلفة، لفظية وإيقاعية، وقد تميّز المبحث بتحليل نصوص شعرية فضلاً عن المداخل النظرية.
ونستطيع القول إن هذا المبحث في الحدود المتاحة له استطاع أن يتجاوز اللمحات المتفرقة التي تشير إلى الصورة الذهنية على مستوى التلميح، إلى إخضاع النصوص الشعرية المختلفة للتحليل والدراسة للكشف عن هوية تلك الصورة، ليكون هذا المبحث الخطوة الأولى على طريق البحوث اللاحقة لتعميق الدراسات في هذا المجال بروافدها المتعددة، وتبيان قدرة الصورة الذهنية في احتلال مساحتها من جهود الشعراء وإبداعهم الفني.
وتناول المبحث الثاني (الصورة السمعية وسلطان الحواس)، حيث تنبثق الصور من تعاور الحواس المختلفة، وترابطها مع بعضها، وتساوقها بما يولد من خلال العلائق التي ترتبط معاً ويتطلبها النص لتشكّل صورة نهائية محققةً متعة فنية، ولهذه الصورة النصيب الأوفى في شعرنا العربي مع الأثر الكبير الذي تتركه لتحقيق الغرض الذي يتوخاه الشاعر، مع فرز طبيعة موقع الصورة السمعية من غيرها من الصور الحسية المختلفة وتبيان السبب سواء أكان ذلك في طبيعة الصورة، أم طبيعة الشاعر، أم طبيعة الموضوع.(1/314)
في حين تناول المبحث الثالث الصورة السمعية عبر الإيحاء، وهي الصورة التي يمكن أن نسميها المخفيّة، بما توحيه الألفاظ من معانٍ تدل على الصوت، أو بما تشكّله الأفعال والحركة، حيث يبرع الشاعر، ويحرص على إيصالها من خلال صورة صوتية تلتقطها الأسماع، وقد دللنا على ذلك بالنصوص المختلفة التي شكّلتها مختلف الألفاظ داخل النسيج الشعري، سواء أكان إيقاعها يحاكي معناها أم ذات دلالات سمعية، مع التعمق بالصور الإيحائية، متجاوزين ماكتب في هذا المجال من لمحات خاطفة، أو تلك النظرة الأحادية المتعلقة بالإيقاع الذي جعلوه أساساً للإيحاء، حيث توصّل البحث إلى أسباب عديدة للإيحاء، بضمنها الإيقاع، وتآلف الحروف والألفاظ والوزن.
أما الفصل الثالث (الصورة السمعية والنسيج الشعري، موسيقياً وبيانياً)، فقد ضم ثلاثة مباحث، تعرّض الأول في شقه الأول إلى الإنشاد بشكل عام، حيث بيّن البحث أهميته وجماليته، وأثره النفسي والاجتماعي، وتقاليده الخاصة به، لكونه فَنَّاً وموهبة تكمن فيهما القدرة على التلوين الصوتي، وإبراز الصور السمعية، لاسيما العصر الجاهلي هو عصر إنشاد الشعر، والاستماع له.
وقد ضم الشق الثاني الإنشاد الذي ينضوي تحت الأغراض منها الهجاء الذي يعبّر عن سخط وغضب لموقف معيّن، وتأثيراته السلبيّة على المهجو بتشكيل الصور السمعية التي يتحاشها الكثيرون لقساوتها وشدّة ألفاظها، وجهارة صوتها، ومنها المديح الذي تتشكل صوره السمعية لإبراز العزة والإباء والخصال الحميدة، والخدمات الجليلة على صعيد الفرد الممدوح أو القبيلة، وكذلك الفخر والحماسة الذي ينشد فيها الشاعر شعره للتغني بالشجاعة والبطولة والفروسية والكرم من خلال الصور السمعية التي تتضافر فيها الأصوات الخارجية والداخلية، وكذلك الرثاء الذي تتتابع فيه الصور السمعية الحزينة المثيرة للأسى بألفاظها المختلفة التي شكّلتها.(1/315)
كما تضمن الإنشاد الذي يتعلق بالعاطفة وإثارتها، لأنه غرض ذاتي وينبع من صوت القلب والنفس، وهو غناء يشاركه فيه الجميع بلذة السماع والاستمتاع، فهو يملك مزيّة على غيره.
وتضمن المبحث الثاني (موسيقى الشعر والصورة السمعية)، الوزن، والقافية، والإيقاع، والتكرار من خلال علاقة أصوات الحروف في تشكيل الصور السمعية، وقد اقترن الشعر العربي على امتداد تاريخه وحتى وقتنا الحاضر بالوزن، وانتظام ألفاظه في إيقاع موسيقي خارجي وداخلي، ولذلك نجد أن النسيج التركيبي الإيقاعي للوزن يتصل بالنسيج التركيبي للأصوات بدلالة الألفاظ مفردة ومركبة في إيقاع متناسق يشكّل البحر الشعري، فضلاً عن دراسة الإيقاع على وفق بنيته التركيبية ودراسة الجرس الموسيقي، وعلاقته الوثقى بالشعر، كما بيّن البحث صلة القافية بالصور السمعية وما تتركه من أثر موسيقي لدى السامع، مع دراسة التكرار الصوتي، واللفظي، والحروف، والتجنيس، والترصيع لأنهما أَدْخَل في الموسيقى الشعرية من أي مجال آخر، مع تحليل النصوص الشعرية المختلفة تطبيقاً لسياقاتنا النظرية.
وتناول هذا المبحث أيضاً أسماء النساء لدى الشعراء للتآلف الصوتي فيها، النابع من تآلف الحروف وتكريرها، وإشاعتها في النسيج الشعري، وانسجام تلك الأسماء في البحور الشعرية والوزن والقافية، وعلاقتها بأبيات القصيدة، ومدى تجانسها الصوتي، وتأثير ذلك كله في الصورة السمعية في محاولة جديدة لإبراز علاقة أصوات الحروف في تشكيل الصورة السمعية من خلال إيجاد علاقات متداخلة، ووشائج متقاربة للتوصل إلى نتائج يمكن إغناؤها مستقبلاً وتعميقها.(1/316)
وتضمن المبحث الثالث دراسة البيان في الصورة السمعية من حيث التشبيه والاستعارة، والكناية، وأثر ذلك في تشكيل الصورة السمعية المؤثرة، التي وجدت طريقها إلى المستمعين، فكان البيان بوسائل، أن يزيّن تلك الصور ويمنحها أصواتاً مؤثرة، مقترنة بالبيئة والواقع الاجتماعي والنفسي، لتلقى الاستجابة في النفوس بعد أن استفزت حاسة السمع بجمال صورها عبر ألفاظها وأصواتها في صيغ فنية.
أمّا الفصل الرابع المتعلق بدراسة الصورة السمعية فقد آثر الباحث أن يتناول فيه الصورة المفردة أولاً، لِمَا لها من أهمية، وما تمنحه من دلالات معنوية ونفسية مما تثير الدهشة والإعجاب، وتتحقق تلك الصورة بمزج الشاعر الحسيّات بالمعنويات، وتبادلها من خلال التجسيم والتجسيد، فضلاً عن تراسل الحواس، والوصف، عبر تلك الوسائل تحقّقتْ لدينا صور عمّقنا البحث فيها من خلال التحليل، وبيّنا فيها مهارة الشاعر وبراعته في تشكيل تلك الصور السمعية.
وتناول البحث الصورة السمعية المركبّة التي برع فيها الشاعر بتشكيل الصور وتآزرها متمازجة مع بعضها كي ينبثق منها معنى جديد وصورة جديدة بما فيها من تفصيلات دقيقة تخدم الصورة المركبة أولاً، وبتشكيل الصورة المركبة من أسلوب السرد القصصي عبر الحوار وتنامي الحدث ضمن مسلك فني ينطلق بالصور السمعية المتعددة.
وقد تتجلى فنية الصورة السمعية على وفق براعة الشاعر وقدرته الإبداعية في تشكيل الصور المتساوقة مع الفكرة والتجربة، وامتلاكه لأدوات الفنية.(1/317)
تلك النتائج التي تَوصّل إليها البحث في دراسة الصورة السمعية التي أثبتت وجودها إلى جانب المدركات الحسية، بل وشكّلت العمود الفقري لشعرنا العربي، لأنه شعر شفاهي منطوق ومسموع، وتبيان أهمية دراستها لإظهارها إلى الوجود بغية التعرف عليها، لتكون خطوة ممهدة لدراسة لاحقة في هذا الميدان، تلك النتائج ماهي إلاّ ثمرة رحلة مضنية اكتنفتها صعوبات جَمّة لعدم وجود دراسات مماثلة يمكن الإفادة منها، ولهذا كنا نختطُ لنا سبيلاً نرتادهُ. بل ونقتحم مجاهله بروج العلم والصبر والتأمل، وبروج العاشق المكابد، وفي الوقت نفسه بقلق وحذر مشروعين.
أسأل الباري عز وجل أنْ أكون قد وفقت في تقديم هذا البحث الجديد، لأسدي خدمة لتراثنا الخالد، وإلاّ فحسبي شرف المحاولة والغاية في تقديم ماهو بِكْر، مع حُسن النية الخالصة، وثواب التوجه للبحث بإخلاص وحب وهمّة، وما الكمال إلاّ لله وحده، فهو نعم المولى ونعم النصير وله الحمد وبه نستعين وهو الموّفق.
(((
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
ـ إحياء علوم الدين، الغزالي، أبو حامد ( ت 505 هـ)، طبعة الحلبي، 1346هـ.
ـ أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، حسن السندوبي، مطبعة الاستقامة، ط3، القاهرة 1959م.
ـ الأرض اليباب، ت. س. اليوت: الشاعر والقصيدة، دراسة وترجمة د.عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980م.
ـ أساس البلاغة، الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر ( ت 538هـ)، دار صادر، بيروت 1979م.
ـ أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة، د. محمد محمد حسين، منشأة المعارف بالاسكندرية، 1960م.
ـ أسرار البلاغة، الجرجاني، عبد القاهر، تحقيق: هـ. ريتر، دار المسيرة، ط3، بيروت 1403 هـ ـ 1983م.
ـ الأسس الجمالية في النقد العربي، د. عز الدين اسماعيل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986م.(1/318)
ـ الأسس الفنية لأساليب البلاغة العربية، د. مجيد عبد الحميد ناجي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1984م.
ـ الأشباه والنظائر، الخالديان، أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم، تحقيق د. السيد: محمد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1965م.
ـ أشعار النساء، المرزباني، أبو عبيد الله محمد بن عمران ( ت 384 هـ) تحقيق د. سامي مكي العاني وهلال ناجي، مطبعة دار الرسالة بغداد 1976م.
ـ الأصمعيات، الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قريب ( ت 216 هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر (د:ت).
ـ الأصوات اللغوية، د.إبراهيم أنيس، نشر مكتبة الأنجلو المصرية، ط5، 1975م.
ـ أصول البيان العربي، د.محمد حسين علي الصغير، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1986م.
ـ الأصول الدرامية في الشعر العربي، د. جلال خياط، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1402 هـ ـ 1982م.
ـ إعجاز القرآن، الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب ( ت 403هـ)، عالم الكتب، ط1، بيروت 1408 هـ ـ 1988م.د
ـ نسخة أخرى، طبعة دار الكتب.
ـ نسخة أخرى، دار مكتبة الحياة ـ دار الفكر.
ـ إلياذة هوميروس معربة نظماً، مصدرة بمقدمة لسليمان البستاني، مطبعة الهلال بمصر، سنة 1904م.
ـ آمال المرتضى، الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (ت 436هـ)، ط1، مصر 1907.
ـ الإمتاع والمؤانسة، التوحيدي أبو حيان ( ت 414 هـ)، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات المكتبة العصرية، بيروت ـ صيدا (د:ت).
ـ إنباه الرواة، القفطي جمال الدين علي بن يوسف (ت 646هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية 1369هـ.
ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي،ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمران، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت (د:ت).(1/319)
ـ الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، جلال الدين محمد بن عبد الرحمن، نسخة مصورة بالأوفيست، مكتبة الفني، بغداد (د:ت).
ـ البديع، ابن المعتز عبد الله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد (ت 296هـ)، كراتشكوفسكي، لينبنغراد.
ـ نسخة أخرى، مطبعة لندن 1935م.
ـ البنوية وعلم الإشارة، تأليف ترنس هوكز، ترجمة مجيد الماشطة، مراجعة: د.ناصر حلاوى، سلسلة المائة كتاب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986م.
ـ بنية اللغة الشعرية، تأليف جان كوهين، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، سلسلة المعرفة الأدبية، دار توبقال، الدار البيضاء مع دار فلاماريون ـ باريس ط1 ، 1986م.
ـ بلاغة أرسطو بين العرب واليونان، د.إبراهيم سلامة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1371 هـ ـ 1952م.
ـ البيان والتبيين، الجاحظ أبو بحر عثمان بن بحر ( ت 255هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر العربي، بيروت ط4، 1968م.
ـ تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام، د.نوري حمودي القيسي، ود.عادل جاسم البياتي، ود.مصطفى عبد اللطيف، دار الحرية للطباعة، بغداد 1989م.
ـ التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 هـ)، قدم له المحقق الشيخ اغابزرك، النجف، المطبعة العلمية 1957م.
ـ تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الإصبع، تحقيق، د.حنفي محمد شرف، القاهرة، 1383 هـ ـ 1963م.
ـ ت.س. اليوت، الناقد والشاعر، ف. أمثسن، ترجمة: د.إحسان عباس، المكتبة العصرية، بيروت 1965م.
ـ التصور والخيال، تأليف ر.ل. بريت، ترجمة: د.عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي رقم 6، دار الرشيد للنشر، دار الحرية للطباعة، بغداد 1979م.
ـ تطور الشعر العربي الحديث في العراق، د. علي عباس علوان، منشورات وزارة الإعلام في العراق، بغداد 1975.
ـ تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، شكري فيصل، دار العلم للملايين، بيروت، (د:ت).(1/320)
ـ التعريفات، الشريف الجرجاني، علي بن محمد (ت 428هـ)، تقديم د.أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1986م.
ـ تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ( ت 774)، دار المعرفة، بيروت (1388 هـ ـ 1969م).
ـ تفسير مقاتل بن سليمان ( ت 150 هـ)، تحقيق، د.عبدالله محمود شحاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
ـ التفسير النفسي للأدب، د. عز الدين إسماعيل، دار العودة ـ دار الثقافة، بيروت 1963م.
ـ تلخيص الشعر، كتاب أرسطو في الشعر، ابن رشد، الوليد محمد بن أحمد بن محمد ( ت 595هـ)، تحقيق محمد سليم سالم، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، (1391 هـ ـ 1971م).
ـ نسخة ثانية، تحقيق عبدالرحمن بدوي، ضمن أرسطو طاليس، فن الشعر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1983م.
ـ تلخيص كتاب العبارة، ابن رشد، تحقيق محمد قاسم وآخرون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981م.
ـ الثمرة المرضية في الرسالات الفارابية (رسالة عيون المسائل)، الفارابي، أبونصر محمد بن محمد بن طرخان ( ت 395هـ)، ليدن، 1890م.
ـ جرس الألفاظ ودلالته في البحث البلاغي، والنقدي عند العرب، د.ماهر مهدي هلال، وزارة الثقافة والإعلام في العراق،مطبعة الحرية، بغداد، 1980م.
ـ جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، القرشي، أبو زيد محمد بن أبي الخطاب ( ت.ق. 5 هـ)، تحقيق علي محمد البخاوي، دار نهضة مصر للطبع، والنشر، ط1، 1387 هـ ـ 1967م.
ـ جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، طبعة دار القلم، ط2، بيروت، 1980م.
ـ جوامع علم الموسيقى، ابن سينا أبو علي الحسين بن عبد الله ( ت 428 هـ)، تحقيق زكريا يوسف، وزارة التربية والتعليم، القاهرة (1376 هـ ـ 1956م).
ـ حديث الأربعاء، طه حسين، الجزء الأول، ط2، دار المعارف بمصر.(1/321)
ـ الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة، د.صالح أبو اصبع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979م.
ـ الحماسة البصرية، البصري، صدر الدين علي بن أبي الفرج بن الحسن ( ت 659هـ)، عالم الكتب، بيروت 1963م.
ـ الحياة العربية من الشعر الجاهلي، د.أحمد محمد الحوفي، دار القلم، ط4، بيروت 1962م.
ـ الحيوان، الجاحظ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط1، (1356 هـ ـ 1938م).
ـ خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجة الحموين تقي الدين أبو بكر علي، دار القاموس الحديث، بيروت (د:ت).
ـ الخصائص، ابن جني، أبو الفتح عثمان بن جني ( ت 392هـ)، تحقيق محمد علي النجار، نشر دار الكتاب العربي، بيروت (د:ت).
ـ الخطابة من كتاب الشفاء، ابن سينا، تحقيق محمد سليم سالم، وزارة المعارف العمومية، القاهرة، (1373هـ ـ 1954م).
ـ دراسات في الأدب الجاهلي، د.عادل جاسم البياتي، طبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1986م.
ـ دراسات في الأدب العربي، غوستاف غريناوم، ترجمة: إحسان عباس وآخرين، دار مكتبة الحياة، بيروت 1959م.
ـ دراسات في الشعر العربي القديم، د.بهجت عبد الغفور الحديثي، منشورات جامعة بغداد، بيت الحكمة، مطابع التعليم العالي، 1990م.
ـ دراسات نقدية في الأدب العربي، د. محمود عبد الله الجادر، منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، مطابع دار الحكمة، 1990م.
ـ دروس في البلاغة وتطورها، د.جميل سعيد، مطبعة المعارف، بغداد 1370هـ ـ 1951م.
ـ دقائق الإشارات إلى معاني الأسماء والصفات، اختصار الأسماء والصفات للبيهقي، تأليف الشيخ عبد الله محمد الأنصاري، تحقيق الشيخ عماد الدين حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، دار الجنان، ط1، (1408 هـ ـ 1988م).
ـ دلائل الإعجاز، الجرجاني، عبد القاهر، قرأه، وعلق عليه محمود محمد شاكر، نشر مكتبة الخانجي، بالقاهرة، مطبعة العاني، 1984م.(1/322)
ـ ديوان(1):
ـ الأسود بن يعفر، صنعه د.نوري حمودي القيسي، مطبعة الجمهورية 1970م.
ـ الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، نشر مكتبة الآداب بالجماميزت، المطبعة النموذجية (د:ت).
ـ فنون التغلبي، صنعة د.عادل جاسم البياتي (ضمن مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد، 20، 1976م.
ـ الأفوه الأودي، تحقيق عبد العزيز الميمني، ضمن (الطرائف الأدبية)، دار الكتب العلمية، بيروت، (د:ت).
ـ امرؤ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط3، 1969م.
ـ أمية بن أبي الصلت، تحقيق بهجت عبد الغفور الحديثي، مطبعة العاني، بغداد 1975.
ـ أوس بن حجر، تحقيق، د.محمد يوسف نجم، مطبوعات دار صادر، بيروت 1960م.
ـ بشار بن برد، تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، والنشر، القاهرة، (1369هـ ـ 1950م).
ـ بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق د. عزة حسن، مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم، دمشق (1379هـ ـ 1960م).
ـ تأبط شراً، دراسة وتحقيق سلمان داود القره غولي وجبار شعبان جاسم، مطبعة الآداب، ط1، النجف الأشرف، 1393 هـ ـ 1973م.).
ـ نسخة أخرى، جمع وتحقيق وشرح علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، مطبعة المتوسط، ط1، بيروت (1404 هـ ـ 1984م).
ـ تميم بن أبي مقبل، تحقيق: د.عزة حسن، مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم. دمشق 1962م.
ـ الحادرة (قطبة بن أوس بن محصن)، تحقيق: د.ناصر الدين الأسد، دار صادر بيروت 1973م.
ـ حاتم عبد الله الطائي، تحقيق كرنكو، مطبعة بريل، ليدن، 1920م.
ـ نسخة أخرى، شرح وتقديم أحمد رشاد، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، (1406 هـ ـ 1986م).
ـ الحارث بن حلّزة اليشكري، تحقيق هاشم الطعان،مطبعة الإرشاد، بغداد، 1969م.
__________
(1) اعتمدنا في ترتيب الدواوين أسماء الشعراء بصرف النظر عما قد يتصدر الديوان من ألفاظ مثل (شرح) أو (شعر) مع طرح ما يتصدر الكتاب: حياته، أخباره، شعره.(1/323)
ـ الحارث بن ظالم المرّي، دراسات في الأدب الجاهلي، الجزء الثاني، د.عادل جاسم البياتي، طبع ونشر دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1986م.
ـ حسان بن ثابت الأنصاري، تحقيق وليد عرفات. لندن، سلسلة جب 1971م.
ـ نسخة أخرى، ضبط وتصحيح عبد الرحمن البرقوقي، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1980م.
ـ الحصين بن حمام المرّي، تحقيق د. مهدي عبيد جاسم، مجلة المورد، العدد الثالث، المجلد 17، بغداد (1408 هـ ـ 1988م).
ـ الحطيئة، رواية ابن السكيت والسكري والسجستاني وشرحهم، تحقيق د.نعمان أمين طه، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1،مطبعة المدني (1407 هـ ـ 1987م).
ـ الخرنق بنت بدر بن هفّان، تحقيق، د.حسين نصار، مطبعة دار الكتب 1969م.
ـ خفاف بن ندبة السلمي، جمعه وحققه، د.نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1968م.
ـ الخنساء (أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء)، بعناية لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية. 1896م.
ـ دريد بن الصمة، (شعراء النصرانية قبل الإسلام)، القسم الخامس، لويس شيخو، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1891م. نسخة ثانية، جمع وتحقيق وشرح خير الدين البقاعي.
ـ أبو داؤد الإيادي، تحقيق غوستاف غربناوم، ترجمة إحسان عباس وجماعته، مكتبة الحياة، بيروت 1959م (ضمن دراسات في الأدب العربي).
ـ الربيع بن ضبيع الفزاري، دراسات في الأدب الجاهلي، د. عادل جاسم البياتي، الجزء الثاني، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1986م.
ـ الربيع بن زياد، دراسات في الأدب الجاهلي، د.عادل جاسم البياتي، الجزء الثاني، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1986م.
ـ ربيعة بن مقروم الضبي ـ جمعه وحققه د.نوري حمودي القيسي، مطبعة الحكومة، بغداد 1968م.
ـ أبو زيد الطائي ـ جمعه وحققه د.نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1968م.
ـ زهير بن أبي سلمى ـ تحقيق د.فخر الدين قباوة ـ دار الآفاق الجديدة، ط3، بيروت، ط3 ، (1400 هـ ـ 1980م).(1/324)
ـ زيد الخيل الطائي ـ صنعه د.نوري حمودي القيسي ـ مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1968م.
ـ سحيم عبد بني الحسحاس ـ تحقيق عبد العزيز الميمني ـ نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، نشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1369 هـ ـ 1950م).
ـ السليك بن السلكة ـ دراسة وجمع وتحقيق حميد آدم ثويني وكامل سعيد عوّاد، مطبعة العاني، ط1، بغداد 1984م.
ـ سلامة بن جندل ـ تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط1، حلب، 1968م.
ـ السموءل بن عادياء ، رواية أبي عبد الله نفطوية، لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1909م.
ـ سويد بن أبي كاهل اليشكري ـ جمع وتحقيق شاكر العاشور، دار الطباعة الحديثة، البصرة 1972م.
ـ الشماخ بن ضرار الذبياني ـ تحقيق صلاح الدين الهادي، دار المعارف بمصر، 1968م.
ـ الشنفرى ـ تحقيق عبد العزيز الميمني، دار الكتب العلمية، بيروت (د.ت)، ضمن الطرائف الأدبية.
ـ طرفة بن العبد ـ تحقيق مكس سلغسون، مطبعة برطرند، 1900م.
ـ طفيل الغنوي ـ تحقيق محمد عبد القادر أحمد، مطبعة معتوق إخوان، بيروت 1968م.
ـ عامر بن الطفيل ـ تحقيق كرم البستاني، مطبوعات، دار صادر، بيروت 1963م.
ـ العباس بن مرداس السلمي، جمعة وحققه د.يحيى الجهوري،مطابع دار الجمهورية، بغداد، (1388هـ ـ 1968م).
ـ عبده بن الطبيب، تحقيق: د.يحيى الجبوري، دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع، (1391هـ ـ 1971م).
ـ عبيد بن الأبرص ـ تحقيق د.حسين نصار، مطبعة مصطفى البابي، ط1، 1957م.
ـ عدي بن زيد العبادي ـ تحقيق وجمع محمد جبار المعيد، مطبعة الجمهورية، بغداد، 1965م.
ـ عروة بن الورد، ـ تحقيق عبدالمعين الملوحي، مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1966م.
ـ علقمة الفحل (علقمة بن عبدة) ـ تحقيق لطفي الصقال، ودرية الخطيب، مطبعة الأصيل، ط1، حلب 1969م.
ـ عمرو بن شأس الأسدي، تحقيق يحيى الجبوري، مطبعة الآداب في النجف، الأشرف، 1976م.(1/325)
ـ عمرو بن قميئة ـ تحقيق خليل إبراهيم العطية، مطبعة الجمهورية، بغداد 1972م.
ـ عمرو بن كلثوم ـ تحقيق فريتس كرنكو، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت 1922م.
ـ عمرو بن معد يكرب الزبيدي ـ صنعة هاشم الطعان، مطبعة الجمهورية، بغداد، (1390هـ ـ 1970م).
ـ عنترة العبسي ـ تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي (د:ت).
ـ الفند الزّماني ـ صنعة د. حاتم صالح لضامن (ضمن مجلة المجمع العلمي العراقي)، الجزء الرابع، المجلد 37 ، 1986م.
ـ قيس بن الخطيم ـ تحقيق د.ناصر الدين الأسد، دار صادر ـ بيروت (د: ت).
ـ قيس بن زهير ـ جمع ودراسة د.عادل جاسم البياتي، النجف، 1972م.
ـ كعب بن زهير ـ نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، 1950م، ـ نشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، (1385هـ ـ 1965م).
ـ كعب بن سعد الغنوي ، شعراء النصرانية قبل الإسلام، لويس شيخو، مطبعة الآباء اليسوعيين 1890م.
ـ لبيد بن ربيعة ـ حققه وقدم له د.إحسان عباس، الكويت 1962م.
ـ لقيط بن يعمر الإيادي ـ تحقيق خليل إبراهيم العطية، مطبعة الجمهورية، بغداد، 1968م.
ـ المتلمس الضبعي ـ تحقيق حسن كامل الصيرفي، مطبعة الشركة المصرية، القاهرة ، 1968م.
ـ المثقب العبدي ـ تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، مطبعة المعارف، بغداد، (1375 هـ ـ 1956م).
ـ المخبل السعدي، حياته وما تبقى من شعره ـ صنعة حاتم الضامن (ضمن مجلة المورد)، العدد 1، المجلد 2 ، 1973م.
ـ المرقش الأصغر ـ صنعة د.نوري حمودي القيسي، مستلة من مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد الثالث عشر.
ـ المرقش الأكبر ـ صنعة د.نوري حمودي القيسي (ضمن مجلة العرب السعودية، العدد العاشر، السنة الرابعة، 1970م.
ـ المزرد بن ضرار الغطفاني ـ تحقيق خليل العطية ، مطبعةأسعد، بغداد، 1962م.
ـ النابغة الذبياني ـ تحقيق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مطابع الشركة التونسية، ط2، 1986م.(1/326)
ـ النمر بن تولب، صنعة د.نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1969م.
ـ ديوان الحماسة، أبو تمام الطائي، (ت 321 هـ)، شرح التبريزي (ت 502هـ).
ـ نسخة أخرى، برواية أبي منصور موهوب الجواليقي (ت 540هـ)، تحقيق د.عبد المنعم أحمد صالح، سلسلة خزانة التراث، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987م.
ـ ديوان الهذليين، تحقيق أحمد الزين، نسخة مصورة عن دار الكتب، نشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1385 هـ ـ 1965م.
ـ الرثاء في الشعر الجاهلي، وصدر الإسلام، بشرى محمد علي الخطيب، مطبعة الإدارة المحلية، بغداد 1977م.
ـ رحلة الشعر من الأموية إلى العباسة، مرحلة الشعراء المخضرمين، د.مصطفى الشكعة، دار النهضة العربية، بيروت 1972م.
ـ رسالة الغفران، أبو العلاء المعري،تحقيق وشرح محمد عزّت نصر اللّه، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د:ت).
ـ الرمز والرمزية في الشعر المعاصر ، د.محمد فتوح أحمد، طبعة دار المعارف بمصر، ط2، 1987م.
ـ زهر الآداب، وثمر الألباب، الحصري القيرواني، أبو اسحق إبراهيم بن علي ( ت 453هـ)، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، ط1، القاهرة (1372هـ ـ 1953م).
ـ سر الفصاحة، ابن سنان الخفاجي، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي، مطبعة محمد علي صبيح، 1389 هـ ـ 1969م.
ـ نسخة أخرى، مطبعة الأنجلو المصرية بالقاهرة، 1976م.
ـ شرح المعلقات السبع، الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين، منشورات دار الجيل، بيروت، ومكتبة المحتسب، عمان، ط2، 1975م.
ـ شعراء النصرانية قبل الإسلام، لويس شيخو، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1890م.
ـ الشعراء وإنشاد الشعر، علي الجندي، دار المعارف بمصر، 1969م.
ـ شعر الطرد عند العرب، عبد القادر حسن أمين، مطابع النعمان، النجف الأشرف1972م.
ـ الشعراء ونقد الشعر منذ الجاهلية حتى نهاية القرن الخامس الهجري، د.هند حسين طه، مطبعة الجامعة، بغداد، 1986م.(1/327)
ـ شعر أوس بن حجر ورواته الجاهليين، د.محمود عبد الله الجادر،دار الرسالة للطباعة، بغداد، (1401 هـ ـ 1980م).
ـ الشعر الجاهلي، خصائصه وفنونه، د.يحيى الجبوري، دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع (د:ت).
ـ الشعر الجاهلي، قضاياه الفنية والموضوعية، د.إبراهيم عبد الرحمن محمد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1980م.
ـ الصورة في شعر بشار، د.عبد الفتاح صالح نافع، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمّان، 1983م.
ـ طبقات فحول الشعراء، الجمحي، محمد بن سلاذم (ت 23 هـ)، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة(د:ت).
ـ طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي الأندلس، أبو بكر محمد بن الحسين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط2، (د:ت).
ـ الطبيعة في الشعر الجاهلي، د.نوري حمودي القيسي، عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية، ط2، بيروت، (1404 هـ ـ 1984م).
ـ الطرائف الأدبية، عبد العزيز الميمني، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت (د:ت).
ـ طيف الخيال، الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين (ت 436 هـ)، تحقيق د.صلاح خالص، مطبعة دار المعرفة، بغداد 1957.
ـ العبارة، شرح أرسطو طاليس في العبارة، الفارابي، عني بنشره وقدم له ولهلم كوتش اليسوعي، وستانلي مارو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960م.
ـ العصر الجاهلي، د.شوقي ضيف، دار المعارف بمصر،ط4، (د:ت).
ـ العقل الباطن، سادلر، ترجمة: عباس حافظ (د:ت).
ـ علم الأصوات العام، بسام بركة، مركز الإنماء القومي، لبنان (د:ت).
ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق (ت 456هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطابع دار الجيل، ط4، 1972م.
ـ عيار الشعر، ابن طباطبا، محمد بن طباطبا العلوي ( ت 322 هـ)، تحقيق وتعليق، د.محمد زغلول سلام، نشر منشأة المعارف، مطبعة التقدم، الاسكندرية (د:ت).(1/328)
ـ الغربة والحنين في الشعر العربي قبل الإسلام، صاحب خليل إبراهيم، رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة المستنصرية، بغداد، مطبوعة بالآلة الطابعة، صفر (1409 هـ ـ أيلول 1988م).
ـ الغزل في العصر الجاهلي، د.أحمد محمد الحوفي، دار القلم، بيروت، (د:ت).
ـ ألفاظ الحياة الاجتماعية في دواوين شعراء المعلقات العشر (قسم الدراسة، ندى عبد الرحمن الشايع، رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة بغداد، مطبوعة بالآلة الكاتبة، جمادى الأولى، (1406 هـ ـ شباط 1986م).
ـ فائدة الشعر وفائدة النقد ، ت.س. إليوت، ترجمة وتقديم د.يوسف نور عوض، مراجعة د.جعفر هادي حسن، دار القلم، بيروت ، ط1، (1402 هـ ـ 1982م).
ـ فقه اللغة وسر العربية، الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد (ت 429 هـ)، مطبعة الاستقامة بالقاهرة (د:ت).
ـ فن الشعر، د. إحسان عباس، دار الشروق، عمّان، ط4، 1987م.
ـ فن القول، أمين الخولي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (1366 هـ ـ 1947م).
ـ الفن خبرة، جون ديوى، ترجمة د.زكريا إبراهيم، دار النهضة العربية القاهرة 1963م.
ـ فن إنشاد الشعر العربي، أغسطس فكيني، ترجمة اسطيفان سالم الفرنسيس ود.اسحق موسى الحسيني.
ـ فن الوصف وتطوره في الشعر العراقي الحديث، د.محمد حسن علي مجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1988م.
ـ الفن ومذاهبه في الشعر العربي، د.شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط11، (د:ت).
ـ الفنون والإنسان، مقدمة موجزة لعلم الجمال، تأليف اروين ادمان، ترجمة: مصطفى حبيب، دار مصر للطباعة، (د:ت).
ـ في البنية الإيقاعية للشعر العربي، د.كمال أبو ديب،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987م.
ـ في الشعر، كتاب أرسطو طاليس، تحقيق شكري محمد عيّاد، دار الكاتب العربي، القاهرة (1387 هـ ـ 1967م).
ـ في الشعرية، د.كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ، ط1، 1987م.(1/329)
ـ في نظرية الأدب، من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم، د.عثمان موافي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1984م.
ـ في النقد الأدبي، د.شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط7، (د:ت).
ـ القافية والأصوات اللغوية، د.محمد عوني عبد الرؤوف، مكتبة الخانجي بمصر 1977م.
ـ قصائد جاهلية نادرة، د.يحيى الجبوري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1988م.
ـ قصائد نادرة، من كتاب: منتهى الطلب من أشعار العرب، د.حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، (1403 هـ ـ 1983م).
ـ قصة الفلسفة، ول ديورانت، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، ط4، 1979م.
ـ قضايا الشعر في النقد الأدبي، د.إبراهيم عبد الرحمن محمد، مكتبة الشباب، 1977م.
ـ نسخة ثانية، دار العودة، بيروت، ط2، 1981م.
ـ القيان والغناء في العصر الجاهلي، د.ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط3، 1988م.
ـ القيمة المعرفية للألفاظ اللغوية، د.عدنان محمد سالم (بحث) لم ينشر بعد.
ـ كتاب الأمالي، القالي البغدادي، أبو علي اسماعيل بن القاسم (ت 356 هـ)، تحقيق محمد عبد الجواد الأصمعي، مطبعة المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، (د:ت).
ـ كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الرشيد، سلسلة كتب التراث، بغداد 1982م.
ـ كتاب أيام العرب قبل الإسلام، أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي (ت 209 هـ)، جمع وتحقيق ودراسة د.عادل جاسم البياتي، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، ط1، بيروت 1407هـ ـ 1987م.
ـ كتاب الصناعتين، العسكري، أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل (ت 395 هـ)، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ، 1971م.
ـ كتاب فحولة الشعراء، الأصمعي، تحقيق ش.توّري، تقديم د.صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، ط1، (1389هـ ـ 1971م).(1/330)
ـ كتاب القوافي، أبو يعلى التنوخي، عبد الباقي عبد الله بن المحسّن، تحقيق د.عوني عبد الرؤوف، مكتبة الخانجي، بمصر،ط2، 1978م.
ـ كتاب الموسيقى الكبير، الفارابي، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبه، ومراجعة وتصدير، د.محمود الحفني، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967م.
ـ كتاب نقد النثر المنسوب لقدامة بن جعفر (ت 337 هـ )، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط2، 1973م.
ـ الكتّاب والمصنفون ونقد الشعر منذ الجاهلية حتى نهاية القرن الخامس الهجري، د.هند حسين طه،مطبعة الجامعة، بغداد 1986م.
ـ كشاف اصطلاحات الفنون، التهانوي محمد علي الفاروقي (ت في القرن الثاني عشر الهجري)، تحقيق لطفي عبد البديع، ترجمة د.عبد النعيم محمد حسنين، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر 1963م.
ـ الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، محمود بن عمر ( ت 528 هـ )، رتبه وضبطه وصححه مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربيـ، ط3، بيروت (1407 هـ ـ 1987م).
ـ الكناية، أساليبها ومواقعها في الشعر الجاهلي، محمد الحسن علي الأمين أحمد، منشورات المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة ـ المعابدة (1405 هـ ـ 1985م).
ـ لامية العرب، الشنفرى، شرح وتحقيق د.محمد بديع شريف، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1964م.
ـ لسان العرب، ابن منظور، محمد بن مكرم (ت 711 هـ)، دار صادر، بيروت (د:ت).
ـ اللغة، ج. فندريس، تعريب: عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة 1370 هـ ـ 1950م.
ـ اللغة الشاعرة، عباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا (د:ت).
ـ لمحات من الشعر القصصي في الأدب العربي، د.نوري حمودي القيسي، سلسلة الموسوعة الصغيرة، العدد 71، دار الحرية للطباعة، بغداد 1980م.
ـ مبادئ النقدالأدبي، تأليف: إ.ا. ريتشاردز، ترجمة: د.مصطفى بدوي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة 1963م.(1/331)
ـ المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير ضياء الدين ( ت 637هـ)، قدم له وحققه وعلّق عليه د.أحمد الحوفي ود.بدوي طبانة، دار نهضة مصر ـ القاهرة (د:ت).
ـ نسخة ثانية، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2.
ـ مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تحقيق هاشم الرسولي المحلات، دار إحياء التراث العربي، بيروت (1379 ق ـ 1339 ش).
ـ المخصص ، ابن سيدة أبو الحسن علي بن إسماعيل ( ت 458 هـ)، مطبعة بولاق ـ مصر (1316هـ ـ 1321هـ).
ـ نسخة أخرى، طبعة المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، (د:ت).
ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت (1408 هـ ـ 1988م).
ـ المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعها، عبد الله الطيب المجدوب، منشورات دار الفكر، ط2، بيروت 1970م.
ـ مسائل فلسفة الفن المعاصرة، جان ماري جويتو، ترجمة: د.سامي الدروبي، دمشق، ط2، 1965م.
ـ المستطرف في كل فن مستظرف، الابشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد بن أبي الفتح ( ت 850هـ)، دار الفكر ومطبعة اوفسيت منير، بغداد (د:ت).
ـ المطر في الشعر الجاهلي، د.أنور أبو سويلم، دار عمان ـ دار الجيل، ط1، بيروت، 1987م.
ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار ومطابع الشعب (د:ت).
ـ معجم النقد العربي القديم، د.أحمد مطلوب، ح1، ح2، دار الشؤون الثقافة العامة، بغداد ، 1989م.
ـ المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، تأليف وليم راي، ترجمة: د. يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1987م.
ـ مفتاح العلوم، السكاكي أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي (ت 626 هـ)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط1، 1937م.(1/332)
ـ المفضليات، المفضل الضبّي بن محمد بن يعلى الكوفي (ت 178هـ)، تحقيق: وشرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط4، 1964م.
ـ مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، د.جابرعصفور،’ المركز العربي للثقافة والعلوم، 1982م.
ـ مقالات في الشعر الجاهلي، يوسف اليوسف، دار الحقائق، ط4، بيروت، 1985م.
ـ مقدمة العلامة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الحضرمي المغربي، (ت 808 هـ).
ـ مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي، د.حسين عطوان، دار المعارف، بمصر 1970م.
ـ نسخة ثانية، دار الجيل، بيروت، ط2، (1408هـ ـ 1987م).
ـ ملامح في تراث العرب النقدي، د. محمود عبد اللّه الجادر، دار الجاحظ للنشر، سلسلة الموسوعة الصغيرة، رقم 129، بغداد، 1983م.
ـ المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، السجلماسي أبومحمد القاسم، تحقيق علال الغازي، الرباط ـ المغرب، (1401 هـ ـ 1980م).
ـ منهاج البلغاء، وسراج الأدباء، القرطاجني أبو الحسن حازم (ت 684هـ)، تحقيق محمد بن الحبيب الخوجة، مطبعة دار الكتب الشرقية، تونس 1966م.
ـ المهلهل بن ربيعة التغلبي (حياته وشعره) دراسة وتحقيق نافع منجل شاهين الراجحي، رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة المستنصرية 1986م (مطبوعة بالآلة الكاتبة).
ـ موقف في الأدب والنقد، د.عبد الجبار المطلبي، دار الرشيد للنشر، بغداد 1980م.
ـ موسيقى الشعر، د.إبراهيم أنيس، دار القلم، بيروت، ط4 (د:ت).
ـ الموسيقى العربية، فارمر، ترجمة الدكتور حسن نصار.
ـ الموشح في مآخذ العلماء على الأدباء، المرزباني محمد بن عمران، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، 1965م.
ـ مواهب الرحمن في تفسير القرآن، الموسوي عبد الأعلى، مطبعة الديوان، بغداد، ط3، 1989م.
ـ الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، محمد حسين، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1973م.(1/333)
ـ ميادين علم النفس، النظرية والتطبيقية، انستازي انجلش، فربمان وآخرون، دار المعارف بمصر 1962م.
ـ نصوص من الشعر العربي قبل الإسلام، دراسة وتحليل، د.نوري حمودي القيسي، ود.محمود عبداللّه الجادر، ود.بهجت عبد الغفور الحديثي،منشورات وزارة التعليم العالي، والبحث العلمي، جامعة بغداد، مطبعة دار الحكمة للطباعة والنشر في الموصل 1990م.
ـ نظرية الأدب، وارين اوستن، ورينيه ويلينه، ترجمة محي الدين صبحي، مطبعة خالد الطرابيشي، دمشق 1972م.
ـ نظرية البنائية في النقد الأدبي، د.صلاح فضل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط3، 1987م.
ـ نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، د.ألفت كمال الروبي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1983م.
ـ نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب،نشر الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الطبعة العربية الأولى، 1982م.
ـ النقد الأدبي، د.سهير القلماوي، دار المعرفة بالقاهرة، ط2، 1959م.
ـ النقد الأدبي الحديث، د.محمد غنيمي هلال، دار الثقافةـ دار العودة، بيروت، 1973م.
ـ النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، روز غرّيب، دار الفكر اللبناني، ط2، بيروت
1983م.
ـ نقد الشعر، قدامة، أبو الفرج قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد (الكاتب البغدادي) (ت 337 هـ)، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط3، 1973م.
ـ النكت في إعجاز القرآن، الرماني، أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد اللّه (ت 388 هـ)، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ـ تحقيق محمد خلف اللّه أحمد ود.محمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر (د:ت).
ـ هذا هو الفارابي، مدخل وتمهيد، مدني صالح، سلسلة الموسوعة الصغيرة، رقم 59، مطبعة دار الحرية، بغداد 1980م.
ـ الهوامل والشوامل، ابن مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب (ت 421هـ). نشره أحمد أمين، والسيد أحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، (1370 هـ ـ 1951م).(1/334)
المجلات والصحف:
ـ الاستعارة في البحث البلاغي، المفهوم الوصفي الاصطلاحي (بحث) د.عبد الرحمن شهاب نشره في مجلة آداب المستنصرية، العدد الخامس، (1400هـ ـ 1980م).
ـ افنون التغلبي، صنعة د.عادل جاسم البياتي، نشره في مجلة كلية الآداب،جامعة بغداد، العدد 20، 1976م.
ـ أولية الشعر العربي، (بحث) د.عادل جاسم البياتي، نشره في مجلة الطليعة الأدبية، العدد الرابع، السنة الخامسة، نيسان 1979م.
ـ بشار بن برد، مجدداً، (بحث) حميد مخلف الهيتي، نشره في مجلة آداب المستنصرية، العدد الثاني، (1397 هـ ـ 1977م).
ـ رمز المرأة في أدب أيام العب (بحث) د.عادل جاسم البياتي، نشره في مجلة آفاق عربية، بغداد، العدد 12 لسنة 1977م.
ـ الشعر والإنشاد، د.جميل سعيد (بحث) نشره في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد 14، (1387هـ ـ 1467م).
ـ عناصر الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، د.يحيى الجبوري، (بحث) نشره في مجلة آداب المستنصرية، العدد الثالث، السنة الثالثة (1392هـ ـ 1972م).
ـ قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية، د.محمود عبد اللّه الجادر (بحث) نشره في مجلة الأقلام العراقية، العدد الثاني عشر 1979م.
ـ قصيدة النثر: حقيقتها، أبعادها، مفاهيمها، بحث صاحب خليل إبراهيم، نشره في مجلة الثقافة، بغداد، العدد الثالث، السنة الثالثة، 1973م.
ـ اللفظ وعلاقته بالجرس الموسيقي، بحث: د.هند حسين طه، نشرته في مجلة آداب المستنصرية، العدد الثاني، السنة الثانية (1397 هـ ـ 1977م).
ـ لوحة الطلل في القصيدة الجاهلية، بحث د.نوري حمودي القيسي، نشره في مجلة (الأقلام)، العرّاقية، العدد الحادي عشر، السنة الثامنة 1973م.
ـ مدخل إلى بنية القصيدة العربية قبل الإسلام، بحث د.محمود عبد اللّه الجادر، نشره في مجلة (آفاق عربية)، العراقية، العدد الثاني عشر، كانون الأول 1987م.(1/335)
ـ المرأة في البناء الفني لقصيدة الفرسان والأجواد في العصر الجاهلي (بحث) د.بهجت عبد الغفور الحديثي، نشره في مجلة: دراسات للأجيال، العدد الرابع، السنة السابعة، كانون الأول 1987م.
ـ النسيج الشعري(بحث) صاحب خليل إبراهيم، نشره في صحيفة (الثورة) العراقية، العدد 7731 في 15 ربيع الأول (1421هـ ـ 23 أيلول 1991م.
ـ هل الإبداع حاجة أم ماذا؟ (بحث) صاحب خليل إبراهيم، نشره في صحيفة القادسية في 26/11/1991م.
(((
الفهرس
الإهداء ... 3
التمهيد ... 3
الفصل الأوّل منافذ الأداء السمعي في هيكل القصيدة ... 3
المبحث الأول ... 3
المبحث الثاني (الرحلة) ... 3
المبحث الثالث (الغرض) ... 3
الفصل الثاني التشكيل الجمالي في الصور السمعية المختلفة ... 3
المبحث الأول أثر الصورة الذهنية في تشكيل الصورة السمعية ... 3
المبحث الثاني الصورة السمعية وسلطان الحواس ... 3
المبحث الثالث الصورة السمعية عبر الإيحاء ... 3
الفصل الثالث: الصورة السمعية والنسيج الشعري موسيقياً وبيانياً ... 3
المبحث الأول (إنشاد الشعر) ... 3
المبحث الثاني موسيقى الشعر والصورة السمعية ... 3
المبحث الثالث البيان في الصورة السمعية ... 3
الفصل الرابع : الصورة السمعية المفردة: ... 3
الصورة السمعية المركبة: ... 3
الخاتمة. ... 3
المصادر والمراجع: ... 3
الفهرس ... 3
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الاسلام: دراسة/
صاحب خليل ابراهيم– [دمشق] : اتحاد الكتاب العرب، 2000 – 311ص؛ 25سم.
1- 811.1009 ا ب ر ص ... ... ... ... 2- العنوان
3- ابراهيم
ع- 1480/8/ 2000 - ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
((
هذا الكتاب(1/336)
دراسة للصورة السمعية في الشعر الجاهلي، توزعت على أربعة فصول أراد الدارس الإشارة إلى اعتماد الشعر الجاهلي السماع أساساً، وقد حلل هذه الظاهرة، وجعل من الإيقاع السمعي سمة خاصة من سمات العصر عينه، لذا عني بالموسيقا المتأتية من الموزون والقافية.. كما حلل وبشكل ذكي تحويل الصورة المرئية إلى صورة مسموعة مما يؤثر في الإحساس وحاول معرفة أسباب تقديم البصر على السمع، وهذا ما تأكد من خلال إحصائية للصورة السمعية في آيات القرآن الكريم..
(((1/337)