بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي جاء بالحق المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الباطل ما برح يحارب الحق بسيوفه المفلولة، وشبهاته الضئيلة، وإن العصور ما برحت تلد مِنَ الضالين المعاندين والمضلين المخادعين مَنْ يحاولون رد الناس عن أديانهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ولئن كانت الضلالات كثيرة متنوّعة _ فإن أشرَّها وأخسَّها مذهب الشيوعية الماركسية، ذلك المذهب الذي أنشأه اليهود، فتربى في أحضانهم، وأخرج نباته النكد.
فالشيوعية الماركسية مذهب إلحادي يؤمن بالمادة وحدها، ويكفر بالغيب وما جاء عن الله وعن رسله _ عليهم السلام _ ويقوم في سبيل الدعوة إليه على الحديد والنار، وما أوتي من قوة.
ولقد ظهر ذلك المذهب في القرن التاسع عشر الميلادي، فَمَدَّ رواقه في بلاد عديدة؛ حيث اعتنقه أفراد، وتبنته حكومات.
ولقد تهيأ لهؤلاء المضلين من وسائل الإغواء والدعاية والفساد والإفساد _ ما لم يتهيأ لغيرهم من الغابرين.
ولهذا راجت دعايتهم، وانتشر مذهبهم، حتى لقد اعتنق الشيوعية فئام غير قليلة من المسلمين.
وبما أن الشيوعية مذهب هدام، وأنه قد انتشر بصورة مذهلة _ فإن الغيرة قد دبت في قلوب كثير من أهل العلم والفضل من المسلمين؛ فقاوموا الشيوعية بما أوتوا من علم وبيان، فأوضحوا عوار ذلك المذهب وزيفه، وأخبروا بأن الشيوعية إلى زوال واضمحلال، وأن نهايتها لن تكون إلا على أيدي أتباعها؛ لأنها باطل، والباطل لا دوام له، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وبسبب هذه الجهود المباركة أنقذ الله أمماً كثيرة من وباء الشيوعية المدمر.
وإن مما يدعو للعجب أن يعتنق هذا المذهب نفر من أبناء جلدتنا، الذي أكرمهم الله بالإسلام.(1/1)
وما اعتناقهم لذلك المذهب إلا ضرب من التقليد الأعمى، واستبدالٌ للذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى إن المذاهب لتموت في الغرب ويزهد بها أربابها ولها من يهتف لها ويدعو إليها من أبناء جلدتنا.
ولقد يسر الله أن كتبت بعض الصفحات حول الشيوعية قبل سنوات؛ إذ كنت أستعين بها في إعداد بعض الدروس حول الشيوعية.
وبعد ذلك أعدت النظر فيما كتبت، ثم رغبت في نشره؛ عسى أن يكون فيه شيء من الفائدة.
هذا وقد جاءت خطة البحث في هذا الكتاب بعد المقدمة مشتملة على تمهيد، وأربعة فصول، وخلاصة وخاتمة للبحث وذلك على النحو التالي:
تمهيد
وتحته:
أولاً: تعريف الشيوعية.
ثانياً: نبذة عن تاريخ الشيوعية عموماً.
الفصل الأول: نشأة الشيوعية الماركسية وأشهر شخصياتها:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نشأة الشيوعية الماركسية.
المبحث الثاني: مؤسس الشيوعية الماركسية، وأشهر شخصياتها.
المبحث الثالث: أسبابُ قيامِ الشيوعيةِ، ومواطنُ انتشارها.
الفصل الثاني: معتقدات الشيوعية الماركسية، وأخلاقها، وأهدافها:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: معتقدات الشيوعية وآراؤها.
المبحث الثاني: أخلاق الشيوعية.
المبحث الثالث: أهداف الشيوعية ووسائلها.
الفصل الثالث: موقف الشيوعية من الإسلام:
وتحته تمهيد، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طرق الشيوعيين في محاربة الإسلام.
المبحث الثاني: أعمال الشيوعيين ضد المسلمين.
المبحث الثالث: أسباب انتشار الشيوعية في العالم الإسلامي.
الفصل الرابع: بطلان الشيوعية والرد على مزاعمها:
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: آثار الشيوعية.
المبحث الثاني: الرد على مزاعم الشيوعية، وحكمُ الانتماء إليها.
خلاصة البحث
الخاتمة
هذا ما يسر الله تقييده، وأعان على إتمامه، فعسى أن يكون فيه فائدة، وإيضاح لذلك المذهب.
والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
1_ تعريف الشيوعية في اللغة: الشيوعية في اللغة مأخوذة من مادة شيع.(1/2)
وهذه المادة تدور حول عدة معانٍ، فتطلق على الظهور، والافتراق، والانتشار، والذيوع.
قال ابن منظور ×: =شاع الشيب شيعاً، وشياعاً، وشيعاناً، وشيوعاً، وشيعوعة، وتشيعاً: ظهر وتفرق، وشاع فيه الشيب، والمصدر ما تقدم، وتشيعه كلاهما: استطار.
وشاع الخبر في الناس يشيع شَيْعاً، وشيعاناً، ومشاعاً، وشيعوعة، فهو شائع: انتشر، وافترق، وذاع، وظهر+(1).
ومن إطلاقات هذه المادة: التفريق.
قال ابن منظور ×: =أشعتَ المال بين القوم، والقِدْرَ في الحي: إذا فرقته فيهم+(2).
وتُطلق مادة شيع _أيضاً_ على العموم.
قال ابن منظور: =أشاعكم السلام: أي عمكم+(3).
وتطلق على الشراكة يقال: =هما متشايعان، ومشتاعان في وادٍ وأرض إذا كانا شريكين فيها، وهم شيعاء فيها، وكل واحد منهم شَيِّعٌ لصاحبه، وهذه الدار شَيِّعة بينهم أي مشاعة+(4).
وتطلق على التفرق وورد من ذلك قولهم: =شاعت القطرة من اللبن في الماء وتشيعت: تفرقت+(5).
ومن خلال ما مضى يتبين لنا أن هذه المادة _ شيع _ تدور حول الظهور، والانتشار والافتراق، والذيوع، والعموم، والشراكة، والتفرق.
وكلمة شيوعية نسبة إلى الشيوع، فيقال شيوعي للمذكر، وشيوعية للمؤنث، فتطلق على فكرة الشيوعية، وتطلق على من اتصف بها، أو انتسب إليها.
2_ تعريف الشيوعية في الاصطلاح العام: هي نظام يقوم على إلغاء الملكية الفردية، وعلى حق الناس في الاشتراك في المال والنساء؛ فالناس في الشيوعية شركاء في المال، والنساء، وسائر الثروات والمكتسبات.
3_ تعريف الشيوعية الماركسية الحديثة: عُرِّفت الشيوعية الماركسية الحديثة بعدة تعريفات، تكاد تكون متقاربة، ومما عرفت به ما يلي:
__________
(1) _ 2 _ 3 _ لسان العرب لابن منظور8/191.
(4) _ لسان العرب لابن منظور8/191
(5) _ لسان العرب 8/192(1/3)
أ _ قيل: هي حركة فكرية، واقتصادية، يهودية، إباحية، وضعها كارل ماركس تقوم على الإلحاد، وإلغاء الملكية الفردية، وإلغاء التوراث، وإشراك الناس كلهم في الإنتاج على حد سواء(1).
ب _ وقيل: هي تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية كذلك، وهي تفسير لذلك كله على أساس مادي، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادي.
ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وفكري مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض (2).
ج _ وقيل: الشيوعية تنظيم بقيادة يهودية، ذو هيمنة عقائدية، ووسائل تستدرج مغرية بالشهوة الإباحية، والنفعية الميكافيلية(3)، وتسيطر بالاستبداد المطلق المقرون بالعنف الدموي، والإرهاب المعطل لطاقات الحرية العملية والفكرية.
والهدف الغائي من هذا التنظيم تحقيق جانب من المخطط اليهودي العالمي الرامي إلى تدمير الأمم والشعوب والأديان وكل قيم المجتمع البشري، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية العالمية، التي يحلم قادة اليهود بأنهم سيصلون إليها عن طريق مخططاتهم التي يعملون على تنفيذها بكل ما أوتوه من مكر وقوة.
د _ ويمكن أن تعرف الشِّيوعيَّة بأنها: حركة يهودية، أسسها كارل ماركس وطبقها من جاء بعده، تقوم على الإلحاد، وتنظر إلى الكون والحياة من منظور مادي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها بالحديد والنار، وبكل ما تملكه من وسائل.
__________
(1) _ الأديان والذاهب المعاصرة د. ناصر العقل ود. ناصر القفاري ص92
(2) _ مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب ص 409 _410.
(3) _ الميكافيلية: هي أسلوب في المعاملات، يتسم بالخداع والمخاتلة، مبني على مبدأ =الغاية تسوغ الواسطة+ أو =الغاية تسوغ الوسيلة+، وهذا المبدأ يأخذ به أكثر السياسيين.
وينسب إلى المفكر الإيطالي =ماكيافلي+ 1469_1527م رائد هذا المبدأ، والذي سجله في كتابه =الأمير+ وقدمه لأحد ملوك أوروبا الوسطى، انظر القاموس السياسي لأحمد عطية ص1105_1106.(1/4)
ثانياً: نبذة عن تاريخ الشيوعية ــ عموماً ــ (1)
الشيوعية فكرة قديمة، ظهرت في التاريخ أكثر من مرة؛ فقد جاء في كتاب (الجمهورية) لأفلاطون الأثيني الإغريقي (427_347) ق.م. ما يدل على نشأة هذا المذهب، حيث أقام في كتابه نظاماً يقوم _ بالنسبة للحكام _ على شيوعية المال، والنساء، وشرع لهذا منهجاً مفصلاً؛ فهناك أمثلة خيالية، ولمحات عن الاشتراكية أثبتها أفلاطون في كتابه، تصور حقيقة أن القرن الخامس قبل الميلاد _وهو الذي وجد فيه أفلاطون_ كان فيه مبادئ اشتراكية لم تزل في مهدها.
يقول أفلاطون في كتابه الآنف الذكر ما فحواه: =يجب أن يشتمل النظام على اشتراكية النساء والأولاد، فليس لأحد حق بإنشاء أسرة مستقلة، كما ليس له الحق بتربية الأولاد؛ لأن الجميع ملك الدولة، وهي وحدها تشرف على تنشئة العضو الصالح كما تشرف على إنجاب النسل المختار+(2).
هذا وقد قسم أفلاطون المجتمع إلى ثلاثة أقسام:
1_ الحكام.
2_ رجال الحرب.
3_ الخدم والعمال.
وقال: إنه يجب أن تكون الزوجات والأموال، والمآكل مشاعة بين أفراد الفئة الأولى والثانية، أما الثالثة فإنها تعيش على النظام الأسري المعهود.
وكذلك قال بالشيوعية أكزينوف (425 _ 352 ق.م) من فلاسفة الإغريق(3).
وقال بها _ أيضاً _ مزدك عام (487م) ، حيث دعا إلى الشيوعية واشتراك الناس في الأموال، والأعراض، وتسمى حركته بالمزدكية، وظهرت هذه الحركة في بلاد فارس(4).
كما دعا إلى الشيوعية كثير من أرباب النزعات الإباحية، كالباطنية المتأثرين بالمزدكية، ومنهم حمدان قرمط وقومه، ومنهم علي بن الفضل الذي صور مذهبهم بقوله:
__________
(1) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ، لـ: لبيب السعيد ص 11 _ 12، ونقد أصول الشيوعية للشيخ صالح بن سعد اللحيدان ص 18.
(2) _ نقد أصول الشيوعية ص 18.
(3) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ص 12.
(4) _ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/249_250.(1/5)
خذي الدفَّ يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم(1) ... وهذا نبي بني يعرب
لكل نبيٍّ مضى شرعة ... وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة ... وفرض الصيام فلم نتعب
أباح البنات مع الأمهات ... كذاك أباح نكاح الصبي
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوَّموا فكلي واشربي
ولا تطلبي الحج عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين ... من الأقربين أو الأجنبي
بماذا حللت لهذا الغريب ... وصرت محرمة للأب
أليس الفراس لمن ربَّه ... وغذَّاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء ... أبيحت فقدِّست من مذهب(2)
ثم توالت بعد ذلك الدعوات إلى الشيوعية على يد عدد من الأشخاص، منهم توماس مور _1478 _ 1535م_ حيث وضع نظاماً لمدينته الفاضلة الخيالية ضمن شيوعية مالية.
ثم جاء بعده كامبانيلا الإيطالي _1568 _ 1639م_ في كتابه مدينة الشمس، حيث ضمنه نظاماً اشتراكياً لمدينته هذه أغفل فيه الملكية الفردية والزواج.
ومن الذين دعوا إليها فرنسيس بيكون _1626م_ وهاريخ تون _1677م_ وجان جاك روسو _1787م _ والكاتب الفرنسي مورللي _1817م_ وباييف الذي أعدم أمام الناس عام _1797م_.
هذه نبذة عن تاريخ الشيوعية عموماً.
وبعد هذه الدعوات ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة على يد كارل ماركس، وزميله فريدريك إنجلز، وهي مدار الحديث في هذا الكتاب، وسيأتي الحديث عن تفصيلها _إن شاء الله تعالى_.
المبحث الأول: نشأة الشيوعية الماركسية (3)
ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي، فقد خرج كارل ماركس (1818_1883م) بآرائه التي تعد حجر الزاوية في المبادئ الشيوعية، وقد بسطها في كتابه (رأس المال).
__________
(1) _ يقصد بالذي تولى: نبينا محمد ".
(2) _ انظر كشف أسرار الباطنية للشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليمني ص 55، والحركات الباطنية د. محمد بن أحمد الطيب الخطيب ص 66 .
(3) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ص 15.(1/6)
وقد شاركه في صياغة أفكاره ونظرياته وتابع ذلك من بعده _ صديقه الألماني فريدريك إنجلز.
وقد اندفع الرجلان بقوة ومن ورائهما ثقل الكيد اليهودي يعملان في نشر الشيوعية.
ثم جاء من بعد ماركس أتباع له يدعون بدعوته أهمهم وأوضحهم أثراً لينين، فعلى يده قامت الشيوعية عملاً واقعياً ماثلاً للعيان بعد أن كانت أشبه بنظرية على ورق؛ ففي عهد لينين زادت الشيوعية، وامتدت، واشتهرت.
وفي مطالع القرن العشرين أضاف لينين إلى آراء ماركس تعاليم جديدة، وجمع حوله شباب الروس والعمال الفقراء مكوناً منهم الحزب الشيوعي الروسي.
ومن بعد ذلك ثارت روسيا سنة 1917م على الحكم القيصري، واستولى البلاشفة _ الأكثرية _ بزعامة لينين على الحكم، وأعدموا القيصر وآله وأعوانه، وأزالوا جميع النظم القائمة وأحلوا محلها النظام الشيوعي الذي أصبحت روسيا بعد ذلك مصدره ومورده.
وبعدما مات لينين خلفه ستالين، وبعده جاء خروتشوف، ومن بعده بريجينف، ومن بعده أندربوف، ومن بعده جورباتشوف، وعلى يده انهارت الشيوعية، حيث انفرط عقدها، وسُلَّ نظامها.
هذه باختصار هي قصة نشأة الشيوعية الماركسية الحديثة.
وإذا أمعنت النظر في نشأة الشيوعية وجدت أنها لم تنشأ من فراغ؛ فهناك إرهاصات مهدت لقيامها.
وإذا أردت معرفة الخيوط التي كانت نواةً لقيام الشيوعية وجدت أنها نشأت في حِجْرِ الماسونية اليهودية.
فالذين كتبوا عن الماسونية في مرحلتها الثالثة حددوا أنها بدأت عام 1770م وأن بَدْأها كان إرهاصاً قوياً لقيام الشيوعية الماركسية.
يقول وليم كار صاحب كتاب (الدنيا لعبة إسرائيل): =كان آدم وايزهاويت أحد رجال الدين المسيحي أستاذاً لعلم اللاهوت في جامعة (انغولت شتات) الألمانية بيد أنه ارتد عن المسيحية ليعتنق الإلحاد، وتقمصت فيه روح الشر الإلحادي بشكل خبيث.(1/7)
وفي عام 1770م اتصل به رجال الماسونية في ألمانيا، وقد وجدوا فيه بغيتهم، فكلفوه بمراجعة (بروتوكولات حكماء صهيون) القديمة وإعادة تنظيمها على أسس حديثة +(1).
=والهدف من وراء ذلك في هذه المرة ليس محاربة الديانة المسيحية، ووضع أيديهم على اقتصاديات ومقدرات العالم كما حدث سابقاً.
إن الأمر في هذه المرة أكبر من ذلك، وهو وضع خطة للتمهيد للسيطرة على العالم، وعن طريق فرض عقيدة الإلحاد والشر على البشر جميعاً+(2).
يقول وليم كار: =وقد أنهى وايزهاويت مهمته خلال عام 1776م، ويقوم المخطط الذي رسمه على ما يلي:
1_ الهدف الأول: تدمير جميع الحكومات الشرعية، وتدمير وتقويض جميع الأديان السماوية.
2_ تقسيم (الجوييم)(3) إلى معسكرات متنابذة تتصارع فيما بينها بشكل دائم حول عدد من المشاكل تتولى المؤامرة توليدها وإثارتها باستمرار ملبسة إياها ثوباً اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو سياسياً، أو عنصرياً.
3_ تسليح هذه المعسكرات بعد خلقها، ثم تدبير حادث في كل مرة يكون من نتيجته أن ينقض كل معسكر على الآخر.
4_ بث سموم الشقاق والنزاع داخل البلد الواحد وتمزيقه إلى فئات متناحرة، وإشاعة عقلية الحقد والبغضاء فيه، حتى تتقوض كل دعاماته الأخلاقية، والدينية، والمادية.
__________
(1) _ الدنيا لعبة إسرائيل وليم كار ص 11، وانظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها د.عبدالرحمن عميرة ص 45.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 46.
(3) _ الجوييم: كلمة عبرية، معناها الأ صلي =شعب+ أو (قوم) لكن دلالتها عند اليهود أصبحت تعني الشعوب من غير اليهود. انظر المغني الوجيز، وموسوعة المصطلحات الأجنبية الشائعة لمنذر الأسعد 1/130_131.(1/8)
5_ الوصول شيئاً فشيئاً إلى النتيجة بعد ذلك، وهي تحطيم الحكومات الشرعية، والأنظمة الاجتماعية السليمة، وتهديم المبادئ الدينية الأخلاقية، والفكرية والكيانات القائمة عليها؛ تمهيداً لنشر الفوضى والإرهاب، والإلحاد+(1).
هذا هو المخطط الذي وصفه وايزهاويت، والذي يهدف الماسونيون من خلاله إلى تحقيق ما يريدون.
والمتتبع لأحوال العالم يشاهد آثار ذلك التخطيط.
ولما انتهى وايزهاويت من وضع مخططه السابق كُلِّف _ أيضاً _ بتنظيم المحفل (النوراني) نسبة إلى الشيطان الذي كان مخلوقاً نورانياً _ كما يقولون _ وسمي ذلك المحفل بهذا الاسم؛ تذكيراً بالرابطة التي تربط جماعة الماسون والشيطان.
وهكذا استمرت المحافل في أداء رسالتها الشيطانية في جميع البلاد التي تحل بها، بل واستطاعت أن تغزو بعض البلاد الإسلامية عن طريق شعاراتها البراقة: الحرية، والإخاء، والمساواة، فخدعت الكثير من الناس بهذه الشعارات.
وفي عام 1830م فوجئت المحافل الماسونية بوفاة آدم وايزهاويت الرأس المفكر عندهم، والمخطط لأعمالهم بعد حياة طويلة سخر خلالها عبقريته الشريرة لخدمة أتباع الشيطان.
حينئذٍ فترت أعمال المحافل، وخمدت أنشطتها، وأوشكت أن تشل حركتها بالكامل بعد أن علمت بعض الحكومات بما تدبره وتعمل له، وبعد أن أحاطت بآراء تلك المحافل وأهدافها البعيدة، لكن الاجتماع المفاجئ الذي دعت له المحافل عام 1834م والذي تقرر فيه اختيار الزعيم الإيطالي (مازيني) خلفاً لآدم وايزهاويت _ مكَّن هذه المحافل من تنفيذ برامجها في إثارة الفوضى والتخريب في ربوع العالم.
وفي عام 1840م استطاع المحفل الماسوني العالمي النوراني أن يضم إلى عضويته شخصية جديدة هو الجنرال الأمريكي (ألبرت بايك)الذي سُرِّح من الجيش الأمريكي ومعه قواته من الجنود الحمر؛ لارتكابهم فظائع وحشية تحت ستار الأعمال الحربية.
__________
(1) _ الدنيا لعبة إسرائيل ص11، وانظر المذاهب المعاصرة ص 46.(1/9)
ونجحت الماسونية في استغلال حقده، وغضبه لما حل به من جراء تسريحه لخدمتها ولم تمض إلا فترة وجيزة على انضمام هذا الرجل للمحفل حتى أصبح المشرف الأول، والمخطط لهم في تنفيذ برامجهم.
لقد عمد النورانيون إلى بايك بالناحية التخطيطية، واختاروا له مقراً للعمل في بلدة صغيرة هادئة في الولايات المتحدة الأمريكية في (ليتل روك).
وفي هذه البلدة استقر (بايك) في قصر هادئ واعتكف فيه من عام 1859_ 1871م وفي خلال هذه الأعوام قام بدراسة مستفيضة لمخططات (وايزهاويت) ثم وضع مخططاته الجديدة على ضوئها(1).
والذي يعنينا في هذا الصدد أن بايك أقرَّ ونظم تبني النورانيين لحركات التخريب العالمية الثلاث المبنية على الإلحاد وهي:
1_ الشيوعية.
2_ الفاشستية(2).
3_ الصهيونية(3).
فالأولى: وهي الشيوعية للإطاحة بالحكم الملكي في روسيا، وبعد الإطاحة بالحكم تجعل هذه المنطقة من العالم هي العقل المركزي للحركة الشيوعية الإلحادية، تم تأتي بعد ذلك مرحلة الانطلاق بالشيوعية إلى كل أرجاء العالم، بغية تدمير المعتقدات الدينية والأخلاقية.
والثانية: وهي الفاشستية تُؤَمِّن الحرب العالمية الثانية واجتياح الحركة الشيوعية العالمية لنصف العالم مما يمهد للمرحلة القادمة هى إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 51_52.
(2) _ الفاشستية ويقال:الفاشية: هي نظام،أو حركة أو فلسفة سياسية تمجد الدولة، والعرق،وتدعو إلى إقامة حكم أوتوقراطي مركزي على رأسه زعيم دكتاتوري، وإلى السيطرة على كل شكل من أشكال النشاط القومي. ومن أبرز زعماء هذه الحركة الزعيم الإيطالي موسوليني.
(3) _ الصيهيونية: هي منظمة يهودية سياسية أسسها اليهودي تيودورهرتزل ،وتهدف إلى تجميع اليهود في فلسطين وإلى تنفيذ المخططات المرسومة لإعادة مجد بني إسرائيل وبناء هيكل سليمان، ثم إقامة مملكة إسرائيل ثم السيطرة على العالم من خلالها تحت ملك اليهود المنتظر المزعوم.(1/10)
والثالثة: وهي الصهيونية تتصدى للزعماء الإسلاميين، وتشن حرباً على الإسلام الذي يعد القوة الأخيرة التي تجابه القوة الخفية _ الماسونية _ حتى تتوصل إلى تدمير العالم وعقيدته(1).
والذي يعنينا من هذه الحركاتِ الشيوعيةُ، فلقد اختارت المؤامرة العالمية روسيا لتكون مقراً لقيام الشيوعية؛ لكثرة أقطاب اليهود القاطنين فيها.
ففي القرن التاسع عشر وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تحكم بالقيصرية _ بلغ يهود روسيا ذروة السيطرة المالية والمهنية، وكان اتجاه القياصرة الروس أن يصهروا اليهود في المجتمع الروسي؛ حتى لا يكون لهم انفصال متميز.
إلا أن اليهود كانوا يرفضون ذلك بدافع عرقي وديني.
ثم كانت محاولة اغتيال اسكندر الثاني، فَبَدَّل هذا سياسته تجاه اليهود بعد أن كانت سياسة انفتاح وتسامح شديد.
عندئذٍ نقم اليهود على القيصر، وأسسوا جمعية سرية إرهابية هي جمعية (نارود نايافوليا)أي إرادة الشعب، وظلوا يأتمرون بالقيصر؛ ليقتلوه، حتى نجحت مؤامرة اغتياله في آذار سنة 1881م، وكان رؤوس المؤامرة جميعهم من اليهود، وفي مقدمتهم اليهودية (هيسيا هيلفمان).
وكان لاغتيال اسكندر الثاني رد فعل روسي معادٍ لليهود، وعندئذٍ نشطت الحركتان الشيوعية والصهيونية نشاطاً كبيراً في صفوف اليهود.
واتجهت الخطة اليهودية لتقويض القيصرية، وإقامة النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية، فأخذ اليهود يدبرون المكائد، ويحيكون الدسائس، وينظمون الجمعيات السرية اليهودية لذلك الشأن، فكان من تلك المنظمات فرقة أطلق عليها (فرقة تحرير العمل).
وكانت مهمتها نشر أفكار كارل ماركس وآرائه وذلك عام 1883م.
وقد حققت تلك الفرقة _بما توفر لديها من عون_ التنظيمات اليهودية في داخل روسيا _ بعض مهمتها، واعتبر لينين وستالين أن ما حققته هذه الفرقة الماركسية كان النواة الأولى، وأنها أدت مهمة خطيرة جداً.
__________
(1) _ انظر الدنيا لعبة إسرائيل ص26، والمذاهب المعاصرة ص 53_54.(1/11)
كما قامت المنظمات الأخرى كمنظمة (اتحاد العمال اليهود) بنشاطات واسعة في تأجيج الثورة ضد القيصرية، وببث النظرية الشيوعية الماركسية، وبالاتصال بكبار أصحاب الأموال الضخمة في العالم من الرأسماليين لتمويل حركتهم الشيوعية اليهودية.
وفي عام 1893م ذهب لينين إلى (بطبرسبرغ) فأقام فيها، وأنشأ حلقة ماركسية انضم إليها عدد واسع من اليهود، ثم قام بمهمة توحيد الحلقات الماركسية في المدينة، وكان يزيد عددها على العشرين، فجمعها في (اتحاد النضال لتحرير الطبقة العاملة).
وظل الاتحاد يعمل بقيادة لينين في اتجاه آرائه حتى اعتقل عام 1895م.
ثم تابع اليهود في الولايات الغربية من روسيا مسيرة لينين، فأنشأوا حزب (البوند)أي الاتحاد العام للحزب الاشتراكي اليهودي، ولم يحضر لينين هذا المؤتمر بسبب نفيه إلى سيبيريا.
وفي عام 1903م انعقد في بروكسل عاصمة بلجيكا مؤتمر التوحيد بهدف جمع الحركات الماركسية كلها تحت حزب العمال الاشتراكي، وكان برنامج الحزب الذي وضعه لينين هو الثورة الاشتراكية وقلب سلطة الرأسمالية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا(1).
ثم عاشت روسيا فترة طويلة من الاضطرابات التي كان لها أكبر الأثر على الإنتاج العام الذي منيت به البلاد، والذي ظهر أثره عندما دخلت روسيا الحرب ضد ألمانيا؛ فمع بداية القرن العشرين الميلادي كانت روسيا مسرحاً لنشاط ثوري أسسه اليهود، واستطاعت تنظيماتهم السرية اغتيال عدد من الزعماء الروس.
وفي عام 1905م قامت في روسيا أول ثورة شيوعية نظمها اليهود إلا أنها أخفقت ولم يتمكن اليهود من فرض الماركسية في روسيا.
وفي كانون الثاني من عام 1917م بدأت الاضطرابات في موسكو ضد نظام الحكم القيصري؛ نتيجة ضعفه، وكثرة المؤامرات ضده، والحرب التي يخوضها على الجبهة الألمانية.
__________
(1) _ البروليتاريا: الطبقة العاملة.(1/12)
وظلت هذه الاضطرابات تستفحل وتنتشر حتى بلغت حد الثورة التي استطاعت أن تسقط نظام الحكم القيصري في شباط سنة 1917م.
وكانت الثورة في بدايتها ديمقراطية ذات اتجاه إصلاحي ولم تكن شيوعية، ولم يظهر الشيوعيون على الساحة، وقامت الحكومة المؤقتة برئاسة الأمير لفوف، واتخذت هذه الحكومة المؤقتة بعض التدابير الأولية للتهدئة؛ ظناً منها أن ذلك لمصلحة روسيا، فأصدرت قراراً بإعادة جميع المنفيين في سيبيريا والسماح لمن كان يقيم في الخارج أن يعود إلى البلاد.
وفي نيسان عام 1917م عاد إلى موسكو قادة المنظمات اليهودية الماركسية؛ فعاد لينين من سويسرا، وعاد ستالين من سيبيريا، وعاد تروتسكي من نيويورك مع مئات الشيوعيين اليهود الحمر.
وفي شهر نيسان نفسه من عام 1917م اجتمع البلشفيك برئاسة لينين، ووضعوا مخططاً لتحويل الثورة لمصلحتهم، ومصادتها بأية وسيلة.
وفي تشرين من عام 1917م استطاع البلشفيك الاستيلاء على السلطة المؤقتة، فصارت بأيدي الشيوعيين: لينين وأتباعه.
وبعد ذلك اتحدت المنظمات الماركسية، وخضعت لجهاز مركزي واحد، وفرض على روسيا حكم شديد العنف والصرامة مستخدماً كل وسائل القمع بالحديد والنار.
وبهذا يتبين لنا كيف قامت الشيوعية، ومدى العلاقة بينها وبين اليهودية العالمية(1).
بل لقد كشفت اليهودية عن عملها ومخططها في نجاح الثورة، حيث صرح جاكوب شيف المليونير اليهودي بأن الثورة الروسية نجحت بفضل دعمه المالي.
وقال: =إنه عمل على التحضير لها مع رفيقه تروتسكي+(2).
وفي استكهولم كان اليهودي (ماكس واربورج) ينفق بسخاء على هدم النظام القيصري، ثم انضم إلى هذه المجموعة من أصحاب الملايين اليهود _ (والف اشبورغ) (وجيفولوفسكي) الذي تزوج ابنة (تروتسكي)(3).
__________
(1) _ انظر في تفاصيل ذلك إلى المذاهب المعاصرة ص 111_113، والكيد الأحمر ص 84 _94.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 112.
(3) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 111_112.(1/13)
وتقول إحدى الصحف الفرنسية القديمة الصادرة في عددها 115 عام 1919م:
=المعروف أن الحركة البلشفية ليست سوى حركة يهودية سرية يربطها ويوجهها التمويل اليهودي، فضلاً عن القيادات اليهودية فكراً وتنظيماً+(1).
ونتساءل كيف يتفق أصحاب رؤوس الأموال في العالم مع دعوة (البروليتاريا) أصحاب الطبقة الفقيرة أيكون هذا دعاية من الدعايات التي تطلقها الدول الرأسمالية ضد النظام الشيوعي وأتباعه؟
إن الصحيفة الفرنسية تحسم هذه التكهنات والتناقضات عندما تكشف شيئاً من مخطط اليهود بقولها: =إن الهدف من تمويل الثورة الشيوعية من قبل الرأسمالية اليهودية هو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين+(2).
يؤيد ما قالته الصحيفة الفرنسية أن من أول القرارات التي أصدرها لينين عقب توليه السلطة: هو قراره المعروف بتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
والعجيب في الأمر أن قرار لينين هذا تزامن مع وعد بلفور الإنجليزي لهذا الغرض.
وهكذا التقت الشيوعية مع الرأسمالية عام 1917م(3).
أولاً: مؤسس الشيوعية الحديثة _ كارل ماركس (4) 1818 _ 1883م _ :
مؤسس الشيوعية الحديثة، والرجل الأول فيها هو كارل هنريك ماركس، فالعالم يعرفه بأنه أبو الشيوعية، وأنها إليه تنسب، فيقال: الشيوعية الماركسية.
__________
(1) _ 3 _ المذاهب المعاصرة ص 112.
(3) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 112_113.
(4) _ انظر: الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام للعقاد ص 24_25 ,28_ 67 ، والمذاهب المعاصرة ص 185_191، والكيد الأحمر 74_75، والموسوعة الميسرة ص 309_310، والشيوعية وموقف القرآن الكريم منها د. عبدالباقي أحمد عطا الله ص 41_49، وأيها الشيوعيون هؤلاء قواد ثورتكم لمحمد الصوياني.(1/14)
وتلامذة ماركس يغالون في حبه، ويعدونه رجل الثورة والحرية؛ فهو _ بزعمهم _ ذلك الرجل الرقيق الذي يحمل قلباً مليئاً بالعطف والحنان، وأنه ذلك الرجل الذي يكره الاستبداد، ويتدسس في مخازن الأغنياء، فيفتح صناديقهم المليئة بحثاً عن لقمة عيش يسد بها جوعة فقير أو مسكين، أو يتيم أو شيخ كبير، أو عامل كادح.
هذه هي الصورة الخادعة والدعاية البراقة عن كارل ماركس.
أما الحقيقة والوثائق فتقول غير ذلك، فتقول: إنه حبر يهودي، إنه ذلك الألماني المولود عام 1818م، فهو يهودي ابن يهودي، وجده هو الحاخام اليهودي الكبير (مردخاي)، بل إن أجداده من جهة أمه يهود، كما أنه ولد في حي اليهود المسمى (غيثو).
ولقب أسرته الحقيقي (لاوي) أو (ليفي) واللاويون من بني إسرائيل ينتسبون إلى لاوي بن يعقوب _ عليه السلام _ ؛ فماركس _ إذاً _ يهودي الوجه واليد واللسان.
أما عن تعليمه فقد وجهه والده إلى الفكر الفلسفي، كما درس له شيئاً من الأدب الكلاسيكي، ثم دخل ماركس جامعة بون، ثم جامعة برلين.
وكان أبوه يريد أن يدرس ابنه القانون، ولكنه بعد فصلين دراسيين تحول إلى دراسة الفلسفة، ثم تركها ليدرس الاقتصاد.
وكانت حالة أبيه متدهورة ولكن كارل ماركس لم يقدر ذلك، فساءت العلاقات بينهما، فلم يكن باراً بأبيه حتى بعد موته؛ فحين نعي إليه أبوه وهو في السنة النهائية من دراسته الجامعية _ لم يذهب إلى بلدته؛ ليواسي أمه وإخوته، وما كان منه إلا أن بعث إلى أمه يطلب نصيبه من ميراث أبيه، ثم ظل بعد استيفاء ميراث أبيه يرهق أمه بمطالب مالية، غير مبال بحاجة إخوانه وضعفهم.(1/15)
ومما يذكر عنه أنه لم يكن حميد السيرة لما كان في الجامعة، فكان على مستوى عالٍ من الفساد الخلقي، وشرب المسكرات، واستعمال المخدرات، وكان يسترسل في سهراته مع غواة العربدة واللهو، وكان يترك بلدة بون لما كان في جامعتها، ويذهب إلى بلدة كولون يبتغي ما فيها من ملاهي السهر مما لم يكن ميسوراً له تحت الرقابة الجامعية.
ولما كان في برلين ضبط أكثر من مرة وهو سكران.
وكان جباناً رعديداً يخاف من الشرطة خوفاً شديداً، فكان يذهب إلى قرية قريبة من برلين؛ ليشرب فيها كما يريد، ولقد كان ذا طبيعة ميالة إلى الهدم والتدمير، كما وصفه بذلك والده.
ومما يذكر في سيرة ماركس أنه كان مُنَفِّراً لمن حوله، مفرطاً في أنانيته وسوء خلقه، وبذاءة لسانه.
وكان معجباً بنفسه متعالياً على غيره، ولا يتحرج من قذف المخالفين له بالشتائم القذرة، وألفاظ الازدراء والسخرية ولو كان المخالف ممن يقول بفكرته، وينادي بما ينادي به.
ومما يذكر عنه أنه كان قذراً يهمل نظافة جسمه، وترجيل شعره، والعناية بملابسه ومظهره.
وكان منظر القروح التي تملأ وجهه وما ظهر من جلده يزيده قذارة إلى قذارته.
ومما ذكر عنه أنه كان كثير الاستدانة من معارفه، حتى لقد مَلُّوا من كثرة طلباته، وعدم وفائه.
ثم إن هذا الرجل الذي يحارب الملكية الفردية ويعدها سرقة أخبث من سرقة اللصوص وقطاع الطريق _ رد خطيب ابنته (لورا) ريثما يتحقق من صحة ميراثه، ومن كفاية ذلك الميراث؛ للتعويل عليه في طلباته.
كما أنه كان معروفاً باستخدام الغش، والمكر والخداع، وسرقة الكتب والمقالات وغيرها.
ومما مَرَّ بماركس في حياته من أحداث _ موت ابنتيه منتحرتين، فالأولى (النيورا) انتحرت بعد أن عاشت في الحرام مع عشيق لها ثم اكتشفت سبق زواجه، والثانية (لورا) وقد انتحرت؛ خوفاً من أن تدركها الشيخوخة، مما كان له أثر في نفسه.(1/16)
هذه لُمَعٌ من سيرة هذا الرجل، وإذا كان هناك من شيء يدعو للعجب فهو حال أتباعه ومريديه، ومحبيه، فكيف يكون له أتباع ومريدون ومحبون وهو بهذه الحال الغريبة المنفرة؟!
ولكن إذا عرف السبب بطل العجب؛ فالأرواح جنود مجندة، والطيور على أشكالها تقع، و:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
ثم إن أصابع اليهود من وراء ذلك _ كما مر _ فاليهودية هي حاضنة الشذاذ، وفاتحة المجال أمام المجرمين المفسدين.
على أن في حياة ماركس زاوية لم يلق عليها الضوء إلا مؤخراً؛ ذلك أن ماركس قد اتصل عام 1862م بفيلسوف الصهيونية الأول، وواضع أساسها النظري (موشيه هيس) وعن هذا أخذ هرتزل(1).
وقد بلغ من إعجاب ماركس وتأثره بـ (هيس) أن كتب فيما بعد يقول: =لقد اتخذت هذا العبقري لي مثالاً وقدوة؛ لما يتحلى به من دقة التفكير، واتفاق آرائه مع عقيدتي وما أؤمن به، إنه رجل نضالي الفكر والسلوك+(2).
و(موشيه هيس) هذا هو صاحب كتاب (الدولة اليهوية) ولم يزد هرتزل على أفكار هيس سوى أن بسطها، وأقام لها تنظيمها السياسي، فيما يعرف بالحركة الصهيونية تماماً كما كان لينين من ماركس، فماركس صاحب النظرية، ولينين منفذها، وموضح عويصها بالإضافة إلى ما زاد عليها(3).
ثانياً: أشهر شخصيات الشيوعية الماركسية:
هناك شخصيات مهمة وذات أثر في نشأة الشيوعية والتمكين لها، وأشهر هذه الشخصيات لينين، وتروتسكي، وستالين.
وفيما يلي نبذة عن هذه الشخصيات(4) :
__________
(1) _ هرتزل: هو مؤسس الصهيونية الحديثة.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 120.
(3) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 120.
(4) _ انظر المذاهب المعاصرة ص185_191 والموسوعة الميسرة ص309_310, والشيوعية ومواقف القرآن الكريم منها ص41_49 وأيها الشيوعيون هؤلاء قواد ثورتكم.(1/17)
1_ لينين: اسمه الحقيقي فلاديمير ألتيش بوليانوف، وهو قائد الثورة البلشفية الدامية، ودكتاتورها المرهوب، فهو الذي قاد الثورة على القيصرية الروسية عام 1917م وتولى زمام الحكم الشيوعي إلى أن مات عام 1924م.
وهناك دراسات تقول بأنه يهودي الأصل وأنه كان يحمل اسماً يهودياً ثم تسمى باسمه الذي عرف به، وربما كان من سلالة التتار الوافدين على روسيا.
وأما أمه (ماريا الكسندر) فيقال: إنها ألمانية الأصل من سلالة يهودية، ولم يطلع لينين على الأفكار الشيوعية إلا في العشرين من عمره، وقد اتصل بالثوريين فقبض عليه عام 1897م وظل في السجن مدة عام، ثم نفي إلى سيبيريا، وفي منفاه عكف على التأليف.
وفي سنة 1900م سُمِح له بالعودة فهاجر إلى سويسرا وهناك أسس أهم صحيفة ثورية (القبس) ثم انتقل إلى لندن؛ ليتصل بالاشتراكيين هناك، ومكث فترة ثم استطاع بعدها أن يدخل روسيا سراً سنة 1905م.
وفي عام 1917م تولى قيادة الثورة ضد القيصرية، واستطاع القبض على زمامها لصالح الحزب البلشفي كما مر عند الحديث عن نشأة الشيوعية.
وهكذا تبوأ لينين مقعد الرئاسة منفذاً ما كان يريد لا ما كانت الثورة تريد.
ولئن كان ماركس هو المؤسس الأول للشيوعية بأفكاره النظرية _ فإن لينين هو المنفذ لهذه الأفكار؛ فهو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ.
ومما ذكر عن لينين أنه كان مُعَقَّداً عنيفاً قاسي القلب مستبداً بالرأي، حاقداً على البشرية.
ومن صفاته أنه كان كالح الوجه، دائم العبوس، سيء الظن بكل من حوله، يفترض أن العداوة كامنة في كل نفس؛ فمن كلامه للأديب الروسي مكسيم جورجكي: =ينبغي أن يحذر الإنسان من التربيت بيده على رؤوس الناس؛ لأنها قد تصادف هناك عضة تستأصلها+(1).
وكان ذا شخصية شاذة، فله شذوذات كثيرة، منها أنه لا يقبل أن يكون في مكتبه مقعد مريح للجلوس عليه.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص191, والشيوعية وموقف القرآن الكريم منها ص 47.(1/18)
وكان خطيباً بارعاً، وقد اتخذه الروس صنما معبوداً وأضفوا عليه ألقاباً كثيرة، فيصفونه بأنه سلس منقاد، بسيط كالحق، رقيق كالنسيم.
وهي في الحقيقة _ صفات أملاها الرعب، و لم يملها الحقائق والواقع؛ ذلك أن الشعب يبغضه بشدة، والدليل على ذلك كثرة المؤامرات التي دبرت لقتله، غير أنه لم يمت إلا في يناير عام 1924م.
أما الريبة التي أحاطت بموته فهي حقيقة تناولها الناس بعد مدة من وفاته؛ فقد ألزمه المرض فراشه في أواخر أيامه، وكان الفالج يعاوده بالإلحاح بين الفينة والأخرى.
وفي تلك الأثناء تغير رأيه في ستالين وكان إذ ذاك سكرتير الحزب، وكان قد أفضى إلى بعض رفاقه أنه لا يطمئن إليه، وأن في عزمه أن يخلعه من سكرتارية الحزب.
ويقال إن ذلك نما إلى علم ستالين، فدس له سماً قضى عليه(1).
2_ تروتسكي(2) : وهو من الشخصيات البارزة في الحزب الشيوعي بروسيا، وكانت مكانته تلي مكانة لينين، فلقد كان تروتسكي من المصطفين والموثوق بهم لدى لينين.
وقد ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م في المكسيك.
وليس هذا هو اسمه الحقيقي، بل اسمه بروستالين، وهو ابن لرجل يهودي من الطبقة المتوسطة.
وفي عام 1898م كان له نشاط ثوري فقبض عليه وحكم عليه بالسجن أربعة أعوام ونصف، ثم رحل منفياً إلى شرق سيبيريا، ولكنه في عام 1902م تمكن من الهرب إلى إنجلترا باستعمال جواز سفر مزيف، وكان صاحب الجواز يدعى تروتسكي، فاستولى على الجواز والاسم جميعاً، وظل ينادى بذلك الاسم طيلة حياته.
وأقام عقب هربه في لندن، وهناك اتصل بالحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ وكان حينئذ في الثالثة والعشرين من عمره.
ورغم حداثة سنه أصبح عضواً بارزاً، و كان من رفاقه في هذا المجتمع لينين، وليمنانوف.
__________
(1) _ انظر: المذاهب المعاصرة 191.
(2) _ انظر: المذاهب المعاصرة 192_194.(1/19)
وقد شارك في تحرير جريدة لينين (القبس) التي تعد أشهر صحيفة اشتراكية، وعاد إلى روسيا سنة 1905م وأجري انتخابٌ لاختيار مندوبين عن العمال في مدينة (بطرسبرج) عقب عودته، فاختير عضواً، ثم اختير رئيساً.
وفي إحدى الجلسات هجم عليهم رجال الشرطة فاعتقلوا جميعاً، ونفي تروتسكي مرة ثانية إلى سيبيريا.
ومرة ثانية تمكن من الهرب عقب وصوله مباشرة، فاتخذ طريقه هذه المرة إلى النمسا، ثم ظل يراسل ويكتب للصحف الروسية.
وفي سنة 1913م عمل مراسلاً حربياً، وتنقل في العواصم بين باريس وزيورخ، وبذل نشاطاً مع الثوار الاشتراكيين، وأخرج في هذا الوقت كتاباً عن أسباب الحرب العالمية الأولى، ثم حكم عليه بالسجن ثمانية شهور وكان ذلك _أيضاً_ بسبب نشاطه الثوري وخطورته أيام الحرب.
وفي سنة 1916م والحرب قريبة من نهايتها طردته الحكومة الفرنسية من بلادها، فسمح له بالذهاب إلى بلاده، ووصل إلى بطرس جراد بعد وصول لينين إليها بيومين، واستفاد من معرفته السابقة بلينين، ولهذا اختير في يوليو سنة 1917م عضواً في الحزب، ولأسباب غامضة قبض عليه واعتقل.
وفي معاهدة الصلح التي أجريت بين روسيا وألمانيا وهي معاهدة (بريست ليتوفسك) كان تروتسكي أبرز مندوبي روسيا فيها.
وفي عام 1920م نظم فرقاً من جماعات العمال، وهو صاحب فكرة التجنيد الإجباري في المصانع، وفي الحرب الروسية البولندية كان تروتسكي يعارض بشدة دخول الجيش الروسي وارسو، وكان دخوله يتصف بالقوة والعنف وتحطيم كل ما يقابله، ولكن لينين أصر على رأيه، ولم يكن أحد يجرؤ على معارضته.
وفي سنة 1923م تعرض لهجوم عنيف من حملة الشيوعية القدامى وتزعم الحركة ضده ستالين، وعندما مات لينين كان تروتسكي مريضاً فأرسل إلى القوقاز، للاستشفاء وليخلو الجو لستالين.(1/20)
وظلت الحملة ضده مدة، وانتهت بتجريده من منصبه كرئيس للقوى الحربية، وعندما عاد من القوقاز أسند إليه عمل أقل أهمية، إذ عين رئيساً لفرقة تعمل لتنمية القوى الكهربائية.
وفي سنة 1925م استقال أو أقيل من هذا المنصب، وعين رئيساً لإحدى اللجان المركزية ولم يظل في المنصب طويلاً.
وفي نوفمبر سنة 1927م فصل من الحزب الشيوعي متهماً بنشاط وأعمال ضد الحزب وفي سنة 1928م نفي إلى تركستان، وفي سنة 1929م ذهب إلى القسطنطينية، فأمضى بها مدة أطول.
وفي سنة 1936م اتخذ النرويج مقاماً له، وفي سنة 1937 رأى أن يذهب إلى المكسيك، ليقيم هناك، فاتخذ له بيتاً في العاصمة.
وفي سنة 1940م وبينما هو آمن في بيته بالمكسيك فوجئ بشخص يهجم عليه؛ ليغتاله، فضربه ضربة مميتة وهرب القاتل، ومات تروتسكي في اليوم التالي، وكان القاتل أحد أصدقائه.
وأَصَرَّ المنتمون إليه في منفاه أن القاتل مندوب من ستالين، ولا يوجد من يعارض هذا القول.
الجدير بالذكر أن هناك حدثاً مهما، وانقلاباً كبيراً في حياة تروتسكي قلما يذكره من يتحدث عنه ألا وهو خبر اعتناقه للإسلام، فقد جاء في جريدة الأهرام في عددها،19الصادر في إبريل سنة 1929م، ونقلته عنها مجلة الهداية الإسلامية في الجزء السابع من المجلد الأول _ ما يلي:
=تروتسكي يعتنق الإسلام في بيئة تجهل على الإسلام+
وتحت هذا العنوان قالت مجلة الهداية الإسلامية نقلاً عن الأهرام ما يلي:
=نقلت الصحف خبر اعتناق تروتسكي الزعيم البلشفي للإسلام وهو منفي في تركيا، وجاء في حديث إسلامه =أنه على إثر شفائه من مرضه في الأستانة دعا مفتي الأستانة، فأجاب دعوته، وشهد اجتماعهما مندوب جريدة وقت التركية، فقال تروتسكي: كنت يهودياً غير أن مبادئي لم ترق لبعض الحاخامين، فحرموني من ديانتي، ولكني لم أعر حرماني هذا اهتماماً كثيراً؛ لأن مبادئ الدين الإسرائيلي لم تكن لتروقني، فلم أَحْتَجَّ ولم أعارض.(1/21)
وأما الآن وأنا أتقدم في السن فإني أشعر كغيري من الناس بأني في حاجة إلى إيمان ودين سماوي، ففكرت في وقت ما أن أصبح مسيحياً غير أني عدلت عن ذلك؛ لكرهي اعتناق دين القياصرة، والمستبدين، وراسبوتين(1) الراهب الشرير، فلم يبق أمامي غير الدين الإسلامي الذي دققت النظر في البحث في شرائعه فوجدت فيه مزايا حسنة، منها أنه يحض على المناقشة، والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإسلام.
وسيتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإسلامية+(2).
__________
(1) _ راسبوتين: هو جريجوري يفيمتش راسبوتين، راهب روسي فاجر =1872_1916م+ كان أمياً، وبرغم ذلك سيطر على القيصر وزوجته عن طريق شعوذته، وقد استغل نفوذه الطاغي بصورة شريرة، وتلاعب بالساسة،واتسم سلوكه الشخصي بالتهتك،إلى أن اغتاله فريق من طبقة النبلاء بزعامة الأمير يوسوبوف. انظر المغني الوجيز 1/179.
(2) _ وبعد أن نقلت مجلة الهداية الإسلامية هذا الخبر علق مصدر المجلة الشيخ محمد الخضر حسين × قائلاً:=يحدثنا تروتسكي أنه اعتنق الإسلام بعد أن دقق البحث في حقائق شريعته الغراء، ومن نظر إلى أن تروتسكي نشأ في منبت غير إسلامي، وأشرب مذهباً ذا مبادئ لا تلائم طبيعة الدين الحنيف، ثم وقع في بيئة أخذ مترفوها يفسقون على الإسلام علانية _ وثق بأن تروتسكي إنما يسلم على سلطان من الحجة مبين.
ولا عجب أن يهتدي تروتسكي إلى الإسلام،ويزيغ عنه نفر ترددوا على معاهد شريعته بضع سنين؛ فإن هؤلاء النفر لم ينظروا في حقائقه نظر الباحث النبيه، وما كان تعاليمه إلاَّ كالصور تقع على ظاهر = = قلوبهم دون أن تخالط سرائرها؛ فما هم من أولئك الذين يتجافون عنه بجهاله مطلقة ببعيد.
ولنا الأمل في أن تصلح طرق التأليف والتعليم؛ فيسهل على كل ناشئ يدرس حقائق الشريعة أن يصل إلى لبابها ،وينفذ إلى بالغ حكمتها .
ولو عنيَ القائمون على شؤون الدين بترجمة محفوفة بالاستدلال وبيان الحكمة _ لأصبح عدد المعتنقين للإسلام من أمثال تروتسكي غير قليل+الهداية الإسلامية لمحمد الخضر حسين ص163.(1/22)
3_ ستالين (1879_ 1954م): هو أحد أساطين الشيوعية، وأكابر مجرميها، واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفش زوجاشفلي، وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين.
اشتهر بالقسوة، والجبروت، والطغيان والاستبداد، وشدة الإصرار على رأيه، وكان يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي، وكان بمناوراته وألاعيبه شيطاناً مريداً.
فمن أجل أن يحقق أهدافه في التصفية كان يبدأ بالخلاف مع بعض العناصر، ثم يوجه أنصاره للقيام بأشرس الحملات الدعائية ضده مع تظاهره هو بمظهر الاعتدال والحياد.
وبعد ذلك يدفع خصمه حتى يتورط بعمل ما، ثم يقوم بتصفيته بأي وسيلة، وكان أشدها المحاكمات الصورية التي كان يجريها.
ولقد كان يجمع حوله أنصاراً ثم يرفعهم إلى مراكز عالية في الحزب والقيادة، لكنه يختار من لا يملك القدرة على أن يبصر إلا ما يمليه عليه الزعيم الأوحد (ستالين).(1/23)
وكان مستعداً لأن يضحي بالشعب كله، وبأي أحد في سبيل شخصه، وقد ناقشته زوجته مرة فقتلها(1).
وكان بارعاً في تلفيق الاتهامات فيمن يريد تصفيتهم ولو كانوا أقرب الأقربين إليه.
__________
(1) _ فقد ذُكر في سيرته أن زوجته =ناديوتشكا+سمعت أثناء وجودها بصحبة زوجها =ستالين+ في إحدى الحفلات أن أحد زملائها في الدراسة قد أودع السجن، وأنه قد صدر الحكم ضده بالإعدام رمياً بالرصاص فطلبت عقب عودتها للمنزل من زوجها أن يصدر أوامره بالعفو عنه وإطلاق سراحه بعد أن تأكدت من براءته، ولكن ستالين عدّ ذلك تدخلاً من الزوجة لا يليق به أن يسمعه، فانفجر في وجهها غاضباً على جرأتها في مخاطبته في مثل هذه الأمور فصاحت في وجهه قائلةً:إنك بهذا تعذب ابنك الذي من لحمك ودمك، وها أنت تعذب زوجتك، وإنك اليوم تعذب الشعب الروسي كله، وتقلِّبه على الجمر،ثم تابعت حديثها قائلة: إنني ذاهبة عنك، رضيت بذلك أو لم ترض. فأجابها ستالين بصوت رصين هادئ _ وكانت تلك عادته عندما يواجه مثل تلك الثورات، وعندما يضمر الشر لمن أمامه _ وقال لها:أنت منهوكة القوى، مضطربة الأعصاب قال ذلك ، وتوجه إلى حجرته الخاصة؛ كي يحضر شراباً لها، وعاد وبصوت أكثر هدوءاً ورصانة، قائلاً: اشربي من هذا الكأس وستهدئين بعده.
ومرت بعد ذلك دقائق، فسمع صوت ارتطام جسم على الأرض, واندفع رجال الحرس الخاص إلى داخل مسكن ستالين على صوت الزجاج الذي تهشم,فوجدوا الزوجة جثة هامدة.
ورغم من أن الوفاة قد كتمته الأجهزة الرسمية عن الشعب في بداية الأمر إلا أن الإشاعات قد انتشرت فيما بعد، ويُقال: إن ستالين بعد وفاة زوجته هرع إلى شلة اللعب، يرقص ويمرح، وكأن شيئاً لم يحدث. انظر المذاهب المعاصرة ص175_ 176، وحرب الأكاذيب لعامر العقاد ص 30_ 31.(1/24)
وكانت وسائل التحقيق في وقته مقرونة بالتعذيب الذي لا يحتمل، بحيث تجعل المعذب يعترف على نفسه بأي شيء؛ ليتخلص من آلام التعذيب، الذي ينزل به على أيدي المحققين وجلاديهم.
وكان من وسائل انتزاع الاعترفات الإكراهية _ التحقيقات المتواصلة ليلاً ونهاراً؛ حيث تكرر الأسئلة دون سأم؛ حتى تتحطم إرادة المتهم.
ومما يمهد للاستجواب من قبل رجال المباحث _ تعريض المنكوب لسلسلة من الإرهاب النفسي والتعذيب مع الإرهاق الجسدي الطويل، مع ما يصحب ذلك من امتهان الكرامة، وإثارة الحمية التي تحركها المبادئ والمعتقدات؛ حتى يجد المنكوب نفسه أمام عذاب لا قبل له بتحمله.
ومن الصور التي تتم بها عمليات الإرهاق في سجون ستالين الحجز الطويل في غرفة صغيرة حارة توقد فيها المدافئ في الصيف، أو في غرفة شديدة البرودة كأنها الثلج في الشتاء البارد، أو حمام أرضه ماء ولا شيء يمكن الجلوس عليه إلا الماء والأرض الرطبة الباردة.
ومنها الوقوف على رؤوس الأصابع إلى جانب جدار عدة ساعات والمنع من النوم، والإيقاظ السريع بعد النوم، كل ذلك من غير ما جريمة أو بيِّنة.
وبمواصلة هذه الأساليب يعترف المنكوب على نفسه، ولو كان كاذباً(1).
هذا وسيأتي مزيد بيان لوسائل التعذيب فيما بعد.
أولاً: أسباب قيام الشيوعية: لقد قامت الشيوعية الحديثة، ونشرت مذهبها الإلحادي، فامتد رواقه إلى كثير من بلدان العالم، وذلك يعود لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالمجتمع الذي نشأت فيه، ومنها ما يتعلق بشخصية مؤسسيها ومنفذيها، ومنها أسباب خارجة عن ذلك.
__________
(1) _ انظر تفصيل ذلك في المذاهب المعاصرة ص173_ 177 والكيد الأحمر ص276_ 332.(1/25)
وفيما يلي تفصيل لتلك الأسباب التي أدت إلى قيام الشيوعية(1).
1_ الطغيان الكنسي: الذي حارب العلم والعقل ومكن للجهل والخرافة، وأعان الحكام الظلمة، وفرض على الناس الضرائب والعشور وما إلى ذلك مما قامت به الكنيسة الأوروبية فكان أن قامت الشيوعية كردة فعل لذلك الطغيان.
2_ مظالم النظام الرأسمالي: حيث طغى الرأسماليون وأفسدوا واستبدوا؛ فقام الشيوعيون _ بزعمهم _ بمحاولة الإصلاح.
3_ غياب المنهج الصحيح عن أوروبا: فلما قصَّر المسلمون في أداء رسالتهم، في تبليغ الدعوة وقوامة البشرية _ غاب الإسلام عن ساحة أوروبا، فمكن ذلك لنشأة الشيوعية وغيرها من الاتجاهات والنظريات والمبادئ.
4_ الخواء الروحي: إذ الكنيسة لا تقدم منهجاً يزكي النفس، ويجلب السعادة والطمأنينة للأفراد والمجتمعات، مما جعل النفوس تهفو إلى ما ينقذها مما هي فيه من القلق والاضطراب والحيرة.
5_ الاستعمار وما خلفه من دمار: فلذلك أثره الواضح في انحطاط الشعوب المُسْتَعْمَرة، وذلك عن طريق الكبت وقفل باب الحرية، مما أفسح المجال لنشر الشيوعية.
6_ المكر اليهودي: فاليهود يتآمرون على العالم ويخططون لإفساده؛ تمهيداً للسيطرة عليه، ومما يقومون به في ذلك السبيل استغلال المذاهب الهدامة والتمكين لها.
__________
(1) _ انظر نقد أصول الشيوعية ص40، والإسلام والشيوعية د. عبد العزيز كامل ص3_4، وحكم الاشتراكية في الإسلام للشيخ عبد العزيز البدري ص58, والشيوعية خلاصة ضروب الكفر والموبقات للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار ص31_32, والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق ص10_ 18, وبعض أسباب الإلحاد د. عبد الحليم أحمدي, ورسائل في العقيدة للكاتب ص 44_ 46 .(1/26)
7_ الجهل بدين الإسلام: فهذا من أكبر أسباب الإلحاد، وإلا فمن عرف ما جاء به الإسلام _ ولو معرفة يسيرة _ استحال أن يقع منه الإلحاد؛ فإن الدين بطبيعته وما اشتمل عليه من البراهين يضطر صاحبه إلى الاعتراف بوحدانية الله، وبطلان ما ناقض ذلك؛ فلا تجد ملحداً إلا وهو معرض، أو مكابر، أو معاند(1).
8_ الهالة الإعلامية والدعاية القوية: فمما ساعد على قيام الشيوعية ما قام به أربابها من دعاية وهالة لتحسين ضلالتهم، وترويج مذهبهم، فإذا سمع الجاهل عن ذلك هاله الأمر، واغتر بالشيوعية، وظن صدقها مع أن كل عاقل منصف يعلم بطلانها وزيفها.
فالشيوعيون زعموا أن ما جاؤوا به هو الرقي والتقدم والتجديد وما أشبه ذلك من العبارات الفضفاضة.
ولولا أن باطلهم زُخْرِفَ ورُوِّجَ له من قبل الدعايات المضللة، والدول المنحرفة _ لم يقبله، ولم يصغ إليه أحد؛ لأن حججهم أوهن من حبل القمر ومن بيت العنكبوت.
9_ الانقلاب الصناعي: فما يقوم به الشيوعيون من بحث علمي جاد مستند على أدلة مغرية صار سبباً لاغترار كثير من الخلق بهم؛ حيث ظنوا _ بجهلهم _ أن الترقي الدنيوي دليل على أن أهله على حق وصواب في كل شيء.
فإذا رأى الجاهل حال المسلمين وما هم عليه من الضعف والهوان، ورأى حال الكفار وما هم عليه من القوة والتفنن في الصناعة، ورأى أمم الأرض تذعن وتسلم لهم _ صار ذلك فتنة له، فظن أن الكفار على حق، وأن المسلمين على ضلال.
ولقد جهل هؤلاء، بل لقد ضلوا ضلالاً مبيناً بذلك الزعم؛ لأنه لا تلازم بين التقدم الصناعي وصحة المعتقد والمبدأ؛ فقد يكون الإنسان من أمهر الناس في أمور الطبيعة وهو أجهل من حمار أهله في الدين والأخلاق، والأمور النافعة في العاجل والآجل؛ فمسألة التقدم المادي مسألة همة ودأب، وجد ليس إلا.
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين للشيخ عبد الرحمن ابن سعدي ضمن مجموعة الشيخ ابن سعدي الجزء الخامس المجلد الثاني ص 374.(1/27)
ولهذا لما خلت بحوثهم ومخترعاتهم من روح الدين وحكمته صارت نكبة عليهم، وعلى البشرية جمعاء؛ بسبب ما ترتب عليها من الحروب التي لم يشهد لها نظير.
ولقد عجز ساستها ونُظَّارها أن ينظموا للبشر حياة مستقرة عادلة طيبة.
10_ ملذات الحياة ومباهج الحضارة : فلقد فتح العالم المادي أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف؛ فالمراكب الفخمة الفارهة؛ من سيارات، وقطارات، وبواخر، وطائرات .
وكذلك الملابس والمطاعم، ووسائل التسلية والترفيه، كل ذلك مكَّن للغفلة، وجعلها تستحكم على النفوس، ولا تشعر بالعاقبة، مما فتح المجال لترويج أي مبدأ.
11_ شذوذ مؤسِّسيها وانحرافهم: فهذا كارل ماركس مؤسس الشيوعية كان حبراً يهودياً، وكان مخفقاً في شؤونه الخاصة، وكان ذا طبيعة ميَّالة للهدم والفساد، كما كان على مستوى عال من الفساد الخلقي والسلوكي.
أضف إلى ذلك موت ابنتيه منتحرتين.
كل هذه العوامل وغيرها تحركت في نفس هذا المجرم، فأخرجت أكلها النتن النكد.
وقل مثل ذلك في شأن بقية زعماء الشيوعية ومنفذيها كلينين، وستالين، وغيرهم.
وبالجملة فأقل ما يقال عن الشيوعية أنها عقوبة إلهية للبشرية بسبب تماديها في الغواية والضلال.
ثانياً: مواطن انتشارها(1): تنتشر الشيوعية في أماكن كثيرة من العالم فعلى مستوى الأفراد لا يكاد صقع من أصقاع العالم يخلو من معتنقين لها، إذ تنتشر عبر الوسائل والقنوات المختلفة.
أما على مستوى الحكومات والأحزاب والتنظيمات فتنتشر في أماكن عديدة، فالشيوعية حكمت عدة دول منها:
1_ الاتحاد السوفياتي. ... ... ... 2_ الصين.
3_ تشيكوسلوفاكيا. ... ... ... ... 4_ المجر.
5_ بلغاريا. ... ... ... ... ... 6_ بولندا.
7_ ألمانيا الشرقية. ... ... ... ... 8_ رومانيا.
9_ يوغسلافيا. ... ... ... ... 10_ ألبانيا.
11_ كوبا.
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة ص212_ 213 , والكيد الأحمر 116_123 .(1/28)
ومعلوم أن دخول الشيوعية لتلك الدول كان بقوة الحديد والنار والتسلط الاستعماري، ولذلك فإن جل شعوب تلك الدول أصبحت تتململ من قبضة الشيوعية بعد أن استبانت لها الحقيقة الواضحة، فلم تكن الشيوعية هي الفردوس المنتظر.
وبالتالي فقد بدأت الثورات تظهر هنا وهناك كما حدث في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، كما أنك لا تكاد تجد دولتين شيوعيتين في وئام تام.
أما على مستوى الأحزاب والتنظيمات فقد دخلت الشيوعية في أماكن شتى، ومنها بعض دول العالم الإسلامي؛ حيث استفاد الشيوعيون من جهل بعض الحكام، وحرصهم على تدعيم كراسيهم ولو على حساب الدين؛ فالشيوعية اكتسحت أفغانستان، وشردت شعبها المسلم، كما أنها تحكم بعض الدول الإسلامية بواسطة عملائها.
كما أنها أسست أحزاباً لها في مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين والأردن، وسوريا، والجزائر، واليمن، وغيرها.
ومواقف تلك الأحزاب العربية من قضايا العرب والمسلمين لا تخفى؛ فهي تعج بالخيانة، ويصدق ذلك ويشهد له الحقائق الدامغة لدى الباحثين والمتابعين.
تقوم الشيوعية الماركسية على معتقدات باطلة، وأصول واهية، وآراء زائفة، لا يقرها عقل صريح، ولا فطرة سليمة، فضلاً عن النقل الصحيح، هذا وقد مر بنا فيما مضى شيء من آرائهم ومعتقداتهم؛ ومما يراه الشيوعيون ويعتقدونه زيادة على ما مضى ما يلي(1):
1_ الإيمان بالمادة وإنكار الغيب: فهم ينكرون الغيب، ولا يؤمنون إلا بالمادة وحدها، فيرون أن المادة هي أساس كل شيء.
ومن شعاراتهم قولهم: نؤمن بثلاثة: ماركس، ولينين، وستالين، ونكفر بثلاثة: الله، الدين، الملكية الفردية.
ومن مقولاتهم: لا إله، والحياة مادة، والدين أفيون الشعوب.
__________
(1) _ انظر حكم الاشتراكية في الإسلام ص68، الموسوعة الميسرة ص310، ومذاهب فكرية معاصرة ص285_286، والمذاهب المعاصرة ص166_ 167 والشيوعية ومواقف القرآن ص13_18.(1/29)
كما أنهم يعدون أمور الغيب خرافة من صنع رجال الدين؛ ليأكلوا أموال الناس بالباطل.
وعلى هذا فهم يكفرون بالله، وبالبعث والحساب والجنة والنار، وما إلى ذلك من أمور الغيب.
يقول لينين: =ليس صحيحاً أن الله هو الذي ينظم الأكوان، وإنما الصحيح هو أن الله فكرة خرافية، اختلقها الإنسان؛ ليبرر عجز نفسه؛ ولهذا فإن كل شخص يدافع عن فكرة الله إنما هو شخص جاهل وعاجز+(1).
وقد اتخذوا مما يسمونه بـ:(المادية الجدلية) ذريعة لتسويغ أفكار ما يسمى بالاشتراكية العلمية، أو الشيوعية.
و (المادية الجدلية) نظرية عقائدية جذرية يؤمن بها الشيوعيون.
وسميت (مادية) لأن نظرتها مادية بحتة.
وسميت (جدلية) لأنها تنظر إلى الحوادث الكونية والتأريخ الإنساني وكأنه صراع بين خصمين متجادلين، متناظرين(2).
وسيأتي مزيد بيان لهذه الفكرة في الفقرة التالية، وما بعدها من صفحات.
2_ التفسير المادي للتاريخ: وهذا ناتج عن إنكارهم للغيب، فهم يرون بأن الصراع بين الطبقات في المجتمع يؤثر على المجتمع وعلى المعتقدات والنظم؛ فإذا تولت طبقة فإنها لا تدوم؛ بل تظهر طبقة أخرى فتصارعها، ويستمر الصراع بينهما؛ فالذي يؤثر في أحداث التاريخ إنما هو الصراع بين الطبقات _بزعمهم_ فهم يفسرون التاريخ من زاوية واحدة دونما نظر إلى بقية المؤثرات، كالدين وغيره(3).
ولذلك فهم يقسمون التاريخ البشري إلى خمسة أطوار رئيسة هي:
1_ المشاعية الابتدائية. ... ... ... 2_ عصر الرق .
3_ عصر الإقطاع . ... ... ... ... 4_ الرأسمالية .
5_ الاشتراكية الممهدة للشيوعية .
ويرون أن الصراع لن ينتهي، وأن الراحة لن تتحقق إلا عندما يتحقق الحلم الشيوعي بقيام مجتمع خال من الطبقات، ومن التملك، والمصالح الخاصة وهو المجتمع الشيوعي.
__________
(1) _ الشيوعية ومواقف القرآن 17.
(2) _ انظر تفصيل هذه النظرية وسقوطها في الكيد الأحمر ص351_ 394.
(3) _ انظر الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام لعباس محمود العقاد ص11.(1/30)
وهم بذلك أبرزوا القيم المادية الاقتصادية للتاريخ، وأهملوا ما عداها من القيم الإنسانية والأخلاقية، والدينية، لا لأنها غير موجودة، بل لأن الشيوعية تفتقدها؛ لكونها جاهلية.
ولهذا عجز الشيوعيون عن تفسير الإسلام، ولماذا ظهر؟ وكيف ظهر في هذه الصورة المخالفة للبيئة في أكثر سماتها، والمخالفة لكل حتميات التاريخ المزعومة؟
فليفسروا هذه الظاهرة العجيبة ظاهرة الإسلام وبعثة النبي " والدعوة إلى نبذ الآلهة وغيرها من الظواهر، كتحرير الناس، وتربيتهم على الفضائل، وإبراز قيمة الأفراد والمجتمعات.
أنَّى للشيوعيين أن يفسروا ذلك؟
3_ محاربة الدين: فالشيوعية تقوم على محاربة الدين، وتعلن الحرب بلا هوادة على الدين وما يَمُتُ إليه بصلة.
يقول ستالين: =لا يستطيع الحزب أن يقف من الدين موقف الحياد؛ إن الحزب يشن حملة ضد أي انحياز للدين؛ لأن الحزب يؤمن بالعلم؛ بينما العلم يتعارض مع الانحياز للدين؛ لأن الدين كل شيء مناوئ للعلم+(1).
ولا ريب أن هذا الكلام ناتج عن جهل قائله، وإلا فالدين الحق لا يحارب العلم بل يدعو إليه.
وجاءت التعليمات الرسمية للحزب الشيوعي إلى جميع المعلمين في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي ما نصه: =إن المعلم الذي يؤتمن على تعليم النشء لا يمكنه، ولا يجب أن يكون محايداً في موقفه من الدين، إن عليه ألا يتخلص من الإيمان فحسب، بل عليه أن يقوم بدور إيجابي في الدعوة إلى عدم الإيمان بوجود إله، وأن يكون داعية متحمساً للإلحاد+(2).
ومن حربهم للدين هدمهم للمساجد، وتحويلها إلى دور ترفيه ومراكز للحرب.
ومن ذلك منعُ المسلم من إظهار شعائر دينهِ، وهُجومُهم على القرآن، وطعنُهم فيه، وزعمهم أنه وضع خلال حكم عثمان ÷ وأنه طرأت عليه عدة تغييرات حتى القرن الثامن.
ولهذا فمن وجدوا معه مصحفاً عاقبوه بالسجن سنة كاملة.
__________
(1) _ الشيوعية وموقف القرآن ص 15.
(2) _ الشيوعية وموقف القرآن ص18.(1/31)
أما محاربتهم للمسلمين وإبادتهم لهم فذلك أشهر من أن يذكر؛ فلقد أقاموا لهم المجازر والمذابح، وتفننوا بتعذيبهم بما لم يسبق له مثيل في التاريخ، وسيأتي _إن شاء الله_ بيان لشيء من ذلك.
4_ محاربة الملكية الفردية: فهم لا يرون الملكية الفردية؛ إذ يزعمون أنها استبداد يجب القضاء عليه؛ لكي لا ينشأ بين البشرية تنافس؛ فالشيوعية المحضة، وإلغاء التملك والتوارث كفيل بالقضاء على الملكية.
فلا يجوز لأحد _ على حد زعمهم _ أن يمتلك متاعاً أكثر من الضروريات، ولا أن يكون له دار يغلقها، وكل ما يتقاضاه الحكام من أجر يجب ألا يزيد عن مبلغ محدود يكفي لسد حاجتهم طوال العام.
ويرون أنه ينبغي أن يشترك الناس جميعاً في موائد عامة للطعام، ويعيشوا عيشة الجند في معسكراتهم.
إن الشيوعية تعد الدولة هي المالك الحقيقي للمال، ولكل مقدرات الحياة، وليس للإنسان أن يمتلك فيها إلا ما يقوم بحياته الضرورية من الأمور الاستهلاكية.
أما ما عدا ذلك من الطاقات والمواهب فإنه ملك للدولة في نظر الشيوعية.
وبذلك ندرك أن النظام الشيوعي يقوم على النظرية القائلة: بأن وسائل الإنتاج كلها مشتركة بين أفراد المجتمع، ولا حق للأفراد بصفتهم الفردية أن يمتلكوها ويتصرفوا فيها حسب ما يرون.
وهذا النظام الاقتصادي لا وجود فيه للملكية الشخصية، فضلاً عن أن يكون لأحدٍ متسع أن يجمع المال، ثم يوظفه بنفسه كيفما يشاء في وجوه الإنتاج والاستثمار.
وهي بذلك تحارب الفطرة الإنسانية المجبولة علي حب التملك، كما أنها تقضي على روح الإبداع، وتسلب الناس حريتهم وتتركهم كالآلات سواء بسواء.(1/32)
5_ محاربة نظام الأسرة والقول بشيوعية النساء: فمن منطلق محاربة الملكية الفردية حاربت الشيوعية نظام الأسرة، وقالت بشيوعية النساء؛ فلا مكان للأسرة؛ فالشيوعية لا تستريح كثيراً لنظام الأسرة، بل وتعده دعامة من دعامات المجتمع (البرجوازي) وترى أن الحب الطليق ينبغي أن يحل محل الزواج، فكل مجموعة من الرجال يخصص لها مجموعة من النساء، يتصل الواحد منهم بمن شاء منهن؛ ولهذا قررت الشيوعية عند قيامها مباشرة بتيسير الطلاق للراغبين فيه من المتزوجين.
ثم إنها تأبى أن يقوم الوالدان بتربية أولادهما؛ لأن الفرد ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك للجماعة، فالأولاد يوضعون في أماكن خاصة بهم، ويقوم على شؤونهم مختصون في تربيتهم، وتأتي الأمهات فيقمن بالإرضاع دون أن تعلم الواحدة منهن ولدها.
يقول إنجلز: =إن الأسرة هي وضع من أوضاع مجتمع لا نضج فيه ولا جدوى منه.
ولا محل لاستبقاء هذا الوضع وتأييده إلا بالقدر الذي يلائم مصلحة الدولة+(1).
وتستند الماركسية في موقفها هذا إلى أن الأسرة تدعم النزعة الفردية، والرغبة في التملك والملكية _ كما مر _.
وهذا يعني القضاء على الأسرة بمنع رباطها وهو الزواج، وإقامة الحظائر لتربية أبناء الدولة، ومنع الأبوين من القيام بدور التربية؛ لأن ذلك يعطل الإنتاج.
كما يعني ذلك إطلاق المشايعة الجنسية بين رجال الدولة ونسائها، أو الزواج الاختياري كما يسمونه.
المبحث الثاني: أخلاق الشيوعية (2)
لا ريب أن عقيدة الإنسان ترسم له طريقه، وتحدد له معالم سلوكه ومعاملاته فالناس توجههم عقائدهم وأفكارهم، والانحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في الاعتقاد.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص167.
(2) _ انظر الشيوعية للعقاد 202 _220، والكيد الأحمر ص249، والشيوعية وموقف القرآن منها ص138، والموسوعة الميسرة ص311 _312، ودعاة على أبواب جهنم للحصين ص5.(1/33)
ولهذا فلا غرو أن تفسد أخلاق الشيوعيين؛ لأن الأصل لديها منهار، وإذا انهار الأصل تداعت الأركان والفروع.
بل إن عقائدهم أحط العقائد، فلا تسل _ إذاً _ عن فساد أخلاقهم، وما يتبع ذلك من انحطاط سلوكهم.
فالشيوعيون على أتم الاستعداد لعمل أي شيء مناف للأخلاق، من غش وكذب، وخداع، في سبيل تحقيق مكاسبهم، والوصول إلى غاياتهم؛ فهم يأخذون بالمبدأ الميكافيلي: الغاية تسوغ الوسيلة.
يقول إنجلز: =إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادراً على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقاً للظروف مهما تطلب منه ذلك من كذب، وتضليل، وخداع _ فإنه لن يكون مناضلاً ثورياً حقيقياً+.
ولهذا فالشيوعيون لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل غايتهم، وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم.
يقول لينين في رسالة بعث بها إلى الأديب الروسي مكسيم جوركي: =إن هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء، إنما الشيء المهم هو أن يصبح الربع الباقي شيوعياً+(1).
ولقد طبقوا هذه القاعدة في روسيا أيام الثورة، وكذلك في الصين، حيث أبيدت ملايين من البشر، كما أن اكتساحهم للجمهوريات الإسلامية كبخارى وغيرها، واكتساحهم لأفغانستان _ ينضوي تحت هذه القاعدة.
ومما تؤمن به الشيوعية من أخلاق _ العنف، والسعيُ في إثارة الحقد والضغينة في نفوس العمال.
ومن ذلك القسوة المتناهية؛ فلا يَتَصوَّر الفكر، ولا يتوهم الخيال لوناً من ألوان التعذيب الهمجي، والقمع الإجرامي، والإبادة الجماعية للمجموعات البشرية دون أية عاطفة إنسانية مع التفنن العجيب في وسائل التعذيب _ إلا ويمارسه الشيوعيون بأقبح صوره، وأبشع مستوياته.
بل لم يتورع القادة الشيوعيون _ عن الاعتراف بتلك الأفاعيل ضد كل من خالفهم ولو كانوا رفقاء العمل الثوري، ومن حملة الفكرة الشيوعية.
بل ربما كان هؤلاء أحق بأن يعاقبوا بأشد أنواع العذاب؛ فكأن الرحمة نزعت تماماً من قلوب هؤلاء القساة العساة العتاة.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص173.(1/34)
ومما تؤمن به الشيوعية وتدعو إليه من أخلاق _ أنها تشجع على الفساد، والانحلال الخلقي، من شرب للخمور إلى ممارسة البغاء وسائر الفواحش إلى غير ذلك من طرق الفساد.
ولقد صرح الرئيس اليوغسلافي الهالك _ تيتو _ في إحدى خطبه للشعب قائلاً: =لقد تركنا لكم الخمر والنساء فخذوها، واتركوا لنا السياسة+(1).
ولهذا أصبحت المرأة في المجتمع الشيوعي أرخص سلعة في البلاد، فكانت ترمي بنفسها على الرجل ولاسيما الغريب، وقصارى ما تطلبه منه أن يتزوجها ولو مؤقتاً؛ لتفر خارج البلاد من جحيم الشيوعية.
وصفوة المقال أن المجتمع الشيوعي هو أحط المجتمعات البشرية المعاصرة، سواء من الناحية الأخلاقية أو العقيدية، أو من ناحية الطمأنينة النفسية، والسعادة الاجتماعية؛ فهو مجتمع منحل، مذعور يخيم عليه كابوس الشقاء المطبق، إلى حد أن الإنسان في ذلك الوضع لا يكاد يفكر في أمل حقيقي للخلاص.
أولاً: أهداف قيام الشيوعية(2):
مرَّ بنا أن اليهودية العالمية هي التي صنعت الشيوعية الماركسية، وأنها جعلتها وسيلة لتحقيق أهدافها للسيطرة على العالم، وتسخير المواد والمنتجات لخدمة أغراضها الدنيئة، وأهوائها المنحطة.
ثم إن دراسات ماركس ليست وليدة بحث علمي أو تفكير منطقي يهدف إلى إصلاح العالم، بل كان البحث الذي قام به في هذا الصدد بمثابة الدفاع أو التسويغ لتلك النظرية التي اعتنقها من قبل؛ لكي تلبس لبوس العلم والبحث.
وكان من الأهداف التي ترمي إليها الشيوعية ما يلي:
1_ بث الأحقاد والفرقة والعداوة بين المجتمع العالمي عن طريق التآمر والصراع بين الطبقات.
2_ معارضة الدين، والملكية الفردية، وحرية الرأي.
3_ نشر الإلحاد، والفساد والإباحية.
4_ القضاء على الأديان الموجودة عدا اليهودية.
__________
(1) _ العلمانية د. سفر الحوالي ص446.
(2) _ انظر الشيوعية للعقاد ص 20 _ 25، والشيوعية وموقف القرآن ص138.(1/35)
5_ القضاء على الحياة الأسرية، وجعل الولاء مقصوراً على السلطة الحاكمة، مع تخويل السلطة الحاكمة بألاَّ تحكم وفق قوانين ثابتة، وإنما تتغير القوانين حسب مصالح الحاكم الخاصة، وأهوائه الذاتية المتقلبة من وقت لآخر.
6_ وبالجملة فأهداف الشيوعية تتفق كثيراً مع أهداف اليهودية العالمية التي مضى ذكر لبعضها ضمناً عند الحديث عن أسباب قيام الشيوعية وعن معتقداتها، وأخلاقها.
ثانياً: الوسائل التي توصل بها الشيوعيون إلى تحقيق أهدافهم:
لقد دأب الشيوعيون وساروا سيراً حثيثاً في سبيل تحقيق أهدافهم والوصول إلى مآربهم، وقد سلكوا في ذلك السبيل طرقاً شتى، ومن ذلك ما يلي(1):
1_ إقامة المنظمات الشيوعية في مختلف بلدان العالم وفق أرقى التنظيمات الحزبية، معتمدة في ذلك على إرضاء الشهوات، وإثارة الأحقاد، وسلخ جذور الدين والأخلاق من أعماق النفوس.
2_ اعتماد وسيلة الثورات الدموية العنيفة لقلب أنظمة الحكم، واستيلاء الشيوعيين عليه.
3_ بعد الوصول للحكم يتجه الشيوعيون لتصفية كل العناصر المضادة، ثم العناصر ذات الولاء المشوب، ثم العناصر التي يمكن أن تنافس أو تضاد في المستقبل.
4_ محاربة جميع الأديان لاسيما الإسلام _ باستثناء اليهودية _ فإن لليهود في معظم أنظمة الحكم الشيوعي تمكيناً سرياً، ومعاملة خاصة، وحماية وحصانة، وتركاً لقضاياهم الدينية الخاصة.
5_ القضاء على علماء الدين والدعاة إليه، ولاسيما المسلمين منهم ومحاربتهم بالتشريد، والنفي، وتشويه السمعة؛ حتى يتسنى للشيوعيين تحقيق ما يريدون دون أن ينتبه أحد لخطرهم وخططهم.
6_ فرض الضرائب الباهظة على أفراد الشعب؛ لإذلالهم، وإرهاقهم كي يقبلوا الشيوعية طوعاً، أو كرهاً.
7_ القضاء على الملكية الفردية، وجعل الزراعة تحت إدارة الحكومات الشيوعية.
8_ امتلاك المصانع، وجعلها تحت سيطرة الدولة.
9_ الاستيلاء التام على التجارة.
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر ص14_ 18.(1/36)
10_ القضاء المبرم على الأخلاق الفاضلة، وفتح الأبواب للفساد، وإقامة الأخلاق الحزبية التي تخدم مصالح الحزب، وتتوجه أين توجهت ركائبه.
11_ إشاعة الإباحية الجنسية، ودفع المرأة للتحلل التام من ضوابط العفة، ومبادئ الشرف، مع نزع النخوة والغيرة من نفوس الرجال.
12_ تقسيم الشعب إلى طبقتين:
أ _ طبقة السادة: وهم الشيوعيون، ومن تابعهم وخضع لهم.
ب _ طبقة المنبوذين: وهم الذين لم ينتظموا في الحزب ولم يقبلوا نظام حكمه، أو لم يخضعوا له، ولم يعلنوا له ولاءهم التام.
13_ السيطرة التامة على التعليم؛ فلا يسمح لأي شيء إلا عن طريقهم، ووفق خططهم، ومناهجهم، ويمنع بذلك التعليم الديني تماماً حتى في البيوت والكتاتيب.
14_ إحكام السيطرة على الإعلام _ فلا ينشر في وسائل الإعلام إلا ما يمليه الحزب، وما يوافق هواه.
15_ القضاء على المعابد الدينية قضاءاً شبه كلي إلا قليلاً منها يترك للدعاية الخارجية، بل لم يكتفوا بهدم المعابد، وإنما حولوها إلى مباءات فسق، ومنتديات خناً وفجور.
16_ إقامة السياسة الدكتاتورية المستبدة بكل شيء، وبهذه السياسة تصادر جميع الحريات، الفردية والجماعية، باستثناء الحرية الشخصية الضيقة، والتي منها الحرية الجنسية.
17_ إقامة شبكة تجسس واسعة النطاق، وتكليف كل فرد _ قانوناً _ بأن يبلِّغ عن كل ما يراه مخالفاً لقانون الدولة وسياستها، حتى ولو كان المخالف ابنه أو أمه أو أباه، أو أخاه، أو قريبه، أو صديقه أو زوجه.
وإلا عُدَّ مجرماً بجرم السكوت عن التبليغ، ويستحق بذلك الجزاء والعقاب بالسجن فما فوقه، وقد يكون بمثابة شريك في الجرم.
18_ نشر الشيوعية بمختلف وسائل الترغيب والترهيب بين أفراد الشعب، وفي الشعوب غير الخاضعة للحكم الشيوعي.
19_ العمل على تحويل العالم إلى دولة شيوعية واحدة خاضعة للأيدي القابضة على الأنظمة الشيوعية من وراء الستار.(1/37)
مرَّ بنا أن الشيوعية تحارب الدين، وتعده مخدراً للشعوب، ومانعاً من التقدم.
ومر بنا أن من أسباب قيام الماركسية طغيان الكنيسة النصرانية.
فموقف الماركسية من الدين النصراني المحرف وأنه يقف في طريق العلم والتقدم _ له حظه من الصحة والواقعية.
أما موقفها من الدين الصحيح وهو الإسلام، ومحاربتها له، وزعمها أنه ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من سائر الأديان _ فذلك بهتان عظيم، وافتراء مبين؛ إذ لابد للشيوعية أن تنظر إلى مبادئ الإسلام، وعقائده، ومناهجه، وتكافله، وما يؤديه للبشرية من خير وفلاح.
فالذي دفع الشيوعيين إلى ذلك الموقف من الإسلام هو الجهلُ بالإسلام، والكيد له، والتَرَبُّصُ بأهله.
إن الماركسية لا تعرف عن الإسلام إلا أنه ذلك السد المنيع الذي يقف في طريق انتشارها، ويحول بين الناس وبين اعتناقها.
لا يفعل الإسلام ذلك بالدعايات المضللة، أو الشعارات الزائفة كما تفعل الماركسية.
وإنما بقواعده المحكمة، وعقائده الصحيحة الواضحة، وبنظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتفرد في كل شيء، المتلائم مع النفس البشرية، ومع الجماعة الإنسانية في كل زمان ومكان؛ لأنه الدين الحق الذي ارتضاه رب العباد للعباد [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] (الملك: 14).
من أجل ذلك حاربت الشيوعية الإسلام حرباً لا هوادة فيها، وأطلقت على منهجه الشائعات الباطلة، والأراجيف المضللة، واتهمت أصحابه بالتخلف والجمود.
ولم تقتصر المعركة على ذلك فحسب، بل قام جيشها الأحمر بحملات متتالية، وضربات موجعة متتابعة على المسلمين.
ولكنه لم يحرز نصراً، ولم يعد بغنيمة كبيرة، مما جعل مولوتوف _ أحد زعماء الشيوعية _ يقول:
=لن تنتشر الشيوعية في الشرق إلا إذا أبعدنا أهله عن تلك الحجارة التي يعبدونها في الحجاز، وإلا إذا قضينا على الإسلام+(1).
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص 152.(1/38)
ومن هنا جاء الكيد العظيم، والمكر الكبار بالإسلام من قبل الشيوعية، فوضعت الخطط الرهيبة المحكمة؛ لإبعاد الإسلام عن مجال التوجيه والإدارة؛ ليتسنى للشيوعيين تحقيق ما يريدون.
وهذا ما سيتبين من المباحث التالية.
لقد أدرك الشيوعيون أن للإسلام أثراً عجيباً في نفوس أهله؛ وأنه من الصعوبة بمكان أن يتخلوا عنه، أو أن يرضوا به بدلاً.
كما أدركوا أن قوة الإسلام كامنة فيه، وفي ملاءمته للفطر القويمة، والعقول السليمة.
تقول إحدى الوثائق الصادرة من جهات رسمية في الاتحاد السوفيتي(1): =برغم مرور خمسين سنة تقريباً على الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وبرغم الضربات العنيفة التي وجهتها أضخم قوة اشتراكية في العالم إلى الإسلام _ فإن الرفاق الذين يراقبون حركة الدين في الاتحاد السوفيتي صرحوا _كما تذكر مجلة (العلم والدين) الروسية في عددها الصادر في أول كانون الثاني من سنة 1961م_ بما نصه:
إننا نواجه في الاتحاد السوفييتي تحديات داخلية في المناطق الإسلامية، وكأن مبادئ لينين لم تتشرَّبْها دماء المسلمين.
وبرغم القوى اليقظة التي تحارب الدين _ فإن الإسلام ما يزال يرسل إشعاعاً، وما يزال يتفجر قوة، بدليل أن ملايين من الجيل الجديد في المناطق الإسلامية يعتنقون الإسلام، ويجاهرون بتعاليمه+.
ولهذا جاء في الوثيقة المذكورة بيان للبنود التي يجب على الشيوعيين محاربة الإسلام من خلالها، مع ما حورب به الإسلام من ذي قبل، ومع الحرب الضروس بالحديد والنار التي اصطلى بها المسلمون منذ قيام الشيوعية، مما سيأتي الحديث عنه في المبحث الثاني.
ومما جاء في تلك الوثيقة ما يلي(2):
1_ مهادنة الإسلام؛ لتتم الغلبة عليه، والمهادنة لأَجَل؛ حتى نضمن السيطرة، ونجتذب الشعوب العربية للاشتراكية.
__________
(1) _ نشرتها مجلة =كلمة الحق+ في العدد الصادر في شهر المحرم سنة 1387هـ, وانظر الكيد الأحمر ص52 _ 55، والمذاهب المعاصرة ص159_ 164.
(2) _ المرجع السابق.(1/39)
2_ تشويه سمعة رجال الدين، والحكام المتدينين، واتهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية.
3_ تعميم دراسة الاشتراكية في جميع المعاهد، والكليات، والمدارس في جميع المراحل، ومزاحمة الإسلام ومحاصرته؛ حتى لا يصبح قوة تهدد الاشتراكية.
4_ الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم بيقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل من يدعو إلى الدين ولو أدى إلى الموت.
5_ ومع هذا لا يغيب عنا أن للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات؛ ولذا وجب أن نحاصره من كل الجهات، وفي كل مكان، وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأسلوب الذي لا ينم عن معاداة الإسلام.
6_ تشجيع الكُتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرية كلها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية، والتركيز في الأذهان على أن الإسلام انتهى عصره _ وهذا هو الواقع _ ولم يبق منه اليوم إلا العبادات الشكلية التي هي الصوم، والصلاة، والحج، وعقود الزواج، والطلاق، وستخضع هذه العقود للنظم الاشتراكية.
أما الصوم والصلاة فلا أثر لهما في الحياة الواقعية، ولا خطر منهما.
وأما الحج فمقيد بظروف الدولة، ويمكن استخدام الحج في نشر الدعوة إلى الاشتراكية بين الحجاج القادمين من جميع الأقطار الإسلامية، والحصول على معلومات دقيقة عن تحركات الإسلام؛ لنستعد للقضاء عليه.
7_ قطع الروابط الدينية بين الشعوب قطعاً تاماً وإحلال الرابطة الاشتراكية محل الرابطة الإسلامية التي هي أكبر خطر على اشتراكيتنا العلمية.
8_ إن فصم روابط الدين ومحو الدين لا يتمان بهدم المساجد والكنائس؛ لأن الدين يكمن في الضمير، والمعابد مظهر من مظاهر الدين الخارجية، والمطلوب هو هدم الضمير الديني.(1/40)
ولم يصبح صعباً هدم الدين في ضمير المؤمنين به بعد أن نجحنا في جعل السيطرة والحكم والسيادة للاشتراكية، ونجحنا في تعميم ما يهدم الدين من القصص، والمسرحيات، والمحاضرات، والصحف، والأخبار والمؤلفات التي تروج للإلحاد، وتدعو إليه، وتهزأ بالدين ورجاله، وتدعو للعلم وحده، وجعله الإله المسيطر.
9_ مزاحمة الوعي الديني بالوعي العلمي، وطرد الوعي الديني بالوعي العلمي.
10_ خداع الجماهير بأن نزعم لهم أن المسيح اشتراكي، وإمام الاشتراكية؛ فهو فقير، ومن أسرة فقيرة، وأتباعه فقراء كادحون، ودعا إلى محاربة الأغنياء
وهذا يُمَكِّننا من استخدام المسيح نفسه لتثبيت الاشتراكية لدى المسيحيين.
ونقول عن محمد: إنه إمام الاشتراكيين؛ فهو فقير، وتَبِعَه فقراء، وحارب الأغنياء المحتكرين، والإقطاعيين، والمرابين، والرأسماليين وثار عليهم.
وعلى هذا النحو يجب أن نصور الأنبياء والرسل، ونبعد عنهم القداسات الروحية، والوحي، والمعجزات عنهم بقدر الإمكان؛ لنجعلهم بشراً عاديين؛ حتى يسهل علينا القضاء على الهالة التي أوجدوها لأنفسهم، وأوجدها لهم أتباعهم المهووسون.
11_ إخضاع القصص القرآني لخدمة الشيوعية وذلك بتفسيرها تفسيراً مادياً تاريخياً.
فقصة يوسف _ على سبيل المثال _ وما فيها من جزئيات يمكن أن نفيد منها في تعبئة الشعور العام ضد الرأسماليين، والإقطاعيين، والنساء الشريفات، والحكام الرجعيين.
12_ إخضاع جميع القوى الدينية للنظام الاشتراكي، وتجريد هذه القوى تدريجياً من مُوجِداتها.
13_ إشغال الجماهير بالشعارات الاشتراكية.
14_ تحطيم القيم الدينية والروحية، واصطناع الخلل والعيوب لها.
15_ الهتاف الدائم ليل نهار، وصباح مساء بالثورة، وأنها هي المنقذ الأول والأخير للشعوب من حكامها الرجعيين، والهتاف للاشتراكية بأنها هي الجنة الموعود بها جماهير الشعوب الكادحة.
16_ هدم الدين باسم الدين، وذلك باتخاذ الإسلام أداة لهدم الإسلام نفسه.(1/41)
ولا بأس من أداء الزعماء الاشتراكيين بعض الفرائض الدينية الجماعية؛ للتضليل والخداع على ألاَّ يطول زمن ذلك؛ لأن القوى الثورية يجب ألاَّ تُظهر غير ما تبطن إلا بقدر، ويجب أن تختصر الوقت والطريق؛ لتضرب ضربتها؛ فالثورة قبل كل شيء هدم للقيم والمواريث الدينية جميعها.
17_ الإعلان بأن الاشتراكيين يؤمنون بالدين الصحيح لا الدين الزائف الذي يعتنقه الناس لجهلهم، والدين الصحيح هو الاشتراكية.
18_ إلصاق كل عيوب الدراويش، وخطايا المنتسبين للدين بالدين نفسه؛ لإثبات أن الدين خرافة.
19_ تسمية الإسلام الذي تؤيده الاشتراكية لبلوغ مآربها وتحقيق غاياتها _ بالدين الصحيح، والدين الثوري، والدين المتطور، ودين المستقبل؛ حتى يتم تجريد الإسلام الذي جاء به محمد من خصائصه ومعالمه، والاحتفاظ منه بالاسم فقط؛ لأن العرب إلا القليل منهم مسلمون بطبيعتهم؛ فليكونوا الآن مسلمين اسماً، اشتراكيين فعلاً؛ حتى يذوب الدين لفظاً كما ذاب معنى.
20_ باسم تصحيح المفاهيم الإسلامية، وتنقية الدين من الشوائب، وتحت ستار الإسلام يتم القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية.
هذا بعض ما جاء في تلك الوثيقة، وهو يمثل شيئاً من أساليب الشيوعية في محاربة الإسلام.
ومما قاموا به من أساليب في حرب الإسلام _ دعايتهم ضد الإسلام عبر المحاضرات والكتب؛ فلقد أنشأ الشيوعيون اتحاداً سموه (اتحاد من لا إله لهم)، وبعد الحرب (جمعية نشر المعلومات السياسية) ومعظم عملها محاربة الإسلام.
ففي الفرع القازاني نظمت الجمعية سنة 1946_ 1948م ما يقارب 30528 محاضرة، منها 23000 محاضرة ضد الإسلام.
وفي أوزبكستان سنة 1951م نظمت أكثر من 10000 محاضرة ضد الإسلام.
وفي تركمانستان سنة 1963م أكثر من 5000 محاضرة ضد الإسلام.
وطبعت من الكتب ما بين سنة 1955_ 1957م 84 كتاباً في 800000 نسخة ضد الإسلام.(1/42)
وطبعت من الكتب ما بين سنة 1962_ 1964م 219 كتاباً ونشرة ضد الإسلام، وموجهة للمسلمين(1).
بعد نجاح الثورة الماركسية البلشفية في روسيا، وقبل أن يستتب الأمر تماماً للشيوعيين _ أرادوا استمالة المسلمين في البلاد، واستثارتهم ضد الحكم القيصري الذي كان يضطهدهم ويعتدي على حرماتهم؛ وذلك من أجل أن يساند المسلمون الشيوعيين الثائرين ضد المعارضة النصرانية الموالية للحكم السابق؛ فأصدر مجلس فوميسيري البلشفي نداءاً موجهاً للمسلمين سنة 1917م جاء فيه: =إن امبراطورية السلب، والعنف، والرأسمالية توشك أن تنهار، والأرض التي تستند عليها أقدام اللصوص الاستعماريين تشتعل ناراً.
وفي وجه هذه الأحداث الجسام نتجه بأنظارنا إليكم أنتم يا مسلمي روسيا، والشرق، أنتم يا من تَشْقَوْن وتكدحون، وعلى الرغم من ذلك تُحرمون من كل حق أنتم أهل له.
أيها المسلمون في روسيا، أيها التتر على شواطئ الفولجا وفي القرم، أيها الكرغيز والسارتيون في سيبيريا والتركمستان، أيها التتر والأتراك في القوقاز، أيها التشيشيين، أيها الجبليون في أنحاء القوقاز، أنتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم، وقبوركم، واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم.
ستكون حرية عقائدكم، وعاداتكم، وحرية نظمكم القومية، ومنظماتكم الثقافية _ مكفولة لكم منذ اليوم، لا يطغى عليها طاغٍ، ولا يعتدي عليها معتدٍ.
هُبُّوا إذاً فابنوا حياتكم القومية كيف شئتم فأنتم أحرار لا يحول بينكم وبين ما تشتهون حائل، إن ذلك من حقكم إن كنتم فاعلين.
واعلموا أن حقوقكم شأنها شأن حقوق سائر أفراد الشعب الروسي، تحميها الثورة بكل ما أوتيت من عزم وقوة، وبكل ما يتوافر لها من وسائل: جند أشداء، ومجالس للعمال، ومندوبين عن الفلاحين.
وإذاً فشدوا أزر هذه الثورة، وخذوا بساعد حكومتها الشرعية+(2).
__________
(1) _ انظر السرطان الأحمر د. عبد الله عزام ص52.
(2) _ الكيد الأحمر, ص 251_252.(1/43)
إلى آخر ما جاء في ذلك النداء الخادع.
وما كان من المسلمين حين سمعوا ذلك النداء إلا أن أسرعوا يجمعون قواهم؛ فبادرت شعوب إسلامية كانت مستعمرة مضطهدة تحت الحكم الروسي القيصري فأعلنت استقلالها، واستعادت سيادتها على أرضها.
وقامت جمهوريات إسلامية عديدة، لكنها لم تكن شيوعية، ولم تكن خاضعة خضوعاً كلياً للشيوعيين الذين أقاموا الثورة في روسيا، وما كان باستطاعة هذه الدول _ وهي ملتزمة بإسلامها وعقائدها ومفاهيمها الإسلامية _ أن تتحول إلى الشيوعية؛ لأنها تتناقض مع الإسلام تناقضاً كلياً في جذورها الاعتقادية، وفي تطبيقاتها ونظمها.
ولم تمض فترة وجيزة حتى ثبَّت الشيوعيون أقدامهم، وأحكموا قبضتهم.
فلما تمكنوا، واستتب لهم الأمر _ قلبوا ظهر المجن، وأسفروا عن حقيقتهم الكالحة، حيث توجهوا بجيشهم المعروف بالجيش الأحمر، فأعملوا أسلحتهم بالمسلمين، وحصدوا الجمهوريات الإسلامية حصداً.
وكان هجوم الجيش الأحمر لها مباغتة لم تعدَّ لها بَعْدُ عدتها؛ فهي دول فتية ما زالت في طور نشأتها.
وفي مدة ثلاث سنين استولى الشيوعيون على هذه الجمهوريات الإسلامية بعد أن قدم المسلمون تضحيات جسيمة، ولكن قواهم كانت أضعف من أن تقاوم جيشاً مدرباً مزوداً بأحدث الأسلحة من طائرات، ودبابات، وسيارات مصفحة، ومدافع بعيدة المدى، في حين أنها لا تملك شيئاً من مثل هذه الأسلحة؛ فلقد كانت شعوباً مستعمرة للحكم القيصري النصراني وما إن تخلصت من نيره حتى عاد المستعمرون السابقون بوجه شيوعي أكثر شراسة وعنفاً لفرض سلطانهم الأحمر(1).
ولقد قام الشيوعيون إبان فترة حكمهم بأعمال وحشية، ومذابح رهيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في أحقابه المتطاولة، وسيتضح شيء من ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: نكبات المسلمين ومذابحهم على أيدي الشيوعيين(2):
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر, ص 252_253.
(2) _ انظر الكيد الأحمر, ص 253_268, والسرطان الأحمر ص 47_50.(1/44)
1_ الإبادة الجماعية، أو نفي جزء من الشعب، أو الشعب كله من وطن آبائه وأجداده إلى سيبيريا، أو إلى مناطق أخرى حيث يفقدون الصلة بوطنهم الأصلي، ويضيعون بمرور السنين.
وإليك هذه الوقائع دليلاً على أفعالهم:
أ _ أعمالهم في التركستان: قتل الشيوعيون في التركستان وحدها سنة 1934م مائة ألف مسلم من أعضاء الحكومة المحلية، والعلماء، والمثقفين، والتجار، والمزارعين.
وفي ما بين سنة 1937_ 1939م ألقت روسيا القبض على 500 ألف مسلم، وعدد من الذين استخدمتهم في الوظائف الحكومية، ثم أعدمت فريقاً، وأرسلت فريقاً آخر إلى مجاهل سيبيريا.
وقتلوا سنة 1950م سبعة آلاف مسلم، ونفوا من التركستان سنة 1934م ثلاثمائة ألف مسلم.
وقد هرب من التركستان منذ سنة 1919م حتى اليوم مليونان ونصف مليون من المسلمين.
وفي سنة 1949م هرب ألفان من التركستان الشرقية، ولاقى 1200 من هذا الفريق حتفه وهم في الطريق إلى الهند.
وفي سنة 1950م هرب من التركستان 20000 من المسلمين والتجأوا إلى البلاد الإسلامية في الشرق الأدنى.
ومن سنة 1932م إلى 1934م مات ثلاثة ملايين تركستاني جوعاً؛ نتيجة استيلاء الروس على محاصيل البلاد، وتقديمها إلى الصينيين الذين أدخلوهم إلى تركستان.
ونتيجة لقانون مزج الشعوب في الاتحاد السوفياتي نفت روسيا 40000 مسلم تركستاني إلى أوكرانيا، وأواسط روسيا، فاندمجوا في تلك الشعوب، وفقدوا وطنهم الأصلي.
وفي سنة 1951م ألقي القبض على 13565 مسلم في التركستان وأودعوا المعتقلات.
ب _ في القرم: أبادوا في القرم سنة 1921م مائة ألف مسلم بالجوع، وأرغموا خمسين ألف مسلم على الهجرة في عهد بلاكون الشيوعي الهنغاري الذي نصبوه رئيساً للجمهورية القرمية الإسلامية.
وفي سنة 1946م نفوا شعبين إسلاميين كاملين، وهم شعب جمهوريتي القرم وتشيس إلى مجاهل سيبيريا، وأحلوا محلهم الروس.(1/45)
2_ هدم المساجد وتحويلها إلى دور للهو، واستخدامها في غايات أخرى، وإقفال المدارس الدينية:
أ _ بلغ مجموع المساجد التي هُدِّمت أو حُوِّلت إلى غايات أخرى في التركستان وحدها 6682 جامعاً ومسجداً، منها أعظم المساجد الأثرية مثل (منارة مسجد كالان) في مدينة بخارى، و(كته جامع) في مدينة قوقان، و(جامع ابن قتيبة) و(جامع الأمير فضل بن يحيى) و(جامع خوجه أحرار) في مدينة طشقند.
ومجموع عدد المدارس والكتاتيب التي أقفلوها في التركستان يبلغ 7052 مدرسة، منها: (ديوان بيكي مدرسة) في مدينة بخارى، و(بكلريك مدرسة) و(بران حان مدرسة) في مدينة طشقند، وغيرها من المدارس التاريخية التي كانت منهلاً من مناهل العلم والعرفان.
ب _ وفي القرم طمسوا معالم الإسلام بما فيها الجوامع الأثرية في مدينة (باغجة سراي) عاصمة القرم الجميلة، مثل (جامع حان) وجامع (طوزيازرا) وجامع (أصماقويو) وغيرها.
ج _ وهدموا في مدينة (زغرب) في يوغسلافيا جامعاً عظيماً شيد رمزاً لوحدة عنصري الشعب الكرواتي.
وأغلقوا في مدينة (سراييفوا) الأكاديمية الإسلامية العليا للشريعة الإسلامية، وجميع المدارس الدينية باستثناء واحدة فقط، أبقوها للدعاية!.
3_ قتل علماء الدين أو نفيهم، أو الحكم عليهم بالأشغال الشاقة، أو منعهم من الحقوق السياسية، بل والحقوق الإنسانية، وإيجاد أية عقبة أخرى تحول بينهم وبين مزاولتهم لمهنتهم.
وممن قتل من العلماء في تركستان الشيخ برهان البخاري قاضي القضاة، والشيخ خان مروان خان مفتي بخارى، والشيخ عبدالمطلب واملا، والشيخ محسوب متولي، والشيخ عبدالأحد وادخان، والشيخ ملا يعقوب، والشيخ ملا عبدالكريم، وغيرهم كثيرون.
وكذلك عملوا في القرم، وأضافوا إلى ذلك حرق المصاحف الكريمة في الميادين العامة.
وفي يوغسلافيا قتلوا مفتي كرواتيا الشيخ عصمت مفتيش، والعالم الفاضل مصطفى يوصلولاجيتش.(1/46)
وحكموا بالأشغال الشاقة مدداً مختلفة على 12عالماً بعد محاكمة صورية في مدينة سراييفو، منهم الشيخ قاسم دوراجا شيخ علماء البوسنة والهرسك، والشيخ عبدالله دروبسيوفتش، وكلاهما من علماء الأزهر الشريف.
4_ قتل الزعماء السياسيين أو نفيهم: ومن أمثال ذلك أن الشيوعيين قتلوا في التركستان الشرقية سنة 1934م الحاج خوجه نياز رئيس الجمهورية، ومولانا ثابت رئيس مجلس الوزراء، وشريف حاج قائد مقاطعة (ألتاء) وعثمان أوراز قائد مقاطعة (كاشفر) ويونس بك وزير الدولة، والحاج أبو الحسن وزير التجارة وطاهر بك رئيس مجلس النواب، وعبدالله داملا وزير الأشغال، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
وكلما أحس الشيوعيون ببوادر أية حركة قومية أو إسلامية بين التركستانيين قاموا بحملة التصفية، وهي حملة يراد بها القضاء على كل من تحدثه نفسه بما قد يخالف تعاليم آلهة الشيوعيين: (ماركس)، و (لينين)، و(ستالين).
5_ منع المسلمين من التمتع بالنظم الإسلامية في دائرة الأحوال الشخصية: فقد ألغيت المحاكم الشرعية في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا.
ومعنى ذلك خروج الأسرة من دائرة توجيه الشريعة الإسلامية إلى دائرة القوانين الشيوعية، التي تنادي بالإباحية التامة، وبانحلال جميع الروابط الطبيعية بين أعضاء الأسرة الواحدة.
هذا إلى جانب نهب الثروات، ونقلها إلى مقاطعات أخرى، وتمزيق أوصال كل بلد إسلامي واحد، وخلق قوميات مستقلة على أساس لهجات لغة واحدة؛ بقصد تشتيت المسلمين في نفس الجنس واللغة، وخلق منازعات مصطنعة بينهم، كما قسموا تركستان إلى ست جمهوريات على هذا الأساس الواهي.
كما أنهم يقومون بشتى أنواع الدعاية اللادينية من غير أن يسمحوا بالدعاية الدينية.
ومن أمثال ذلك قيام الشبيبة الشيوعية، وجماعة من الملحدين الرواد بمظاهرات لا دينية صاخبة في مواسم الأعياد، وإهانة كل ما يقدسه المسلمون.(1/47)
وإن ينسَ المسلمون فلن ينسوا ما حلَّ بأفغانستان وأهلها من مآس، وحروب، وتشريد، وكذلك ما حلَّ أخيراً بالشيشان وأهلها إلى حين كتابة هذه السطور.
ثانياً: نماذج من صور التعذيب للمسلمين:
ومن جرائم الشيوعيين التي أنزلوها بالمسلمين صور التعذيب، وأفانينه العجيبة، فمن ذلك ما حل بمسلمي تركستان الشرقية عندما رفضوا إلحادية ماركس.
وفيما يلي ذكر لبعض صور التعذيب التي تقشعر منها الجلود، ويقِف لِهَوْلِها شعر الرأس(1).
1_ دقُّ مسامير طويلة في رأس المُعذَّب حتى تصل مُخَّه.
2_ صبُّ البترول على المُعذَّب، ثم إشعال النار فيه حتى يحترق.
3_ جعل المسجون المعذب هدفاً لرصاص الجنود الذين يتدربون على تسديد الأهداف.
4_ حبس المعتقلين في سجون لا تدخل إليها الشمس، ولا ينفذ منها هواء، وتجويعهم حتى الموت.
5_ وضع خوذات معدنية على رأس المعذب، وإمرار تيار كهربائي فيها؛ لاقتلاع العيون.
6_ ربط رأس المعذب في طرف آلة ميكانيكية، وربط باقي الجسم في آلة أخرى، ثم تحريك كلٍّ من الآلتين في تباعد وتقارب شداً وضغطاً على المُعذَّب، حتى يعترف على نفسه وغيره، أو يموت.
7_ كيُّ كلِّ عضوٍ من الجسم بقطعة من الحديد المحمي إلى درجة الاحمرار.
8_ صبُّ زيتٍ مغليٍّ على الجسم.
9_ دقُّ مسامير حديدية، أو إبر في أجسام المُعذَّبين.
10_ إجلاس المعذبين جلساتٍ خاصةً فيها ألم شديد؛ إذ يستطيع المشرفون على التعذيب الضربَ على الأعضاء التناسلية.
11_ إدخال شعر الخنزير في الإحليل _ فتحة العضو التناسلي _.
12_ إدخال قضيب من الحديد المحمي في مكان شديد الحساسية من الجسم.
13_ دقُّ المسامير في رؤوس الأصابع حتى تخرج من الجانب الآخر.
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر, ص 264_266, وتعليق الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني على كتاب الإلحاد للشيخ محمد الخضر حسين ص30_32.(1/48)
14_ ربط المسجون المُعذَّب على سرير حديدي ربطاً محكماً لا يستطيع معه التحرك، وذلك لعدة أيام قد يتفطر بها جسمه.
15_ إجبار المسجون المُعذَّب على أن يمد جسمه عارياً على قطع من الثلج أيام الشتاء والبرد القارس .
16_ وضع لوح من الخشب فوق رقبة المُعذَّب وكتفيه؛ ليظل منحنياً لا يستطيع الحركة.
17_ نتف خصل من شعر الرأس بعنف يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.
18_ تمشيط جسم المُعذَّب بأمشاط حديدية حادة.
19_ صبُّ المواد الكيماوية الكاوية في أنوف المسجونين وفي أعينهم بعد ربطهم ربطاً محكماً.
20_ وضع صخرة ثقيلة على ظهر المسجون والمُعذَّب بعد ربط يديه وراء ظهره.
21_ ربط يدي المسجون وشدهما إلى أعلى، وتعليقه منهما حتى يكون متدلياً في الهواء بثقل جسمه، وتركه كذلك ليلة كاملة أو أكثر.
22_ ضرب المتهم بعصا بها مسامير حادة.
23_ سجن المتهم في سجن انفرادي ضيق.
24_ ضرب المعذب بالكرباج، وهو شيء يشبه أذناب البقر حتى يتفطر جسمه، وتسيل الدماء منه.
25_ تقطيع جسم المُعذَّب إلى قطع صغرى بالسكاكين.
26_ إحداث ثقب في مكان ما من الجسم، وإدخال حبل ذي عقد فيه، ثم استعمال هذا الحبل بعد يومين كمنشار لقطع أطراف الجلد المتآكل.
27_ تثبيت المُعذَّب واقفاً إلى جدار بمسامير تُدَقُّ في أذنيه على الجدار؛ ليظل واقفاً معذباً أطول مدة.
28_ وضع المسجون المُعذَّب في برميل مملوء بالماء في فصل الشتاء.
29_ خياطة أصابع اليدين والقدمين، ووصل بعضهما ببعض.
إلى غير ذلك من فنون التعذيب المستحدثة التي لا تخطر على بال أخبث المجرمين.
وعلى هذا قام نظام الشيوعيين في روسيا، خلافاً لما يعتقده كثير ممن انخرطوا في سلكها من بهائم العرب، إذ يعتقدون أنها قامت على الحق، والخير، وأنها قامت ضد المستعمرين، أو الغزاة، أو الملكية القيصرية.
والحق أنها قامت على المكر، والخديعة، والخيانة، والإرهاب، والظلم، والاستبداد، والتسلط.(1/49)
لقد دخلت الشيوعية الماركسية كثيراً من بلاد المسلمين، وما كان ذلك ليتم لها؛ لأن مسوغات انتشارها في أوربا وروسيا كثيرة؛ وأبرزها غياب المنهج الصحيح وهو الإسلام.
أما بلاد المسلمين فإنها تنعم بالدين الحق، فما حاجتها _ إذاً _ للشيوعية؟!.
وكيف تسمح لمثل هذه المذاهب الباطلة أن تنخر في جسم الأمة وقد أغناها الله _ عز وجل _ بوحي السماء عن زبالة أفكار أهل الأرض؟!
والجواب عن ذلك أن الشيوعية دخلت بلاد الإسلام لأسباب عديدة منها(1) :
1_ انحراف كثير من المسلمين، وجهلهم بعقيدتهم: فما كان للشيوعية أن تنتشر في بلاد المسلمين إلا عندما انحرف كثير من المسلمين عن دينهم، وجهلوا عقيدتهم، ونسوا حظاً مما ذكروا به.
وإلا لما كانت العقيدة سليمة، والإيمان قوياً راسخاً، والتمسك بأمر الله قائماً _ لم يجد الأعداء منفذاً ينفذون من خلاله، وإن وجدوا منفذاً فلن يجدوا مكاناً يؤثرون فيه، وإن وجدوا مكاناً ففي أندر الأحوال يقع ذلك، ثم سرعان ما يقاوم ويعالج.
2_ الهزيمة النفسية الداخلية: فلما انحرف المسلمون عن دينهم أصابهم الوهن، وداخلتهم الهزيمة، ففقدوا العزة، وتدثروا الذلة، فسهل دخول المذاهب الهدامة ومنها الشيوعية.
وإلا فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تأخذ، ومقدار ما تعطي، ونوع ما تأخذ، ونوع ما تعطي، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة حتى تحمي رأيها، فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع؛ فالأمة التي تُشْرَب في نفوسها العزة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم من غيرها، وتبالغ في الحذر في أن تقع في يد من يطعن في نحر كرامتها، ولا يستحيي الإنسانية أن تراه مهتضماً لحق من حقوقها.
__________
(1) _ انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/125_126 و 215_216, والسرطان الأحمر 99_106, والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها , ورسائل في العقيدة للكاتب ص46_48.(1/50)
3_ هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية: فما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويعملون المصانع _ حتى اتجهوا إلى دول العالم الثالث؛ بحثاً عن الأسواق؛ لبيع منتجاتهم الصناعية، وجلباً للمواد الخام اللازمة للصناعة.
ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما تريد بأبخس الأثمان، أو بلا ثمن أصلاً _ فإنها استخدمت قوتها العسكرية.
ولما كان العالم الإسلامي في غاية التخلف عسكرياً، وسياسياً، وصناعياً _ لم يصمد أمام تلك الهجمة، وكان للهزيمة العسكرية أثرها في زعزعة العقيدة والشعور بالنقص، وتقليد الغالب، والتشبه بأخلاقه؛ ظناً منهم _ لفرط جهلهم _ أن أوربا لم تتطور إلا عندما اعتنقت الإلحاد، ورفضت الدين.
4_ الاستعمار وما خلَّفه من دمار: فلقد عانى المسلمون من الاستعمار، وويلاته، حيث امتص المستعمرون دماء المسلمين، وخيراتهم، وأوطانهم، كما فرضوا عليهم أفكارهم ومذاهبهم الباطلة.
5_ حال المسلمين المتردية: فَتَفَرُّق المسلمين، وتخلُّفهم، وتشتت كلمتهم _ صار فتنة للكفار والمنافقين، والجهال؛ حيث استدلوا بذلك على بطلان الدين، كما سيأتي في الفقرة الآتية.
6_ جعل واقع المسلمين في العصور المتأخرة هو الصورة التي تمثل الإسلام: فيروج الشيوعيون، وأذنابهم من الزنادقة المنتسبين للإسلام أن دين الإسلام دين تخلف، وانحطاط، وتأخر عن مواكبة الأحداث، ويستدلون على ذلك بواقع المسلمين في العصور المتأخرة، ويوهمون الناس بأنه لو كان ديناً حقاً لما انحدر المسلمون، وصاروا في ذيل الركب.
7_ انتشار الخرافات والبدع: حيث شاعت في بلاد الإسلام بدع، وضلالات، وخرافات تروج لها المذاهب الباطلة والطرق الصوفية التي تقوم على الدجل، وعبادة القبور، والمبالغة في قصص الكرامات.
كل ذلك اغتنمه الشيوعيون، وسددوا من خلاله سهامهم نحو الدين؛ ليروجوا أن الدين خرافة ودجل.(1/51)
8_ سقوط الخلافة الإسلامية: فلقد كانت تجمع المسلمين وترهب أعداء الله، مع ما كانت عليه في أواخر عهدها من انتشار البدع، ونخرها في جسد الخلافة.
9_ التقصير في الدعوة إلى الله: ذلك أن كثيراً من المنتسبين إلى علوم الشريعة _ فرطوا في جانب الغيرة على الحق، بل ربما كان منهم من يواد الملاحدة، ويتملقهم بالإطراء، ويغض الطرف عن إلحادهم، بل ربما شهدوا لهم بالإخلاص للدين.
يفعلون ذلك رجاء متاع الحياة الدنيا،أو خشية أن يوصفوا بالتشدد والانغلاق أو رغبة بأن يوصفوا بالانفتاح وسعة الأفق، وهم يعلمون أنهم إنما يوالون طائفة تفسد على الأمة دينها وأخلاقها.
ومن العلماء من أخلدوا إلى الأرض، فلا ينكرون على الناس شركهم بالله، وطوافهم حول الأضرحة، ولا يبينون الحق، ولا ينصحون للأمة، وربما زينوا للطواغيت باطلهم، وسوغوا لهم أعمالهم الإجرامية.
10_ ترك الجهاد في سبيل الله: حيث ركن أكثر المسلمين إلى ملذات الحياة الدنيا، فدبت إلى الجفون غفوة، فلم تكد الأمة تستفيق منها إلا ويد أجنبية تقبض على زمامها، وتديرها كما تشاء.
11_ تركيز الغرب على إفساد التعليم والإعلام والمرأة: فشوه الإعلام صورة الإسلام وعلمائه، وروج للعري والإباحية والفوضى الجنسية، فغرق كثير من الشباب في هذا المستنقع الآسن، والشيوعية لا تُفَرِّخ إلا بمثل ذلك الجو.
ثم إن الطعنة النجلاء، والخنجر المسموم _ هو فساد التعليم، ومناهجه الدراسية، حيث قطعت صلة الطلاب برب الأرباب، وأصبحت مناهج الدين في زاوية ضيقة محدودة، فانفتح المجال على مصراعيه للشيوعية؛ حيث زاحمت علومها علوم الدين، بل أقصتها جانباً، ونَحَّتْها عن مجال التأثير؛ فشاع الجهل بالدين، وسهل دخول الأفكار المضللة إلى العقول.(1/52)
12_ الابتعاث وما فيه من مفاسد: حيث يبتعث إلى بلاد الكفر مَنْ هو خالي الوفاض _ في الغالب _ فلا علم لديه، ولا ورع يزمُّه، ولا تقوى تردعه ولا عزة تمنعه، فيعيش في تلك البلاد فترة من الزمان، فيتأثر بما فيها من انحلال، وفساد، وكفر، وربما رجع بشهادة الدكتوراه بعد أن يفقد شهادة أن لا إله إلا الله، فيصبح بذلك معول هدم لأمته، وربما تولى زمام التأثير في المجالات المهمة؛ فيفرغ فيها كُثبة من سمومه، وفساده.
13_ خيانات العملاء والمنافقين: فلهؤلاء دور كبير في نشر الشيوعية، والتمكين لها، ولا أدل على ذلك من خيانة الأحزاب الشيوعية العربية للقضايا العربية والإسلامية؛ فذلك أمر تؤيده الحقائق المشهورة؛ فحيثما وُجِدَتْ مصلحة الاتحاد السوفييتي أو مصلحة إسرائيل فإن تلك الأحزاب تنحاز إلى تلك المصالح ضد المصالح الإسلامية والعربية.
وأوامر الحزب الشيوعي اليهودي أوامر مقدسة عند الأحزاب الشيوعية العربية، حيث تنفذها دونما اعتراض.
وحركات التحرر التي قامت ضد فرنسا، وبريطانيا تعد _ في نظر الأحزاب الشيوعية العربية _ حركات بورجوازية انتهازية لا تستحق الدعم والتأييد، بل تستحق المعارضة، والكفاح.
وكل وجهة نظر سوفياتية تتعلق بالقضايا العربية أو الإسلامية هي الوجهة التي لا يجوز العدول عنها عند تلك الأحزاب.
14_ سوء التربية: وذلك بأن ينشأ الشخص في بيت خالٍ من آداب الإسلام ومبادئ هدايته، فلا يرى فيمن يقوم على أمر تربيته من نحو أب، أو أم، أو أخ _ استقامةً، ولا يتلقى ما يَطْبَعُه على حب الدين، ويجعله على بصيرة من حكمته؛ فأقل شبهة تمس ذهن هذا الناشئ تنحدر به في هاوية الضلال.
15_ مصاحبة الملاحدة: فمن أسباب اعتناق الإلحاد أن يتصل الفتى الضعيف النفس بملحد يكون أقوى منه نفساً، وأبرع لساناً، فيأخذه ببراعته إلى سوء العقيدة، ويفسد عليه أمر دينه.(1/53)
16_ قراءة الناشئ مؤلفات الملاحدة: فالملاحدة يدسون سموماً من الشبه تحت ألفاظ منمقة، فيصغى إليها فؤاد الناشئ، وتضعف نفسه أمام هذه الألفاظ المنمقة، والشبه المبهرجة، فلا يلبث أن يدخل في زمرة الملاحدة الألدَّاء.
17_ غلبة الشهوات: فقد تغلب الشهوات على نفس الرجل، فتريه أن المصلحة في إباحتها، وأن تحريم الشارع لها خالٍ من كل حكمة، فيخرج من هذا الباب إلى إباحية وجحود.
هذه بعض الأسباب لانتشار الشيوعية في العالم الإسلامي سواء على مستوى أفراده، أو شعوبه، أو دوله.
ثم إن بعض أسباب نشأة الشيوعية الحديثة تشترك مع أسباب دخولها في بلاد الإسلام.
لقد قامت الشيوعية على أسس ومبادئ آمن بها الشيوعيون، وحاولوا تطبيقها على مجتمعاتهم، زاعمين بأن تلك الأسس والمبادئ ستخلِّص الشعوب من وطأة الرأسمالية وتوصلها إلى الفردوس المنتظر، وتقضي على جميع المشكلات وتنأى عن الطبقية والفردية.
فماذا تم بعد قيام الشيوعية؟ وما الذي حدث من جراء تطبيقها؟ وما الآثار التي ترتبت على اعتناقها؟ وماذا كانت النتيجة ؟
الجواب سيتضح _ إن شاء الله _ من خلال الحديث عن الشيوعية بعد التطبيق، وعن الآثار المترتبة على الإلحاد، ثم عن سقوط الشيوعية.
أولاً: الشيوعية بعد التطبيق(1):
لقد زعمت الشيوعية بأنها ستحقق العدل، وتنشره بين الناس؛ حيث ستلغي الفوارق بين الطبقات، وستجعل الناس يعيشون في مستوى اقتصادي واحد، وسيأخذ كل واحد منهم قدر حاجته من المال.
وإذا تساوى الناس في مستواهم الاقتصادي والمالي فسيكون الطريق أمامهم مفتوحاً للمساواة في جميع المجالات سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.
هذه هي الدعوى، ولكن أي البينة؟
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بيناتٍ أصحابها أدعياء
__________
(1) _ انظر الأديان والمذاهب المعاصرة ص 96_99, والعلمانية ص 254/444_447, ومذاهب فكرية ص 231, والشيوعية وموقف القرآن ص59_64, والصنم الذي هوى ص 73.(1/54)
إن الحقائق تكذب تلك الدعاوى، والواقع يقول بخلاف ذلك؛ فلقد حصل بعد تطبيق الشيوعية ما يلي:
1_ وقوع الشيوعيين في الطبقية: لقد ادعى الشيوعيون أن إلغاء الفوارق بين الطبقات أمر لابد منه، وأن السبيل إلى ذلك هو الصراع الدموي؛ فكل امتياز أو طبقية _ بزعمهم _ إنما هو أثر من آثار الأنانية وتحكيم المصلحة الذاتية.
وإذا كان النظام الشيوعي يدعي تلك الدعوى فإن واقعه يكذبها؛ فما تلك الدعاوى سوى شعارات براقة، ووعود معسولة كاذبة يخدعون بها السذج دونما التزام بها، وإليك بعض الأمثلة:
أ _ تفاوت الأجور: فمعدل الأجر المتوسط للعامل في الاتحاد السوفيتي عام 1935م حوالي 1800 روبل سنوياً، في الوقت الذي بلغ فيه راتب الأمين العام للجنة الغزل والحرير الصناعي مبلغ 45 ألف روبل سنوياً.
ثم إن أجرة الفلاح الروسي 300 روبل شهرياً، ويقتطع منها 150 روبلاً لتقوية الصناعات.
في الوقت الذي يتقاضى فيه أهل الطبقة المثقفة _ كما يزعمون _ من الممثلين والفنانين والأدباء والراقصات أجوراً عالية تصل إلى 20 ألف روبل شهرياً.
ب _ تفاوت مستويات التعليم: فأبناء الطبقة المثقفة يتمتعون بالتعليم الجامعي المجاني وغير المجاني.
أما أبناء الفلاحين فلا يستطيعون ذلك.
ج _ إقرار الحوافز: فهؤلاء الذين يرفعون شعار المساواة، والعدل ورفض الطبقية أقروا الحوافز والجوائز؛ فلقد أذاعت وكالة الأنباء السوفيتية _ تاس _ أن جائزة ستالين للموسيقى وقدرها مائة ألف روبل _ قد منحت سنة 1947م لجوزيف كلينا من أجل أنه لَحَّنََ أغنية عن ستالين.
وأن جائزة ستالين للتصوير _ وقدرها مائة ألف روبل _ قد منحت لأراكلي طويزر من أجل تصويره ستالين يخطب في احتفال الذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر.
أما الجائزة الثالثة _ وقدرها خمسون ألف روبل _ فقد منحت للرسام باراكر فتشنكو من أجل تصويره الأديب مكسيم جوركي يقرأ قصة أمام ستالين، ومولوتوف، وتورسيلوف.(1/55)
وأما جائزة ستالين للنحت _ وقدرها مائة ألف روبل _ فهي لنيقولا توسكي من أجل رسمه تمثال ستالين.
بالإضافة إلى جوائز أخرى سلمت لموسيقيين، ورسامين، ونحاتين، من أجل أعمال قاموا بها لشخص ستالين.
ولما رأوا أن العمال لا يمكن أن يعملوا بجد وإخلاص طالما أن جهدهم يتمتع به غيرهم، لجأوا إلى الحوافز، واضطروا إلى الاعتراف بها لتشجيع المنتجين من فلاحين ورعاة، وعمال مصانع؛ فأخذت الدولة تُمَلِّكهم شيئاً من إنتاجهم؛ فأين المساواة؟ وأين محاربة الملكية الفردية؟!
د _ سحق العمال تحت نظام السخرة في المصانع: والسخرة هي العمل المجاني، حيث يقوم العمال بالعمل دون أن يكون لأحد من نصيب إلا حد الكفاف لا الكفاية.
فالعامل الفرد في ظل هذا النظام يجبر على أن يحشر هو وكل أفراد أسرته في غرفة واحدة، هي غرفة جلوسهم، ونومهم ومطبخهم.
ثم هي غرفة في مجمع سكاني ضخم غير متجانس، ويشترك سكان الشقة في دورة مياه واحدة، وقد تكون تلك الدورة بنيت بلا أبواب منذ إنشائها.
وإذا كانت الغرفة لا تحتوي إلا على سرير واحد فردي _ فإن الأبوين ينامان عليه حين ينام الأولاد صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم على المنضدة متلاصقين.
وتلك المنضدة هي التي تستعمل في النهار للطبخ، وربما كان الزوجان والثلاثة يعيشون في غرفة واحدة يفصل بينهم حبل من حبال الغسيل تثبت به قطعة من القماش.
ثم إن الطعام الذي توزعه المزارع الجماعية لا يكاد يسد الرمق.
أضف إلى ذلك غلاء الأسعار الفاحش، فثمن الكيلو غرام الواحد من الزبدة في السوق الحرة يوازي الأجر الشهري للعامل العادي، وثمن زوج الأحذية يوازي أجر شهرين وإذا مرض أحد من عامة الناس لم يُهتم بعلاجه.(1/56)
هـ _ إغراق الطبقة الحاكمة في الترف والنعيم: ففي الوقت الذي يسحق فيه عامة الناس، ويعانون من شظف العيش، وضيقه _ إذا بالطبقة الحاكمة تغرق في النعيم والترف إلى الأذقان؛ فأعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالملذات والمساكن الراقية الفسيحة، والمراكب الفارهة التي تستورد من الغرب الرأسمالي.
وإذا مرض واحد من أعضاء الحزب بُودر في علاجه بأرقى أنواع العلاج.
ويكفي شاهداً على ترفهم ذلك القصر الباذخ الذي كان يتخذه الرئيس خروتشوف مشتىً له على ضفاف البحر الأسود الدافئة.
ولقد وصف الصحفي المصري محمد حسنين هيكل ذلك القصر وصفاً مذهلاً وذلك في ملحق الأهرام بتاريخ 22مايو سنة 1964م فذكر الأثاث الفاخر، والحدائق الغناء، وحمام السباحة المثير المغطى بقبة من البلور الشفاف، المُكَيَّف بدرجة حرارة مناسبة تتغير آليا حسب الجو، إلى آخر ما وصف به ذلك القصر.
2_ تسلط الحزب الحاكم واستبداده: فبالرغم من أن الاتحاد السوفيتي يتكون من 15 ولاية رئيسة فُرِض عليها الاتحاد فرضاً وفي كلٍّ منها مجلس وزراء _ إلا أن سلطاتها تنحصر في الأمور العادية.
أما الحل والعقد والبت في الأمور فيملكه الحزب في موسكو، ولا يناقشه أحد بذلك.
3_ البطش والإرهاب: حيث اتسمت سياسة الشيوعية بعد التطبيق بالبطش والإرهاب والتدمير والتعذيب، والتنكيل الذي لم يسبق له على مدى التاريخ مثيل، ولقد مرَّ بنا قبل قليل نماذج من ذلك.
4_ انقسام المعسكر الشيوعي على نفسه: حيث توالت الخلافات بين الدول الشيوعية، بل داخل الدولة الواحدة وبين أعضاء الحزب الواحد؛ فلا يكاد يجمعهم سوى خوف كل طرف من الطرف الآخر فهناك خلافات لينين مع ستالين والتي كان لينين بسببها ينوي إقصاء ستالين من مكانته، وهناك الخلافات بين ستالين وتروتسكي، والتي أدت بستالين إلى تدبير اغتيال تروتسكي.
وكلما وصل رئيس إلى سدة الحكم ندد بسلفه، وأقذع في شتمه وسبه.(1/57)
ومن ذلك ما حصل في المؤتمر الخمسين للحزب الشيوعي عندما وقف الرئيس خروتشوف يندد بستالين، ويقول عنه: إنه ديكتاتور سفاح، مجرم سافل دنيء، وإنه غلطة لا ينبغي أن تتكرر، وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان(1).
وفي مؤتمر الحزب الشيوعي الذي عقد في موسكو في 28/6/1988م دعا جورباتشوف إلى إصلاحات جذرية في الشؤون السياسية والاقتصادية للاتحاد السوفيتي، كما انتقد سياسة ستالين وبريجنيف التي حجرت على الفكر في الاتحاد السوفيتي _ وصدق الله إذ يقول: [كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا] (الأعراف:38).
5_ التجسس والرقابة الصارمة: فالتحركات في المجتمع الشيوعي مراقبة، والاتصالات الهاتفية مسجلة، والزيارات _ وخاصة من الغرباء _ مراقبة تماماً ولقد روى ذلك كثير من الزائرين لروسيا بعد أن لاحظوا من يراقبهم ويرصد تحركاتهم.
ولذلك يتحاشى الروسيون الحديث عن السياسة، وكثيراً ما يرددون عبارات جاهزة مكررة في مدح سياسة بلادهم بمناسبة أو بغير مناسبة؛ فقد يكون جزاء المقصر أو المتجاوز النفي إلى سيبيريا؛ حيث البرد القارس والأعمال الشاقة.
وقد قال أحد الكتاب: إن نصف سكان موسكو جواسيس على النصف الآخر، فقال له صاحبه: ولكن النصف الآخر جواسيس _ أيضاً _ على النصف الأول، وتلك فكاهة ليست ببعيدة عن واقع المجتمعات الشيوعية.
__________
(1) _ ومن الطريف أن خروتشوف لما قال عن ستالين في ذلك المؤتمر تقدم مجهول بسؤال إلى خروتشوف يقول فيه: إنك كنت عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي ورأيت هذه الجرائم, وكنت عالماً بوقوعها؛ فلماذا سكت على ارتكابها؟ وقرأ خروتشوف الورقة, وكان حاضر البديهة حاضر النكتة فقال: من الذي أرسل إليَّ هذه الورقة. وبالطبع لم يجب أحد, فقال خروتشوف : الآن قد عرفت السبب؛ لقد كنت خائفاً مثلك ؛ فلم أنبس ببنت شفة. انظر مذاهب فكرية معاصرة ص 431.(1/58)
ويدل على ذلك ما حصل في ألمانيا الشرقية عندما سقطت الشيوعية؛ حيث ذهب بعض الناس لأقسام الشرطة والمباحث؛ ليتسلم ما كتب عنه من تقارير؛ ففوجئ كثير منهم بأن الذي تجسس عليه أمه، أو زوجته، أو أخوه، أو أقرب الناس إليه.
6_ السرية والغموض: فمعظم الأمور هناك أسرار غامضة؛ فلا دليل للهاتف ولا مخطط للمدينة، ولا كتب عن مشاهير الناس.
أما أعضاء الحكومة فحياتهم وأماكن سكناهم، واجتماعاتهم وتحركاتهم _ سر مغلق، لا يُعلن عنه، ولا يُتحدث فيه.
بل من الصعب أن تقابل روسياً عادياً على انفراد.
ومما اعتاده الناس هناك اختفاء بعض الناس في ظروف غامضة، سواء كانوا مسؤولين أم من عامة الناس، ثم إنه لا يجرؤ أحد على السؤال عنهم أو الاستفسار.
يقول آرثر كستلر(1) عن مجتمع الحزب الشيوعي: =كان عالماً يسكنه أناس يعرفون بأسمائهم الأولى فقط، أما أسماء أسرهم، أو عناوين سكناهم فلم يكن لها وجود، كان الجو متناقضاً؛ فهو خليط من الزمالة الأخوية، والارتياب المتبادل.
ويمكن أن نقول: إن الشعار هنا هو: أحبب رفيقك ولكن لا تثق فيه أنملة لصالحك؛ لأنه يشي بك ولصالحه؛ إذ من الخير له ألا تعرضه للإغراء والوشاية+(2).
7_ غياب شموس الحرية عن الحياة الفكرية: فجميع الصحف ودور النشر خاضعة تماماً لرقابة الدولة، ومهمتها كيل المديح الأجوف الممل لقادة الحزب مع تسويغ أعمالهم وحماقاتهم.
وأبرز مثال على ذلك دائرة المعارف الروسية التي ملئت بالتشويهات وقلب الحقائق؛ إرضاء لهوى المتسلط.
__________
(1) _ آرثر كستلر ولد عام 1905 من أب هنغاري وأم من فينا , وقد انظم إلى الحزب الشيوعي في آخر يوم من شهر كانون الأول ديسمبر 1931م ثم انفصل عنه في ربيع عام 1938م .انظر الصنم الذي هوى ص18.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 35.(1/59)
وبالجملة فإن البلاد التي ساد فيها النظام الشيوعي قد تحولت إلى سجن كبير لا مكان فيه لحرية الرأي، ولا يستطيع الفرد أن يفصح عما يدور في خلده تجاه النظام؛ فهو يعيش في رعب دائم، وقلق مستمر.
8_ إهدار كرامة المرأة: فالمرأة في النظام الشيوعي أداة من أدوات الإنتاج للأطفال، وما دامت أدوات الإنتاج الأخرى على الشيوع فينبغي أن تكون المرأة كذلك.
ولقد تحققت شيوعية المرأة في مجتمعهم بصورة مستترة، لكنهم يريدون أن يتحول الواقع إلى نظام علني.
لقد أراد ماركس بمخططه أن تكون كل أنثى لكل ذكر، أو أن تتحول كل امرأة في مجتمعه إلى أنثى من إناث الدولة، وكل رجل من رجال مجتمعه إلى فحل من فحول الدولة، فيجمعهم الفراش ثم يذهب كل منهما إلى عمله وإنتاجه؛ فلا يجوز _ في نظرهم _ أن يختص أحد بالمرأة؛ لأنهم يرون أن الزواج قيد لحريتها.
وبذلك تكون المرأة كلأً مباحاً للأعين والأيدي، وتتحول البشرية إلى حياة الغاب والقطيع.
ولقد لجأ الشيوعيون في سبيل إفساد المرأة إلى أساليب ماكرة؛ حيث ألقوا في روعها أنها إذا تحررت من تبعيتها الاقتصادية للرجل فستكون حرة طليقة، كما أفهموها أن الدين شيء صنعه الرجل؛ لتظل المرأة تحت سلطانه؛ فإذا خلعت ربقة الدين، وتحررت من قيود الأخلاق _ فستنعم بالحرية، والحياة السعيدة.
فما الذي حصل؟ لقد تحقق لهم ما يريدون.
ولكن هل تحققت السعادة للمرأة؟ وهل كانت النتائج في صالحها وصالح المجتمع؟
الجواب: لا؛ فلقد لاحظوا نذر الكارثة؛ إذ انتشرت الأمراض، وكثر الإجهاض، وبدأ الشعب الروسي يتناقص؛ فَحَرَّموا الإجهاض، فأخفقوا؛ لأن الشباب اعتاد الزنا والفواحش فأباحوا الإجهاض، ووزعوا حبوب منع الحمل مجاناً، وكافأوا الأم براتب عن كل مولود بِغَضِّ النظر عن شرعيته من عدمها.
كما اضطربوا في الطلاق؛ حيث أباحوه، ثم حرموه، ثم حدَّدوه، وهكذا أصبحت المرأة ميداناً لتجاربهم وتخبُّطهم.(1/60)
9_ تخبط نظام الأسرة: فمن أهداف نظام الشيوعية القضاء على نظام الأسرة؛ فالكيان الأسري الذي يربط أفراد الأسرة بروابط لها قوتها وقدسيتها _ يتعارض في نظر الماركسية _ مع الرابطة المقدسة الكبرى _ الأم _ التي هي الدولة.
فهي تطلب من الفرد أن يفنى في الأمة فناء تاماً يتلاشى فيه كل انتماء لدين، أو رحم، أو وطن، ويحل محل ذلك الانتماء للدولة بنظمها الماركسية.
ومن هنا قَوَّضت الشيوعية كل التقاليد والشرائع المُرَغِّبة في الزواج حتى أصبح الأمر فوضى لا حد لها.
وتهدف من وراء ذلك أن ينشأ الأطفال نشأة ماركسية تقوم فيها الدولة بدور الحضانة والتربية والتعليم دونما حاجة ماسة إلى أبوة، أو أمومة، أو بُنُوَّة؛ فالرجال رجال الدولة والنساء نساؤها، والأطفال الذين هم ثمرة هذه العلاقات الجنسية _ المشروعة أو غير المشروعة _ هم أبناء الدولة _ ومعلوم أن الفرد في النظام الشيوعي ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك للدولة؛ ولهذا فهم لا يحبذون الترابط الأسري؛ لأجل أن يكون الولاء خالصاً للدولة.
ثانياً: الآثار المترتبة على الإلحاد:
لقد اعتنقت الشيوعية الإلحاد، وقام عليه أكبر الدول في الشرق وهي روسيا، حيث حملت في بنودها رفض الغيب، والنظر إلى الحياة كلها من منظور مادي بحت.
ولقد أصبح الإلحاد ظاهرة عالمية؛ فالعالم الغربي في أوروبا وأمريكا _ وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة النصرانية _ إلا أنه ترك هذه العقيدة تقريباً، وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا، وأصبحت الكنيسة مجرد تراث تافه، وأصبح الإلحاد هو الدين الرسمي المنصوص عليه في دساتير البلدان الأوروبية والأمريكية، ويعبر عن ذلك بالعلمانية تارة، وباللادينية تارة أخرى.(1/61)
والإلحاد له آثاره السيئة، وثمراته المنتنة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات؛ فالأمم الكافرة تعيش حياة صعبة معقدة لا يجدون حلاً لأكثر مشكلاتهم؛ نظراً لغياب المنهج الصحيح وهو دين الإسلام، فهم يعاقبون في هذه الدنيا أشد أنواع العقوبات، وإن ماتوا على كفرهم وإلحادهم فالخلود في النار بانتظارهم.
ولقد مرَّ بنا في الصفحات الماضية ذكر لما تعانيه تلك الأمم بسبب كفرها وإلحادها، وبعدها عن الله، وفيما يلي إجمال للآثار المترتبة على الإلحاد زيادة على ما مضى(1):
1_ القلق والاضطراب: فالملاحدة محرومون من طمأنينة القلب، وسكون النفس، قال الله _ تعالى _: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى](طه: 124).
كيف لا يصيب الملاحدة القلق والهم والغم وفي داخل كل إنسان أسئلة محيرة؟ من خلق الإنسان؟ ومن خلق الحياة؟ وما نهايتها؟ وما بدايتها؟ وما سر هذه الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
من يجيب عن تلك التساؤلات؟ آلشيوعية ؟! أنى لها؟
ثم إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان بسبب مشاغل الحياة، إلا أنها ما تلبث أن تعود، ملحة على صاحبها.
وما نراه اليوم من كثرة الانتحارات، وإدمان المخدرات إلا هروب من ذلك الواقع المؤلم.
2_ الأثرة والأنانية: فلا رحمة، ولا شفقة، ولا بر بالوالدين، ولا صلة للأرحام، ولا إحسان إلى الجيران وسائر الناس؛ فكل فرد معني بنفسه فحسب؛ فالإلحاد لا يعير هذه الروابط أدنى اهتمام.
3_ حب الجريمة: فالملحد يجد في نفسه حباً للجريمة، وإرادة الانتقام، ورغبة في التشفي من كل موجود.
كما أن الثقة بين الناس في المجتمع الملحد شبه مفقودة؛ فكلٌ يخاف من أقرب الناس إليه.
__________
(1) _ انظر: كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن الميداني ص553 وما بعدها , والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وأسباب علاجها ص20_33، ورسائل الإصلاح 1/220.(1/62)
4_ الانطلاق في الإباحية: فالملحد لا يحافظ على عرض أحد، ولا يؤتمن على مال، أو حرمة إلا أن يعجز عن الوصول إلى شيء من ذلك.
ومتى ساعدته الفرصة، وظن أنه بمأمن من العقوبة _ عاث في الأعراض والأموال غير متحرج من انتهاك حرماتها.
وقد يقع انتهاك الأعراض، وغشيان الحرمات، ونحوها من غير الملحد بدافع الشهوة، أما الملحد فإنه يأتيها مستبيحاً لها.
وضرر الطائفة التي ترتكب الفسوق مستبيحة له أشد من ضرر من يفعله معتقداً أنه يأتي أمراً محرماً.
5_ الإجرام السياسي: وهذا من أعظم آثار الإلحاد؛ ذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية ملأت قلوب أصحابها بالقسوة والجبروت مما دفعهم إلى تطبيق ذلك عملياً؛ ولذلك ترى الدول الكبرى كيف تفعل بالدول المستعمرة من الإهانة، والقتل، والإذلال، والتشريد.
هذا شيء من الآثار المترتبة على الإلحاد، وقد جاء القرآن بما يدل على ذلك.
قال تعالى: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ](الأنعام: 125).
وقال _ عز وجل _: [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ](الحج:31).
وقال _ سبحانه وتعالى _: [فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ](التوبة: 55).
ولقد عبر عن ذلك العذاب النفسي والهلع الذي لا يهدأ فريق من كبار فلاسفة الملاحدة، فمنهم على سبيل المثالث:(1/63)
أ _ الفيلسوف الإنكليزي _ هربارت سبنسر: فلما نظر إلى الوجود بالمنظار المادي المحدود الذي لا يفسر الحياة تفسير المؤمنين بالله واليوم الآخر _ بدت له الحياة تافهة حقيرة لا تستحق البقاء؛ حيث قال ذلك في خاتمة كتابه =المبادئ الأولى+.
ولما دنا الموت منه نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام كلها تنقضي في كسب الشهرة الأدبية، دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها؛ فَسَخِر من نفسه، وتمنى لو أنه قضى أيامه الدابرة حياة يسيرة، سعيدة.
ب _ الفيلسوف الملحد (شوبنهور): وهو فيلسوف التشاؤم، قال: =إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعاً يشتغلون بما تتطلبه من حاجة، وشقاء، ويستنفدون كل قواهم لكي يرضوا حاجات الحياة التي لا تنتهي، ولكي يمحو أحزانها الكثيرة+.
والسبب في تشاؤمه أنه عزل عن تصوره مسألة الإيمان بالله، واليوم الآخر.
ج _ الفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر): ذلك الملحد الذي أبصر الوجود كله من خلال دوائر القلق، والغثيان، والمتاعب والآلام، وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية، التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافهة، حقيرة، مملوءة بالمشقيات، مشحونة بالآلام
ثالثاً: سقوط الشيوعية:
لقد أخفقت الشيوعية في التطبيق أيما إخفاق، وقادت البشرية إلى ويلات إثر ويلات، ونزلت بالمستوى البشري إلى أحط الدركات.
وبعد ذلك كله سقطت الشيوعية وهوت من عليائها؛ حيث تفككت دولها، وانفرط عقدها، وسُلَّ نظامها.
ولم يكن سقوط الشيوعية مفاجأة لمن سبر أغوارها، وعرف أطوارها؛ ذلك لأنها قامت على أسس لا يمكن أن تدوم وتخلد، حيث أسست على شفا جرف هار فانهار بأصحابه.(1/64)
هذا وقد تكلم كثير من الكتاب المسلمين على نهاية الشيوعية المحتومة قبل أن تسقط بسنوات عديدة، وذلك لأن المسلمين يعتقدون بيقين ثابت أن الشيوعية مبدأ ولد ميتاً، وحكمهم عليها _ منذ عرفوها _ ليس من باب التنبؤ، والضرب بالرمل، أو علم الغيب.
وإنما هو حكم منتزع من وحي عقيدتهم، وهدى دينهم.
إنها مبدأ أرضي، والمبادئ الأرضية لا تثبت للمبادئ الربانية.
ولئن حُرست هذه المبادئ الباطلة بالقوة الغاشمة فترة ما _ فلن تظل محروسة إلى الأبد؛ لأن حراسها سيدركهم التعب، وسوف ينتابهم ما يرخي قبضتهم الحديدية.
وقد ينخدع بالكذب أناس على أمل أن يُحَقَّق لهم شيءٌ، فإذا اكتشفوا أنه كسراب بقيعة كفروا به(1).
ثم إن سنة الله _ عز وجل _ لا تتبدل ولا تتحول؛ ومن تلك السنن أن الزبد يذهب جفاءاً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، والشيوعية زبد؛ فلا بد أن تذهب جفاء.
يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار × مبيناً مصير الشيوعية المحتوم، وذلك قبل أن تسقط بسنوات: =ومهما كان الأمر فمصير الشيوعيين المحتوم معروف، ولن يكون هذا المصير إلا الفناء نهاية مذاهب الهدم والتخريب.
وستتبدل الشيوعية على أيدي أتباعها قبل أن تتغير على أيدي أعدائها، ثم تلقى المصرع الذي يسلمها إلى القبر، فترتاح الإنسانية من هذا المذهب الباطل الهدام +(2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني متحدثاً عن ذلك المصير: =وإذا كان لنا أن نتنبأ عن المستقبل فإن لنا أن نقول: إن الشيوعية وأنظمتها ستتساقط في كل أرجاء العالم طال الزمن أو قصر متى وهنت القبضة الحديدية الخانقة لرقاب الشعوب المحكومة بها، أو متى استنفد الذين دفعوا إليها وأقاموا أنظمتها أغراضهم منها وغدت عبئاً عليهم، أو تعمل ضد مصالحهم+(3).
__________
(1) _ انظر مجلة البيان العدد 20 ص7 _1410هـ.
(2) _ الشيوعية والإسلام لأحمد عبد الغفور عطار ص213.
(3) _ الكيد الأحمر ص4.(1/65)
وهكذا صحت التوقعات، فتراجعت الشيوعية شيئاً فشيئاً، ثم سقطت ذلك السقوط المريع على يد الرئيس ميخائيل جورباتشوف فأين فردوس الشيوعية المنتظر! وأين تفسيرهم المادي للتاريخ؛ ليفسر لنا ذلك السقوط؟!
أولاً: الرد على مزاعم الشيوعية:
لقد اتضح من خلال ما مضى أن الشيوعية الماركسية مذهب إلحادي، لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يعترف إلا بالمحسوس.
ومرَّ بنا كيف كان الشيوعيون ينظرون إلى الحياة من خلال المنظور المادي، وكيف كانوا يفسرون التاريخ تفسيراً مادياً، إلى غير ذلك من مبادئ الشيوعية وأعمالها.
والرد على مبادئ الشيوعية لا يحتاج إلى كبير جهد؛ ففسادها يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها، وأدلة الشرع والعقل، والفطرة والواقع تنقض مبادئ الشيوعية.
ولقد مرَّ شيء من الرد على مبادئ الشيوعية من خلال عرضها، وفيما يلي ذكر لبعض التفصيل في الرد على مزاعم الشيوعية، ومبادئها، يتبين من خلاله بطلان هذا المذهب.
1_ الشرع: فأدلة الشرع أكبر برهان على بطلان الشيوعية، فهي تدل على وحدانية الله _ عز وجل _ وعلى صدق رسله _ عليهم السلام _.
فالله _ عز وجل _ أرسل الرسل من لدن نوح إلى محمد _ عليهم السلام _ بالتوحيد الخالص فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده، وإفراده بالعبادة دون من سواه.
قال _تعالى_: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ](النحل:36)، وهذه الدعوة التي جاء به الرسل الكرام _ عليهم السلام _ توضح العلاقة بين العبد وربه، وتكفل للبشرية أن تعيش بسعادة وهناء.
ثم إن عبادة الله _عز وجل_ هي الغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس، قال _تعالى_: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](الذاريات:56).(1/66)
ثم إن القرآن بإعجازه وببلاغة أسلوبه، وشدة تأثيره، وإخباره عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وتضمنه لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم، وصلاحه لكل زمان ومكان وأمة _ لأكبر برهان على بطلان الشيوعية التي تدعو إلى الإلحاد، وتكفر بكل دين.
إضافة إلى ذلك فالحقائق العلمية تشهد للقرآن والسنة بالصحة؛ فمع اتساع علوم الطبيعة وما استجد من العلوم العصرية لم يأت علم صحيح ينقض شيئاً مما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، مع أن الذي جاء بتلك الحقائق نبينا محمد الأمي "(1).
فالعلم الصحيح لا يناقض النقل الصحيح، بل يتفق معه تمام الاتفاق، كما لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة _ فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً(2).
وهذا ما قرره العلماء في القديم والحديث ولقد بنى شيخ الإسلام ابن تيمية × كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) على هذه القاعدة.
بل لقد صرح كثير من الكتاب الغربيين بهذه الحقيقة، ومنهم الكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم).
حيث قرر في ذلك الكتاب أن التوراة والإنجيل المحرفين الموجودين اليوم _ يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآن العلم الحديث.
وأثبت من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل يتفق معها تمام الاتفاق(3).
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص350.
(2) _ انظر مجموعة فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين 3/77.
(3) _ انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي ترجمة الشيخ حسن خالد.(1/67)
وبالجملة فالكتاب والسنة كلاهما رد على الشيوعية والمقام لا يستدعي الإكثار من ذكر الآيات والأحاديث؛ فالحديث مع من يعظم الكتاب والسنة شيء، ومع من لا يراهما شيء آخر(1).
أما ما يروج له الشيوعيون من عزو التخلف الذي حل بالمسلمين إلى تمسكهم بالدين، ومن نسبة انحرافات المنتسبين للإسلام إلى نفسه؛ إرادة الطعن فيه، والتنفير عنه _ فتلك فرية عظمى، ويُرَدُّ عليها بما يلي:
أ _ أن حال المسلمين في عصورهم المتأخرة لا تمثل الإسلام حقيقة: فعلى من يريد الحقيقة بعدل وإنصاف _ أن ينظر إلى دين الإسلام نفسه، وما هو عليه من الإحكام والحسن، وما فيه من الهداية إلى كل خير، والتحذير من كل شر.
ب _ أن انحرافات المنتسبين للإسلام لا يعاب بها الإسلام، ولا تحسب عليه: فالشيوعيون يطعنون بالدين من خلال ما يرونه من انحرافات بعض المنتسبين للإسلام، كبدع الرافضة، وشطحات المتصوفة، وغيرهم ممن ينحرف به المسار، وينسب انحرافه إلى الدين.
ولاريب أن الدين براء من هذه التهم، فمن أراد الإسلام الحق فليطلبه من مصادره الصحيحة.
ج _ النظر في حال القائمين بالدين الحق: فالعدل يقتضي بأن ينظر في حال القائمين بالدين حق القيام، المنفذين لأوامره وأحكامه في أنفسهم وفي غيرهم كما كان الصدر الأول ومن تبعهم بإحسان.
فإن ذلك النظر يملأ القلب إجلالاً، والعين هيبة ووقاراً لهذا الدين وأهله المتمسكين به، العاملين بتعاليمه، مما يسر الناظرين، وتقوم به الحجة على المعاندين.
أما مجرد النظر إلى حال المسلمين التاركين لدينهم، الناكبين عن صراطه، الناكثين عهده فليس من العدل في شيء، بل هو الظلم بعينه؛ فالدين بريء من تبعة المنتسبين إليه دون أن يعملوا بما جاء به.
__________
(1) _ انظر تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله ص 474.(1/68)
د _ أن تأخر المسلمين ليس بسبب التمسك بالدين: بل إن العكس هو الصحيح؛ فلم يتأخر المسلمون عن ركب الحضارة إلا عندما فرطوا في دينهم، ونسوا حظاً مما ذكروا به؛ فهبطوا من عليائهم، ولقوا ذلاً بعد عز، وضعة بعد رفعة، وهبوطاً بعد شمم، وجهلاً بعد علم، وخمولاً بعد نباهة؛ فمن له أدنى بصيرة يعلم أن الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين والدنيا، ويحث على الاستعداد في تعلم العلوم النافعة، ويدعو إلى كل ما من شأنه تقوية العزائم، وإنهاض الهمم؛ كي تقوى الأمة، وتتبوأ مكانها اللائق بها.
وإنه لمن الظلم، والتعصب المقيت، وقصور النظر أن ينظر إلى حال المسلمين في هذه الأوقات، فيظن أنها هي الصورة التي تمثل الإسلام.
فإذا أراد المرء أن ينظر بعدل فلينظر إلى الصدر الأول وما يليه من عصور العز؛ عندما دانت أمم الأرض للمسلمين، فنشروا فيها الرحمة، ورفعوا في سوحها لواء العدل والحكمة، فهفت إليهم القلوب قبل الأبدان، وخضعت لهم الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
وهل رقت أمم الغرب الآن، وبزت غيرها في الصناعات والاختراعات المذهلة إلا بعد أن استنارت عقولهم بعلوم المسلمين بعد الحروب الصليبية؟
ألم تكن تلك الأمم في غابر الأزمان، وفي القرون التي يسمونها القرون المظلمة في غاية الجهل والوحشية والهمجية؟
ألم يكن المسلمون وقت قيامهم بهذا الدين هم سادات الخلق ؟
ألم تكن مدنية الإسلام هي المدنية الزاهرة الحقيقية؟ حيث كان روحها الدين، والعدل والرحمة والحكمة، وقد شملت بظلها الظليل وإحسانها المتدفقِ الموافِقَ والمخالفَ والعدو والصديق؟
فهل أَخَّرهم دينهم، وهل منعهم الرقي الحقيقي؟ وهل نفع الآخرين كفرهم بالله في تلك القرون الطويلة؛ إذ كانوا هم الأذلين المخذولين؟(1/69)
ثم لما قصَّر المسلمون في الاستمساك بدينهم، وتفرقوا شيعاً، وارتقى الكفار في علوم المادة وفنون الصناعات، ووصلوا إلى شأن لم يسبق له مثيل _ هل أغنت عنهم تلك المدنية، وذلك الترقي فتيلاً؟ ألم تكن حضارتهم قائمة على الظلم، والجشع، والاستبداد، والاستبعاد، والقتل، والنفي، والتشريد؟
فهذا أكبر برهان على أن الرقي المادي ينقلب ضرراً إذا خلا من الدين الحق؛ لأن من انفرطت عليه مصالح دينه انفرطت عليه مصالح دنياه تبعاً لذلك.
ثم إن الملاحدة لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرقي بسبب نبذهم للدين، وإنما أوصلهم إلى ذلك جدهم، واجتهادهم، وأخذهم بالأسباب التي مَنْ أخذ بها وصل إلى غايته.
وبهذا يُرَدُّ على من زعم أن نَبْذَ الدين سبب للترقي.
2_ العقل الصحيح: فالعقل الصحيح يدل دلالة قاطعة على بطلان الشيوعية؛ فأهل العقول الصحيحة متفقون على أن أفضل المغانم والمكاسب ما اكتسبته القلوب، واستنارت به العقول من العلوم الصحيحة، والمعارف النافعة والإيمان الصادق، والأخلاق العالية، التي من اتصف بها كمل سؤدده وتناهى فضله إن كان فرداً والتي تسعد بها الأمة، ويرتفع شأنها، ويهاب جنابها.
ومعلوم أن الشيوعية تناقض العقل الصحيح في أعظم القضايا، ألا وهي قولها بالإلحاد، وإنكار الخالق، ودعوى أن الطبيعة مُوْجِدَةٌ لنفسها، أو أنها وجدت صدفة.
ومن نظر إلى هذا العالم، وما أودع الله فيها من المخلوقات المتنوعة، والحوادث المتجددة أدرك أن لهذا الكون خالقاً مُحْدِثاً وهو الله _ عز وجل _.
فالقسمة العقلية في هذا الصدد لا تخرج عن ثلاثة أمور:
أ _ إما أن تُوْجَدَ هذه المخلوقات صدفة من غير مُحدث ولا خالق.(1/70)
وهذا محال ممتنع يجزم العقل ببطلانه؛ لأن كل من له عقل يعلم أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُحْدِث، ولا موجد، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات، وبين الكائنات بعضها مع بعض _ يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة.
ب _ وإما أن تكون هي المحدثة لنفسها الخالقة لها، وهذا محال ممتنع _ أيضاً _ فكل عاقل يجزم أن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم؛ فكيف يكون خالقاً؟!
وإذا بطل هذان القسمان تعين الثالث:
ج _ وهو أن هذه المخلوقات لها خالق خلقها، ومُحْدِثٌ أحدثها، وهو الرب العظيم الخالق لكل شيء، المدبر للأمور كلها.
وقد ذكر الله هذا التقسيم العقلي القاطع في سورة الطور، قال _ تعالى _:[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُون](الطور:35).
يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولاهم الذين خلقوا أنفسهم؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله _ تبارك وتعالى _.
فالمخلوق لابد له من خالق، والأثر لابد له من مُؤَثِّر، والمحدَثُ لابد له من مُحْدِث، والمُوْجَدُ لابد له من مُوجِد، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل.
هذه قضايا واضحة تُعرف في بداهة العقول، ويشترك في العلم بها جميع العقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية؛ فمن ارتاب بها فقد دل على اختلال عقله، وبرهن على سفهه وفساد تصوره(1).
__________
(1) _ انظر الرياض الناضرة لابن سعدي ص 194، ونبذة في العقيدة الإسلامية للشيخ محمد ابن عثيمين ص 11_15، ورسائل في العقيدة للكاتب ص 15_20.(1/71)
ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) الذي كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور، وكتاب (الإنسان لا يقوم وحده) لكريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، وتُرجم إلى العربية بعنوان: (العلم يدعو إلى الإيمان) _ يدرك أن العالِم الحقيقي لا يكون إلا مؤمناً، وأن العامي لا يكون إلا مؤمناً، وأن الإلحاد والكفر لا يكون إلا من المكابرين المعاندين، ومن بعض أنصاف العلماء وأرباع العلماء، ممن تعلم قليلاً من العلم المادي وخسر بذلك الفطرة المؤمنة ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان(1).
وبهذا يتبين لنا أن العقل يدل على وحدانية الله، وعلى بطلان دعاوى الشيوعية، وسفاهة عقولهم.
إن الشيوعية خرافة، وشرط الخرافة أن تلغي عقلك تماماً، وتستسلم لتعاليم سادتها.
يقول ريتشارد كروسمان في مقدمة كتاب (الصنم الذي هوى)(2): =فإن من يدخل الشيوعية يُخْضِع روحه لشريعة الكرملين(3)ويحس في ذلك شيئاً من الخلاصِ.
وإذا تم هذا فإن العقل _بدلاً من أن يعمل ويفكر بحرية_ يصبح عبداً للغاية التي لا تناقش، ولا تعارض، ويصبح إنكار الحقائق الواضحة شعيرة وعبادة+ (4).
__________
(1) _ انظر كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعات الأرض، أشرف على تحريره جون كلوفر مونسيما ترجمة د. الدمرداش عبدالمجيد سرحان، راجعه وعلق عليه د. محمد جمال الدين الفندي.
وانظر إلى كتاب:=العلم يدعو للإيمان+ تأليف كريسي موريسون،ترجمة محمد صالح الفلكي.والكتابان من منشورات دار القلم بيروت.
(2) _ سيأتي تعريف بالكتاب بعد قليل.
(3) _ الكرملين: يطلق على قصر الحزب الشيوعي الحاكم، ويطلق على الحكومية الروسية.
(4) _ الصنم الذي هوى ص 9.(1/72)
3_ الفطرة: فالفطرة تدل على بطلان الشيوعية؛ فكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه.
فالفطرة تدل على أن البشر جميعاً فطروا على عقيدة التوحيد، والاتجاه إلى الله _ سبحانه وتعالى _ ولم يفطروا على ماركسية، أو رأسمالية، أو داروينية، أو غيرها.
ثم إن الله _ عز وجل _ بعث الرسل، وأنزل الكتب لتقرير الفطرة؛ فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكمَّلَةِ بالشِّرْعَة المنزلة(1).
قال النبي ": =مامن مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه+(2).
وفي حديث عياض بن حمار ÷ يقول _ تعالى _: في الحديث القدسي: =وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم+(3).
ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه _ تبارك وتعالى _ عند الشدائد؛ فإذا ما وقع الإنسان _ أي إنسان حتى الكافر الملحد _ في شدة أو أحدق به خطر _ فإن الخيالات تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فطر عليه؛ ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه منادياً ربه؛ ليفرج كربته.
وصدق الله إذ يقول: [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ](العنكبوت: 65).
__________
(1) _ انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/371، وشفاء العليل لابن القيم ص 57_75، ونبذة في العقيدة الإسلامية ص11.
(2) _ رواه البخاري 2/97، ومسلم (2658).
(3) _ رواه مسلم(2865).(1/73)
ثم إنه لو قدِّر لأي إنسان أي يتجرد من كل عقيدة، ويصير قلبه خالياً من كل حق وباطل، ثم ينظر في العقائد بحق وعدل وإنصاف _ لَعَلِمَ علم اليقين أن عقائد الشيوعيين أحط العقائد وأخسها، ولاتَّضح له الفرق العظيم، والبون البعيد بين عقائد الإسلام الصحيحة وبين سائر العقائد وخصوصاً عقائد الملاحدة الشيوعيين، فمتى علم المنصف ذلك عرف أنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
وهكذا تشهد الفطرة على بطلان الشيوعية في أعظم القضايا وهي مسألة الإيمان بالله.
إضافة إلى ذلك فإن بقية دعاوى الشيوعية تنافي الفطرة، ومن ذلك _ على سبيل المثال _ قولهم بإلغاء الملكية الفردية.
يقول الشيخ عبد العزيز البدري ×: =وأما إلغاء الملكية الفردية جزئياً وبعبارة _ كما يقولون _ تحديد التملك الفردي _ فإن الدارس لهذا القول يجد أنه يعني تحديد التملك الفردي بالكمية والمقدار.
وهذا _ أيضاً _ مناقض للفطرة البشرية، ومخالف للأحكام الشرعية كما تفهم من نصوص الشرع؛ حيث إن هذا التحديد والإلغاء الجزئي يَحُدُّ من نشاط الفرد، ويعطل جهوده، ويقتل عبقريته ومواهبه في حسن الإنتاج والإبداع فيه، وبالتالي يقلل من إنتاجه ويوقفه عند نشاط معين لا يتجاوزه.
وبذلك يحرم من مواصلة نشاطه الذهني والجسمي، وعند ذاك تخسر الأمة بمجموعها كفاءة الأفراد المجدين+(1).
وقال الدكتور محمد محمد حسين × بعد أن ذكر شيئاً من مساوئ الشيوعية: =وليس ها هنا مجال الرد على دعاواهم، ويكفي أن نقول في إيجاز: إن دعوتهم تنزل بالنوع البشري إلى الحيوانية؛ لأنها تهمل الجانب الروحي في الإنسان؛ الذي هو به إنسان؛ فهي خرافة لا سبيل إلى تحقيقها؛ لأنها مخالفة للناموس؛ فالناس متباينون: قوة بدن، وذكاءاً، وخلقاً، وفطرة.
__________
(1) _ حكم الاشتراكية في الإسلام ص82.(1/74)
والله _سبحانه وتعالى_ يقول في محكم كتابه: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] (الأنعام: 165).
ويقول _ جلت قدرته _: [وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ](النحل: 71).
ويقول: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ](الزخرف: 32_ 35) (1).
__________
(1) _ الإسلام والحضارة الغربية د. محمد محمد حسين ص 183_184.(1/75)
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي×: =دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا كقوله _ تعالى _ [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ] (الزخرف:32) وقوله:[وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ](النحل:74)، ونحو ذلك من الآيات _ على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سُنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر:43)(1).
قال ×: =وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم _ أمر باطل، لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاؤوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيدهم يعلفون ببطاقة كما تعلف الحمير.
__________
(1) _ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي7/246.(1/76)
وقد عَلِم الله _ جل وعلا _ في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى _ جل وعلا _ عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأَوْعَدَ من لم ينته عن ذلك بقوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً](النساء:135)(1).
4_ أن الأمور المدركة لا تحصر بالمادة وحدها: فالملاحدة لما آمنوا بالمادة وحدها حصروا الأمور المدركة في دائرة ضيقة؛ فما أدركوه في حواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه نفوه وأنكروه.
ومن أجل ذلك أنكروا علوم الغيب، وما جاءت به الرسل، وما أنزلت به الكتب.
وهذا الزعم باطل، شرعاً، وعقلاً، وتجربة؛ ذلك أن الأمور المدركة لا تقتصر على ما أثبته الحس؛ فهناك مدارك أخرى؛ فهناك الأخبار الصادقة، وأعلاها وأحقها خبر الله ورسله؛ ففي ذلك تبيان لكل شيء.
وإذا نسبت العلوم المدركة بالحس إلى ما جاءت به الرسل من العلوم _ كانت كقطرة في بحر لجي.
ثم إن هناك أشياء يؤمن بها الناس وإن لم يشاهدوها كالروح مثلاً؛ فهي لا ترى ومع ذلك لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؛ فهل ينكر الروح أحد بحجة أنها لا تدخل في المحسوس؟
وكذلك الكهرباء؛ فهل شاهدها أحد؛ إنما يشاهد الناس أثرها، أتكون الكهرباء أيسر أن نؤمن بها وأقرب إلى أن نصدق بها من أن نؤمن بالله الذي أبدعها ضمن ما أبدع من أسرار هذا الكون ؟
__________
(1) _ أضواء البيان 7/246_247.(1/77)
ثم إن الملاحدة ينقضون مبدأهم في حصر الإدراك بالمحسوس، والتجربة؛ فهم يثبتون تجارب ونظريات ثم تحصل تجارب ونظريات أخرى لهم تنفي ما أثبتوه، وتثبت ما نفوه(1).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي × ضمن ردوده على الملاحدة: =أن يقال لهؤلاء الملحدين المنكرين لأمور الغيب التي أخبر بها الله ورسوله: لم أنكرتموها؟
فيجيبون بأنها لم تدخل تحت علومنا التي بنيناها على إدراكات الحواس والتجارب، فيقال لهم: قدروا أنها لم تدخل في ذلك؛ فإن طرق العلم اليقينية كثيرة، وأكثرها لا تدخل تحت إدراكاتكم؛ فإن إدراكاتكم قاصرة حتى باعترافكم فإنكم تعترفون أن مدركاتكم خاصة ببعض المواد الأرضية وأسبابها وعللها، ومع ذلك لم تدركوها كلها باعترافكم وأعمالكم؛ فإنكم لا تزالون تبحثون وتعملون التجارب التي تنجح مرة، وتخفق مرات؛ فإذا كانت هذه حالكم في الأسباب والمواد الأرضية التي يشترك بنو آدم في إدراكها، ويفترقون في مقدار الإدراك _ فكيف تنفون بقية العوالم عوالم السماوات وعوالم الغيب؟ وما هو أعظم من ذلك من أوصاف الرب وعظمته، وأنتم لم يتصل شيء من علومكم بذلك؟ فإن هذا النفي باطل بإجماع العقلاء، وإنما هذا مكابرة+(2).
5_ كثرة التناقض: فالتناقض عند الشيوعيين لا يكاد يحصر وذلك أمر لا بد منه؛ فالمبدأ باطل من أساسه؛ فلابد من التناقض؛ فإذا تهاوى الأساس تداعت الأركان.
فالحق يشبه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، أما الباطل فيتناقض، ويهدم بعضه بعضاً، وتجد أهله متناقضين مختلفين، بل تجد الواحد منهم متناقضاً مع نفسه، متهافتاً في أقواله(3).
ومن الأمثلة على تناقضهم دعواهم محاربة الدين، وقولهم: إن الدين أفيون الشعوب.
ومع ذلك فإن روسيا أول من اعترف بدولة دينية تحكمها التوراة المحرفة، وقامت على أساس ديني، وهي دولة إسرائيل.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 142.
(2) _ الأدلة والقواطع والبراهين ص 322.
(3) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 348.(1/78)
كذلك لما اشتد ضغط هتلر على روسيا إبان الحرب العالمية الثانية دعا ستالين إلى فتح المساجد والمعابد للصلاة، والعبادة [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ](العنكبوت:65).
ومن أمثلة تناقضهم قولهم بالحتميات، وأن الأشياء تتطور ثم تزول سواء كانت فكرة أو مبدأ، أو غير ذلك.
وفي الوقت نفسه يزعمون بأن الشيوعية هي نهاية المطاف والفردوس المنتظر.
فإذا كانوا يقولون بالحتميات فإن الشيوعية داخلة فيما يقولون؛ لأنها مبدأ وفكرة، ومصيرها الحتمي الزوال، وهو ما حدث بالفعل؛ فأين الفردوس المنتظر؟
ومن الأمثلة على تناقضهم زعمهم أنهم يحاربون الطبقية، ومع ذلك فإن الطبقية في المجتمع الشيوعي قائمة على أشدها، وقد مر بنا كيف كان العمال وعامة الناس في المجتمع الشيوعي يعيشون عيشة الشظف في الوقت الذي يتمتع أعضاء الحزب الشيوعي بأقصى درجات الترف والنعيم.
6_ الإخفاق في التطبيق: فهذا دليل على بطلانها، ولقد مر بنا كيف كان حال المجتمع الشيوعي بعد تطبيق الشيوعية.
لقد عجز الشيوعيون عن تطبيق المساواة، وعجزوا عن إسعاد المجتمع، وحل مشكلاته؛ فكلما خرجوا من نفق دخلوا في نفق آخر أشدَّ حلوكة، وكلما حلوا مشكلة نتج عنها مشكلات، وكلما ولوا وجوههم وجهة تبين فيها النقص والخلل والاضطراب.
[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](النساء:82).
أين هذا من دين الإسلام، الذي هو الطريق الوحيد لحل جميع المشكلات، سواء مشكلات العلم، أو مشكلات الفقر، أو مشكلات السياسة أو غيرها من المشكلات.
فمن المشكلات التي اضطرب فيها الخلق مشكلة العلم؛ فإنه إذا صح صحت العقائد والأفكار، وصلحت الأعمال المبنية عليه.(1/79)
وشريعة الإسلام حضت على العلم، بل فرضت على العباد أن يتعلموا جميع العلوم النافعة في أمور دينهم ودنياهم، وتكفلت مع ذلك ببيان العلوم وتفصيلاتها.
أما علوم الدين فقد فصلتها تفصيلاً بعد ما أصلتها تأصيلاً، وأما العلوم الدنيوية فقد أسست لها الأصول والقواعد.
وبهذا يسير العلم الصحيح على الطريق المستقيم؛ فيجتمع علم الدين إلى علم الدنيا، وما يتعلق بالروح إلى ما يتعلق بالجسد.
قال _ تعالى _: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...](الإسراء:9)، وقال: [وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ](الأحزاب:4).
فجمع _ عز وجل _ في هاتين الآيتين بين علم المسائل الصحيحة وهو الحق النافع، وبين علم البراهين وهو هداية السبيل الموصلة إلى كل علم، المبرهنة على جميع المعارف.
وكذلك مشكلات الغنى والفقر؛ فالدين قد حلها حلاً تتم به الأمور، وتحصل الحياة الطيبة؛ فكما أمر بسلوك الطرق المشروعة في أسباب الرزق المناسبة لكل زمان ومكان وشخص _ فكذلك أمر بالاستعانة بالله في تحصيلها، وأن تجتنب الطرق المحرمة، وأن يقوم العباد بواجبات الغنى المتنوعة من زكاة وصدقة، ونحوها.
وكذلك عند حلول الفقر أمر بالصبر، وترك التسخط، مع السعي في طلب الرزق بأنواع المكاسب والأعمال ونهى عن الكسل المضر بالدين والدنيا.
ومع أمره بالصبر وفعل الأسباب الدافعة للفقر _ نهى عن ظلم الخلق في دمائهم وأعراضهم، وأخذ حقوقهم بغير حق كما هو دأب الفقراء الذين لا دين لهم.
ومن ذلك مشكلات السياسات الكبار والصغار؛ فالشيوعية تقوم على البطش والاستبداد.
أما الإسلام فقد أمر بحلها، وذكر الطرق الموصلة إلى ذلك بفعل ما توضحت مصلحته، وترك ما تبينت مفسدته، والمشاورة في الأمور المشكلة والمشتبهة.(1/80)
وبالجملة فما من مشكلة دقت أوجلت إلا وفي الشريعة الإسلامية المحضة حلها بما تصلح به الأحوال، وتستقيم في جميع الوجوه(1).
7_ قواعد الأخلاق العامة: فهي ترد على دعاوي الشيوعية وتبطلها؛ فأين الشيوعية من الصدق في الأقوال والأفعال؟ وأين هي من النصيحة والأمانة، والبر، والصلة، والقيام بحقوق الجيران، والأصحاب والمعامَلين، ومن يتصل الإنسان بهم على اختلاف طبقاتهم ؟.
وأين هي من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء، والبغي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟.
وأين هي من الوفاء بالعهود، والحقوق، والعقود؟.
إنها دعوة تقوم على العداوات بين الطبقات وتأليب بعضهم على بعض.
والمجتمعُ الإنساني المطمئن لا يقوم إلا على التوادد والتراحم، والتآخي(2).
ومن هنا يستحيل أن تتزكى النفوس، وتتهذب الأخلاق بعلوم المادة؛ فكل إناء بما فيه ينضح، والتجارب أكبر شاهد على ذلك؛ فمع تطور علوم الملاحدة عجزوا كل العجز عن تهذيب النفوس وإصلاحها.
8_ سيرة أرباب الشيوعية: فلقد مر بنا شيء من سيرة أرباب الشيوعية وأساطينها، وما كانوا عليه من الشذوذ والفساد، والتسلط والطغيان، فكم هدموا من فضائل، وكم أقاموا من شرور ورذائل، حتى هبطوا بالبشرية إلى أسفل سافلين، فَشَقُوا وأَشْقَوا، وضلوا وأضلوا؛ فماذا يرجى من مذهب هؤلاء أربابه ومُنَظِّروه؟
ثم إن أكبر الدلائل على رشد الرشيد، وسفه السفيه تصرفاتُه، ونتائج أعماله.
وهذه آثار الشيوعيين تدل عليهم؛ فأين سير هؤلاء من سير الأنبياء _ عليهم السلام _ وأتباعهم؛ حيث هَدَوا البشرية إلى كل عقيدة صالحة، وإلى كل خلق جميل، ونهوا عن ضد ذلك؛ فانتشرت الرحمة، وعم الصلاح بسبب ما جاؤوا به، بعكس الشيوعيين تماماً بتمام.
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 346.
(2) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 337 والإسلام والحضارة الغربية ص 184.(1/81)
9_ كثرة الخلافات بين الشيوعيين: سواء بين أرباب الشيوعية أو بين دول المعسكر الشيوعي، مما يدل على بطلانها، وزيفها وقد مر شيء من ذلك فيما سبق.
10_ رجوع كثير من كتاب الشيوعية عنها، واعترافهم ببطلانها:
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب (الصنم الذي(1) هوى) ذلك الكتاب الذي اجتمع على تأليفه _ دون موعد _ ستة من كبار كتاب الغرب، آمنوا بالشيوعية، ثم نفضوا أيديهم منها يوم أن انكشفت لهم حقيقتها.
وإليك نماذج من بعض ما قالوه عن الشيوعية:
أ _ يقول آرثر كستلر (2) _ بعد تجربته مع الشيوعية ودخوله فيها بعد خروجه من السجن _: = إن الدرس الذي يتعلم الإنسان من خبرة كهذه لا يكاد الإنسان يضعه في كلمات حتى يبدوا أمراً عادياً؛ لقد تعلمت أن الإنسان هو الحقيقة، أما الإنسانية فتجريد، وأن الناس لا يمكن أن يعاملوا على أنهم وحدات في عملية حساب سياسية؛ لأنهم يتصرفون كرموز الصفر، واللانهائي التي تعطل كل العمليات الرياضية، وأن الغاية لا تبرر الواسطة إلا في حدود ضيقة إلى أبعد الحدود، وأن علم الأخلاق ليس شيئاً تابعاً للمنفعة الاجتماعية، وأن البر ليس عاطفة بورجوازية تافهة، بل هو القوة الجاذبة التي تمسك المدنية في مدارها.
لقد كان كل ما تعلمته يتناقض مع العقيدة الشيوعية التي آمنت بها+ (3).
__________
(1) _ نقل الكتاب إلى العربية الأستاذ فؤاد حمودة المدرس بجامعة دمشق، والكتاب من منشورات المكتب الإسلامي ط1 _ 1380هـ _1960م .
(2) _ مرت ترجمته ص502.
(3) _ الصنم الذي هوى ص 82.(1/82)
ب _ ويقول لويس فيشر(1) بعد تجربته مع الشيوعية: =إن تأييدي السابق للنظام السوفيتي قادني إلى خطأ آخر حين ظننت أن نظاماً يقوم على قاعدة (الغاية تبرر الواسطة) يمكن أن يخلق عالماً أفضل، أو إنساناً أفضل؛ إن الواسطة الفاجرة لا تؤدي إلا إلى غاية فاجرة، وأفرادٍ فجرة سواء في النظام البلشفي أو الرأسمالي+ إلى أن قال: =إن الدكتاتورية ترتكز على نهر من الدماء، وبحر من الدموع، وعالم من الآلام.
وكلها نتائج لوسائلها القاسية؛ فكيف تستطيع _ إذن _ أن تجلب الفرح، أو الحرية، أو السلام الداخلي أو الخارجي؟
كيف يمكن للخوف، والسطوة، والأكاذيب والبؤس أن تخلق إنساناً أفضل.
إن السنوات التي قضيتها مؤيداً للنظام السوفيتي علمتني أنه لاينبغي لرجل يحب البشرية ويحب السلام أن يؤيد الدكتاتورية+(2).
__________
(1) _ لويس فيشر: ولد في فيلادلفيا عام1896م واشتغل بالتدريس بضع سنوات واحترف الصحافة، و أرسلته الـ =نيويورك بوست+ إلى برلين عام 1921م وبعدها قضى خمسة وعشرون عاماً متنقلا في مهمات بين أوروبا وآسيا، ورغم أنه لم ينضم إلى الحزب الشيوعي أبداً إلا أنه أصبح نصيرا ً للاتحاد السوفييتي، ثم أصبح نصيرا لأسبانيا الجمهورية التي دافع عنها خلال الحرب الأهلية، ومن بين مؤلفاته (السوفيتون في الشؤون العالمية) و(الناس والسياسية) و(الخطر العظيم) و(غاندي وستالين) انظر الصنم الذي هوى ص 238.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 277.(1/83)
ج _ وهذا ستيفن(1) سبندر يقول بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي: =إن الشيوعية هي الإيمان بأن في الإمكان تغيير المجتمع عن طريق تحويل الرجال إلى آلات تقوم هي بتغيير المجتمع +(2).
وهكذا يتبين لنا بطلان الشيوعية جملة وتفصيلاً.
ثانياً: حكم الانتماء إلى الشيوعية _ فتوى المجمع الفقهي _:
وبعد أن تبين لنا أن الشيوعية مذهب كفري باطل، بل يعد أحط المذاهب الكفرية على مدار التاريخ_ نأتي إلى حكم الانتماء إلى ذلك المذهب من خلال فتوى المجمع الفقهي الإسلامي، فلقد عرض موضوع الشيوعية على مجلس المجمع في دورته الأولى المنعقدة في 10_ 17/8/1398هـ.
وبعد أن استعرض المجلس ذلك الموضوع أصدر فيه قراراً بيَّن فيه حكم الشيوعية والانتماء إليها، وهذا نصه(3) :
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي درس فيما درسه من أمور خطيرة (موضوع الشيوعية والاشتراكية) وما يتعرض له العالم الإسلامي من مشكلات الغزو الفكري على صعيد كيان الدول، وعلى صعيد نشأة الأفراد وعقائدهم، وما تتعرض له تلك الدول والشعوب معاً من أخطار تترتب على عدم التنبه إلى مخاطر هذا الغزو الخطير.
__________
(1) _ ستيفين سبندر ولد في عام 1909م وأبوه الكاتب إدوارد هارولد سبندر، وقد تعلم في سويسرا فترة ثم في أكسفورد، حيث بدأ بالاشتراك مع =ديا ليسو+، و =أودن+ بكتابة الشعر، وبعد ذلك اشتغل بالحركة السياسية، ونشر كتاب خطوة وراء مذهب الأحرار في عام 1937م ثم انضم بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي لفترة قصيرة ،انظر الصنم الذي هوى ص 282.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 333.
(3) _ قرارات مجلس المجمع الفقهي ص33.(1/84)
ولقد رأى المجمع الفقهي أن كثيراً من الدول في العالم الإسلامي تعاني فراغاً فكرياً، وعقائدياً خاصة أن هذه الأفكار والعقائد المستوردة قد أُعِدَّت بطريقة نفذت إلى المجتمعات الإسلامية، وأحدثت فيها خللاً في العقائد، وانحلالاً في التفكير والسلوك، وتحطيماً للقيم الإنسانية، وزعزعة لكل مقومات الخير في المجتمع.
وإنه ليبدو واضحاً جلياً أن الدول الكبرى على اختلاف نظمها واتجاهها قد حاولت جاهدة تمزيق شمل كل دولة تنتسب للإسلام؛ عداوة له، وخوفاً من امتداده، ويقظة أهله.
لذا ركزت جميع الدول المعادية للإسلام على أمرين مهمين: هما العقائد والأخلاق؛ ففي ميدان العقائد شجعت كل من يعتنق المبدأ الشيوعي المعبر عنه مبدئياً عند كثيرين بالاشتراكية، فجندت له الإذاعات والصحف، والدعايات البراقة والكتّاب المأجورين، وسمَّته حيناً بالحرية، وحيناً بالتقدمية، وحيناً بالديمقراطية، وغير ذلك من الألفاظ.
وسَمَّتْ كل ما يضاد ذلك من إصلاحات ومحافظة على القيم والمثل السامية والتعاليم الإسلامية _ رجعية، وتأخراً وانتهازية، ونحو ذلك.
وفي ميدان الأخلاق دعت إلى الإباحية، واختلاط الجنسين، وسمت ذلك _أيضاً_ تقدماً، وحرية، فهي تعرف تمام المعرفة أنها متى قضت على الدين والأخلاق فقد تمكنت من السيطرة الفكرية والمادية والسياسية.
وإذا ما تم ذلك لها تمكنت من السيطرة التامة على جميع مقومات الخير والإصلاح، وصرَّفتها كما تشاء، فانبثق ذلك الصراع الفكري، والعقائدي والسياسي، وقامت بتقوية الجانب الموالي لها، وأمدته بالمال، والسلاح والدعاية؛ حتى يتمركز في مجتمعه، ويسيطر على الحكم، ثم لا تسأل عما يحدث بعد ذلك من تقتيل وتشريد، وكبت للحريات، وسجن لكل ذي دين، أو خلق كريم.(1/85)
ولهذا لما كان الغزو الشيوعي قد اجتاح دولاً إسلامية لم تتحصن بمقوماتها الدينية والأخلاقية تجاهه، وكان على المجمع الفقهي في حدود اختصاصه العلمي والديني أن ينبه إلى المخاطر، والتي تترتب على هذا الغزو الفكري، والعقائدي والسياسي الخطير الذي يتم بمختلف الوسائل الإعلامية والعسكرية وغيرها _ فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة يقرر ما يلي:
يرى مجلس المجمع لفت نظر دول وشعوب العالم الإسلامي إلى أنه من المسلَّم به يقيناً أن الشيوعية منافية للإسلام، وأن اعتناقها كفر بالدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهي هدم للمثل الإنسانية، والقيم الأخلاقية، وانحلال للمجتمعات البشرية.
والشريعة المحمدية هي خاتمة الأديان السماوية، وقد أنزلت من لدن حكيم حميد؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي نظام كامل للدولة سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، واقتصادياً، وستظل هي المعول عليها _ بإذن الله _ للتخلص من جميع الشرور التي مزقت المسلمين، وفتت وحدتهم، وفرقت شملهم، سيما في المجتمعات التي عرفت الإسلام، ثم جعلته وراءها ظهرياً.
لهذا وغيره كان الإسلام بالذات هو محل هجوم عنيف من الغزو الشيوعي الاشتراكي الخطير؛ بقصد القضاء على مبادئه، ومثله، ودوله.
لذا فإن المجلس يوصي الدول والشعوب الإسلامية أن تتنبه إلى وجوب مكافحة هذا الخطر الداهم بالوسائل المختلفة، ومنها الأمور الآتية:
1_ إعادة النظر بأقصى السرعة في جميع برامج ومناهج التعليم المطبقة حالياً فيها بعد أن ثبت أنه قد تسرب إلى بعض هذه البرامج والمناهج أفكار إلحادية وشيوعية مسمومة مدسوسة تحارب الدول الإسلامية في عقر دارها، وعلى يد نفرٍ من أبنائها من معلمين، ومؤلفين، وغيرهم.(1/86)
2_ إعادة النظر بأقصى السرعة في جميع الأجهزة في الدول الإسلامية، وبخاصة في دوائر الإعلام والاقتصاد والتجارة الداخلية، والخارجية وأجهزة الإدارات المحلية من أجل تنقيتها وتقويمها، ووضع أسسها على القواعد الإسلامية الصحيحة التي تعمل على حفظ كيان الدول والشعوب، وإنقاذ المجتمعات من الحقد، والبغضاء وتنشر بينهم روح الأخوة، والتعاون، والصفاء.
3_ الإهابة بالدول والشعوب الإسلامية أن تعمل على إعداد مدارس متخصصة، وتكوين دعاة أمناء؛ من أجل الاستعداد لمحاربة هذا الغزو بشتى صوره، ومقابلته بدراسات عميقة ميسرة لكل راغب بالاطلاع على حقيقة الغزو الأجنبي ومخاطره من جهة، وعلى حقائق الإسلام وكنوزه من جهة أخرى.
ومن ثمَّ فإن هذه المدارس، وأولئك الدعاة كلما تكاثروا في أي بلد إسلامي يرجى أن يقضوا على هذه الأفكار المنحرفة الغريبة.
وبذلك يقوم صف علمي عملي منظم واقعي؛ من أجل التحصن ضد جميع التيارات التي تستهدف هذه البقية من مقومات الإسلام في نفوس الناس.
كما يهيب المجلس بعلماء المسلمين في كل مكان، وبالمنظمات والهيئات الإسلامية في العالم أن يقوموا بمحاربة هذه الأفكار الإلحادية الخطيرة التي تستهدف دينهم، وعقائدهم، وشريعتهم، وتريد القضاء عليهم وعلى أوطانهم وأن يوضحوا للناس حقيقة الاشتراكية، والشيوعية، وأنها حرب على الإسلام.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الرئيس/ عبدالله بن محمد بن حميد.
نائب الرئيس/ محمد بن على الحركان. ...
الأعضاء:
1_ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. ... 2_ محمد محمود الصواف.
3_ صالح بن عثيمين. ... ... 4_ محمد بن عبد الله بن سبيل.
5_ محمد رشيد قباني. ... ... 6_ مصطفى الزرقاء.
7_ محمد رشيدي. ... ... ... 8_ عبد القدوس الهاشمي الندوي.
9_ أبو بكر جومي.
وفي نهاية الحديث عن الشيوعية خلال ما مضى من صفحات _ هذا ملخص لأهم ما جاء في تلك الصفحات:(1/87)
1_ كلمة الشيوعية في اللغة نسبة إلى الشيوع، وهي مأخوذة من مادة شيع، وهذه المادة تدور حول عدة معانٍ، فتطلق على الظهور والانتشار والذيوع، والعموم، والشراكة والتفرق، والافتراق.
2_ الشيوعية في الاصطلاح العام: نظام يقوم على إلغاء الملكية الفردية، وعلى حق الناس في الاشتراك في المال، والنساء، وسائر المكتسبات والثروات.
3_ الشيوعية فكرة قديمة ظهرت في التاريخ أكثر من مرة على اختلاف في تطبيقها، والدعوة إليها؛ فلقد دعا أفلاطون إلى شيوعية المال والنساء، وقال بالشيوعية مزدك حيث دعا إلى اشتراك الناس بالمال والنساء، وتسمى حركته المزدكية، كما دعا إلى الشيوعية القرامطة الباطنية حيث دعوا إلى الإباحية والاشتراك في النساء، ثم توالت الدعوات على أيدي بعض الأفراد من الكتاب إلى أن ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة.
4_ الشيوعية الماركسية حركة يهودية أسسها كارل ماركس في القرن التاسع عشر الميلادي وطبقها من جاء بعهده من زعماء الشيوعية، وتقوم على الإلحاد، وإلغاء الملكية الفردية، وتنظر إلى الحياة من منظور مادي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها بالحديد والنار، وبكل ما أوتيت من وسائل.
5_ من أشهر شخصيات الماركسية كارل ماركس، وفريديك إنجلز، ولينين، وستالين، وتروتسكي، وخروتشوف، وبريجنيف، وأندربوف، وجورباتشوف، الذي انهارت على يده الشيوعية.
6_ قامت الشيوعية لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالمجتمع الذي نشأت فيه، ومنها ما يعود إلى شخصية مؤسسيها، ومنها أسباب خارجة أخرى.
7_ من أسباب قيام الشيوعية: الطغيان الكنسي، ومظالم النظام الرأسمالي، والخواء الروحي، والمكر اليهودي، والجهل بدين الإسلام، والهالة الإعلامية للشيوعية.
8_ الشيوعية تنتشر في أماكن كثيرة من العالم سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول.
9_ تقوم الشيوعية على معتقدات باطلة، وأصول وأسس واهية، لايقرها عقل صحيح، ولا فطرة سليمة، فضلاً عن النقل الصحيح.(1/88)
10_ أخلاق الشيوعية تقوم على المصالح؛ فالغاية تسوغ الواسطة لديهم.
11_ من أخلاقهم المنحطة: البطش، والجبروت والخيانة، والغدر، والظلم، والتفنن في التعذيب، والتعطش لسفك الدماء.
12_ قامت الشيوعية لأهداف متعددة أهمها خدمة المصالح اليهودية، ونشر الإلحاد، وبث الإباحية، والقضاء على الحياة الأسرية، ومعارضة الملكية الفردية.
13_ للشيوعية وسائل متعددة متنوعة توصلوا من خلالها إلى تحقيق أهدافهم.
14_ الشيوعية تقف ضد الإسلام، وتعاديه أشد المعاداة، ولها طرق عديدة في حرب الإسلام وأهله، بهدف القضاء المبرم على الإسلام، أو الحد من انتشاره.
15_ قامت الشيوعية بأعمال فظيعة، ومجازر رهيبة، وحصل للمسلمين بسببهم نكبات عديدة.
16_ تسللت الشيوعية إلى بلاد المسلمين واعتنقها ودعا إليها فئام من المسلمين بسبب الدعاية القوية، وانحراف كثير من المسلمين عن دينهم، وتقصيرهم في الدعوة إليه، والجهادِ في سبيل الله، وبسبب الهزيمة النفسية، وكثرة الخلافات، وانتشار البدع والخرافات، وبسبب سقوط الخلافة الإسلامية، وخيانة العملاء، وتركيز الغرب على إفساد المرأة والتعليم والإعلام في بلاد الإسلام إلى غير ذلك من الأسباب.
17_ لما قامت الشيوعية أسفرت عن وجهها الكالح، فلم تطبق ما دعت إليه من العدل والمساواة، وغير ذلك، وإنما كانت دعاواهم مجرد شعارات براقة يخدعون بها السُّذَّج؛ فلقد وقعوا في الطبقية، والتسلط، والاستبداد.
18_ عاش المجتمع الشيوعي بعد التطبيق عيشة الخوف والرعب؛ حيث التجسس والرقابة الصارمة، وغياب شموس الحرية، وإهدار كرامة المرأة، وتخبط نظام الأسرة.
19_ للإلحاد آثار وبيلة منها القلق، والأنانية، وحب الجريمة، والانطلاق في الإباحية.
20_ لقد أخفقت الشيوعية في التطبيق وقادت البشرية إلى ويلات إثر ويلات، ونزلت بالمستوى البشري إلى أحط الدركات.
21_ وبعد ذلك سقطت الشيوعية وهوت من عليائها.(1/89)
22_ لم يكن سقوط الشيوعية مفاجأة لمن سبر أغوارها، وعرف أطوارها.
23_ فساد الشيوعية يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها، وأدلة الشرع، والفطرة، والواقع تنقض مبادئ الشيوعية.
24_ الشيوعية مذهب فكري منافٍ للإسلام، واعتناقها كفر بالله، وبالدين الذي ارتضاه لعباده.
هذا ملخص لأهم ما جاء في هذا البحث.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
فلما تبين بطلان الشيوعية ومدى ما أحدثته من بلايا، وما جرته على البشرية من رزايا _ يتجلى لنا مدى حاجة البشرية، بل ضرورتها إلى الدين الحق، والمنهج القويم، الذي يكفل لها السير على طريق مستقيمة واضحة، تجد فيها السعادة، وتتحقق الراحة.
ولا ريب أن ذلك لا يوجد إلا في الإسلام الذي أكمله الله وارتضاه لعباده؛ فلن تجد البشرية الراحة، ولن تتحقق لها السعادة إلا بالأخذ به، وتطبيقه على جميع مناحي الحياة.
ومما يؤكد ذلك ويبرهن عليه _ ما خص الله به دين الإسلام من الخصائص التي لا توجد في دين أو مذهب غيره.
ومن تلك الخصائص التي تثبت تميز الإسلام، وتفرده، ومدى حاجة البشرية إليه ما يلي:
1_ أنه جاء من عند الله، والله _ عز وجل _ أعلم بما يصلح عباده [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ](الملك:14).
2_ أنه يبين للإنسان بدايته، ونهايته، والغاية التي خلق من أجلها، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] (النساء:1).
وقال: [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] (طه: 55).
وقال: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56).(1/90)
3_ أنه دين الفطرة، فلا يتنافى معها، قال _ تعالى _: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ] (الروم:30).
قال العلماء فطرة الله: دين الإسلام(1).
4_ أنه دين العدل والأخوة الصادقة، فلا ظلم فيه، ولا عنصرية ولا طبقية، ولا تعصب للون، أو جنس، أو عرف [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم] (الحجرات: 13).
5_ أنه يعترف بالعقل ويدعو لإعماله، وفي الوقت نفسه يضع له غاية يقف عندها؛ حتى لا يتيه فيما لا طاقة له به.
6_ أنه يعترف بالعواطف الإنسانية ويوجهها الوجهة الصحيحة.
7_ أنه لا ينافي العلم الصحيح، بل يأمر به، ويحث عليه.
8_ أنه يلبي حاجات الإنسان ويجمع بين مطالب الروح، والعقل، والجسد.
9_ أن الله تكفل لمن أخذ به بالسعادة والعزة والنصر، والتمكين فرداً كان أو جماعة، قال _ تعالى _: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون](النحل:97).
وقال: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين](المنافقون:8)، وقال:[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ](غافر:51).
وقال: [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ](الصافات:173).
10_ أن فيه حلاً لجميع المشكلات، قال _ تعالى _: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](الأنعام: 38).
11_ اشتمال شريعة الإسلام بنصوصها وأصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع.
12_ أن شريعته أحكم ما تساس به الأمم، وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح، أو التنازع في الحقوق.
13_ عموم الإسلام وصلاحه لكل زمان، ومكان، وأمة، بل لا تصلح الأحوال إلا به.
__________
(1) _ انظر شفاء العليل ص 573, وانظر درء تعارض العقل والنقل 8/376.(1/91)
14_ أنه دين المحبة، والاجتماع، والألفة والرحمة.
15_ أنه دين العمل، والجد، والحزم.
16_ أنه أبعد ما يكون عن التناقض [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا](النساء:82).
17_ أنه يحمي معتنقيه من الفوضى، والضياع والتخبط، ويكفل لهم الراحة النفسية والفكرية.
18_ أنه يزكي العلوم والعقول، والنفوس والأخلاق.
وبالجملة فهو دين الكمال والرفعة، ودين الهداية والسمو؛ فهو يهدي العقول إلى ما تغفل أو تقصر عنه من وجوه الإصلاح، وهو الذي يقوي عزم الإنسان على القيام بالأعمال الجليلة، ويحثه على أن يتحرى بأعماله غاية ما يستطيع من الاتقان.
وإذا رأينا من المنتمين إليه، وهناً في العزم، أو صغراً في الهمة، أو انحرافاً عن سواء السبيل _ فالدين بريء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها.
ورحم الله الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي إذ يقول: =إنما مكنت للإسلام طبيعته ويسره، ولطف مدخله على النفوس،وملاءمته للفطر والأذواق، والعقول.
ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال _ لطبَّق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزة، والسيادة حتى يملكوا به الكون كله+(1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من هذا الكتاب يوم السبت 19/8/1412هـ ثم أعيد النظر فيه مرة أخرى يوم الأربعاء 8/9/1418هـ ثم أعيد النظر فيه ثالثة يوم الأربعاء 22/8/1422هـ.
__________
(1) _ آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3/273.(1/92)