رسول الله صلى الله عليه و سلم يوصي من يبعثه من جيوش المسلمين للجهاد بالوصايا المشهورة ومنها أن لا تمثلوا
وأما قوله قيل ويحرم رد الأسير حربيا فلا وجه له فقد رد رسول الله صلى الله عليه و سلم أسرى بدر وهم باقون على كفرهم وقد خير الله عباده بين المن والفداء كما في قوله فإما منا وبعد وإما فداء ومقتضى جواز أخذ الفداء أن يرجعوا على دينهم الذي كانوا عليه لأنهم لو أسلموا لم يؤخذ منهم الفداء بل يجوز للإمام أن يرد الأسير حربيا بدون فداء إذا رأى في ذلك صلاحا وهو مقتضى التخيير بين المن والفداء فإن المن هو أن يمن عليه بفك أسره وإرجاعه إلى قومه إلى ما كان عليه وقد وقع ذلك مع النبي صلى الله عليه و سلم في غير موطن
فصل
ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية ولا يردون حربيين ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار من زنار ولبس غيار وجز وسط الناجية ولا يركبون على الأكف إلا عرضا ولا يظهرون شعارهم إلا في الكنائس ولا يحدثون بيعة ولهم تجد يد ما خرب ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع ولا يركبون الخيل ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين ويبيعون رقا مسلما شروه ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا
قوله فصل ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية (4/569)
أقول ظاهر الأدلة يقتضي أن بذل الجزية من أي كافر يوجب الكف عن مقاتلته وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبعث الأمراء من أصحابه بالجيش على الطوائف المختلفة فيذكر في جملة ما يوصيهم به أنهم إذا بذلوا الجزية قبل منهم ذلك كما في حديث بريدة عند مسلم وغيره قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر أميرا على جيش أو سرية ثم ذكر فيه فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن قوله كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا امر أميرا على جيش أو سرية يدل عى أن هذا كان شأنه في كل جيش يبعثه ولا ينافي هذا قوله تعالى في أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أهل الكتاب هم نوع من أنواع الكفار الذين يجب الكف عن قتالهم إذا أعطوا الجزية ولا ينافي ذلك أيضا ما ورد من الأمر بقتال المشركين في آية السيف وغيرها فإن قتالهم واجب إلا أن يعطوا الجزية فإنه يجب الكف عنهم كما يجب الكف عنهم إذا أسلموا ولا ينافي هذا التعميم ما وقع منه صلى الله عليه و سلم من الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لأن غايته أنها لا تجوز مصالحتهم بالجزية في جزيرة العرب وذلك (4/570)
لا ينافي جواز المصالحة لهم بضرب الجزية عليهم إذا كانوا في غير جزيرة العرب
والحاصل أن من ادعى أن طائفة من طوائف الكفار لا يجوز ضرب الجزية عليهم بل يخيرون بين الإسلام والسيف فعليه الدليل ولا دليل تقوم به الحجة إلا ما ورد في المرتد كما قدمنا وكما سيأتي إن شاء الله
وأما قوله ولا يردون حربيين فقد تقدم قريبا أن التخيير بين المن والفداء يفيد أنه يجوز ردهم حربيين بعد المن عليهم أو بعد أخذ الفداء منهم ولم يرد ما يدل على المنع من هذا وغاية ما هنا أنهم عند تسليم الجزية في أمان أهل الإسلام بتسليم ما يستحقون به عصمة دمائهم وأموالهم وهو الجزية وقد تقدم أن المؤمن يرد إلى مأمنه فإذا أراد الإمام ردهم إلى دار الحرب كان له ذلك لمصلحة يراها كما كان له أن يرد الأسرى حربيين
قوله ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار الخ
أقول وجهه أن الله سبحانه قد قال في كتابه حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فهذه الجملة الحالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صفار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك من شؤونهم ويمنعون مما يخالف الصغار وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم وكنائسهم ومن جملته أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وفيه أنهم يجزون مقاديم رؤوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين وفيه أنهم لا يضربون ناقوسا إلا ضربا خفيفا ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء من حضرة المسلمين وهذا العهد العمري أخرجه ابن (4/571)
حزم عن عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة وفيه أنهم لا يجدون ما خرب منها
والحاصل أن إلزامهم بما ذكره المصنف وما ذكره غيره من الفقهاء قد دلت عليه الآية القرآنية المتقدمة وكفى بها
قوله ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة
أقول الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة قد تضمنت الأمر للأمة بإخراج اليهود من جزيرة العرب فلا وجه لمنعهم من سكون غيرها وإلزامهم أن يسكنوا في خططهم فإنهم قد صاروا بتسليم الجزية والتزام الصغار أهل ذمة ووجب على المسلمين رعايتهم وحفظ دمائهم وأموالهم وتركهم يسكنون حيث أرادوا في غير جزيرة العرب ولا ينافي الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب ما ورد في حديث آخر من الأخر بإخراجهم من الحجاز كما أخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة بلفظ أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب
فإن ذلك هو من التنصيص لعى بعض أفراد العام وقد تقرر في الأصول أنه لا يصلح للتخصيص وهو الحق وغاية ما فيه الدلالة على تأكيد الأمر في ذلك الخاص لتخصيصه بالنص عليه وحده ومثل هذا لا يوجب إهمال دلالة الدليل على ما عداه
وأما قوله إلا لمصلحة فهو من التخصيص للدليل الصحيح بنوع من أنواع المناسب المذكورة في علم الأصول ولا يصلح لذلك فقد قرر أهل الأصول أنفسهم أن من شرط العمل به أن لا يصادم دليلا وهو هنا قد صادم الدليل (4/572)
وأما قوله ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع فقد تقدم في العهد العمري أنهم لا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين ولا منع من إظهار ذلك كنائسهم حيث لم يحضرهم أحد من المسلمين
وأما قوله ولا يركبون الخيل فوجهه أنه يخالف الصغار وفي العهد العمري أنهم لا يركبون سراجا ولا يتقلدون سيفا ولا يتخذون شيئا من السلاح
وأما قوله ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين فوجهه أيضا أن ذلك يخالف الصغار
واما قوله ويبيعون رقا مسلما شروه فوجهه أيضا أن ثبوت ملكهم للعبد المسلم يخالف الصغار أيضا لأنه واحد من المسلمين وللمالك على ملكه من العزة والعلو ما هو عكس معنى الصغار وأيضا هو من سبيل على المؤمنين وقد قال عز و جل ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
وأما قوله ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا فوجهه ما تقدم من أن دار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما تثبت يده عليه فإذا ثبتت يده على نفسه صار حرا ووجه التقييد بقوله قهرا أنه إذا دخلها راضيا مختارا كان ذلك قادحا في إسلامه مبطلا لحرمته
فصل
وينتقض عهدهم بالنكث من جميعهم أو بعضهم إن لم يبايتهم الباقون قولا وفعلا وعهد من امتنع من الجزية إن تعذر إكراهه قيل أو نكح مسلمة أو زنا بها أو قتل (4/573)
مسلما أو فتنة أو دل على عورته أو قطع طريقا
قوله فصل وينتقض عهدهم بالنكث ألخ
أقول ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية والتزام ما ألزمهم به المسلمون من الشروط فإذا لم يحصل الوفاء بما شرط عليهم عادوا إلى ما كانوا عليه من إباحة الدماء والأموال وهذا معلوم ليس فيه خلاف وفي آخر العهد العمري فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل العناد والشقاق انتهى وهذا الانتقاض لعهدهم إذا كان من جميعهم فأمره واضح وأما إذا كان من بعضهم فليس على الآخرين إلا مباينتهم كما قال المصنف فإن لم يفعلوا لم تكن مجرد المخالطة نقضا لعهد من لم ينكث إلا أن يظهر منهم الرضا بذلك النكث والموافقة للناكثين
وأما قوله وعهد من امتنع من الجزية فوجهه ظاهر فإنها هي السبب الأكبر في حقن دمائهم وعصمة أموالهم ولا وجهه للتقييد بقوله إن تعذر إكراهه لأنه قد صار بالامتناع من الجزية غير ذمي فيحل منه ما يحل من الحربي وهو قد صار بهذا الامتناع كما قال الشاعر
... فكنت كالساعي إلى متعب ... موائلا من سبل الراعد ...
قوله قيل أو نكح مسلمة إلخ
أقول إذا فعل الذمي ما يستباح به دم المسلم كان دمه حلالا بفحوى الخطاب وذلك كأن يطعن في الإسلام أو يسب نبينا صلى الله عليه و سلم وأما هذه الأمور التي ذكرها المصنف حاكيا لها عن الغير فإن كان قد أخذت على الذمي في عهده فقد حل دمه بمجرد المخالفة للعهد المأخوذ عليه وإن لم يؤخذ عليه في عهده كان مستحقا لما يوجبه عليه الشرع في ذلك الفعل فيقتل إن قتل مسلما ويحد إن زنا بمسلمة ويحد حد المحارب (4/574)
إن قطع طريقا ويفرق بينه وبين المسلمة التي نكحها مع التعزير له ولها إن كانا معتقدين صحة ذلك وكذلك يعزر إن فتن مسلما إذا لم تكن الفتنة له بشيء مما يرجع إلى الطعن في الدين فهكذا ينبغي أن يقال
فصل
ودار الإسلام ما ظهرت فيه الشهادتان والصلاة ولم تظهر فيها خصلة كفرية ولو تأويلا إلا بجوار وإلا فدار كفر وإن ظهرتا فيها خلاف م وتجب الهجرة عنها وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله أو ما فيه دونه بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر ويتضيق بأمر الإمام
قوله فصل ودار الإسلام إلخ
أقول الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس (4/575)
وأما قوله ولو تأويلا فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعرية أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة
واعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمن من المسلمين وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها وإن كانت الفائدة هي ما تقدم من كونهم يملكون علينا ما دخل دراهم قهرا فقد أوضحنا لك هنالك أنهم لا يملكون علينا شيئا وإن كانت الفائدة وجوب الهجرة عن دار الكفر فليس هذا الوجوب مختصا بدار الكفر بل هو شريعة قائمة وسنة ثابتة عند استعلان المنكر وعدم الاستطاعة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم وجود من يأخذ على أيدي المنتهكين لمحارم الله فحق على العبد المؤمن أن ينجو بنفسه ويفر بدينه إن تمكن من ذلك ووجد أرضا خالية عن التظاهر لمعاصي الله وعدم التناكر على فاعلها فإن لم يجد فليس في الإمكان أحسن مما كان وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما أرشد إلى ذلك الصادق المصدوق فيما صح عنه وإذا قدر على أن يغلق على نفسه بابه ويضرب بينه وبين العصاة حجابه (4/576)
كان ذلك من أقل ما يجب عليه وقد أوضحت أمر الهجرة وما هو باق منها وما قد نسخ في شرحي للمنتقى فليرجع إليه
وأما ما ذكره المصنف من إثبات دار الفسق تقليدا لمن شذ من المعتزلة فلا وجه لذلك أصلا ولا تتعلق به فائدة قط وإن زعم ذلك من لم يكن مستبصرا
واما قوله إلا خلى عما هاجر لأجله فوجهه ظاهر لأن الانتقال من شر إلى شر ومن دار عصاة إلى دار عصاة ليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز فإن كان التظاهر بالمعاصي في غير بلده أقل مما هو ببلده كان ذلك وجها للهجرة وفي الشر خيار
وأما قوله إلا لمصلحة فوجهه ظاهر فإنها إن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في تعليمه معالم الخير بحيث يكون ذلك راجحا على هجرته وفراره بدينه فإنه يجب عليه ترك الهجرة رعاية لهذه المصلحة الراجحة لأن هذه المصلحة الحاصله له بالهجرة على الخصوص تصير مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة
وأما كون الهجرة تتضيق بأمر الإمام بها فوجهه ما قدمنا من وجوب طاعة الأئمة فيما يأمرون به من الطاعة والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا
فصل
والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه إلا حاكيا أو مكرها ومنها السجود لغير الله وبها تبين الزوجة وإن تاب لكن ترثه إن مات أو لحق في العدة وباللحوق في تعتق أم ولده ومن الثلث مدبرة ويرثه ورثته المسلمون (4/577)
فإن عاد رد له ما لم يستهلك حسا أو حكما
وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم ولا تغنم أموالهم ولا يملكون علينا إلا ذوي شوكة وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب وصحيحة في غيرها موقوفة وتلغو بعده إلا الاستيلاد ولا تسقط بها الحقوق ويحكم لمن حمل به في الإسلام به وفي الكفر به ويسترق ولد الولد وفي الولد تردد والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه وبكونه في دارنا دونهما ويحكم للملتبس بالدار والمتأول كالمرتد وقيل كالذمي وقيل كالمسلم
قوله فصل والردة باعتقاد إلخ
أقول اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع وفي لفظ في الصحيح فقد كفر أحدهما ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عز و جل إلا من شرح بالكفر صدرا فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه فإن (4/578)
قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر قلت إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم كافرا فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح بالكفر صدرا ويقصر ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق
... يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح ...
وأما قوله إلا حاكيا أو مكرها فالأمر فيه واضح ووجهه بين وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما لا (4/579)
يأتي عليه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرها فقد استثناه القرآن الكريم بقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وكفى به
وأما قوله ومنها السجود لغير الله فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصدا لربوبية من سجد له فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز و جل وأثبت معه آلاها آخر وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيرا لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيما له فليس هذا من الكفر في شيء وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى
قوله وبها تبين الزوجة
أقول وجه ذلك اختلاف الملتين وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بما يدل على ذلك على تفصيل في ذلك قد تقدم في النكاح عند قول المصنف وينفسخ بتجدد اختلاف الملتين فليرجع إليه
وأما قوله لكن يرثه صاحبه إن مات أو لحق فالظاهر أن مال المرتد باق على ملكه ولم يرد ما يدل على أنه يخرج عن ملكه بمجرد الردة فإن مات كان ماله لمن يستحق ميراثه في حال كفره وإن لحق بدار الحرب صار له مال كأموال أهل دار أهل الحرب في الإباحة ومن زعم أن ماله يخرج عن ملكه بمجرد الردة من غير لحوق فعليه الدليل
وأما كونها تعتق أم ولده ومدبرة فوجهه ظاهر لأنه قد أوقع سبب عتقها في حال إسلامه فاستحاق تنجيز ذلك
وأما كونه يرثه ورثته المسلمون فلا أعرف لهذا وجها ولا أجد عليه دليلا والأدلة (4/580)
مصرحة بأنه لا توارث بين مسلم وكافر على العموم ولا يصلح للتخصيص إلا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما يروى عن بعض الصحابة فإن ذلك محمول على الاجتهاد واجتهاد الصحابي لا يخصص ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بإجماع المسلمين
وأما قوله فإن عاد رد ما لم يستهلك حسا أو حكما فلا وجه لهذا الرد فقد خرج المال عن ملكه باللحوق فإن كان قد ثبتت عليه يد أحد المسلمين فقد استحقه وصار ملكا له فلا ينزع عنه إلا بوجه يوجب رفع ما دخل به في ملكه وأما إذا عاد المرتد إلى الإسلام قبل لحوقه فقد عرفناك أن ماله باق على ملكه فمن أتلف شيئا منه ضمنه وما كان باقيا فهو باق على ملكه
قوله وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم
أقول وجهه ما أخرجه البخاري وأحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس بلفظ من بدل دينه فاقتلوه وما في الصحيحين من حديث أبي موسى في بعض المرتدين أنه قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ومن أدلة قتل المرتد حديث لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث وقد تقدم وفي الباب أحاديث وقتل المرتد إن لم يرجع إلى الإسلام مجمع عليه ويؤيد هذا قوله عز و جل ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فإن مقتضى هذه الآية أنه لا يقبل منه إلا الإسلام فإن (4/581)
لم يفعل قتل لأنه لو ترك مرتدا لكان قبل قبل منه غير دين الإسلام ولا فرق بين الذكر والأنثى لعموم قوله ومن يبتغ وقوله من بدل دينه ولم يثبت ما يدل على تخصيص الإناث
واما قوله ولا تغنم أموالهم فقد عرفناك مما قدمنا أنها قبل اللحوق باقية في ملكهم وبعد اللحوق يصير فيئا لمن يسبق إليها
وأما قوله ولا يملكون علينا إلخ فقد قدمنا أن أهل الحرب لا يملكون علينا والمرتدون مع اللحوق حكمهم حكمهم
وأما قوله وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب فوجه ذلك أنه صار بالردة كافرا قبل لحوقه ولا قربة لكافر
وأما قوله صحيحة في غيرها موقوفة فلا وجه لقوله موقوفة لأن ماله باق على ملكه قبل لحوقه فيصح منه كل تصرف فيه
وأما قوله فيلغو بعده فصحيح لأن ماله قد خرج عن ملكه باللحوق
وأما قوله إلا الاستيلاد فمراد المصنف أنه إذا كان قد استولد أمة له قبل أن يرتد فإن هذا لا يلغي لأنه قد فعل السبب مسلما فلا وجه لإلغائه وقد أغنى عنه ما تقدم من قوله وباللحوق تعتق أم ولد
قوله ولا يسقط بها الحقوق
أقول الحقوق الثابتة عن المرتد من دين أو نحوه باقية في ذمته وهي باقية في ملك مالكها فلا يجوز الحكم عليه بأنها قد خرجت عن ملكه بارتداد من هي عليه لأن المرتد وإن فارق دينه فهو لم يتخلص مما هو عليه بوجه يقتضي السقوط فيدفع ذلك من ماله الذي تركه ببلاد الإسلام فإن لم يكن له مال كان لمن له الحق مطالبته به متى ظفر به
قوله ويحكم لمن حمل به في الإسلام به إلخ (4/582)
أقول لا فرق بين من حمل به في الإسلام ومن حمل به في الكفر أنهما يولدان على الإسلام لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية فالمولود من الكفار مطلقا يولد على الفطرة الإسلامية حتى يعرب عنه لسانه فإن كفر فأبواه هما اللذان كفراه وقد أخرج أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإن أعرف عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا
وأما قوله ويسترق ولد الولد الخ فلا وجه له بل هذاالولد الذي حمل به في الإسلام أو الكفر إذا اختار الكفر جاز استرقاقه فضلا عن استرقاق ولده ولا وجه للتردد وقد قدمنا البحث عن هذا في استرقاق كل كافر من غير فرق بين عربي وعجمي
قوله والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه
أقول إذا كان مولودا على الفطرة الإسلامية وكان ذلك كافيا في الحكم له بالإسلام فإسلامه مع إسلام أحد أبويه أظهر وأظهر ولا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص هذه الصورة وهكذا لا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص قوله وبكونه في دارنا دونهما لأنه قد اجتمع له الولادة على الفطرة والكون في دار الإسلام فكان من جملة من يحكم له بالإسلام بالسببين المذكورين كما استحق من أسلم أحد أبويه أن يحكم له بالإسلام بالسبيين وهما الولادة على الإسلام مع إسلام أحد أبويه وقد كان أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فمع إسلام أحدهما قد صار (4/583)
داعيا إلى الإسلام كما صار بدعوة الآخر إلى الكفر وداعي الإسلام أرجح وأقدم لأن الإسلام يعلو ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
وأما قوله وللملتبس بالدار فلا وجه له بل ينبغي الحكم للملتبس بالإسلام لأنه مولود على الفطرة كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم
قوله والمتأول كالمرتد إلخ
أقول ها هنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب البقيعة فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزىء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز و جل وحصة من الغيرة الإسلامية قد علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بل الجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
... دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر ...
وكما أنه قد تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن قام بهذه الأركان (4/584)
الخمسة بالإسلام فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان وهذا منقول عنه نقلا متواترا فمن كان هكذا فهو المؤمن حقا وقد قدمنا قريبا ما ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعدلها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وهو ثابت في الصحيح ومن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابت عنه في الصحيح أيضا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابت عنه في الصحيح أيضا سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ومن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وهو أيضا في الصحيح وكم يعاد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية والهداية بيد الله عز و جل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (4/585)
فصل
وعلى كل مكلف مسلم الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا ولو بالقتل إن ظن التأثير والتضيق ولم يؤد إلى مثله أو أنكر منه أو تلفه أو عضو منه أو مال مجحف فيقبح غالبا ولا يخشن إن كفى اللين ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا عن إضرار
قوله فصل ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا
أقول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه ولا يتسع لما ورد في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية إلا مؤلف مستقل وهو مجمع على وجوبهما إحماعا من سابق هذه الأمة ولاحقها لا يعلم في ذلك خلاف وإنما وقع الخلاف بينهم في قيود قيدوا بها هذا الوجوب وسيأتي الكلام عليها
وإذا عرفت هذا كان كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وظهور كون هذا الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه و سلم أو لإجماع المسلمين ثم إذا كان قادرا على (4/586)
تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة وهو إن قتل فشهيد وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها فإن كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرضه فإن لم يستطع الإنكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم وبهذا تعرف أن اشتراط ظن التأثير إنما هو في الإنكار باليد ثم في الإنكار باللسان وأما الإنكار بالقلب فهو فرض على كل مسلم ولا يحتاج إلى تقييده بظن التأثير لأنه أمر كائن في القلب لا يظهر في الخارج ولا يحصل به تأثير
وأما قوله والتضيق إلخ فوجه ذلك أنه لا يكون الشيء منكرا من فاعله إلا عند فعله أو عند الشروع في مقدماته ولكنه إذا ظن أن المنكر لا محالة واقع من فاعله ولو بعد حين كان عليه أن ينكر وإن لم يحضر وقت فعله لأن الكف عنه قبل الشروع فيه أو الانتهاء لفعله أقطع لعرقه وأحسم لمادته
قوله إن لم يؤد إلى مثله أو أنكر منه
أقول اعتبار هذا الشرط منه فإنه إذا كان القيام في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تجريء من وقع الأمر أو النهي له كما يفعل ذلك كثير من الظلمة الذين لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ينزجرون بزواجر الله بل يجاوزون ما هم فيه إلى ما هو أشد منه قمعا لمن ينكر عليهم وسدا لباب إقامة حجة الله عليهم وحسما لمادة موعظة الواعظين لهم وقطعا لذريعة المناصحة من الناصحين وتأييسا للمظلومين على الفرج فلا يطمعون بعدها في الالتجاء إلى أهل العلم والفضل فها هنا يحق السكوت والرجوع إلى الإنكار بالقلب لأن التعرض للإنكار باليد واللسان ينشأ عنه اتساع دائرة المنكر على المظلومين ويحل بهم زيادة على ما هم فيه من المصيبة النازلة بهم وفي الشر خيار وقد ارتفع الوجوب بل ارتفع الجواز لأنه يوجب حدوث مظلمة مع تلك المظلمة ومنكر (4/587)
مع ذلك المنكر ومن أعظم ما يؤدي إليه الإنكار أن يفضي إلى تلف نفس المنكر أو عضو منه أو يذهب بماله مع عدم حصول التأثير الذي هو المطلوب بالإنكار وأي تأثير وقد تضاعف بسببه الشر وتزايد لأجله الظلم وانتهكت حرمة مع الحرمة وانضمت مصيبة إلى مصيبة بخلاف ما قدمنا من أنه يجب عليه المقاتلة إذا لم يمكن التقيد إلا بها فإنه هنالك على ثقة من التأثير وتمام ما تصدى له وأقل الأحوال أن يحصل معه الاحتمال وأما هنا فقد انقطع طمعه وارتفع رجاؤه مع ما انضم إلى ذلك من التأدية إلى ما هو أنكر
قوله ولا يخشن إن كفى اللين
أقول وجه هذا أنه يجب التوقف في الإنكار على قدر الحاجة وقد حصل المطلوب هنا بدون التخشين فالانتقال إلى التخشين مع تأثير التليين انتقال لم يأذن الله به ولا اقتضته الضرورة وقد أشار إلى سلوك هذا المسلك قول الله عز و جل فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى فإذا كان الله سبحانه قد أرشد رسله إلى التأدب بهذا الأدب مع أكفر الكفرة وأعظم العتاة المتمردين عليه فسلوكه مع القائمين مقام الإنكار الذين هم غير رسل مع بعض العصاة أو الظلمة من المسلمين أولى وأحق وأقدم وألزم
قوله ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه
أقول هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما بالمثابة التي عرفناك والمنزلة التي بيناها لك وقد وجب بإيجاب الله عز و جل وبإيجاب رسوله صلى الله عليه و سلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع والنهي عما هو منكر من منكراته ومعيار ذلك الكتاب والسنة فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفا وينهي عما هو فيهما أو في أحدهما منكرا وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاثم على العامل به ثانيا وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي (4/588)
هذه الموجودة في الكتاب والسنة وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه و سلم وإنما هي بدع ابتدعت وحوادل في الإسلام حدثت فما كان فيها موافقا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفا وينهى عما علمه منكرا فالحق لا يتغير حكمه ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع
فإن قال تارك الواجب أو فاعل المنكر قد قال بهذا فلان أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك بل قال لنا في كتابه العزيز ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع
قوله ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا لإضرار
أقول وجه هذا أن قلم التكليف مرفوع عن الصغير فإذا رآه يعمل معصية من المعاصي فتلك إنما هي معصية بالنسبة إلى المكلفين لا إلى من لا تكليف عليه لكنه يحول بينه وبينها لأنه إذا اعتاد الإقدام عليها قبل التكليف هان عليه مقارنتها بعد التكليف والولي أقدم من غيره ثم أهل الولايات ثم سائر الناس وأما إذا أقدم الصغير والمجنون على بدن الغير أو على ماله وجب علينا الدفع عنه لأن بدنه وماله معصومان بعصمة الإسلام وترك الصبي أو المجنون يفعلان ذلك منكر لا بالنسبة إليهما بل بالنسبة إلينا ونحن مأمورون بإنكار المنكر بل يجب ذلك علينا ولو كان فاعله من غير بني آدم فإن الدابة إذا أقدمت (4/589)
على بدن المسلم أو ماله كان حقا علينا أن ندفعها عنه ونحول بينها وبينه حفظا لحرمته وحرمة ماله وقياما بما أوجب الله له علينا فإن لم يندفع الصبي أو المجنون أو الدابة إلا بالإضرار بهم كان ذلك واجبا علينا
فصل
ويدخل الغصب للإنكار ويهجم من غلب في ظنه المنكر ويريق عصيرا ظنه خمرا ويضمن إن أخطأ وخمرا رآها له أو لمسلم ولو بنية الخل وخلا علولج من خمر ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية وتحرق دفاتر الكفر إن تعذر تسويدها وردها وتضمن وتمزق وتكسر آلات الملاهي اللاتي لا توضع في العادة إلا لها وإن نفعت في مباح ويرد من المكسور ماله قيمة إلا عقوبة وبغير تمثال حيوان كامل مستقل مطلقا أو منسوج أو ملحم إلا فراشا أو غير مستعمل لا المطبوع مطلقا وينكر غيبة من ظاهره الستر وهي أن تذكر الغائب بما فيه لنقصه بما لا ينقص دينه قيل أو ينقصه إلا إشارة أو جرحا أو شكا ويعتذر المغتاب إليه إن علم ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية
قوله فصل ويدخل الغصب للإنكار
أقول وجه هذا أن النهي عن المنكر فرض وإذا لم يم إلا بدخول المنزل وجب ذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهذا المنزل الذي فيه المنكر إن كان لفاعلي المنكر فلا حرج في دخوله قط وإن كان لغيرهم فليس في دخوله من المعصية (4/590)
ما يوازن بعض ما في ترك إنكار المنكر من المعصية ولا شك ولا ريب أن مفسدة ترك إنكار المنكر يجب تقديمها على مفسدة دخول المكان الغصب لإجماع أهل العلم على تأثير أعظم المفسدتين على اخفهما فالقول بأن إنكار المنكر بالدخول معارض بمثله من دخول الغصب جمود وغفلة
قوله ويهجم من غلب في ظنه المنكر
أقول أما مجرد الظن فلا يكفي في مثل هذا بل لا بد من العلم على ما فيه من التجسس المنهي عنه بنص القرآن الكريم ولكن لمصلحة إنكار المنكر أرجح من مصلحة ترك التجسس ومفسدة ترك إنكار المنكر أشد من مفسدة التجسس وأيضا يمكن الجمع بأن تحريم التجسس مقيد بعدم العلم بوقوع المنكر لأنه لا يسمى تجسسا إلا إذا كان فاعله على غير بصيرة من أمره وقد دخل صلى الله عليه و سلم على حمزة لما جب أسنمة شارفي علي بن أبي طالب وقعد في بيته يشرب وتغنيه القينات كما هو ثابت في الصحيح
أقول ويريق عصير ظنه خمرا
أقول وجهه كون ذلك مظنة للمنكر ولكن مجرد الظن لا يغني في مثل هذا بل لا يجوز الإقدام على الإراقة إلا بعلم فإذا علم بذلك وجبت عليه الإراقة لأن بقاء الخمر مع وجود من يجوز عليه شربها من الفسقة واجب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإراقة الخمور عند نزول تحريمها وفعل ذلك كل من عنده شيء منها فهذه سنة قائمة وشريعة ثابتة والقول بأن المحرم إنما هو شربها لا عينها كلام لا حاصل له ولا يدل عليه رواية ولا دراية وهذا القول بأن إراقتها عند نزول تحريمها إنما كان لقطع ذريعة شربها فإن هذا بعينه كائن في غير زمن الصحابة الذين هم خير القرون وهم أتقى لله من أن يكونوا مظنة لعدم امتثال ما قد نزل تحريمه عليهم من جهة الله سبحانه بل مثل هذه المظنة حاصل فيمن بعدهم من الفسقة المتمرئين على محارم الله سبحانه
واما قوله وخمرا رآها أو لمسلم فوجهه ظاهر إذا كان على بصيرة ولم يكن (4/591)
ذلك بمجرد الظن
واما قوله ولو بنية الخل فلا وجه له لأن هذا العصير لم يقصد به المعصية بل قصد به ما هو حلال جائز كما روي عنه صلى الله عليه و سلم أن الخل خير الإدام وهكذا قوله وخلا عولج من خمر فإنه لا وجه له لما ذكرناه والأمر في هذا ظاهر
قال ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية
أقول وجه هذا أن بقاءه لا سيما مع مظنة أن يعمل به عامل ممن ليس له بصيرة كاملة منكر يجب على الواقف عليه أن يغيره بحسب الإمكان ومثل هذا داخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لم يخص صورة دون صورة ومن هذا قوله ويحرف دفاتر الكفر لأن بقاءها منكر لتجويز أن يقف عليها من يميل إلى شيء مما فيها وإذا أمكن تسويدها فقد حصل المطلوب ولم يبق فيها ما يجب قطع ذريعته وحسم مادته فإرجاعها لمالكها بعد التسويد متوجه لأنها باقية في ملكه وقد زال ما كان فيها من المنكر
قوله وتمزق وتكسر آلات الملاهي إلخ
أقول وجه هذا هو ما قدمناه في إراقة الخمر وقد أخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية ولا يخفاك أن محقها تكسيرها وتمزيقها وإذا كان هناك في مثل آلات (4/592)
هذه الملاهي التي هي أقل مفسدة من عين الخمر فإراقة الخمر ثابتة بالأولى كما قدمنا وفي إسناد هذا الحديث علي بن زيد الشامي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم بما لا يوجب طرح روايته وترك العمل بما جاء من طريقه
وأما كونه يرد من الكسور ماله قيمة فلا بد من تقييده بكونه لا يصلح لتجديد آلة أخرى لا كلا ولا بعضا
قوله وبغير تمثال حيوان كامل إلخ
أقول الأدلة في تحريم التصوير كثيرة جدا وورد ما يدل على تغييرها على العموم سواء كانت تمثال حيوان أو غيره كما في حديث عائشة عند البخاري وغيره قالت إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيها تصاليب إلا نقضه والتصاليب صور الصليب وفي لفظ في البخاري وغيره لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما وورد ما يدل على عدم تحريم تصوير غير الحيوان ومن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال (4/593)
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاني جبريل الليلة فقال إني كنت أتيتك الليلة البارحة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في بابا لبيع يقطع حتى يصير كهيئة الشجرة الحديث فإن قوله حتى يصير كهيئة الشجرة يدل على جواز تصوير ما عدا الحيوان ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس وجاءه رجل فقال إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كل مصور في النار يجعل بكل صورة صورها نفسا يعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له ولا يخفاك أن قوله يجعل له بكل صورة صورها نفسا يدل على أن هذا الوعيد هو في تصوير حيوان وأما قول ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له فليس هو من الرواية بل من قوله واقتصاره صلى الله عليه و سلم في هذه الرواية على الوعيد على تصوير ما له نفس لا ينافي وجوب تقييد ما كان على غير صور الحيوانات من سائر المخلوقات كما يفيد ذلك ما تقدم من حديثي عائشة لكن حديث أبي هريرة المذكور قد دل على جواز تصوير الشجر فيمكن الجمع بأن التصالب فيها صورة حيوان وهكذا التصاوير المذكورة في حديث عائشة الآخر فيكون المنع متوجها إلى تصوير الحيوان فقط
وأما قوله أو منسوج أو ملحم فوجهه أنه يصدق على ذلك أنه تصوير ولا يصلح لتخصيص بعض صور التصوير ما ورد عن بعض الصحابة من قوله إلا رقما من ثوب كما يصلح قول ابن عباس لتخصيص التحريم بما هو من الحيوانات
وأما قوله إلا فراشا فوجهه ما تقدم في حديث عائشة أنها جعلت من الستر الذي نزعه رسول الله صلى الله عليه و سلم وسادتين وكان رسول الله يرتفع عليهما وفي لفظ لأحمد فلقد رأيته متكئا على أحدهما وفيه صورة (4/594)
قوله وينكر غيبة من ظاهره الستر إلخ
أقول الغيبة قد تطابق على تحريمها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله عز و جل ولا يغتب بعضكم بعضا فهذا نهي عام لكل ما يطلق عليه اسم الغيبة ثم ذكر الله سبحانه لذلك مثالا يؤكد تحريمها ويشدد إثمها فقال أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فإن لحم الإنسان مستكره من حيث الطبع للنوعية الواقعة بين الأفراد الإنسانية ولو كان لحم عدو فكيف وهو لحم أخ فكيف إذا كان ميتا
وأما السنة فإن الإحاديث الصحيحة القاضية بتحريم الغيبة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ومن ألفاظهما الثابتة في الصحيح أنه سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الغيبة فقال الغيبة ذكرك أخاك بما يكره فقال السائل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وأم لم يكن فقد بهته
وأما الإجماع على التحريم فقد نقله الثقات وإذا تقرر لك هذا فقد علمت أنها من أشد المنكرات وأعظم المحرمات فإنكارها على فاعلها واجب على كل مسلم وقد صحت أحاديث تحريم الأعراض كتحريم الدماء والأموال كما في حديث خطبة حجة الوداع وما لا يجوز من الغيبة وتكلمنا على كل صورة من الصور الست التي استثناها العلماء بما يشفي ويكفي مما لم يسبق إليه أحد فليرجع إلى ذلك إن شاء الله
وأما قوله لنقصه بما لا ينقص دينه فلا يخفاك أن الأدلة قد دلت على تحريم ذكره بما يكره من غير فرق بين ما ينقص دينه وما لا ينقصه وما يزعمونه من أنه ورد حديث (4/595)
بجواز ذكر الفاسق بما فيه فليس لذلك أصل واستثناء بعض أهل العلم المجاهر بالمعاصي وعموم الأدلة وإطلاقاتها ترد عليه
وأما ما استدل به البعض وهو ما أخرجه الطبراني بلفظ متى تورعون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يحذره الناس فأين يقع هذا الحديث على فرض أن له إسنادا يثبت وكيف يخصص به الجبال الرواسي من الكتاب والسنة والإجماع على أنه لم يكن في لفظه ما يشابه ألفاظ النبوة التي أعطي صاحبها جوامع الكلم فلا يبعد أن يكون موضوعا ومن استروح إلى مثل هذا الدليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فقد استجره الشيطان إلى الوقوع في هذه المعصية العظيمة المعادلة لظلم الظالمين بسفك الدماء ونهب الأموال فهذا المغتاب قد صار في عداد الظالمين وفي المنزلة التي هم بها من الإثم والعقوبة بلا فائدة له ولا عائدة إلى غضب الله عليه وعقوبته له وأما الظلمة بسفك الدماء وأخذ الأموال فقد انتفعوا بظلمهم بالدنيا بالتشفي والانتفاع بالأموال وهذا البائس صار كما قال الشاعر
... وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ... الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل ...
قوله الإشارة (4/596)
أقول وجه جواز ذلك أنه قد ثبت مشروعية المشاورة ثم مشروعية المناصحة وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم كما ثبت ذلك في الصحيح ولكن ليس ها هنا ما يضطر هذا المشير إلى الغيبة فإنه يمكن القيام بذلك بدونها كأن يقول للمستشير لا أشير عليك بهذا أو لا تفعل كذا أو نحو ذلك وليس عليه زيادة على هذا فإن الدخول في اغتياب من وقعت فيه المشاورة فضول من المشير لم يوجبه الله عليه ولا تعبده به ولا ألجأته إليه الضرورة
قوله أو جرحا
أقول وجه هذا إجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم على جرح من يستحق الجرح من الرواة والشهود ولولا ذلك لوجد الكذابون إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم مجالا واسعا وقالوا ما شاؤوا ووجد شهود الزور إلى أخذ أموال العباد طريقا قريبة ولكنه يجب التوقف من ذلك على قدر الحاجة فإن كفى الإجمال لم يجز للجارح أن يتعرض للتفصيل وإن لم يكف الإجمال كان له أن يأتيم أن التفصيل بما لا بد منه
قوله أو شكا
أقول إن كان المشكو عليه ممن لا ينتفع به الشاكي ولا يرجو منه فائدة فليس ذلك بمسوغ للغيبة وإن كان ينتفع به ويرجو منه إراحته مما وقع فيه فهذا جائز وقد استثنى الله سبحانه ذلك في كتابه بقوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
قوله ويعتذر المغتاب إليه إن علم
أقول وجهه أن الغيبة مظلمة وجناية على عرض مسلم معصوم فالتوبة منها واجبة ولا يكون ذلك إلا بالتحلل من المظلوم والتضرع إليه بأن يعفو ولا وجه لقوله إن علم لأن المظلمة قد وقعت سواء علم أو لم يعلم فلا مخلص عنها إلا عفوه عنه (4/597)
قوله ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية
أقول وجه ذلك أنه يدفع عن نفسه استمرار اعتقاد من علم منه ذلك بأنه ممن يجترىء على ما حرمه الله سبحانه من الغيبة تخليصا لهم من الاستمرار على اعتقاد قد زال سببه وتخليصا لنفسه من أن يكون محلا كذلك مخيرا عليه عاصيا لله بسببه وهكذا سائر المعاصي ومما يرشد إلى هذا ما ثبت ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجلين رأياه وهو يمشي مع بعض نسائه فقال لهما إنها فلانة فاستنكرا هذه المقالة منه صلى الله عليه و سلم لأنه المعصوم عن كل ذنب المبرأ من كل شين فقال لهما خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما يعني فتظنان ظن السوء
فصل
ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر والأقل ظلما على إزالة الأكثر مهما وقف على الرأي ولم يود إلى قوة ظلمه ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه والنزول عليه وإنزاله وإعانته وإيناسه ومحبته لخصال خير فيه أو لرحمة لا لما هو عليه وتعظيمه والسرور بمسرته في حال والعكس في حال لمصلحة دينية
وتحرم الموالاة وهي أن تحب له كل ما تحب وتكره له كل ما تكره فيكون كفرا أو فسقا بحسب الحال ص بالله أو يحالفه ويناصره انتهى
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين (4/598)
قوله فصل ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر
أقول قد قررنا فيما سبق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية وأهم الواجبات الدينية والظالم إذا قام بذلك فقد قام بحق وإذا احتاج إلى من يعينه على ذلك كانت إعانته واجبة لأنها إعانة على حق وقيام لأجل الحق لا لأجل الظالم نفسه ومعلوم أن الحق لا يخفى فهذا المعين للظالم على الحق قد دخل تحت قول المصنف فيما سبق فصل ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا لأنه مع حاجة الظالم القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى إعانته قد صار مكلفا بذلك لتكليفه به ابتداء فلا حاجة إلى ذكر هذه الصورة بخصوصها ها هنا ومن هذا القبيل إعانة الأقل ظلما من الفسقة على الأكثر ظلما إذا كان يندفع بهذه الإعانة ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فإن هذا داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله مهما وقف على الرأي فوجهه أنه إذا لم يقف على رأي المعينين له من المؤمنين خبط في الضلالة لكن ليس المطلوب إلا توقفه على رأيهم في نفس دفع ظلم الأكثر ظلما إلا في جميع أموره فإن المفروض أنه ظالم وعليهم الإنكار عليه في ظلمه الخاص به بما يجب عليهم وما يستطيعونه
وأما قوله ما لم يؤد إلى قوة ظلمه فليس له كثير فائدة لأن المفروض أنه أقل ظلما وأنه يندفع بقيامه وإعانة المعينين له ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فلو كانت هذه الإعانة مؤدية إلى قوة ظلمه بحيث يصير مثل الظالم الآخر أو أكثر ظلما منه كان في إعانته إنشاء ظلم لم يكن وإحداث منكر لم يقع وترك التعرض لذكر مثل هذا أقوم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم لا في ذاك
قوله ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه (4/599)
أقول هذا الجواز معلوم لا شك فيه وقد جاز في الكفار قال الله عز و جل طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم وقد أكل النبي صلى الله عليه و سلم من طعام الكفار كما في الشاة التي أهدتها له اليهودية بعد أن طبختها لكن إذا كانت مؤاكلة الفاسق تؤدي إلى فتور المؤمن عن القيام بما يجب عليه إنكاره على الفاسق أو تؤدي إلى تجريء الفاسق على فسقه كان هذا وجها للمنع من هذه الحيثية لا من حيثية كونه فاسقا
قوله والنزول عليه إلخ
أقول الدليل على من زعم أنه لا يجوز النزول على الفاسق ولا إنزاله ولا محبته فإنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم وما هو فيه من الفسق يجب إنكاره عليه بما يقتضيه الشرع باليد ثم باللسان ثم بالقلب وليس الممنوع إلا أن يحبه لأجل فسقه ومعصيته لا لأجل كونه رجلا من المسلمين ولا لأجل كونه رحما له وإذا كان مجرد الأخوة الإسلامية كافيا في جواز المحبة كان جوازها لخصال الخير والرحامة مما لا ينبغي أن يتردد فيه ولا يحتاج إلى النص عليه وقد قال الله سبحانه في الكفار لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبورهم الآية
قوله وتعظيمه والسرور بمسرته إلخ
أقول هذا يكفي في جواز كون الفاسق رجلا من المسلمين كما قدمنا ومعلوم وجود الأخوة الإسلامية بين المطيع والعاصي من المسلمين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما (4/600)
يحب لنفسه وقال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه والأحاديث في هذا الباب كثيرة وكذلك العمومات القرآنية
وبهذا تعرف أنه لا وجه لتقييد الجواز بقوله لمصلحة دينية وإنما الممنوع أن يعظمه لمعصيته وفسقه أو يسر بما يسر من خصال الشر التي هي من معاصي الله سبحانه
قوله وتحرم الموالاة
أقول هذه الموالاة للفاسق هي واجبة من حيث كونه رجلا من المسلمين ومن حيث كونه أخا للمؤمنين كما يدل على هذا الحديث المتقدم والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وهو في الصحيح ومعناه ثابت في الكتاب والسنة ثبوتا لا يخفى ولا يتحقق عدم جواز الموالاة إلا في موالاته لأجل ما هو عليه من الفسق والفجور
وأما قول المصنف فيكون كفرا أو فسقا فتسرع إلى التكفير والتفسيق على غير بصيرة وهكذا لا تحرم محالفة الفاسق على حق ومناصرته حيث تحق المناصرة وذلك بأن يكون محقا فيما حولف به أو نوصر عليه وإنما الممنوع محالفته في باطل ومناصرته على ما هو عليه من الفسق
وبهذا تعرف أنه لا بد من التفصيل في جميع ما ذكره المصنف ها هنا فإن قلت إذا (4/601)
التبس علينا ما هو المقصود من هذه المداخلة للفسقة والمحبة والموالاة والمحالفة والمناصرة قلت يجب علينا حمل ذلك على المحمل الحسن والمقصد الصالح فإن هذا مع كونه الواجب علينا بأدلة الكتاب والسنة هو أيضا من أسباب الفوز بخير الدنيا والآخرة
والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (4/602)