حتى يجوزها التجار إلى رحالهم فهذان الحديثان يكفيان في التعميم على أن قياس سائر المبيعات على الطعام يكفي لعدم الفارق وأما ذكر المصنف للموهوب مع المشتري فلعله يخصصه بما إذا كانت الهبة بمعنى البيع كما سيأتي في الهبات وإلا لزمه إلحاق مثل التمليك والنذر والصدقة
قوله أو بعده قبل الرؤية في المشترك إلا جميعا
أقول عللوا ذلك بتفريق الصفقة بالبيع على من يريد الفسخ بخيار الرؤية وليس هذا مانعا شرعيا ولا ورد ما يدل على منع أحد الشركاء من البيع في مثل هذه الصور فللمالك أن يتصرف بملكه كيف شاء ولغيره من الشركاء أن يرد نصيبه بخيار الرؤية وسيأتي للمصنف في الخيارات كلام في الاختلاف بين المشركين في الشرك إذا رده بخيار الرؤية بعضهم دون بعض والكل مبني على مجرد الرأي وليس عليه أثارة من علم
قوله ومستحق الخمس والزكاة الخ
أقول هذا التضرب من المصنف رحمه الله عجيب فإنه أولا ذكر المشتري والموهوب ثم قيده بذلك القيد الذى لا دليل عليه ثم خصص ها هنا مستحق الخمس والزكاة ولا وجه لهذا التخصيص إلا مجرد الاعتماد على الرأي البحت الذي لا تأثير له والذي يحسن من مثله أن يقف على ما يقتضيه الدليل من تخصيص ذلك بالمبيع قبل قبضه أو يعتمد على القياس لسائر أسباب الملك بالبيع فيشترط القبض في جميعها وإن كان هذا القياس غير معمول به ها هنا ولكنه صار يعتمد على ما هو دون هذا ثم تخصيص المصدق بأن التخلية إليه تكفي هو من ذلك الرأي الذى ذكرنا لك وقد عرفناك غير مرة أن المصنف رحمه الله في هذا الكتاب مقصوده جمع ما دونه المذاكرون من المسائل الفقهية على أي صفة كان ذلك والعجب من مثل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه إذا رأى المصنف قد دل على كلامه الدليل زحلفة بالرأي وإن رآه قد جاء بكلام لا دليل عليه (3/47)
بل هو مجرد رأي بحت مشى في الغالب معه وقد يعارضه برأي مثل ذلك الرأي وتأمل هذه المسائل في هذا الفصل فقط حتى يتضح لك ما ذكرناه وغالب عمله في شرح هذا الكتاب هكذا
قوله ومتى انضم إلى جائز البيع الخ
أقول لا وجه لهذا الفساد إلا مجرد الرجوع إلى رأي قائل واجتهاد عن طريق الحق مائل والحق أنه يصح بيع ما يصح بيعه لأنه تجارة عن تراض فقد وجد المصحح وهو التراضي ولم يوجد مانع شرعي ووجود المانع في أحد العينين لا يستلزم وجوده في الأخرى والتعليل باستلزام الصحة فما يصح والبطلان فيما يبطل لتفريق الصفقة تعليل عليل مبني على رأي كليل
فصل
وعقد غير ذي الولاية بيعا وشراء موقوف ينعقد قيل ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه مع بقاء المتعاقدين والعقد بإجازة من هى له حال العقد غالبا أو إجازتها بلفظ أو فعل يفيد التقرير وإن جهل حكمه لا تقدم العقد ويخير لغبن فاحش جهله قبلها قيل ولا تدخل الفوائد ولو متصلة ولا يتعلق حق بفضولي غالبا وتلحق آخر العقدين وينفذ في نصيب العاقد شريكا غالبا (3/48)
قوله فصل وعقد غير ذي الولاية الخ
أقول البائع لمال غيره بغير إذنه لا يسمى بيعه شرعيا ولا هو البيع الذي أذن الله به بقوله تجارة عن تراض بل هو واقع على صورة تدخل تحت قوله سبحانه ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فإذا وقعت الإجازة له كانت هي على ما قد عرفناك أنه التراضي وطيبة النفس وأنه لا يعتبر غير ذلك وأما الاستدلال بشراء عروة البارقي فمن وضع الدليل في غير موضعه فإن مأذون بالشراء وقد فعل وزاد خيرا وأما ما نحن بصدده فلا إذن فيه من المالك أصلا وغاية ما يدل عليه حديث عروة أنه يجوز للوكيل المأذون أن يطلب ما فيه مصلحة إذا كان يعرف أن المالك يرضى بذلك ومعلوم أن كل عاقل يرضى بمثل هذا العمل الواقع من عروة ويطلبه إن أمكن لأنه أرجع الثمن وجاءه بالمطلوب مع كونه مأذونا له في الجملة وبهذا تعرف أن عقد الفضولي لا يصح من أصله لأن رضاه ليس هو الرضا المعتبر في قوله تجارة عن تراض فكان فعله كالعدم ووقوع البيع عند حصول الرضا من المالك المدلول عليه بالأجازة وقد قدمنا لك أنه لا يعتبر شيء من تلك الألفاظ التي جعلوها شروطا للبيع
وأما قوله ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه فمن التصلب في التفريع على ما هو باطل من أصله ومردود من أوله وأما قوله مع بقاء المتعاقدين والعقد فلا يخفاك أنه لا عقد ولا متعاقدين بل البيع لم يحصل بشيء مما وقع بغير إذن المالك لعدم وجود الرضا المعتبر في تلك الحالة وعند وجوده بالإجازة هو البيع الشرعي
وأما قوله بإجازة من هى له حال العقد فقد عرفناك أن هذه الإجازة هى العقد الشرعي الذي جاء به القرآن ولا حكم لشيء مما تقدمها لوقوعه على غير ما أعتبره الشرع (3/49)
وهذا الكلام الذي قررناه وإن كانت أذهان المقلدين تنبو عنه فهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة فإذا وقع من البائع لفظ أو فعل يشعر بالرضا فقد وقع منه البيع الشرعي فإن وقع الرضا بذلك من المشتري فقد وقع منه الشراء الشرعي وأما قوله وإن جهل حكمه فلا وجه له بل لا بد أن يعلم أن قوله هذا وفعله هو الذي يخرج له المبيع عن ملكه بذلك الثمن الذي وقع التراضي عليه وإلا كان من أكل أموال الناس بالباطل وهكذا
قوله لا تقدم العقد لا وجه له بل مجرد وقوع المشعر بالرضا منه هو البيع الشرعي والعقد المتقدم وجوده كعدمه سواء علمه أو جهله وأما قوله ويخير لغبن فاحش جهله قبلها فقد عرفناك أن البيع الشرعي هو الإجازة فلا بد أن يعلم بمقدار الثمن عندها حتى تكون تجارة عن تراض وأما ما ذكره من عدم دخول الفوائد للمالك ولو يقع منه البيع ولا حكم لعقد الفضولي ولا يؤثر في خروج الفوائد ولا في دخولها وقد حكم النبي صلى الله عليه و سلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن ابتاع عبدا فما له للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع
وأما قوله ولا يتعلق حق بفضولي فصحيح لأنه لا حكم لما وقع منه فلا يتعلق به شيء ولا يترتب على فعله فائدة على ما قررناه
وأما قوله وتلحق آخر العقدين فهي كما عرفناك و عرفت لا تلحق أولها ولا آخرها
وأما قوله وينفذ في نصيب العاقد شريكا فصحيح لأنه قد حصل منه المناط الشرعي وهو الرضا ولم يحصل من شريكه فمتى حصل من شريكه كان هو البيع لا ما وقع من بيع الشريك عنه (3/50)
فصل
والتخلية للتسليم قبض في عقد صحيح غير موقوف ومبيع غير معيب ولا ناقص ولا أمانة مقبوض الثمن أو في حكمه بلا مانع من أخذه في الحال أو نفعه ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع ويصح التوكل بالقبض ولو للبائع ولا يقبض بالتخلية والمؤن قبل القبض عليه كالنفقة والفصل والكيل لا القطف والصب ولا يجب التسليم إلى موضع العقد غالبا أو منزل المشتري إلا لعرف ولا يسلم الشريك إلا بحضور شريكه أو إذنه أو الحاكم وإلا ضمن إن أذن والقرار على الآخر إن جنى أو علم ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا الوقف والعتق ولو بمال ثم إن تعذر الثمن فللبائع فسخ ما لم ينفذ واستسعاؤه في النافذ بالأقل من القيمة أو الثمن ويرجع على المعتق ومن أعتق ما اشتراه من مشتر ولم يقبض صح إن أعتقه بعد القبض بأذن الأولين أو الثاني موفرا للثمن وإلا فلا وما اشترى بتقدير وقع قبل اللفظ أعيد لبيعه حتما إلا المذروع ويستحق القبض بإذن البائع مطلقا أو توفير الثمن في الصحيح فلا يمنع منه إلا ذو حق كالمستأجر لاالغاضب والسارق
قوله والتخلية للتسليم الخ
أقول هذه التخلية بين المشتري وبين ما باعه البائع منه هي غاية ما يجب على البائع لعدم (3/51)
ورود دليل يدل على أنه يجب عليه زيادة على ذلك فإذا أتلف المبيع بعد ذلك تلف من مال المشتري لأن البائع قد أخرجه عن ملكه وفعل ما يجب عليه من تخليته للمشتري وعلى المشتري إذا أراد أن يبيعه أن ينقله للأدلة التى ذكرناها عند قوله ولا يتصرف فيه قبل قبضه فالحاصل أن التخلية قبض باعتبار سقوط الضمان على البائع ولا يكون قبضا يجوز للمشتري التصرف في المبيع بعدها إلا مع النقل وأما اشتراط أن يكون العقد صحيحا فكلام لا يترتب عليه فائدة عند من لم يعتبر ما يعتبرونه من الألفاظ ونحوها لأن المراد التراضي المدلول عليه بأي دلالة فإذا قد حصل كان البيع صحيحا وترتب عليه أحكامه وإن لم يحصل فلا بيع وما ذكره من أشتراط أن يكون غير موقوف لا وجه له لأن الإجازة قد حصلت من مالكه فهي البيع لما قدمنا وإن لم يحصل فلا بيع ولا حكم للتخلية أصلا ولا يترتب عليها حكم قط وأما قوله في مبيع غير معيب ولا ناقص فإن لم يعلم بذلك المشتري فهو من بيع الغرر وهو باطل والرضا المتقدم لا حكم له لأنه رضي بما لم يعلم بعيبه ولا نقصه فلم يصح البيع من الأصل فضلا عن أن تصح التخلية وأما قوله ولا أمانة فلا وجه له لأن البائع إذا باع من المشتري عينا هى أمانة عند المشتري انتقلت بالبيع إلى ملك المشتري وكونها في يده يغني عن المقابضة ولكن هذه من المصنف وأمثاله دندنة حول قواعد فرعية هي على شفا جرف هار لم ترتبط بدليل شرعي ولا عقلي وهكذا قوله مقبوض الثمن أو في حكمه فإنه لا وجه له لأن مجرد التراضي على المعاوضة هو المصحح الشرعي فإذا قد وقع بريء البائع من عهده الضمان بالتخلية بين المشتري وبين العين وإن أمهله بالثمن زمانا طويلا وأما قوله بلا مانع من أخذه في الحال فصحيح لأن وجود المانع من القبض يقتضي عدم ثبوت حكمه فلا يتبرأ البائع من عهدة الضمان بذلك
قوله ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع
أقول إذا تشاجرا في التقديم فلا شك أن المبيع في ملك البائع فلا يجب عليه تسليمه (3/52)
إلا بعد قبض عوضه وهو الثمن والمشتري مالك الثمن فلا يجب عليه تسليمه إلا بتسليم العوض وهو المبيع وليس أحدهما بأولى من الآخر في تقديم تسليم ما يملكه قبل أن يسلم الآخر ما يملكه فلم يبق وجه للترجيح وحينئذ ينبغي أن يكون الحكم بينهما بأن يكون التسليم من كل واحد منهما عند التسليم من الآخر وتكون المقابضة يدا بيد في المنقولات وتكون في غيرها بأن يقر البائع عند الشهود أن تلك الأرض أو الدور قد باعها من المشتري بالثمن المقبوض عند ذلك الإقرار وأما قوله ويصح التوكل بالقبض فصحيح لأنه لم يمنع من ذلك مانع شرعي ولا عقلي فهذه الصورة مندرجة تحت أدلة الوكالة وكذلك قوله ولو للبائع ويكون التغاير باعتبار جهتي البيع والشراء اعتباريا وقد تقدم ما شهد لهذا من توليه صلى الله عليه و سلم لطرفي عقد النكاح وقد قدمنا هناك أيضا عند قوله ولا يتولى الطرفين واحد ما يقوي هذا وأما قوله ولا يقبض بالتخلية فتخصيص بغير مخصص منقول ولا معقول
وأما قوله والمؤن قبل القبض عليه فلا وجه له لأنه إذا قد حصل المناط في البيع وهو التراضي فقد صار المبيع ملكا للمشتري ولكن البائع لا يخرج عن عهدة الضمان إلا بالتسليم إلى المشتري أو التخلية الصحيحة وأما أنه يلزمه أن ينفق عليه أو يقوم بسائر مؤنه فلا إلا أن يكون التراخي في التسليم من جهته مع طلب المشتري لذلك فإنه كالجاني على نفسه بذلك وأما ذكره من مؤنة الفصل والكيل والفرق بينهما وبين القطف والصب فهذا شيء لم يبن على شرع بل على عرف فقط والأعراف مختلفة فيتبع في كل جهة عرفها في هذا وأمثاله لأن العرف الجاري المستمر الذي يعلم به البائع والمشتري هو في حكم التراضي عليه وإن لم ينطقا به ولا ذكراه ولهذا قال ولا يجب التسليم إلى موضع العقد أو منزل المشتري إلا لعرف
وأما قوله ولا يسلم الشريك إلا بأذن شريكه الخ فصحيح إذا كان لا يمكنه تمييز (3/53)
نصيبه عن نصيب الشريك فإنه حينئذ يصير بالتسليم لنصبيه مسلما لنصيبه شريكه وذلك جناية على الشريك فلا بد من حضوره أو إذنه أو إذن الحاكم وإلا ضمن نصيب الشريك إذا أتلف بهذا التسليم لأن ذلك منه جناية على مال الشريك ولا يكون ذلك إلا مع العلم بأن في ذلك المبيع نصيبا لغيره لا إذا كان جاهلا لذلك فإنه لا يكون بالتسليم جانيا وأما لو جهل ثبوت الضمان عليه بالتسليم مع علمه بأن فيه نصيبا للغير فلا تأثير لهذا الجهل في سقوط الضمان
قوله ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا الوقف والعتق
أقول الأدلة التى ذكرناها عند قوله ولا يتصرف فيه قبل قبضه ليس فيها إلا المنع من البيع وليس في شيء منها المنع من غيره من سائر التصرفات فالوقف والعتق وغيرهما باقيان على أصل الإباحة وإلحاقهما بالقياس على البيع قياس مع الفارق لما في البيوعات للأشياء الربوية من مظنة الربا ولهذا كان أكثر النصوص الدالة على المنع من البيع قبل القبض واردة في الطعام كما تقدم
وأما قوله فإن تعذر الثمن فللبائع فسخ ما لم ينفذ فلا وجه له لأن البائع أحق بمبيعه إذا أفلس المشتري عن الثمن ولو كان نفذ قبضه المشتري فكيف لا يكون أحق به وهو باق لديه لم يقبضه المشتري وقد دلت السنة الصحيحة بأن من وجد سلعته عند مفلس فهو أحق بها ولا حكم للعتق والوقف الواقعين من المشتري لأنه لم يتم له الملك ولا فرق بين النافذ وما لم ينفذ ولا يجب على العبد شيء بل هو باق في ملك بائعه وكل هذه التفاريع وما بعدها منهارة لم ترتبط بدليل عقل ولا نقل
قوله وما اشترى بتقدير وقع قبل اللفظ أعيد لبيعه حتما (3/54)
أقول وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري وأعل هذا الحديث بأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه أحد الأعلام وهو ضعيف الحفظ ولكنه قد روي من طريق غير هذه منها عند البزار عن أبي هريرة بإسناد حسن وعن أنس وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال ابن حجر ومعنى الحديث أن من أراد بيع الطعام الذى يملكه فلا بد أن يكيله عند البيع ويكيله المشتري عند الشراء وأخرج أحمد وعبد الرزاق والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عثمان قال كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا عثمان إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل قال في مجمع الزوايد إسناده حسن انتهى وقد أخرج البخاري منه كلام النبي صلى الله عليه و سلم بغير إسناد ومعنى الحديث هذا من اشترى طعاما بكيل ثم أراد أن يبيعه فلا يكفيه الكيل الواقع عن شرائه بل لا بد أن يكيله عند بيعه منه إلى مشتر يشتريه منه وسبب هذا الأمر منه صلى الله عليه و سلم المخافة من الوقوع في مظنه الربا إذا وقع البيع بعد البيع وكان مثلا من بيع الطعام بالطعام لتجويز النقص بأي سبب وأيضا مجرد تجويز النقص من غير نظر إلى مظنة الربا يكفي لأنه يصير جزءا من بيع الغرر ولهذا وجب على نفس المتبايعين أن يكيله كل واحد منهما وإن لم يبعه إلى آخر كما في الحديث الأول وقد ذهب الجمهور إلى أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا
وأما قوله إلا الذرع فإن كانت العلة هى تجويز النقص فذلك كائن في المذروع (3/55)
كما هو كائن في المكيل وإن كان التجويز في المكيل أكثر وإن كانت العلة مظنة الربا فلا وجود لها في المذروع والقياس الوقوف على محل النص وهو المكيل لعدم وجود ما يقتضي الإلحاق بالقياس إلحاقا صحيحا
قوله ويستحق القبض بإذن البائع الخ
أقول يستحق القبض بوقوع المناط الشرعي وهو التراضي لأنه بذلك قد خرج عن ملك بائعه ودخل في ملك مشتريه ولكن للبائع حبسه بيده حتى يستوفي ثمنه ولا وجه للتفرقة بين صحيح وفاسد فإن المعتبر المناط المذكور
وأما قوله ولا يمنع منه إلا ذو حق فقد عرفناك فيما تقدم أن الإجارة تبطل البيع
وأما قوله لا الغاصب والسارق فيدهما يد عدوان وعليهما رده إلى يد من قد استقر الملك له (3/56)
باب الشروط المقارنة للعقد
فصل
يفسده صريحها لا الحالي ومن عقدها ما أقتضى جهالة في البيع كخيار مجهول المدة أو صاحبه أو في البيع كعلي إرجاحه أو كون البقرة لبينا ونحوه أو في الثمن كعلي إرجاحه ومنه على حط قيمة كذا من الصبرة لا كذا من الثمن وعلى أن ما عليك من خراج الأرض كذا شرطا لا صفة فخالف ومنه شرط الإنفاق من الغلة ولو لمعلومين أو رفع موجبه غالبا كعلي أن لا تنتفع ومنه بقاء المبيع ولو رهنا لا رده وبقاء الشجرة المبيعة في قرارها مدتها وعلى أن يفسخ إن شفع أو علقه بمستقبل كعلي أن تغل أو تحلب كذا لا على تأدية الثمن ليوم كذا وإلا فلا بيع أو لا تعلق له به كشرطين أو بيعين في بيع ونحوهما مما نهي عنه غالبا
قوله باب الشروط المقارنة للعقد فصل يفسده صريحها لا الحالي (3/57)
أقول كون الشرط مفسدا للبيع للواقع عن تراض لا بد فيه من دليل عليه ولم يثبت في ذلك إلا حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع الحديث قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم ومعنى هذا الحديث هو أن يقول البائع بعت منك هذا بكذا إن كان نقدا وبكذا إن كان نسيئة ووجه كون هذا الشرط لا يحل ما يستلزمه من عدم استقرار البيع والتردد بين الطرفين
ومن هذا القبيل حديث النهي عن الثنيا إلا أن تعلم أخرجه النسائي والترمذي وصححه وأصله في صحيح مسلم بلفظ نهي عن الثنيا ومعناه أن يقول بعت منك كذا واستثنى بعضه فإن كان ذلك البعض معلوما كان البيع صحيحا وإن لم يكن معلوما لم يصح البيع للنهي عنه وهذا وإن لم يكن بلفظ الشرط فوقوع الثنيا التى لم تعلم تفيد عدم الاستقرار للبيع والتردد فيما هو داخل في المبيع وخارج عنه وذلك نوع من أنواع الغرر المنهي عنه ومما يستلزم الجهالة وإذا عرفت أنه لم يرو إلا هذان الحديثان فينبغي الحكم لما دل عليه بعدم الصحة ويلحق بهما ما له تأثير في الغرور والجهالة وما عدا هذا فلا تأثير له هذا على فرض أنه لم يرد في الشروط الخارجة عما ذكرناه دليل فكيف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أنه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه قال ولحقني النبي صلى الله عليه و سلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر (3/58)
مثله فقال بعنيه فقلت لا ثم قال فبعنيه فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي وفي لفظ لأحمد والبخاري وشرطت ظهره إلى المدينة فهذا الحديث يدل على أن الشروط الواقعة من جهة البائع صحيحة إذا لم تستلزم الغرر والجهالة ومن ذلك حديث بريرة المشهور كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة نحو حديث عائشة ففي هذا الحديث دليل على عدم تأثير الشروط المخالفة لما يوجهه العقد ويقتضيه وأنها باطلة في أنفسها لا تصح بوجه ومما ورد في الشروط الجائزة حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يخدع في البيوع فقال ما بايعت فقل لا خلابة فإن هذا وإن لم يكن بلفظ الشرط ففيه معنى الشرط فيصح هذا الشرط ولا يبطل به البيع فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن الشروط الواقعة في العقد لا تقتضي الفساد بل هي إما باطلة في نفسها لكون ذكرها كعدمها أو صحيحة معمول بها هي والعقد إلا ما كان منها مقتضيا للوقوع في الغرر الذي يحصل عنده التردد وعدم العلم بالحقيقة فإن ذلك لا يتحقق معه التراضي الذي هو المناط في المعاملات الشرعية وليس عدم الصحة لمجرد الشرط بل لاقتضائه الوقوع في بيع الغرر المنهي عنه حسبما قدمنا
وبهذا تعرف أن لا فرق في الشروط بين صريحها ومستقبلها وحاليها وعقدها فإن كل ما سلم منها من الجهالة الموقعة في بيع الغرر فهو غير مؤثر في المناط الذى هو التراضي ولا منع من أن يحصل التراضي على انتقال الملك من ملك البائع إلى ملك المشتري بعد (3/59)
شهر أو سنة أو أكثر إذا كان مما لا يجوز فيه المصير إلى صفة غير الصفة التي كان عليها عند التراضي كالأراضي ونحوها من الأعيان التى لا تتغير بمضي مدة من الزمان عليها فإن هذا تجارة عن تراض أباحها الشرع ولم يرد ما يدل على المنع منها لا من شرع ولا عقل وهذا التحقيق يبصرك في جمع ما ذكره المصنف رحمه الله من الصور والأمثلة فما كان منها مستلزما للجهالة في المبيع الموجبة لبيع الغرر فهو ممنوع وما لم يكن كذلك فلا اعتبار به بل هو إما باطل في نفسه غير مؤثر في البيع كالشروط المستلزمة لرفع موجب العقد المخالفة لما يقتضيه كما يفيد ذلك حديث بريرة أو هو صحيح في نفسه مع صحة العقد وهو ما يرجع إليه منها إلى حديث جابر وحديث ابن عمر في شرط عدم الخداع فلا نطول الكلام على هذه الصورة التي ذكرها المصنف فإن في هذا البحث ما يغني عن ذلك
قوله كشرطين في بيع أو بيعتين في بيع
أقول أما الشرطان في بيع فقد قدمنا ما ورد في النهي عنه وأما البيعتان في بيع فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا وفي لفظ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيعتين في بيعة
وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد من حديث ابن مسعود قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن صفقتين في صفقة قال سماك الراوي (3/60)
للحديث هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسا بكذا أو ينقد بكذا وقد وافق سماك على هذا التفسير أحمد والشافعي فيكون معنى البيعتين في بيعة والصفقتين في صفقة هو معنى الشرطين في بيع كما قدمنا وقد روي عن الشافعي تفسير آخر فقال هو أن تقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا ووجه الفساد هو ما قدمنا في شرطين في بيع من استلزام ذلك للجهالة الموجبة للغرر
فصل
ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة من وصف للبيع كخيار معلوم أو للمبيع كعلى أنها لبون أو تغل كذا صفة في الماضي ويعرف بأول المستقبل مع انتفاء الضار وحصول ما تحتاج إليه أو للثمن كتأجيله أو يصح أفراده بالعقد كأيصال المنزل ومنه بقاء الشجرة مدة معلومة وما سوى ذلك فلغو وندب الوفاء ويرجع بما حط لأجله من لم يوف له به
قوله ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة
أقول هذا صحيح لما قدمنا وما ذكره من الأمثلة صحيح أيضا وكذلك قوله وما سوى ذلك فلغو ووجه كونه لغوا هو ما قدمناه في أول الباب هذا وأما قوله وندب الوفاء فالظاهر من دليل مطلق الشروط حيث قال صلى الله عليه و سلم المؤمنون (3/61)
عند شروطهم أنه يجب الوفاء بها جميعها إلا ما استثناه الحديث من قوله إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وأما كونه يرجع بما حط لأجله من لم يوف له به فظاهر لأن ذلك الحط مقيد بحصول الشرط (3/62)
باب الربويات
فصل
إذا اختلف المالان ففي الجنس والتقدير بالكيل والوزن يجوز التفاضل والنساء وفي أحدهما أو لا تقدير لهما التفاضل فقد إلا الموزون بالنقد فكلاهما ونحو سفرجل برمان سلما فإن اتفقا فيها اشترط الملك والحلول وتيقن التساوي حال العقد والتقابض في المجلس وإن طال أو انتقل البيعان أو أغمى عليهما أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة ما لم يفترقا إلا المتدرك وما في الذمة كالحاضر والحبوب أجناس وكذلك الثمار واللحوم أجناس وفي كل جنس أجناس والألبان تتبع اللحوم والثياب سبعة والمطبوعات ستة فإن اختلف التقدير اعتبر بالأغلب في البلد فإن صحب إحدى المثلين غيره ذو قيمة غلب المنفرد ولا يلزم إن صحبهما ولا حضور المصاحب ولا المصاحبين غالبا
قوله باب الربويات إذا اختلف المالان في الجنس والتقدير بالكيل والوزن يجوز التفاضل والنساء (3/63)
أقول قد أشار المصنف ها هنا إلى ثبوت الربا في كل مالين اتفقا جنسا وتقديرا ثم خص التقدير بالكيل والوزن وهذا هو أحد الأقوال في تعيين العلة التى تقتضي الربا مع الاتفاق في الجنس وقد قيل إنه قال بهذا العترة جميعا وحكى عن أبي حنيفة واصحابه واستدلوا على ذلك لذكر النبي صلى الله عليه و سلم للوزن كما في حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره بلفظ لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء ومثل هذا عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال فيه الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل وهكذا في حديث فضالة بن عبيد بن مسلم وغيره قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن وورد ذكر الكيل في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام وورد في حديث آخر لا صاعين بصاع ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه و سلم للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك وأي مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال مثلا بمثل سواء بسواء وقال الشافعي ومن وافقه إن العلة هي الاتفاق في الجنس والطعام واستدلوا على ذلك (3/64)
بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله قال كنت اسمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير وأقول ذكر النبي صلى الله عليه و سلم الطعام فكان ماذا وأي دليل دل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب على ذلك القناطر وتبنى عليه القصور ويقال هذا دليل على أن كل ما به طعم كان بيعه ما به طعم متفاضلا ربا مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال ويفت في عضده الذهب والفضة اللذان هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة لذكر الأجناس التى يحرم فيها الربا ومما يدفع القولين جميعا أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر العددي كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ لا تبيعوا الدينار بالدينارين وفي رواية من حديث أبي سعيد ولا درهمين بدرهم ولم يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا من غيرهم وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعام وزادت عليه الإدخار والاقتيات فوسعوا الدائرة بما ليس بشيء
والحاصل أنه لم يرد تقوم به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها ولكنه روى الدارقطني والبزار عن الحسن بن عبادة وأنس بن مالك أن النبي (3/65)
صلى الله عليه و سلم قال ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به وقد ذكره ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح قال أحمد لا بأس به وقال يحيى بن معين في رواية عنه إنه ضعيف وفي أخرى ليس به بأس ربما دلس وقال ابن سعد والنسائي ضعيف وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم رجل صالح انتهى ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث وقال في التقريب صدوق سيء الحفظ ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم فإنه حكم بالربا الذى هو من أعظم معاصي الله سبحانه على غير الأجناس التى نص عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التى هى من الكبائر ومن قطعيات الشريعة ومع هذا فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع والجم والسواد الأعظم ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط
وأعلم أن من أعظم الربا وأشده ربا الجاهلية الذى وضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم ودلت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت إجماع الأئمة جميعا على تحريمه وهو أن يحضر أجل الدين فلا يرده من هو عليه فيزيد عليه من هو له شيئا ويمهله إلى أجل آخر فهذا ربا ثابت وإن لم يكن التبايع الكائن في تلك الأجناس المنصوص عليها ثم أعلم أنه لا ينافي ثبوت ربا الفضل في تلك الأجناس ما ثبت في الصحيحين وغيرهما (3/66)
من حديث أسامة بن زيد مرفوعا بلفظ إنما الربا في النسيئة زاد مسلم في رواية عن ابن عباس لا ربا فما كان يدا بيد لأنه وقع الاختلاف في الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث المصرحة بالربا في الأجناس المنصوص عليها إذا لم يكن مثلا بمثل سواء بسواء فقيل إن حديث أسامة هذا منسوخ ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ولعل القائل بالنسخ لما بلغه رجوع ابن عباس عن العمل به ظن أنه منسوخ وقيل معنى قوله إنما الربا في النسيئة الربا الأغلظ الشديد التحريم فيكون من الحصر الادعائي وهو خلاف الظاهر والأولى أن يقال إن حديث إنما الربا في النسيئة دل بمفهومه على نفي ربا الفضل في الأجناس المنصوص عليها وفي غيرها وأحاديث ربا الفضل المنصوص عليه في الأجناس المنصوص عليها مخصصة لهذا العموم وأيضا الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل تدل على ذلك بمنطوقها ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم
وأما رواية مسلم عن ابن عباس بلفظ لا ربا فيما كان يدا بيد فلم يثبت ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو كان ثابتا لبقي عليه ابن عباس ولم يرجع عن قوله وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال حفظا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لم أحفظ ولو سلمنا ثبوت تلك الزيادة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لكان عمومها المدلول عليه بالنكرة الواقعة في سياق النفي مخصص بأحاديث ربا الفضل في تلك الأجناس المنصوص عليها ولو سلمنا التعارض تنزلا لكانت الأحاديث المصرحة بربا الفضل أرجح لثبوتها في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد المصرح بالأجناس المثبت لربا الفضل وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي (3/67)
وهشام بن عامر والبراء بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال وبما ذكرناه يرتفع الإشكال على كل تقدير وقد وقع للجلال في هذا المقام من شرحه لهذا الكتاب من الهذيان الذى جرت به عادته ما لا يخفي بطلانه إلا على فاقد الفهم غير نافذ العرفان ولا ناقد لزائف الكلام
قوله وفي أحدهما أولا تقدير لهما التفاضل فقط
أقول أما الأجناس الربوية إذا اختلف فيدل على جواز التفاضل فيها دون النساء ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله س وسلم قال الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد وفي لفظ لأبي داود والنسائي وابن ماجة وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا والإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم فإذا اختلفت هذه الأصناف الخ يدل على أنه يجوز فيها مع الاختلاف التفاضل دون النساء فلا يجوز مثلا بيع الطعام بالدراهم إلا إذا كان يدا بيد وقد استدل من جوز ذلك بما صح في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه و سلم من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا ولا معارضة بين هذا وبين حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا في الثمن وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإذا صح هذا الإجماع كان حجة عند من يرى حجيته (3/68)
وأما قول الجلال إنها زيادة تفرد بها عبادة فليس من جنس كلام أهل العلم فإن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح مقبولة بالإجماع وتفرد الصحابي بالرواية حجة عند جميع المسلمين كيف وقدمنا حديث ابن عمر الثابت عند أحمد وأهل السنن مع تصحيح الحاكم له أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فقال لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء وأخرجه ابن حبان والبيهقي ولم يأت من أعله بحجة مقبولة وسماك إمام حجة وأما جواز التفاضل فيما لا تقدير له بكيل أو وزن فقد ثبت عند أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى عبدا بعبدين وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي وما أظنه يخالف في جواز التفاضل في هذا إذا كان يدا بيد أحد من أهل العلم
وأما جواز النساء فيه فقد أخرج أحمد وأبو داود والدارقطني من حديث عبدالله ابن عمر وقال أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي قال فحملت الناس عليها حتى نفدت الإبل وبقيت بقية من الناس وقلت يا رسول الله الإبل قد نفدت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي ابتع علينا (3/69)
إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي إسناده محمد بن إسحق وهو إمام وإن كان قد تكلم فيه بعض أهل العلم فذلك بغير حق وقد رواه البيهقي من غير طريقه وقوى ابن حجر في الفتح إسناد هذا الحديث ولكنه قد عارض هذا الحديث ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث الحسن عن سمرة قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورجال إسناده ثقات إلا ما هو مشهور من الخلاف في سماع الحسن من سمرة وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند من حديث جابر بن سمرة مثله وأخرج البزار والطحاوي وابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس نحو حديث سمرة قال في الفتح ورجاله ثقاة إلا أنه اختلف في وصله وإرساله فرجح البخاري وغيره إرساله وقد ذهب الجمهور إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا مطلقا وشرط مالك أن يختلف الجنس ومنع من ذلك مطلقا مع النسيئة أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وحمل الشافعي المنع على النسئية من الطرفين لأنه من بيع الكاليء بالكاليء وهو لا يصح عند الجميع وعلى فرض عدم إمكان الجمع فأحاديث النهي أرجح واصح ولم يصب من حمل النهي على المضامين وهي ما في بطون الأنعام كما فعل الجلال فإنه حمل الأحاديث على أندر صورة وقد ورد النهي عن بيع الملاقيح والمضامين على حدته وهو أعم من أن تشتري بنقد أو عرض ولكن محبة الإغراب تأتي بمثل هذا العجاب
وأما قوله المصنف الموزون بالنقد فكلاهما فقد قدمنا الكلام عليه قريبا
وأما قوله ونحو سفرجل برمان سلما فليس ها هنا ما يدل على المنع من بيع (3/70)
السفرجل بالرمان على أي صفة كان ولا مدخل للربا في ذلك بوجه لكونهما لم يكونا من الأجناس التي نص عليها الشارع ولا اتفق التقدير فيهما بالكيل أو الوزن ولا اعتبار عند المصنف بالعدد ولا عند غيره
قوله فإن اتفقا فيهما اشترط الملك الخ
أقول هذا كله صحيح وأما اشتراط الملك فلكون التصرف في مال الغير بغير إذنه من أكل أموال الناس بالباطل لا من التجارة عن تراض وأما اشتراط الحلول فللأحاديث المصرحة باشتراط أن يكون يدا بيد ولحديث إنما الربا في النسيئة وأما تيقن التساوي حال العقد فللأحاديث المصرحة باشتراط أن يكون مثلا بمثل سواء بسواء وأما التقابض في المجلس فلقوله يدا بيد ونحو ذلك وإن كان قد أغنى عن هذا القيد قوله الحلول فإنه عدم التأجيل ولا يتحقق عدم التأجيل إلا بالتقابض وأما قوله وإن طال فما داما في المجلس فلا فرق بين أن يقفا فيه وقوفا طويلا أو قصيرا
وأما قوله أو انتقل البيعان فمشروط بأن لا يتفرقا أما لو انتقلا متفرقين فقد انقضى المجلس الأول وهما غير متقابضين فلم يكن ذلك القبض الواقع في المجلس الآخر مما يدخل تحت قوله صلى الله عليه و سلم إلا يدا بيد وقوله إلا هاء وهاء
وأما قوله أو أغمى عليهما أو على أحدهما فصحيح لأن ذلك عذر مسوغ
وأما قوله أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة فباطل مخالف للأدلة مدفوع بها إن أراد أن أحد هذه الأمور يغني عن القبض وإن أراد أنه يكفي ذلك ما داما في المجلس كما يفيده قوله ما لم يفترقا فلا حاجة إلى هذه الأمور مع البقاء في المجلس لأن التقابض (3/71)
فيه يكفي من غير توسيط هذه الأمور والتعرض لذكر مفارقة المستدرك لهما مما لا حاجة إله ولا مدخل له
قوله وما في الذمة كالحاضر
أقول هذه الكلية وإن كان ظاهرها المخالفة للأدلة المشروطة للتقابض المحقق فيمكن أن يستشهد لصحتها بالقرض فإن المستقرض دفع مثل الثابت في ذمته مع عدم وجوده حال القضاء فكان ما في ذمته كأنه حاضر ولكن لا بد أن يكون ما في الذمة باعتبار أحد المتبايعين والمقابل له حاضر وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء كما تقدم
وأما قوله والحبوب أجناس إلى قوله فإن اختلف التقدير فلا يخفاك أنه لا بد أن يصدق على ما قيل بجنسيته أن أهل اللغة يطلقون عليه ذلك الاسم أو يثبت أنه جنس عند أهل الشرع وأما مجرد الأعراف والاصطلاحات فلا يتعلق ببيانها كثير فائدة ولا يترتب عليها ثمرة إلا في مثل الأيمان وما يلتحق بها فإن كل حالف أو متكلم بكلام لا يقصد في الظاهر إلا عرف قومه واصطلاح أهل بلده والمقام مقام ثبوت الربا أو عدمه فلا يتكل فيه على ما لا يسمى ولا يغني من جوع
قوله فإن اختلف التقدير اعتبر بالأغلب في البلد
أقول هذا العرف الغالب لا يثبت به شيء من الأمور الشرعية مثلا لو جرى عرفهم أن الذهب والفضة يكالان لم يكن الكيل مصححا لبيع الجنس بجنسه حتى يقع الوزن لأن النبي صلى الله عليه و سلم يقول الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل وهكذا لو جرى عرفهم أن البر أو الشعير يوزنان لم يجز بيع الجنس بجنسه حتى يعرف التساوي بينهما بالكيل ومن قال إن الاتفاق في التقدير بالكيل والوزن موجب لثبوت الربا كما سبق لم يكن مجرد كيل بلد أو وزنها مقتضيا لذلك لأنه قد رتب على هذا أمر شرعي ولو كان مثل ذلك مسوغا لإثبات الأحكام الشرعية لكان (3/72)
الربا في الشيء ثابتا في بلد وغير ثابت في أخرى وإنما يثبت بذلك حمل ما يصدر من أهل البلد في المجاوزة عليه لأنه الذي يتعلق به القصد لهم وأما مثل صاع الفطرة وأوساق الزكاة فالاعتبار بمكيال المدينة في المكيل وهكذا الاعتبار في مثل قوله صلى الله عليه و سلم في خمس أواق صدقة وفي الدية ونصاب السرقة ونحو ذلك بميزان مكة لما أخرجه أبو داود والنسائي والبزار وابن حبان والدارقطني وصححاه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة ورواه أيضا أبو داود من حديث ابن عباس وأخرجه أيضا الدارقطني عن ابن عباس من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن خنظلة عن طاوس عنه وأخرجه عنه ومن طريق أبي نعيم عن الثوري عن حنظلة عن سالم بدل طاوس قال الدارقطني أخطأ أبو أحمد فيه
وإذا تقرر لك أن الاعتبار في الأمور الشرعية بمكيل المدينة ووزن مكة عرفت أنه لا اعتبار بما يخالف ذلك وأن أطبق عليه الأكثر أ والأغلب بل يعتبر في الأمور العرفية ما جرى به العرف في البلد فإن اختلف كان الاعتبار بالأغلب لما تقدم فكلام المنصف لا يصح إلا من هذه الحيثية وبهذا الاعتبار فمن حلف مثلا لا أكل موزونا لم يحنث إلا بما هو موزون في بلدة لأنه المقصود له عند حلفه ولا يتصور غيره
قوله فإن صب أحد المثلين إلى آخر الفصل
أقول هذا المسائل التي يسمونها مسائل الاعتبار مردودة مدفوعة بالنسبة الصحيحة الصريحة دفعا أظهر من شمس النهار وأجل من عمود الصباح أما أولا فبالأحاديث (3/73)
المتواترة المشتملة على أن تلك الأجناس لا تباع إلا مثل بمثل سواء بسواء فانضمام ما ليس من جنس واحد المتساويين إلى أحدهما لا يسوغ أن يكون الجنس المقابل له أكثر قدرا منه ولو بلغ في القيمة ما بلغ ووصل في النفاسة وارتفاع الجنس إلى أبلغ غاية وأما ثانيا فحديث القلادة الذى أخرجه مسلم وغيره وصححه جماعة من الأئمة من حديث فضالة بن عبيد قال اشتريت قلادة يوم خيبر بأثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال لا يباع حتى يفصل وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تميز بينه وبينه فقال إنما أردت الحجارة فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تميز بينهما وقد أخرجه الطبراني في الكبير من طرق كثيرة جدا يدل أبلغ دلالة على أن هذه المسائل مخالفة للشريعة المطهرة مضادة لها وتنادى بأعلى صوت أن مثلها يستلزم تحليل ما حرم الله من الربا الذى توعد عليه بالحرب منه واتفق المسلمون على تحريمه وأنه من كبائر الذنوب والعجب ممن يزعم من أهل الإنصاف كالمقبلي أنها إذا طابت أنفس المتعاملين لذلك ورضيا به كان من البيع المأذون فيه فإن هذه غفلة عظيمة للعلم لأن الله سبحانه لم يجعل للتراضي فيما هو ربا أو وسيلة إلى الربا حكما يحلل هذا الحرام البحت والكبيرة العظيمة وأما تأويل حديث القلادة هذا بأنه وجد فيها ذهبا أكثر من شرائها به فلم يكن المنفرد غالبا كما فعل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فتأويل زائف وقد ذهب إلى العمل بحديث القلادة كثير من السلف الصالح وإليه ذهب مالك والليث وأحمد وإسحق وغيرهم وهو الحق الذى لا شك فيه ولا شبهة (3/74)
فصل
ويحرم بيع الرطب والتمر والعنب بالزبيب ونحوهما والمزابنة إلا العرايا وتلقي الجلوبة واحتكار قوت الآدمي والبهيمة الفاضل عن كفايته ومن يمون إلى الغلة مع الحاجة وعدمه إلا مع مثله فيكلف البيع في القوتين فقط والتفريق بين ذوي الأرحام المحارم في الملك حتى يبلغ الصغير وإن رضي الكبير والنجش والسوم على السوم والبيع على البيع بعد التراضي وسلم أو سلف وبيع وربح ما اشترى بنقد غصب أو ثمنه وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء وبأقل مما شرى به إلا من غير البائع أو منه غير حيلة أو بغير جنس الثمن الأول أو بقدر ما انتقص من عينه وفوائده الأصلية
قوله ويحرم بيع الرطب بالتمر
أقول وجهه ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم كلهم وصححه أيضا قبلهم ابن المديني من حديث سعد بن أبي وقاص قال سمعت أن النبي صلى الله عليه و سلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم فنهى عن ذلك
وأما قوله والعنب بالزبيب فلما سيأتي في الحديث المتفق عليه من تحريمه صلى الله عليه و سلم لبيع الكرم بالزبيب والمراد بالكرم العنب ولا علة للمنع من ذلك إلا تجويز النقص وكونه في شجرة لا تأثير له فكان محرما بالنص لا بالقياس على التمر بالرطب وأما قوله ونحوهما فالمراد به كل جنس ربوي إذا كان بعضه أخضر وبعضه يابسا أو بعضه مبلولا وبعضه غير مبلول لعدم العلم بالتساوي فمنعه (3/75)
داخل تحت النصوص المصرحة بقوله صلى الله عليه و سلم ألا مثلا بمثل سواء بسواء
قوله والمزابنة إلا العرايا
أقول المزابنة بيع التمر في النخل بالتمر كما وقع تفسيرها بذلك في الصحيحين وغيرهما بلفظ وهي بيع التمر على رؤوس النخل كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا وهذا التفسير إن صح رفعه قامت به الحجة في تفسير المزابنة وإن كان مدرجا كما قيل فهو يدل على معناه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث رافع بن خديج وسهل ابن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالثمر إلا أصحاب العرايا والثمر بالثاء المثلثة وقوله بالتمر بالتاء المثناة الفوقية والمراد بالثمر بالمثلثة هو ما كان في النخلة فلا يقال له ثمرا إلا ما دام فيها وهكذا في الصحيحين وغيرهما من غير حديثهما وقد صرح بذلك مسلم في رواية له فقال ثمر النخلة وفي الصحيحين أيضا في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه (3/76)
بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله فتقرر بهذا أن المزابنة بيع ثمر النخلة ما دام فيها ومثل ذلك بيع العنب في أصوله وبيع الزرع قبل قطعه بأجناس هذه الثلاثة الأجناس التي قد جفت ويبست فإن كل ذلك مزابنة ووجه المنع عدم العلم بالتساوي في الجنس الربوي وأما العرايا فأصلها أن العرب كانت تتطوع على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة قال الجوهري في الصحاح العرية هي النخلة التى يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها عاما من عراه إذا قصده انتهى فرخص صلى الله عليه و سلم لمن لا نخل لهم أن يشتروا الرطب على النخل بخرصها تمرا كما وقع في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن أبي حثمة وكذا في البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت وفي لفظ في الصحيحين من حديثه رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا وفي لفظ لهما من حديثه ولم يرخص في غير ذلك فهذا جائز والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع من ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعلم ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة كما روى عن أبي حنيفة ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن (3/77)
خزيمة وابن حبان والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك
قوله وتلقي الجلوبة
أقول لنهيه صلى الله عليه و سلم عن ذلك كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تلقي البيوع وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق والنهي ثابت في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر وابن عباس وقد اختلف أهل العلم هل هذا البيع صحيح أم باطل واستدل من قال بأنه صحيح بإثبات الخيار المذكور في الحديث فإنه يدل على انعقاد البيع وقالوا أيضا النهي هنا لأمر خارج لا لعين البيع ولا لوصفه ونقول هذا التلقي حرمه الشارع على فاعله بنهيه الثابت بلا خلاف فمن زعم أن ما ترتب على هذا الحرام صحيح فقد خالف مقاصد الشرع بمجرد رأي حرره أهل الأصول لا يستند إلى ما تقوم به الحجة وأما إثبات الخيار فهو دليل على أن هذا البيع موكول إلى اختيار صاحبه إن أمضاه مضى وإن لم يمضه فوجوده كعدمه فهو حجة عليهم لا لهم لأن هذا الإمضاء هو الذي وقع به التجارة عن تراض وما تقدم منه من الرضا فقد أبطله انكشاف الأمر على غير ما وقع من تغرير المتلقي وليس المراد بقوله سبحانه تجارة عن تراض مثل هذا الرضا الناشيء عن التغرير والتلبيس بل الرضا المحقق بلا تغرير وطيبة النفس الصحيحة (3/78)
قوله واحتكار قوت الآدمي والبهيمة
أقول لما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبدالله العدوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يحتكر إلا خاطيء ولحديث معقل بن يسار عند أحمد والترمذي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يعقده بعظم من النار يوم القيامة ورجاله رجال الصحيح كما قال في مجمع الزوائد إلا زيد بن مرة أبو المعلا قال ولم أجد من ترجمة ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه وإسحق بن راهويه والدارمي وأبي يعلى والعقيلي والحاكم بلفظ الجالب مرزوق والمحتكر معلون وفي إسناده ضعف ولحديث ابن عمر عند أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى والحاكم بلفظ من احتكر الطعام أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة والأول مختلف فيه والثاني كذلك وقد وثق الأول النسائي (3/79)
ووثق الثاني أو سعيد وفي الباب أحاديث والاحتكار والحكرة قد فسرا بحبس السلع عن البيع وهذا يدل على تحريم الاحتكار لكل ما تدعو إليه حاجة الناس ويؤيد هذا حديث من دخل في شيء من أسعار المسلمين فإنه يعم كل ما له سعر فلا يكون التنصيص على الطعام في بعض الأحاديث مقتضيا لتخصيص تحريم الاحتكار لأن ذلك من التنصيص على بعض أفراد العام وأيضا إذا كانت العلة الإضرار بالمسلمين فهو يشمل كل ما يتضررون باحتكاره وتدعو حاجتهم إليه وإن كان التضرر باحتكار الطعام أكثر لمزيد الحاجة إليه ويدخل في ذلك قوت الدواب
وأما قوله الفاضل عن كفايته ومن يمون إلى الغلة فقد حكى ابن رسلان في شرح السنن الإجماع على جواز ذلك فقال ولا خلاف في أن ما يدخره الإنسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به انتهى ويدل على ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعطي كل واحدة من أزواجه مائة وسق من خيبر قال ابن رسلان في شرح السنن وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخر لأهله قوت سنتهم من تمر وغيره
وأما قوله مع الحاجة فهذا القيد لا بد منه لأن إدخار ما لا حاجة للناس إليه لا يضربهم إلا إذا كان فعله لذلك يقضي إلى الغلاء فإنه يتناوله قوله صلى الله عليه وآله و سلم ليغليه عليهم
قوله فيكلف البيع
أقول هذا صحيح لأنه فاعل لما هو من محرمات الشريعة مع مزيد أن فيه إضرارا (3/80)
بالمسلمين فلا يجوز تقريره على الحرام ولا يجوز ترك المسلمين يتلهفون من الجوع صيانة لهذا المحتكر الخاطيء المضار للمسلمين ولهذا عاقبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بتحريق طعامه وأما قول الجلال ها هنا إلى المنكر هو ما كان دليله قطعيا بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام وزائفه فإن إنكار المنكر لو كان مقيدا بهذا القيد لبطل هذا الباب وانسد بالمرة وفعل من شاء ما شاء إذ لا محرم من محرمات الشريعة في الغالب إلا وفيه قول لقائل أو شبهة من الشبه وسيأتي في هذا الكتاب في السير أنه لا إنكار في مختلف فيه على ما هو مذهب وهو أيضا باطل من القول وإن كان أقل مفسدة من هذا الكلام
قوله إلا التسعير في القوتين
أقول يدل على عدم جواز التسعير القرآن الكريم قال الله عز و جل تجارة عن تراض فمن وقع الإجبار له أن يبيع بسعر لا يرضاه في تجارته فقد أجبر بخلاف ما في الكتاب وهكذا يدل على عدم جواز التسعير قوله سبحانه وتعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فإن من أكره على بيع ماله بدون ما يرضى به فقد أكل ماله بالباطل وهكذا يدل على عدم جواز التسعير قوله صلى الله عليه و سلم لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه ويدل على عدم جوازه على الخصوص ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أنس إن السعر غلاء فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال قال ابن حجر وإسناده على شرط مسلم
ويدل على عدم جوازه على الخصوص أيضا ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث (3/81)
أبي هريرة قال جاء رجل فقال يا رسول الله سعر فقال بل أدعو الله ثم جاء آخر فقال يا رسول الله سعر فقال بل الله يخفض ويرفع قال ابن حجر وإسناده حسن أيضا
ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجة والبزار والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد بنحو حديث أنس قال ابن حجر وإسناده حسن أيضا قال وللبزار نحوه من حديث علي وعن ابن عباس في الطبراني في الصغير وعن أبي جحيفة في الكبير وأغرب ابن الجوزي فأخرجه في الموضوعات عن علي وقال إنه حديث لا يصح انتهى وظاهر هذه الأدلة عدم الفرق بين القوتين وغيرهما لأن الكل يتأثر عنه عدم طيبة النفس ويقع على خلاف التراضي المعتبر ولا فرق بين أن يكون في التسعير الرد إلى ما يتعامل به الناس أو إلى غيره فإن الفرق بمثل هذا الفرق هو مجرد رأي وملاحظة مصلحة في شيء يخالف الشرع وقد أشار صلى الله عليه و سلم في حديث أنس السابق إلى ما يفيد أن في التسعير مظلمة فلا خير ولا مصلحة في مظلمة بل الخير كل الخير والمصلحة كل المصلحة في العمل بما ورد به الشرع
قوله والتفريق بين ذوي الأرحام والمحارم
أقول لحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي وحسنه والدارقطني والحاكم وصححه قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ولحديث أبي موسى عند ابن ماجه والدارقطني بإسناد لا بأس به قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم من فرق بين الوالد وولده وبين (3/82)
الأخ وأخيه ولحديث علي عند أبي داود والدارقطني أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ورد البيع وقد أعله أبو داود بالانقطاع ولكنه أخرجه الحاكم وصحح إسناده ورجحه البيهقي لشواهده ولحديث علي أيضا عند ابن ماجه والدراقطني وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان قال أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا ولحديث أنس أيضا عند ابن عدي بلفظ لا يولهن والد عن ولده وفي إسناده مبشرين عبيد وهو ضعيف ورواه من طريق أخرى فيها إسماعيل ابن عياش عن الحجاج بن أرطاه وقد تفرد به إسماعيل وهو ضعيف في غير الشاميين ولحديث أبي سعيد عند الطبراني بلفظ لا توله والدة بولدها وأخرجه البيهقي
وهذه الأحاديث تدل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وبين الوالد وولده وبين الأخوين وقد قيل إنه مجمع على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها ومن عدا من هو مذكور في هذه الأحاديث فقيل إنه يحرم بطريق القياس وظاهر الأحاديث أنه (3/83)
يحرم التفريق بالبيع وغيره
وأما قوله حتى يبلغ الصغير وأن رضى الكبير فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت بلفظ لا يفرق بين الأم وولدها قيل إلى متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية وفي إسناده عبدالله بن عمرو الواقعي وهو ضعيف وقد رماه علي بن المديني بالكذب ولكن لم يبق بعد البلوغ ما يحصل به التضرر التام كما في من كان صغيرا وقد حكى المصنف في الغيث الإجماع على جواز التفريق بعد البلوغ
قوله والنجش
أقول النجش في اللغة تنفير الصيد وإثارته من مكان ليصاد يقال نجشت الصيد أنجشه وفي الشرع الزيادة في السلعة فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعون نجشه وقد ثبت النهي عن ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر (3/84)
وعند مسلم من حديث عقبة بن عامر وفي الباب غير ذلك وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الناجش عاص بفعله قال واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع إذا وقع على ذلك وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك وهو المشهور عند الحنابلة وهو وجه للشافعية قلت وهو الحق لاقتضاء النهي لذلك
قوله والسوم على السوم
أقول لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من النهي عنه من حديث أبي هريرة وغيره كما ثبت النهي عن السوم على السوم ثبت النهي عن البيع على البيع في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أيضا وثبت في غير الصحيحين من غير حديثه وصورة السوم أن يأخذ الرجل سلعة ليشتريها فيقول له قائل رده لأبيعك خيرا منه أو مثله بأرخص منه أو يقول للبائع رده لأشتريه منك بأكثر وأما صورة البيع على البيع والشراء على الشراء فهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار أفسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع أفسخ لأشتري منك بأزيد قال ابن حجر في الفتح وهذا مجمع عليه فعرفت بهذا أن صورة السوم على السوم غير صورة البيع على البيع وأن تقييد المنع بكونه بعد التراضي هو الصواب وأما بيع المزايدة فقد دل على جوازه ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم باع (3/85)
قدحا وحلسا فيمن يزيد وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه فقال رجل هما علي بدرهم قال آخرهما علي بدرهمين وحكى البخاري عن عطاء أنه قال أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم فيمن يزيد وقال الترمذي بعد إخراجه لحديث أنس المذكور والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لم يروا بأسا ببيع من يزيد في المغانم والمواريث قال ابن العربي لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك
قوله وسلم أو سلف وبيع
أقول قد ثبت النهي عن السلف والبيع بما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم من حديث عبدالله ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يحل سلف وبيع الحديث قال أحمد هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه بيعا يزداد عليه وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل أن يسلم إليه في شيء ويقول إن لم يتهيأ المسلم فيه عندك فهو بيع لك وهذه الصورة داخلة تحت الأحاديث المشتملة على النهي عنه أن يبيع الإنسان ما ليس عنده وداخلة تحت الأحاديث المشتملة على النهي عن بيع الشيء قبل قبضه فهذه الصورة التى ذكرها المصنف قد منع الشارع (3/86)
عنها وكل ما منع الشارع عنه فهو باطل ولا فرق بن منع ومنع ولا بين نهي ونهي إلا أن تقوم قرينة تدل على أن المراد من ذلك مجرد الكراهية فقط القاصرة عن رتبة التحريم وما اعتل به الحامدون على الرأي من قولهم هذا نهي عنه لذاته وهذا نهي عنه لوصفه وهنا نهى عنه لأمر خارج عنه كما وقع ذلك في كتب الأصول فقد عرفناك غير مرة أن هذه التفرقة مبنية على رأي بحت لم تربط بدليل عقل ولا نقل ولا شك أنه لم يذكر كثيرا من المناهي ولها حكم هذه المذكورة
قوله وربح ما اشترى ينقد غصب أو ثمنه
أقول إنما تعرض المصنف لذكر الربح هنا مع كونه في مناهي البيع لأن ذلك مترتب على الشراء بنقد الغصب أو ثمنه فهو من ذيول مباحث البيع والشراء من هذه الحيثية على أن النبي صلى الله عليه و سلم قد ذكر عدم حل هذا الربح مقترنا بمناهي البيع كما في حديث عبدالله بن عمرو بلفظ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم وقد تقدم طرف منه قريبا
قوله وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا
أقول يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا وبما أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط عن سماك عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه (3/87)
وآله وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسا بكذا وهو ينقد بكذا وكذا قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النسا ممنوعة ولهذا قال فله أوكسهما أو الربا والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين وقد أفردت هذا البحث في رسالة مستقلة سميتها شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لأجل الأجل والكلام في المقام يطول وقد ذهب الجمهور إلى جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع
قوله وبأقل مما اشترى به الخ
أقول إذا كان المقصود التحيل فلا فرق بين بيعه من البائع أو غيره وبين أن يكون بجنس الثمن الأول أو بغير جنسه فالأولى أن يقال وبأقل مما شرى به حيلة فإن ذلك يغني عن هذا التطويل الذي ذكره المصنف ووجه المنع من ذلك ما فيه من التوصل إلى الربا لأن الغالب في مثل هذا أن يريد الرجل أن يزيد له المستقرض زيادة على ما أقرضه فيتوصل إلى تحليل ذلك بهذه الحيلة الباطلة وهي أن يبيع منه عينا بأكثر من قيمتها ثم يشتريها منه بأقل من ذلك فتبقى هذه الزيادة في ذمة المشتري وهي في الحقيقة زيادة في قدر ما استقرضه وهنا البيع هو بيع العينة الذى ورد الوعيد عليه بما أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ولفظ أبي داود إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم (3/88)
أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم وأخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه قال ابن حجر في بلوغ المرام ورجاله ثقات وقال في التلخيص إنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى ولا يخفاك أن الحديث بعد تصحيح ذلك الإمام والحكم على رجاله بأنهم ثقات قد قامت به الحجة والأصل عدم ما ذكره من الاحتمال فلو كان مجرد الاحتمال الذي في مثل هذا مبطلا للاستدلال لمذهب شطر السنة بالدعاوى ودفع من شاء ما شاء والأعمش إمام حافظ ثقة حجة فأقل أحواله أن يحمل ما يرويه على الصحة حتى يتبين ما يخالف ذلك ولكنه قال المنذري في مختصر السنن إن في إسناده إسحق بن أسيد أبو عبدالرحمن الخراساني نزل مصر لا يحتج بحديثه وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال انتهى قال الذهبي في الميزان إن هذا من مناكيره انتهى قال أبو حاتم في إسحق بن أسيد لا يشتغل به شيخ ليس بالمشهور وقال ابن عدي مجهول وفي التقريب في ضعيف وأما عطاء الخراساني فقد ضعفه بعض أهل الحديث ووثقه ابن معين وأبو حاتم وقال ابن حجر في التقريب صدوق يهم كثيرا ويدلس انتهى قلت إذا كان كلام ابن حجر في الرجلين هكذا ولم يرو الحديث من طريق غيرهما فكيف يحكم على رجال إسناده بأنهم ثقات ولا يخفاك أن عطاء الخراساني من رجال مسلم قد أخرج له في صحيحه فجاز القنطرة وقد عقد البيهقي لطرق هذا الحديث بابا وقال ابن كثير إنه روي (3/89)
من وجه ضعيف عن عبدالله بن عمر بن العاص مرفوعا
ويشهد لحديث الباب ما أخرجه الدارقطني عن أبي إسحق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بطل إلا أن يتوب
والحاصل أن مجموع ما في الباب تقوم به الحجة ولا سيما وهذه حيلة من الحيل الباطلة التى جاءت الشريعة بإبطالها وأيضا قد استلزمت أن يرد المستقرض زيادة على ما استقرضه وذلك ربا مجمع على تحريمه فلو لم يرد في الباب شيء لكان ما ورد في تحريم هذا الربا كافيا مغنيا عن غيره قال الجوهري في الصحاح العينة بالكسر السلف قال في القاموس وغيره أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها قال والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى قال الرافعي وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقدا أقل من ذلك العقد وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الحق وجوز ذلك الشافعي وأصحابه واستدلوا بما لا دلالة فيه على المطلوب (3/90)
باب الخيارات
هى ثلاثة عشر نوعا لتعذر تسليم المبيع وهو لهما في مجهول الأمد وللمشتري الجاهل في معلومة ولفقد صفة مشروطة وللغرر كالمصراة وصبرة علم قدرها البيع فقط وللخيانة في المرابحة والتولية ولجهل قدر الثمن أو المبيع أو تعيينه وهذه على التراخي وتورث غالبا ويكلف التعيين بعد المدة ولغبن صبي أو متصرف عن الغير فاحشا وبكونه موقوفا وهما على تراخ ولا يورثان وللرؤية والشرط والعيب
قوله باب الخيارات هى ثلاثة عشر نوعا
أقول قد بلغ استقراء المصنف لأسباب الخيارات إلى هذا المقدار وليس مراده إلا أن الخيار له أسباب يضاف إلى كل واحد منها وسنوضح لك إن شاء الله الكلام في كل واحد منها
قوله لتعذر تسليم المبيع (3/91)
أقول قد قدمنا لك أن البيع والشراء هو حصول التراضي من البائع والمشتري فالمشتري رضي بالعين المبيعة والبائع رضي بالثمن المقابل لها وإذا تعذر تسليم العين المبيعة ارتفع التراضي المعتبر فلا بيع ولا شراء بل وجود التراضي المتقدم كعدمه لأنه قد انكشف عدم وجود متعلقه الذي كان التراضي عليه والثمن إنما يلزم بعد وجود عين المبيع ومصيرها إلى المشتري فمثل هذا لا ينبغي أن يجعل من أنواع الخيار بل ينبغي أن يعد في مبطلات البيع هذا إذا تعذر تسليمه مطلقا أما إذا تعذر في مدة ثم أمكن فقد دخل البائع في بيع منهي عنه لأنه باع ما ليس عنده فكان من هذه الحيثية غير صحيح وإذا لم يصح التبايع فعند عود المبيع إذا شاء اتبايعا وإلا فهو باق على ملك البائع الأول ولا حكم لما وقع منهما من التبايع مع تعذر التسليم وبهذا تعرف أنه لا فائدة لقوله وهو لهما في مجهول الأمد وللمشتري الجاهل في معلومة
قوله ولفقد صفة مشروطة
أقول هذا نوع من خيار الغرر لأن المشتري لم يقف على حقيقة المبيع كما ينبغي مع مزيد الغرر باشتراطه لتلك الصفة في المبيع وانكشاف عدمها فلا وجه لعدة خيارا مستقلا
قوله وللغرر كالمصراة
أقول هذا نوع من أنواع الغرر لأن البائع قد غرر المشتري بالتصرية فلم يقف على حقيقة المبيع وما هو الغرض الحامل على شرائه وهذا النوع قد ثبت النص عليه بالسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق وفيها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المصراة فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر وقد بسطنا القول على هذا الحديث في شرحنا (3/92)
للمنتقي وبسطنا الكلام في الرد على من خالفه والمقام لا يتسع لبعض ذلك
قوله وصبرة علم قدرها البائع فقط
أقول وهذا أيضا نوع من أنواع خيار الغرر فإنه إذا لم يقف البائع على قدرها ولا عرف حقيقتها فبالأولى المشتري والخيار ثابت لهما جميعا ولا وجه لجعله لأحدهما دون الآخر وقد قدمنا أن هذا أعنى بيع الصبرة الذى هو نوع من بيع الجزاف قد خصصه دليله من أحاديث النهي عن بيع الغرر وما لم يبطل من بيوع الغرر فالخيار ثابت فيه كما في بيع الصبرة والمصراة ونحوهما
قوله وللخيانة في المرابحة والتولية
أقول هذا سبب من أسباب الخيار لأن الخيانة خديعة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يخدع في البيوع فقال من بايعت فقل لا خلابة والخلابة الخديعة فإذا انكشف أن البائع أو المشتري خدع أحدهما الآخر بنوع من أنواع الخديعة التي من جملتها الخيانة فالخيار ثابت أما إذا اشترط أحد المتبايعين ذلك فظاهر وأما إذا لم يشترط فالبيع مشتمل على الغرر الذى هو المناط الأعظم في الخيارات وقد ثبت في حديث عند البخاري في التاريخ وابن ماجه والدارقطني أنه صلى الله عليه و سلم قال لذلك الرجل الذي كان يخدع في البيوع ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها فهذا من جملة ما خصص بيع الغرر من (3/93)
أحاديث النهي مع ثبوت الخيار
قوله ولجهل قدر الثمن أو المبيع
أقول هذا أيضا من جملة أنواع الغرر لعدم الإحاطة بالمجهول من المبيع أو الثمن فإن ورد دليل يدل على صحة هذا التبايع مع ثبوت الخيار فذاك وألا فالظاهر أنه بيع باطل لاشتماله على ما نهى عنه الشرع من الغرر وأيضا التراضي الذى هو المناط في صحة البيع والشراء ليس بمتحقق مع الجهالة فلم يوجد ما هو المعتبر في هذه المعاملة
قوله أو تعيينه
أقول الغرر في هذا ظاهر واضح فأن جعل البائع للمشتري الخيار في الاختيار فقد دلت السنة الصحيحة أنه يصح كما في حديث أو يقول لصاحبه اختر في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال أو يكون بيع الخيار وأما إذا لم يقع الخيار فلا يصح البيع من أصله لأنه من بيع الغرر المنهي عنه ولكونه لم يتحقق التراضي الذى هو مناط البيع والشراء
قوله وهذه على التراخي
أقول لا وجه لهذا لا من دليل صحيح ولا من رأي مستقيم أما الدليل فقد دل على أن الخيار في المصراة وفي الخديعة ثلاثة أيام وخيار التعيين مطلق حتى يختار وباقي الخيارات المتقدمة ينبغي أن يكون إلى الوقت الذي يطلع فيه صاحبه على ما لا بد من الاطلاع عليه فإذا وقع منه ذلك ولم يفسخ فلا خيار له
قوله ويورث (3/94)
أقول إذا كان الخيار ثابتا للبائع أو المشتري بدليل شرعي فاخترمته المنية قبل أن يقع منه الخيار وقبل أن تنقضي مدة الخيار المؤقت شرعا والمؤقت بتراضي البائع والمشتري فلا شك أن هذا الحق الثابت يكون حقا لوارثه فيثبت له ما ثبت له كسائر الحقوق وهكذا سائر الخيارات الآتية وما قيل فيه بأنه لا يورث منها فذلك رأي بحت مخالف لما أثبته الكتاب العزيز والسنة من ميراث الأملاك والحقوق ولم يأتوا في الفرق بشيء إلا بما هو هباء أو سراب بقيعة
قوله ويكلف التعيين بعد المدة
أقول قد قدمنا أنه لا يصح البيع مع عدم التعيين إلا بشرط الخيار فإذا شرطه كان الاختيار موكولا إلى نظر من له الخيار إن وقع منه الاختيار نفذ البيع وإن لم يقع منه الاختيار فلا بيع وبهذا تعرف أنه لا وجه لتكليفه للتعيين بل يقال له اختر أو اترك فإذا سكت حتى مضت المدة فلا بيع لأن ذلك ترك للاختيار وهو يكفي من غير ما ذكره المصنف من التكليف
قوله ولغبن صبي أو متصرف عن الغير فاحشا
أقول خيار الغبن قد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بما قدمنا من حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يخدع في البيوع فقال من بايعت فقل لا خلابة وأخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث أنس أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله (3/95)
وسلم كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف فدعاه ونهاه فقال يا رسول الله إني لا أصبر عن البيع فقال إن كنت غير تارك للبيع فقل ها وها ولا خلابة وأخرجه البخاري في تاريخه وابن ماجه والدارقطني عن محمد بن يحيى بن حبان قال هو جدي يعني الرجل الذي كان يخدع في البيوع وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه وكان لا يدع على ذلك التجارة وكان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال إذا أنت بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها فظهر بهذا أن من كان غير عارف بحقائق الأمور قاصر الفكرة عن معرفة مقادير أثمان المبيعات وما يصلح منها وما لا يصلح فله الخيار حتى يستشير من له خبرة بذلك وذلك ثلاث ليال فيلحق به كل من باع شيئا أو اشتراه وهو غير عارف به وبمقدار قيمته وإن كان مكلفا والنساء في هذا البيع أكثر وقوعا من غيرهن لنقص عقولهن وعدم كمال تمييزهن فإذا وقع الاشتراط من الرجل المتصف بالصفة التى ذكرناها أو من المرأة كما وقع من حبان بن منقذ فهذا خيار أثبته رسول الله صلى الله عليه و سلم وقدر مدته رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو من خيار المغابنة وأما إذا لم يقع الاشتراط فمعلوم أن البيع الذى مناطه التراضي لا يتم إلا بالرضا المحقق فإن كان البائع قد رضي بما دفع إليه من الثمن مع علمه أن ذلك هو دون ثمن مثله فلا خيار له بعد ذلك وإن لم يعلم وكان معتقدا أن ذلك هو الثمن الذى تباع به تلك العين فقد كشف ظهور أن العين فوق ذلك الثمن أو أن الثمن فوق تلك العين على أن المشتري أو البائع لم يحصل منهما أو من أحدهما الرضا المحقق وطيب النفس وذلك موجب لعدم حصوله المناط الشرعي بلا يتم التبايع بينهما فإذا حصل الاختلاف فقال البائع قد تبين له أن قيمة مبيعه أكثر أو قال المشتري قد تبين له أن الثمن الذي دفعه أكثر من ثمنه وجب على القاضي أن يرفع الخصومة بينهما بتفويض الأمر إلى العدول الذين لهم خبرة بذلك المبيع ويعمل على قولهم (3/96)
وأما إذا كان البائع وكيلا للمالك أو وليا للصبي أو المجنون فالخيار ثابت بطريق الأولى لكن لا مطلقا بل إذا أخبر العدول بالغبن على البائع أو المشتري ووجه ذلك واضح لأنه لم يرض المالك إلا بما هو المعتاد في الأعيان والأثمان وإذا قال الصبي بعد تكليفه أو المجنون بعد صحته إنه مغبون كان على القاضي أن يأمر العدول بتقويم العين المبيعة وقت بيعها فإن تقرر الغبن ثبت الخيار لأنه انكشف بالغبن أن الولي لم يتصرف بالعدل كما قال الله سبحانه فلا حكم لتصرفه ولا للرضا الواقع منه فلا بد من حصول الرضا منهما عند زوال المانع من الصغر والجنون ولا بد أن يكون هذا الغبن مما لم تجر للناس عادة باختصار مثله والتساهل في المعاملات به فهذا هو الغبن الفاحش وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا وجه لتقديره بمقدار معين ولا لحده بحد معلوم
قوله وبكونه موقوفا
أقول قد عرفناك فيما سبق أن عقد الفضولي لا حكم له ولا اعتبار به بل إن أجازه المالك كان البيع الشرعي بها لأن التراضي المعتبر لم يحصل إلا عندها وإن لم يجزه كان وجوده كعدمه فليس هذا من بيع الخيار في شيء فلا فائدة لقوله وهما على تراخ ولا يورثان لأنه إذا لم يوجد الأصل وهو الخيار لم يوجد ما هو فرع له ومترتب عليه
وأما قوله وللرؤية والشرط والعيب فما أراد المصنف بذكر هذه الثلاثة على هذه الصفة إلا تكميل عدد ما أفتتح به الباب من الخيارات وسنتكلم على كل واحد منها إن شاء الله في فصله (3/97)
فصل
فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح وله رده عقيب رؤية مميزة بتأمل لجميع غير المثلى إلا ما يعفى ويبطل بالموت والإبطال بعد العقد وبالتصرف غير الاستعمال وبالتعيب والنقص عما شمله العقد غالبا وجس ما يحبس وبسكوته عليها وبرؤية من الوكيل لا الرسول ولبعض يدل على الباقي ومتقدمة فيما لا يتغير وله الفسخ قبلها وفرعية ما قبض وإن رد والقول له في نفي المميزة والبائع في نفي الفسخ
قوله فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح
أقول لا يخفاك أنه قد صح النهي أن يبيع البائع ما ليس عنده كما قدمناه وبيع البائع للغائب هو من بيع ما ليس عنده وصح أيضا النهي عن بيع الغرر وهو ما لم يقف المشتري على حقيقته والغائب عن المشتري الذي لم يكن قد رآه هو غير واقف على حقيقته فلا بد أن يأتي دليل يخصص هذا البيع من النهيين ولم يثبت في ذلك شيء تقوم به الحجة فإن حديث من اشترى ما لم يره فله الخيار في إسناده من هو مهتم بالوضع كما قال ابن حجر في التلخيص وقد تفرد بروايته مرفوعا الدارقطني والبيهقي وقالا المعروف أن هذا من قول ابن سيرين وأيضا قد روي من طريق مرسلة وفيها أيضا من لا يقوم به الحجة فلم يبق في الباب ما يصلح للتعويل عليه ومع هذا فقد عرفناك غير مرة أن (3/98)
البيع الشرعي هو التراضي فعلى تقدير أنهما تراضيا على بيع الغائب فلمن وجده على غير الصفة التي رضي بها أن يتركه لإنكشاف عدم الرضى المحقق وهذا هو معنى خيار الرؤية عند المثبتين له ولكنهم يقولون قد انعقد البيع بنفس العقد ونحن نقول إن إنكشافه على خلاف الصفة التي وقع التراضي عليها قد عاد على التراضي السابق بالنقض فكأنه لم يكن وإذا حصلت الرؤية وحصل الرضا عندها فهذا هو البيع والشراء لا ما تقدمه
وأما قوله ويبطل بالموت فهو غير مستقيم على قواعدهم التي يعملون عليها لأن الخيار حق ثابت لصاحبه ومجرد موته لا يصلح سببا لبطلانه على وارثه والحق كالملك في انتقاله عن الميت إلى وارثه فلا بد من وجود مخصص لهذه الكلية الثابتة بعمومات الكتاب والسنة وبالإجماع على الجملة وأما بطلانه بالإبطال بعد العقد فوجهه أن حق له وهو مفوض فيه وأما كونه يبطل بالتصرف فلكونه مشعر بالرضا به ولا وجه للفرق بين التصرف به والاستعمال لأن كلا منهما مشعر بالرضا بالمبيع وهكذا لا وجه لبطلانه بالتعيب والنقص عما شمله العقد إلا أن يكون ذلك بفعل من له الخيار فإنهما يشعران بالرضا بالمبيع ولا فائدة لقوله وجس ما يجس لأن ذلك قد دخل تحت قوله بتأمل لجميع غير المثلى والتأمل هو كل شيء يجسه وبما يهتدي به إلى معرفته والجس هو بمعنى التأمل لما يجس
وأما قوله وسكوته عقبها فوجهه أنه مشعر بالرضا به وفيه ما فيه كما قدمنا في نظائره وأما الرؤية من الوكيل لها فلأنه ينكشف بها ما ينكشف برؤية الموكل إذا كان الوكيل له خبرة بمثل ذلك المبيع بخلاف الرسول المرسل لقبض المبيع فإنه غير قاصد للاطلاع على حقيقته ولا هو مبعوث من مرسله لهذا المقصد وأما ما ذكره من الرؤية للبعض يدل على الباقي فوجهه أن الشيء المتفق تقوم رؤية بعض أجزائه مقام الرؤية لجميعها وهكذا الرؤية المتقدمة فيما لا يتغير فإن الرائي قد وقف على حقيقته وليس المراد من الرؤية حال العقد وبعده إلا ذلك
وأما قوله وله الفسخ قبلها فخبط على غير قياس فإن المناط عندهم هو أن يوجد (3/99)
المبيع غير مطابق لغرض المشتري وقبل الرؤية لا حصول لهذا المعنى
وأما قوله وفرعية ما قبض وإن رد فلا وجه له لأن الرد قد كشف أن المبيع باق على ملك البائع وفوائده تابعة لأصله وما عللوا به لمثل هذا غير صالح لتسويغ مال الغير بغير طيبة من نفسه
وأما قوله والقول له في نفي المميزة وللبائع في نفي الفسخ فوجهه أن الأصل عدم الرؤية وعدم كونها مميزة وعدم وقوع الفسخ فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال على كلامهم في هذا الفصل تصحيحا وتسقيما والحق عندنا ما قررناه في أول الفصل فاعرفه فإنه مشى مع الدليل لا مع القال والقيل
فصل
ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط الخيار مدة معلومة لهما أو لأحدهما أو لأجنبي فيتبعه الجاعل إلا لشرط ويبطل بموت صاحبه مطلقا فيتبعه المجعول له وبإمضائه ولو في غيبة الآخر وهو على خياره عكس الفسخ وأي تصرف لنفسه غير تعرف كالتقبيل والشفع والتأجير ولو إلى المشتري غالبا وبسكوته لتمام المدة عاقلا ولو جاهلا حتى انقضت
قوله ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط الخيار
أقول هذا الخيار قد جاءت به السنة الصحيحة منها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما (3/100)
من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصحابه اختر وربما قال أو يكون بيع الخيار وفي لفظ لهما أنه صلى الله عليه و سلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يخبر أحدهما الآخر فإن خير أجدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع وفي لفظ لهما أيضا المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار ففي هاتين الروايتين قد جعل الخيار قسيما للتفرق فإذا تفرقا فقد وجب البيع إلا أن يكون بينهما خيار فإنه لا يجب البيع إلا بالاختيار وإن تفرقا
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في هذا الاستثناء كما أوضحناه في شرح المنتقى على ثلاثة أقوال وأحسنها ثالثها وهو أن المراد بهذا الاستثناء أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق قال ابن حجر في الفتح وهو قول يجمع التأويلين الأولين انتهى وفي الباب أحاديث كلها تدل على ثبوت خيار الشرط ومنها قصة حبان بن منقذ التي قدمنا ذكرها فإنها مصرحة بإثبات خيار الشرط بعد التفرق
وأما قوله مدة معلومة فوجهه عدم استقرار البيع مع جهالة مدة الخيار والظاهر أنه يصح مع جهالة المدة وإذا تراخى من له الخيار عن الاختيار كان للآخر مطالبته لذلك وعند ذلك يستقر البيع أو يبطل (3/101)
وأما قوله لهما أو لأحدهما أو لأجنبي فصحيح لأن الأمر مفوض إليهما أو إلى من له الخيار
قوله ويبطل بموت صاحبه
أقول عللوا هذا البطلان بما لا يصلح له فإن الحق الذي لصاحب الخيار يثبت لوارثه لأنه من جملة ما ينقل إلى الوارث كما قدمنا وعلى تقدير أنه لم يطلع على ما يختاره مورثه فله أن يختار ما يوافقه بحكم الخلافة منه لمورثه وانتقال الحق إليه
وأما قوله ويبطل بامضائه فصحيح ولكن جعل هذا من المبطلات خلاف المعقول فإنه إذا أمضى البيع فهو معنى ما جعل له من الخيار لأنه تفويض له أن يختار أحد الأمرين إما الفسخ أو الإمضاء أو هذا المبيع أو هذا فهو بالإمضاء قد فعل ما جعل له ولم يبطله فإن أرادوا أن معنى بطلان الخيار أنه لا يصح منه أنه يختار الفسخ بعد اختيار الإمضاء فهذا معلوم ولكنه شيء غير بطلان الخيار بل معناه أنه قد صح خياره وفعل أحد الأمرين فليس له أن يرجع عما قد فعله من الاختيار للإمضاء وما ذكره من الفرق بين الإمضاء والفسخ من اشتراط كون الثاني في وجه الآخر دون الفسخ لا وجه له من رواية ولا رأي
وأما قوله وبأي تصرف لنفسه الخ فوجهه أن ذلك مشعر باختيار الإمضاء كما قدمنا
وهكذا قوله وسكوته لتمام المدة لإشعاره بذلك على ما في هذا الإشعار من عوج فإن نسبة الدلالة إلى مجرد السكوت لا يكون إلا عند عوارض مشعرة بعدم تيسر النطق ولو بمجرد الحياء كما في قوله صلى الله عليه و سلم في البكر إذنها صماتها
وأما قوله وبردته حتى انقضت فلا وجه له بل ينتقل هذا الخيار إلى من ينتقل إليه مال المرتد (3/102)
فصل
وإذا انفرد به المشتري عتق عليه وشفع فيه وتعيب وتلف في يده من ماله فيبطل وإلا فالعكس والفوائد فيه لمن استقر له الملك والمؤن عليه وينتقل إلى وارث من لحق وولي من جن وصبي بلغ ويلغو في النكاح والطلاق والعتاق والوقف ويبطل الصرف والسلم إن لم يبطل في المجلس والشعفة
قوله وإن انفرد به المشتري عتق عليه
أقول المشتري بخيار شرط لا يدخل المبيع في ملكه إلا باختياره وهو قبل اختياره باق في ملك بائعه استصحابا للحال أو عملا باليد الأصلية فلا يعتق عليه ولا شفع ولا يتعيب ويتلف من ماله وإن كان في يده فهذه اليد غير مستقرة بل مشروطة بالاختيار للإمضاء وهكذا لا تكون المؤن عليه بل على البائع حتى يستقر ملك المشتري وهكذا الفوائد تكون للبائع حتى يستقر ملك المشتري وإذا استقر كانت له من وقت الاستقرار
أما قوله وينتقل إلى وارث من لحق وولي من جن وصبي بلغ فصحيح أما وارث من لحق فلما قدمنا في مواضع من كون الخيار بجميع أقسامه يورث وأما انتقاله إلى ولي من جن فلقوله سبحانه فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل فهو فيملل وليه (3/103)
وأما انتقاله إلى صبي بلغ فلكونه صاحب الحق على الحقيقة وقد صار صحيح التصرف
قوله وبلغو في النكاح
أقول قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج إلا أن يشترط عليه ما يرفع موجب النكاح ويخالف مقتضاه وأما في الطلاق والعتاق والوقف فوجه عدم صحة الخيار في هذه الأمور أنه تقييد لإنشاء فاعلها والإنشاء لا يتقيد ولا أرى هذا التعليل صحيحا فإنه إذا قال طلقت فلانة إن اختارت ذلك أو أعتقت العبد إن اختار ذلك أو وقفت هذا على فلان إن قبل كان هذا التقييد بالشروط المذكورة للإنشاء المذكور صحيحا فكيف لا يصح أن يقيدها فاعلها باختيار نفسه إلى وقت يردد فيه فكره ويصحح فيه رأيه ولا يصح قياس هذا على نفوذ ما ينفذ منها من الهازل كما وردت السنة بذلك حسبما قدمنا لأن الهزل باب آخر والشرط وخياره باب آخر وقيل إن خيار الشرط لم يثبته الشارع إلا في البيع فيكون خاصا به لا بسائر المعاملات والإنشاءات ولكنه يقال إن كانت العلة المعاوضة لحق بالبيع ما فيه معاوضة وإن كانت العلة كون البيع فيه وجهتان لحق به ما كان كذلك ومن أثبت مثل هذا القياس في غير هذا الموضع فلا عذر له من القول به هنا
قوله ويبطل الصرف والسلم
أقول علله المصنف باشتراط التقابض في المجلس والباب واسع من هذه فإنه قد تقدم في الربويات فإن اتفقا فيما اشترط الملك والحلول فعلى هذا أن خيار الشرط يبطل كل ما كان التقابض في المجلس شرطا فيه مع أن نفس اشتراط الخيار لا يستلزم عدم التقابض فإذا تقابضا وشرط الخيار لهما أو لأحدهما لم يكن ذلك مبطلا للصرف والسلم ولا لما هو في حكمهما في اشتراط التقابض بل إذا اختار من له الخيار الفسخ (3/104)
رد كل واحد منهما تلك العين التي قبضها كما هى أما إذا كان شرط الخيار مضمونا إليه تأخر قبض أحد البدلين كان باطلا إن لم يبطل في المجلس وكذلك المعاملة باطلة لما فيها من النسيئة التي يقول فيها صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة ولكن هذا البطلان ليس لشرط الخيار بل لتأخير القبض
وأما قوله والشفعة فمبني على أنها تبطل بالتراخي وسيأتي إنشاء الله الكلام على هذا في كتاب الشفعة
فصل
وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض وبقي أو عاد مع المشتري وشهد عدلان ذوا خبرة أنه عيب ينقص القيمة رد به ما هو على حاله حيث وجد المالك ولا يرجع بما أنفق ولو علم البائع
قوله وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض الخ
أقول الأصل في ثبوت خيار العيب والرد به ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث عائشة أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله عليه و سلم الغلة بالضمان وفي لفظ من (3/105)
حديثهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن الخراج بالضمان وأخرجه بهذا اللفظ أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان ومن جملة من صححه ابن خزيمة كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وحكي عنه في التلخيص أنه قال لا يصح وقد ضعفه البخاري وقد ثبت الحديث بتصحيح هؤلاء الأئمة له وله في سنن أبي داود ثلاث طرق اثنتان منهما رجالهما رجال الصحيح ومعنى قوله الخراج بالضمان أن فوائد المبيع يملكها المشتري بسبب ضمانه للمبيع إذا أتلف عنده فالباء سببية وظاهر الحديث أن العيب الذي حصل به الرد هو عيب كان عند البائع والاعتبار بكونه عيبا في عرف الناس وعند أهل الخبرة منهم سواء كان ينقص القيمة أم لا
وأما قوله رد به ما هو على حاله فالظاهر أنه يرد به على كل حال وسيأتي الكلام على ذلك
وأما قوله ولا يرجع بما أنفق فوجهه أنه أنفق على ملكه كما قالوا وفيه نظر لأن البائع إذا باع ما فيه عيب فقد حصل منه الغرر على المشتري فهو غرم لحق المشتري بسبب تغريره ولا سيما إذا كان عالما هو عاص ببيع المعيب مخالف للشريعة كما في حديث لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم والطبراني من حديث عقبة من عامر قال ابن حجر في الفتح (3/106)
وإسناده حسن وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم في المستدرك من حديث واثلة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه وفي إسناده مقال وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال من غشنا فليس منا وأخرج الترمذي والنسائي وأبي ماجة وابن الجارود عن العداء بن خالد بن هوذة قال كتب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم اشترى منه عبدا أو أمة لآداء ولا غائلة ولا خبثه بيع المسلم المسلم
وأما قوله صلى الله عليه و سلم الخراج بالضمان فقد قدمنا أن المراد به ضمان المبيع إذا تلف فكل ما انتفع به من فوائد المبيع فهو إلى مقابل هذا الضمان لا إلى مقابل الإنفاق (3/107)
فصل
ولا رد ولا أرش إن تقدم العلم ولو أخبر بزوال ما يتكرر أو رضي ولو بالصحيح منه أو طلب الإقالة أو عالجه أو زال معه أو تصرف بعد العلم بأي تصرف غالبا أو تبرأ البائع من جنس عينه أو قدر منه وطابق لا مما حدث قبل القبض فيفسد
قوله ولا رد ولا أرش الخ
أقول هذا صحيح لأن تقدم علم المشتري بالعيب وإقدامه على الشراء بعد العلم يدل على أنه قد رضي به دلالة بينة واضحة
وأما قوله أو أخبر بزوال ما يتكرر فلا بد أن يعلم أن ذلك العيب مما يتكرر أو يبين له البائع ذلك وإلا ثبت له الرد وأما إذا رضي بالعيب فليس بعد الرضي شيء
وأما قوله ولو بالصحيح منه فغير مسلم فإن الرضا بالصحيح دون المعيب لا يستلزم الرضا بالمعيب ولا يكون تفريق الصفقة موجبا لعدم الرد وإذا كان على البائع في التفريق ضرر كان المانع هو هذا لا مجرد تفريق الصفقة فيما لا ضرر في تفريقه وقد قدمنا عند قول المصنف ومتى انضم إلى جائز البيع غيره فسد ما قد عرفته
وأما ما ذكره من طلب الإقالة والمعالجة والتصرف بعد العلم ففي بطلان الرد الثابت شرعا بهذه الأمور نظر لأن إشعار هذه بالرضي بالعيب غير مسلم بل قد بطلت الإقالة محاسنه وطلبا لرضاء البائع بدون خصومه وقد يعالجه لرجاء أن يذهب فلا يرده فإذا لم يذهب فهو على حجته وهكذا التصرف بشيء من فوائده فإن ذلك مما أباحه له الشرع كما تقدم في الحديث (3/108)
وهكذا إذا تصرف بالعين نفسها ثم ردت عليه بذلك العيب فحقه في الرد ثابت بالشرع ولا يمنع عنه إلا دليل من الشرع أو الرضا المحقق أو ما يشعر بالرضا المحقق وهو تقدم العلم بالعيب وهكذا إذا تبرأ البائع من عيب معين أو من جنس من أجناس العيوب فإن المشتري إذا قبل ذلك فقد رضي لنفسه إذا لم يكن العيب الموجود إلا ما تبرأ منه البائع لا إذا انكشف زائدا عليه ثبت له الرد بالزيادة
وأما قوله لا مما حدث قبل القبض فيفسد ففيه نظر لأن المشتري رضي لنفسه وهو بالغ عاقل والرضا هو المناط الشرعي في البيع فليس لنا أن نقول لا حكم لهذا الرضا لأنه منع لمناط شرعي بغير دليل وأما تعليل ذلك بأنه شرط مقارن للعقد فيقضي فساد عقد البيع فقد عرفت مما قدمنا في الشروط ما يندفع به هذا التعليل
فصل
ويستحق الأرش لا الرد بالرضا بتلفه أو بعضه في يده ولو بعد امتناع البائع عن القبض أو القبول مع التخلية وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم ولو بعوض ما لم يرد عليه بحكم وبتعيبه معه بجناية يعرف العيب بدونها ممن تضمن جنايته وفي عكسها يخير بين أخذه وأرش القديم أو رده وأرش الحديث إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء فإن زال أحدهما فالتبس أيهما تعين الأرش ووطؤه ونحوه جناية وبزيادته معه ما لا ينفصل بفعله وفي المنفصل يخير بين أحد الأرش أو القلع والرد فإن تضرر بطل الرد لا الأرش ولو كان الزائد بها ثمن المعيب قيميا سليما لم تبطل واستحق قيمة (3/109)
الزيادة كلو تضررت الزيادة وحدها فيها وأما بفعل غيره فيرده دون الفرعية مطلقا وكذا الأصلية إلا بحكم فيضمن تالفها
قوله ويستحق الأرش لا الرد إلا بالرضا بتلفه أو بعضه في يده
أقول أما تلفه فظاهر لأن الأرش هنا غاية ما يمكن بعد تلف المبيع وأما إذا تلف بعضه فله رد الباقي وأخذ أرش التالف لأن الشرع قد أثبت له رد المعيب كله فرد بعضه بالأولى وما عللوا به من تفريق الصفقة لا وجه له
وأما قوله ولو بعد امتناع البائع عن القبض أو القبول مع التخلية فظاهر لأن المشتري قد استحق الرد مع البقاء والأرش مع التلف فلا فرق بين أن يكون التلف بعد الرد أو قبله ولا بين رضا البائع بالرد أو امتناعه
قوله وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم ولو بعوض
أقول إذا خرج عن ملكه قبل العلم بالعيب فهو على حجته وقد أثبت له الشرع رد المعيب وخروجه عن ملكه قبل علمه بعيبه لا يبطل حقه الثابت بالشرع فله استرجاعه ورده بعينه بذلك العيب ولم يمنع من الرد رواية صحيحة ولا رأى مستقيم وأما إذا أخرجه عن ملكه بعد العلم بالعيب فإن رد عليه لذلك العيب فله رده على البائع منه وأن طولب من المشتري الآخر بالأرش فله أن يرجع به على البائع منه لأنه غرم لحقه بسببه وإن رضي به المشتري منه ولم يطالبه برد ولا أرش فقد صح البيع ولم يلحقه نقص بسبب العيب فلا يطالب البائع منه بشيء والحاصل أن مثل هذه المسائل مما يقضي منه العجب لأنها مبنية على غير أساس وأعجب من هذا من يدعي الإجماع على مثل هذه الخرافات
قوله وبجناية يعرف العيب بدونها ممن يضمن جنايته
أقول الجناية مضمونة على الجاني سواء كان المشتري أو غيره وذلك غير مانع من الرد فيرده للمشتري مع الأرش اللازم وكأنها وقعت الجناية على المبيع وهو في ملك (3/110)
البائع ولا يكون مثل هذا مبطلا لحق المشتري الثابت بالشرع وليس ها هنا رواية ولا رأي صحيح يصلحان للمنع من الرد
وأما قوله وفي عكسها يخير الخ فهذا صحيح لأن الحق للمشتري فما رضي به لزمه ولزم البائع قبوله إلا أن يختار رد المبيع إليه بلا أرش فله ذلك
وأما قوله إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء فوجهه أن ذلك التعيب كان لهذا السبب ولا اختيار للمشتري في لكونه عن السبب المتقدم على العقد
وأما قوله فإن زال فالتبس أيهما تعين الأرش يعني على البائع للمشتري والأولى أن يقال تعين الرد للمبيع على بائعه بالدليل الصحيح وإذا نقص عن قيمته وقت الشراء بسبب من المشتري كان للبائع المطالبة بأرش النقص إلا أن يختار المشتري بقاءه لديه وأخذ الأرش فله ذلك
وأما قوله ووطؤه جناية فصحيح ولكنه إذا أوقع الحمل امتنع الرد لوجود سبب العتق وله أن يرجع بالأرش لأن المفروض أنه وطيء قبل العلم بالعيب وأما إذا لم يقع الحبل فله الرد ويسلم أرش النقص إن حصل بذلك نقص
قوله وبزيادته معه ما لا ينفصل
أقول لا وجه لجعل هذه الزيادة مبطلة للرد بل نقول للمشتري الرد بالدليل المتقدم وهذه الزيادة مضمونة على البائع لأنه غره ببيع المعيب منه وإن اختار المشتري الأرش فله ذلك وأما الزيادة المنفصلة فإن شاء المشتري أخذها ورد المبيع وإن شاء تركها ورد المبيع وليس له أن يطالب بالأرش لأن الزيادة ها هنا منفصلة ولا مانع له من أخذها إلا يكون قد حدث في المبيع نقص من جهة أخرى فله إذا اختار بقاءه لديه أن يطالب بالأرش
وأما قوله فإن تضرر بطل الرد لا الأرش فلا وجه لبطلان الرد بل المشتري (3/111)
بالخيار إن شاء رده بزيادة وإن شاء أخذ الأرش إن كان في المبيع ما يقتضي النقص الموجب للأرش
وأما قوله ولو كان الزائد بها إلى آخر الفصل بلا يخفاك أنه خروج عن البحث ولكن الكلام في هذه الزيادة كالكلام في الزيادة في المبيع بلا نطول البحث بما لا طائل تحته
فصل
وفسخه على التراخي ويورث وبالتراضي وإلا فبالحكم بعد القبض ولو مجمعا عليه وهو ينوب عن الغائب والمتمرد في الفسخ والبيع لتوفير الثمن أو خشية الفساد وفسخه إبطال لأصل العقد فترد معه الأصلية ويبطل كل عقد ترتب عليه وكل عيب لا قيمة للمعيب معه مطلقا أوجب رد جميع الثمن لا بعد جناية فقط فالأزش فقط وإن لم يعرف بدونها ومن باع ذا جرح يسري فسرى فلا شيء على الجارح في السراية به إن علما أو أحدهما والعكس إن جهلا وتلف أورد بحكم وهو عيب وإذا تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله
قوله وفسخه على التراخي
أقول وجه ذلك أن الرد بالعيب حق ثابت للمشتري بالشرع فما دام المعيب (3/112)
موجودا أو العيب ظاهرا كان الرد ثابت وإن طالت المدة إلا أن يرضى به أو يسقطه ولا وجه لتقييد مدة هذا الخيار بثلاثة أيام استدلالا بما في حديث المصراة وفي حديث حبان بن منقذ لأن الأول من خيار فقد الصفة والثاني من خيار الخديعة والغرر وهكذا يورث عنه كما قدمنا غير مرة لأن ما كان للمورث فهو ثابت للوارث ومنتقل إليه بالأدلة الثابتة في الكتاب والسنة وأما كون فسخه بالتراضي وإلا فبالحكم فظاهر لأنه إذا حصل التراضي أغني عن التشاجر وإذا لم يحصل ووقع التشاجر احتاجا إلى رفع الخلاف ودفع الخصومة بالحاكم ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل القبض أو بعده ولا بين أن يكون بالعيب مجمعا عليه أو مختلفا فيه وأما كون الحاكم ينوب عن الغائب والمتمرد في الفسخ فظاهر لأنه لو لم يكن ذلك له لحصل الإضرار بمن له الفسخ وهو منكر ودفع المنكر واجب والحاكم أقدر الناس عليه ولكن كان الأولى أن يقول المصنف وهو يحكم على الغائب والمتمرد بالفسخ إذ لا معنى للنيابة ها هنا وسيأتي تكميل الكلام في باب القضاء
وكما يحكم عليه بالفسخ يحكم عليه بالبيع لتوفير الثمن أو لخشية الفساد وأما كون فسخ الحاكم إبطالا لأصل العقد فصحيح إذا كان الحكم بوجه الحق ولا وجه للتقييد بقوله ويرد معه الأصلية بل لا يرد معه الأصلية ولا الفرعية لأن الخراج بالضمان كما حكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما كونه يبطل كل عقد ترتب عليه فظاهر لأن صحة المتأخر مشروطة بصحة المتقدم
قوله وكل عيب لا قيمة للمعيب معه الخ (3/113)
أقول هذا كلام قليل الجدوى لأن مجرد وجود العيب سوغ به رد المبيع وإن لم ينقص به القيمة كما قررنا فيما سبق أو نقصت به كما تقدم للمصنف ورد المعيب على كل حال يوجب رد جميع الثمن
وأما قوله لا بعد جناية فالأرش فقط فقد تقدم له في الفصل الذي قبل هذا ما يغني عنه
وأما قوله وإن لم يعرف بدونها فقد جعله فارقا بين الكلام ها هنا وبين ما تقدم وليس لهذا الفرق به ومن منقول ولا من معقول وقد قدمنا ما هو الصواب
قوله ومن باع ذا جرح يسري فسري الخ
أقول لا يخفاك أن الجاني على ملك الغير قد لزمه أرش الجناية بالشرع فلا يسقط عنه إلا بإسقاط لا بمجرد بيع المالك أو شراء المشتري منه فإن هذا لا يصلح مسقطا لما هو لازم هذا إذا كان الجاني على ذلك أجنبيا أما إذا كان الجاني هو المالك الأول ثم باعه إلى آخر وهذا باعه إلى مشتر فلا شك أن سراية الجناية عيب ثابت من عند البائع الأول فالرد به ثابت فإن علم المشتري منه بالسراية واشتراه منه بهو كما قدمنا في تقدم العلم بالعيب وهكذا إذا علم المشتري منه بأن مثل هذا الجرح يسري فهو كذلك فلا رد ولا أرش وإن جهلا كان لكل واحد منهما الرد بذلك العيب وهو السراية فإن تعذر الرد بوجه فالأرش وبالجملة فهذه المسائل أكثرها تطويل بلا طائل مع كون غالبها على شفا جرف هار وقد تقدم ما يغني عن هذا فإن قوله ولا رد ولا أرش إن تقدم العلم يشمل كل عيب ومنه الجرح الذى يسري ويغني عن قوله والعكس إن جهلا وتلف قوله في الفصل المتقدم قبل هذا ويستحق الأرش لا الرد بتلفه الخ وكون المسألة مفروضة في بائعين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو زيادة على ذلك لا يقتضي شغله الحيز وإتعاب الطلبة بإن البحث واحد
قوله وإذا تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله (3/114)
أقول لا وجه لهذا من معقول ولا من منقول فالوصي لا جناية منه ولا تفريط ولا تغرير ولا تدليس فبأي وجه حل تغريمه بإنه إذا تعذر عليه الرد من التركة لثمن ما باعه كان صاحب ذلك الثمن من جملة من يتعلق له حق بتركة الميت ويصير كأحد الغرماء يصير له من الأسوة بقدر ما هو له من الثمن إذا لم يمكن أن يوجد في التركة ما يقوم بجميع الثمن هذا على تقدير أن العين المبيعة التي اشتراها منه الوصي قد تلفت أما لو كانت باقية كان أحق بها كما حكم بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله من وجد سلعته عند مفلس فهو أحق بها والميت الذى صارت تركته مستغرقة بالدين له حكم المفلس ولتركته حكم ما في يد المفلس
فصل
وإذا اختلف المشتريان فالقول في الرؤية لمن رد وفي الشرط لمن سبق والجهة واحدة فإن اتفقا فالفسخ لمن رضي ويلزمه جميعا وله أرش حصة الشريك
قوله والقول في الرؤية لمن رد
أقول وجه ذلك أنه قد ثبت له حق الرد ولا يلزمه رضا صاحبه وكذلك صاحبه لا يلزمه عدم رضا شريكه به فكان لمن اختار الفسخ استيفاء حقه بالرد فإن وافقه الراضي فذاك وإن اختار عدم الفسخ كان له ذلك إلا أن يكون في رد البعض وإمساك البعض ضرر على البائع فإنه يجب دفع الضرر عنه بإجبار الشريكين على الاتفاق إما فسخا أو رضا وهكذا الكلام في خيار الشرط ولا وجه للفرق ولا دل عليه دليل عقل ولا نقل والحكم (3/115)
في السبق والاتفاق منهما واحد لا تأثير لأحدهما في الترجيح لأحد الجانبين أصلا وهكذا الكلام في العيب لكل واحد منهما اختياره إلا فيما يضر بالبائع والحاصل أن هذه المسائل مبنية على خيالات مختلة وعلل معتلة وما بمثل هذه الأمور الزائفة تثبت أحكام الله عز و جل (3/116)
باب ما يدخل في المبيع
فصل
يدخل في المبيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به وفي الفرس العذار فقط وفي الدار طرقها وما ألصق بها لينفع مكانه وفي الأرض الماء إلا لعرف والسواقي والمساقي والحيطان والطرق المعتادة إن كانت وإلا ففي ملك المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن كان وإلا فعيب ونابت يبقى سنة فصاعدا إلا ما يقطع منه إن لم يشترط من غصن وورق وثمر ويبقى للصلاح بلا أجرة فإن اختلط بما حدث قبل القبض قيل بسد العقد لا بعده فيقسم ويبين مدعي الزيادة والفضل وما استثنى أو بيع مع حقه بقي وعوض والقرار لذي الأرض وإلا وجب رفعه ولا يدخل معدن ولا دفين ولا درهم في بطن شاة أو سمك والإسلامي لقطة إن لم يدعه البائع والكفري والدرة للبائع والعنبر والسمك في سمك ونحوه للمشتري
قوله باب ما يدخل في المبيع وتلفه واستحقاقه يدخل في المبيع ونحوه للمماليك الخ
أقول هذا وإن كان ردا إلى مجرد العادة فهي في مثل هذا متبعة لأنها كائنة في ضمير كل واحد من المتبايعين فإذا قال بعت منك العبد أو الأمة فمعلوم لكل واحد منهما (3/117)
أنه لا بد أن يكون عليهما ما يستر عورتيهما ويواري ما جرت عادة الناس في مماليكهم بمواراته على اختلاف في ذلك بين أعراف أرباب بالمناصب والحشمة والثروة وبين غيرهم فقد يسمح الغني ومن له رياسة بما لا يسمح به الفقير ومن هو من أهل الحرف الدنية والأعراف الجارية بين الناس التى لا يخالف الشرع قد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالرد إليها كما في قوله في غير موضع بالمعروف عل أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر بلفظ ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع ولكن الباب مبني على الأعراف ومن المرجوع إليه في الأعراف بيع الحيوانات الفرس وغيرهما فما كان متعارفا به كان في حكم المنطوق به ولا وجه لقول المصنف وفي الفرس العذار فقط بل المتوجه الرد إلى العرف كائنا ما كان وعرف أهل بلد لا يلزم أهل بلد آخر إذا تخالفت أعرافهم
وأما قوله وفي الدار طرقها فليس دخول الطرقات لمجرد العرف بل هو للضرورة التى لا يمكن الانتفاع بالمبيع إلا بها فلو باع الدار من دون طرقها كان في منع المشتري من الطريق التى لا يمكن دخول الدار إلا منها إبطال لفائدة الدار وقد تقدم أن بيع ما لا نفع فيه لا يصح وهكذا قوله وما ألصق بها لينفع مكانه فإن ذلك داخل في مسمى الدار لاشتمالها على جميع أبوابها وطاقاتها ونحوها حال البيع لمن أدعى أن شيئا من ذلك خارج عن المبيع لم يقبل منه إلا ببرهان وهكذا قوله وفي الأرض الماء الخ فإنه وإن كان العقد واقعا على مجرد الأرض فدخول ما لا يمكن الانتفاع بها إلا به هو من لوازم البيع ومعلوم أن سواقي الأرض ومساقيها والماء الذى تشرب منه تابع للأرض وإذا جرت الأعراف بما يخالف هذا كان ذلك في حكم الاستثناء لتلك الأمور أو لبعضها وهكذا طرق الأرض تابعة لها ويتوقف الانتفاع بها عليها كما تقدم في الدار فإن اشترى الأرض ولا طريق لها عالما بذلك فقد رضي بالعيب ولا رد ولا أرش وإن كان جاهلا (3/118)
كان له فسخها لأن ذلك عيب من أعظم العيوب بل لم ينعقد البيع من الأصل لأنه لم يرض بأرض لا طريق لها فقد كشف عدم وجود الطريق على أن الرضا السابق كلا رضا فلم يوجد المناط الشرعي الذى هو قوله عز و جل تجارة عن تراض بلا وجه لقوله ففي ملك المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن كان بل الأعتبار لما ذكرناه من علم المشتري بعدم الطريق أو عدم علمه
قوله وثابت يبقى سنة فصاعدا
أقول ما كان هكذا فالظاهر أنه داخل في بيع الأرض غير مستثنى ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع فأفاد أن ثمرة النخل قبل أن يؤبر للمشتري وإذا كان هذا في نفس الثمرة فبالأولى الشجر الثابت الذى يراد به البقاء فلا يقال إنه دخل بالعرف بل بنفس العقد على الأرض وأما ما يقتطع منه من غصن وورق وثمر فينبغي إلحاقه بثمر النخلة فإن كان قد وقع من البائع فيه عمل كالعمل الواقع بالتأبير فهو للبائع وإلا فهو للمشتري وإذا قد فعل فيه البائع عملا كذلك فهو له ويستحق بقاءه حتى يصلح ولا يلزمه أجرة للمشتري لأن الشرع قد جعل ذلك له فلا بد من بقائه حتى يصلح لأن ذلك من تمام كونه له وإذا اختلط هذا الذي قد صار للبائع بالعمل فيه بغيره مما لا عمل له فيه كان الرجوع في ذلك إلى أهل الاختيار فإن ميزوا بينهما فذاك وإن لم يميزوا جعلوا للبائع بقدر ما يكون في أمثال ذلك المبيع وقت البيع وللمشتري ما عدا ذلك فإن التبس الأمر من كل وجه فكما قال المصنف يقسم ويبين مدعي الزيادة
قوله وما استثنى أو بيع من حقه الخ (3/119)
أقول هذا مرجعه التراضي بين البائع والمشتري فإن تراضيا على مقدار البقاء لزم ما تراضيا عليه وإن لم يتراضيا فإن جرى عرف بين أهل بلدها بالبقاء أو عدمه كان العمل على ذلك وإن لم يحصل التراضي ولا وجد العرف رفع المستثني ما استثناه ولا حق له في البقاء وأما ما بيع مع حقه فيبقى الحق ثابتا للمشتري وإذا تلف فإن جرت الأعراف باستمرار ثبوتها للمشتري وتعويضها إذا تلفت أو بعضها كان للمشتري ذلك لأن العرف معلوم لكل واحد منهما عند العقد وإن لم يكن منها بل من التي ينتفع بها ما دامت باقية فليس للمشتري التعويض والأعراف في هذا الباب محكمة كما قدمنا وأما كون القرار لذي الأرض فشيء معلوم لا يحتاج إلى النص عليه
وأما قوله وإلا وجب رفعه فقد عرفت مما قدمنا أنه لا بد من التفصيل
قوله ولا يدخل معدن
أقول وجه هذا أن البائع لو علم به لم تطب نفسه بالثمن الذى تراضيا عليه فقد كشف ذلك عن اختلال التراضي الذي هو المناط في نقل الأملاك وإذا اختل فلا بيع فلا بد بعد انكشاف المعدن والدفين ونحوهما من التراضي عن البيع بثمن تطيب به نفساهما فإن وقع منهما ذلك كان بيعا جديدا وهكذا الكلام فيما وجد في بطن الشاة والسمك أنه مستحق للبائع وأما التفصيل بين كونه إسلاميا أو كفريا فلا دخل له في الباب بل ذلك حكم أخر يعمل البائع فيه بما يقتضيه الشرع وهكذا حكم العنبر في سمك ونحوه والحاصل أن من عرف أن مناط أحكام البيع الشرعية هو التراضي لم يستبعد هذا ومن خفي عليه فمن نفسه أتي
فصل
وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ في غير يد المشتري وجنايته فمن مال البائع قيل وإن استعمله فلا خراج وإن تعيب ثبت الخيار وبعده من مال المشتري ولو في يد البائع وإذا استحق رد لمستحقه فبالإذن أو الحكم بالبية أو العلم يرجع بالثمن وإلا فلا (3/120)
وما تلف أو استحق منه ما ينفرد بالعقد فكما مر فإن تغيب به الباقي ثبت الخيار
قوله وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ الخ
أقول أعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أخبرنا بأنه إذا حصل التفرق من مجلس العقد فقد وجب البيع ومعلوم أن وجوب البيع يقتضي دخوله في ملك المشتري وخروجه من ملك البائع وإذا قد دخل في ملك المشتري صار له غنمه وعليه غرمه كسائر أمواله فيتلف من ماله ولم يأت دليل يدل على أنه لا بد من القبض وأنه لا يدخل في ملكه إلا به ولم ترد الأدلة إلا في نهي البائع عن أن يبيع ما لم يكن في قبضه وما ليس عنده إذا تقرر لك أن التفرق من مجلس العقد موجب للبيع كما صرحت بذلك الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما وأنه صلى الله عليه و سلم لم يستثن من ذلك إلا بيع الخيار فكيف يقال إن المبيع يتلف من مال البائع بعد البيع قبل القبض فإن هذا من غرائب الأحكام ومع كونه مخالفا للدليل فهو أيضا مخالف للرأي المستقيم الجاري على نمط الاجتهاد لأن تلف ما قد صار في ملك لا يتلف إلا من ملكه وتضمين غير المالك ظلم له
فالحاصل أنا نمنع أولا كونه يتلف من مال البائع بعد التفرق من مجلس العقد مسندين هذا المنع إلى الدليل الناطق بأنه وجب البيع بالتفرق ثم نمنع ثانيا كون القبض شرطا فلا عذر للقائل بأنه يتلف من مال البائع أخذا من الدليل المنتهض لما منعناه فإن قلت قد ثبت فى صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن بعت من أخيك تمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق وفى لفظ لأحمد وأبى داود والنسائى أن النبي (3/121)
صلى الله عليه و سلم وضع الجوائح قلت قد ثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس ما يدل على تقييد هذا الوضع بما إذا وقع البيع قبل الصلاح ولفظه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى قالوا وما تزهى قال تحمر وقال إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك فهذا الوضع قد ترتب على بيع منهي عنه وما كان منهيا عنه فهو غير صحيح والكلام هنا في بيع صحيح وجب بالتفرق وهذا فارق واضح لا يصح معه القياس ويؤيد هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبى سعيد قال أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم تصدقوا عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ولم يوجب صلى الله عليه و سلم على البائع منه للثمار أن يرد الثمن الذى قبضه منه ولو سلمنا تنزلا لكان وضع الجوائح مختصا بما تلف بالآفات السماويه كما تقدم فى حديث أنس بلفظ إذا منع الله الثمرة وأما إذا تلف المبيع بجناية فإن كانت من المشتري فقد جنى على ماله وأتلفه وإن كان الجاني غيره كان ضمانة عليه سبب الجناية سواء كان الجاني هو البائع أو غيره
قوله وإذا استحق رد لمستحقه الخ
أقول هذا أمر قد قضى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه وفي لفظ أحمد وابن ماجه إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري على البائع بالثمن ورجال إسناد الحديث ثقات وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه خلاف ولكن الحسن إمام لا يروي ما لم يثبت وهذا مبني على أنه قد (3/122)
حصل التصادق على أنه ملك ذلك المدعي له أما إذا وقع الخلاف فلا بد من قيام الشهادة على ذلك ولهذا قال المصنف فبالإذن أو الحكم بالبينة أو العلم يرجع الثمن وإلا فلا
وأما قوله وما تلف أو استحق الخ فإذا أمكن رد البعض المستحق فهو الواجب وإن تعذر بوجه من الوجوه اختص به أحدهما وسلم للآخر قدر نصيبه من القيمة وإن اختلفا قرع بينهما وأما تلف بعض المبيع قبل التسليم فقد عرفت الكلام في تلف المبيع قبل التسليم وهو أعم من أن يكون التالف كله أو بعضه
فصل
ومن اشترى مشارا إليه موصوفا غير مشروط صح وخير في المخالف مع الجهل فإن شرط فخالف ففي المقصود فسد وفي الصفة صح مطلقا وخير في الأدنى مع الجهل وفي الجنس فسد مطلقا وفي النوع إن جهل البائع وإلا صح وخير المشتري فإن لم يشر وأعطي خلافه ففي الجنس سلم البائع المبيع وما قد سلم مباح مع العلم قرض فاسد مع الجهل وفي النوع خير في الباقي وترادا في التالف أرش الفضل مع الجهل وحيث يخير المشتري في الأدنى وقد بذر جاهلا فله الخيارات
قوله من اشترى مشارا إليه موصوفا الخ
أقول هذا قد تقدم ما يغني عنه وإذا كان المبيع على غير الصفة التى ذكرها البائع ثبت للمشتري خيار فقد الصفقة وهو كما قدمنا نوع من أنواع خيار الغرر وما ذكره (3/123)
من قيد الجهل فلا بد منه لأنه لو علم كان العلم بكونه على غير تلك الصفة مبطلا للخيار فلا رد ولا أرش
وأما قوله فإن شرط فخالف ففي المقصود فسد فالظاهر أنه لا عقل أصلا ولا اعتبار بالواقع لأن التراضي الذي هو المناط للبيع وقع مقيدا بذلك الشرط فمع عدمه انكشف عدم التراضي ولا فرق بين أن يكون موافقا للمقصود أو مخالفا له وهذه الفروق لا ترجع إلى دليل ولا شبهة دليل فلا تشغل نفسك بها وهكذا لا فرق بين جنس ونوع فالحاصل أن عدم وجود الصفة مع كونها مشروطة يوجب بطلان البيع ومع عدم الشرط يوجب ثبوت الخيار إلا أن يعلم بعدمها والإشارة لا تأتي بفائدة قط ولا يترتب عليها حكم وإثبات الأحكام بالخيالات يكون هكذا والمقلد المسكين يظن أن هذه الخرافات في أم الكتاب اللهم غفرا (3/124)
باب البيع غير الصحيح
فصل
باطله ما اختل فيه العاقد أو فقد ذكر الثمن أو المبيع أو صحة تملكهما أو العقد والمال في الأول غصب وفي التاليين كذلك إلا أنه يطيب ربحه ويبرأ من رد إليه ولا أجرة إن لم يستعمل ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وفي الرابع مباح بعوض فيصح فيه كل تصرف غالبا وارتجاع الباقي وفيه القيمة وليس بيعا وفاسده ما اختل فيه شرط غير ذلك ويجوز عقده إلا مقتضي الربا فحرام باطل وما سواه فكالصحيح إلا أنه معرض للفسخ وإن تلف ولا يملك إلا بالقبض بالإذن وفيه القيمة ولا يصح فيه الوطء والشفعة والقبض بالتخلية
قوله باب البيع غير الصحيح
فصل
قوله باطله ما اختل في العاقد
أقول قد تقدم للمصنف في شروط البيع وما يجوز منه وما لا يجوز وما يصح منه وما لا يصح ما يغني عن إفراده لهذا الباب فكأنه أراد مزيد الفائدة بالتكرار مع التذكر لما سلف وذكر ما لكل واحد من الصحيح والباطل والفاسد من الأسباب وما يترتب على (3/125)
ذلك من الأحكام التى ذكرها ها هنا ولا شك أن العاقد إذا اختل باختلال ما هو معتبر فيه صار وجود العقد منه كعدمه لأنه فاقد للحقائق إن كان صبيا أو مجنونا فلا يوجد منه الرضا المعتبر وهكذا إن كان غير مالك للمبيع ولا مأذون ببيعه فما فعله كالعدم وقد قدمنا في عقد الفضولي مما فيه كفاية وهكذا إذا لم يذكر بين المتبايعين ثمن فإنه لا يوجد التراضي المعتبر لأن البائع لا بد أن يرضى بالعوض المعلوم من الثمن والمشتري لا بد أن يرضى بذلك المبيع في مقابلة ما دفعه من الثمن وهكذا إذا لم يذكر بينهما مبيع معروف فإن ذلك التبايع منهما إنما هو من باب العبث واللعب وليس لذكر مثل هذه الأمور فائدة فأنها معلومة للعامي فضلا عمن لديه نصيب من علم
وأما قوله أو صحة تملكهما فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى بل وقدمنا الكلام على غيره مما هو مذكور ها هنا
قوله والعقد
أقول هو ما اجتمع فيه عند المصنف ما تقدم في أول البيع وقد عرفناك أن البيع الذي ثبت في الكتاب والسنة هو حصول التراضي وكررنا لك هذا تكريرا كثيرا لدفع ما يذكرونه مما يخالفه والبيع الذي يسمونه بيع المعاطاة ويجعلونه غير مملك هو الثمرة المستفادة لهم من تلك التى دونوها بغير دليل من عقل ولا نقل وهذه المعاطاة التي تحقق معها التراضي وطيبة النفس هى البيع الشرعي الذي أذن الله به والزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع ولا دليل عليه وأما الاستدلال لهذا العقد الذي يعتبرونه على الصفة التى ذكروها بمثل ما ورد في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة فمن (3/126)
الغلط البين فإن النهي عن هذه الأمور لكونها من بيع الغرر ولعدم استقرار البيع معها وعدم تحقق المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا الاستدلال بمثل ما كان يقع في أيام النبوة من قول البائع بعت منك هذا أو نحوه فإنا لا ننازع في دلالة مثل هذا اللفظ على التراضي إنما ننازع في كونه لا يدل على التراضي إلا ما كان على تلك الصفات التى ذكروها فإن هذا من تحجر الواسع وقد قدمنا أن كل مشعر بالتراضي يحصل به البيع والشراء الشرعيان حصولا لا يخفى على عارف ولو كان بالإشارة من قادر على النطق أو بالكتابة أو بمجرد التقابض من غير لفظ أصلا إذا عرف من ذلك التراضي
قوله والمال في الأول غصب الخ
أقول لا بد من تقييد الأول بأن قابض المال علم أن البائع منه ممن لا يصح بيعه أولا حكم لمن وقع منه من الرضا فلا يتحقق الاستيلاء على مال الغير عدوانا الذى هو معنى الغضب عند المصنف إلا بهذا وأما في الثاني والثالث فإذا كان القبض مأذونا فيه من جهة مالكه فلا يكون بطلان البيع مستلزما للغصب بل يكون في يد القابض كما يكون في يده ما هو مأذون له بقبضه وأما أنه يطيب له ربحه فلا لأنه مال الغير والربح ربح ما لم يضمن وقد صح النهي عنه كما قدمنا وأما كونه يبرأ من رد إليه فذلك لظاهر اليد الثابتة له وأما كونه لا يتطبق الرد إلا بالطلب فظاهر لأن الشيء في يده بأذن مالكه وهكذا عدم لزوم الأجرة له مع عدم الاستعمال لأن يده ليست يد عدوان
وأما قوله وفي الرابع الخ فقد عرفنا أن ذلك بيع شرعي مع وجود المناط فلا وجه لما ذكره (3/127)
قوله وفاسده ما اختل فيه شرط غير ذلك
أقول قد قدمنا أن هذا مجرد اصطلاح تواضعوا عليه فجعلوا اختلال بعض ما ذكروه في شرط البيع مقتضيا لبطلانه وبعضها مقتضيا لفساده وكل هذا تلاعب بالكلام ولكن هذا التلاعب قد رتبوا عليه أحكاما شرعية فالعجب من ترتيب أحكام الله على الاصطلاح الذي هو مجرد تلاعب والحاصل أن الصحيح هو ما أذن الله به من قوله تجارة عن تراض ولم ينه عنه الشارع ولا ثبت عنه ما يدل على عدم جواز التعامل به وما عدا هذا فهو باطل رد على فاعله لأنه لم يكن عليه أمر الشارع كما قال كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد لا يجوز لمسلم أن يدخل فيه فإن فعل فلا حكم لفعله ولا فرق بين ما يقتضي الربا وما لا يقتضيه وإن كان ما يقتضي الربا أشد تحريما وأعظم خطرا وأما قوله وما سواه فكالصحيح فمن أغرب ما يقرع الإسماع له زاجر من ورع فضلا عن وازع من علم يعلم أن هذه التسوية باطلة هى وما يترتب عليها من الأحكام المستثناه إلى آخر الفصل فأياك أن تغتر بشيء منها فإنها سراب بقيعة وظلمات بعضها فوق بعض
فصل
والفرعية فيه قبل الفسخ للمشتري والأصلية أمانة وتطيب بتلفه قبلها وبفسخه بالرضا فقط ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمه هو قولنا ... وقف وعتق وبيع ثم موهبة ... غرس بناء وطحن ذبحك الحملا ... طبخ ولت وصبغ حشو مثل قبا ... نسج وغزل وقطع كيف ما فعلا (3/128)
ويصح كل عقد ترتب عليه كالنكاح ويبقى والتأجير ويفسخ وتجديده صحيحا بلا فسخ
قوله والفرعية فيه قبل الفسخ الخ
أقول الفرعية والأصلية فيه لمالكه وهو البائع لأن هذا البيع مما لم يأذن الله به فإن أتلف شيئا ومنها ضمنه ولا يطيب له شيء منها إلا إذا رضي المالك وطابت به نفسه فذلك محلل لمال الغير في كل باب
وأما قوله ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمي فأقول قد عرفناك أنه باق على ملك مالكه وأن البطلان والفساد شيء واحد إذا وقع على غير وجه الصحة الذي أذن الله به فلا حكم لوقف ما دل الشرع على أنه غير ملك له ولا لعتقه ولا لبيعه ولا لهبته ولا لغرسه ولا لصبغه ولا لحشوه ولا لنسبحه ولا لغزله ولا لقطعه فإن أذن له مالكه بشيء من ذلك كان وكيلا له وإذا غرم رجع بالغرم مع الآذن لا مع عدمه
وأما قوله ويصح كل عقد ترتب عليه فينبغي أن يقال ويبطل كل عقد ترتب عليه لأن المترتب على الباطل باطل
وأما قوله ويصح تجديده صحيحا فهذا التجديد هو نفس البيع إذا حصل التراضي فيه وخلا عن المانع منه (3/129)
باب المأذون
فصل
ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في شراء أي شيء صار مأذونا في شراء كل شيء وبيع ما شرى أو عومل ببيعه لا غير ذلك إلا بخاص كبيع نفسه ومال سيده
قوله ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في شراء أي شيء صار مأذونا في شراء كل شيء الخ
أقول كل مالك لا يجوز التصرف في أي ملك من أملاكه إلا بأذن يخصه أو يعمه هو وغيره فمن أذن للعبد أو الصبي في شراء شيء خاص أو بيع شيء خاص لم يجز تصرفه في غيره ولا يكون مأذونا به لا شرعا ولا لغة وهذا ظاهر وهذا واضح في الإذن الصريح فكيف بالسكوت فإنه يحتمل عدم الرضا ببيعه والإجازة له وقدمنا في مواضع المنع من كون السكوت إجازة ومن الإذن العام أن يدفع إليه سلع التجارة للبيع وبأمره بالاتجار في جنس أو أجناس ويستمر ذلك وإذا قصره على الأتجار في جنس لم يجز له أن يتعداه فقد تعرف أنه يحسن التجارة في هذا الجنس دون هذا فإذا أذن له إذنا خاص لم يكن ذلك إذنا له في بيعه ولا في إجارته ولا في تأجير نفسه (3/130)
فصل
وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله بمثله وما لزمه بمعاملة فدين يتعلق برقبته وما في يده فيسلمها للمالك أو قيمتها ولهم استسعاؤه إن لم يفده فإن هلك لم يضمنه ولو بعد تمرده وإن استهلكه فبغير البيع لزمته القيمة وبه الأوفى منها ومن الثمن ولهم النقض إن فوته معسرا وبغصب أو تدليس جناية تعلق برقبته فقط فيسلمها أو كل الأرش الخيار له ويتعين إن اختارها أو استهلكها عالما وتلزم الصغير عكس المعاملة ويستويان في ثمنه وغر ماؤه أولى به من غرماء مولاه ومن عامل محجورا عالما أو جاهلا لا لتغرير لم يضمن الكبير في الحال ولا الصغير مطلقا وإن أتلف
قوله وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله بمثله
أقول هذا كالتخصيص لما تقدم من كونه يصير مأذونا في شراء كل شيء فلا يحوز للعبد مثلا أن يتصرف بما لم يجر للعبيد المأذونين عادة بالتصرف فيه وكذلك الصبي
وأما قوله وما لزمه بمعاملة فدين يتعلق برقبته وما في يده فيقال هذه المعاملة إن كانت داخله في عموم الإذن له فلا وجه لتعلقها برقبته بل هى مضمونة على السيد من ماله وإن كانت غير داخلة فالعبد متعد بالدخول فيها فتتعلق برقبته ولا وجه لتعلقها بما في يده من مال سيده ولا من مال غيره لأن الدخول في ذلك جناية من العبد لم يكن للسيد فيها سبب فلا يتعلق بغير رقبته ولا معنى لتعلقه بما بيده أصلا إلى على قول من يقول إن (3/131)
العبد يملك فلا شك أنه يتعلق بما هو ملك له ثم ليس على السيد إلا تسليم رقبته وبعد ذلك أهل الدين بالخيار إن شاؤا صار ملكا لهم يتصرفون به كيف شاءوا وإن قنعوا باستسعائه وإرجاعه لسيده فلهم ذلك
وأما كون السيد له أن يفديه ففيه نظر لأنه قد صار استغراقه بما عومل به جانبا فصاروا أحق به وهكذا يقال فيما سيأتي في الجنايات
وأما قوله فإن تلف لم يضمنه فصحيح لأن الرقبة التي تعلق بها الدين قد تلفت بغير جناية منه فإن كان ذلك بجناية منه لزمته قيمته ولا حكم لبيعه له لأنه قدر صار ملكا لأهل الدين الذي عليه إلا أن يأذنوا له بذلك فإذا أذنوا كان كالوكيل لهم لا مع عدم الإذن فالبيع غير صحيح ولا يحتاج إلى نقض بل يقال لهم استرجاعه من يد المشتري له
وأما قوله وبغصب أو تدليس الخ فهذان قد أوجبا تعلق ضمان ما جناه أو دلسه برقبته ولكن لا فرق بينهما وبين ما أخذه برضا أربابه معاملة ثم أتلفه فإن الكل قد انتهى إلى التعلق برقبته كما قدمنا وعند التعلق برقبته يصير أهل الدين أولى به من سيده فإن قلت ملك السيد لرقبة العبد متيقن فكيف لم يكن أولى بالتخيير له بين تسليمه أو قيمته في الطرف الأول وبين تسليمه أو كل الأرش في هذا الطرف قلت هذه الأولوية قد ارتفعت بما تعلق برقبة العبد بسبب جنابته على مال الغير فصار أرباب الأموال محكمين فيها وقد يكون الغرض لهم بالرقبة أتم وأكمل فليس للسيد أن يمنعهم من ذلك وأما كونه ملكه متيقنا فقد تعقبه استحقاق الغير لها بدينه وإلا فلا معنى للتعلق بالرقبة بهذا تعرف أن الخيار لا يكون للسيد لما قدمنا ولا لأهل الدين لأنهم لا يستحقون إلا رقبة العبد وليس لهم المطالبة بقيمتها وإلا بكل الأرش وتعرف أنه لا وجه لقوله وتلزم الصغير وعكس المعاملة (3/132)
لما قررناه من أن الكل جناية ولا فائدة في قوله وغرماؤه أولى من غرماء مولاه لأن رقبته قد خرجت عن ملك مولاه
قوله ومن عامل محجور الخ
أقول إن كان هذا المحجور هو من لا يصح تصرفه لكونه صغيرا أو مجنونا أو عبدا فلا شك أن المعامل له قد خاطر بماله ووضعه في مضيعة وأما إذا كان محجورا لثبوت ديون عليه مع كونه مكلفا عاقلا فلا يكون مجرد العلم بحجره مبطلا لتعلق الضمان به بل يكون هذا المال من جملة ديونه ولصحابه أسوته ما دام المال في يده وإنما ذكرنا هذا لإطلاق عبارته فإنها تتناول الحر المكلف المحجور لأجل ديونه بحجر الحاكم فإن كان مراد المصنف غير هذا فقد رفعنا ما توهمه العبارة
فصل
ويرتفع الإذن بحجره العام وبيعه ونحوه وعتقه وإباقه وغصبه حتى يعود وبموت سيده والجاهل يستصحب الحال وإذا وكل المأذون من يشتريه عتق في الصحيح بالعقد وفي الفاسد بالقبض ويغرم ما دفع الولاء للسيد والمحجور بإعتاق الوكيل إن شاء ويغرم ما دفع بعده والولاء له
قوله فصل ويرتفع الإذن بحجرة العام
أقول هذا صحيح لأنه قد بطل المقتضي لجواز معاملته وهو الإذن له بحجرة من كل تصرف وهكذا البيع لأنه لم يبق للإذن بعد خروجه من ملك المالك الذي أذن له تأثير إذ قد صار ملكا للغير وانقطعت العلاقة بينهما وأما العتق فهو وإن صار بعتقه حرا لكن لا يرتفع به الإذن السابق لأنه في حكم التوكيل للحر أقوى إلا أن يجري عرف أن من (3/133)
أعتق عبده رفع يده عن التصرف بماله كان العرف محكما في مثل هذا وأما إباقة فوجهه أنه قد صار عاصيا لسيده خارجا عن طاعته والإذن مقيد بالطاعة وهكذا إذا غصبه الغير لأنه قد صار محكوما عليه من الغاصب ولم يبق لسيده قدرة على استنفاذ ذاته فضلا عن أن تكون له قدرة على ما يتعلق بتلك الذات من التصرفات وأما عود ما تقدم من الإذن له بعوده من إباقة أو من يد غاصبه فصحيح لأن الإذن لم يبطل بل وجب التوقف فيه حتى يزول هذا العارض فإذا زال فالإذن الأول باق والمانع عارض فلا يكون مانعا دائما بل ما دام الإباق والغصب
وأما ارتفاع الإذن بموت سيده فظاهر وقد دخل في قوله ونحوه لأن الانتقال بالإرث كالانتقال بالبيع
وأما قوله والجاهل يستصحب الحال فصواب ولا سيما مع ما اخترناه سابقا من أن ما لزم العبد كان متعلقا برقبته لا بما في يده من مال سيده فلا بد في كل سبب من هذه الأسباب التى يرتفع بها الحجر من العلم بحصوله
قوله وإذا وكل والمأذون من يشتريه
أقول إن جرى عرف بأن الإذن للعبد بالتصرف بتناول التصرف بنفسه فلا بد أن يعلم السيد أن المشتري للعبد من وكيل للعبد أما إذا كان الإذن لا يتناول ذلك أو كان يتناوله وجهل السيد أن العبد هو الذى وكل ذلك الوكيل ليشتريه منه فلا ينفذ هذا البيع بل هو من بيع الغرر المنهي عنه وهو أيضا لم يقع عن تراض لأن المالك لم يعلم بأن عبده هو الذى اشترى نفسه ولا سيما على القول بأنه لا يملك العبد لأنه إن دفع الثمن بما في (3/134)
يده فهو من مال سيده ولم يبق له رقبة يتعلق بها قيمته لأن المفروض أنه قد ملك نفسه فهذا التوكيل الذى وقع من العبد من المخادعة لسيده والتحيل عليه وذلك ليس من الشرع في شيء ورضا السيد بخروجه عن ملكه إلى الغير لا يستلزم الرضا بخروجه إلى يد نفسه ومصيره حرا بذلك لما فيه من الإضرار به فهو بهذه الحيلة الباطلة لا يخرج من العبودية فلا صحة لما تفرع على هذا التعامل (3/135)
باب المرابحة
هى نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة ولو من غير جنسه أو بعضه بحصته وزيادة بلفظها أو لفظ البيع وشروطها ذكر كمية الربح ورأس المال أو معرفتهما أو أحدهما إياها حالا تفصيلا أو جملة فصلت من بعد كبر قم صحيح يقرأ وكون العقد الأول صحيحا والثمن مثليا أو قيميا صار إلى المشتري وربح به
قوله باب المرابحة هي نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة
أقول هذا بيع أذن الله سبحانه به بقوله تجارة عن تراض وبقوله وأحل الله البيع وحرم الربا وهذا يشمل كل بيع كائنا ما كان إذ لم يصحبه مانع شرعي أو يفقد فيه التراضي فجعل هذا النوع بابا مستقلا بشروط مستقلة ليس كما ينبغي وأما اشتراط لفظ المرابحة أو البيع فقد عرفناك أنه لا اعتبار بالألفاظ ولا بما ذكروه من الصفات المتعلقة بها بل المعتبر حصول التراضي المدلول عليه بأي لفظ كان ولو بإشارة من قادر على النطق أو مجرد مقابضة مشعرة بذلك أو غيرهما مما فيه إشعار بهذا المناط وأما اشتراط ذكر كمية الربح ورأس المال الخ فإذا تعرض البائع لذكر ربحه ورأس ماله وانكشف أن الأمر بخلاف ما قال فللمشتري الخيار لأنه غره بذلك فإن شاء أمسك وإن شاء ترك (3/136)
وأما قوله كون العقد الأول صحيحا فوجهه ما قد قرروه أن المبيع في العقود الفاسدة إنما يملك بالقيمة وهذه قاعدة لم تبن على أساس ولا نظر فيها إلى شيء مما يسوغ به إثبات أحكام الشرع وأضعف من هذا الاشتراط اشتراط كون الثمن مثليا أو قيميا قد صار إلى المشتري ورابح به فإنه لا اعتبار بشيء من ذلك بل إذا ذكر له رأس ماله وربحه كان ذلك كافيا وإن تفاوت باختلاف الأزمنة والأمكنة لأن الاعتبار بوقت الشراء الذي شرى به البائع له الآن فإذا ذكره فقد خلص عن عهده التغرير والتدليس
فصل
ويبين وجوبا تعيبه ونقصه ورخصه وقدم عهده وتأجيله وشراه ممن يحابيه ويحط ما حط عنه ولو بعد عقدها وتكره فيما اشترى بزائد رغبة ويحوز ضم المؤن غالبا ومن أغفل الوزن اعتبر في رأس المال بموضع الشراء وفي الربح بموضعه وهو بين الشركاء حسب الملك لا الدفع وللكسر حصته
قوله فصل ويبين وجوبا تعيبه
أقول هذا لازم لكل بائع بالسنة الثابتة كما قدمنا ذلك في خيار العيب وهكذا يجب عليه أن يبين نقصه وإلا كان من بيع الغرر كما تقدم
وأما بيان رخصه وقدم عهده فوجه ذلك أنه قد يشتريه برخص أو في زمان قديم والسعر لذلك الشيء رخيص وليس لوجوب ذكر مثل هذين وجه صحيح
وهكذا بيان شرائه ممن يحابيه وتأجيله وأما كونه يحط ما حط عنه فصواب لأن (3/137)
ترك ذكر ذلك تغرير منه وأما كونه تكره المرابحة فيما اشترى بزائد رغبة فيه فلا وجه للحكم بهذه الكراهة وأما كونه يجوز ضم المؤن فصحيح لكن مع بيانه لمقدار المؤن بعد بيانه لمقدار رأس المال وإلا كان في ذلك غرر وأما كون الربح بين الشركاء حسب الملك فظاهر
فصل
والتولية كالمرابحة إلا أنها بالثمن الأول فقط ويجوز ضم المؤن كما مر والخيانة في عقدهما توجب الخيار في الباقي وفي الثمن والمبيع والمساومة كذلك والأرش في التالف
قوله فصل والتولية كالمرابحة
أقول هذا توسيع لدائرة أحكام الشرع بمجرد فاسد الرأي وزائف الاجتهاد والحاصل أن المرابحة والتولية بيع من بيوع الشرع ونوع مما أذن الله سبحانه به فإن تعرض البائع لذكر رأس ماله فلا بد أن يكون صادقا في قوله وإلا كان ذلك من بيوع الغرر وإن يتعرض لذلك كفاه البيع الشرعي ولا يحتاج إلى ذكر شيء ولو كان الشراء بأحقر ثمن فالبائع هو الذي أوقع بنفسه في هذا المضيق بتعرضه لذكر ما اشتراه به كما لو أوقع نفسه في مضيق وصفه بصفة كما تقدم في خيار فقد الصفة وأما كون الخيانة في عقدهما توجب الخيار في الباقي فصحيح لأنه يصير بالتعرض لذكر ذلك مع عدم المطابقة للواقع مغررا مخادعا خائنا وهكذا الخيانة في الثمن والمبيع فما كان باقيا رده وإذا تلف كله أو بعضه فله الرجوع بالأرش لأن ذلك غاية ما يمكن به استدراك خيانة الخائن ولا يبعد أن يقال إن الخيانة كشفت عن عدم حصول المناط الشرعي وهو التراضي فيكون المبيع المصحوب بها باطلا غير نافذ لعدم وجود المناط الشرعي فإذا تلف المبيع أو بعضه تلف من مال البائع الخائن (3/138)
باب الإقالة
إنما تصح بلفظها بين المتعاقدين في مبيع باق لم يزد بالثمن الأول فقط ولو سكت عنه ويلغو شرط خلافه ولو في الصفة وهي بيع في حق الشفيع فسخ في غيره فلا يعتبر المجلس في الغائب ولا تلحقها الإجازة وتصح قبل القبض والبيع قبله بعدها ومشروطة وتولى واحد طرفيها ولا يرجع عنها قبل قبولها وبغير لفظها فسخ في الجميع والفوائد للمشتري
قوله باب الإقالة
أقول هذا الباب قد ورد الترغيب فيه من الشارع بحديث أبي هريرة الذي صححه جماعة من الحفاظ بلفظ من أقال نادما وفي لفظ مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة فكان على المصنف أن يعنون الباب بما يدل على ندبية الإقالة لا بما هو سراب بقيعة من قوله إنما يصح بلفظها فإن هذا من جنس ما يكرره هو وأمثاله من الدندنة حول الألفاظ التي لم يرد باعتبارها شرع ولا عقل فإن مجرد رد الثمن أو طلب رد البيع إقالة تامة محصلة للأجر مبطلة للتبايع مع عدم وجود لفظها ولا لفظ آخر يدل عليها وأما (3/139)
اشتراطه بقاء المتعاقدين أنه إذا مات من يريد الإقالة لم يوجد من حصل له الندم على تلك الصفقة ولكن إذا كان وارثه نادما على صفقة مورثة فله حكمه لوجود السبب الذي لأجله شرعت الإقالة وأما قوله في مبيع باق فوجهه أنه إذا كان المبيع قد تلف لم يبق للإقالة معنى إلا أن يتعلق بذلك غرض للمشتري ينتفع به من غير لحوق ضرر للبائع
وأما قوله لم يزد فلا وجه له لأن الزيادة إن كان يمكن فصلها فصلها المشتري وأرجع المبيع وإن كان لا يمكن فصلها فإن رضي البائع بتسليم قدر قيمتها فذاك وإلا كان المشتري مخيرا بين رد المبيع بزيادة أو ترك الاستقالة ويدع الندم على الصفقة وأما قوله بالثمن الأول فقط فوجهه أن الإقالة لا تكون إلا هكذا ولو كانت بثمن آخر لكان ذلك بيعا جديدا وأما إذا حصل التراضي بالزيادة أو النقص بينهما فذلك باب لا يحتاج إلى ذكره لأن التراضي هو المحلل لأموال بعض العباد لبعض
قوله وهي بيع في حق الشفيع
أقول جعلها بيعا في هذه الصورة الخاصة مما يقضي منه العجب وأعجب من هذا دعوى الإجماع على مثل هذه الخرافة كما حكى ذلك عنه وإن كان لم يذكر في الغيث شرحه لهذا الكتاب إلا قوله لا يختلف السادة في كونها بيعا في حق الشفيع انتهى وهو يريد بالسادة المتكلمين منهم في فروع الزيدية في هذه الديار ولم يرد غيرهم من السادة في سائر أقطار البلاد الإسلامية فضلا عن أن يريد إجماع أهل الإسلام على ذلك وأظن أنه لم يقل بهذه المقالة أحد من علماء الدنيا لأنها مع كونها لم تبن على رواية هى أيضا لم تبن على رأي مستقيم فإن كونها بيعا مجرد دعوى عاطلة عن البرهان بجميع أقسامه ومجرد تخصيص كونها بيعا في حق الشفيع فقط ترتيب دعوى على دعوى فهم فضلا عن (3/140)
أدنى علم ثم الفرق بينها وبين البيع بقوله فلا يعتبر المجلس في الغائب ولا يلحقها الإجازة الخ من تفريع الباطل على الباطل ومن التقول على الشريعة المطهرة بما ليس فيها
وأما قوله والفوائد للمشتري فوجهه أنها حصلت في ملكه (3/141)
باب القرض
إنما يصح في مثلي أو قيمي جماد أمكن وزنه إلا ما يعظم تفاوته كالجواهر والمصوغات غالبا غير مشروط بما يقتضي الربا وإلا فسد
قوله باب القرض إنما يصح في مثلي أو قيمي جماد أمكن وزنه
أقول هذا باب وردت السنة بالترغيب فيه وتعظيم أجر فاعله ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته وهذا الترغيب وعموم المشروعية لا ينبغي قصره على بعض ما ينتفع به الناس ويطلبون الأجر في قرضه إلا بدليل يدل على ذلك ويقتضي تخصيص العمومات فإن لم يقم دليل على ذلك لم يجز لأحد أن يتقول على الشرع ما ليس فيه ويسد بابا فتحه الله لعباده وجعله نفعا للمحاويج المستقرضين وأجرا للأغنياء المقرضين وأما مجرد تعللهم بأن القرض باب من أبواب البيع فلا يجوز إلا فيما يجوز فيه فنقول ما بالهم منعوه فيما هو جائز البيع بلا خلاف وشرطوا أن يكون مثليا جمادا يمكن وزنه ثم ما بالهم منعوه فيما جوزه الشرع وثبتت به السنة الصحيحة الصالحة لتخصيص كل عموم للبيع كما في صحيح مسلم وغيره من حديث رافع بن خديج قال استسلف النبي صلى الله عليه و سلم بكرا فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت إني لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا قال أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم (3/142)
قضاء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال كان لرجل على النبي صلى الله عليه و سلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه فقال أوفيتني أوفى الله بك فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن خيركم أحسنكم قضاء فقد دلت السنة الصحيحة على جواز قرض الحيوان مع كونه مما يعظم فيه التفاوت فدل ذلك على أنه لا وجه لجعل عظم التفاوت مانعا هذا تبرع بالدليل وإن كان الدليل على من ادعى تخصيص ما دل على عموم المشروعية كما قدمنا وجواز القرض في الحيوانات هو مذهب الجمهور
وأما قوله غير مشروط بما يقتضي الربا فلا ينافي ما قدمنا عنه صلى الله عليه و سلم من أنه قضى من أقرضه سنا فوق سنة وأحسن منها لأن ذلك وقع لا على طريق الشرط بل على طريق التفضل والإحسان وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني فإن قلت قد ورد ما يدل على أن المقرض لا يقبل من المستقرض هدية أو نحوها كما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم قال إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك قلت في إسناده يحيى بن أبي إسحق الهنائي وهو مجهول وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وهو ضعيف وقد حققنا البحث في شرح المنتقي فليرجع إليه (3/143)
فصل
وإنما يملك بالقبض فيجب رد مثله قدرا وجنسا وصفة إلى موضع القرض ولا يصح الإنظار فيه وفي كل دين لم يلزم بعقد وفاسده كفاسد البيع غالبا ومقبض السفتجة أمين فيما قبضا ضمين فيما استهلك وكلاهما جائز إلا بالشرط
قوله فصل وإنما يملكه بالقبض
أقول يملكه بقبضه ملكا مستقرا ويملكه أيضا قبل قبضه إذا وقع التراضي على ذلك فإن التراضي هو المناط في نقل الأموال من بعض العباد إلى بعض وكررنا ذلك في غير موضع وأما كونه يجب رد مثله قدرا وجنسا وصفة فنعم هذا هو الواجب عند أن يترك المستقرض التفضل والإحسان بالزيادة فإن فعل فذلك إليه بما تقدم من الأدلة
وأما كونه يجب الرد إلى موضع القرض فصحيح لأن المقرض محسن فعلى المستقرض أن يرد ماله إليه إلى الموضع الذي قبضه منه فيه
قوله ولا يصح الإنظار فيه
أقول المستقرض قبض المال على التأجيل فلا يجب عليه قضاؤه إلا عند انقضاء الأجل وتمامه وتأجيل الدين قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز فقال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليس فائدة الكتابة إلا حفظ قدر الدين وقدر أجل تسليمه ومما يدل على لزوم التأجيل حديث المؤمنون عند شروطهم وقد ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة وجوب الوفاء بالعقود وهي ما يحصل عليه التراضي فليس لمن (3/144)
أقرض قرضا مؤجلا أن يطلب قضاءه قبل حلول أجله وهكذا في سائر الديون التي لم تلزم بعقد فإن الدخول في التأجيل يجب على من وقع من جهته الوفاء به
وأما قوله وفاسده كفاسد البيع فلا وجه له في المشبه ولا في المشبه به لما عرفناك أن مناط البيع وغيره التراضي فإن وقع البيع أو القرض على غير ما يسوغه الشرع فلا يثبت حكمه من الأصل
وأما قوله ومقبض السفتجة الخ فهذا حكم يرجع إلى باب الأمانة والضمانة والتراضي يسوغ هذا وغيره فلا فائدة في التكلم على مثله وهو معروف في أبوابه وإنما ذكره المصنف هنا لئلا يتوهم أنه من القرض الذي يجر منفعة
فصل
وليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم غالبا وكل دينين استويا في الجنس والصفة تساقطا والفلوس كالنقدين
قوله وليس بمن تعذر عليه الخ
أقول إذا كان الحق ثابتا شرعا قطعا وبتا وتعذر الوصول إليه من جميع الوجوه إلا من هذا الوجه وذلك لامتناع من هو عليه عن تأديته فعمومات الكتاب والسنة قد دلت على (3/145)
جواز ذلك ولا يعارض هذه العمومات حديث أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة وفي الباب عن أنس عند الحاكم مرفوعا وعن أبي بن كعب عند الدارقطني والطبراني وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبي داود والبيهقي وصححه ابن السكن وعن الحسن مرسلا عند البيهقي وفي إسناد كل واحد من هذه مقال حتى قال أحمد هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح وقال ابن الجوزي لا يصح من جميع طرقه ولا يخفاك أن وروده من هذه الطرق مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم لبعضها مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج به ولكن خاص بالأمانة فلا يجوز خيانة من خان إذا كان مال الذي للخائن عند من وقعت عليه الخيانة أمانة ويؤيد هذا الكلام أئمة اللغة ويدل على أن الخيانة إنما تكون في الأمانة كما في القاموس وغيره والحاصل أن مال المسلم معصوم بعصمه الإسلام وكذلك دمه وعرضه كما يدل على ذلك القرآن والسنة وهذا عموم مخصص بما كان على طريقة المكافأة كما في قوله سبحانه ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل
وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذه الآيات مخصصه بالخيانة في الأمانة فلا يجوز على طريقة المكافأة وما يؤيد الجواز (3/146)
الحديث الصحيح المتقدم في إذنه صلى الله عليه و سلم لهند امرأة أبي سفيان أن تأخذ لها ولولدها من مال زوجها ما يكفيها
وأما قوله وكل دينين الخ فهذا معلوم بالعقل أنه لا يتعلق بعدم التساقط فائدة فمن ثبت له دينار مثلا على من كان له عليه دينار تساقط ولا يحتاج مثل هذا إلى أن يدون في الكتب العلمية وهكذا قوله والفلوس كالنقدين
فصل
ويجب رد الرهن والقبض والغصب والمستأجر والمستعار والحق المعجل والمؤجل والكفالة بالوجه إلى موضع الابتداء غالبا لا المعيب والوديعة والمستأجر عليه وكل دين لم يلزم بعقد والقصاص فحيث أمكن ويجب قبض كل معجل مساو أو زائد في الصفة لا مع خوف ضرر أو غرامة ويصح التعجيل بشرط حط البعض
قوله فصل ويجب رد القرض الخ
أقول وجه أن المقرض محسن وما على المحسنين من سبيل فلو كان عليه أن يتجشم مشقة لرد قرضه لكان ذلك منافيا لإحسانه وأما الرهن فليس في رواية ولا رأي صحيح أنه يكون الوجوب على أحدهما لأن كلاهما منتفع بالرهن من جهة وأما الغصب فوجهه أن الغاصب ظالم متعد فعليه رفع ظلامته عن نفسه أن برد ما غصبه من الموضع الذي غصبه منه بل وإلى حيث استقرار المغصوب عليه وإن كان بعيدا عن وضع الغصب وأما المستأجر (3/147)
فوجهه أنه الطالب للانتفاع بالعين فيردها إلى الموضع الذي أخذها منه ويمكن أن يقال إن المؤجر منتفع بالأجرة كما ينتفع المستأجر بالمنافع المتعلقة بالعين فلا يكون المستأجر بالرد إلى موضع الابتداء أولى من المؤجر وأما المستعير فوجهه أن المعير محسن كما تقدم في القرض وأما الحق المؤجل والمعجل فوجهه أن من هو عليه لا يخلص ذمته عما هو عليه إلا برده إلى يد من هو له ومثل ذلك الكفالة بالوجه هذا غاية ما يمكن في توجيه كلام المصنف وكان الأولى له أن يعقد الفصل على وجوب الرد إلى المالك من غير نظر إلى موضع الابتداء فيقول مثلا يجب الرد إلى المالك في القرض الخ حتى يكون ذلك عملا بحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث الحسن عن سمرة وفي سماع الحسن من سمرة فقال معروف فإن هذا الحديث يدل على وجوب التأدية لكل ما أخذته اليد ولا تأدية إلا إذا كانت إلى المأخوذ منه ومثل هذا الحديث الذي تقدم بلفظ أد الأمانة إلى من ائتمنك فإن التأدية في الأمانات لا يكون إلا بدفعها إلى مالكها وبهذا تعرف أنه لا وجه لقول المصنف لا المعيب والوديع الخ وأما كون يجب قبض كل معجل فوجهه أن لمن هو عليه أن يبريء ذمته بالرد فليس لمن هو له أن يمتنع من ذلك مع عدم المانع من خوف ضرر أو غرامة
قوله ويصح شرط حط البعض (3/148)
أقول إذا حصل التراضي على هذا فليس في ذلك مانع من شرع ولا عقل لأن صاحب الدين قد رضي ببعض ماله وطابت نفسه عن باقيه وهو يجوز أن تطيب نفسه عن جميع ذلك المال وتبرأ ذمته من هو عليه فالبعض بالأولى وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلين يتخاصمان في المسجد وقد ارتفعت أصواتهما وكانت تلك الخصومة في دين لأحدهما على الآخر فأشرف عليهما النبي صلى الله عليه و سلم وأشار بيده إلى من له الدين أن يضع الشطر فكان هذا دليلا على جواز التعجيل بشرط حط البعض
فصل
ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل المراضاة والدين بالطلب فيستحل من مطل وفي حق الله الخلاف ويصح في الدين قبل القبض كل تصرف إلا رهنه ووقفه وجعله زكاة أو رأس مال سلم أو مضاربة وتمليكه غير الضامن بغير وصية أو نذر أو إقرار أو حوالة
قوله فصل ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل المراضاة
أقول وجه ذلك أنه مطالب بالرد في كل وقت فإذا لم يحصل الرضا فوجوب الرد ثابت متضيق عليه
وأما قوله والدين بالطلب فيستحل من مطل فوجهه أنه مع طلب القضاء قد (3/149)
وجب عليه ذلك إلا كان ظالما إذا كان متمكنا لما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته
وأما قوله في حق الله الخلاف فهو الخلاف المعروف في الأصول هل هو على الفور أو التراخي وفي المسألة طول وليس هذا مقام بسط الكلام فيها وأما قوله ويصح في الدين قبل قبضه كل تصرف إلا رهنه فوجهه اشتراط التقابض في الرهن وليس هذا الوجه بوجيه فإنه يصح رهن ما في الذمة ويقبضه المرتهن عند حلول أجله فيصير رهنا في يديه وهكذا يصح وقفه و لا مانع من ذلك وهكذا يصح جعله زكاة رأس مال مضاربة ولا مانع من هذه الأمور إلا مجرد تخيلات مختلة وعلل معتله وأما عدم صحة جعله رأس سلم فوجهه أن يكون من بيع الكاليء بالكاليء وقد قدمنا النهي عنه وهكذا يصح تمليكه غير الضامن ولا مانع من شرع ولا عقل ولو بغير وصية أو نذر أو إقرار أو حوالة (3/150)
باب الصرف
هو بيع مخصوص يعبر فيه لفظه أو أي ألفاظ البيع وفي متفقي الجنس والتقدير ما مر إلا الملك حال العقد فإن اختل أحدهما بطل أو حصته فيترادان ما لم يخرج عن اليد وإلا فالمثل في النقدين والعين في غيرهما ما لم يستهلك فإذا أرادا تصحيحه ترادا الزيادة وجددا العقد وما في الذمة كالحاضر
قوله باب الصرف هو بيع مخصوص فيعتبر لفظه أو أي ألفاظ البيع
أقول قد عرفت مما قدمنا في البيع أن اعتبار اللفظ المخصوص لا أصل له وأن البيع المأذون فيه بقوله عز و جل وأحل الله البيع وحرم الربا هو ما ذكره في قوله تجارة عن تراض فإذا حصل التراضي فقد وجد المناط الشرعي ولو بمجرد المقابضة من غير لفظ أو أشارة من قادر على النطق
وأما قوله ويعتبر في متفقي الجنس والتقدير ما مر فصحيح للأدلة الدالة على تحريم التفاضل والنساء فيما كان كذلك وأما قوله إلا الملك حال العقد فلا بد من تقييد ذلك بحصول التقابض في محل العقد قبل التفرق وإلا كان ذلك نساء وهو ربا كما تقدم في حديث إنما الربا في النسيئة وفي حديث إذا كان يحصل يد بيد وفي حديث إذا لم (3/151)
تتفرقا وبينكما شيء وقول المصنف فإن اختل أحدهما بطل أو حصته صحيح لأنه ربا كما عرفت وإذا حصل التراد ودفع المثل ففيه استدراك لما فرط منهما من الدخول في الربا
قوله وما في الذمة كالحاضر
أقول هذه الكلية محتاجة إلى دليل يدل على تخصيص ما ورد من الأحاديث الصحيحة المصرحة بمثل قوله إلا يدا بيد ومثل قوله إلا هاوها وسائر ما ورد في هذا المعنى هذا مع الاتفاق في الجنس والتقدير ومع الاختلاف كالذهب بالفضة ونحو ذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه و سلم فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ولم يثبت ما يدل على خلاف ذلك فالواجب الوقوف على ما تقتضيه الأدلة وعدم التخصيص لها بمجرد الرأي القائل والاجتهاد العاطل وهذا على تقدير أن أحد البدلين أما لو كانا جميعا في الذمة كان ذلك من بيع الكاليء بالكاليء وقد تقدم النهي عنه
فصل
ومتى انكشف في أحد النقدين رديء عين أو جنس بطل بقدره إلا أن يبدل الأول في مجلس الطرف فقط والثاني فيه مطلقا أو مجلس الرد إن رد ولم يكن قد علمه فيلزم أو شرط رده فافترقا مجوزا له أو قاطعا فيرضى أو يفسخ فإن كان لتكحيل فصل إن أمكن وبطل بقدره وإلا ففي الكل (3/152)
قوله فصل ومتى انكشف في أحد النقدين رديء عين أو جنس الخ
أقول الأدلة قد أوجبت التقابض في المجلس مع الاتفاق كالذهب بالذهب والفضة بالفضة من غير فرق بين جيد ورديء فإذا انكشف لأحد المتصارفين بعد المجلس رداءة ما صار إليه فله فسخه بخيار العيب بدليله السابق فيرد القابض للجيد ما يقابل ذلك الرديء من الجيد الذى قبضه من صاحب الرديء إذا كان الذى انكشفت رداءته هو بعض ما صار إليه فإن كان رديئا كله فله رده كله بالعيب ويرد صاحب الرديء جميع ما قبضه من الجيد ويبطل الصرف الواقع بينهما هكذا ينبغي أن يقال في هذا الفصل وبه يتضح ما هو الصواب وإذا أراد إبدال الرديء بجيد فلا يجوز ذلك إلا في مجلس الصرف من غير فرق بين رديء العين والجنس فإن تفرقا وقد قبض صاحب الرديء رديئه أو بعضه وترك جيده عند المصارف له فقد وقعا في الربا ولا استدراك إلا بالتراد ثم التصارف والتقابض في المجلس
فصل
ولا تصححه الجريرة ونحوها إلا مساوية لمقابلها ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير قبل القبض حط ولا إبراء ولا أي تصرف ويصح حط البعض في المختلفين لا التصرف ولا يصح الربا بين كل مكلفين في أي جهة ولا بين العبد وربه (3/153)
قوله فصل ولا تصححه الجريرة
أقول هذا صحيح وقد تقدم الكلام عليه عند قول المصنف فإن صحب أحد المثلين غيره ذو قيمة
وأما قوله ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير الخ فهذا معلوم لأنه يؤدي إلى صرف الجنس بجنسه متفاضلا وذلك ربا والاعتبار بالمجلس فلا حكم لما وقع قبله من حط أو إبراء أو تصرف
وأما قوله ويصح حط البعض في المختلفين فيدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فإنه صلى الله عليه و سلم جوز التفاضل ومنع النساء وقد قدم المصنف رحمه الله في باب الربويات ما يغني عن هذا وإنما أعاده تكميلا لمباحث الصرف
وأما قوله ولا يحل الربا بين كل مكلفين في أي جهة فهذا معلوم أما المسلمون فظاهر وأما الكفار فلما تقدم من أنهم مخاطبون بالشرعيات أي معذبون على فعل ما يحرم وترك ما يجب ولا فرق بين دار الحرب وغيرها لأن ما حرمه الله حرام في كل زمان ومكان وتخصيص دار الحرب بأحكام لا يقتضي تخصيصها بتحليل الربا فيها
قوله ولا بين العبد وربه
أقول هذا الربا غير معقول لأنه إذا أعطى الفقير درهما عن دراهم تواطئا على أنها في ذمة الغني المذكر للفقير المصروف إليه فهذه إنما هى حيلة باطلة ودلسة عاطلة لا نفوذ لها ولا قبول ومعلوم أنه لو واطأ الفقير على أن يبيع منه ما في ذمته من الزكاة وهي ألوف (3/154)
مؤلفة بدرهم واحد أو بدونه لقبل منه ذلك وفي الحقيقة أنه لم يقع عن الزكاة إلا هذا الدرهم ولا يبعد أن لا يقع عن الزكاة لما شابه من القصد الباطل والإضمار المخالف للحق (3/155)
باب السلم
لا يصح في عين أو ما يعظم تفاوته كالحيوان والجواهر واللآلئ والفصوص والجلود ومالا ينقل وما يحرم فيه النساء فمن أسلم جنسا في جنسه وغير جنسه فسد في الكل ويصح فيما عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه وجنسه ونوعه وصفته كرطب وعتق ومدته وقشر زيت ولحم كذا من عضو كذا سمنه كذا وما له طول وعرض ورقة وغلط بينت مع الجنس ويوزن ما عدا المثلى ولو أجرا أو حشيشا الثاني معرفة إمكانه للحلول وإن عدم حال العقد فلو عين ما يقدر تعذره كنسج محلة أو مكيالها بطل الثالث كون الثمن مقبوضا في المجلس تحقيقا معلوما جملة أو تفصيلا ويصح بكل مال وفي انكشاف الرديء ما مر الرابع الأجل المعلوم وأقله ثلاث ورأس ما هو فيه لآخره وإلا فلرؤية هلاله وله إلى آخر اليوم المطلق ويصح التعجيل كما مر الخامس تعيين المكان قبل التفرق وتجويز الربح والخسران (3/156)
قوله باب السلم لا يصح في عين
أقول هذا الباب قد وقع إجماع المسلمين إلى جوازه إلى ما وقع في رواية عن ابن المسيب كما حكى ذلك في فتح الباري والبحر الزخار للمصنف وثبت بالسنة الصحيحة كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم والسلف الشرعي بيع موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلا وقد دل على هذا قوله من أسلف فليسلف فإنه يدل أن المسلم فيه غير حاضر في ذمة المسلم إليه ويؤده قوله إلى أجل معلوم والتصريح يكون المسلم فيه معلوما والأجل معلوما يفيد أنه لا يصح السلم في غير معلوم ولا يصح أن يكون الأجل مجهولا قال فتح الباري واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس انتهى ومراد المصنف لقوله لا يصح في عين أي في حاضر والحديث قد دل على هذا فمن زعم أنه يصح في حاضر فقد تمسك بغير دليل ولا ينفعه الاستدلال بما ورد في السلم من غير ذكر التأجيل لأن المطلق يحمل على المقيد وأيضا لفظ يفيد ذلك فلا يطلق على ما كان حاضرا
وهكذا قوله أما من يعظم تفاوته فإن قوله في الحديث في كيل معلوم ووزن معلوم يدل على أنه لا يصح السلم فيما يعظم تفاوته لعدم ضبطه بضابط يصح به وصفه يكون معلوما ومن أدعى أنه يمكن ضبطه بمضابط فقد أبعد فإن الحيوان والجواهر واللآلئ والفصوص مختلفة غاية الاختلاف فمنها ما تكون قيمته الدينار والدينارين ومنها ما يكون قيمته الألف والألفين وهكذا لا يصح السلم فيما لا ينقل كالأراضي والدور لأنه لا يكون إلا حاضرا وهكذا لا يصح فيما يحرم فيه النساء من الأجناس الربوية لأنها ربا (3/157)
وأما قوله فمن أسلم جنسا في جنسه وغير جنسه فسد في الكل فمبني على ما تقدم له من أنه إذا انضم إلى جائز البيع غيره وقد قدمنا ما فيه
قوله ويصح فيما عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه وجنسه الخ
أقول هذا صحيح لأنه لا يكون معلوما إلا بذلك وقد اشترط الشارع المعلومية كما تقدم
وأما قوله الثاني معرفة إمكانه للحلول فوجهه أنه لو ذكر في السلم وصفا يدل على عدم إمكانه لكان ذلك عائدا على الغرض المقصود من السلم بالنقص وأما وإن عدم حال العقد فيدل عليه ما أخرجه أحمد والبخاري عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى قيل أكان لهم زرع أو لم يكن قالا ما كنا نسألهم عن ذلك وفي رواية كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر وما نراه عندهم أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والسكوت تقرير
قوله الثالث كون الثمن مقبوضا في المجلس
أقول هذا الشرط لا بد منه ولا يتم السلم إلا به وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء وقد قدمنا النهي عنه وأما كونه يصح بكل مال فلكون الأدلة لم تدل إلا على اشتراط أن يكون ثمن السلم معلوما للمسلم والمسلم إليه وذلك ممكن في كل الأمور (3/158)
وأما قوله في انكشاف الرديء ما مر فوجهه أنه عيب وقد دل الدليل على أنه يرد على صاحبه وقد تقدم في خيار العيب وفي الصرف ما يغني عن الإعادة هنا
وأما قوله الرابع للأجل المعلوم فقد دل عليه الدليل الصحيح المتقدم فلا يصح السلم بدون تأجيل بل ينقلب بيعا كما قدمنا ولا يصح بأجل مجهول وأما تعيين أقل مدته أو أكثرها فلم يثبت فيه ما يصلح للاحتجاج به لكنه إذا لم يوجد في الأجل المعلوم فقد أخرج مالك في الموطأ وأبو داود من حديث ابن عمر أن رجلا أسلم في نخل فلم يخرج في تلك السنة شيئا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بم تستحل ماله اردد عليه ماله ثم قال لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه وفي إسناده رجل مجهول فإن أبا داود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي إسحق عن رجل نجراني عن ابن عمر فلا يصلح للاحتجاج به
وأما قوله الخامس تعيين المكان فليس على هذا الشرط دليل لا صحيح ولا عليل وهكذا تجويز الربح والخسران
فصل
ومتى بطل الفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس المال أو مثله أو قيمته يوم قبض إن تلف ولا يبتع به قبل القبض شيئا إلا لفساد فيأخذ ما شاء ومتى توافيا فيه مصرحين صار بيعا وإلا جاز الارتجاع ولا يجدد إلا بعد التراجع ويصح إنظار معدم الجنس والحط الإبراء قبل القبض غالبا وبعده ويصح بلفظ البيع كالصرف لا هو (3/159)
بأيهما ولا أيهما بالآخر
قوله ومتى بطل بفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس المال
أقول هذا صحيح لأن المسلم إليه معذور بالفسخ أو عدم الوجود فلا يطالب بغير رد رأس المال أما مع الفسخ فظاهر وأما مع عدم الجنس فلعدم قدرته على إيجاد المعدوم فيرد رأس المال بعينه وإن كان قد تلف فمثله إن كان مثليا وإلا فقيمته
وأما قوله ولا يبيع به قبل القبض شيئا فوجهه ما تقدم من النهي عن أن يبيع الرجل ما ليس عنده وفي خصوص السلم حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره أخرجه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده عطية العوفي ولا يحتج بحديثه ولكنه يشهد له ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أسلف شيئا فلا يشترط على صاحبه غير قضائه وفي لفظ من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله
وأما قوله لا لفساد فيأخذ ما شاء فأقول قد عرفناك غير مرة أنه لا وجه للتفرقة بين البطلان والفساد إلا مجرد الرأي فإذا بطل السلم بمبطل شرعي بطل حكمه وليس للمسلم إلا رأس ماله فقط فلا يصح ما رتبه على هذا بقول ومتى توافيا فيه الخ
وأما قوله ويصح إنظار معدم الجنس فصحيح لأن المسلم محكم فيما أسلم فيه (3/160)
إن اختار إرجاع رأس ماله كان له ذلك وإن اختار الإنظار كأن يمهله إلى عام آخر كان له ذلك إلى هذا ذهب الجمهور وهكذا يصح الحط والإبراء قبل القبض وبعده ويصح للبعض وللكل ولا حجر على فاعله لأنه ملكه يتصرف به كيف يشاء ولا مانع شرعيا يمنع من ذلك
وأما قوله ويصح بلفظ البيع الخ فالحق أنه يصح بكل لفظ يدل على التراضي كما قدمنا في البيع والصرف مع ملاحظة كونه معلوما والأجل معلوما وإذا تقرر لك ما ذكرناه في الباب علمت أنه لا يعتبر فيه إلا ما صرح به الحديث الصحيح الذى ذكرناه في أوله
فصل
وإذا اختلف البيعان فالقول في العقد لمنكر وقوعه وفسخه وفساده والخيار والأجل وأطول المدتين ومضيها وإذا قامت بينتا بيع الأمة وتزويجها استعملتا
فإن حلفا أو نحوه ثبتت للمالك لا بينتا العتق والشراء والعتق قبل القبض وبعده إن أطلقتا وفي المبيع لمنكر قبضه وتسليمه كاملا أو مع زيادة وتعيبه وأن ذا عيب وقبل القبض فيما يحتمل والرضا قبل وأكثر القدرين لبائع لم يقبض الثمن في نفي إقباضه وللمسلم إليه في قيمة رأس المال بعد التلف فأما من جنس المبيع وعينه (3/161)
ونوعه وصفته ومكانه ولا بينة فيتحالفان ويبطل غالبا فإن بينا فللمشتري إن أمكن عقدان وإلا بطل وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد ثم للبائع في نفي قبضه مطلقا إلا في السلم ففي المجلس فقط وفي قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع لا بعده فللمشتري
قوله فصل وإذا اختلف المبيعان فالقول في العقد لمنكر وقوعه
أقول هذا قد دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وهاهنا المنكر للوقوع القول قوله مع يمينه وعلى مدعي الوقوع البينة لكن قد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان البيع وزاد فيه ابن ماجه والبيع قائم بعينه وذكر معنى هذه الزيادة أحمد بلفظ والسلعة كما هى وفي لفظ للدراقطني إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول البائع وفي لفظ لأحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر البائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك والحديث له طرق وقد اختلف فيه على إسماعيل بن أمية ثم على ابن جريج واختلف أيضا في سماع أبي عبيدة بن عبد الله بن (3/162)
مسعود من أبيه ولكنه قد رواه الشافعي عن عون بن عبد الله بن عتبه عن ابن مسعود وفيه انقطاع لأن عونا لم يدرك ابن مسعود وقد روى من غير طريقهما عن عبد الله بن مسعود كما بيناه في شرح المنتقى وأوضحنا طرقه وألفاظه وقد صحح بعض طرقه الحاكم وابن السكن وصحح بعضا منها الحاكم وحسنها البيهقي وهذا الحديث لو سلم من المعارض الناهض لكانت طرقه يشهد بعضها لبعض ويقوي بعضها بعضا ولكنه عارضه الحديث الصحيح المتفق عليه أن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه وبين الحديثين عموم وخصوص من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي حيث يكون البائع مدعيا فإن قوله فالقول ما يقول رب السلعة يدل على أن القول قوله مع يمينه وحديث البينة على المدعي يدل على أنه لا يكون القول قوله بل عليه البينة ومعلوم أن الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق أرجح فالمصير إليه متعين ولا تعارض في مادتي الافتراق وهما حيث يكون البائع منكرا وحيث يكون غير البائع مدعيا فإن الحديثين كلاهما يدلان على أن القول البائع المنكر مع يمينه ويدلان على أن البينة على المدعي الذى ليس ببائع وبهذا تستريح مما وقع فيه الغير من التعب والنصب في الجمع بين الحديثين فتقرر لك بهذا أن القول قول منكر وقوع البيع ومنكر فسخه ومنكر فساده ومنكر الخيار والأجل ومنكر أطول المدتين ومضيها مع يمينه والبينة على المدعي في ذلك كله
قوله وإذا قامت بينتا بيع الأمة وتزويجها استعملتا
أقول وجهه إمكان الجمع بين الأمرين بأن يزوجها منه أولا ثم يبيعها ثانيا وإذا لم يكن استعمال البينتين بأن يضيفا إلى وقت واحد بطلتا ورجع إلى الأصل وهو بقاء (3/163)
ملك البائع إلا أن يدعي البيع فإنه ها هنا مقر بخروجها عن ملكه ومدعي النكاح ناف لملكها فتصير لبيت مال المسلمين لكن إذا كان البائع مقرا بأستيفاء ثمنها أما إذا كان مطالبا به فإقراره مشروط بتسليم الثمن فلا تخرج عن ملكه إلا به وإلا بقيت في ملكه وأما إذا حلف فقد تضمنت يمين البائع وفي إنكاحها وتضمنت يمين مدعي التزويج نفي بيعها فتبقى في ملك البائع إلا أن يكون البائع مع إنكار إنكاحها مدعيا لبيعها فهو ناف لملكها والكلام فيه كما تقدم في المبينتين
وأما قوله لا بينتا العتق والشراء فالعتق قبل القبض والشراء بعده فوجهه أن بينة المشتري قبل القبض ضعيفة بالنسبة إلى بينة العتق لأنها قوية مع بقاء الأمة في يد معتقها ولا أرى هذا المرجح راجحا بل ينبغي الترجيح بين نفس البينتين فإن تساويا من كل وجه بطلتا وبقيت الأمة لمالكها هذا إذا أطلقتا كما ذكر المصنف أو أرختا بوقت واحد وأما إذا اختلف التاريخ فالحكم للبينة الأولى فإن شهدت بالبيع لم يصح العتق وإن شهدت بالعتق لم يصح البيع
قوله ولبائع لم يقبض الثمن في نفي اقباضه
أقول وجهه أن الأصل عدم قبض المشتري للمبيع وأما بعد أن يقبض البائع الثمن فلا يكون القول قوله والظاهر أنه لا فرق بين قبض الثمن وعدمه وأن بقاء المبيع في يد البائع يوجب أن يكون القول قوله في نفي الاقباض على كل حال لأن الأصل عدمه وبقاؤه في يد البائع قرينة مقوية للأصل
وأما قوله وللمسلم إليه قيمة رأس المال فلا وجه له لأنه لا أصالة ها هنا ولا ظهور فينبغي أن يكون القول قول منكر الزيادة والبينة على مدعيها
قوله وأما في تعيين جنس المبيع الخ
أقول هذه الأمور الخمسة لا يترجح فيها أحد الجانبين بل يستويان فمن بدأ (3/164)
بالدعوى منهما فيها كان هو المدعي وعليه البينة ومن أنكر كان هو المدعى عليه وعليه اليمين فإن ادعى كل واحد منهما بأن يقول هو هذا الجنس ويقول الآخر هو هذا أو هو هذه العين ويقول الآخر هو هذه وكذا في النوع والصفة والمكان فتطلب من كل واحد منهما البينة على ما ادعاه ويعمل على ما قامت عليه وإن بينا جمعيا فقال المصنف إن بينة المشتري أرجح لأنها خارجة إن أمكن عقدان وإلا بطل البيع وهذا مسلم مع استواء البينتين وعدم وجود مرجح يرجح أحداهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح الآتية وهكذا إذا تخالفا مع عدم البينة لأن المفروض أن كل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من أخرى فلا يكون أحدهما أرجح حيث كانا متفقين على أنه لم يقع المبيع إلا لشيء واحد
وأما قوله وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد فصحيح لأنه السابق إلى الأذهان فالظاهر مع من ادعاه وأنكر ما سواه وأما كون القول للبائع في نفي قبض الثمن فوجهه أن الأصل عدم ذلك وأما ثمن السلم فلما كان قبضه في مجلس عقده شرطا لئلا يكون من بيع الكاليء بالكاليء كان القول قول المنكر قبضه في المجلس لا بعده ولا وجه له إلا ما يذكرونه من أنه إذا احتمل العقد وجهي صحة وفساد كان جانب الصحة أرجح ولا أرى هذا مرجحا بل يتوجه الرجوع إلى حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين
وأما قوله وللبائع في قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع فلا وجه لهذا إلا ما يذكرونه من أن اليد للبائع قبل التسليم ولا أرى هذا مرجحا بل القول في القدر لمنكر الزيادة وأما في الجنس أو النوع أو الصفة فكما تقدم في المبيع من غير فرق بين أن يكون الاختلاف قبل تسليم المبيع أو بعده (3/165)
- كتاب الشفعة (3/167)
فصل
تجب في كل عين ملكت بعقد صحيح بعوض معلوم مال على أي صفة كانت لكل شريك مالك في الأصل ثم الشرب ثم الطريق ثم الجار الملاصق وإن ملكت بفاسد أو فسخ بحكم بعد الحكم بها إلا لكافر على مسلم مطلقا أو كافر في خططنا ولا ترتيب في الطلب ولا فضل بتعدد السبب وكثرته بل بخصوصه ويجب بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالحكم أو التسليم طوعا
قوله كتاب الشفعة فصل يجب في كل عين
أقول قد حكى الإجماع على مشروعية الشفعة كثير من المحققين فخلاف أبي بكر الأصم لم ينبغي الاعتداد به ولا الالتفات إليه فإنه كما هو مخالف للإجماع من المسلمين هو أيضا مخالف لما تواتر من السنة وأراد المصنف بقوله في كل عين إخراج الشفعة في المنافع فإنها إنما تكون تبعا لملك الأعيان وإذا وقع تصييرها إلى الغير بإجارة أو نحوها فهي باقية في ملك مالكها والشفعة إنما هى فيما خرج من مالك إلى مالك خروجا تاما فالعجب ممن أثبتها في الإجارة ونحوها وأدخلها تحت عموم أدلة الشفعة زاعما بأن ذلك هو الحق وتبعه من تبعه وهو خارج عن معنى الشفعة ومضمونها وفائدتها وأما استدلاله (3/169)
بمثل عموم قضائه صلى الله عليه و سلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فهو عليه لا له فإن القسمة من خواص الأعيان لا منافعها فلا معنى لقسمتها لأنها متعلقة بالعين تابعة لها ولهذا يقول صلى الله عليه و سلم في تمام هذا الحديث فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فأي حدود بمجرد الحقوق وأي تصريف لطرقها وفي حديث آخر وفي الصحيح بلفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط وبهذا تعرف أن أطلاق الشيء كما في حديث الشفعة في كل شيء مقيد بالشيء الذي ينتقل من ملك إلى ملك ويمكن قسمته وضرب الحدود له وتصريف الطرق إليه كما صرحت بذلك الأحاديث والحاصل أنا أولا نمنع أنها شيء ونمنع ثانيا ثبوت الشفعة في شيء باق على ملك مالكه بمجرد تسليطه للغير على الانتفاع به والقيام في مقام هذين المنعين لا ينقل عنه إلا ما ينتهض للحجية من الدليل لا مجرد المراوغة بالقال والقيل
وأما قوله بعقد صحيح فقد عرفناك أن العقود الصحيحة هى التي حصل فيها المناط الشرعي وتجردت عن المانع الشرعي فما كان كذلك ثبت في نفسه وثبتت فيه الشفعة وما لم يكن كذلك لم يثبت في نفسه فضلا عن أن يثبت ما ترتب عليه وأما كونها بعوض مال معلوم فقد تقدم في البيع أنه لا يكون إلا كذلك والشفعة مترتبة عليه
وأما قوله على أي صفة كانت فوجهه عموم أدلة الشفعة ووجود ما علل ثبوتها (3/170)
من دفع الضرر
قوله لكل شريك مالك في الأصل الخ
أقول أحاديث ثبوت الشفعة لمطلق الجار قد قيدتها الأحاديث الواردة بأن الشفعة في كل ما لم يقسم وأنها إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فإفاد هذا التقييد بأنه لا شفعة للجار الملاصق الذي لا خلطة بينه وبين شريكه ودعوى الإدراج في قوله فإذا وقعت الحدود الخ غير مقبولة فإنها ثابتة من حديث جابر عند البخاري وغيره وقد أخرجها أبو داود وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات بلفظ إذا قسمت الدار وحدث فلا شفعة ومع هذا فأصل الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ أنه قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة في كل ما لم يقسم وفي لفظ قضى بالشفعة في كل شركة لم يقسم يدل على أنه لا شفعة فيما قد قسم وهذا هو معنى هذه الزيادة فمن أعلها بالإدراج ورتب على ذلك ثبوت شفعة الجار الملاصق بعد القسمة مردود عليه بأصل الحديث وأما حديث الشفعة في كل شيء على فرض ثبوته فهو مطلق مقيد بالأحاديث المصرحة بعدم القسمة وبأنها إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وأما حديث الشريد بن سويد قال قلت يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا (3/171)
الجوار فقال الجار أحق بسقيه ما كان أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه فقد أعل بالاضطراب والإرسال وعلى كل حال فهو لا يصلح لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما وأما حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال جار الدار أحق بالدار من غيره أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والبيهقي والطبراني والضياء فهو من طرق الحسن عن سمرة وفي سماعه منه المقال المتقدم على أنه مقيد بما في الصحيحين وغيرهما وبحديث جابر قال قال النبي صلى الله عليه و سلم الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه ومع الاشتراك في الطريق فالشركة باقية وعدم القسمة كائن ولم تصرف الطرق
فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن مجرد الجوار بعد القسمة وتصريف الطرق لا تثبت به الشفعة
فالحاصل أنه لا سبب للشفعة إلا الخلطة وهي أعم من أن تكون في أرض أو دار أو طريق أو في ساقية للشرب أو في شيء من المنقولات
وأما قوله وإن ملكت بفاسد أو فسخ بحكم فقد قدمنا أنه إذا وجد ما يبطل عقد البيع بطل ما يترتب عليه وأما إذا كان قد حصل التراضي فهو المقتضى فإذا انضم إليه عدم المانع وهو أن لا يكون البيع من البيوع المنهي عنها فلا يضره ما يدعي أنه مفسد ولا يضره عروض التفاسخ الذي لم يكن السبب موجبا لإبطال البيع من أصله
قوله لكافر على مسلم الخ (3/172)
أقول الكافر المعصوم الدم بالذمة الإسلامية إذا طلب شفعة له من مسلم ورافعه إلى الشريعة الإسلامية وجب علينا الحكم له كما تدل على ذلك الآيات القرآنيه ولم يثبت في السنة ما يدل على إخراج أهل الذمة من هذا الحكم الذى شرعه الله لعباده وقد جازت المعاملة لهم للبيع ونحوه وإذا كان الذمي الطالب للشفعة في جزيرة العرب فلا شك أنا مأمورون بإخراجه وإخراج أمثاله منها لكن إذا لم نفعل وقررناهم فيها كان ذلك موجها للحكم بالشريعة الإسلامية ما داموا فيها كما يجوز البيع منهم لاتحاد البيع والشفعة في كونهما موجبين لانتقال الملك مع تحريم المضارة لهم بوجه من وجوه الضرر فلهم ما للمسلمين فيما توجبه الشريعة من دفع المفاسد وجلب المصالح إلا ما خصه دليل ولا يصلح لمثل هذا الاستدلال بقوله ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوله صلى الله عليه و سلم الإسلام يعلو فإنه ها هنا لم يكن له سبيل على المؤمنين بشريعته ولا من جهة نفسه بل بشريعة الإسلام ولم يعل لدفع الضرر عن نفسه بها وأما ثبوت التشافع في ذات بينهم فالأمر أظهر
قوله ولا ترتيب في الطلب
أقول إذا ترك الطلب من له حق في الشفعة وقت العلم بالبيع لظنه أن غيره أولى بها منه كان ذلك عذرا له كما سيأتي هذا على تقدير أن الطلب على الفور وأن التراخي مبطل
وأما قوله ولا فصل بتعدد السبب فصحيح لأن المراد وجود ما تستحق به الشفعة والواحد والكثير مستويان في هذا وهكذا الاعتبار بكثرته
وأما قوله بل بخصوصه فقد عرفناك أن السبب ليس إلا الخلطة وهي شيء واحد فلا يتم الخصوص إلا على الفور بتعدد أسباب الشفعة كما تقدم للمصنف ومعنى قوله ويجب البيع أنه يصير من له الشفعة مستحقا للمطالبة بها وأما كونها تستحق بالطلب (3/173)
فمعناه أن الشفيع إذا طلب فذلك هو السبب في الاستحقاق فإن رضي المشتري صار المشفوع فيه ملكا له بمجرد ذلك ويجب عليه دفع ما دفعه من الثمن وإن لم يرض مع عدم المانع الشرعي صار آثما لأنه امتنع من حق واجب عليه وعلى حاكم الشرع إجباره بتسليم ما أوجبه عليه الشرع وأما كونها تملك بالحكم أو التسليم طوعا فظاهر
فصل
وتبطل بالتسليم بعد البيع وإن جهل تقدمه إلا لأمر فارتفع أو لم يقع بتمليكها الغير ولو بعوض ولا يلزم وبترك الحاضر الطلب في المجلس بلا عذر قيل وإن جهل استحقاقها وتأثير التراخي لا ملكه السبب أو اتصاله وبتولي البيع لا إمضائه وبطلب من ليس له طلبه أو المبيع بغيرها أو بغير لفظ الطلب عالما أو بعضه ولو بها غالبا إن اتحد المشتري ولو لجماعة ومن جماعة وبخروج السبب عن ملكه باختيار قبل الحكم بها وبتراخي الغائب مسافة ثلاث فما دون عقيب شهادة مطلقا أو خبر يثمر الظن دينا فقط عن الطلب والسير أو البعث بلا عذر موجب قدرا يعد به متراخيا فلو أتم نفلا ركعتين أو قدم التسليم أو فرضا تضيق لم تبطل
قوله فصل وتبطل بالتسليم بعد البيع
أقول لأن ذلك حق للشفيع فإذا أبطله بطل وأما قوله وإن جهل تقدمه فغير (3/174)
مسلم لأنه لا بد أن يعلم ثبوت الحق له ثم يبطله وأما قبل أن يعلم بتقدم العقد فيمكن أنه أبطله لعلمه أنه لا يبطل بإبطاله قبل المبيع فهو من جملة ما يصدق عليه قوله إلا لأمر فارتفع فإنه أبطله لظنه أمرا وهو عدم تقدم العقد فارتفع بانكشاف تقدم العقد والوجه فيه أنه أسقط لظنه أمرا فانكشف خلافه فلا تطيب نفسه بذلك الإسقاط والحق له حكم الملك في إنه لا يحل للغير إلا بطيبة من نفس من هو له والكل يصدق عليه اسم المال والفرق إنما هو مجرد إصطلاح للفقهاء وهكذا إذا ظن وقوع أمر فانكشف أنه لم يقع فإنه كظنه الأمر الذى ارتفع
وأما قوله وتمليكها الغير الخ فغير مسلم فإنه لم يرض بإسقاط حق نفسه إلا بشرط هو مصيره إلى من ملكه فإذا لم يصر إليه فهو على حجته وأما تعليل هذا التمليك لكونه نوعا من التراخي فسيأتي الكلام على التراخي وأما كون العرض لا يلزم فغير صحيح لأنه مال أمريء مسلم طابت به نفسه فحل لمن صار إليه مع تراضيهما على ذلك وكان تجارة عن تراض
قوله ويترك الحاضر الطلب في المجلس بلا عذر
أقول قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة أن الشفعة حق ثابت لمن له سبب يستحقها به فمن زعم أنه يشترط فيها الفور وأن التراخي يبطلها فعليه الدليل فإن جاء به صافيا عن شرب الكدر فبها ونعمت وإن عجز عن ذلك كان الحق الثابت بالدليل الصحيح باقيا غير باطل بترك الفور وحصول التراخي ولم يأت المدع للبطلان بشيء يصلح للتمسك به أصلا فإن حديث الشفعة كحل العقال قد قال ابن حبان لا (3/175)
أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت وأما الاستشهاد له بحديث الشفعة لمن واثبها فهذا إنما رواه من لا معرفة له بعلم الرواية من الفقهاء كأبي الطيب الطبري وابن الصباغ صاحب الشامل في الفقه والماوردي وهؤلاء ليس من رجال الرواية ولا يرجع إلى مثلهم في ذلك فليس هذا بحديث لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا هو في كتاب حدثني فمن اغتر به وزعم أنه يشهد للحديث الأول ويفيد أن لهما أصلا في الجملة فقد أخطأ فإن الحديث الأول منكر غير ثابت وإن أخرجه ابن ماجه ففي كتابة السنن الكثير من أمثاله وأما الآخر فليس بحديث ومما يؤيد ما ذكرناه ما تقدم في حديث جابر بلفظ ينتظر بها وإن كان غائبا وهو حديث حسن كما تقدم
وإذا تقرر لك هذا عرفت أن من تراخى جاهلا لاستحقاقها أو يكون تراخيه مؤثرا للبطلان لا تبطل شفعته بالأولى فإنها إن لم تبطل بالتراخي لغير عذر كان عدم بطلانها بالتراضي بعذر مثل هذا من باب فحوى الخطاب
وأما قوله لا ملك السبب واتصاله فتكرير لقوله إلا لأمر فارتفع أو لم يقع فإن هذين قد أفادهما ذاك
وأما قوله وتولى البيع الخ فمبني على ما تقدم من بطلانها بالتراخي وقد عرفت ما فيه فلا فرق بين تولي البيع وبين إمضائه وقد أكثروا من التعسفات فى إبطال هذا الحق الثابت بالشرع كقوله ويطلب من ليس له طلبه أو المبيع بغيرها أو بغير لفظ الطلب فإن جعل هذه المبطلات للشفعة مجرد دعاوي لم تعضد ببرهان ولا دل عليها نقل ولا عقل ومجرد قولهم إن الاشتغال بذلك مع العلم تراخ فنقول لهم هذا الأصل الذى بنيتم عليه هذه القناطر قد هدمناه وأرحناكم من التعب في تقويمه وهكذا قوله أو بعضه ولو بها إلى آخر البحث فإنه مبني على ذلك الأصل المهدوم (3/176)
قوله وبخروج السبب عن ملكه الخ
أقول وجه ذلك أنه رضي بإبطال شفعته بإخراج ما هو سبب لثبوتها عن ملكه قبل مصيرها إليه فبطلت وأما قوله وبتراخي الغائب الخ فلا وجه لهذا التحديد وقد تقدم في حديث جابر بلفظ ينتظر بها وإن كان غائبا وظاهره أنه ينتظر سواء طالت المدة أو قصرت وسواء كان في مسافة ثلاث أو أكثر وكلام المصنف هذا وما بعده إلى آخر الفصل مبني على أن الشفعة تبطل بالتراخي وقد عرفت ما فيه فلا نطيل الكلام في غير طائل
فصل
ولا تبطل بموت المشتري مطلقا ولا الشفيع بعد الطلب أو قبل العلم أو التمكن ولا بتفريط الولى والرسول ولا بالتقائل مطلقا ولا بالفسخ بعد الطلب ويمتنعان بعده ولا بالشراء لنفسه أو للغير ويطلب نفسه ولا يسلم إليها
قوله فصل ولا تبطل بموت المشتري مطلقا
أقول لأن الحق للشفيع قد ثبت بنفس البيع فموت المشتري لا يؤثر في بطلان حق شرعي وأما قوله ولا الشفيع بعد الطلب فالظاهر أنه الشفعة لا تبطل بموت الشفيع مطلقا من غير فرق بين قبل الطلب وبعده لأنه حق يورث عنه كما تورث سائر الحقوق ودفع الضرر غير مختص لمن كان موجودا عند الشراء لأن وارثه يتضرر كما يتضرر وإذا مات الشفيع قبل أن يعلم بالبيع أو قبل أن يتمكن من الطلب فلوارثه ما كان له وهكذا (3/177)
لو مات بعد العلم أو بعد التمكن من الطلب كما قدمنا لك من عدم اشتراط الفور في الطلب وأما كونها لا تبطل بتفريط الولي والرسول فلكون صدور ذلك من جهة أنفسهما وهما إنما أمرا بإيقاع الطلب فلا يبطل بتفريطهما ما هو حق لغيرهما
قوله ولا بالتقائل مطلقا
أقول إذا أقال المشتري البائع رجع المبيع له وكأن البيع لم يكن وهكذا إذا أقال البائع المشتري أو أقال كل واحد منهما الآخر فلم يتم البيع تماما شرعيا فلا وجه لما قاله المصنف وهكذا لا وجه لما تقدم له من أن الإقالة بيع في حق الشفيع وهكذا لا وجه لقوله ولا بالفسخ بعد الطلب لأنه بفسخ قد عاد على أصل البيع الذى هو سبب استحقاق الشفعة بالبطلان وهكذا لا وجه لقوله ويمنعان بعده
والحاصل أن هذه تفريعات على أصول منهارة وأن كونها لا تبطل بالشراء لنفسه فلعدم ورود ما يدل على أن ذلك مبطل لحقه من الشفعة إذا قام يشفع غيره مما له استحقاق لها وهكذا لا تبطل للشراء لغيره ولكن لا بد عند من يوجب الفور أن يطلب نفسه كما قال المصنف وأما كونه لا يسلم إليها فلأنه مأمور بإدخال المبيع في ملك موكله لا بإخراجه عن ملك فإن ذلك لا يقتضيه التوكيل
فصل
وللمشتري قبل الطلب الانتفاع والإتلاف لا بعده لكن لا ضمان للقيمة ولو أتلف ولا أجرة وإن استعمل إلا بعد الحكم أو التسليم باللفظ وللشفيع الرد بمثل ما يرد به المشتري إلا الشرط ونقض مقاسمته ووقفه وعتقه واستيلاده وبيعه (3/178)
فإن تنوسخ شفع بمدفوع من شاء فإن أطلق فبالأول ويرد ذو الأكثر لذي الأقل وعليه مثل الثمن النقد المدفوع قدرا وصفة ومثل المثلى جنسا وصفة فإن جهل أو عدم بطلت فيتلف المشتري أو ينتفع حتى يوجد وقيمة القيمي وتعجيل المؤجل وغرامة زيادة فعلها المشتري قبل الطلب للنماء ولا للبقاء وقيمة غرسه وبنائه وزرعه قائما لإبقاء له إن تركه أو أرش نقصانها إن رفعه أو بقاء الزرع بالأجرة وله الفوائد الأصلية إن حكم له وهي متصلة لا منفصلة فللمشتري إلا مع الخليط لكن يحط بحصتها من الثمن إن شملها العقد وكذا في كل ما نقص بفعله أو فعل غيره وقد اعتاض
قوله فصل وللمشتري قبل الطلب الانتفاع والإتلاف لا بعده
أقول هذا صحيح لأنه هالك تصرف في ملكه قبل أن يتعلق به حق للغير وبعد الطلب قد تعلق به حق للشفيع فلا يجوز له إبطاله بالتصرف
وأما قوله لكن لا ضمان للقيمة وأن أتلف فوجهه أنه أتلف ملكه وإن عصى بتفويت الحق على الشفيع وهكذا لا وجه للزوم الأجرة له إذا استعمل المبيع لأنه استعمل ملكه قبل أن يخرج عنه وإنما يضمن القيمة وتلزمه أجرة الاستعمال إذا أتلف أو استعمله بعد أن انتقل إلى ملك الشفيع بحكم أو بالتراضي وهذا كله من تكثير الكلام بما لا تدعو إليه حاجة ولا يتعرض دونه إشكال
قوله وللشفيع الرد بمثل ما يرد به المشتري
أقول هذا صحيح لأن المبيع انتقل إليه بحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فله أن يرده على مشتريه بما أثبته له لشرع ولا ينافي ذلك كونه يأخذه من يد مشتريه (3/179)
وإن كره انتقاله إليه لأن مثل هذا ليس بمانع شرعي لما سوغه الشرع ولا فرق بين سبب وسبب من أسباب الرد المتقدمة ولا مانع من أن يجعل لنفسه خيار الشرط في هذا الأمر الذى أثبته له الشرع فيقول للمشتري إن رغبت في انتقال هذا المبيع إلي بحق الشفعة في مدة كذا وكذا وإلا فهو رد عليك وليس للمشتري أن يمتنع من قبول هذا الشرط وهذا ونحوه وإن أبته المقلدة فهو لا يأباه من وفى الاجتهاد حقه
وأما قوله ويقض مقاسمته الخ فوجهه أن إيقاع المشتري لهذه الأمور لا تبطل الحق الثابت في تلك العين للشفيع لأنها مسبوقة بحقه الذى أثبته له الشرع وموقوفة على إبطاله أو بطلانه بمتقض للبطلان
قوله فإن تنوسخ شفع بمدفوع من شاء
أقول الشفعة وجد سببها بالعقد الأول فإذا انضم إليه الطلب وبذل ما دفعه المشتري من الثمن فلا حكم للعقود التى ترتبت على هذا العقد الذى كان هو السبب للشفعة بل تبطل كلها ويتراجع أهلها بما دفعوه من الأثمان سواء زادت على ما دفعه المشتري الأول أو نقصت عنه فإن قلت إن حق الشفيع يثبت بكل واحد منها على حد ثبوته بالعقد الأول فما المانع للشفيع من أن يشفع ما شاء منها قلت إذا كان حق الشفيع ثابت في العقد الأول فلا يصح ما ترتب عليه ولا يشفع إلا به وإن كان قد أبطل شفعته فيه أو بطلت بمبطل شرعي كان العقد الثاني بمنزلة عقد أول فليس له أن يشفع إلا به لا بما ترتب عليه ثم هكذا الكلام في بقية العقود وأما الحكم لجميعها بالصحة وتفويض الشفيع إلى ما يقترحه ويريده فخارج عن مسلك العدل والعقل فإنه يؤدي إلى تغريم بعض البائعين بعد أن باع ملكه بيعا أذن الله له به وأحل له ما قبضه من الثمن بمجرد هذا التشهي المجعول للشفيع خبطا وجزافا
وأما كون عليه مثل الثمن فمعلوم لا تدعو إليه حاجة
وأما كونها تبطل مع جهل الثمن أو عدمه فإن استمر ذلك ولم يتبين القدر أو لم يوجد فوجه البطلان أن المشتري لا يجب عليه إخراج المبيع من ملكه إلى ملك الشفيع إلا بالثمن (3/180)
الذى دفعه والمفروض أنه قد طرأ ما أوجب جهالته أو تعذر وجوده فلا يجوز أن يكلف بإخراجه من ملكه لأنه هجوم على ما لا عدل فيه والعدول إلى القيمة قد يكون مخالفا لغرض مالكه فالشفيع مخير بين أن يدفع له بما يرضى به حتى يكون ذلك تجارة عن تراض أو يدع الشفعة
وأما قوله وتعجيل المؤجل فلا وجه له لأنه صار إليه البيع بالحق الثابت له بالشرع فلا يلزمه إلا ما لزم المشتري ولا يجب عليه دفع الثمن إلا في الوقت الذى يجب على المشتري دفعه فيه
قوله وغرامة وزيادة الخ
أقول ما غرمه المشتري في المبيع مما يحصل به زيادة فيه من حرث أو غرس أو بناء ونحوها كان له الرجوع بقيمة ذلك على الشفيع لأنه فعله في ملكه قبل أن يستحق عليه بالشفعة وأما بعد أن يعلم أن الشفيع قد صار مطالبا بالشفعة مضيقا في مصير المبيع إليه فليس له أن يفعل فيه شيئا إلا بإذن الشفيع فإن فعل بغير إذنه والحال هكذا كان له رفع ما يمكن رفعه ولا يرجع بما لا يمكن رفعه وللمشتري الفوائد الحادثة في المبيع بعد البيع قبل طلب الشفيع سواء كانت أصلية أو فرعية لأنها فوائد ملكه فإن اختلط بما كان منها موجودا قبل البيع كان له بقدر ما حدث بعد البيع قبل الطلب وإذا حصل في المبيع نقص بعد البيع قبل طلب الشفع فإن كان بفعل المشتري أو تفريطه كان مضمونا عليه للشفيع وإن كان لا بفعله ولا تفريطه فليس عليه وذلك كرخص السعر والهزال بلا سبب والآفات السماوية والأمر الغالب من غيرها والحاصل أن المشتري لا يضمن إلا ما كان بجنايته أو تفريطه فإن كانت بجناية الغير على المبيع رجع عليه الشفيع بما قبضه من الجاني إن كان قد قبض الأرش منه وإلا كان للشفيع مطالبة الجاني بأرش جنايته هكذا ينبغي أن يقال في الزيادة والنقص (3/181)
فصل
وإنما يؤخذ المبيع قسرا بعد الحكم فهو كالأمانة أو التسليم والقبول باللفظ فهو كالمبيع فيؤخذ من حيث وجد ويسلمه من هو في يده وإلا فغصب إلا لقبض الثمن ولو بائعا مستوفيا وهي هنا نقل في الأصح ويحكم للموسر ولو في غيبة المشتري ويمهل عشرا ولا تبطل بالمطل إلا لشرط وللملتبس مشروطا بالوفاء لأجل معلوم وللحاضر في غيبة الأولى ومتى حضر حكم له وهو معه كالمشتري مع الشفيع وللوكيل وإن طلب المشتري يمين الموكل الغائب في نفي التسليم أو التقصير لا للمعسر وإن تغيب حتى أيسر والحط والإبراء والإحلال من البعض قبل القبض يلحق العقد لا بعده ولا الهبة ونحوها مطلقا والقول للمشتري في قدر الثمن وجنسه ونفي السبب وملكه والعذر في التراخي والحط وكونه قبل القبض وللشفيع في قيمة الثمن العرض التالف ونفي الصفقتين بعد اشتريتهما وإذا تداعيا الشفعة حكم للمبين ثم الأول ثم المؤرخ ثم تبطل
قوله فصل وإنما يؤخذ المبيع قسرا الخ
أقول إذا وقع الطلب من الشفيع وصح سببه الذى يستحق به الشفعة وبذل تسليم الثمن كان على المشتري تسليم المبيع إليه فإن أبى لا لموجب شرعي كان غاصبا وإذا تلف تلف من ملكه وإن لم يحصل منه الامتناع من التسليم بل هو باذل لتسليمه ومنع من التعجيل مانع معقول فقد صار في ملك الشفيع ويتلف من ملكه وأما قوله وهي نقل في الأصح فلا يخفاك أن الشفعة حق للشفيع ثبت بالشرع (3/182)
فمصيره إليه هو بما أوجبه الشرع على المشتري من قبول حكم الله عليه فهذا هو الذى أوجب الملك للشفيع ونزعه من يد البائع وأما التعبير بكونه نقلا وفسخا فاصطلاح متجدد لا يحل أن يترتب عليه شيء من أحكام الشرع
وأما قوله ويحكم للموسر الخ فصحيح لأنه إذا رافع من له هذا الحق الشرعي إلى حاكم الشرع وجب عليه أيضا له به كما يحكم على الغائب في سائر ما يجب عليه التخلص منه
وأما ما ذكره من أنه يمهل عشرا فهذا ليس عليه دليل ولا هو رأي مستقيم
والذى ينبغي أن يقال إنه يمهله إن كان يحتاج في تحصيل الثمن إلى بيع من أملاكه أو نحو ذلك مدة يتمكن فيها من ذلك سواء كانت أقل من العشر أو أكثر ولا تبطل شفعته إن مطل زيادة على المدة المجعولة له ومجرد الشرط لا يسقط حقه الثابت بالشرع إلا أن يرضى بذلك لنفسه وإلا فهو شرط مخالف ما يقتضيه الشرع لكنه إذا عرف منه تعمد المطل ومضارة المشتري بعدم تسليم الثمن أجبره الحاكم على التسليم إلا أن يختار ترك الشفعة
وأما قوله وللملتبس مشروطا بالوفاء فلا يحتاج إلى هذا الشرط لأنه مشروط من جهة الشرع أن يدفع الشفيع مثلما دفعه المشتري فإن لم يفعل فلا شفعة
وأما قوله ويحكم للحاضر الخ فصحيح لأنه طالب بحق له أثبته الشرع لوجود سببه والاعتبار بالانتهاء إذا كان ثم شفيع أحق منه بالشفعة وهكذا يحكم لوكيل الشفيع إن وجد السبب المقتضي لذلك
قوله لا للمعسر وإن تغيب حتى أيسر
أقول هذا هو الحق الثابت بالشرع إذ لا بد أن يكون الشفيع متمكنا من تسليم مثل الثمن ولا يشترط في هذا أن يكون متمكنا منه في ملكه بل إذا تمكن منه بالقرض ثبتت شفعته ولو كان فقيرا لا يملك شيئا لأنه قد حصل المقصود برد مثل الثمن ولا يجب غير ذلك (3/183)
وأما الحكم ببطلانها بمجرد الإعسار فدفع للشرع بالصدر بغير برهان
وأما كون الحط والإبراء والإحلال من البعض يلحق العقد قبل القبض فصحيح لأنه لا يجب على الشفيع أن يدفع إلا ما دفعه المشتري
وأما بعد القبض فوجهه أنه قد يكون ذلك بمقصد خارج عن التبايع من مكارمة أو صداقة أو نحوهما والظاهر أن ما كان راجعا إلى ذلك العقد الواقع بينهما فهو لا حق له وكونه بمقصد آخر خلاف الظاهر لأن كونه مضافا إلى ثمن المبيع يوجب للشفيع مثلما وقع للمشتري إلا أن يتقرر ببرهان شرعي أن ذلك كان لسبب آخر فله حكمه
وأما الهبة ونحوها فلا مانع منها إذا كانت لمقصد صحيح لا لمجرد الحيلة على الشفيع والفرق بين ما كان بلفظ الهبة ولفظ الحط ونحوه لا يخفى أنه مجرد ملاحظة للألفاظ التي لا اعتبار بها في الشرع كما عرفناك غير مرة فينبغي في الجميع الرجوع إلى ما يقتضيه الظاهر وتوجبه المقاصد
قوله والقول للمشتري في قدر الثمن وجنسه
أقول ينبغي أن يكون القول قول النافي للزيادة في القدر والنافي لكون الجنس أعلى وأكثر قيمة والبينة على مدعي الأمرين وأما الجزم بأن القول للمشتري فيهما مطلقا فخلاف الصواب بل خلاف قواعدهم المألوفة في غير هذا الباب ومعلوم أن الشفيع لا يقع منه إنكار أصل الثمن ولا إنكار كونه على جنس من الأجناس إنما يقع منه إنكار الزيادة والنفاسة ونحوهما
وأما كون القول قوله في نفي السبب فصحيح لأن الأصل عدمه وهكذا القول له في إنكار اتصاله بالمبيع أي كونه سببا يصح له التشافع على ما قدمنا تقريره وهكذا القول له في نفي الحط لا الأصل عدمه وسواء كان المشتري يدعي أنه قبل القبض أو بعده
وأما قوله وللشفيع في قيمة الثمن العرض التألف فلا يخفاك أنه ليس أحدهما أولى من الآخر لكون القول قوله فيكون فيه كما قدمنا في قدر الثمن وجنسه (3/184)
وأما كون القول قول الشفيع في نفي الصفقتين فظاهر لأن الأصل عدم كون البيع وقع دفعات ولا فرق بين أن يكون المشتري قد قال اشتريتهما أم لا
وأما قوله وإذا تداعيا الشفعة حكم للمبين فظاهر
وأما قوله ثم الأول فلا وجه له بعد وقوع التخاصم
وأما قوله ثم للمؤرخ فلا وجه له بل ينبغي أن يقال إن كل واحد منهما مدع ومدعي عليه فإذا لم توجد البينة حلف كل واحد منهما على نفي دعوى الآخر فيكون ثبوت كل واحد منهما على ما تحت يده بهذه الطريقة لا بمجرد الحكم بالبطلان بادئ بدء (3/185)
- كتاب الإجارة (3/187)
فصل
تصح فيما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ونماء أصله ولو مشاعا وفي منفعة مقدورة للأجير غير واجبة عليه ولا محظورة وشرط كل مؤجر ولايته وتعيينه ومدته أو ما في حكمها وأول مطلقها وقت العقد وأجرته وتصح منفعة وما يصح ثمنا ومنفعته إن اختلفت وضررها ويجوز فعل الأقل ضرا وإن عين غيره ويدخلها الخيار والتخيير والتعليق والتضمين غالبا ويجب الرد والتخلية فورا وإلا ضمن هو وأجرة مثله وإن لم ينتفع إلا لعذر ومؤنهما ومدة التخلية عليه لا الإنفاق
قوله كتاب الإجارة فصل تصح فيما يمكن الانتفاع به
أقول ثبوت الإجارات في هذه الشريعة قطعي لا يكاد ينكر أصل الجواز والصحة إلا من لا يعرف الكتاب والسنة ولا يعرف ما كان الأمر عليه في أيام النبوة وأيام الصحابة (3/189)
وقد أجر النبي صلى الله عليه و سلم نفسه كما في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسم أنه قال ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت قال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه استأجر كما في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة أنه صلى الله عليه و سلم استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا الحديث المذكور في وصف هجرته صلى الله عليه و سلم وقد كان أكابر الصحابة يؤجرون أنفسهم في الأسواق وغيرها وهذا معلوم لا يشك فيه أحد
وأما المتكلم في لزوم عقدها فمن فضول الكلام الذى لا يدعو إليه حاجة لأن الأجير إن يراد الأجرة فلا يستحقها إلا بالوفاء بما تراضيا عليه وإن رغب عن الأجرة فلا يلزمه الوفاء ولهذا يقول شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك فذكر له القدر الذى يستحق به أن ينكحه إحدى ابنتيه ثم ذكر له الزيادة على جهة المكارمة والتفضل فمعلوم أنه لا يلزم موسى عليه السلام الدخول في هذا العقد ابتداء ثم لو رغب عن الأجرة واختار الترك في وسط المدة لم يكن عليه التمام شاء أم أبى وهكذا سائر الإجارات فلزوم عقدها هو من هذه الحيثية وهو مفوض إلى الأجير إن شاء مضى فيه واستحق الأجرة وإن شاء تركه وترك المطالبة بالأجرة (3/190)
وأما اشتراط كون الإجارة فيما يمكن الانتفاع به فلا بد من ذلك وإلا كان البحث خارجا عن الإجارة
وأما قوله ونماء أصله فلا يدري ما هو الموجب لهذا الاشتراط ولا ثبت ما يمنع منه من شرع ولا عقل فاستئجار الشجرة للانتفاع بثمرها واستئجار الحيوان للانتفاع بما يخرج منه من صوف ولبن جائز صحيح ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل
وأما قوله ولو مشاعا فصحيح لأن المالك لبعض الشيء له أن يتصرف به كيف يشاء كالمالك للشيء جميعه إلا أن يتصرف في نصيبه بما يضر شريكه فإن ذلك ممنوع بالأدلة الواردة في المنع من الضرار
وأما قوله في منفعة مقدورة للأجور فلا بد منه فإن ما لا يقدر عليه لا ينتفع به فيه
قوله غير واجبه عليه
أقول الأدلة الواردة في تحليل الإجارة على العموم وفي تحليل مطلقها من غير تقييد يقتضي أنه لا يصح القول بعدم جواز نوع خاص من أنواعها إلا بدليل يدل عليه يصلح لتخصيص العموم أو تقييد المطلق وقد استدلوا على عدم جواز الاستئجار على ما هو واجب على الأجير بما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي بن كعب قال علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أخذتها أخذت قوسا من نار فرددتها قال البيهقي وابن عبد البر وهو منقطع يعني بين عطية العوفي وأبي بن كعب وكذلك قال المزني وتعقبهم ابن حجر بأن عطية ولد في (3/191)
زمن النبي صلى الله عليه و سلم وأعله ابن القطان بالجهل يحال عبد الرحمن بن سلم الراوي عن عطية وله طرق عن أبي قال ابن القطان لا يثبت منها شئ قال ابن حجر وفيما قال نظر وذكر المزي في الأطراف له طرقا وشهد له ما أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبادة ولفظه قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عز و جل لآتين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليس بمال وأرمي عليها في سبيل الله فقال إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه وكيع ويحيى بن معين ولكنه قد روي عن عبادة من طريق أخرى عند أبي داود بلفظ ما ترى فيها يا رسول الله فقال جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها وفي إسناد هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ووثقه الجمهور وقد روي حديث أبي السابق الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي بنحوه وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة وكونها واردة في خصوص الهدية لا يمنع من الاستدلال بها على تحريم الأجرة لأنه صلى الله عليه و سلم قد ذكر ما يدل على تحريم أخذ العوض عن ذلك كما في هذه الروايات وقد (3/192)
تركوا الاستدلال على التحريم بما هو أصرح من هذه الأحاديث وهو ما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اقرأوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به وما أخرجه أيضا أبو داود من حديث جابر قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال اقرأوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه وأخرجه أبو داود أيضا من حديث سهل بن سعد
ومما له دخل في منع أخذ الأجرة على ما هو طاعة ما تقدم في الآذان من قوله صلى الله عليه و سلم لعثمان بن أبي العاص لا يتخذ مؤذنا يأخذ على آذانه أجرا وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن وأجابوا عن حديث أبي وعبادة وما في معناهما بأجوبة منها أنها واقعات عينية فتحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه وقد استوفيت ما أجابوا به وما أجيب عليهم في شرحي للمنتقى ومن جملة ما استدل به المجوزون ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال هل فيكم من راق فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء (3/193)
فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله فإن هذا العموم يدل على جواز أخذ الأجرة على القرآن على كل وجه من وجوه الإجارات وقد خصص بالأحاديث المتقدمة فيقتصر المنع على ما اشتملت عليه
قوله ولا محظورة
أقول يدل على هذا ما ورد في الأحاديث من النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن فإن العلة في المنع من هذه ونحوها هى كونها محرمة فيلحق بذلك كل محرم للاستواء في علة المنع
وأما قوله وشرط كل مؤجر ولايته فوجهه أنه لا يجوز استعماله إلا بإذن مالكه أو من ينوب عن المالك وإلا كان ذلك من باب الغصب لا من باب الإجارة وهكذا لا بد من تعيين ما أستأجره أو استؤجر عليه وإلا كان الانتفاع به متعذرا وهكذا لا بد من تعيين مدته ويصح أن تكون الإجارة غير مشتملة على مدة معلومة وذلك كان يستأجره على كذا في كل يوم بكذا أو في شهر بكذا فإن هذه الإجارة صحيحة ولم يرد ما يدل على امتناعها وهما بالخيار أحدهما ترك ذلك كان له من غير حرج وأما اشتراط تعيين الأجرة فيدل عليه ما أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره قال في مجمع الزوائد ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي (3/194)
سعيد فيما أحسب انتهى وأخرجه أيضا عبد الرزاق وإسحق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في المزارعة غير مرفوع ولفظ بعضهم من استأجر أجيرا فليسم له أجرته وأخرجه أيضا البيهقي
وأما قوله ويصح منفعة فصحيح لأن الاعتبار بما وقع عليه التراضي في الأجرة من عين أو منفعة وما صح أن يكون ثمنا في المبيعات صح أن يكون أجرة في الإجارت وأما قوله ومنفعته أن اختلفت وضررها فصحيح لأن الاحتمال لمنافع من غير تراض على تسليط المستأجر على كل منفعة يكون سببا لتوقف الانتفاع الذى هو المقصود من الإجارة
وأما قوله يجوز فعل الأقل ضرا وأن عين غيره فغير مسلم بل يجب عليه الاقتصار على المنفعة التى وقع التراضي عليها فقد يكون في فعل غيرها وإن كان أقل ضررا مفسده على المؤجر وقد يكون مخالفا لغرضه فلا يجوز فعل غير ما تراضيا على تعيينه
قوله ويدخلها الخيار
أقول وجهه أن الأغراض في المنافع مختلفة كاختلافها في الأعيان فللمسلط على منافع العين مدة من الزمان أن يفسخها بما يفسخ به المبيع إذا كان لذلك وجه مقبول يلحقه يفوت الغرض في الأعيان وهكذا يدخلها التخيير فإنه إذا جاز في البيع كما تقدم في الأحاديث الصحيحة فدخوله في المنافع من باب فحوى الخطاب وهكذا يدخل الإجارة التعليق بوقت مستقبل نحو أن يقول أجرت منك هذه العين في شهر كذا من الشهور المستقبلة ولا يمنع من هذا شرع ولا عقل وما قيل من أنه يخالف ما سيأتي من قوله ولا يدخل عقد على عقد فوهم ولو صح هذا الوهم لما كان في هذه المخالفة (3/195)
لما هو مبني على مجرد الرأي للبحث بما يقدح في هذا التعليق وقد عرفناك غير مرة أن المناط في تحليل الأموال أعم من أن يكون أعيانا أو منافع هو التراضي إلا أن يرد الشرع الذى يقوم به الحجة بمنع التراضي في ذلك بخصوصه كما ورد في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن ونحوهما وأما كونه يدخل الإجارة التضمين للعين فوجهه أن المستأجر لها رضي لنفسه بذلك فكان هذا الرضا الصادر منه محللا لماله الذى دفعه في ضمانها ولا حجر في مثل هذا ولا وجه لقوله من قال إنه لا يصح
قوله ويجب الرد الخ
أقول وجهه قوله صلى الله عليه و سلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقد قدمنا ذكره من باب القرض وبيان من خرجه فهذا المستأجر للعين قد أخذ العين من مالكها للانتفاع بها بأجرة فكان عليه تأديتها إلى مالكها ولا نزاع في دخول المستأجر تحت هذا العموم فقول المصنف وإلا ضمن صحيح يصدق عليه قوله في الحديث على اليد ما أخذت فإن المراد به على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه
فصل
وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع أو التخلية الصحيحة فإن تعذر الانتفاع لعارض في العين سقط بحصتها وعلى المالك الإصلاح فإن تعذر في المدة سقط بحصتها وإذا عقد لاثنين فللأول إن ترتبا وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء (3/196)
ثم للقابض ثم للمقر له وإلا اشتركا إلا لمانع وللمستأجر القابض إلى غير المؤجر لمثل ما أكترى وبمثله وإلا فلا إلا بإذن أو زيادة مرغب ولا يدخل عقد على عقد أو نحوه إلا في الأعمال غالبا وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه وإلا كان رضا ومنه نقصان ماء الأرض الناقص للزرع لا المبطل له أو لبعضه فتسقط كلها أو بحصته وإذا انقضت المدة ولما يحصد الزرع وينقطع البحر بلا تفريط بقي بالأجرة
قوله فصل وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع
أقول وجهه أن الأجرة هى إلى مقابل المنفعة المتعلقة بالعين فلا يستحقها من هى له إلا بانتفاع المستأجر لها بها ولكنها إذا كانت المنافع مما يتجدد الانتفاع به في الأوقات كان للمؤجر أن يطالب المستأجر بقدر أجرة ما قد انتفع به ولا يلزمه أن يمهله حتى يستوفي كل ما تراضيا عليه إلا أن يتراضيا على تأجير تسليم الأجرة إلى استيفاء جميع ما تعلق به الإجارة من المنافع كان ذلك لازما لهما
وأما قوله والتخلية الصحيحة فمبني على أن التأجير إذا وقع لمدة كان الدخول في الإجارة بمثابة الرضا بدفع ما تراضيا عليه من الأجرة وإن لم يشرع في الانتفاع كما تقدم في البيع ولكن بين البابين بون بعيد فإن المشتري بمجرد قبضه للمبيع صار ملكا له يتصرف به كيف يشاء وأما الإجارة فالمنافع لمالك العين وليس للأجير إلا الانتفاع في وقت من الزمان فإلزامه بتسليم أجرة ما لم ينتفع به غير معقول وربما يتعذر الانتفاع لعارض في العين كما ذكره المصنف هنا فإنه يسقط بحصتها من الأجرة فكيف يكلف المستأجر بالتسليم للجميع مع الاحتمال
وأما قوله وإذا عقد لاثنين فللأول فظاهر لأنه قد صار من تقدم العقد له أحق (3/197)
بها كما تقدم في البيع
وأما قوله وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء فوجهه أنه قد رضي بذلك بعد أن صار مستحقا للمنفعة فكأنه فسخ العقد الذى كان في يده وإذا علم ترتب العقدين ثم التبس كان القابض للعين التى تعلقت بها المنفعة أولى بالمنفعة لأن ذلك دليل على تقدم عقدة وفيه نظر لأنه يمكن أن يسبق إلى القبض من تأخر عقده ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال وهكذا يكون إقرار البائع لأحدهما بتقدم عقده مفيد التقدمة وفيه نظر على قواعدهم لأن هذا الخبر من البائع فيه تقرير لفعله وهم يجعلون ذلك قادحا كما سيأتي في الشهادات
وأما قوله وإلا اشتركا فوجهه عدم وجود مرجح لأحقية أحدهما والأولى أن يقال إن هذا اللبس من كل وجه يقتضي بطلان إجارة كل واحد منهما فيؤجره مالكه ممن شاء لأن الرضا الذى هو المناط الشرعي غير متحقق مع اللبس
قوله وللمستأجر القابض التأجير إلى غير المؤجر
أقول المالك للعين مالك لمنافعها ومجرد الإذن لمن يستعمله مدة من الزمان بأجرة لا يدل على جواز صرفها إلى غيره لاختلاف الأشخاص والأغراض والمقاصد وبهذا تعرف أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجرها ولا حق له في ذلك بل حقه مختص باستيفائه للمنافع المأذون له بانتفاعه بها فإن قلت أما كان له في استحقاقه لمنافع العين ما يسوغ له تأجيرها من غيره قلت هذا الاستحقاق سببه إذن المالك له بالانتفاع بها إلى مقابل الأجرة فإخراجها إلى غيره وتسليطه للانتفاع بها لم يتناوله الإذن وأما إذا أذن له مالك العين بذلك فظاهر
وأما قوله أو زيادة مرغب فلا وجه له فإنه لا يجوز ذلك إلا إذا رضي بذلك المرغب إلى مقابل إخراج العين إلى مستأجر آخر ولا يصح أن يكون مجرد وجود زيادة المرغب مصححا لتأجير المؤجر شاء المالك أم أبى فإن ذلك من الافتيات عليه في ملكه وفيما أمره إليه (3/198)
قوله ولا يدخل عقد على عقد إلا في الأعمال
أقول لا مانع من هذا الإدخال لا من شرع ولا عقل ولا وجه لقياس الإجارة على البيع لما قد عرفناك من الفرق بينهما وأيضا قد قدمنا في البيع ما قد عرفته والحاصل أن المناط في الكل التراضي المدلول عليه بقوله تعالى تجارة عن تراض فمن زعم تقييد هذا التراضي بقيد لم يدل عليه دليل فهو رد عليه وهكذا قوله وأحل الله البيع وحرم الربا فمن زعم أنه لا يحل كذا من البيوع بغير دليل فهو رد عليه وإذا كان هذا في البيع الذى هو نقل الأملاك نقلا منجزا فكيف بالتجارة في المنافع الباقية على ملك مالكها ببقاء العين في ملكه والعجب من الفرق بين الأعيان والأعمال مع أن الكل منفعة فإن إجارة الأعيان تسليط المستأجر على الانتفاع بها والإجارة في الأعمال تسليط العامل لصاحب العمل على منافعه
قوله وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه
أقول ظهور العيب يقتضي ثبوت الرد به ولا يبطل إلا بمطل شرعي أو حصول الرضا المحقق به وأما هذا الذى جعلوه رضا شاء أم أبى وإن أدى إلى تلف ماله فمن غرائب الرأي وعجائب الاجتهاد ثم التفرقة بين تلف المال والنفس أغرب وأعجب ولا شك أن حفظ النفس مقدم على حفظ المال ولكن إضاعة المال منكر وحرمته مقترنة بحرمة النفوس كما حديث إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام
وأما قوله ومنه نقصان ماء الأرض الخ فمن التفريع المستغنى عنه (3/199)
فصل
وإذا اكترى للحمل فعين المحمول ضمن إلا من الغالب ولزم إبدال حامله إن تلف بلا تفويت غرض والسير معه ولا يحمل غيره وإذا امتنع المكتري ولا حاكم فلا أجرة والعكس إن عين الحامل وحده إلا لشرط أو عرف في السوق فيتبعه ضمان الحمل ولا يضمن بالمخالفة إلى مثل الحمل أو المسافة قدرا وصفة فإن زاد ما يؤثر ضمن الكل وأجرة الزيادة فإن حملها المالك فلا ضمان ولو جهلا فإن شورك حاص وكذا المدة والمسافة ولا بالإهمال لخشية تلفهما ومن اكترى من موضع ليحمل من آخر إليه فامتنع أو فسخ قبل الأوب لزمت للذهاب إن مكن فيه وخلي له وإلا فلا
قوله فصل وإذا اكترى الخ
أقول مجرد استئجاره على أن يحمل له شيئا على دابته أو على ظهره ليس فيه ما يدل على تضمينه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ولا ورد بذلك شرع ولا دل عليه رأي صحيح ولا عقل بل غاية ما يجب على هذا الأجير هو إيصاله إلى المكان الذي عينه المالك ولا يضمن إلا إذا حصلت منه جناية أو تفريط فإن التضمين حكم شرعي يستلزم أخذ مال مسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز إلا بحجة شرعية وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وإذا عرفت أن الإجارة إنما هى على إيصال الشيء المحمول إلى المكان الذي وقع التواطؤ عليه فقد صار ذلك واجبا على الأجير سواء كان على حامل واحد أو أكثر وإذا تلف الحامل لزمه إبداله وله أن يستنيب من يسير مع الدواب الحاملة ولا وجه لإيجاب السير وله أن يحمل غيره على تلك الدابة أو غيرها ولا وجه لمنعه من ذلك ولا يستحق الأجرة إلا بإيصاله إلى المكان المعين فإن تلف الحمل دونها بغير جناية منه ولا تفريط استحق حصة ما قد قطعه من المسافة ولا فرق بين أن يكون المعين (3/200)
هو الحامل أو المحمول فإن الكلام في الجميع هو ما ذكرناه ولا وجه للفرق إلا مجرد خيالات لا يحل بناء أحكام الشرع عليها إلا أنه إذا استأجر الدابة لحمل ذلك الحمل المعين إلى المكان المعين فليس لمالكها أن يحمل عليها غيره لأن منافعها قد صارت مستحقة للمستأجر ولكنه لا يحمل فوقها غير ما عينه فإن خالف وتلفت بسبب المخالفة ضمن الدابة بسبب جنايته عليها بالزيادة
وأما قوله من اكترى من موضع الخ فصحيح فإن المستأجر بسبب امتناعه من التحميل أو فسخه للإجارة قد لزمه قدر ما قد فعله الأجير بإذنه إذا لم يصدر منه ما يكون سببا للتفاسخ على وجه التعدي (3/201)
باب وإجارة الآدميين
فصل
إذا ذكرت المدة وحدها أو متقدمة على العمل فالأجير خاص له الأجرة بمضيها إلا أن يمتنع أو يعمل للغير والأجرة له ولا يضمن إلا لتفريط أو تأجير على الحفظ ويفسخ معيبه ولا يبدل وتصح للخدمة ويعمل المعتاد والعرف لا بالكسوة والنفقة للجهالة والظئر كالخاص فلا تشرك في العمل واللبن وإذا تغيبت فسخت إلا أنها تضمن ما ضمنت
قوله فصل إذا ذكرت المدة وحدها
أقول إذا ذكرت المدة وحدها صار الأجير فيما مستحق المنافع للمستأجر فليس له أن يعمل للغير
وأما قوله وله الأجرة بمضيها فلا وجه له لأنه خلاف مقصود المستأجر إنما أراد استئجاره على عمل في تلك المدة المعينة لا مجرد كونه أجيرا له بغير عمل فيها فإذا لم يعمل لم يستحق شيئا وإن عمل وفرط في العمل فلم يعمل إلا بعض ما يقدر عليه من العمل في العادة فليس له إلا قدر أجرة عمله وأما إذا ذكر العمل مع المدة فذكره معها قريبة دالة على أن المراد عمل ذلك العمل المسمى فإذا فرغ منه في بعض اليوم فقد انقضت الإجارة وسواء تقدم ذكر العمل أو تأخر وإذا تلفت العين التي استؤجر على (3/202)
فيها فلا ضمان عليه إلا لجناية أو تفريط على ما قررناه قبل هذا الباب
وأعلم أن الفرق بين تقديم العمل أو تأخيره كما في هذا الفصل والفصل الذي بعده وجعل ذلك مقتضيا لتسميته أجيرا خاصا أو أجيرا مشتركا هو كله ظلمات بعضها فوق بعض وتلاعب بأحكام الشرع بلا سبب لا من شرع ولا من لغة ولا من عقل ولا من رأي صحيح وحاصل ما ينبغي الاعتماد عليه في هذا أن استئجار الأجير على عمل يقتضي استحقاقه للأجرة المسماة بفراغه منه إلا أن يشترط عليه التمام للعمل في مدة معينة وإلا فلا أجرة فإن رضي لنفسه لذلك لزمه حكم ما رضي به وإن لم يرض استحق الأجرة بتمام العمل سواء طالت المدة أو قصرت وإذا عرفت هذا هان عليك ما ذكره المصنف وغيره من هذه التفاصيل والتفاريع التي لا يفوح منها رائحة من روائح العلم ولا يلوح عليها نور من أنوار الشرع فأضرب بما ذكره من الفرق بين تقديم العمل على المدة وتأخيره عليها ومن الفرق بين الخاص والمشترك ومن الفرق بين تعريف العمل وتنكيره وبين الأربعة ومن عداهم وجه من جاءك محتجا به معتقدا أنه من هذه الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وقل له من استأجر أجيرا على عمل كان عليه أجرته وعلى الأجير عمل ما استؤجر عليه على الوجه الذي وقع التراضي به والتواطؤ عليه وما ذكره الأجير أو المستأجر فيما فيه زيادة على ذلك من تعيين مدة أو اشتراط كون العمل على صفة معروفة أو نحو ذلك كان ما تراضيا عليه لازما لهما لا يجوز لهما المخالفة له ولا الخروج عما يقتضيه وقد قدمنا لك أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط أو شرط عليه ورضا به وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه استأجر على عمل واستؤجر عليه كما قدمنا ومن استئجاره صلى الله عليه و سلم على عمل ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه (3/203)
ثم رجل يزن بالأجر فقال له زن وأرجح وصححه الترمذي وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا من حديث أبي صفوان بن عمير
فصل
فإن قدم العمل فمشترك ويفسد إن نكر مطلقا أو عرف إلا في الأربعة وتصح إن أفرد معرفا إلا فيها فيذكران معا وهو فيهما يضمن ما قبضه ولو جاهلا إلا من الغالب أو بسبب من المالك كإناء مكسور أو شحن فاحشا وله الأجرة بالعمل وحبس العين لها والضمان بحالة ولا تسقط إن ضمنه مصنوعا أو محمولا وعليه أرش يسير نقص بصنعته وفي الكثير يخير المالك بينه وبين القيمة ولا أرش للسراية عن المعتاد من بصير والذاهب في الحمام بحسب العرف
فصل
وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص إلا لشرط أو عرف ويضمنان معا والفسخ إن عتق أو بلغ ولو لعقد الأب في رقبته لا ملكه وإذا شرط على الشريك الحفظ ضمن كالمشترك (3/204)
قوله وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص
أقول إن عرف من مقصد المستأجر أنه لا يريد إلا تحصيل ذلك العمل على صفة يستوي في تحصيلها الأجير وغيره كان للأجير الاستنابة من هذه الحيثية وأما إذا كان الأجير أحسن صناعة من غيره ولا يلحق غيره به فيها فاستئجار على ذلك العمل قرينة تدل على أن المراد تولى العمل بنفسه وجعله على الصفة التى لا يحسنها غيره وهكذا إذا كان بمكان من الدين رفيع فاستأجره المستأجر على شيء من الأمور الدينية فإنه لا يجوز الاستنابة لغيره لأن استئجاره على ذلك العمل قرينة كما تقدم وهذا مع عدم الشرط أما إذا شرط عليه أنه لا يستنيب فلا يجوز له الاستنابة ولو استناب من هو أحسن منه صناعة أو أكثر دينا وأتم عدالة
هكذا العرف إذا جرى في المحل فإنه محكم لأنه مقصود لهما كما تقدم في غير موضع
وأما قوله ويضمنان معا فقد عرفت أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط كما قدمنا لأنه إنما استؤجر على العمل في الشئ ولم يستأجر على حفظه وأما كون لمن عتق أو بلغ الفسخ فظاهر لان العبد قد ملك نفسه فلا يلزمه ما ألزم به وهو في الرق والصبي قد انتقل الحكم إليه بعد بلوغه فلا يلزمه ما وقع بالولاية عليه لأن المانع قد زال والمقتضى قد حصل إلا ما كان من تصرف الأولياء في ماله فإنه يلزم بموجب الولاية التى لهم مع المصلحة ولا وجه لتخصيص ذلك بالأب
قوله وإذا شرط على الشريك الحفظ الخ
أقول ذكر في هذا الباب غير مناسب ومحله - كتاب الشركة لأنه كلام في شرط الضمان من أحد الشريكين على الآخر وبالوجه أنه إذا قبل الشرط لزمه الحفظ ولزمه (3/205)
الضمان وأما قوله كالمشترك فلا وجه لما عرفت في الأجير المشترك من أنه أجير على العمل لا على الحفظ
فصل
والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد فيتبعها أحكام الملك وتستقر بمضي المدة وتستحق بالتعجيل أو شرطه أو تسليم العمل أو استيفاء المنافع أو التمكن منها بلا مانع والحاكم فيها يجبر الممتنع ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل قيل لا المعمول بعد العمل وفي الفاسدة لا يجبر ولا تستحق وهي أجرة المثل إلا باستيفاء المنافع في الأعيان وتسليم العمل في المشترك
قوله فصل والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد
أقول ليس على هذا أثارة من علم والأجير المتسأجر على عمل لا يستحق أجره إلا بالعمل الذى استؤجر عليه هذا معلوم بالعقل ولم يرد في الشرع ما يخالفه بل ورد ما يقويه ويعضده فأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره فقوله فاستوفى منه يدل على أن الأجرة إنما تستحق باستيفاء العمل فيما استؤجر عليه وأخرج أحمد والبزار من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله فقوله إنما يوفى أجره إذا قضي عمله دليل على ما ذكرناه فلا وجه لقوله فتتبعها (3/206)
أحكام الملك وما بعده لأنه تفريع على أصل منهار
وأما قوله وتسليم العمل واستيفاء المنافع فصحيح وهكذا قوله أو التمكن منها بلا مانع لأن المؤجر لها قد فعل ما يجب عليه فإذا أفرط المستأجر فقد أتى من قبل نفسه إلا أن يكون تركه رغوبا عن الدخول في الإجارة ولم يكن قد حصل على المؤجر نقص ولا استغراق مدة فله ذلك
وأما قوله والحاكم فيها يجبر الممتنع فقد عرفناك أن الأجير والمؤجر إنما يستحقان الأجرة إذا فرغ الأجير من عمله وفرغ المستأجر من استيفاء المنفعة التي أستأجر العين لأجلها فإذا ترك فلا أجره ولا إجبار
قوله ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل
أقول الحكم بصحة هذا ظاهر لعدم المانع من ذلك لا شرعا ولا عقلا
وأما قوله قيل لا المعمول بعد العمل فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان قال ابن تيمية في المنتقى وقد فسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحونا لما فيه من استحقاق طحن قدر الأجرة لكل واحد منهما على الآخر وذلك متناقض وقيل لا بأس به مع العلم بقدره وإنما المنهى عنه طحن الصبرة والتفسير الأول أقرب وعليه اقتصر صاحب النهاية ولكن الحديث في إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان لا يعرف وكذا قال الذهبي وزاد وحديثه منكر (3/207)
وقال ابن تيمية حفيد مصنف المنتقى إنه حديث ضعيف بل باطل فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك انتهى ولكنه قال مغلطاي إن هشاما المذكور ثقة وأورده ابن حبان في الثقات فليس الحديث بعد هذا يضعف فضلا عن أن يكون باطلا والرجوع إلى العمل به أولى من ظلمات الرأي وتخبطات الاجتهاد ويقاس المحمول على المعمول لأن العلة كائنة في المحمول كما في المعمول ولا عذر لمن عمل بمثل هذا القياس وبما هو أضعف منه من العمل به ها هنا
وأما قوله وفي الفاسد الخ فقد عرفناك غير مرة أن تخصيص ما يسمونه فاسدا بأحكام مخصوصة هو من باب ترتيب الباطل على الباطل وتفريع ما لا أصل له على ما لا أصل له وقد أوضحنا هذا في مواضع من هذا الكتاب
فصل
ولا تسقط بجحد المعمول فيه في الصحيحة مطلقا وفي الفاسدة إن عمل قبله وتسقط في الصحيحة بترك المقصود وإن فعل المقدمات وبعضها بترك البعض ومن خالف في صفة للعمل بلا استهلاك أو في المدة لتهوين أو عكسه فله الأقل أجيرا وعليه الأكثر مستأجرا
قوله فصل ولا يسقط بجحد المعمول فيه الخ
أقول هذا مبني على ما تقدم له من أن الأجرة تستحق بالعقد وقد عرفناك أنها لا تستحق إلا بالعمل وهو الذي دل عليه الدليل وأما الفرق بين الصحيحة والفاسدة فمن الأمور التي لم تدل عليها رواية ولا رأي (3/208)
وأما قوله ويسقط في الصحيحة بترك المقصود فوجهه أن المستأجر لم يقصد بالاستئجار ودفع الأجرة إلا ذلك فإن فات لم يبق مقيض لاستحقاق الأجرة ولا فرق بين الصحيحة والفاسدة فلا وجه لقوله في الصحيحة وأما المقدمات فليس من العدل أن يهمل عمل الأجير فيها لأنه عمل بأمر المستأجر ولا سيما إذا كانت تلك المقدمات لا يمكن الوصول إلى المقصود إلا بها فللأجير أجرة ما فعله بحسب ما يقدره من له خبرة بذلك العمل وليس ها هنا ما يدل على سقوط الأجرة عليها فوجب الرجوع إلى كونها مفعولة بأمر المستأجر فكان عليه الأجرة وإلا كان ذلك من إتعاب الغير واستغراق منافعه بلا شيء وذلك ظلم وأما استحقاق بعض الأجرة بفعل البعض من المقصود وسقوط بعضها بترك البعض فظاهر
قوله ومن خالف في صفة للعمل
أقول الأجير إذا خالف ففعل غير ما أمره به المستأجر فلا يستحق أجره في عمله لأنه لم يفعل ما أمره به وإذا حصل في العين بسبب المخالفة نقص كان على الأجير الأرش إن حصل بالمخالفة زيادة لم يكن على المستأجر شيء بل يأخذ العين بزيادتها إذا لم يمكن فصلها لتعديه ومخالفته وأما المخالفة من المستأجر للعين بأنه يلزمه أجرة الزيادة في المسافة أو الحمل أو نحوهما هكذا ينبغي أن يقال لا كما قال المصنف
فصل
ولكل منهما فسخ الفاسدة المجمع على فسادها بلا حاكم والصحيحة بأربعة للرواية والعيب وبطلان المنفعة والعذر الزائل معه الغرض بعقدها ومنه مرض من لا يقوم به إلا الأجير والحاجة إلى ثمنه ونكاح من يمنعها الزوج ولا تنفسخ بموت (3/209)
أيهما غالبا ولا بحاجة المالك إلى العين ولا بجهل قدر مسافة جهة وكتاب ذكر لقبهما للبريد والناسخ
قوله فصل ولكل منهما فسخ الفاسدة الخ
أقول إذا حصل التراضي على مدة معلومة بأجرة معلومة فهذه هي الإجارة الصحيحة وهي من هذه الحيثية داخلة تحت قوله سبحانه تجارة عن تراض منكم وإذا لم يحصل هذا التراضي فلا إجارة من الأصل وإذا عرفت أن حاصل هذا التراضي هو جعل الأجرة في مقابل تلك المنفعة في تلك المدة مع كون العين ومنافعها باقية في ملك المالك فإذا قال المالك بعد أن وقع الاستغراق لبعض المنافع قد رغبت عن هذه الأجارة أو قال مستأجر العين أو المؤجر لنفسه قد رغبت عن ذلك فهل من دليل يدل على إلزام من رغب بالوفاء فإن الرغوب إن كان من جهة المالك فقد رضي بترك الأجرة المقابلة لما بقي من الأجرة ولا يصح قياس الإجارة على البيع فإن المتراضي في البيع قد خرج به المبيع عن إلى ملك مشتريه بالثمن المتواطئ عليه وها هنا لا خروج بل المنفعة باقية في ملك مالك العين واستحقاق الأجرة إنما هو بحسب ما قد استغرقه من المنافع في وقت بعد وقت فإذا لم يدل دليل على لزوم الاستمرار من الجهتين جاز لكل واحد تركها متى شاء وقد أخذ صاحب العين ما يقابل منفعته من الأجرة وأخذ من عليه الأجرة ما يقابل الأجرة اللازمة له من منفعة العين وإن كان ثم دليل على لزوم الاستمرار فما هو وإذا عرفت هذا هان عليك الخطب وسهل عليك التخلص من هذه التفريعات المبنية على شفا جرف هار المؤسسة على السراب المسندة إلى الهباء ومما يؤيد هذا البحث ويشد من عضده ما قدمنا لك من أن الأجرة إنما تستحق بالعمل في كل إجارة وإذا جاز التتارك بلا سبب في الإجارة الصحيحة فجواز الترك لرؤية أو عيب أو بطلان منفعة أو زوال غرض أو عروض عذر أو موت أو حاجة المالك إلى العين أولى وأحرى (3/210)
وأما قوله ولا بجهل قدره مسافة جهة الخ فمن غرائب الاجتهاد فإن ذكر اللقب لا يرفع الجهالة للمقدار فكيف لا يجوز لأجير أن يترك الإجارة لهذا الجهل الذي يسوغ به ما هو أشد لزوما من الإجارة كما قدمنا في الخيارات
فصل
وتنفذ مع الغبن الفاحش من رأس المال في الصحة وإلا فالغبن من الثلث ولا يستحقها المتبرع ولا الأجير حيث عمل غيره لا عنه أو بطل عمله قبل التسليم كمقصور ألقته الريح في صبغ أو أمر بالتسويد فحمر ويلزم من ربى في غصب مميزا أو حبس في بالتخويف ومستعمل الصغير في غير المعتاد ولو أبا ويقع عنها إنفاق الولي فقد بنيتها م ولو لم تقارن إن تقدمت ومستعمل الكبير مكرها والعبد كالصغير ويضمن المكره مطلقا ومحجور انتقل راضيا
قوله فصل وينفذ مع الغبن الفاحش الخ
أقول هذا وقد لاحظ المصنف فيه ما يأتي في الوصايا من الفرق بين تصرف المالك حال صحته وحال مرضه والذي ينبغي اعتماده هنا أن الرضا بالزيادة المسماة غبنا قد صيرها بمنزلة الدين في تركه الميت وموته راضيا بها يؤكد كونها دينا وأما الفرق بين تصرف وتصرف وجعل التصرف في المرض المخوف موجبا لخروج ذلك من الثلث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وأما كونه لا يستحق الأجرة المتبرع ومن عمل غيره لا عنه فظاهر لأنه لم يوجب السبب الذي يستحق به الأجرة وهكذا إذا بطل عمل الأجير فإنه صار بذلك (3/211)
وجوده كعدمه وهكذا من فعل غير ما أمر به
وأما قوله وتلزم من ربي في غصب مميزا فوجهه أنه مع التمييز صار هو الغاصب وقبل التمييز يكون الرجوع على من رباه ولكن كون هذا الحكم يلزم من لم يبلغ التكليف يحتاج إلى دليل وإذا كان الغصب كالجناية لزمت المميز وغير المميز
وأما قوله أو حبس فيه بالتخويف فذلك مبني على أنه لا يخاف من ذلك التخويف تلفا ولا ضررا ولا خرج به عن حد الاختيار وإلا كان الضمان على الحابس
وأما قوله ومستعمل الصغير في غير المعتاد فظاهر لأنه فعل باستعماله في غير ما يعتاده ما لا يبيحه الشرع فلزمته أجرته والظاهر أنه تلزم في المعتاد لأنه لم يأذن الشرع بذلك إلا إذا كان أبا وفعل ذلك على طريقة التدريب للصبي وتعليمه ما يعود عليه نفعه فلا أجرة عليه لأنه مأذون له من جهة الشرع وبه جرت عادة أهل الإسلام قرنا بعد قرن وأما كونه يقع عنها إنفاق الولي فذلك لمكان الولاية الشرعية
وأما قوله ومستعمل الكبير مكرها فوجهه ظاهر
وأما قوله والعبد كالصغير فالأولى أن يكون له حكم الدابة إذا استعملها غير مالكها بغير إذنه فإنها تلزم الأجرة
وأما قوله ويضمن المكره مطلقا فوجهه أنه صار غاصبا لمنافع من أكرهه
وأما قوله ومحجورا انتقل ولو راضيا فينبغي أن يقال إن مستعمل العبد يضمن ما يقابل ذلك العمل من الأجرة سواء كان راضيا أم لا انتقل أو لم ينتقل لأنه أقدم على ملك الغير بغير إذنه وأي فائدة تتعلق برضا العبد أو انتقاله وهو ملك لغيره وهكذا لا فرق بين أن يكون محجورا أو غير محجور ولكن هذه التفاصيل سببها الرجوع إلى قواعد هي عن القيام بالحجة قواعد (3/212)
فصل
ويكره على العمل المكروه وتحرم على واجب أو محظور مشروط أو مضمر تقدم أو تأخر غالبا فتصير كالغصب إلا في الأربعة إن عقدا ولو على مباح حيلة وإلا لزم التصدق بها ويعمل في ذلك بالظن فإن التبس قبل قول المعطي ولو بعد قوله على المحظور
قوله فصل ويكره على العمل المكروه
أقول قد جعل بعض أهل العلم من العمل المكروه أجرة الحجام فإنه نهى عنها صلى الله عليه و سلم كما في حديث أبي هريرة عند أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح وسماه النبي صلى الله عليه و سلم خبيثا كما في حديث رافع بن خديج عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وسماه صلى الله عليه و سلم شر المكاسب كما في رواية للنسائي من حديث رافع هذا وزجر صلى الله عليه و سلم سيد العبد الحجام عن كسبه ورخص له أن يعلفه ناضحه كما في حديث محيصة بن مسعود عند أحمد برجال الصحيح وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حسن وثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه حجمه أو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه (3/213)
وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت أيضا في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم حجمه عبد لبني بياضة وأعطاه أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته فيجمع بين هذه الأحاديث بأن الأجرة على الحجامة مكروه ولكنه يبعد منه صلى الله عليه و سلم أن يفعل المكروه أو يقرر صاحبه عليه وأما كونها تحرم على واجب أو محظور فقد تقدم دليله عند قول المصنف غير واجبة عليه ولا محظورة وأما تقييد ذلك بالشرط أو الإضمار فلا يظهر له وجه صحيح وأما كون الأجرة تصير كالغصب فوجهه أنه حرام فلا يحل لمن صار إليه أن ينتفع به بوجه من الوجوه
وأما قوله إلا في الأربعة فهي التي تقدمت في البيع حيث قال المصنف لكنه يطيب ربحه وتبرئ من رد إليه والأجرة إن لم يستعمل ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وقد قدمنا الكلام عليها هنا لك
وأما قوله إن عقد فلا وجه له لأن الحرام على كل حال
وأما قوله وإلا لزم التصدق بها فلا وجه له بل يجب الرد لمالكه فإن امتنع من قبوله وجب عليه أن يخلي بينه وبينه فإن شاء قبضه وإن شاء تركه لأن التصدق بمال الغير بغير إذنه لا يجوز وأما كونه يعمل بالظن عند اللبس فظاهر ولكن عروض اللبس في مثل هذا قليل الوقوع لأن المقاصد لا تخفي فإن كان في الذي دفع إليه المال ما يحتمل أن يكون دفعه إليه لوجه جائز ولوجه غير جائز فالمؤمنون وقافون عند الشبهات
وأما قوله ولو بعد قوله عن المحظور فليس بعد هذا القول شيء في الدلالة على مقصد المعطي فكيف يجوز الرجوع إلى الظن بعد أن وضح الأمر وأسفر الصبح لذي عينيين (3/214)
فصل
والبينة على مدعي أطول المدتين ومضي المتفق عليها وعلى المعين للمعمول فيه وعلى المشترك في قدر الأجرة ورد ما صنع وأن المتلف غالب إن أمكن البينة عليه وعلى المالك في الإجارة والمخالفة غالبا وقيمة التالف والجناية كالمعالج وعلى المدعي إباق العبد بعض المدة إن قد رجع والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة قيل فيما تسلمه ومنافعه وإلا فللمالك ولمدعي المعتاد من العمل بها ومجانا وإلا فللمجان
قوله فصل والبينة على مدعي أطول المدتين
أقول وجهه أنه يدعي خلاف الظاهر لأن الأصل عدم الزيادة وهكذا مدعي مضى المتفق عليها لأنه الأصل عدم المضي وهكذا المعين للعموم فيه لأنه صار بالتعيين مدعيا
وأما قوله وعلى المشترك في قدر الأجرة فلا فرق بينه وبين الخاص في أيجاب البينة وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق الذي ينبغي اعتماده في تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك فلا نعيده وهكذا البينة على مدعي أن المتلف غالب لكونه ادعى ما يخالف الظاهر والأولى أن يقال إن الأصل عدم الضمان كما قدمنا فالبينة على مدعي ما يوجب الضمان من جناية أو تفريط وأما كون البينة على الممالك في الإجارة والمخالفة وقيمة التالف والجناية ومدعي إباق من قد رجع فظاهر لأن المدعي لذلك كله يدعي خلاف ما هو الظاهر
وأما قوله والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة فخلاف الصواب لأنه يدعي خلاف ما هو الأصل والظاهر فالبينة عليه والاستدلال على ذلك بكونه أمينا تركيب دعوى على دعوى وأما كون القول لمدعي المعتاد من العمل بأجرة أو بغير أجرة فصحيح لأن المادة مقصودة للمتعاملين بها فمن أدعى خلافها فالبينة عليه
وأما قوله وإلا فللمجان فوجهه أنه إذا لم تكن عادة تعين الرجوع إلى الأصل وهو عدم الأجرة (3/215)
فصل
ولا يضمن المستأجر والمستعير والمستلم مطلقا والمشترك الغالب إن لم يضمنوا ويضمن المشترك غير الغالب والمتعاطي والبائع قبل التسليم والمرتهن والغاصب وإن لم يضمنوا وعكسهم الخاص ومستأجر الآلة ضمن أثر الاستعمال والمضارب والوديع والوصي والوكيل والملتقط وإذا أبريء البصير من الخطأ والغاصب والمشترك مطلقا برئوا لا المتعاطي والبائع قبل التسليم والمتبريء من العيوب جملة والمرتهن صحيحا
قوله فصل ولا يضمن المستأجر الخ
أقول قد عرفناك فيما سبق أن الأصل المعلوم بالشرع عصمة أموال العباد وأنها لا تحل إلا بوجه أوضح من شمس النهار فالحكم بالضمان على من لم يحكم عليه الشرع وهو من أكل أموال الناس بالباطل ومن الأمر بالمنكر ومن عكس ما جاءت به كليات الشريعة وجزئياتها وليس في المقام إلا مثل حديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه وحديث أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقد قدمنا تخريجهما والكلام عيهما والتأدية واجبة في كل مأخوذ فإن فعل بريء وإن لم يفعل ضمن إن تسبب سبب يوجب الضمان من جناية أو تفريط لا إذا كان التلف بغير هذين الوجهين فإنه لم يرد ما يدل على تضييق إيجاب التأدية على أن يقال إنه قد تعدى بالتراخي أو فرط بعدم الرد فورا بل التفريط أن يترك الدابة مثلا في مكان تدخله السباع أو ينتابه اللصوص مع وجود موضع يحفظها فيه وما يشابه ذلك من الأمور التي يتحقق فيها التفريط
وأما قوله إن لم يضمنوا فصحيح لأنهم إذا رضوا بذلك وقبلوه فمن أنفسهم أتوا وفي سوء اختيارهم وقعوا وأما المتعاطي فهو جر إلى نفسه الضمان بسبب تعاطيه لأنه (3/216)
كان في غنى عن ذلك وإقدامه على ما لا بصر له فيه جناية وخيانة وأما البائع قبل التسليم فقد تقدم الكلام عليه وأما المرتهن فسياتي الكلام عليه إن شاء الله وأما الغاصب فظاهر وسيأتي أيضا
وأما قوله وإن لن يضمنوا فلكون الضمان إذا قد ثبت بالشرع لم يحتج إلى التضمين
وأما قوله وعكسهم الخاص الخ فهؤلاء لا فرق بينهم وبين من تقدم في أول الفصل أنها تجب عليهم التأدية ولا يضمنون إلا لجناية أو تفريط وإذا ضمنوا ضمنوا لأنه قد اختاروا ذلك لأنفسهم والتراضي هو المناط في تحليل أموال العباد
وأما قوله وإذا بريء البصير من الخطأ الخ فوجهه ظاهر فإن الإبراء يسقط ضمان المخطيء والغاصب فضلا عن المشترك لأنه قد رضي لنفسه بإسقاط ما يلزم له بالشرع وذلك سبب محلل لماله ومسوغ لغيره أن يتملكه ومبطل لضمان الجناية بخطأ البصير ولكن كون البصير يضمن ما وقع من الخطأ فيه ما فيه لأن بصره يدفع عنه معرة التضمين بما أخطأ فيه فلا يحتاج إلى إبراء
وأما قوله لا المتعاطي والبائع قبل التسليم فغير ظاهر لأن الإبراء كما قدمنا محلل مخلص لمن عليه الضمان من الضمانة وأما ما عللوا به المنع من إبراء المتعاطي بأنه عامد فإن كان العمل الذي تعاطى فيه مما لا يستباح بالإجابة فلا بأس وأما ما عللوا به عدم صحة إبراء البائع قبل التسليم من الضمان بقولهم إنه لا يصح إسقاط ضمان الأعيان فما أبرد هذا التعليل وأبعده عن قواعد الشرع فإن مالك العين إذا طابت نفسه عنها حلت وهي باقية بعنيها فكيف لا يحل الإبراء من ضمانها وسيأتي إن شاء الله في باب الإبراء ما يدفع هذا الخيال ويبدد شمل هذا الإشكال وأما عدم صحة إبراء المتبريء من العيوب جملة فمن غرائب الرأي وساقط الاجتهاد لا سيما إذا كان المبريء ممن يعرف العيوب ويتعلقها فالإبراء من جميعها كالإبراء من كل واحد منها وأعجب من هذا وأغرب (3/217)
عدم صحة إبراء المرتهن فإنه لا يوجد لهذا المنع وجه يقبله من له عقل فضلا عمن له علم والحاصل أن العالم العارف بقواعد الشرع إذا مرت به هذه المسائل المدونة في هذه الفصول وأمثالها لم يسعه إلا تكرير الاسترجاع وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له لا إنكار في مسائل الاجتهاد فيقال له ومتى فوض الله من يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله وجعله حاكما فيها بما شاء وعلى ما شاء فإن هذه نبوة لا إجتهاد وشريعة حاثه غير الشريعة الأولى ولم يرسل الله سبحانه إلى هذه الأمة إلا رسولا واحدا وأما ما تقدم للمصنف في المقدمة من أن كل مجتهد مصيب فقد قدمنا بيانه وذكرنا مراد القائل به وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان بطلانه (3/218)
باب المزارعة
فصل
صحيحها أن يكري بعض الأرض ويستأجر المكتري بذلك الكراء أو غيره على عمل الباقي مرتبا أو نحوه مستكملا لشروط الإجارة وإلا فسدت كالمخابرة الزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجره الأرض أو العمل ويجوز التراضي بما وقع به العقد وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ويملك غلته ويعشرها ويطلب له الباقي كما لو غصب الأرض والبذر له أو غصبهما
قوله فصل صحيحها أن يكري بعض الأرض الخ
أقول المزارعة هي تأجير الأرض فالعجب من المصنف رحمه الله حيث جعل صحيحها هذه الصور الخاصة التي لم يرد بها شيء من الأدلة مع كثرة ما ورد في المزارعة فإن منها تأجير الأرض بالذهب والفضة كما في حديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا وفي لفظ للبخاري فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ وكان الأولى للمصنف أن يتكلم على ما لا يصح منها ثم يقول ويصح ما عدا ذلك وأعلم أن الكلام في تأجير بجزء مما يخرج منها يطول جدا وقد أفردنا ذلك برسالة مستقلة لكثرة الأحاديث واختلافها (3/219)
وذكرنا في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره بعد إمعان النظر فيه والحاصل أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع وفي لفظ له فيهما ولهم نصف الثمرة وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه و سلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال لا فقالوا تكفوننا العمل ونشرككم في الثمرة فقالوا سمعنا وأطعنا وفي الباب أحاديث في ثبوت الاستئجار بجزء من الخارج من الأرض ثم ثبت ما يدل على استمرار هذا التأجير بجزء مما يخرج من الأرض حتى قال البخاري قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون علىالثلث والربع ثم ثبت بعد هذا النهي عن المخابرة كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المخابرة وفسرها جابر بالمثلث والربع وورد أن المنهي عنه إنما هو ما كان فيه جهالة كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث رافع بن خديج قال كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وفي لفظ لمسلم من حديثه إنما كان الناس يؤاجرون على (3/220)
عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به وفي لفظ للبخاري من حديثه نحوه وفي لفظ للبخاري أيضا من حديثه قال حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فهذا الحديث يدل على أن سبب النهي هو هذا ووجه ذلك الجهالة وتجويز عدم حصول ما ينبت في المكان الذي كان التأجير على ما يخرج منه وعليه يحمل ما ورد من طلق النهي عن المخابرة كما في حديث جابر وفي بعض روايات حديث رافع أو تحمل النهي على الكراهة كما يفيد ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها فقال إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي لم ينه عنها وقال لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله علي وآله وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه قال صاحب المنتقى بعد ذكره لحديث أبي هريرة هذا وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة فعلم أنه أراد الندب انتهى وبهذا تعرف الكلام على قول المصنف وإلا فسدت كالمخابرة (3/221)
وأما قوله والزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجرة الأرض أو العمل فوجه استحقاق الباذر للزرع إذا كان هو الأجير أنه بذر بإذن المالك ومجرد كون المزارعة فاسدة لا يبطل الإذن الذي ساغ به البذر وصار له لأجله الزرع وأما إذا كان بغير أذن فالزرع لصاحب الأرض كما في حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وسيأتي هذا الحديث والكلام عليه في الغصب وأما إذا كان الباذر هو مالك الأرض فالظاهر أن الزرع له وعليه أجرة العمل للعامل لأنه عمل بإذنه
وأما قوله ويجوز التراضي بما وقع به العقد فظاهر لا يحتاج إلى التدوين لأن التراضي يصحح كل معاملة إلا ما كانت محرمة في نفسها وهكذا قوله وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ووجهه أنه لا يمكن بعد هذا الاستهلاك إرجاع العين فيعدل إلى المثل إن وجد وإلا فالقية وأما كونه يملك غلته فلا بد أن يكون الغاصب له بذر به في أرض نفسه لا في أرض غيره كما تقدم في حديث رافع بن خديج فلا وجه لتشبيهه بقوله كما لو غصب الأرض والبذر له فإن غاصب الأرض لا يستحق من زرعها شيئا وله قيمة بذره وسيأتي الكلام على هذا في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى (3/222)
فصل
والمغارسة الصحيحة أن يستأجر من يغرس له أشجارا يملكها ويصلح ويحفر مدة بأجرة ولو من الأرض أو الشجر أو الثمر الصالح معلومات وإلا ففاسدة وإن اختلف الحكم وكذلك ما أشبهها إلا ما خصه الإجماع وما وضع بتعد من غرس أو غيره ثم تنوسخ فأجرته وإعناته على الواضع لا المالك في الأصح وإذا انفسخت الفاسدة فلذي الغرس الخياران وفي الزرع الثلاثة
قوله فصل والمغارسة الصحيحة الخ
أقول المغراسة نوع من أنواع الإجارات فإذا حصل التراضي على غرس أشجار معلومة حتى تبلغ إلى حد معلوم صح أن يكون ذلك بأجرة معلومة من غير الأرض أو بجزء من الأرض أو من الشجر وأما جعل الأجرة من الثمر فلا بد أن يكون قد بلغ إلى حد الصلاح لأن علة النهي المتقدمة في البيع حاصلة هنا وأما اشتراط ذكر الإصلاح والحفر فلا حاجة إليه لأن نبات الشجر لا بد أن يكون بحفر وسقي وإصلاح فهو من لازم إطلاق المغارسة ويغني عن ذلك ما قدمنا من ذكر بلوغ الشجر المغروسة إلى حد معلوم فإن لم يذكر هذا لم يكن للغارس إلا ما غرمه في الغرس والإصلاح لأن استحقاق الأجرة المسماة لا يكون إلا على عمل معلوم لا مجهول
وأما قوله إلا ما خصه الإجماع فهو استثناء من قوله يملكها أي إلا ما أجمع عليه الناس من عدم اشتراط كون رب الأرض يملك تلك الأعيان ومراده بالإجماع إجماع أهل تلك الناحية التي وقعت فيها المغارسة لا الإجماع الأكبر (3/223)
وأما قوله وما وضع بتعد الخ فوجهه ظاهر لأن الغاصب هو الواضع فيده هي اليد العدوانية ولا فعل من مالك المتاع يوجب ضمانه وسواء تنوسخ أو بقي في ملك مالكه الأول
وأما قوله وإذا انفسخت الفاسدة الخ فهذا مبني على أنه حدث ما يمنع المضي في المغارسة أو اختار الترك وإلا فلا فساد ولا انفساخ بغير أحد الأمرين المذكورين
فصل
والمساقاة الصحيحة أن يستأجر لإصلاح الغرس كما مر والقول لرب الأرض في القدر المؤجر ونفي الإذن ولذي اليد عليها في البذر
قوله فصل والمساقاة الصحيحة الخ
أقول إذا كان الغارس مالك الأرض ثم أستأجر من يصلح له ذلك الغرس بالسقي إلى أن يبلغ حدا معلوما فهذه الإجارة يسميها أهل الفروع مساقاة
وأما قوله والقول لرب الأرض في القدر فلا وجه له بل القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وأما في بقاء الإذن فالقول قول المالك لأن الأصل بقاؤه وأما إذا أدعاه الأجير فلا يكون القول قوله لأن المالك ينكره في الحال وهو صاحب الإذن وأما إذا ادعاه الأجير في وقت قد مضى فالقول قوله لأن الأصل عدم ارتفاعه قبل الاختلاف
وأما قوله ولذي اليد عليها في البذر فوجهه أن ثبوت اليد يكون الظاهر مع صاحبه لأن بذرها نوع من من تصرفاته إلى تصرف فيها عند ذلك الثبوت (3/224)
باب الإحياء والتحجر
فصل
وللمسلم فقط الاستقلال بإحياء أرض لم يملكها ولا تحجرها مسلم ولا تعلق بها حق وبإذن الإمام فيما لم يتعين ذو الحق فيه وإلا فالعين غالبا
قوله باب الإحياء والتحجر فصل وللمسلم الاستقلال بإحياء أرض الخ
أقول الأصل في ثبوت الإحياء وأيجابه للملك ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أحيا أرضا ميتة فهي له وفي لفظ لأحمد وأبي داود من هذا الحديث من أحاط حائطا على أرض فهي له وما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من حديث سمرة بلفظ من أحاط حائطا على أرض فهي له وما أخرج أبو داود والناسئي والترمذي عن سعيد بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق وقد حسنه (3/225)
النسائي وأعله بالإرسال ورجع الداقطني إرساله وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها وأخرج أبو داود والضياء في المختارة من حديث أسمر بن مضرس قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فبايعته فقال من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له قال فخرج الناس يتعادون يتخاطون فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن من أحيا الأرض التي هي ميتة غير مملوكة لأحد فهو أحق بها وتصير ملكا له أما إذا كان قد سبق إليها أحد من المسلمين أو كانت ملكا لذمي فلا يجوز أحياؤها كما يدل عليه لفظ أحد من حديث عائشة وكما يفيده لفظ ميتة في هذه الأحاديث فأن الأرض المملوكة للذمى ليست بميتة
وأما قوله من سبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم فهو من التنصيص على بعض أفراد العام لأنه قد انمحى عنه المعنى الاشتقاقي وصار كالجوامد وأما اشتراط أن لا يكون قد تحجرها مسلم فوجهه أنه قد صار أحق بها لسبقه إليها كما في حديث من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم وهذا قد سبق بوضع الأعلام ونحوها
وأما قوله وبإذن الإمام فليس من الأدلة ما يدل على اشتراطه ولكن إذا كانت الأرض غير ميتة ولم يعرف من هي له صار النظر فيها إلى إمام المسلمين كسائر أموال الله فإن التصرف فيها إليه
وأما قوله وإلا فالمعين فلا دخل له في هذا الباب لأنه إذا أذن لغيره بإحياء ما هو حق له كان ذلك من باب الهبة ونحوها (3/226)
فصل
ويكون بالحرث والزرع أو الغرس أو امتداد الكرم أو إزالة الخمر أو التنقية أو اتخاذ حائط أو خندق قعير أو مسنا للغدير من ثلاث جهات وبحفر في معدن أو غيره ويعتبر قصد الفعل لا التمليك ويثبت به الملك ولا يبطل بعوده كما كان ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار والاشتراك والتوكيل بل يملكه الفاعل في الأصح
قوله فصل ويكون بالحرث والزرع الخ
أقول هذه الأنواع الي ذكرها للإحياء يصدق على كل واحد منها مفهوم الإحياء وهو شيء واضح فالتطويل بذكر هذه الصور لا يأتي بطائل والحاصل أن ما صدق عليه أنه إحياء لغة أو شرعا كان سببا لملك الأرض الميتة
وأما قوله ويعتبر قصد الفعل فمعلوم أن العامل لا يعمل عملا إلا لغرض وإلا كان فعله عبثا لا ينبغي حمل أفعال العقلاء عليه
وأما قوله يثبت به الملك فهو الذي دلت عليه الأحاديث الواردة في الإحياء كما تقدم
وأما قوله ولا يبطل بعوده كما كان فوجهه أن الملك لا يزول بعد ثبوته
وأما قوله ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار الخ فوجهه أنه يصير الأجير هو المحيي فتكون الأرض له كما تدل عليه الأدلة المتقدمة وفيه نظر فإن المباشرة للفعل يختلف باختلاف الأغراض والمقاصد فإذا كان المباشر للإحياء مأمورا من جهة غيره (3/227)
أجيرا له صح ذلك وكان عمله هذا داخلا في أنواع الإجارات ولا مانع من ذلك وهكذا إذا كان المباشر وكيلا فإنه لم يحيي الأرض لنفسه بل أحياها لموكله وليس هذا من الأملاك القهرية التي تدخل في ملك مالكها شاء أم أبى وهكذا يجوز الاشتراك فيها لأنه بعد وقوع الإحياء من كل واحد منهما بمنزلة المواهبة ولا مانع من ذلك من شرع ولا من عقل
فصل
والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب يثبت به الحق لا الملك فيبيح أو يهب لا بعوض وله منعه وما حاز ولا يبطل قبل مضي ثلاث سنين إلا بإبطاله ولا بعدها إلا به أو بإبطال الإمام ولا بإحيائه غصبا قيل والكراء لبيت المال والشجر فيه وفي غيره كلاء ولو مسبلا وقيل م فيه حق وفي الملك ملك وفي المسبل يتبعه وفي غيرها كلاء
قوله فصل والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب
أقول من سبق إلى الأرض فوضع عليها أي علامة كانت تدل على سبقه إليها فهو أحق بها كما في الحديث المتقدم بلفظ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له فالشرع قد أثبت أنه له وذلك هو معنى الملك فلا يرجع إلى مجرد الاصطلاح مع وجود الشرع ولا إلى المفاهيم اللغوية على تقدير أن فيها ما يدل على التفاوت بين الحق والملك وبهذا تعرف أنه لا فرق بين الإحياء والتحجر في ثبوت الملك بهما وأنه يصدق على كل واحد منهما أنه إحياء وليس المراد بالإحياء العمل في نفس الأرض بحرث أو غرس أو نحوها وقد تقدم في الأحاديث من أحاط حائطا على أرض فهي له فإن الحائط ليس بعمل (3/228)
في نفس الأرض بل هو من باب التحجر لها عن أن يدخل إليها داخل فهو في الدلالة على السبق كضرب الأعلام في الجوانب ولا وجه لجعل أحدهما من باب الإحياء والآخر من باب التحجر كما فعل المصنف ولا للفرق بين أحكام الإحياء وأحكام التحجير فلا تشتغل بالكلام عليه ففي هذا كفاية
قوله والشجر فيه وفي غيره كلأ
أقول ولا وجه لقول المصنف والشجر فيه الخ لأن الذي حكم عليه النبي صلى الله عليه و سلم بأنه مشترك بين الناس هو الكلأ والشجر ليس بكلأ فإنه عند أهل اللغة يطلق على الحشيش ولعل المصنف يريد بهذه العبارة أن الشجر له حكم الكلأ وهذا يحتاج إلى دليل فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يمنع الماء والنار والكلأ كما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح وقال صلى الله عليه و سلم المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلإ والنار أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا ورجال إسناده ثقات وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه وثمنه حرام وصححه ابن السكن وفي الباب أحاديث
فالحاصل أن هذه الثلاثة الأشياء مشتركة بين الناس وأما الشجر النابت في الأرض المملوكة فهو لمالكها وفي غير المملوكة ملك لمن سبق إليه وليس في الأحاديث ما يدل على أنه مشترك بين الناس ومما يؤيد الاشتراك في الكلاء والماء ما ثبت في - الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به (3/229)
الكلأ وفي لفظ لمسلم لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ وفي لفظ للبخاري لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ وأخرج أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمنع نقع البئر وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من منع فضل مائة أو فضل كلئه منعه الله عز و جل فضله يوم القيامة وأخرج مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع فضل الماء وأخرج نحوه أهل السنن وصححه الترمذي من حديث إياس بن عبد وقد ورد بزيادة المالح كما أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف ورواه الطبراني بإسناد حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر وله عنده طريق أخرى وأخرج ابن ماجه عن عائشة أنها قالت يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح والماء والنار وإسناده ضعيف وأخرج الطبراني في - الصغير من حديث أنس خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار قال أبو حاتم هذا حديث منكر (3/230)
باب المضاربة
فصل
شروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه والقبول أو الامتثال على التراخي ما لم يرد بين جائزي التصرف على مال من أيهما إلا من مسلم لكافر معلوم نقد يتعامل به حاضر أوفى حكمه وتفصيل كيفية الربح ورفض كل شرط يخالف موجبها
قوله باب المضاربة
أقول لا شك في وقوع التعامل بها في زمن الصحابة رضي الله عنهم وقد فعلها جماعة من أكابرهم وحكى صاحب - النهاية المجتهد أنه لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية وأقره الإسلام انتهى وقال أبن حجر في - التخليص إنه إجماع صحيح قال والذي يقطع أنه كان في عصره صلى الله عليه و سلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز
قوله فصل وشروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه
أقول لا يشترط فيها إلا مجرد التراضي فقد على التعامل وقدر الربح فإذا وقع ذلك فهذه المضاربة داخلة تحت قوله تعالى تجارة عن تراض وقد عرفناك في كتاب (3/231)
البيع وما فيه من الأبواب وما بعده أن هذا الاشتراط للألفاظ ليس عليه أثارة من علم وأما كونها بين جائزي التصرف فلا بد من ذلك لأن من لا جوز تصرفه لا حكم لصدور الرضا منه
وأما قوله على مال من أيهما فمستغنى عنه لأن مفهوم المضاربة ومعناها لا يوجد إلا بذلك وأما كون المال معلوما فذلك لا بد منه وإلا كانت جهالته ذريعة إلى اختلاط رأس المال بالربح فيكون معاملة مختلة وإذا كانت المضاربة في عروض فلا بد أن يتميز ما هو قيمة لها حتى يعلما أن الزائد عليه ربح ولا وجه لاشتراط كون رأس مالها مما يتعامل به الناس فإنها تصح في كل شيء يقع فيه البيع والشراء لأنها بيع منظور فيه إلى الربح مع بقاء رأس المال ولا يشترط حضور المال إذا كان معلوما عندهما وأما تفصيل كيفية الربح فأمر لا بد منه لأن ذلك هو الغرض من هذه المعاملة
وأما قوله ورفض كل شرط يخالف موجبها فصحيح لأن ذكر هذا الشرط يعود على ما هما بصدده من هذه المعاملة بالنقض
فصل ويدخلها التعليق والتوقيت والحجر عما شاء المالك غالبا فيمتثل العامل وإلا ضمن التالف وله مطلقها كل تصرف إلا الخلط والمضاربة والقرض والسفتجه فإن فوض جاز الأولان وإن شارك الثاني في الربح لا الآخران لعرف (3/232)
فصل
ومؤن المالك كلها من ربحه ثم من رأسه وكذلك مؤن العامل وخادمه المعتادة في السفر فقط مهما اشتغل بها ولم يجوز استغراق الربح وفي مرضه ونحوه تردد فإن أنفق بنية الرجوع ثم تلف المال بين وغرم المالك وصدقه مع البقاء ولا ينفرد بأخذ حصته ويملكها بالظهور فيتبعها أحكام الملك يستقر بالقسمة فلو خسر قبلها وبعد التصرف آثر الجبر وإن انكشف الخسر بعدها
قوله فصل ومؤن المال من ربحه الخ
أقول الاعتماد في مثل هذا على ما حصل عليه التراضي فلو تراضيا على أن يكون المؤن من نصيب العامل من الربع لم يكن بذلك بأس وهكذا العكس وأما تقييد ذكل بعد تجويز استغراق الربح فوجهه أن تجويز استغراقه يذهب بالغرض المقصود منها ولكنه يقال التراضي يحلل ذلك ويسوغه والأصل عدم المانح والدليل على مدعيه
وأما قوله فإن أنفق بينة الرجوع الخ فلا بد من إذن المالك له بذلك وإلا فلا وجه للرجوع إلا أن يقتضي ذلك الحادثة وتوجبه الضرورة
وأما قوله ولا ينفرد العامل بأخذ حصته فلا وجه له لأن هذه المعاملة بينهما قد اقتضت بأن لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه إلا لشرط (3/233)
وأما قوله ويملكها بالظهور فغير مسلم فإن مجرد الظهور مع عدم القبض معرض للذهاب بخسر أو بأي سبب من أسباب التلف فكيف تتعلق بهذا الربح الذي لم يحصل منه إلا مجرد الظهور أحكام الملك من وجوب الزكاة وقضاء الدين منه ونحو ذلك مع وجود مقتضى الرجاء وعدمه ومظنه سلامته وتلفه
فصل
وللمالك شراء سلع المضاربة منه وإن فقد الربح والبيع منه إن فقد لا من غيره فيهما والزيادة المعلومة على مالها ما لم يكن قد زاد أو نقص والإذن باقتراض معلوم لها ولا يدخل في مالها إلا ما اشتري بعد عقدها بنيتها أو بمالها ولو بلا نية ولا تلحقه الزيادة والنقص بعد العقد إلا لمصلحة ولا ينعزل بالغين المعتاد وشراء من يعتق على المالك أو عليه أو ينفسخ نكاحه والمخالفة في الحفظ إن سلم وإعانة المالك له في العمل ولا بعزله المال عرض يجوز الربح فيه
قوله فصل وللمالك شراء سلع المضاربة الخ
أقول العامل إنما هو بمنزلة الوكيل لصاحب المال والوكالة أمرها إلى الموكل فمتى أراد عزل الوكيل عزله مع استحقاقه لما قد حصل من نصيبه من الربح إلى وقت العزل فليس ها هنا ما يوجب تسليط العامل على المال حتى يقال إن اشترى المضاربة منه بل ها هنا ما هو أقرب مسافة وأقل مؤنة وهو أن يأخذ المالك سلع المضاربة لأنها ملكه وإذا كانت قد اشتملت على ربح أعطاه نصيبه منه وأما بيع المالك لها من العامل فيها فلا بأس بذلك لأنه باع ملكه إلى غيره وليس من شرط صحة هذا البيع فقدان الربح لأنه يمكن الوقوف على مقداره بتقدير العدول فيكون ذلك خارجا عن البيع (3/234)
وأما قوله لا من غيره عنهما فقد عرفناك أن له عزلة متى شاء مع تسليم قدر حصته مما قد ظهر من الربح
وأما قوله والزيادة والنقص المعلومة على مالها فلا بأس بذلك ولا وجه لتقييده بقوله ما لم يكن قد زاد أو نقص فإن الزيادة المعلومة لا تمنع منها زيادة الأصل أو نقصانه وتعليلهم ذلك بأنه يؤدي إلى جبر خسر كل واحد منهما بربح الآخر تعليل في غاية السقوط فإن المال واحد والمالك واحد والعامل واحد والزيادة لهما والخسر عليهما وأما إذن المالك للعامل باقتراض مال معلوم فلا مانع منه
وأما قوله ولا يدخل في مالها الخ فلا يخفاك أن الظاهر في كل ما اشتري بمال المضاربة أنه داخل في المضاربة من غير فرق بين أن ينوي كون ذلك المشتري لها أو لم ينو وما اشترى بغير مالها فهو غير داخل في المضاربة به سواء كان ذلك قبل عقدها أو بعده فإن تراضيا بإلحاق شيء بمال المضاربة من ملك رب المال كان ذلك من الزيادة فيه كما تقدم
وأما قوله لا ينعزل بالغبن المعتاد فظاهر لأن هذا شأن هذه المعاملة تارة يحصل الربح وتارة يحصل الخسر
وأما قوله وشراء من يعتق عليه فقد عرفناك أن المال باق على ملك المالك فلا بد أن يأذن بذلك المالك وإلا فلا ينفذ الشراء لأنه خسر محض بغير إذن فلا وجه لعتق من يعتق على العامل إلا أن يكون قد ملك جزءا من مال شراء العتق وضمن وهكذ لا ينفذ شراء من ينفسخ ناكحه إلا بإذن من المالك
وأما قوله والمخالفة في الحفظ إن سلم فلكون تلك المخالفة لم يظهر لها أثر وقد عرفناك أنه يعزله متى شاء فذكر هذه الأمور مبني على لزوم ما وقع بينهما عند الدخول في هذه المعاملة وهكذا لا ينعزل بإعانة المالك له في العمل
وأما قوله ولا يعزله والمال عرض يجوز الربح فيه فلا وجه له بل يعزله ويأخذ (3/235)
نصيبه من الربح إذا كان قد ظهر وإن لم يكن قد ظهر وليس إلا مجرد التجويز فلا يلزم للعامل شيء
فصل
وفسادها الأصلي يوجب أجرة المثل مطلقا والطاريء الأقل منها ومن المسمى مع الربح فقط ويوجبان الضمان إلا للخسر
قوله فصل وفسادها الأصلي الخ
أقول قد عرفناك غير مرة أن حكم هؤلاء على المعاملات بالفساد يرجع إلى فوات أمور لفظية لا تقتضي خلل المعاملات قط ولا يتعلق بها حكم فإذا حصل التراضي بين صاحب المال والعامل على أن يتصرف بماله على نصيب من الربح معلوم فهذه مضاربة صحيحة وإذا لم يحصل هذا فهي باطلة وجودها كعدمها ولا وجه لجعل أمر ثالث بين الصحة والبطلان وإثبات أحكام له مخالفة للأحكام الكائنة في جانبي الصحة والبطلان وقد عرفناك أيضا أن لصاحب المال عزل العامل متى شاء فإذا عزله استحق ما سماه له من الربح إذا كان قد حصل الربح وإذا لم يحصل بل هو باق في أعيان المضاربة كان للعامل ما يقدره العدول من الربح فإذا قدروا جملة سلم له صاحب المال نصيبه هكذا ينبغي أن يقال وإذا اختار العامل الترك فالأمر هكذا وأما ما ذكره من الضمان فقد قدمنا الكلام عليه في الفصل الذي عقده لمن يضمن ومن لا يضمن في آخر كتاب الإجارات (3/236)
فصل
وتبطل ونحوها بموت المالك فيسلم العامل الحاصل مننقد أو عرض تيقن أن لا ربح فيه فورا وإلا ضمن ولا يلزمه البيع ويبيع بولاية ما فيه ربح ولا يلزمه التعجيل وبموت العامل وعلى وارثه وله كذلك فإن أجملها الميت فدين وإن أغفلها حكم بالتلف وإن أنكرها الوارث أو أدعى بتلفها معه فالقول له لا مع الميت أو كونه ادعاه فيبين والقول للمالك في كيفية الربح ونفيه بعد هذا مال المضاربة وفيه ربح وفي أن المالك قرض أو غصب لا قراض وللعامل في رد المال وتلفه في الصحيحة فقط وفي قدره وخسره وربحه وأنه من بعد العزل وفي نفي القبض والحجر مطلقا ولمدعي المال وديعة منهما
قوله فصل وتبطل ونحوها بموت المالك الخ
أقول المناط الذي جاز للعامل التصرف في مال غيره به هو الإذن من المالك والتراضي الواقع بينهما فإذا مات صاحب المال صار ذلك المال لغيره فإن قرر المضاربة كما كانت عليه في حياة مورثه كانت هذه مضاربة مستقلة حاصلة بينهما بمجرد التراضي وإذا لم يقرر المضاربة كما كانت عليه كان على العامل إرجاع ماله إليه وياخذ نصيبه من الربح وأما الأعراض التي قد صار فيها ربح فله من ربحها ما قدره العدول (3/237)
وأما قوله فورا وإلا ضمن ففيه نظر لأنه لا يتضيق الرد إلا بالطلب ولم تكن يده بد عدوان إلا بترك الرد مع الطلب وأما كونه لا يلزمه البيع فواضح لأن صاحب المال قد مات وصار المال إلى وارثه فلم يبق له ولاية التصرف فضلا عن أن يلزمه بيع ما لا ربح فيه وهكذا لا يلزمه بيع ما فيه ربح إلا بإذن من المالك وما كان أحق هذه الأمور بعدم شغلة الحيز بها وإتعاب الطلبة بدرسها فإنها أمور واضحة قد لا تلتبس على العامي فكيف بمن له بعض فقاهة وهكذا تبطل المضاربة بموت العامل لأن الإذن من المالك لم يكن إلا له ولا يلزم وارثه إلا ما يلزم العامل ولو مات المالك لكن على الوجه الذي ذكرناه
قوله فإن أجملها الميت فدين
أقول ينبغي أن يقال إن الميت إذا قال عنده لفلان مال مضاربة هكذا على جهة الإجمال طولب وارثه بتعيينه فإن أنكر معرفته فليس عليه إلا اليمين وعلى مالك المال البينة على تعيينه فإن عجز عن ذلك كله كان ما تضمنه ذلك الإجمال ثابتا في تركه الميت وإذا لم يمكن تعيين مقداره رجع إلى أوساط ما يتعامل به الناس في المضاربات
وأما قوله فإن أغفلها حكم بالتلف فمن غرائب التفريعات وعجائب الاجتهادات فإن مجرد هذا الإغفال لا يكون حجة على رب المال بل يرجع إلى البينة من رب المال أو اليمين من الوراث هذا على تقدير أنه لم يتقرر أصل التعامل أما إذا تقرر فعلى الوارث البينة بأن مورثه قد رد مال المضاربة أو أنه قد تلف بسبب لا يوجب الضمان ومن منكرات التفريعات قول المصنف إن الوارث إذا ادعى تلفها معه فالقول له وإن ادعى تلفها مع الميت فعليه البينة فإنه قلب للشريعة
قوله والقول للمالك في كيفية الربح
أقول البينة على مدعي الزيادة سواء كان العامل أو رب المال
وأما قوله ونفيه فوجهه أن الأصل عدمه فيكون القول قول النافي منهما (3/238)
وأما قوله وفي أن المال قرض أو غصب لاقراض فلا يخفاك أن ثبوت اليد يقتضي أنه بمسوغ شرعي فالبينة على مدعي الغصب وأما الاختلاف في كونه قرضا أو قراضا فالبينة على مدعي القراض وهو العامل لأنه يدعي ثبوت حق له في الربح وإلا عدمه
وأما قوله وللعامل في رد المال وتلفه في الصحيحة فقط فقد عللوا ذلك بأنه أمين وقد عرفناك أن الدليل وهو قوله صلى الله عليه و سلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقوله صلى الله عليه و سلم أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك يدلان عن وجوب الرد عليه وحديث البينة على من المدعي واليمين على المدعي عليه يدل على أن على العامل البينة فيما ادعى رده وهكذا فيما أدعى تلفه لأن التلف خلاف الأصل
وأما قوله وفي قدره فلا وجه له بل القول قوله نافي الزيادة والبينة على مدعيها لأن الأصل عدمها وهكذا في الخسر والربح يكون القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا القول قول نافي حدوث الربح بعد العزل وبعد القبض والبينة على مدعيها وأما نافي الحجر فالقول قوله لأن الأصل عدمه
وأما قوله والمدعي المال وديعة منها فوجهه أن مدعي كونه مضاربة يثبت لنفسه حقا في الربح والأصل عدمه هذا إذا كان المدعي هو العامل وأما إذا كان المدعي المالك فإن كان يريد بهذه الدعوى تضمين العامل فالأصل عدم الضمان والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض وقد كشفنا عنها ما يحول بينك وبين عدم إدراكها بعين البصيرة (3/239)
فصل
وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد أو أوقافها لا بخالط قسمت وبين مدعي الزيادة والفضل إلا ملكا بوقف قيل أو وقفين لآدمي ولله فيصيران للمصالح رقبة الأول وغلة الثاني وبخالط متعد ملك القيمي ومختلف المثلى لزمته الغرامة والتصدق بما خشي فساده قبل المراضاة وضمن المثلى المتفق وقسمه كما مر
قوله فصل وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد الخ
أقول إذا كان الاختلاط بغير خالط ممن يتعلق به الضمان وذلك كالاختلاط بالسيل أو الربح أو نحوهما فإذا لم يمكن الوقوف على نصيب كل واحد بوجه من الوجوه لم يبق طريق من طرق العدل إلا القسمة على رؤوس المتنازعين وبين مدعي الزيادة في القدر أو الجنس ولا وجه للاستثناء بقوله إلا ملكا بوقف أو وقفين بل يقسم ويجعل الوقف بمنزلة المنازع من المالكين فيكون له نصيب كنصيبه وأما الجزم بإبطال ملك المالك ومصير الكل للمصالح فمن الظلم البين للمالك في ملكه المعصوم بعصمة الشرع بغير سبب يوجبه الشرع بل بمجرد المجازفة وأي دليل يدل على تأثير ما هو وقف على ما هو ملك وعلى نزع ملك المالك مع إمكان السلوك به في طريق من طرائق العدل
قوله ويخالط متعد الخ
أقول الخلط على وجه التعدي جناية مضمونة فغاية ما يلزمه أرش النقص الحاصل بالخلط ولا وجه لقوله ملك القيمي ومختلف المثلى بل الملك باق لمالكه والتعليل بأن فعله قد صار استهلاكا فنحن نمنع أن يكون هذا استهلاكا ثم نمنع أن يكون الاستهلاك (3/240)
مقتضيا لخروج الملك عن مالكه والحاصل أنه إذا أمكن التمييز كان ذلك واجبا على الخالط وإن تعذر فليس عليه إلا الأرش الذي نقص به ذلك المخطوط بالخلط وإذا عرفت هذا عرفت عدم صحة ما رتبه المصنف عليه فلا تطول برده (3/241)
- كتاب الشركة (3/243)
فصل
هي نوعان في المكسب والأملاك فشرك المكاسب أربع المفاوضة وهي أن يخرج حران مكلفان مسلمان أو ذميان جميع نقدهما السواء جنسا وقدرا لا فلوسهما ثم يخلطان ويعقدان غير مفضلين في الربح والوضيعة فيصير كل منهما فيما يتعلق بالتصرف فيه وكيلا للآخر وكفيلا له ماله وعليه ما عليه مطلقا وفي غصب استهلك حكما وكفالة بمال عن أمر الأصل خلاف
قوله المفاوضة وهي أن يخرج مكلفان الخ
أقول أعلم أن أصل الشركة ثابت بالسنة المطهرة وعليه أجمع المسلمون فيما وردت به السنة في مطلق الشركة حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث السائب بن أبي السائب أنه كان شريك النبي صلى الله (3/245)
عليه وآله وسلم في الجاهلية وفي بعض ألفاظ الحديث أنه كان شريك النبي قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال مرحبا بأخي وشريكي لا يداري ولا يماري وللحديث ألفاظ وقد وقعت الشركة بين جماعة من الصحابة وهي مما قرره الإسلام مما كان في الجاهلية ولكن هذه الأنواع التي ذكرها أهل الفروع وقالوا مفاوضة عنان أبدان وجوه ليست إلا أسامي اصطلحوا عليها وجعلوا لكل واحد منها ماهية وقيدوها بقيود وليس هذا العلم علم مواضعة ولا علم اصطلاح بل هو علم يبين ما فيه ما شرعه الله لعباده من العبادات والمعاملات والشركة الشرعية توجد بوجود التراضي بين اثنين أو أكثر على أن يدفع كل واحد منهم من ماله مقدارا معلوما ثم يطلبون به المكاسب والأرباح على أن لكل واحد منهم بقدر ما دفعه من ماله مما حصل لهم من الربح وعلى كل واحد منهم بقدر ذلك مما لزم في المؤن التي تخرج من مال الشركة فإذا قد حصل التراضي الذي هو المناط في كل المعاملات فليس من شرط هذه الشركة أن يكون مال كل واحد منهم مساويا لمال من شاركه فإن العلم بنصيب كل واحد منهم وإن كان بعضا حقيرا وبعضا كثيرا يحصل به المطلوب من التحاصص في الغنم والغرم وهكذا لا وجه لاشتراط المال باديء بدء وخلطه في تلك الحال ولكن المقصود أن يحصل الاتجار بمجموعه حتى لو شرى أحدهم بنقده نوعا من أنواع العروض وفعل الأخرون مثله وقد حصل التراضي على أن أرباح تلك العروض المشتراة يكون للجميع بحسب الحصص والخسر على الجميع كانت هذه شركة صحيحة شرعية وهكذا لو أخرج كل واحد منهم عروضا وقد عرف مقدار قيمة كل نوع من أنواع هذه العروض التي أخرجها كل واحد منهم وتراضوا على الاشتراك فيما حصل في المجموع من الأرباح والأغرام كانت هذه شركة صحيحة وهكذا لو حصل التراضي بين اثنين أو أكثر أن يتطلبوا أسباب الرزق وما حصل من مجموع ما رزقهما الله سبحانه كان بينهما على كذا فإن هذه شركة صحيحة ولو اتجر بعضهم في مشارق الأرض وبعضهم في مغاربها (3/246)
وقد اشترك ابن مسعود وعمار بن ياسر وسعد ابن أبي وقاص فيما يصيبونه من المغانم في يوم بدر كما أخرجه ذلك أبو داود والنسائي وابن ماجه ومعلوم أن مثل هذه الشركة في مثل هذا اليوم مع قلة الصحابة لا يخفي على النبي صلى الله عليه و سلم بل ورد ما يدل على أنه كان يقع ذلك في زمنه صلى الله عليه و سلم مع أصحابه كما أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن رويفع بن ثابت قال إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح وهذا الحديث وإن كان في بعض طرقه مجهول فقد أخرجه النسائي من غير طريقة بإسناد رجاله كلهم ثقات
وإذا تقرر لك هذا أغناك عن هذا الكلام المدون في هذا الكتاب في شرك المكاسب وبه تعرف صواب ما ذكروه من الشروط والقيود من خطئه والحاصل أن التراضي على الاشتراك سواء تعلق بالنقود أو العروض أو الآبدان هو كله شركة شرعية ولا يعتبر إلا مجرد التراضي مع العلم بمقدرا حصة كل واحد من الربح والخسر فإن كان الربح (3/247)
والخسر باعتبار مقادير مال الشركة أو مقادير قيمة العروض فلا بد من معرفة المقدار لترتيب الربح عليه فإن حصل التراضي على الاستواء في الربح مع اختلاف مقادير الأموال كان ذلك جائزا سائغا ولو كان مال أحدهم يسيرا ومال غيره كثيرا وليس في مثل هذا بأس في الشريعة فإنه تجارة عن تراض ومسامحة بطيبة نفس وأما كون كل واحدة من هذه الشركة تنفسخ بما ذكره من الفسخ فذلك معلوم لأن كل واحد من المشتركين له فسخ الشركة متى شاء وأما الجحد فإذا لم يمكن دفعه بوجه كان رافعا للشركة وأما الردة فهو مبني على ما قدمه من أنها لا تصح بين المسلم والكافر ولا وجه لذلك وأما الانفساخ بالموت فظاهر لأن المال قد ينتقل من مالك إلى مالك وأما دخول التعليق والتوقيت فيها فصحيح لعدم المانع (3/248)
باب شركة الأملاك
فصل
يجبر رب السفل الموسر على إصلاحه غالبا لينتفع رب العلو فإن غاب أو أعسر أو تمرد فهو ويحبسه أو يكريه أو يستعمله بغرمه ولكل أن يفعل في ملكه ما لا يضر بالآخر من تعلية وبيع وغيرهما ويضمن ما أمكنه دفعه من إضرار نصيبة وإذا تداعيا السقف فبينهما والفرس للراكب ثم لذي السرج والثوب للابس والعرم للأعلى
قوله فصل ويجبر رب السفلى الموسر على اصلاحه
أقول وجه هذا الأجبار أنه قد ثبت لرب العلو حق في السفل وهو استقرار بنائه عليه فإذا اختل السفل وترك مالكه إصلاحه كان ذلك سببا لذهاب هذا الحق ولكن لا يخفاك أن إجبار المالك على إصلاح ملكه لينتفع به من له حق متعلق به يحتاج إلى دليل فإن هذا مخالف لا جرت عليه القواعد الشرعية من وجهين الوجه الأول أن المالك إذا رغب عن ملكه كان ذلك له فكيف يجبر على إصلاحه الثاني أن مال رب السفل معصوم بعصمة الإسلام فال يحل إلا بشرع يخصص هذه العصمة الثابتة بأدلة الكتاب والسنة ولا سيما وهذا الإجبار واستهلاك المال لغرض يعود على الغير ونفع لا ينتفع به المالك (3/249)
أما إذا علم أن رب السفل راغب في إصلاح ملكه ولكنه كان معسرا أو غائبا بنيابة رب العلو عنه في الإصلاح وله أن يطالبه بما غرم فإن سلم له ذلك فذاك وإن لم يسلم له كان له حبسه أو تأجيره من الغير أو استعماله بقدر ما غرم وأما إذا تمرد ورغب عن إصلاح ملكه فالكلام فيه كما قدمنا
قوله ولكل أن يفعل في ملكه ما لا يضر بالآخر الخ
أقول هذا صحيح لأن موجب الملك يقتضي أن يفعل فيه ما يريده وموجب الأدلة الدالة على عدم المضارة لا سيما للجار يمنع من أن يفعل ما يضر بشريكه وكلام المصنف هنا أولى مما سيأتي له من قوله فلكل أن يفعل في ملكه ما شاء وإن قصر الجار وأما تعرض شيوخ الفروع للفرق بين الموضعين فمن الهذيان الذي لا وجه له وهكذا قوله ويضمن ما أمكن دفعه من إضرار نصيبه لأنه فرط بترك الدفع فكان ذلك منه جناية على ملك شريكه
قوله وإذا تداعيا السقف فبينهما
أقول السقف إنما يجعل في الغالب لتغطية ما هو موضوع فوقه وأيضا لا يكمل ما تحته منزلا حتى يوضع عليه السقف وهذا يفيد أنه مع التدعي للأسفل فيكون القول قوله مع يمينه لأن الظاهر معه وعلى رب العلو البينة أن ذلك السقف له ببيع أو استثناء أو قسمة لأنه يدعي خلاف الظاهر وأما كون الفرس للراكب فوجهه أن الراكب في الغالب هوالمالك والراجل خارج السرج الذي يقودها الغالب أن يكون خادما للراكب وهكذا يد الراكب على السرج أقوى من يد الراكب خارج السرج لأن الغالب أن المالك هو الذي يثبت على السرج ويردف غيره ممن أراد إردافه خلفه وهكذا الثوب للابس لأنه لا يلبس الثوب في الغالب إلا مالكه وهكذا العرم للأعلى لأنه يوضع لحفظ الماء في العلو وليس لصاحب الأسفل تعلق به وأما إذا لم يكن ثم علو وسفل بل كان العرم منصوبا بين الملكين فهو لهما ولا يكون أحدهما أحق به من الآخر لأنه لنفع كل واحد من الملكين (3/250)
فصل
ولا يجبر الممتنع عن إحداث حائط بين الملكين أو عن قسمته غالبا بل على إصلاحه ولا يفعل أيهما فيه غير ما وضع له من سترة وتحريز وحمل ولا يستبد به إلا بإذن الآخر فإن فعل أزال ولا يثبت حق بيد وإذا تداعيا فلمن بين ثم لمن اتصل ببنائه ثم لذي الجذوع ثم لمن ليس إليه توجيه البناء ثم لذي التزيين والتخصيص أو القمط في بيت الخص ثم بينهما وإن زادت جذوع أحدهما
قوله فصل ولا يجبر الممتنع عن إحداث حائط بين الملكين
أقول وجه هذا ظاهر لأن إحداث الحائط بين الملكين يستغرق جزءا من كل واحد من الملكين أما إذا كان لا يندفع الضرر بين الشريكين إلا به أجبر الممتنع للأدلة الواردة في عدم جواز المضارة والأخذ على يد من أرادها وأما كونه لا يجبر على قسمته فذلك يستقيم إذا كان لا يمكن قسمته أو تضره القسمة أما إذا كانت ممكنة بحيث ينتفع كل واحد بنصيبه أو طلبها المنتفع أجبر شريكه على ذلك ولا سيما إذا كان يندفع بها ضرار بينهما
وأما قوله بل على إصلاحه فإن كان الإصلاح لدفع ضرار مجوز فذلك وجه صحيح وإن كان لأجل أن ينتفع به الشريك مع رغوب الآخر عن إصلاح ملكه فالكلام فيه كما تقدم في شركة العلو والسفل وأما كونه لا يفعل أحدهما فيه غير ما وضع له فوجهه ظاهر إذا كان وضعه لنفع خاص تواطآ عليه لا إذا كان وضعه لمطلق النفع من غير تقييد وهكذا ليس لأحدها أن يستبد به لأن في ذلك افتيات على شريكه واستغراق لحقه الثابت وأما مع الإذن فظاهر أنه يجوز للمأذون أن يفعل غير ما وضع له وأن يستبدله
قوله ولا يثبت حق بيد (3/251)
أقول ثبوت اليد على ما هو من الحقوق التابعة للأملاك يفيد الثابت ظهورا يكون به القول قوله مع يمينه والبينة على غريمه لأنه يدعي خلاف الظاهر فهذه الكلية التي جاء بها المصنف لا يعرف لها وجه فإنه صار يجعل القول قول من شهد له الظاهر في كل باب فما باله ها هنا خالف عادته بل سيأتي له في الدعاوى أن المدعي من معه خفي الأمرين ولا شك أن ثابت اليد على الحق معه ظاهر الأمرين ومع من لم يكن ثابت اليد عليه أخفى الأمرين وأما تعليل هذا النفي بأنه قد يتسامح في الحقوق فلا يفيد شيئا لأنه قد يتسامح في بعض الأملاك كما يتسامح في بعض الحقوق على أن هذا التسامح لا ينافي الظهور الذي هو المطلوب من تأثير ثبوت اليد على الحق
وأما قوله وإذا تداعيا الجدار الخ فوجهه أن هذه قرائن يستفاد بها الظهور والقول قول من معه الظاهر فإذا لم يكن ثم قرينة يفيد ذلك اشتركا فيه إذا لم يبق سبيل إلى ما يصلح مستندا للحكم به لأحدهما
فصل
ولا يضيق قرار السكك النافذة ولا هواؤها بشيء وإن اتسعت إلا بما لا ضرر فيه لمصلحة عامة بإذن الإمام أو خاصة فيما شرعوه كالميزاب والساباط والروشن والدكة والمسيل والبالوعة ولا المسندة إلا بإذن الشركاء ويجوز الطاقات والأبواب والتحويل إلا إلى داخل المنسدة بغير إذن أهله وفي جعل بيت فيها مسجدا أو نحوه نظر (3/252)
قوله فصل لا يضيق قرار السكك النافذة
أقول الوجه في هذا أنه قد صار الحق للمارة ففي تضييقها إبطال لبعض ما هو حق لهم وقد يفضي ذلك إلى الإضرار بهم بالازدحام إذا كثر المارون بها وهذا في المسيلة ظاهر وأما المشروعة بين الأملاك الخاصة فالحق لهم إذا تراضوا على تضييقها كان لهم ذلك
وأما قوله إلا بما لا ضرر فيه فغير ظاهر لأن المفروض أنها قد صارت حقا عاما لمن يمر بها فكيف يجوز تضييقها للمصحلة العامة بإذن الإمام فإن مجرد التضييق يحصل به مفسدة على المارة ولو في بعض الأحوال ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح بالاتفاق ثم نفي الضرر لا يستلزم نفي ما هو دونه من التأذي بالتضييق فإن أراد به نفي الضرر وما هو دونه على كل حال وفي كل وقت فلا بأس لعدم وجود المفسدة حينئذ
وأما قوله أو خاصة فيما شرعوه فلا بد من تقييده بوقوع الإذن من جميع المالكين الشارعين بها بين أملاكهم ولا فرق بينها وبين المنسدة في الاحتياج إلى الإذن من المالكين في كل واحد منهما ولا مدخل لإذن الإمام في ذلك لوجود من له الملك أو الحق
وأما قوله ويجوز فتح الطاقات الخ فوجهه أنه لا يحصل لذلك ضرر على المارة وأما استثناء داخل المنسدة فوجهه أن الحق فيها مشترك بين أهلها فلا يجوز إحداث شيء فيها إلا بإذنهم
وأما قوله وفي جعل بيت فيها مسجدا أو نحوه نظر فلا وجه لهذا النظر لأنه إن حصل الإذن من جميع أهل المسندة جاز جعل بيت فيها اصطبلا فاضلا عن مسجد وإن لم يإذنوا لم يجز لأنه يؤدي إلى كثرة استطراق تلك المنسدة إليه ولا سيما وهو لا يكون مسجدا إلا إذا فتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء كما يأتي في الوقت (3/253)
فصل
وإذا التبس عرض الطريق بين الأملاك بقي لما تجتازه العماريات اثنا عشر ذراعا ولدونه سبعة وفي المسندة مثل أعرض باب فيها ولا يغير ما علم قدره وإن اتسع وتهدم الصوامع المحدثة المعورة لا تعلية الملك وإن أعورت فلكل أن يفعل في ملكه ما شاء وإن ضر الجار إلا عن قسمة
قوله فصل وإذا التبس عرض الطريق بين الأملاك الخ
أقول ينبغي أن يقال هنا ترك ما لا يضر بمن يعتاد المرور فيها فإن مآرة الطريق تختلف فقد لا يمر فيها شيء من الدواب لا محملة ولا غير محملة فيترك حينئذ ما لا يضر بمن يمر فيها فإن كانت معتادة لمرور الدواب فيها ترك ما لا يضر بها عند مرورها ولا وجه لما ذكره المصنف من المقادير فقد يحتاج المارة فيها إلى زيادة على ما ذكره كالطرق المعتادة لمرور الجيوش فيها خيلا ورجلا وقد يكفي ما هو دون ما ذكره كالطرق التي لا يمر فيها إلا بنو آدم وصغار الدواب فإنه يكفي فيها دون السبعة الأذرع وهكذا لا وجه لتقييد المنسدة بأعرض باب فيها فقد يعتاد أهلها دخول الدواب إليها بأحمالها ولكنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع وهو ما يدل على الرجوع إلى هذا المقدار في كل طريق وقد ورد تقييد هذا المطلق بما أخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس (3/254)
عن النبي صلى الله عليه و سلم بلفظ إذا اختلفتم في الطريق الميتاء فاجعلوها سبعة أذرع وكذا في حديث عبادة عند الطبراني وحديث أنس عند ابن عدي وفي إسناد كل واحد منها مقال
وأما قوله ولا بغير ما علم قدره الخ فتكرار لما تقدم من قوله ولا يضيق قرار السكك
قوله وتهدم الصوامع المحدثة الخ
أقول إن كان إحداثها في موضع يختص بمحصورين فلا بد من إذنهم لأن لكل واحد منهم حقا في ذلك الموضع الخاص بهم وإن كان إحداثها في مكان لا يختص بمحصورين ولا تضييق فيها على المارة ولا على أهل الحق العام وليس إلا كونها مرتفعة على البيوت ويمكن أن يكون المؤذن غير عدل في الباطن فهذه مفسدة يمكن دفعها بما يتعذر معه النظر منها إلى المحلات التي يقع الاطلاع عليها مع رعاية المصلحة العامة لهم بسماع الأذان إذا كانوا في مكان بعيد عن الأمكنة التي يؤذن فيها فإن هذه مصلحة خالصة بعد دفع تلك المفسدة فلا ينبغي إطلاق هدمها كما فعل المصنف بل لا بد من التقييد بما ذكرنا
وأما قوله لا تعلية الملك وإن أعورت فمبني على ما عقبه به من قوله فلكل واحد أن يفعل في ملكه ما شاء وإن ضر الجار وهذه الكلية الشاملة لما في السياق وغيره تقشعر لها الجلود وترجف عندها الأفئدة فإن التوصية بالجار كتابا وسنة والأوامر النبوية بالإحسان إليه ودفع ما يضره حتى قال صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لا يؤمن (3/255)
أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه لو تعرض متعرض لجمعها لجاءت في مصنف مستقل وناهيك بقوله صلى الله عليه و سلم لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ولا يقال إن في منعه من أن يفعل في ملكه ما شاء إضرار به لأنا نقول هو لم يمنع من أن يفعل في ملكه ما شاء بل ممنوع من أن يضر جاره كما أن جاره ممنوع من أن يضر به فما يقتضيه الملك من جواز الانتفاع به كيف يريد مالكه مقيد بعدم الضرار وقد ثبت له على جاره مثلما ثبت له عليه ولم يجعل التقييد خاصا بأحدهما وقد حرم القرآن الكريم الضرار في عدة آيات مع اختلاف الموارد فكيف لا يثبت مثله في حق الجار مع قوله سبحانه وبالوالدين إحسانا إلى قوله والجار ذي القربى والجار الجنب وأما استثناء المصنف من هذه الكلية قوله إلا عن قسمة فما أبرد هذا الاستثناء فإنه لم يرد دليل يدل على مزيد اختصاص المجاورة عن قسمة بحكم زائد على المجاورة لا عن قسمة ولكن تفريع أحكام الشرع إذا كان غير منظور فيها إلى ما ورد به الشرع بل إلى ما دونه الراجعون إلى محض الرأي كان على هذه الصفة
فصل
وإذا اشترك في أصل النهر أو مجاري الماء قسم على الحصص فإن تميزت وإلا مسحت الأرض وأجرة القسام على الحصص ولذي الصبابة ما فضل عن كفاية الأعلى فلا تصرف عنه ومن في ملكه حق مسيل أو إساحة لم يمنع المعتاد وإن (3/256)
ضر وعليه إصلاحه ويمنع المحبي لحريم العين والبئر والمسيل والدار إلا المالك لا من جر ما في ملك غيره من ملك نصيبه أو سقى بنصيبه غير ذات الحق إلا لإضرار
قوله فصل وإذا اشترك في أصل النهر الخ
أقول القسمة لما يتعلق به ملك أو حق ثابتة لأن ذلك يحصل العدل بين الشركاء ويصل كل ذي حق بحقه من غير تظالم فلا وجه للاعتراض على المصنف سواء أراد قسمة المجاري والقرار أو قسمة الماء الذي هو الغرض المقصود وذلك بأن يكون لبعض الشركاء هذا المجرى وللآخر هذا أو يكون لأحدهم الماء النابع من النهر في يوم وللآخر كذلك وإذا لم يمكن الوقوف على قدر الحصص مع ثبوت أصل الاشتراك فالقسمة تكون على قدر الأموال التي ثبت استحقاقها للسقي من ذلك النهر وهذا كلام ظاهر واضح لا غبار عليه
قوله ولذي الصبابة ما فضل عن كفاية الأعلى
أقول وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة وعبدالله بن أحمد والبيهقي والطبراني من عنادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في شرب النخل من السيل إلا الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه ثم كذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء وفي هذا الحديث انقطاع ولكنه يقر به ما أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل قال ابن حجر في الفتح إن إسناده حسن وأخرجه أيضا الحاكم (3/257)
في المستدرك وصححه من حديث عائشة وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة من حديث ثعلبة بن أبي مالك وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه عن أبي حاتم القرظي عن أبيه عن جده ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة فيكون امساك الأعلى للماء إلى أن يبلغ الكعبين ثم يرسله وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير أسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس حتى يرجع الماء إلى الجدر زاد البخاري في رواية فاستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم استوعى في صريح الحكم وفي رواية للبخاري قال ابن شهاب فقدرت الأنصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه و سلم اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فكان ذلك إلى الكعبين فكان هذا الحديث الصحيح موافقا للأحاديث المتقدمة فثبت أن الأعلى يمسكه حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله وأن الأحق بالسقي الأعلى فالأعلى (3/258)
قوله ومن ملكه حق مسيل الخ
أقول وجه هذا أن الحق لما تعلق بملكه كان عليه البقاء على ما يوجبه الحق الثابت المستمر فليس له أن يمنع المعتاد ولا لصاحب الحق أن يطلب زيادة عليه وأما كون إصلاحه على من هو في ملكه فهذا مبني على أنه قد تقدم ما يوجب ذلك عليه من التراضي بينهما فإن لم يتقدم بينهما شيء فصاحب الحق هو الذي يصلح ما توصل به إلى استيفاء حقه وليس على صاحب الملك إلا بذل ملكه لإمرار الماء المعتاد فقط
قوله ويمنع المحيي تحريم العين الخ
أقول وجه هذا سبق الحق مع جري العادات بين الناس لذلك فكان المالك للعين والبئر والمسيل والدار مستحقا لما يجاورها مما يتركه الناس في أعرافهم لمن هو مالك لأحد هذه الأمور ويكون الرجوع في المقدار إلى الأعراف الغالبة إذ ليس في المقام ما يصلح للاحتجاج به والاستناد إليه وأما استثناء المصنف للمالك فليس فية كثير فائدة لأنه إنما يمنع غير صاحب الحق لا صاحبه فله أن يصنع به ما شاء
قوله لا من جر ماء في ملك غيره من ملك نفسه
أقول وجه هذا أنه حفر في ملكه فانسياق الماء إليه فضل من الله عز و جل فليس لمن كان الماء في ملكه أن يخاصمه لأنه لا يجد عليه سبيلا يقتضي الخصومة وهكذا من سقى بنصيبه غير ذات الحق فإنه لما كان مستحقا للسقي جاز له أن يصرفه حيث شاء ويسقي به من أراد من أملاكه حيث لا مجاوزة للمقدار المستحق وإلا كان ممنوعا من الزيادة التي زادها في السقي لغير ذات الحق ولهذا استثنى المصنف بقوله إلا الإضرار فهذا الاستثناء صواب (3/259)
فصل
ويملك الماء بالنقل والإحراز أو ما في حكمهما فتتبعه أحكام الملك وهو مثلي في الأصح وما سوى ذلك فحق لمن سبق إليه قدر كفايته ولو مستخرجا من ملك في الأصح لكن يأثم الداخل إلا بإذن والأخذ على وجه يضر
قوله فصل ويملك الماء بالنقل والإحراز
أقول قد قدمنا في باب الإحياء الأدلة الدالة على اشتراك الناس في تلك الأشياء التي من جملتها الماء ويقدم ما فيه التصريح بأنه من الأشياء التي لا يحل منعها فاقتضت هذه الأدلة أنه مشترك بين العباد ليس بعضهم أولى به من بعض فهذا هو النوع الأول من الأدلة الواردة في الماء
النوع الثاني من الأدلة النهي عن منع فضل الماء كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ وفي لفظ المسلم لا يباع فضل الماء ليباع به الكلاء وفي لفظ للبخاري لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلإ وفي الباب أحاديث المجموع منها يدل على المنع من بيع فضل الماء ليتوصل بمنعه إلى المنع من الكلأ وظاهرها أنه يجوز منع غير الفضل يوجوز منع الفضل لغير منع الكلأ
النوع الثالث ما قدمناه قريبا من أنه يجوز للأعلى أن يمسك الماء في أرضه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته فحصل من مجموع الأدلة الواردة في الماء بعد تقييد بعضها ببعض (3/260)
أنه يجوز للسابق إلى الماء المتقدم حقه فيه أن يمنع ما تدعو حاجته إليه ويرسل ما فضل لمن ينتفع به إما لسقي أرض أو لسقي دوابه أو للشرب منه أو للتطهر به ويزداد الإثم إذا منعه لغرض منع الكلاء فإنه قد جمع بين المنع لشيئين قد أثبت الشرع الاشتراك فيهما بين الناس وهما الماء والكلاء فالحاصل أن كل ماء موجود على ظهر الأرض فالأصل فيه الشركة بين العباد إلا قدر ما يحتاجه السابق الأحق فإن ذلك قد استثناه له الشرع وسوغه له وأما ما زاد على قدر الحاجة فليس له منعه ولا يملكه بإحراز ولا غيره بل هو متعد بإحرازه لا لحاجة ومن دعت له إليه حاجة فهو أولى به وإن أحرزه بعد حرز فإن قلت قيد منع فضل الماء بأن يكون لمنع فضل الكلاء وظاهره أنه يجوز منع فضل الماء بغير منع فضل الكلاء قلت عرفت أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل حبس الماء للأعلى حتى يبلغ الكعبين حقا ثابتا ثم أوجب عليه إرسال ما فضل عن ذلك ولم يسوغ له حبس هذا الفاضل وكذلك صرح بأن الناس شركاء في تلك الأمور التي من جملتها الماء وأنه لا يحل منعه فجمعنا بين الأحاديث بأن السابق إلى الماء أو المستخرج له من منابعه أحق بما تدعو إليه حاجته منه وليس له غير ذلك ولم كان منع فضل الماء لمنع الكلاء من جملة الصور الممنوعة بل من أشدها لجمعه بين منكرين وعارض هذا التقييد غيره مما هو أدل على المقصود منه لم يكن صالحا للتقييد به فلا يجوز منع الفضل على كل حال وإذا تقرر لك هذا عرفت الكلام على جميع ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الفصل (3/261)
باب القسمة
فصل
يشترط في الصحيحة حضور المالكين أو نائبهم أو إجازتهم إلا في المكيل والموزون وتقويم المختلف وتقدير المستوى ومصير النصيب إلى المالك أو المنصوب الأمين واستيفاء المرافق على وجه لا يضر أي الشريكين حسب الإمكان وأن لا تتناول تركة مستغرق بالدين وفي الإجبار توفية النصيب من الجنس إلا في المهايأة وأن لا تتبعها قسمة إلا بالمراضاة فيهما
قوله فصل يشترط في الصحيحة الخ
أقول ما كان مشتركا بين جماعة من ميراث أو غيره كل واحد منهم مالك بقدر نصيبه منه فإن قسموه قسموه على قدر الأنصباء فإن كان ذلك المشترك من المكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود مع الاتفاق في الجنس والصفة فأمر القسمة في هذا ظاهر لا يحتاج إلى كلفة وإن كان من غير ذلك فلا يتم العدل في القسمة إلا بمعرفة القيمة ليذهب التغابن ولا بد عند القسمة من حضور كل مالك ليأخذ نصيبه أو حضور من ينوب عنه فإن كانوا لا يتهمون من حضر بخيانه من غاب كفى حضور بعضهم ولا بد أن يصير إلى كل واحد منهم ما ينتفع به بلا ضرر عليه إلا أن تلجيء الضرورة إلى ذلك بأن يكون المشترك بينهم شيئا واحدا لا يمكن انتفاع كل واحد منهم بنصيبه فسيأتي (3/262)
أنها تكون قسمته بينهم بالمهايأة والحاصل أن مثل هذا الباب مرجعه التراضي لأنه من باب استيفاء الأملاك والحقوق فإن اختصموا في شيء قطع الخصومة بينهم حكام الشريعة بما هو أقرب إلى العدل
فصل
وهي في المختلف كالبيع في الرد بالخيارات والرجوع بالمستحق ولحوق الإجازة وتحريم مقتضى الربا وفي المستوى إفراز
قوله فصل وهي المختلف كالمبيع
أقول وجه هذا أن لكل واحد منهم نصيبا في كل عين من الأعيان المشتركة فإذا تعين بعضها لبعضهم والبعض الآخر للآخر فكأن كل واحد باع ماله في ذلك الصائر إلى غيره ممن صار إليه بعوض وهو ما صار إلى هذا الآخر من النصيب وقد عرفت أن المناط في البيع وغيره من المعاملات هو التراضي فكذا هنا فإن رضا كل واحد بما صار إليه موجب لملك الآخر لما صار إليه وأما ما ذكره من الرد بالخيارات فمبني على وجود ما يقتضي الرد في نصيب أحدهم فقط أما لو كان المقسوم بينهم معينا جميعه فليس لأحدهم أن يرد نصيبه لأن نصيب غيره كنصيبه في ذلك وأما ما ذكره من الرجوع بالمستحق فلا شك فيه لأن هذا الاستحقاق اقتضى بقاء نصيب من أخذ ذلك المستحق في أصل التركة إذ ليس هو منها
وأما قوله ولحوق الإجازة وتحريم مقتضى الربا فظاهران (3/263)
وأما قوله في المستوى إفراز فغير ظاهر لأن العلة التي صار لها غير المستوى كالبيع حاصلة في المستوى إذ نصيب كل واحد من الشركاء ثابت في كل أجزاء المستوى كما هو ثابت في كل أجزاء المختلف ثم أعلم أن هذا التشبيه لها بالبيع هو خاص بهذه الأحكام التي ذكر المصنف في هذا الفصل فلا يكون كالبيع في غيرها وقد بين ذلك أوضح بيان بقوله هي في المختلف كالبيع في كذا وكذا الخ فلا يرد عليه الاعتراض بغير ما قد بينه هنا
فصل
ولا يجابون إن عم ضرها ولا رجوع إن فعلوا فإن عم نفعها أو طلبها المنتفع أجيبوا ويكفي قسام وعدلان والأجرة على الحصص وبها يأما تضره ويحصص كل جنس في الأجناس وبعض في بعض في الجنس وإن تعدد للضرورة أو الصلاح وإذا اختلفت الأنصباء في أرض اخرج الاسم على الجزء وإلا فمخير ولا يدخل حق لم يذكر فيبقى كما كان ومنه البذر والدفين ولا يقسم الفرع دون الأصل والثابت دون المنبت والعكس إلا بشرط القطع وإن بقي أو الأرض دون الزرع ونحوه ويبقى بالأجرة وعلى رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن أرض الغير ولا تملك بمجرد الشرط فإن ادعى الهواء حقا فالبينة عليه وهي على مدعي الغبن (3/264)
والضرر والغلط وتسمع من حاضر في الغبن
قوله فصل ولا يجابون إن عم ضررها
أقول لأن الضرر ممنوع شرعا فطلب الجميع للضرر وإن كان كل واحد قد رضي بضرار نفسه لكن لا حكم لرضائه بضرار غيره بل الظاهر انه لا يجاب طالب الضرار فيما يضر نفسه فقط لما ورد في الضرار عموما وخصوصا كتابا وسنة وبهذا تعرف أنه لا وجه لقوله ولا رجوع إن فعلوا بل لهم دفع الضرار عن أنفسهم ودفع ما يحل نزوله بهم ما لم يحدث بهذا الرجوع ضرار كالضرار الأول أو أشد منه
وأما قوله فإن عم نفعها فمسلم أنهم يجابون إلى ذلك
وأما قوله أو طلبها المنتفع أجيبوا فإن كان انتفاعه يستلزم إنزال الضرر بغيره فلا يجاب بل ينظر في وجه يكون به الخلاص من ضرار غيره من إيصاله إلى نفع نفسه إما ببيع للمشترك من الغير وقسمة ثمنه أو بمصيره إلى أحد الشركاء وتسليم حصته الآخر ثمنا لا عينا
قوله ويكفي قسام وعدلان
أقول إن تشاجروا فلا يقطع خصومتهم إلا قسام يقسم بينهم ويوصل كل ذي حق بحقه وعدلان يقومان ما يحتاج إلى التقويم وأما إذا لم يتشاجروا وتراضوا فيما بينهم فلا يحتاج إلى قسام ولا إلى عدول للتقويم لأن التراضي هو كما عرفناك المناط المقتضي لتحليل بعض أموال العباد لبعض وليس لبعضهم أن يطلب من بعد غير ما قد رضي به
وأما قوله والأجرة على قدر الحصص فإذا لم يتورع القسام ويترك طلب الأجرة للحديث الوارد في الزجر عن ذلك فأخذ الأجرة من كل واحد من المشتركين على قدر (3/265)
نصيبه أعدل من أخذها على خلاف هذا الوجه
قوله ويها يأما تضره القسمة
أقول إن وقع الرضا من الشركاء بذلك فلا بأس وإن طلبوا ما هو أقطع للشركة وأنفع لأهلها من مصير تلك العين التي تضرها القسمة إلى واحد منهم ولو بالقرعة وتسليم حصة الآخرين من الثمن كان لهم ذلك وهكذا بيعها من الغير وقسمة ثمنها بينهم والحاصل أنه ينبغي السعي فيما فيه الصلاح لهم وقطع الخصومة الكائنة بينهم فإن بقاء الشركة مظنة لحدوث ما عساه ينتهي إلى الشجار والضرار
وأما قوله ويحصص كل جنس الخ فوجهه أن لكل واحد منهم نصيبا في ذلك الجنس فإذا طلب مصيره إليه كان طالبا لحق ما لم يحصل بذلك ضرار للشركاء أو لبعضهم وهكذا الجنس الواحد لكل واحد أن يطلب نصيبه منه إلا إذا كان ذلك يوجب ضررا فإنه يقسم بعضه في بعض كما قال المصنف للضرورة أو الصلاح
والحاصل أن دفع ما فيه مفسدة على الشركاء أو بعضهم وجلب ما فيه مصلحة لهم متعين على متولي القسمة بينهم ومن طلب منهم ما فيه مفسدة أو ذهاب مصلحة كان حقيقا بالعقوبة حتى يرجع عن ذلك
وأما قوله وإن اختلف الأنصباء أخرج الاسم على الجزء فهذا وجه ما فيه رعاية المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم أو عن بعضهم وإذا أمكن ما هو أصلح من هذا فعله
قوله ولا يدخل حق لم يذكر الخ
أقول القسمة هي إيصال كل شريك بنصيبه من الملك وما يتبعه فلا وجه لقوله ولا يدخل حق لم يذكر بل كل حق يتبع ما هو متعلق به وإلا كان ذلك مقتضيا لخلل القسمة لأنه لم يحصل الإيصال التام والانفصال الحاسم للخصام فيتبع كل أرض طرقها وسواقيها وصباباتها وشربها ويتبع كل دار طرقها ونحوها فإن كان بعض الحقوق (3/266)
تؤدي قسمته إلى الضرار لم تجز قسمته وبقي مشتركا بينهم وينتفع كل واحد منهم به بقدر نصيبه لكن من هذه الحيثية لا من الحيثية التي ذكرها المصنف وهي أنه لا يدخل حق لم يذكر وأما البذر والدفين فإن كان مشتركا بين المقتسمين فلا وجه لبقائه بل يقسم بينهم على قدر الأنصباء إن كانا لواحد منهم أو لغيرهم فليسا مما نحن بصدده وتكون قسمة البذر يتعين نصيب مما يخرج منه لكل واحد منهم بقدر نصيبه وأما الدفين فيستخرج ويقسم كائنا ما كان
قوله ولا يقسم الفرع دون الأصل الخ
أقول لما في ذلك من الضرار والقسمة إنما شرعت لدفعه وهكذا قسمة النابت دون المنبت وهكذا العكس في الأمرين لأن ذلك كله موجب للخصومة المفضية إلى الضرار بالبعض أو الكل وشرط القطع وإن خفف شيئا من هذه المفسدة لكن لا ينبغي جعله مسوغا وهكذا الأرض دون الزرع لاستلزامه لذلك في الغالب ولكون القسمة غير تامة لعدم استيفاء ما يحتاج إلى استيفائه
وأما قوله وعلى رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن أرض الغير فوجهه ظاهر لأنها إذا خرجت الأرض في نصيب أحد الشركاء وخرجت الأرض المجاورة لها التي فيها الشجرة في ملك الآخر كان في إظلالها لأرض صاحب الأرض ضرر عظيم عليه فإن ذلك يؤدي إلى أنها لا تزرع ولا تصلح لغرس الشجر وهكذا غير الشركاء المقتسمين فإنه يجب على رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن ملك غيره لما قدمنا من حصول الضرر بذلك ولا يجوز إقرار ما استرسل من الشجر على هواء أرض الغير إلا إذا وقع التراضي والتسامح فإن ادعى رب الشجر أن الهواء حق له فهو يدعي خلاف الظاهر فعليه البينة وأما كون البينة على مدعي الغبن والغلط والضرر فظاهر لأن كل واحد منهم يدعي خلاف الظاهر وأما كونها لا يسمع للدعوى من حاضر في الغبن فوجهه أن حضوره يدل على خلاف ذلك ولكن لا وجه للمنع من سماع دعواه إذا برهن على ذلك وغاية ما يستفاد من حضوره (3/267)
أن لا يكون القول قوله وأن تكون البينة عليه ولعل المصنف جعل الحضور في القسمة كتولي الملكف للبيع بنفسه وقد تقدم أنه لا يسمع منه دعوى الغبن وقد قدمنا هنا لك ما ينبغي الرجوع إليه والتذكرة له (3/268)
- كتاب الرهن (3/269)
شروطه
القعد بني جائزي التصرف ولو معلقا أو مؤقتا ويلغو شرط خلاف موجبه وفيه الخيارات والقبض في المجلس أو غيره بالتراضي ويستقر بثبوت الدين قيل وبحلوله قيل وبفوات العين وكونه مما يصح بيعه إلا وفقا وهديا وأضحية صح بيعها والمؤجرة والمزوجة من غيرهما وغير عبديهما والفرع دون الأصل والنابت دون المنبت والعكس إلا بعد القطع وجزءا مشاعا إلا كله فيصح ولو رهن من اثنين فيقتسمان أو يتهايئان حسب الحال ويضمن كل منهما كله ويبقى ضمان المستوفي لا المبريء أو واحد فيضمن كله ويحبسه حتى يستوفي منهما فإن طرأ الشياع فسد
قوله شروطه العقد بين جائزي التصرف
أقول لا سبب هنا يتقضي اشتراط العقد كما يفعلونه في الأبواب التي توجب انتقال الملك لأنه لا انتقال هنا بل الرهن باق على ملك مالكه وغاية ما يعتبر هو التراضي بين الراهن والمرتهن على الرهينة وأما كونه بين جائزي التصرف فلا بد من ذلك لتوقف صحة التراضي عليه (3/271)
وأما قوله ولو معلقا فلا مانع من ذلك من شرع ولا عقل
وأما قوله ويلغو شرط خلاف موجبه فوجهه أن موجبه أن يبقى بيد المرتهن حتى يستوفي دينه من الراهن فإذا شرط ما يخالف ذلك فقد شرط ما يرفع موجب الرهن وهو البقاء بيد المرتهن وهكذا كان رهنه صلى الله عليه و سلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال رهن رسول الله صلى الله عليه و سلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد وفي لفظ لهما توفي صلى الله عليه و سلم ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير وأما كون فيه الخيارات فوجهه أن الراهن قد يمطل في الدين او يفلس فيصير الرهن للمرتهن بهذا السبب فله أن يرده بالعيب ونحوه وقد يكوب سبب ما يوجب الخيار فيه ناقصا عن الوفاء بدين المرتهن فيطلب إبداله بما يفي بدينه
وأما قوله والقبض في المجلس فوجهه أنه لا يكون الرهن رهنا إلا بقبض المرتهن له لأنه باق على ملك الراهن فلا يثبت به الحق للمرتهن إلا بالتراضي مع القبض ولا يحتاج مثل هذا إلى الاستدلال لأن ماهية الرهينة لا توجد إلا بذلك وأما اعتبار المجلس فلا وجه له إلا مجرد الخيال بما يزعمونه من اشتراط العقد وقد أحسن المصنف بتعقيبه بقوله أو بعده مع التراضي فإن الرهن ليس هو إلا التراضي مع القبض حتى يثبت تعلق الحق للمرتهن به وليس في حديث الرهن يركب ودره يشرب وعلى الذي يركب ويشرب (3/272)
نفقته ما يدل على عدم اشتراط القبض لأن الرهن غير مراد بهذا الحديث لكونه ملكه وعلى المالك إنفاق ملكه فكيف جعل عليه النفقة في مقابل الشرب والركوب وأيضا ورد في لفظ من ألفاظ هذا الحديث عند أحمد إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها وأما كونه يستقر ثبوت الدين فوجهه أنه لا يصدق عليه مسمى الرهن إلا بذلك لأنه لا يكون إلا في مقابلة دين ثابت على الراهن فقبل ثبوته عليه ليس برهن وإنما هو مهيأ للرهنية
وأما قوله وبفوات العين فلا وجه له بل يستقر رهنا بمجرد قبض الراهن لتلك العين التي وقع الرهن لها فليس للراهن استرجاعه إلا برد العين وهذا هو المعنى الاستقراري استقرار الرهينة وتسلط المرتهن على حبس الرهن وأما الضمان فباب آخر وأما اشتراط كون الرهن مما يصح بيعه فلا وجه له بل ينبغي أن يقال وكونه مما يصح تملكه حتى إذا عجز الراهن عن الوفاء أو أفلس صار الرهن ملكا للمرتهن ولو قال المصنف هكذا لم يحتج إلى قوله إلا وقفا الخ وقد طول المقال في الصور المستثناة
فصل
ولا يصح في عين إلا بعد التضمين ويكفي طلبه من المستعير والمستآم لا الوديع والمستأجر ولا في وجه وجناية عبد وتبرعا بغير أمر وإضافة وكل فوائده رهن مضمون لا كسبه ومؤنه كلها على الراهن فإن اتفق المرتهن فكالشريك
قوله فصل ولا يصح في عين الخ
أقول إذا كان المطلوب من المراهنة هو أن يتوثق المرتهن بما صار من ماله عند (3/273)
الراهن فلا فرق بين عين ودين لوجود الغرض من المراهنة فيهما ومن ادعى أنه لا يكون إلا في دين فعليه الدليل ولا ينفعه ورود الرهن في الدين فإن ذلك لا ينفي صحته في العين ولا يصلح للمانعية ثم ما ذكره من الاكتفاء بطلب الرهن في التضمين للمستعير والمستام دون الوديع والمستأجر لا وجه له ولا يرجع إلى رواية ولا رأي صحيح وقد قدمنا الكلام على هذا في الفصل الذي عقده في الإجارة لمن يضمن ومن لا يضمن
وأما قوله ولا في وجه فظاهر لأنه لم يكن قد تعلق بذمة كفيل الوجه ما يقتضي الاستيثاق منه بالرهن
وأما قوله وجناية عبد فلا وجه للمنع منه لأنه قد تعلق أرش تلك الجناية بمال السيد وإن اختار تسليم رقبة العبد لأنها مال من جملة ماله ولا منافاة بين تعلقها برقبة العبد وبين كونها متعلقة بمال السيد وإنما هذه الفروقات والتفريعات كثيرا ما تقع مبنية على غير أساس
وأما قوله وتبرعا بغير أمر وإضافة فصحيح لأنه مع عدم الأمرين لا يكون رهنا عن الذي عليه الدين أما لو أمره أو أضافه إليه وأجاز فظاهر أن ذلك يصح
قوله وكل فوائده رهن مضمون
أقول قد قدمنا ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة وقد قدمنا أنه ثبت في رواية بلفظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته فكانت هذه الرواية معينة للمراد بالحديث وهو أن الفوائد للمرتهن والمؤن عليه ومما يؤيد هذا أنه لا معنى لكون الراهن يركب ويشرب (3/274)
إلى مقابل النفقة فإن الرهن ملكه فلا ينفق على ملكه بعوض ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه أخرجه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده والحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وله طرق ولكن محل الحجة منه قوله له غنمه وعليه غرمه وقد اختلف في رفع هذه الزياد ووقفها وصرح ابن وهب راوي هذا الحديث بأن هذه الزيادة من قول سعيد بن المسيب وهكذا صرح أبو داود في المراسيل أنه من كلام سعيد بن المسيب فالرجوع إلى الحديث الأول مع صحته هو المتعين فتكون الفوائد المنصوص عليها في الحديث للمرتهن ويلحق غيرها من الفوائد بها بالقياس بعدم الفارق والكسب من جملتها فلا وجه للفرق بينه وبينها فتكون كلها للمرتهن والمؤن عليه من نفقة وغيرها مما تدعو إليه حاجة الرهن
فصل
وهو كالوديعة إلا في جواز الحبس وأنه في العقد الصحيح ولو مستأجرا أو مستعارا لذلك ولم يخالف المالك مضمون كله ضمان الرهن إن تلف بأوفر قيمه من القبض إلى التلف والجناية إن أتلف وفي نقصان بغير السعر يسيرا الأرش غالبا (3/275)
وكثيرا التخيير ويساقط الدين إلا لمانع وعلى مستعمله منهما إلا بإذن الآخر الأجرة وتصير رهنا ولا تصرف للمالك فيه بوجه إلا بإذن المرتهن فإن فعل نقض كالنكاح إلا العتق والاستيلاد على الخلاف
قوله فصل وهو كالوديعة
أقول يرد أنه كالوديعة في أمر خاص وهي عدم جواز انتفاع المرتهن به وتصرفه فيه لا في جواز حبسه له حتى يستوفي دينه فإن ذلك هو موضع الرهن
وأما قوله أنه في العقد الصحيح فمبني على أنه لا بد من العقد وقد عرفناك أنه لا وجه لذلك
وأما قوله ولو مستأجرا أو مستعارا لذلك فظاهر أنه لا فرق بين كون الرهن ملكا للراهن أو أنه استأجره أو استعاره ليرهنه فإن الكلام واحد في ضمان المرتهن عند من قال بضمانه وإن اختلف الحال فيما بين الراهن ومن استأجر منه الرهن أو استعاره منه
وأما قوله مضمون كله ضمان الرهن إن تلف بأوفر قيمة من القبض إلى التلف فمن ساقط التفريع وزائف الرأي وخبط الاجتهاد يا لله العجب كيف يكون هذا الضمان المشدد المؤكد الذي جاوز حد كل ضمان في الأبواب التي قد حصل فيها سبب من أسباب الضمان الشرعية كالغصب فلو أن رجلا ارتهن عينا وتوثق ببقائها لديه حتى يستوفي دينه ثم تلف بغير جناية ولا تفريط بأمر سماوي فهل يسوغ هذا شرع أو يقبله عقل أو يستحسنه رأي وقد عرفناك أن أموال العباد معصومة بعصمة الإسلام لا يحل لمسلم أن يحلها لغيره أو يستحلها بغير شرع واضح وإلا كان من أكل أموال الناس بالباطل أو تأكيلها وإذا عرفت هذا فلا ضمان على المرتهن إلا لجناية أو تفريط لأنه قد تسبب (3/276)
بذلك إلى تلفها ولا يضمن غير ذلك كائنا ما كان لأنه أخذها بإذن مالكها في حق أثبته له الشرع وهو التوفق ببقائها لديه في دينه الذي انتفع به مالكها
وأما قوله وعلى مستعمله منهما الخ فقد عرفت ما تقدم في فوائد الرهن والركوب استعمال للرهن وقد تقدم النص عليه في الحديث وأما استعماله على وجه ينقص به كلبس الثوب فلا يجوز ذلك للمرتهن فإن فعل لزمه أرش النقض فيما نقص بالاستعمال وأما الراهن فلا يجوز له ذلك لأن الرهن في حبس المرتهن فإن فعل فلا شيء عليه لأنه استعمل ملكه وأما كونه لا ينفذ للمالك فيه تصرف فظاهر لأن تصرفه فيه ببيع أو نحوه يخالف موجب الرهن فإن أذن المرتهن فقد رضي لنفسه بترك حقه المتعلق بالرهن من الحبس له حتى يستوفي دينه فإن فعل كان للمرتهن نقضه وأما استثناء العتق والاستيلاد فالظاهر أنهما لا ينفذان في الحال لأن حق المرتهن سابق لهما فإن انتهى الحال إلى رجوع الرهن للراهن نفذ وإلا فلا يثبت للعبد أو الأمة حكم الحرية ولا تصير أم الولد أم ولد بذلك
فصل
وإذا قارن التسليط العقد لم ينعزل إلا بالوفاء وإلا صح بالموت أو اللفظ وإيفاء البعض أمارة ويد العدل يد المرتهن غالبا وإذا باعه غير متعد للإيفاء أو لرهن الثمن وهو في غير يد الراهن فثمنه وفاء أو رهن مضمون وهو قبل التسليم مضمون غالبا
قوله فصل وإذا قارن التسليط العقد الخ (3/277)
أقول مجرد وقوع التسليط مسوغ للمرتهن أن يبيع الرهن في الوقت الذي عينه له أو مطلقا مع عدم التعيين واشتراط المقارنة ليس إلا لمراعاة الأمور اللفظية التي قد عرفناك غير مرة أنها لا تراعى ولا تؤثر بل التراضي هو المناط الشرعي في المعاملات وما ترتب عليها من التصرفات فإذا قال الراهن للمرتهن إذا لم أوفك بدينك في وقت كذا فالرهن لك به كان ذلك موجبا لثبوت ملكه للرهن ولا يشترط غير ذلك وهكذا إذا قال له إذا لم أوفك بالدين إلى وقت كذا فقد سلطتك على بيع هذا الرهن واستوف من ثمنه دينك كان هذا صحيحا والزائد والناقص يتراجعان فيه وبهذا تعرف أنه لا فرق بين التسليط المقارن للعقد أي لوقت الرهن وبين المتقدم عليه والمتأخر عنه فالكل تجارة عن تراض وإذا سلم الراهن بعض الدين وقبضه المرتهن فقد رضي لنفسه بعدم التسليط على ما يقابل ذلك القدر الذي قبضه فلا يجوز له بيع ما يقابله من الرهن وله بيع ما يقابل الباقي من الدين إذا لم يسلم الراهن ما بقي عليه من الدين
وأما قوله ويد العدل يد المرتهن فينبغي أن يقال إن يده يد لهما فإن تراضيا على أن الفوائد تكون له إلى مقابل نفقة الرهن ونحوها فذاك وإن لم يتراضيا فالفوائد للمرتهن والمؤن عليه على ما قدمنا ولا يجوز له تمكين أحدهما منه إلا بعد تسليم الدين لأن ذلك هو الذي يقتضيه وضعه له على يد العدل
وأما قوله وإذا باعه غير متعد للإيفاء أو لرهن الثمن فثمنه وفاء أو رهن مضمون فظاهر لأنه إذا بيع الإيفاء صار ثمنه مكان دين المرتهن وإن بيع لسبب موجب لبيعه ليكون الرهن هو ثمنه فحكم هذا الثمن حكم الرهن الذي هو ثمن له في الرهنية وليس لهذا الكلام كثير فائدة لا سيما على ما قررناه في هذا البحث (3/278)
فصل
ولا يضمن المرتهن إلا جناية العقور إن فرط وإلا فعلى الراهن إن لم تهدر ولا يخرجه عن صحة الرهنية والضمان إلا أن يجب القصاص أو التسليم والمالك متمكن من الإيفاء أو الإبدال وكذا لو تقدمت العقد ويخرجه عنهما الفسخ وسقوط الدين بأي وجه وزوال القبض بغير فعله إلا المنقول غالبا ط ويعود إن عاد ولا يطالب قبله الراهن ومجرد الإبدال عند م ومن الضمان فقط بمصيره إلى الراهن غصبا أو أمانة أو أتلفه وعليه عوضه لا تعجيل المؤجل وهو جائز من جهة المرتهن وتصح الزيادة فيه وفيما هو فيه والقول للراهن في قدر الدين ونفيه ونفي الرهنية والقبض والإقباض حيث هو في يده والعيب والرد والعين غالبا ما لم يكن المرتهن قد استوفى ورجوع المرتهن عن الإذن بالبيع وفي بقائه غالبا وللمرتهن في إطلاق التسليط والثمن وتوقيته وقدر القيمة والأجل وفي أن الباقي الرهن وبعد الدفع في أن ما قبضه ليس عما فيه الرهن أو الضمين وفي تقدم العيب غالبا وفي فساد العقد مع بقاء الوجه كرهنيته خمرا وهي باقية
قوله فصل ولا يضمن المرتهن إلا جناية العقور إن فرط
أقول هذا صحيح وقد قدمنا أنه لا يضمن إلا ما جنى أو فرط فإذا فرط في حفظ (3/279)
العقور كان هذا التفريط أحد السببين الموجبين لثبوت الضمان عليه وإذا لم يحصل منه تفريط فضمان ما جناه العقور على مالكه وهو الراهن لأن كونه عقورا يوجب ثبوت الضمان عليه وإذا كان الرهن عبدا فجنى ما يوجب القصاص وجب تسليمه للقصاص وإذا اختار المجني عليه الأرش كان متعلقا برقبة العبد ووجب تسليمها إليه
وأما قوله والمالك متمكن من الإيفاء أو الإبدال فوجهه أنه قد تعلق بهذا الرهن حق المرتهن فيحسبه حتى يستوفي دينه أو يبدله الراهن برهن آخر فإن لم يتمكن الراهن من أحد الأمرين استسعى العبد بما تلعق برقبته حتى يوفي ما عليه من أرش الجناية ويبقى رهنا هذا أعدل ما يقال وأحسن ما يقضى به ويكون تعلق المرتهن به مسوغا لمثل ذلك ليحصل الوفاء بالحقين ولا ظلم على العبد فهو إنما استسعي بجناية
وأما قوله ولو تقدمت العقد فلا وجه له فإن تقدم الجناية على الرهن قد أوجب تعلقها برقبة العبد فكان المجني عليه أحق بها ولم يكن إذ ذاك قد عارض هذا الحق في رقبته ما هو حق للمرتهن فالراهن عند رهنه له كأنه رهن ما هو لغيره وأما تعليل ما ذكره بأنه بقي للسيد في العبد تصرف فهذا التصرف الذي بقي على تقدير التسليم لا يبلغ إلى هذا الحد المقتضي لخلاف ما توجبه الجناية المتعلقة بالرقبة
قوله ويخرجه عنهما الفسخ
أقول هذا صحيح لأن المرتهن قد رضي بإسقاط حقه من حبس هذه العين المرهونة إن كان الفسخ بالتراضي وإن كان بالحكم فقد لزمه ما حكم به الحاكم ويجب على الراهن إبدال الرهن أو تسليم الدين وهكذا سقوط الدين بأي وجه لأنه قد زال السبب الذي استحق به المرتهن حبس الرهن
وأما قوله وزوال القبض بغير فعله فوجه ذلك أن الرهن إذا زال قبض المرتهن له بما لا يوجب ضمانة عليه فقد خرج الرهن بذلك عن الرهينة ووجب على الراهن إبداله أو تسليم الدين فإن عاد قبل تسليم الدين عاد عليه حكم الرهن ويرد المرتهن ما أبدله به (3/280)
الراهن إلا أن يتراضيا على رهنية البدل عاد الرهن المبدل إلى ماكله ولا فرق بين المنقول وغيره في هذا فلا وجه لقوله إلا المنقول وبهذا تعرف صحة قول أبي طالب ويعود إن عاد وعدم صحة قوله ولا يطالب قبله الراهن وأما ما حكاه عن المؤيد بالله من أن الرهن يخرج عن الرهنية والضمان بمجرد الإبدال فصحيح إذا تراضيا على ذلك وأما قوله ويخرج عن الضمان فقط بمصيره إلى الراهن غصبا أو أمانة فقد عرفناك أن المرتهن لا يضمن إلا ما جنى أو فرط لأنه صار إليه بإذن الشرع فإذا لم يحصل أحد هذين السببين فالرهن خارج عن ضمانة من الأصل وإن حصل منه أحدهما فالضمان ثابت عليه إلا أن يصير إلى المالك باختياره وعلمه فقد صارت العين إلى مالكها وسيأتي في الغصب أنه يسقط الضمان بمثل هذا ولعله يأتي هنالك إن شاء الله ما يزيد المقام وضوحا وأما كونه يخرج عن الضمان إذا أتلفه الراهن فصحيح وعليه عوضه برهن آخر لأن المرتهن قد استحق حبس الرهن حتى يستوفي دينه فإذا أتلفه الراهن فقد ألزم نفسه العوض ولا يلزمه تعجيل الدين المؤجل لأن له حقا في الأجل الذي تراضيا عليه
وأما قوله وهو جائز من جهة المرتهن فظاهر لا يحتاج إلى ذكره لأنه إذا أسقط حقه من الحبس سقط بل إذا أسقط دينه من الأصل سقط
قوله والقول للراهن في قدر الدين
أقول القول لمنكر الزيادة والبينة على مدعيها ولا وجه لإطلاق كون القول للراهن في القدر وأما كون القول للراهن في نفي الرهنية فصحيح لأن الأصل عدمها لكن إذا كان الرهن قد صار في يد المرتهن كان الظاهر معه والظاهر عندهم مقدم على الأصل وهكذا يكون القول قول الراهن في نفي العيب ونفي الرد لأن الأصل عدمهما
وأما قوله وفي العين ما لم يكن المرتهن قد استوفى فوجه ذلك أن الأصل عدم (3/281)
رد العين المرهونة إلا أن يكون المرتهن قد استوفى دينه فإن ذلك قرينة على عدم بقاء الرهن لديه فيكون الظاهر معه وهكذا يكون القول قول الراهن في نفي رجوع المرتهن عن الإذن بالبيع مع اتفاهما على أصل وقوع الإذن لأن الأصل عدم الرجوع وهكذا يكون القول قول الراهن في بقاء الرهن وعدم تلفه لأن الأصل البقاء
وأما قوله وللمرتهن في إطلاق التسليط فوجهه أن التقييد بوقت معين زيادة والأصل عدمها وأما في التوقيت أي في قدر الوقت فالقول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا في قدر القيمة وقدر الأجل القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا يكون القول قول المرتهن في أن الباقي هو الرهن لأن الأصل بقاؤه على الحالة التي كان عليها والتلف خلاف الأصل وهكذا يكون القول قول المرتهن إذا كان له على الراهن دينان أحدهما فيه رهن أو ضمين والآخر ليس كذلك فقبض أحدهما واختلفا هل المقبوض ما فيه الرهن أو الضمين أو الآخر فإن القول قول المرتهن لأن الراهن يدعي ارتفاع الرهنية أو الضمانة والأصل عدم ذلك
وأما قوله وفي تقديم العيب فغير ظاهر بل الأصل عدم التقدم فالبينة على مدعي التقدم وهكذا ألا يكون القول قول المرتهن في دعوى فساد العقد لأن الأصل عدم ذلك مع كونه يريد بهذه الدعوى إسقاط حق عليه ولكن إذا كان وجه الفساد موجودا فالظاهر معه ويمكن أن يقال إن الأصل عدم وجود هذا الوجه المفسد للرهن قبل التراهن كما تقدم في تقدم العيب (3/282)
- كتاب العارية (3/283)
فصل
هي إباحة المنافع وإنما تصح من مالكها مكلفا مطلق التصرف ومنه المستأجر والموصى له لا المستعير وفيما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه وإلا فقرض غالبا ونماء أصله وإلا فعمرى وهي كالوديعة إلا في ضمان ما ضمن وإن جهله ووجوب الرد ويكفي مع معتاد وإلى معتاد وكذا المؤجرة واللقطة لا الغصب والوديعة
قوله - كتاب العارية هي إباحة المنافع
أقول هذا هو معنى العارية لغة وشرعا واصطلاحا فمن أباح لغيره الانتفاع بملكه فقد أعاره إياه كونها إنما تصح من مالكها فغير محتاج إلى ذكره لأن ما كان بإباحة غير المالك ليس بعارية بل غصب وأما كونه مكلفا مطلق التصرف فصحيح لأن الصبي والمجنون لا يصح منهما العارية وهكذا المحجور عليه لا تصح منه العارية وكان قيد إطلاق التصرف يغني عن قيد التكليف لأن الصبي والمجنون غير مطلقي التصرف وقيد ماكلها يغني عن قوله ولو مستأجرا لأن المستأجر مالك للمنافع ويخرج به أيضا قوله لا المستعير لأنه ليس بمالك لها فلا يحتاجان إلى التنصيص عليهما لأن أحدهما دخل بالمنطوق والآخر خرج بالمفهوم وأما اشتراط أن يكون فيما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه فلا يصدق مسمى العارية إلا على ما كان كذلك لأن ما لا يمكن الانتفاع به أصلا لا فائدة في عاريته وما أمكن الانتفاع به مع إتلاف عينه ليس بعارية بل هبة أو نحوها وأما اشتراط نقاء نماء أصله فلا وجه له بل يكون عارية مع أذنه للمستعير بالانتفاع بالنماء (3/285)
مدة مؤقتة وسيأتي في العمري والرقبى أن المقيدة منها عارية تتناول إباحة الأصلية مع الفرعية
قوله وهي كالوديعة إلا في ضمان ما ضمن
أقول العارية والوديعة لا يضمن المستعير والوديع إلا لجناية منه أو تفريط فإذا أراد صاحبهما تضمينه ورضي لنفسه بذلك فمجرد هذا الرضا مسوغ للتضمين وأما ما يروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا ضمان على مؤتمن كما رواه الدارقطني وفي رواية أخرى للدارقطني بلفظ ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان ففي إسناد اللفظ الأول من لا يقوم به الحجة وأما اللفظ الثاني فقال الدارقطني إنما يروى عن شريج غير مرفوع وفي إسناده أيضا ضعيفان ومع هذا فنحن نقول بموجبهما أنه لا ضمان عليهما لكن إذا جنيا كان الضمان من الجناية وإذا فرطا كان الضمان عليهما من جهة التفريط وذلك جناية لصاحبهما فيصدق على كل واحد منهما أنه مغل وأما حديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه كما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة فلا شك في دلالة الحديث على وجوب الرد وأما دلالته على الضمان على تقدير أن المعنى على اليد ضمان ما أخذت فغير مسلم بل الظاهر أن المعنى على اليد تأدية ما أخذت كما يدل عليه آخر الحديث حتى تؤديه ويمكن أن يكون التقدير على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه وترك الحفظ تفريط يوجب الضمان كما تقدم إذا كان ممكنا والا فلا تفريط وهكذا حديث أد الأمانة إلى من أئتمنك كما أخرجه أبو داود (3/286)
والترمذي وحسنه الحاكم وصححه من حديث أبي هريرة فإنه يدل إلا على مجرد التأدية وأما كونه يضمن إذا ضمن ورضي بذلك فالمناط هو مجرد حصول الرضا فإذا لم يقبل ذلك لم يصح تضمينه ويدل على هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه و سلم استعار منه يوم حنين أدرعا فقال أغصبا يا محمد قال بل عارية مضمونة قال فضاع بعضها فعرض عليه النبي صلى الله عليه و سلم أن يضمنها فقال أنا اليوم في الإسلام أرغب وأما قول المصنف وإن جهله فلا وجه له وأما وجوب الرد فهو كائن فيهما كما عرفت
وأما قوله ويكفي مع معتاد وإلى معتاد فلا فرق بينهما أيضا أنه يكفي في ردهما ذلك
وأما قوله وكذا المؤخرة والقطة لا الغصب والوديعة فاستطراد لما هو خارج عن الباب وقد تقدم بيان من يجب عليه الرد ومن لا يجب عليه وفي الجميع الرد من أحد هؤلاء بنفسه بل رسوله يكفي ومن زعم خلاف ذلك فعليه الدليل
والحاصل أن المعتبر ما يصدق عليه اسم التأدية المذكورة في الحديث السابق بقوله حتى يؤديه ولا شك أن رد ذلك مع معتاد للرد معه وعلى معتاد للرد إليه يصدق عليه أنه تأدية لأن يد الرسول يد مرسلة ويد من ينوب في العادة عن المالك بقبض أملاكه يد له
فصل
وتضمن بالتضمين والتفريط والتعدي في المدة والحفظ والاستعمال وإن زال لا ما ينقص بالانتفاع ويصح فيها مطلقا وعلى الراجع في المطلقة والمؤقتة قبل انقضاء (3/287)
الوقت للمستعير في الغرس والبناء ونحوهما الخياران وفي الزرع الثلاثة إن قصر وتأبد بعد الدفن والبذر للقبر حتى يندرس وللزرع حتى يحصد إن لم يقصر وتبطل بموت المستعير وتصير بشرط النفقة عليه إجارة ومؤقتها بموت المالك قبل انقضاء الوقت وصية والقول للمستعير في قيمة المضمونة وقدر المدة والمسافة بعد مضيهما وفي رد غير المضمونة وعينها وتلفها وأنا إعارة لا إجارة
قوله فصل ويضمن بالتضمين
أقول قد قدمنا الكلام على هذا قريبا وفي الفصل الذس عقده المصنف لذلك في الإجارات وأما كونها تضمن بالتفريط فلما قدمنا من أن ذلك جناية وخيانة ومن جملته التعدي في المدة والحفظ والاستعمال فإن هذا كله تفريط وكان الاقتصار عليه يغني عن هذا التطويل وأما كونه لا يضمن ما ينقض بالانتفاع فلأن ذلك هو موضوع العارية فلو كان مضمونا لم يكن عارية وأما صحة الرجوع فيها فلكونها من باب التكرم والمسامحة وهي ملكه متى شاء استرجعها ولم يوجب فيها ولا في منافعها حقا لازما للغير
قوله وعلى الراجع في المطلقة والمؤقتة قبل انقضاء الوقت الخ
أقول إن كان المستعير مأذونا بالغرس والبناء ونحوهما فلا شك أن المعير قد غره بذلك وأوقعه في الغرم فله الخياران أو الخيارات وإن لم يأذن له بذلك بل أعاره عارية مطلقة أو ذكر له مطلق الانتفاع فلا ينصرف مثل ذلك إلى الغرس والبناء ونحوهما بل إلى الانتفاع بالشجر الموجودة ونحوهما في الأرض عند عاريتها وإن لم يكن فيها شجر ولا ينتفع بها إلا بالزرع كان الإذن المطلق منه متصرفا إلى الزرع إذ لا وجه يحمل عليه العارية ويوجد فيه مطلق الانتفاع في الأرض إلا بالزرع فيثبت للمستعير ما ذكره من (3/288)
الخيارات لأنه مغرور من جهة المعير هكذا ينبغي أن يقال في هذا البحث وأما إطلاق إثبات الخيارات فيما لا يقتضيه الإذن بالانتفاع من غرس أو بناء أو حلية أو ما يشبه ذلك فغير سديد
وأما قوله وتأبد بعد الدفن فلا بد من تقييده بأن المالك أعارة لذلك وأذن له به فإنه بالإذن قد رضي لنفسه ببقاء ذلك القبر في ملكه إذ العرف العام أن الإذن يقتضي ذلك وأما لو أعاره للانتفاع فوقع منه الدفن فينقل الميت من المحل لأن الإذن المطلق لا ينصرف إليه
وأما قوله وللبذر حتى يحصد فقد قدمنا الكلام في الزرع حيث أعاره الأرض للانتفاع بها ولم يوجد وجه للانتفاع بها إلا بالزرع وكلام المصنف ها هنا مبني على الفرق بين دخول الزرع في مطلق الإذن وبين الإذن للمستعير بالبذر مع تقييد الطرف الأول بالتقصير وهذا الطرف بعدمه والأولى ما قدمه من الخيارات في الصورتين جميعا لأنه غاية العدل بين المعير والمستعير لكن إذا حصل التقصير من المستعير حتى تأخر حصاد الزرع عن المدة المسماة كان عليه أجرة بقاء الزرع وأما كونها تبطل بموت المستعير فظاهر لأن المعير أباح منافع ملكه وله ولم يبحها لغيره وأما كونها تصير شرط النفقة عليه إجارة فوجهه أن العارية هي إباحة المنافع بلا عوض وهذا الشرط قد اقتضى العوض ولكن الأعراف قديما وحديثا أن المستعير ينفق على العين المستعارة ويقوم بما يحتاج إليه ما دامت في يده فيكون هذا مقتضيا لبقائها إعارة وعدم مصيرها إجارة
وأما قوله ومؤقتها بموت المالك قبل انقضاء الوقت وصية فوجهه أن قد فعل ذلك وهو مالك للعين وتصرفه نافذ فيها فيكون له حكم ما فعله في أملاكه من النفوذ ولكن لا وجه لقوله وصية بل قد نفذ ذلك في وقته واستحقه المستعير إلا أن يكون في وقت لا ينفذ فيه تصرفاته إلا من باب الوصايا أو أضاف ذلك إلى بعد موته
قوله والقول للمستعير في قيمة المضمونة
أقول القول في ذلك قول نافي الزيادة والبينة على مدعي الزيادة لأن الأصل (3/289)
عدمها وهكذا قدر المدة والمسافة القول قول نافي الزيادة من غير فرق بين المضي وعدمه لأن المعير وإن كانت دعواه تستلزم أن يكون المستعير غاصبا فدعوى المسعير تلزم إثبات حق له في ملك الغير والأصل عدمه فالرجوع إلى الأصل وهو عدم الزيادة أولى وهذا على تقدير أن المعير ما أراد الرجوع بهذه الدعوى أما لو أراده كان ذلك له من غير تداع
وأما قوله وفي رد غير المضمون فوجهه أنه أمين فيما لا ضمان فيه فيكون القول قوله بخلاف المضمون فإنه فيه ليس بأمين فعليه البينة وهكذا يكون القول قول المستعير في رد عين العارية لأنه أمين وهكذا في تلفها
وأما قوله وأنها إعارة لا إجارة فمع النزاع بينهما في ذلك لا يصح أن يقال إن المدعي للإعارة أمين وحينئذ فهو يدعي إثبات حق له في تلك العين ومدعي الإجارة يدعي إثبات الأجرة عليه فكل واحد منهما مدع ومدعي عليه وليس أحدهما بقبول قوله أولى من الآخر فيرجع إلى البينة أو التحالف (3/290)
- كتاب الهبة (3/291)
فصل
شروطها الإيجاب والقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض وتلحقه الإجازة وإن تراخي وتكليف الواهب وكون الموهوب مما يصح بيعه مطلقا وإلا فلا إلا الكلب ونحوه ولحم الأضحية والحق ومصاحب مالا تصح هبته فيصح وتمييزه بما يميزه للبيع
قوله فصل وشروطها الإيجاب والقبول الخ
أقول الهبة هي أن يتكرم على غيره بنصيب من ماله عن طيبة نفس فإذا وقع هذا فهي الهبة الشرعية ولا يشترط في ذلك إيجاب ولا قبول ولا مجلس بل إن قبله الموهوب له ورضي بمصيره إليه ولو بعد مدة مهما كان الواهب باقيا على ذلك العزم فهذه هبة صحيحة وليس في الشرع ما يدل على ألفاظ مخصوصة ولا على مجلس ولا على قبض ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك فهو مطالب بالدليل وأما كونه الهبة تلحقها الإجازة فهذه الإجازة على نفس الهبة لما عرفناك غير مرة أن تصرف الفضولي لا يصح وإن أجازة المالك لما فعله هو نفس التصرف الذى اقتضى نقل الملك ما مالك إلى مالك وأما اشتراط تكليف الواهب فأمر لا بد منه لأن الهبة تصرف في المال والتصرف فيه لا يصح إلا من جائز وجائز التصرف لا يكون إلا مكلفا وأما كون الموهوب مما يصح بيعه فليس المراد إلا أن يكون مما يصح تملكه للموهوب له وأما استثناء الكلب فلا وجه له (3/293)
لأنه مما لا يصح تملكه فلا يصح بيعه ولا هبته ولا وجه لاستثناء لحم الأضحية لأن يصح تملكه وتمليكه كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال لأهل الضحايا كلوا وادخروا وائتجروا
وأما قوله والحق فقد عرفناك فيما سبق أن الفرق بين الحقوق والأملاك وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت عليه إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل
وأما قوله ومصاحب ما لا يصح هبته فقد قدمنا أنه إذا انضم إلى جائز البيع غيره صح بيع ما يجوز بيعه وبطل بيع لا يجوز بيعه وأنه لا وجه لتعدي البطلان مما لا يصح بيعه إلا ما يصح بيعه
وأما قوله وتمييزه بما للبيع فالمعتبر بأن يكون معلوما عند الواهب والموهوب له جملة أو تفصيلا فلو وهبه شيئا مجهولا عندهما ثم فسره من بعد كانت الهبة صحيحة
فصل
ويقبل للصبي وليه أو هو مأذونا لا السيد لعبده ويملك ما قبله وإن كره قوله فصل ويقبل للصبي وليه الخ (3/294)
أقول هذا صحيح لأن الهبة للصبي فيها مصلحة له إذا لم تشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة وأما ما وهب للعبد فهو في الحقيقة هبة لسيده عند من يقول إن العبد لا يملك وأما عند من يقول إنه يملك فالقبول إليه لا إلى سيده وأما كونه يملك السيد ما قبله العبد وإن كره فذلك مبني على القول الأول ولكن إذا كره لم تصح الهبة وترجع لمالكها لأن هذا الباب مبني على التراضي
فصل
وتصح بعوض مشروط مال فتكون بيعا ومضمر وغرض فيرجع لتعذرهما وفورا في المضمر وله حكم الهبة لا البيع إلا في الربا وما وهب لله ولعوض فللعوض وليس على الراجع ما أنفقه المتهب
قوله مثل ويصح بعوض مشروط
أقول الهبة شرعا ولغة هي التي تكون على جهة المكارمة إذا وقعت المكافأة عليها فذلك أيضا على جهة المكارمة وأما إذا كانت مشروطة بعوض فليس هذه هبة شرعية ولا لغوية بل هذه مبايعة خارجة عن باب الهبة داخلة في باب البيع فتكون كما قال المصنف بيعا فإذا لم يحصل العوض المشروط كان ذلك كعدم تسليم ثمن المبيع فترجع العين لمالكها لفقدان التراضي الذي هو المناط الشرعي كما تقدم وهكذا إذا كان العوض مضمرا وغرضا فإنه إذا لم يحصل رجع الملك لمالكه لأن ذلك كشف على عدم التراضي وطيبة النفس وأما اشتراط الفور فلا جه له لأنه مهما لم يحصل العوض المضمر ولا وقع منه الرضا بمصيره إلى الموهوب له بغير عوض فالملك باق له لفقدان المناط الشرعي وهو التراضي وأما كون للموهوب على عوض مضمر حكم الهبة (3/295)
لا حكم البيع فمن بناء أحكام الشرع على الخيال تارة هكذا وتارة هكذا تأثيرا لمجرد الألفاظ
قوله وما وهب لله ولعوض فللعوض
أقول لا مانع من جعل بعض الشيئ هبة خالصة لا عوض فيها وبعضها هبة بعوض فيكون للبعض الأول أحكام الهبة وللبعض الآخر أحكام البيع وأما استدلال من استدل لكلام المنصف بحديث إن الله يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك فليس المراد بهذا إلا أنه لا يقبل من الأعمال ما كان على جهة الرياء وليس من هذا هبة بعض الشيء خالصا لله وهبة البعض الآخر بعوض فإن الله سبحانه لم يشاركه غيره فيما هو له ولا فرق بين جعل كل الشيء أو بعضه هبة ولا ورد ما يدل على المنع من ذلك
أما قوله وليس على الراجع ما أنفقه المتهب فلا وجه له لأنه غرم لحقه بسببه وقد بطل المطلوب من تملك الموهوب فيرجع عليه بما أنفق لأنه انكشف أنه أنفق على مالك الواهب وقد أثم الراجع عن الهبة وصار كالكلب يعود في قيئة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم فلا يحل ما وقع منه من التغريم للموهوب له نعم إذا كان الموهوب له قد علم بأنها لا تطيب نفس الواهب إلا بالعوض المضمر أو كان العوض مشروطا وحصل منه عدم الوفاء بالعوض فهو الجاني على نفسه بعدم تسليم العوض وبالانفاق على ما لم يخلص له ملكه (3/296)
فصل
وبلا عوض فيصح بالرجوع مع بقائهما في عين لم تستهلك حسا أو حكما ولا زادت متصلة ولا وهبت لله أو لذي رحم محرم أو يليه بدرجة إلا الأب في هبة طفله وفي الأم خلاف وردها فسخ وتنفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث ويلغو شرط ليس بمال ولا غرض وإن خالف موجبها والبيع ونحوه ولو بعد التسليم رجوع وعقد
قوله فصل وبلا عوض فيصح الرجوع فيها
أقول قد قدمنا حكم الهبة بعوض وأنها لا يحل للموهوب له إلا بالعوض المشروط أو المضمر وإلا كانت ردا على الواهب لأن الرضا الذي هو المناط الشرعي مقيد بحصول العوض ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن عب الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل ابن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة مرفوعا الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها قال ابن حجر والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال البخاري هذا أصح ورواه الدارقطني من هذا الوجه ورواه البيهقي من حديث ابن وهب عن حنظلة عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر عن عمر من وهب هبة يرجو ثوابها فهي (3/297)
رد على صاحبها ما لم يثبت منها قال البيهقي ورواه عبد الله بن موسى عن إبراهيم ابن إسماعيل عن حنظلة مرفوعا قال ابن حجر صححه الحاكم وابن حزم
وأما الهبة بلا عوض فاعلم أن أصل معنى الهبة عدم انقضاء العوض لأنها من باب المكارمة فلو لم يرد فيها ما يدل على امتناع الرجوع فيها لكان هذا الأصل يكفي فكيف وقد يثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه وفي لفظ للبخاري ليس لنا مثل السوء فإن هذا الحديث المشمل على هذا التشبيه المفيد للتكريه للرجوع بأبلغ ما يكرهه الإنسان وأعظم ما تنفر عنه نفوس بني آدم يدل أبلغ دلالة على عدم جواز الرجوع فيها ومما يدل على عدم جواز الرجوع ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس وابن عمر رفعاه إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده والحلال ضد الحرام كما ثبت في اللغة فالرجوع عن الهبة حرام إلا هبة الوالد لولده فإن الشرع قد سوغ له الرجوع كما في هذا الحديث ويؤيده حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا وصححه حبان وأبو زرعة ويؤيده أيضا ما أخرجه أحمد وأبو دواد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال (3/298)
إن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن الجارود ويؤيده أيضا ما أخرجه ابن ماجه من حديث جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك قال ابن القطان إسناده صحيح وقال المنذري رجاله ثقات وفي الباب أحاديث قال ابن حجر في الفتح وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب الجمهور إلا هبة الوالد لولده قال الطبري يخص من عموم الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك انتهى
ومن الهبة التي يراد بها العوض وإن لم تذكر هبة الفقير للغني فإنه لا يراد بمثل ذلك المكارمة عرفا بل استجلاب الفائدة بزيادة على ما يحصل للفقير لو باعها وأما هبة الغني للفقير فملعوم أنه لا يراد بها العوض فلا يكون له الرجوع وهكذا الهبة الواقعة بين المتماثلين غنى وفقرا
أما قوله مع بقائهما فظاهر لا يحتاج إلى تعليل عند مثبتي الرجوع وأما عند غيرهم فبطريق الأولى وهكذا قوله لم تستهلك حسا أو حكما أو زادت زيادة متصلة
وأما قوله ولا وهبت لله فليس في هذا مزيد تأثير لامتناع الرجوع وإن كان المصنف قد ادعى الإجماع عليه
وأما قوله أو لذي رحم فليس في هذا التخصيص من المرفوع شيء ما روي عن (3/299)
بعض الصحابة لا تقوم به الحجة فالحق امتناع الرجوع على كل حال بالأدلة التي قدمنا ذكرها إلا الأب في الهبة لولده فإنه يجوز له الرجوع فيها كما قدمنا ولا فرق بين أن يكون الولد صغيرا أو كبيرا
وأما قوله وفي الأم خلاف فلا يخفاك أن الحديث المشتمل على الاستثناء هو بلفظ الوالد فإن كان يصدق على الأم كما يصدق الولد على الأنثى فالأم كالأب وإن كان لا يقال على الأم إلا بطريق التغليب فهي داخلة في الاستثناء ويؤيد هذا ما في المصباح قال الوالد الأب وجمعه بالواو والنون والوالدة الأم وجمعها بالألف والتاء والوالدان الأب والأم للتغليب انتهى ويؤيده أيضا الحديث المتقدم بلفظ أنت ومالك لأبيك
قوله وردها فسخ
أقول هذا مبني على أنه قد وقع العقد إيجابا وقبولا كما تقدم للمصنف فإذا ردها بعد هذا كان الرد فسخا للعقد الواقع بينهما أما لو ردها ابتداء فلا يقال لهذا الرد فسخ لأنه لم يتقدم شيء يصدق عليه مسمى الفسخ بل هذا الرد يوجب عدم ثبوت مقتضى الهبة من الأصل أما عند المصنف فلعدم القبول الذي هو أحد جزئي العقد وأما عندنا فلعدم التراضي من الجهتين الذي هو المناط الشرعي في نقل الأملاك
قوله وينفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث (3/300)
أقول الهبة إخراج قطعة من المال لمن وهبها له مالكه والكلام في نفوذها مع عدم المانع لا شك فيه وأما التفصيل بين ما كان منها في الصحة وما كان في المرض فمبني على أن الهبة في المرض لها حكم الوصية كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الثلث والثلث كثير ولكن تنزيل غير الوصية من التصرفات منزلة الوصية إذا وقعت حال المرض سيأتي الكلام فيه في الوصايا إن شاء الله تعالى والظاهر نفوذ تصرف المالك في ملكه صحيحا أو مريضا من جميع ماله وينبغي له مع هذا أن لا يدع ورثته عالة يتكففون الناس كما ورد في الحديث فلا يجوز له أن يتصرف بكل ماله لأنه إذا فعل ذلك فقد خالف قوله صلى الله عليه و سلم لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص والقصة معه ولكن هذا الحديث ليس فيه إلا مجرد بيان ما هو الأولى والأفضل وليس بعزيمة ومثله حديث خير الصدقة ما كان على ظهر غنى كما في الصحيحين وغيرهما من حديث حكيم بن حزام وفي الباخري من حديث أبي هريرة نحوه
وأما قوله ويلغو شرط ليس بمال ولا عرض وإن خالف موجبها فلا يخفاك أن يقال الشرط من الواهب يدل على أن الرضا منه منوط بحصول ذلك الشرط فإذا لم يحصل كشف ذلك عن عدم الرضا وإن كان ليس بمال ولا عرض وإن رفع موجبها
وأما قوله والبيع ونحوه الخ فمبني على ما قدمه المصنف من جواز الرجوع في الهبة بغير عوض وقد قدمنا رد ذلك بالأدلة المتقدمة (3/301)
فصل
والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول وعدم اقتضاء الثواب وامتناع الرجوع فيها وتكره مخالفة التوريث فيهما غالبا والجهاز للمجهزإلا لعرف والهدية فيما ينقل تملك بالقبض وتعوض حسب العرف وتحرم مقابلة لواجب أو محظور مشروط أو مضمر كما مر ولا تصح هبة عين لميت إلا إلى الوصي لكفن أو دين والقول للمتهب في نفي الفساد غالبا وشرط العوض وإرادته في التالف وفي أن الفوائد من بعدها إلا لقرينة وأنه قبل إلا أن يقول الشهود بها ما سمعناه أو الواهب وهبت فلم تقبل واصلا كلامه عند م
قوله فصل والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول
أقول القبض ينوب عن القبول في الهبة كما ينوب في الصدقة وأصل الهبة أنها لا تقتضي الثواب كما قدمنا فإن اقتضته فذلك لشرط مظهر أو مضمر ويخرج عن باب الهبة ويصير من باب البيع
قوله وتكره مخالفة التوريث فيهما
أقول الأدلة القاضية بتحريم تخصيص بعض الأولاد بشيء دون البعض الآخر أوضح من شمس النهار فمن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم في هبة بشير لولده النعمان (3/302)
دون سائر أولاده قال له إخوة قال نعم قال فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته قال لا قال فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق وهكذا اللفظ في صحيح مسلم وغيره وفيه التصريح بأن ذلك لا يصلح في الشريعة المطهرة وهو معنى بطلانه وفيه أيضا التصريح بأنه غير حق وغير الحق باطل وفي لفظ عند أحمد من هذا الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال لا تشهدني على جور فسماه جورا والجور باطل وهذه الألفاظ هي في حديث جابر الذي حكى فيه قصة هبة النعمان من أبيه بشير وفي - الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان نفسه قال إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال فأرجعه ففي هذا الأمر بإراجاع الهبة وليس على هذا زيادة وقد تكلف المجوزون لتخصيص بعض الأولاد بالهبة دون بعض بأجوبة أجابوها من عشرة وجوه ذكرناها في شرح المنتقي ودفعنا ما يستحق الدفع منها فليرجع إليه والحاصل أنه ليس في المقام ما يدفع ما ذكرناه من الروايات الدالة على تحريم التخصيص وأنه باطل مردود غير حق
قوله والجهاز للمجهز إلا لعرف
أقول هذا صحيح لأن خروج الشيء عن ملك مالكه لا يكون إلا بما يقتضي خروجه من وجود التراضي بينه وبين من خرج إليه فإن لم يحصل ذلك فالملك باق وإذا جرت الأعراف بأن ما وقع التجهيز به يصير ملكا لمن وقع التجهيز له فهذا العرف هو في حكم المقصود لهما المتراضى عليه بينهما فكأنه عند التجهيز قد أخرج ذلك عن ملكه بطيبة من نفسه إذا كان هذا عرفا عاما بحيث لا يوجد عرف يخالفه
قوله والهدية فيما ينقل تملك بالقبض (3/303)
أقول الهدية تملك بالتراضي وطيبة النفس وإن كانت باقية في يد المهدي ولو بقيت في يده أعواما فإنها قد صارت في يد المهدي إليه ولا فرق بين منقول وغيره ويجوز له التصرف فيها وهي يد المهدي إلا بما يشترط في القبض كما تقدم في النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده ولما لم يكن في قبضه ومن قال إنه يشترط في ملك الهدية القبض فعليه الدليل والحاصل أنه لا فرق بين الهبة والهدية في عدم اشتراط القبض وأما ما أخرجه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل إلى النجاشي بهدية فمات النجاشي قبل وصولها إليه فرجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلا يصلح للاستدلال به على اشتراط القبض لأناقد عرفناك أن الهدية إنما تملك بالتراضي من الجهتين فهي قبل أن تبلغ إلى المهدي إليه باقية على ملك المهدي حتى يبلغ خبرها إلى المهدي إليه ويرضى بها فتصير حينئذ ملكا له والنجاشي مات قبل أن تصل إليه الهدية وقبل أن يبلغه خبرها ويرضى بها
قوله ويعوض حسب العرف
أقول لما كانت المهاداة مبنية على المكارمة واستجلاب المودة كان من تمام ذلك أن تقع المكافأة عليها فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل الهدية ويثبت عليها وإذا كان المهدي طالبا للمكافأة قاصدا بها ذلك كما يكون في كثير من الحالات من الفقراء إلى الأغنياء فهذه ليست هدية يراد بها ما يراد بالهدايا من استجلاب المودة واتحاد القلوب كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في الأدب المفرد والبيهقي أنه صلى الله عليه و سلم قال تهادوا تحابوا قال ابن حجر في التلخيص وإسناده حسن وأخرجه مالك في الموطأ من حديث عطاء الخراساني مرفوعا وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة إنما هي ذريعة إلى استجلاب الإحسان (3/304)
من الأغنياء والملوك فيكون لها حكم الهبة بعوض مظهرا أو مضمرا وقد تقدم والمهدي إليه بالخيار إما ردها أو كافأ عليها مكافأة يرضى بها صاحبها كما أخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح وابن حبان وصححه من حديث ابن عباس أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه و سلم هبة فأثابه عليها قال أرضيت قال لا قال فزاده قال أرضيت قال لا فزاده قال أرضيت قال نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بنحوه وطوله والترمذي وذكر أن الثواب كان ست بكرات وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم وبعض ألفاظ هذا الحديث ورد بلفظ الهدية وبعضها بلفظ الهبة وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال وأيم الله لا أقبل هدية بعد يومي هذا من أحد إلا أن يكون مهاجرا قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا وأما كون الهدية تحرم على واجب أو محظور فظاهر والوجه في ذلك ما تقدم في حلوان الكاهن وفي مهر البغي وما ورد في تحريم الرشوة وفي هدايا الأمراء فإن الهدية للأمير والقاضي وكذلك الهبة له رشوة وإن كانت مسماة باسم الهدية والهبة وأما كونها لا تصح هبة عين لميت فوجهه فقدان ما قدمنا من وقوع التراضي من الجهتين وهكذا لا يصح إسقاط الدين عنه بل إسقاطه عنه إسقاط عن ورثته لأنه قد تعلق بعد موته بتركته وأما التبرع بالالتزام به عن الميت كما وقع من امتناعه صلى الله عليه و سلم من الصلاة على المديون حتى التزم عنه بعض الحاضرين فوجه ذلك أن الإثم الذي كان لاحقا للميت بترك القصاء قد قام به غيره فسقط عنه ما كان عليه من العقوبة ولهذا يقول صلى الله عليه و سلم الآن بردت عليه جلدته ولا فائدة (3/305)
لقوله إلا إلى الوصي لكفن أو دين لأن هذا إن كان هبة للوصي ليكفن به الميت أو ليقضي دينه فلا شك أن ذلك صحيح لأن الموهوب له حي يقبل الهبة ويرضى بها وإن كان المراد أن الهبة تصح للميت بوساطة الوصي فلا يصح ذلك لأن تمليك الميت باطل سواء كان بواسطة أو بغير واسطة
قوله والقول للمتهب في نفي الفساد
أقول لأن الأصل عدمه بعد وجود المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا القول قوله في نفي شرط العوض لأن الأصل عدم الشرط وعدم إرادته وأما تقييد المصنف لذلك بالتالف فلا وجه له بل لا فرق بين أن يكون الموهوب باقيا أو تالفا لأن الأصالة المذكورة متحققة فيهما وأما كون القول قوله في أن الفوائد من بعد الهبة إلا لقرينة فينبغي أن يقال إن كانت تلك الفوائد مما لا يمكن حدوثها بعد الهبة كان القول للواهب وإن كانت مما لا يمكن وجودها قبل الهبة كان القول للمتهب وإن حصل الاحتمال فثبوت يد المتهب عليها موجب لكون القول قوله
وأما قوله وأنه قبل فلا وجه له بل ينبغي أن يكون القول قول الواهب في نفي القبول على ما تقدم للمصنف من اعتبار العقد سواء قال الشهود ما سمعنا أو لم يقولوا وسواء وصل والواهب كلامه أو فصله لأن الأصل عدم القبول
فصل
والعمرى والرقبى مؤيدة ومطلقة هبة يتبعها أحكامها ومقيدة عارية تتناول إباحة الأصلية مع الفرعية إلا الولد إلا فوائده والسكنى بشرط البناء إجارة فاسدة ودونه عارية يتبعها أحكامها (3/306)
قوله فصل والعمرى والرقبي الخ
أقول الأحاديث الواردة في العمرى والرقبى تدل على أنها هبة للمعمر والمرقب وتورث عنه فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال العمرى ميراث لأهلها أو قال جائزة وفي الصحيحين أيضا من حديث جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرى لمن وهبت له وفي صحيح مسلم وغيره نم حديث جابر أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا وأخرج وأبو داود والنسائي من حديث زيد بن ثابت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته لا ترقبوا من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان وفي لفظ لأحمد والنسائي من هذا الحديث جعل الرقبى للذي أرقبها وفي لفظ لأحمد جعل الرقبي للوارث وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عباس بإسناد صحيح العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن (3/307)
أرقبها وأخرج أحمد والنسائي أيضا بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته فهذه الأحاديث تدل على أن العمرى المؤبدة والمطلقة وكذلك الرقبي تقتضي الملك وتورث عمن جعلت له وورد ما يدل على أن العمرى التي تكون للمعمر ولعقبه هي التي يقال فيها له ولعقبه كما في لفظ من حديث جابر من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر وعقبه أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه وفي لفظ لأبي داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبله فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود عن جابر قال إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها وفي رواية للنسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي أنها لمن أعطيها ولعقبه وأخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث جابر أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء قال فأبى فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسمها بينهم ميراثا فهذه الروايات كلها عن حديث جابر ومن قوله قد اختلفت كما ترى فإن الروايات الأولى عنه دلت على أن العمرى التي تورث هي ما قيل فيها له ولعقبه والحديث الآخر المروي من طريقة في الرجل (3/308)
الذي جعل لأمه الحديقة حياتها فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنها لورثتها تدل على خلاف ذلك
فالحاصل أنه إذا قيل في العمرى والرقبى لك ولعقبتك كانت تمليكا لمن وقعت له ولمن بعده وإن قال أعمرتك أو أرقبتك فظاهر الأحاديث التي ذكرناها أنها تمليك له وتورث عنه وما روى عن جابر فقد اختلف ما هو مرفوع منه وما كان مدرجا فلا حجة فيه فيجب الرجوع إلى سائر الأحاديث وهي كما عرفت مصرحة بأنها ملك له ولورثته فكان حكم هذه المطلقة عن ذكر العقب حكم ما ذكر فيها العقب وهكذا المؤيدة إذا قال أعمرتك أبدا أو أرقبتك أبدا فإنها تمليك كما يدل عليه لفظ التأبيد وأما إذا كانت مقيد بمدة معلومة كأن يقول أعمرتك أو أرقبتك هذا عشر سنين أو عشرين سنة فإنه لا يستحق إلا ذلك المقدار لأنها لم تطب نفسه إلا بذلك القدر وهكذا لو اشترط كان يقول أعمرتك هذا ما عشت فإذا مت رجع إلي فإنه يرجع إليه عند موت المعمر أو المرقب فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال في العمرى والرقبى والعمرى المؤقتة يستحق صاحبها جميع الفوائد الحاصلة في العين ولا وجه لاستثناء المصنف للولد إلا أن يستثنيه من وقعت منه أو يجري عرف يكون في حكم المنطوق به وأما السكنى بشرط البناء فإذا وقع التراضي على ذلك كان صحيحا ولا يقدح في الصحة مجرد الجهالة لأن لكل واحد منهما أن يتركها متى شاء كما تقدم تقريره وأما بدون هذا الشرط فلفظ الإشكال قد تضمن إباحة المنافع وهذه الإباحة عارية وقد تقدمت أحكامها (3/309)
- كتاب الوقف (3/311)
فصل
يشرط في الواقف التكليف والإسلام والاختيار والملك وإطلاق التصرف وفي الموقوف صحة الانتفاع به مع بقاء عينه ولو مشاعا ينقسم أو جميع مالي وفيه ما يصح وما لا كأم الولد وما منافعه للغير وما في ذمة الغير ولا يصح تعليق تعيينه في الذمة ولا تلحقه الإجازة كالطلاق وإذا التبس ما قد عين في النية بغيره فبلا تفريط صار للمصالح وبه قيمة أحدهما فقد وفي المصرف كونه قربة تحقيقا أو تقديرا
وفي الإيجاب لفظه صريحا أو كناية مع قصد القربة فيهما وينطلق بها أو بما يدل عليها مع الكناية
أعلم أن ثبوت الوقف في هذه الشريعة وثبوت كونه قربة أظهر من شمس النهار ولهذا قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين انتهى وأما ما يروي عن أبي حنيفة من أن الوقف لا يلزم فقد خالفه في ذلك جميع أصحابه إلا زفر وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال لو بلغ أبا حنيفة لقال به انتهى وقد قرر صلى الله عليه و سلم وقف عمر ورغب الصحابة في وقف بئر (3/313)
رومة فاشتراها عثمان ووقفها وأمر أبا طلحة أن يجعل أحب أمواله إليه في الأقربين وقال صلى الله عليه و سلم أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله وقال إذا مات الإنسان انقطع علمه إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وهذه أحاديث صحيحة معروفة وثبت وقوع الوقف من جماعة من الصحابة بعد موته فالعجب مما قام في وجه هذه الشريعة الواضحة والسنة القائمة بما يحكى عن ابن عباس أنه قال لا حبس بعد نزول سورة النساء مع أن هذا لم يثبت عنه من طريق معتبرة وما قيل من أنه أخرجه عنه البيهقي في الشعب ففي إسناده من لا تقوم به الحجة ومع هذا فهو اجتهاد صحابي ليس بحجة على أحد على أن مراده شيء آخر غير الوقف وهو أنها لا تحبس فريضة عمن أعطاها الله سبحانه كما يدل عليه قوله لا حبس بعد نزول سورة النساء ولو قدرنا أنه يريد الوقف لكان محجوبا بالأدلة الصحيحة وبإجماع الصحابة
قوله فصل يشترط في الواقف التكليف والإسلام
أقول أما اشتراط التكليف فلكون غير المكلف محجورا عن التصرف في ماله بما فيه عوض كالبيع ونحوه فكيف بما لا عوض فيه وأما اشتراط الإسلام فقد تقرر أن الوقف قربة من القرب الموجبة لعظيم الثواب والكافر غير متأهل لذلك فإن فعل فليس هذا الذي فعله هو الواقف الشرعي الذي نحن بصدده وليس الكلام إلا الوقف الشرعي
وأما اشتراط أن يكون الموقوف مما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه فلكونها لا توجد ماهية الوقف إلا فيما كان كذلك لأن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل فوائده (3/314)
وأما قوله ولو مشاعا فظاهر لأن الأصل عدم المانع وقد طول جماعة الكلام في وقف المشاع استلالا وردا وكله في غير طائل وهكذا تصح الصورة التي ذكرها وهي وقف جميع المال وفيه ما يصح ولا لا يصح لأن وجود ما لا يصح وقفه فيما تناوله الوقف لا يصلح أن يكون مانعا لصحة وقف ما يصح وقفه فيصح ما يصح ويبطل ما يبطل كما قدمنا على قوله ومتى انضم إلى جائز البيع غيره فسد
وأما قوله ولا يصح تعليق تعيينه في الذمة فوجهه عدم استقرار ما وقع الوقف عليه وليس مثل هذا ينبغي أن يكون مانعا من الصحة فإنه إذا قال وقفت أرضا من الأراضي التي أملكها كان متقربا واقفا بمجرد صدور هذا منه وبعد ذاك التعيين إليه في أي أرض أراد من أملاكه ومن زعم أن في هذا الوقف مانعا يمنع من صحته فالدليل عليه وإن لم يكن إلا مجرد الرأي المبني على الهباء فرأيه رد عليه
وأما قوله ولا تلحقه الإجازة فلا وجه له لأن الإجازة نفسها هي التي حصل بها الوقف كما قدمنا مثل هذا في غير موضع
وأما قوله وإذا التبس ما قد عين في النية الخ فوجهه أن ذلك الغير الذي وقع الالتباس به قد صار أحد محتملات ما تعلقت به القربة فصارا جميعا للمصالح وهذا الوجه غير وجيه بل ينبغي أن يقال اختياره الذى كان عند إنشاء الوقف هو باق الآن معه فيعين أيهما شاء بعد الالتباس وليس هذا الالتباس موجبا لخروج ملكه المتقين المعصوم بعصمة الإسلام وقد قدمنا على قوله ومتى اختلطت فالتبست أملاك الأعداد ما فيه كفاية
قوله وفي المصرف كونه قربه الخ
أقول هذا الوقف الذي جاءت به الشريعة ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه هو الذي يتقرب به إلى الله عز و جل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة لأن ذلك خلاف (3/315)
موضوع الوقف المشروع لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله كائنا ما كان فمن وقف مثلا على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحا لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة أن في كل كبد رطبة أجرا ومثل هذا لو وقف على من يخرج القذاة من المسجد أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طرقهم فإن ذلك وقف صحيح لورود الأدلة الدالة على ثبوت الأجر لفاعل ذلك فقس على هذا غيره مما هو مساو له في ثبوت الأجر لفاعله وما آكد منه في استحقاق الثواب وأما الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز و جل فهو باطل من أصله لا ينعقد بحال وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله بل أراد المخالفة لأحكام الله عز و جل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز و جل وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف به كيف يشاء وليس أمر غناء الورثة ولا فقرهم إلى هذا الوقف بل هو إلى الله عز و جل وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا بحسب اختلاف الأشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك من هذا النادر أن يقف على من تمسك بطرق الصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خلاصا والقربة متحققة والأعمال بالنيات ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده واتضاه لهم أولى وأحق
قوله وفي الايجاب لفظه الخ
أقول المعتبر ما فيه دلالة على هذه القربة وعلى طيبة النفس بصرف ذلك المال إلى هذا الوجه بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولو بإشارة من قادر على النطق كما قد (3/316)
قررنا هذا في غير موضع من هذا الكتاب
وأما قوله مع قصد القربة فهو الركن الأعظم الذي تدور عليه دوائر الصحة أو البطلان وليس النطق بالقربة معتبرا بل المراد القصد لذلك عند إرادة فعل هذه الخصلة الصالحة والصدقة الجارية والحبسة الدائمة والثواب المستمرة النفع
فصل
ولا يصح مع ذكر المصرف إلا منحصرا ويخصص أو متضمنا للقربة ويصرف في الجنس ويغني عن ذكره ذكر القربة مطلقا أو قصدها مع التصريح فقط ويكون فيهما للفقراء مطلقا وله بعد تعيين المصرف وإذا عين موضعا للصرف أو للانتفاع تعين ولا يبطل المصرف بزواله
قوله فصل ولا يصح مع ذكر المصرف إلا منحصرا
أقول مقصود الوقف الذي يصح عنده هو قصد التقرب إلى الله عز و جل فإذا كان المصرف توجد فيه أو في بعضه القربة بالصرف إليه فالوقف صحيح ويصرف في الذي فيه القربة لا فيمن لا قربة فيه ولا وجه لاشتراط الانحصار أصلا فإن القربة إذا كانت موجودة في غير المنحصر لم يبق شك في صحة الوقف وعدم وجود المانع من صحته فإن أراد بهذا الكلام أنه لا يصح الوقف مع ذكر المصرف وعدم ذكر القربة إلا إذا كان منحصرا لأنه إذا كان المنحصر في الحال لا قربة فيه كالأغنياء فقد توجد القربة بافتقار من يفتقر منهم أو انتقاله عنهم إلى من بعدهم ممن ليس بغني فإن كان مراده هذا فما أقل فائدة هذا الكلام مع عدم دلالة كلامه عليه (3/317)
وأما قوله ويخصص فوجهه أنه قد صار لكل واحد من المصرف المنحصرين حق في ذلك الوقف
وأما قوله أو مضمنا للقربة فظاهر كأن يقول وقفت هذا على الفقراء أو على المجاهدين ويصرف في حبس المتصفين بتلك الصفة وقد أطال المصنف في غير طائل وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول ولا يصح إلا مع قصد القربة ويخصص في المنحصر
وأما قوله ويكون فيهما للفقراء مطلقا فلا وجه له بل يكون لأي صنف من الأصناف التي توجد فيهم القربة أو في الأفراد من كل هذه الأصناف أو بعضها للقطع بأن الصرف في المجاهدين أو فك أسرى المسلمين إذا لم تكن القربة فيه أظهر من مطلق الفقراء فهو مثله
وأما قوله وله بعد تعيين المصرف فظاهر لأنه مع عدم التعيين في الابتداء مفوض في صرف وقفه في أي مصرف شاء وهكذا قوله وإذا عين موضعا للصرف أو الانتفاع تعين لأن له أن يختار لنفسه ما أراد ولا حجر عليه
وأما قوله ولا يبطل المصرف بزواله فيرجع في ذلك إلى ما يعرف من قصده فإن عرف من قصده أن هذا الموضع المعين إذا زال صرف في موضع آخر مماثل له فلا يبطل المصرف بزواله كمن يقف على إطعام من يرد من الغرباء إلى مكان كذا فإنه ينقل إلى إطعام من يرد منهم إلى موضع آخر مماثل له وإن عرف من قصده أنه إذا لم يبق ذلك الموضع عاد لورثته فإنه يعود إليهم فإن التبس علينا مقصده فالأولى أن يصرف إلى المصرف في موضع آخر مماثل لذلك الموضع لأن في هذا الصرف بقاء الوقف واستمرار النفع للواقف (3/318)
فصل
ويصح على النفس والفقراء لمن عداه إلا عن حق فلمصرفه والأولاد مفردا لأول درجة بالسوية ومثنى فصاعدا بالفاء أو ثم لهم ما تناسلوا ولا يدخل الأسفل حتى ينقرض الأعلى إلا لأمر يدخله كالواو عند م ومتى صار إلى بطن بالوقف فعلى الرؤوس ويبطل تأجير الأول ونحوه لا بالإرث فحبسه ولا يبطل والقرابة والأقارب لمن ولده جد أبويه ما تناسلوا والأقرب فالأقرب لأقربهم إليه نسبا والأستر للأورع والوارث لذي الإرث فقط ويتبع في التخصيص وهذا الفلاني المشار إليه وإن انكشف غير المسمى
قوله فصل ويصح على النفس
أقول إن ذكر بعد نفسه ما يكون قربة كأن يقول على نفسه ثم على الفقراء أو نحو ذلك فهذا صحيح ويحمل في وقفه على نفسه على مقصد صالح له وذلك بأن يقصد منع نفسه من بيع ذلك الذي جعله وقفا حتى يكون وقفا متقربا به إلى الله ولا يحصل مثل هذا القصد بإضافته للوقف إلى بعد موته ولأنه قد يعرض له من الحاجة ما يسوغ له بيعه مع عدم نجاز الوقف ومع هذا فقد تكون القربة متحققة بوقفه على نفسه فقط وذلك بأن يقصد استمرار الانتفاع به ما دام في الحياة وقصر نفسه على أن يبيعه ويحتاج (3/319)
إلى الناس بعد بيعه
قوله والفقراء لمن عداه
أقول هذا هو الظاهر في المحاورات بين الناس ومخاطبات بعضهم لبعض وإن كان جمهور أهل الأصول قائلين بدخول المخاطب في خطاب نفسه
وأما قوله إلا عن حق فلمصرفه فوجهه ظاهر لأن ذكر الحق مشعر بأن المراد بالوقف الصرف في مصارف ذلك الحق
وأما قوله والأولاد مفردا لأول درجة بالسوية فوجهه أن ذكره لأول درجة يدل على استوائهم في ذلك فيقسم بينهم بالسوية ويصير ما بيد كل واحد إلى ورثته سواء عينهم أو أطلق إلا أن يقصد أنه يكون لهم حتى ينقرض للآخر منهم ثم يعود لورثتهم فإنه لا حق للورثة إلا بعد انقراض الآخر ثم يصير لورثتهم جمعيا فأعرف أنه لا بد من القصد في مثل هذا ولا تغتر بما يذكره المفرعون في هذا المقام من أن الوقف على المعينين من الأولاد كل واحد منهم بموته ويقال لهذا وقف عين وأن الوقف على أولاده من غير تعيين تبقى فيهم حتى ينقرض الآخر ويعود لورثتهم ويقال لهذا وقف جنس
وأما قوله ومثنى فصاعد بالفاء أو ثم لهم ما تناسلوا فلا بد أن يقيد هذا بأنه عرف من قصده أنه أراد الأولاد ثم أولادهم ثم من بعدهم طبقة بعد طبقة أما لو قال أولادي ثم أولادهم واقتصر على هذا فإنه لا يتناول من بعد هاتين الطبقتين بل تشترك فيه الطبقة الأولى ثم الطبقة الثانية يصير نصيب كل واحد إلى ورثته كما قدمنا والعموم الكائن في قوله ثم أولادهم هو باعتبار أهل تلك الطبقة المضافة إلى الأولاد باعتبار كل من يحدث من الطبقات الكائنة بعدهم
قوله والقرابة والأقارب لمن ولده جد أبويه
أقول القرابة والأقارب معروفان في لغة العرب مدونان في كتب اللغة فإن كان (3/320)
ثم عرف تعين عليه حمل كلام الواقف فهو مقدم لأن كلامه لا يكون إلا على العرف الجاري بين أهل عصره وقد قسم النبي صلى الله عليه و سلم سهم ذوي القربي المذكور في قوله تعالى وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ولرسول ولذي القربي بني بتين هاشم وبني المطلب فعاتبه بعض بني أمية في إدخال بني المطلب في القسمة وإخراج بني أمية مع كونهم في القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم سواء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مبينا لهم وجه التخصيص لبني المطلب بأنهم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام فكان هذا هو المقتضي لدخولهم مع بني هاشم ولم يدخلوا لكونهم من ذوي القربى
وأما قوله والأقرب فالأقرب لأقربهم إليه نسبا فوجهه أن هذا العطف الكائن بين صيغتي التفصيل يدل على اعتبار الأقرب إلى الواقف ثم الأقرب فيقدم أقربهم إليه ثم من يليه ثم كذلك
وأما قوله والأستر للأورع فوجهه أن التمسك بالورع قد أخذ بأعلى أنواع الستر إلا أن يجري عرف يحمل عليه كلام الواقف بخلاف ذلك فهو مقدم
وأما قوله والوارث لذي الإرث فظاهر لأنه لا يريد إلا من يرثه بغير واسطة فإن قصد ما هو أعم من ذلك وجرى به عرفه وعرف أهل بلده حمل كلامه عليه
وأما قوله وهذا الفلاني الخ فلا وجه له وإن كانت الإشارة أقوى لكن المقاصد هي المعتبرة فإن قصد المسمى ولم يرد غيره فلا يتناول هذا التركيب من أشار إليه لأنه لا يخرج ماله عن ملكه إلا بطيبة من نفسه فلا يكون إلا لمن قصده (3/321)
فصل
ويعود للواقف أو وارثه بزوال مصرفه ووارثه أو شرطه أو وقته وتورث منافعه ويتأبد مؤقته ويتقيد بالشرط والاستثناء فيصح وقف أرض لما شاء ويستثنى غلتها لما شاء ولو عن أي حق فيهما وإلا تبعت الرقبة قيل ولا تسقط ما أسقطت وله أن يعين مصرفها
قوله فصل ويعود للواقف أو وارثه بزوال مصرفه ووارثه
أقول الوقف تحبيس مؤيد ورجوعه إلى الواقف ووارثه عند انقطاع مصرفه يخالف التحبيس والتأبيد فإن قلت إذا زال مصرفه الذي وقفه عليه الواقف فماذا يكون وإلى أين يصير قلت ينبغي أن يصرف في مصرف مماثل لذلك المصرف الذي كان الصرف إليه كما يقتضيه قوله صلى الله عليه و سلم لعمر إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها وفي لفظ حبس أصلها وسبل ثمرتها فبقاء العين الموقوفة على ما يوجبه الوقف هو معنى التحبيس وزوال مصرفه لا يرفع هذا التحبيس لأنه تحبيس مطلق ولو كان مقيدا ببقاء المصرف لم يكن وقفا وسيأتي للمصنف أن رقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله محبسة للانتفاع فكيف يعود ما قد صار ملكا لله للواقف أو وارثه وهكذا لا يعود بزوال شرطه لأن هذا شرط يخالف موجب الوقف ويرفعه وهكذا لا يصلح قوله أو وقته (3/322)
لأن التوقيت يخالف ما يقتضيه الوقف من التحبيس المؤبد وقد حمل هذا على وقت الصرف لا وقت الوقف لما سيأتي للمصنف من قوله ويتأبد مؤقته وهكذا لا تورث منافعه لأن منافع ما قد صار محبسا لله عز و جل تحبيسا مؤبدا هي لله عز و جل
وأما قوله ويتأبد مؤقته فظاهر ولا يكون وقفا إلا بذلك
وأما قوله ويتقيد بالشرط فمعناه أنه إذا قيد إيقاع الوقف منه بشرط تقيد كأن يقول إن شفى الله مريضي فقد وقفت كذا وهكذا يتقيد بالاستثناء لأنه ملكه فيخرج منه بالاستثناء ما شاء ومن هذا قوله ويصح وقف أرض لما شاء ويستثني غلتها لما شاء وبعد أن يستوفي المصرف الذي استثنى الغلة له ما هو عليه من زكاة أو مظلمة أو نحوهما أن يعين مصرف الوقف ولا مانع من ذلك
فصل
ومن فعل في شيء ما ظاهره التسبيل خرج عن ملكه كنصيب جسر وتعليق باب في مسجد لا نحو قنديل ولا اقتطاع أو شراء بنيته له ومتى كملت شروط المسجد صح الوقف عليه وهي أن يلفظ بنية تسبيله سفلا وعلوا أو يبنيه ناويا ويفتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء مع كونه في ملك أو مباح محض أو حق عام بإذن الإمام ولا ضرر فيه ولا تحول آلاته وأوقافه بمصيره في قفر ما بقي قراره فإن ذهب عاد لكل ما وقف وقفا
قوله فصل ومن فعل في شيء ما ظاهره التسبيل خرج عن ملكه (3/323)
أقول ليس بمثل هذا تخرج أموال العباد المعصومة بعصمة الإسلام عن أملاكهم ولا قائل يقول إن مجرد القرينة يقتضي الأملاك وغاية ما في هذا حصول قرينة أنه قد وقف ذلك الشيء الذي فعله في المسجد ونحوه من مصحف أو نحوه فلا بد أن يعلم أنه قد أخرج ذلك علن ملكه وتقرب به وإلا فهو باق على ملكه والأصل عدم الوقف وعدم التسبيل ومثل هذا نصب الجرس وتعليق الباب في المسجد وهكذا تعليق القنديل حكمه حكم تعليق الباب ولا وجه للفرق بينهما وأما اقتطاع الخشب بينة كون ذلك وقفا وهكذا شراء شيء بنية كون ذلك وفقا فالظاهر أنه قد صار بهذه النية وقفا لأن النية هي التي يصير بها الوقف وقفا ولا اعتبار بالألفاظ كما قدمنا غير مرة فإذا أقر بوقوع هذه النية منه لم يقبل منه الرجوع عنها
قوله ومتى كملت شروطا لمسجد صح الوقف عليه
أقول يصح الوقف عليه ولو قبل كمال شروطه بل ولو قبل أن يعمر لأن التعليق للوقف بوقت مستقبل صحيح ولا مانع عنه من شرع ولا عقل وغايته أنه يتوقف نجاز الوقف على تمام المسجد
وأما قوله وهي أن يلفظ بنية تسبيله سفلا وعلوا فلا وجه لاشتراط اللفظ بل المعتبر حصول التراضي بمصيره مسجدا مسبلا ولو كان الدليل على هذا الرضا مجرد إشارة من قادر على النطق أو كتابة دالة على ذلك
والحاصل أن اشتراط الألفاظ المخصوصة في هذا وغيره جمود لا وجه له من رواية ولا رأي وقد اصاب المصنف حيث قال أو يبنيه ناويا فإن هذه النية هي التي لا تعتبر غيرها وأما اشتراط أن يفتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء فمبني على أنه لا يكون مسجدا إلا ما كان هكذا وليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل المسجد الذي يعمر خاصا بأهل قرية أو بعض قرية أو ملك الباني ليصلي فيه هو وأهله هو مسجد وحكمه حكم غيره (3/324)
من المساجد وإن كانت الصلاة فيه الجماعات أكثر ثوابا بالحديث صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أفضل كذلك ما كثرت الجماعة ومعلوم أن هذه الفضيلة لا تستلزم أن ما دون هذا المسجد الذي تكثر فيه الجماعات لا يكون مسجدا لا شرعا ولا عقلا ولا عادة
وأما قوله مع كونه في ملك فلا بد من ذلك لأن الإنسان لا يتقرب بغير ما هو مملوك له ومثله المباح الذي لا يتعلق به حق لأحد لأن بناء المسجد فيه تحجر له وقد قدمنا أن التحجر يفيد الملك كما يفيده الإحياء وأما الحق العام فلا بد من وجود المصلحة الراجحة وعدم وجود مفسدة على أهل الحق فإذا كان كذلك جاز للإمام أن يأذن له ببنائه وإلا فلا
قوله ولا تحول آلاته وأوقافه الخ
أقول هذا جمود يخالف ما فيه المصلحة للواقف وما فيه المصلحة للمصرف فإن مصير المسجد إلى هذه الحالة وهو كونه في قفر لا يصلي فيه أحد يكون بقاء آلاته فيه واستمرار أوقافه عليه من إضاعة المال التي صح النهي عنها ومن إحرام الواقف ما يصل إليه من الصدقة الجارية ومن إحرام طائفة من المسلمين للانتفاع بهذه الآلات وبهذه الأوقاف في مسجد آخر مماثل لهذا المسجد فالعجب من استحسان مثل هذا الرأي والجزم به في المؤلفات التي هي دواوين علم الشرع
وأما قوله فإن ذهب قراره عاد لكل ما وقف وقفا فقد عرفناك فيما سلف عند قوله ويعود للواقف ما هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه إلى غيره (3/325)
فصل
ولكل إعادة المنهدم ولو دون الأول ونقضه للتوسيع مع الحاجة وظن إمكان الإعادة ولا إثم ولا ضمان وإن عجز ويشرك اللحيق في المنافع وللمتولي كسب مستغل بفاضل غلته ولو بمؤنة منارة عمرت منها ولا يصير وقفا وصرف ما قيل فيه للمسجد أو لمنافعه أو لعمارته فما يزيد في حياته كالتدريس إلا ما ما قصره الواقف على منفعة معينة وفعل ما يدعو إليه وتزيين محرابه وتسريحه لمجرد القراءة ونسخ كتب الهداية ولو للناخ لا لمباح أو خاليا ومن نجسه فعليه أرش النقص وأجرة الغسل ولا يتولاه إلا بولاية فإن فعل لم يسقطا
قوله فصل ولكل اعادة المنهدم الخ
أقول عقل كل عاقل يستحسن هذا فكيف بما يدل عليه قواعد الشرع الكلية المبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد فإن ترك المنهدم على أنهدامه مفسدة ظاهرة على الواقف وعلى من يقصد ذلك المسجد من المسلمين وعمارته مصلحة واضحة لهم فإن وجد في أوقاف هذا المسجد ما يقوم بعمارته أو عمارة ما هو دونه فذلك متوجه على من إليه ولاية أوقافه وسيأتي للمصنف أنها تصرف غلة الوقف في إصلاحه وإذا لم يكن في أوقاف هذا المسجد ما يمكن عمارته فلا شك أن عمارته وإعادته إلى حالته أو دونها قربة ومثوبة وأقل أحول ذلك الندب لا كما تدل عليه عبارة المصنف من مجرد الجواز (3/326)
وأما قوله ونقضه للتوسيع مع الحاجة فهذا وإن كان فيه مصلحة من جهة ففيه مفسدة من جهة أخرى هي كون الواقف أراد بالوقف أن يكون الثواب خاصا به وقد صار الآن مشتركا بينه وبين غيره لأنه قد صار مشتركا معه في أوقافه وأيضا تزداد هذه المفسدة بأن يكون الذي أراد التوسيع ممن يظن عجزه عن التمام وماذا يفيد الواقف الأول مجرد ظنه لإمكان الإعادة
وأما قوله وللمتولي كسب مستعمل بفاضل غلته فهذا وجهه ظاهر لكن ينبغي أن يكون ذلك وقفا كأصله فإنه يصدق على هذا أنه من فروع الوقف وسيأتي للمصنف أن رقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله محبسة للانتفاع
وأما قوله ولو بمؤنة منارة الخ فما كان أغنى المصنف عن التعرض لهذه الصورة النادرة فإنه إنما يحسن ذكر ما يترتب على ذكره فائدة لا ما كان معلوما من الكلام مفهوما منه أوضح انفهام
قوله وصرف ما قيل فيه هذا للمسجد الخ
أقول هذا صحيح إذا لم يفهم من قصد الوقف أنه أراد شيئا معينا ولهذا قال المصنف إلا ما قصره الواقف على منفعة معينة
وأما قوله وفعل ما يدعو الناس إليه فلا شك أن في ذلك مصلحة يعود على الواقف بتكثير ثوابه لكن بشرط أن لا يكون ذلك مما لا يجوز لا كما قال المصنف وتزيين محرابه فإن هذا التزيين هو من المباهاة التي وردت في حديث أنس عن أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ولفظ النسائي من هذا حديث من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المسجد وهو أيضا من الزخرفة (3/327)
التى ورد فيها أنها من صنيع اليهود والنصارى وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أمرت بتشييد المساجد قال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى ومما يدل على كراهة تزيين قبلة المسجد على الخصوص بشيء يلهي المصلي ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه و سلم دعاه بعد دخوله الكعبة فقال إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي
وأما قوله وتسريحه فقد أفاده ما تقدم من قوله ما يزيد في حياته كالتدريس فإن التسريح يزيد في حياته بجلب الناس إليه للقطع بأن الناس إلى مسجد فيه سراج أرغب منهم إلى مسجد مظلم وقد أذن صلى الله عليه و سلم ببعث زيت لتسريح مسجد بيت المقدس كما في سنن أبي داود
قوله ومن نجسه فعليه أرش النقص وأجرة الغسل
أقول هذا صحيح لأنه معتد للتنجيس وإن كان الأمر أوسع من هذا لحديث الأعرابي الذي دخل المسجد فبال فيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم صبوا عليه ذنوبا من ماء وهو في صحيح ولو يقل قم يا اعرابي فاغسل بولك وأما كونه لا يتولى ذلك إلا بولاية فهذا تشدد في غير موضعه والأمر أيسر من ذلك وقد زاد المصنف في التشديد فقال فإن فعل لم يسقط فإن هذا المنجس للمسجد قد فعل ما عليه وأصلح ما أفسد فكيف لا يسقط عنه أرش النقص وأجرة الغسل (3/328)
فصل
وولاية الوقف إلى الواقف ثم منصوبة وصيا أو واليا ثم الموقوف عليه معينا ثم الإمام والحاكم ولا يعترضا من مر إلا لخيانة أو بإعانة وتعتبر الدالة على الأصح ومن اعتبرت فيه ففسق عادت ولايته الأصلية بمجرد التوبة كالإمام والمستفادة كالحاكم بها مع تجديد التولية والاختبار م إلا الوصي قبل الحكم بالعدل فكالإمام وتبطل تولية أصلها بموته ما تدارجت وإن بقي الوسائط لا العكس ومن صلح لشيء ولا إمام فعله بلا نصب على الأصح
قوله فصل وولاية الوقف إلى الواقف الخ
أقول وجه هذا أنه لما قصد بذلك الوقف أن يكون صدقة جارية له وثمرة يستفيد ثوابها حيا وميتا كانت هذه العلاقة التي هي الثمرة المستفادة من الوقف مقتضية لأن يكون للواقف ومن يلي من جهته مدخلا فيما فيه جلب مصلحة للوقف ودفع مفسدة عنه ولا نيافي ذلك كون الرقبة قد صارت لله محبسه للانتفاع بها كما قررناه فيما سبق لأن هذه العلاقة التي للواقف ومن يلي من جهته هي مقدمة على من له ولاية عامة من إمام أو حاكم وأما ولاية الموقوف عليه فلكونه المستحق لمنافع الوقف فجلب مصالحه ودفع مفاسده هو أخص الناس به فلا يبعد أن يقال إن هذه العلاقة للموقوف عليه مقدمة على العلاقة التي للواقف فإن الثواب الصائر إلى الواقف هو أثر من أثار هذه الفوائد الصائرة إلى الموقوف عليه وإذا لم يوجد واقف ولا موقوف عليه أو وجدا وهما لا يصلحان لذلك فالنظر إلى الإمام والحاكم وإذا لم يعلم الواقف عليه على ما تقتضيه المصلحة ويوجبه (3/329)
العدل فلهما أن يرادهما إلى الصواب ويبطلا ما وقع من تصرفاتهما مخالفا لطريقه الحق
قوله وتعتبر العدالة علىالأصح
أقول هذه الولاية على الوقف لا بد فيمن هي إليه من أن يكون ساعيا في جلب مصالحه ودفع المفاسد عنه ومن أعظم المفاسد أن يكون خائنا غير أمين ومعلوم أن من لم يتنزه عن محظورات الدين ويتساهل عن القيام بفرائضه لا يؤمن في الأموال فاعتبار العدالة فيمن أنيطت به هذه الولاية أمر لا بد منه وحق على الإمام والحاكم أن ينزعا يد من لم يكن كذلك فإنه وإن سعى في مصالح الوقف أبلغ سعى فإنه مظنة للخيانة لأن الأمور الدينية متساوية الأقدام ومن خان الله في بعضهما لا يؤمن في البعض الآخر
قوله ومن اعتبرت فيه ففسق الخ
أقول هذا كلام يشمل جميع الولايات مع الفرق بين الولاية الأصلية والمستفادة ولا يخفاك أن حدوث أمر في العدل يوجب سلب العدالة عنه وإن لم يكن فسقا هو مانع من القبول المشروط بالعدالة ومن بقاء الولاية المشروطة بها فلا بد من تحقق عدمه على وجه يحصل به انثلاج القلوب واطمئنان الخواطر بأن ملكة العدالة قد عادت لذلك الشخص كما كانت قبل حدوث هذا المانع فإذا حصل هذا صار عدلا يجوز له أن يباشر ما كان يباشره قبل حدوث ذلك المانع ولا يحتاج إلى تجديد تولية لأن انعزاله وبطلان ولايته مشروطان باستمرار ذلك المانع وقد ذهب ولم يستمر وليس لمن إليه الولاية المستفادة منه أن يأبى من قبوله ويصمم على نزع يده إلا إذا لم ينشرح صدره بعدالته المتجددة لأمر بنبغي التوقف عنده لا لمجرد الشك والوسوسة
قوله وتبطل توليه أصلها الإمام بموته الخ
أقول هذه الولاية من الإمام الواقعة لشخص من الأشخاص في أمر من الأمور إن (3/330)
كانت مقيدة بمدة حياته كان وجه بطلانها هو انقضاء الوقت الذي هي مقيدة به وأما إذا كانت مطلقة غير مقيدة لبطلانها بموت الإمام لأنها ولاية واقعة من أهلها مصادفة لمحلها ولا دليل بيد من قال ببطلانها لا من رواية ولا من دراية والأصل عدم حدوث المانع كما أن الأصل عدم ارتفاع المقتضى ولو كان مجرد موت الإمام مؤثرا لبطلان ولاية من من جهته لكان موت من عقد الإمامة للإمام من رؤس المسلمين مؤثرا لبطلان ولاية الإمام وارتفاع إمامته واللازم باطل بإجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم فالملزوم مثله
قوله ولمن صلح لشيء ولا إمام فعله الخ
أقول جاء المصنف رحمه الله بهذه الكلية لما قدمه من الكلام في عموم الولايات وإن كان محل الجميع كتاب السير وينبغي أن تعلم أن نصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله صلى الله عليه و سلم ثم وقوعه بالفعل بعد موته صلى الله عليه و سلم من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك والأحقون به لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لا سيما على العلماء فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه وقال في الآية التي بعدها إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويلعنهم اللاعنون فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه
والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من نصيب الأئمة هو أمر أولهما وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه (3/331)
طوعا وكرها وثانيهما تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم وقسمة أموال الله فيهم وأخذها ممن هي عليه وردها فيمن هي له وتجنيد الجنود وإعداد العدة لدفع من أراد أن يسعى في الأرض فسادا من بغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم من التسلط على ضعفاء الرعية ونهب أموالهم وهتك حرمتهم وقطع سبلهم ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديار الإسلام وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاق المسلمون ذلك ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به فهذا هو موضوع الإمام الذي ورد الشرع بنصبه وعلى المسلمين إخلاص الطاعة له في غير معصية الله وامتثال أوامره ونواهيه في المعروف غير المنكر وعدم منازعته وتحريم نزع أيديهم من طاعته إلا أن يروا كفرا بواحا كما وردت بذلك الأدلة المتواترة التي لا يشك في تواترها إلا من لا يعرف السنة المطهرة وإذا كان الأمر هكذا فليس ها هنا ما يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام ببيان حجج الله والإرشاد إلى فرائضه والزجر عن مناهيه ولا يصلح وجود الإمام مسقطا لذلك لكنه إذا قام بشيء منه وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم معدودة في أهم تكليفاتهم لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به وشرعه لعباده وهكذا العلماء فإنه بعد دخولهم في هذا التكليف دخولا أوليا مخاطبون بتكليف البيان على الوجه الذي ذكرناه وإذا تقرر لك مجموع ما ذكرناه عرفت الصواب ولم يبق بينك وبين دركه حجاب
فصل
وللمتولي البيع والشراء لمصلحة والبينة عليه إن نوزع فيها ومعاملة نفسه بلا عقد والصرف فيها وفي واحد أو أكثر ودفع الأرض ونحوها إلى المستحق للاستغلال (3/332)
إلا عن حق فيؤجرها منه ثم يقبض الأجرة ويرد بنيته قيل أو يبريه كالإمام يقف ويبريء من بيت المال وتأجيره دون ثلاث سنين والعمل بالظن فيما التبس مصرفه ولا يبيع بثمن المثل مع وقوع الطلب بالزيادة ولا يتبرع بالبذر حيث الغلة عن حق ولا يضمن إلا ما قبض إن فرط أو كان أجيرا مشتركا وتصرف غلة الوقف في إصلاحه ثم في مصرفه وكذلك الوقف عليه ثم في مصرف الأول ومن استعمله لا بإذن واليه فغاصب غالبا وعليه الأجرة وإليه صرفها إلا ما عن حق فألى المنصوب
قوله فصل وللمتولي البيع والشراء لمصلحة
أقول بل عليه ذلك مع تيقن المصلحة ولا يجوز له الإخلال به وإذا كان عدلا مرضيا فقد نفذ تصرفه ولا يقبل منازعته وقد تقدم أن القول له في مصلحة وبيع سريع الفساد إلى آخر كلام المصنف وقد ذكرنا هنالك ما ينبغي الرجوع إليه من هنا ولا مانع له من معاملة نفسه ولا من الصرف إليها لأن عدالته تقتضي أنه لا يفعل ذلك إلا لوجه مطابق وكذا له الصرف في واحد أو أكثر على حسب ما تقتضيه المصلحة وهكذا دفع الأرض إلى المستحق إلى آخر كلام المصنف فإن هذا كله تقتضيه الولاية التي قام بها العدل المستحق لما وليه وهكذا الإبراء منه عن الحق الواجب فإن له ذلك
وأما قوله كالإمام يقف ويبريء من بيت المال فلا يخفاك أن بيت المال هو بيت مال المسلمين وهم المستحقون له وليس له إلا تفريق ذلك بينهم ويأخذ لنفسه ما يستحقه من الأجرة فليس له أن يفعل فيه ما يحول بينه وبين المستحقين إلا أن يكون في ذلك مصلحة راجحة عائدة عليهم في الوقف والإبراء فهو الناظر في مصالح المسلمين
قوله وتأجيره دون ثلاث سنين
أقول لا وجه لهذا التقدير بل إذا كانت المصلحة في استمرار التأجير وتطويل مدته (3/333)
كان ذلك هو الذي ينبغي فعله وإن اقتضى الحال تقليل مدة الإجارة لمصلحة عائدة على الوقف كان له ذلك وأما تعليل التقرير بهذه المدة بأنه يخشى على الوقف أن يدعي المستأجر له أنه ملكه فما أبعد هذا التجويز فإن الأوقاف تشتهر وتظهر حيث لا تلبيس بالأملاك بعد المدة الطويلة فإن كان هذا التجويز مما يحصل مثله لمن إليه الولاية فعل ما تقتضيه المصحلة وأما العمل بالظن فيما التبس مصرفه فذلك جائز للمتولي إذا لم يبق إلى اليقين سبيل وهكذا لا يبيع بثمن المثل مع وقوع الطلب بالزيادة لأن في الزيادة جلب مصلحة للوقف ما لم يعارضها مفسدة مقدمة عليها وهكذا ليس له أن يتبرع بالبذر حيث الغلة عن حق ولا وجه لتخصيص هذه الصورة بالتنصيص عليها جوازا أو منعا بل عليه أن يفعل ما فيه مصلحة خالصة غير معارضة بما هو أرجح منها كائنا ما كان يترك ما لا مصلحة فيه كائنا ما كان وأما كونه لا يضمن إلا بالتفريط فظاهر وهكذا يضمن ما جنى عليه ولا وجه لقوله أو كان أجيرا مشتركا وقد قدمنا الكلام على الأجير المشترك فليرجع إليه
وأما قوله ويصرف غلة الوقف في إصلاحه فوجه ذلك ظاهر لأن الرقبة مقدمة على كل شيء إذ بصلاحها تدم الفائدة العائدة على المصرف والواقف ثم ما فاض عن ذلك صرف في مصرفه الذي عينه الواقف وحكم الوقف على الوقف حكم الوقف
وأما قوله ومن استعمله لا بإذن واليه فغاصب فوجه ذلك أنه أقدم إلى استعمال ما لم يأذن له الشرع باستعماله فهو كما لو أقدم على استعمال ملك الغير وما لزمه بالغصب كان إلى والى الوقف يصرفه فيما فيه مصلحة وليس إلى هذا الغاصب صرف ولا غيره (3/334)
فصل
ورقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله حبسه للانتفاع فلا ينقض إلا بحكم ولا توطأ الأمة إلا بإنكاح وعلى بائعه استرجاعه كالغصب فإن تلف أو تعذر فعوضه لمصرفه وإن لم يقفه وما بطل نفعه في المقصود بيع لإعاضته وللواقف نقل المصرف فيما هو عن حق وفي غيره ونقل مصلحة إلى أصلح منها خلاف ويستقر للعبد ما وقف عليه بعتقه وقبله لسيده ومن وقف بعد موته فله الرجوع وينفذ في الصحة من رأس المال وفي المرض والوصية على الورثة كالتوريث وإلا فالثلث فقط ويبقى الثلثان لهم وفقا إن لم يجيزوا م ويصح فرارا من الدين ونحوه
قوله فصل ورقبة الوقف النافذ وفروعه الخ
أقول قد قدمنا تقرير هذا والاستدلال عليه عند قوله ويعود إلى الواقف أو وارثه فلا نعيده ها هنا
وأما قوله فلا ينقص إلا بحكم حاكم فوجهه أن الحاكم العارف بمواقع الصلاح ومواطن الفساد والموازن بين الأمور المتعارضة بما تقتضيه الأدلة وتوجبه قواعد الشريعة لا يحكم إلا بما هو مطابق للحق موافق للصواب فحكمه حجة وعليه أيضا الوجه وبيان المستند حتى يرجع إلى حكمه كل واقف عليه
وأما قوله ولا توطا الأمة إلا بإنكاح فوجهه أن مجرد وقفها لا يحلل وطأها وهذا معلوم في الشريعة المطهرة لأن الوقف تحبيس لا تمليك ورقيمته ملك لله وأما كون على بائع الوقف استرجاعه فظاهر لأن باع ما لم يأذن له الشرع ببيعه بل ما حرم عليه (3/335)
بيعه ومنعه منه فعليه استرجاعه إن كان قد ثبتت عليه يد المشتري وليس ها هنا ما يطلق عليه اسم البيع ولا ما يصدق عليه حكمه فلهذا كان في يد من هو في يده كالغصب
وأما قوله فإن تلف أو تعذر فعوضه لمصرفه وإن لم يفقه فوجهه ظاهر لأن هذا العوض يصير كما كان عليه المعوض في كونه وقفا على المصرف المعين من الوقف وليس بغيره فيه حق
قوله وما بطل نفعه في المقصود بيع لإعاضته
أقول إذا بطل نفع الوقف لم يبق فيه فائدة للواقف بالثواب الذي هو صائر إليه ولا للمصرف بالانتفاع به فإن ترك كذلك باطل النفع ذاهب الفائدة كان ذلك من أعظم التفريط من المتولى فواجب عليه أن يستدرك الأمر ببيعه بحسب الإمكان ويشتري بثمنه عوضا يكون وقفا كما كان وإن قل وتحقرت فائدته فإن الإعمال وإن قل خير من الإهمال وهذا وجه ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال عليه
وأما قوله وللواقف نقل المصرف فيما هو عن حق فوجهه أم أمر ذلك إليه كما يقتضيه جعله عن حق وله أن يصرف ما عليه من الحق إلا من اختاره من المصارف أو إلى هذا تارة وإلى هذا أخرى وأما فيما كان عن غير حق فقد صار للمصرف المعين بحكم الوقف عليه فلا ينقل إلا لسبب يقتضي ذلك
قوله ونقل مصلحة إلى أصلح منها خلاف
أقول قد تقرر أن الوقف ملك لله محبس للانتفاع به وما كان هكذا فلا ينظر فيه إلى جانب الواقف إلا من جهة العناية بمصير ثواب وقفه إليه على أكمل الوجوه وأتمها مهما كان ذلك ممكنا ومعلوم أن الاستبدال بالشيء إلى ما هو أصلح منه باعتبار الغرض المقصود من الوقف والفائدة المطلوبة من شرعيته حسن سائغ شرعا وعقلا لأنه جلب مصلحة خالصة عن المعارض وقد عرفناك غير مرة أن من عرف هذه الشريعة كما ينبغي وجدها (3/336)
مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد وها هنا قد وجد المقتضى وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية وانتفاء المانع وهو وجود المفسدة فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال
وأما قوله ويستقر للعبد ما وقف عليه بعتقه فوجهه أن العبد لا يملك وهذا على قول من قال بذلك وأما من قال إنه يملك فيستقر عليه من عند وقوعه
قوله ومن وقف بعد موته فله قبله الرجوع
أقول هذه الإضافة إلى بعد الموت لا تسوغ الرجوع لأن الوقف تصرف من الإنسان في ماله لقصد التقرب إلى الله به وإخراج لرقبته عن ملكه وتصييرها ملكا لله عز و جل وتحبيس للأصل وتسبيل للرقبة فمجرد الإضافة إلى بعد الموت لا تكون مسوغة للرجوع لأن الإيقاع بطيبة من النفس ورضا من القلب قد وقع فلا بد لمن قال بأن مجرد الإضافة إلى بعد الموت مسوغة للرجوع من دليل يدل على جواز إبطال هذا التصرف وإرجاعه إلى ما كان عليه من كونه ملكا لمن قد تصرف به والقول بأن ذلك وصية دعوى مجردة بل هذا وقف وقع من أهله مصادفا لمحله وغاية من توجبه الوصية على تسليم ما ذكروه في شأنها من أن ما كان مضافا منها إلى بعد الموت ينفذ من الثلث أن يكون هذا الوقف نافذا من الثلث وأما جعل الرجوع فيه جائزا على الإطلاق فلا هو موافق للدليل ولا لما بنوا عليه كثيرا من هذه التفريعات من القواعد التى نزلوها منزلة الأدلة خبطا وجزافا ومن هذا الخبط قوله وينفذ في الصحة من رأس المال الخ وسيأتي الكلام على هذه القاعدة في الوصايا إن شاء الله تعالى
قوله ويصح فرارا من الدين ونحوه
أقول قد عرفناك فيما سبق أن الركن الأعظم والسبب الأكبر في صحة وقف الواقفين هو قصد القربة الصحيحة الخالصة عن الشوائب وما لا يوجد فيه ذلك فليس بوقف بل هو من التلاعب بأحكام الله ومن خلط الأحكام الشرعية بالأحكام الطاغوتية وكيف يصح وقف هذا الذي فر من الواجبات التي أوجبها الله عليه ما لم يوجبه عليه ولا طلبه (3/337)
منه بل ولا أذن له به فإنه إنما أذن لعباده بالوقف الذي يكون سببا إلى التقرب إليه وطلب ما عنده من الخير وأين هذا من ذاك والحاصل أن القائل بجواز هذا الوقف مع تصريحه بأن الحامل عليه هو الفرار من قضاء الدين الذي هو على العبد من أهم الواجبات وأضيقها قد غلط أقبح الغلط وجوز ما تحرمه الشريعة تحريما لا شك فيه ولا شبهة (3/338)
- كتاب الوديعة (3/339)
فصل
إنما تصح بين جائزى التصرف بالتراضي وهي أمانة فلا تضمن إلا لتعد كاستعمال ونحو إعارة وتحفظ فيما لا يحفظ مثلها في مثله أو معه وإيداع وسفر فلا عذر موجب فيهما ونقل لخيانة وترك التعهد والبيع لما يفسد والرد بعد الطلب وبجحدها والدلالة عليها ومتى زال التعدي في الحفظ صارت أمانة وإذا غاب مالكها بقيت حتى اليأس ثم للوارث ثم للفقراء وإن عين للتصدق بها وقتا جاز ما لم يتيقن موته وما أغفله الميت حكم بتلفه وما أجمله فدين وما عينه رد فورا وإلا ضمن كما يلقيه طائر أو ريح في ملك وإذا التبس من هي له لمن بين ثم لمن حلف ثم نصفان ويعطى الطالب حصته مما قسمته إفراز وإلا فبالحاكم والقول للوديع في ردها وعينها وتلفها وأن التالف وديعة لا قرض مطلقا ولا غصب إلا بعد أخذته وللمالك في ذلك إن جحدت فبين إلا العين وفي نفي الغلط والإذن بإعطاء الأجنبي
قوله فصل إنما تصح بين جائزي التصرف بالتراضي
أقول مراده أنه لا تكون وديعة تثبت لها الأحكام التي سيذكرها إلا إذا كانت بين جائزي التصرف بالتراضي لأنه لو كان أحدهما غير جائز التصرف أو كلاهما كذلك لو يوجد حكم الوديعة لأنه إذا كان أحدهما صبيا أو مجنونا فإن كان الوديع كان المودع له واضعا ماله في مضيعة وإن كان المودع كان على الوديع أن يرد ما قبضه منه إلى وليه وإن كانا جميعا صبيين أو مجنونين كان الواجب على أوليائهما استدارك المال من أيديهما (3/341)
وحفظه وأما اشتراط أن يكون بالمراضاة فمعلوم أنهما لا تكون وديعة إلا بذلك وإلا كانت غصبا
قوله وهي أمانة الخ
أقول الأصل الشرعي هو عدم الضمان لأن مال الوديع معصوم بعصمة الإسلام فلا يلزم منه شيء إلا بأمر الشرع ولا يحتاج مع هذا الأصل إلى الاستدلال على عدم الضمان بما لم يثبت كما روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا ضمان على مؤتمن وما رواه أيضا من طريق أخرى عن ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان فان في أسانيدهما من لا تقوم به الحجة وغاية ما يجب على الوديع هو التأدية لحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه وحديث أد الأمانة إلى من ائتمنك وقد قدمنا تخريجهما أما إذا جنى الوديع على الوديعة فهو ضامن ضمان الجناية كما لو جنى مال الغير وهكذا لو استعملها فتلفت بذلك فإنه أيضا جناية وهكذا لو أعارها أو أجرها أو فرط في حفظها بأن يتركها في أرض مسبعة أو نحو ذلك فإن هذا أيضا نوع من الجناية وقد قدمنا ما ينبغي الرجوع إليه مما له مزيد فائدة هنا ومن التفريط أن يردها مع من لا يحفظ مثلها مثله أو يودعها بغير إذن مالكها أو يسافر بها بلا عذر أو يترك تعهدها مع كونه يظن فسادها بترك التعهد لها لكن الظاهر أن هذا التعهد لا يجب عليه إلا إذا أخذ مالكها عليه ذلك وهكذا لا يجب بيع ما يخشى فساده إلا إذا اشترط عليه مالكها (3/342)
وأما وقوع الخيانة منه فإنه ينقلب بذلك غاصبا ويخرج به عن كونه أمينا وهكذا إذا جحدها فإنه يصير بذلك غاصبا وهكذا إذا ترك ردها بعد الطلب لغير عذر فإنه يصير بذلك مفرطا تفريطا يكون به جانبا
قوله ومتى زال التعدي في الحفظ صارت أمانة
أقول إذا فعل الوديع فعلا يخرج به عن كونه أمينا لم يعد له حكم الأمانة إلا بإيداع جديد وذلك بأن يعلم المالك حصول ذلك منه ثم يرضى ببقائها لديه وديعة كما كانت وهكذا سائر ما تقدم من الأسباب المقتضية للضمان لأن عود حكم الأمانة بعد رفعها لا يحصل بمجرد السلامة من ذلك التعدي ولا بمجرد عزم الوديع على عدم التعدي لأن الملك ملك الغير فلا بد من رضائه واخياره وإلا فلا وهذا ظاهر لا يخفى وأما كونه إذا وقع اليأس من عود مالكها دفعها الوديع إلى الوارث فهذا هوالواجب عليه لأن الوارث هو المستحق لتلك العين بعد حصول اليأس كما يستحقها بموت المالك وأما صرفها إلى الفقراء أو غيرهم فليس ذلك إليه ولا ولاية له عليه بل أمر ذلك إلى الأمام والحاكم إذا لم يوجد من له ولاية في مال المالك أقدم من ولايتهما من وصاية أو نحوها وأما كونه إذا عين للتصدق بها وقتا جاز فهذا معلوم لأن له أن يفعل في ملكه ما شاء
وأما قوله ما لم يتيقن موته فمبني على أنها قد صارت بالموت ملكا للورثة ولكن هذه المقالة قد أفادت أنه قد أخرجه عن ملكه إخراجا مؤقتا بوقت وذلك صحيح كما قدمنا غير مرة فلم يبق للوارث فيه حق وأما على قول من قال إن المضاف إلى بعد الموت وصية تنفذ من الثلث فإن كان مثل هذا يتسع له ثلث ماله فلا حق للوارث وإن كان لا يتسع له كان له المطالبة بما زاد على الثلث
قوله وما أغفله الميت حكم بتلفه
أقول هذا الإغفال لا يقتضي هذا الإهمال حتى يقال إنه يحكم بتلفه بل غاية ما هنا أن يقال إن القول قول الوارث للوديع في ردها كما كان القول قول الوديع في ذلك (3/343)
وهكذا يكون القول قوله في تلفها ويرجع بعد ذلك إلى طلب البينة من المالك أو اليمين من الوارث
وأما قوله وما أجمله فدين فهذا مبني على عدم وجود الوديعة في تركته بمجرد هذا الإجمال وهذا غير مسلم بل يرجع فيما بين المالك الورثة إلى البينة أو اليمين وقد قدمنا في المضاربة نحوا من هذا وأما كون ما عينه يرد فورا فظاهر لكن ترتيب الضمان على عدم الرد فورا غير مسلم بل لا يتضيق الرد على وارث الوديع إلا بطلب المالك فإن لم يرد بعد الطلب ضمن وأما ما يلقيه طائر أو ريح في ملك فليس على من ألقياه في ملكه إلا إعلام المالك بذلك وليس عليه الرد لا على الفور ولا التراخي لا من رواية ولا من دراية
قوله والقول للوديع في ردها
وأما قوله وإذا التبس من هي له فوجهه ظاهر وهكذا قوله ويعطى الطالب الطالب حصته الخ
وقوله وجه ذلك أنه أمين مقبول القول مع يمينه وإن كان الأصل عدم الرد لكن هذه اليد الأمينة تقتضي عدم ثبوت الضمانة المتسببة عن عدم قبول قوله وهكذا الكلام في التغيير والتلف وكون التالف هو الوديعة عملا لما تقتضيه اليد الأمينة ولا وجه لقوله إلا بعد أخذته وديعة لأن هذا القول إنما يدل على ثبوت الإيداع على كون اليد يد غصب أو نحوه
وأما قوله وللمالك في ذلك إن جحد الخ فوجهه أن اليد الأمينة قد ارتفعت بالجحد وصارت اليد يد غصب والقول مع الغصب في تلك الأمور للمالك
وأما قوله وفي نفي الغلط فوجهه الأصل عدم الغلط ولكن الأولى أن يكون القول قول الوديع لأن اليد الأمينة لم ترتفع بهذا الغلط وهكذا دعوى الإذن بإعطاء الأجنبي لأنه وإن كان الأصل عدم الإذن لكن حكم اليد الأمينة باق (3/344)
- كتاب الغصب (3/345)
هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا وإن لم ينو
قوله هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا وإن لم ينو
أقول اليد العدوانية لا يمكن أن تكون عدوانية على الحقيقة إلا بالنية لأنها المدار الذي تدور عليه أحكام العدوان والخطأ فلا وجه لقوله وإن لم ينو ومعلوم أن إثبات اليد بغير إذن الشرع قد يكون بعد العلم بأن بغير إذن الشرع وليس العدوان إلا ذلك وهذا العلم هو النية التي هي قصد الثبوت على مال الغير بغير إذن الشرع وقد يكون قبل العلم بأنه بغير إذن الشرع وحينئذ فلا عدوان لفقدان النية التي تتأثر عنها الغصبية فإن قلت إذا صار ما هو مغصوب إلى يد من لا يعلم بغصبه بشراء أو نحوه ثم تبين له بعد ذلك أنه غصب ماذا يجب عليه قلت يجب عليه إرجاعه إلى مالكه فإن لم يفعل بعد العلم كان له حكم الغاصب لأنه حينئذ قد صار مستوليا على مال الغير عدوانا لارتفاع الشبهة التي كانت معه وحصول اليقين الماحي لها
فصل
فلا يضمن من غير المنقول إلا ما تلف تحت يده وإن أثم وسمي غاصبا ومن المنقول إلا ما انتقل بفعله ولا ينقل ذي اليد نقلا ظاهرا أو في حكمه بغير إذن الشرع م ما ثبتت يده عليه كذلك وما نقل لإباحة عرف أو خوف منه أو عليه أم من نحو طريق فأمانة غالبا غصب (3/347)
قوله فصل ولا يضمن من غير المنقول إلا ما تلف تحت يده الخ
أقول الشارع قد سماه غاصبا في حديث من غصب شبرا من الأرض وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة وقد اعترف المصنف بأنه يسمى غاصبا وموجب هذا أن تثبت عليه أحكام الغصب فيضمن ما تلف بعد الغصب وإن لم يتلف تحت يده ولا وجه للفرق بين المنقول وغيره فالاستيلاء على الشيء عدوانا وإثبات اليد عليه بغير أمر الشرع موجب للضمان في الجميع وأما اشتراط النقل الذي ذكره المصنف فلم يرد دليل ولا يتوقف عليه مفهوم الغصب لا شرعا ولا لغة
وأما قوله وما نقل لإباحة عرف الخ فهذا ليس من الغصب في شيء لأنها قد جرت عادة الناس بذلك وهكذا جرت عاداتهم بنقل ما هو ملك للغير لأجل الخوف منه أو عليه وذلك معدود من الإحسان عندهم وهكذا نقل ما اعترض في طريق المسلمين فإن الشرع والعرف قاضيان بجواز ذلك وليس لذكر مثل هذا في كتاب الغصب كثير فائدة ولكنه لما اشترط النقل بمجرد الرأي احتاج إلى إخراج هذه الصور من النقل وأما ما ذكره من التعثر فإن كان فاعله مأذونا له بالدخول من طريق الشرع أو من طريق العرف فليس بغصب ولا يلزمه ضمانه وإن لم يكن مأذونا فهو بمجرد دخوله ملك للغير غاصب فيضمن ما تلف بتعثره (3/348)
فصل
ويجب رد عينه ما لم تستهلك ويستفدي غير النقدين بما لا يجحف إلى يد المالك إلا صبيا ونحوه محجورا فيها أو إلى من أخذ منه إلا غاصبا مكرها أو في حكمه ونحو راع ليلا ويبرأ بمصيرها إلى المالك بأي وجه وإن جهل وبالتخلية الصحيحة وإن لم يقبض إلا لخوف ظالم ونحوه ويجب الرد إلى موضع الغصب وإن بعد أو الطلب إن كانت فيه فيهدم ويكسر ويذبح لرد ما هي فيه حيث له ذلك وإلا فقيمة الحيلولة على الأصح كعبد أبق أو أي شيء تتوسخ فتعذر رده
قوله فصل ويجب رد عينه ما لم تستهلك
أقول هذا معلوم لأن الخطاب برد نفس المغصوب ثابت بقطعيات الشرع فليس للغاصب أن يعدل إلى قيمته ولا أباح له الشرع ذلك إلا برضا المالك ثم الاستفداء واجب وإن أجحف به كل الإجحاف لأنه قد وقع في معصية الغصب باختياره عدوانا ومخالفة للشرع ووجب عليه التخلص من هذه المظلمة بردها ما دامت موجودة ووجد إليها سبيلا وعلينا الأخذ على يد الظالم حتى يرد مظلمته للمطلوب ولا تأخذ به رأفة فاستثناء الإجحاف من غرائب المقالات ويكون الرد كما ذكر المصنف إلى يد المالك أو يد ولي غير المكلف وهذا معلوم وهكذا الرد إلى يد من أخذ ذلك الشيء منه إذا كان غير غاصب لحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه أما إذا كان غاصبا فالرد إليه غصب على غصب وظلم فوق ظلم
وأما قوله ونحو راع ليلا فالتعرض لذكره هذه الصورة النادرة لعل وجهه (3/349)
ثبوت عرف بين أهل قرية علم به المصنف أو من نقل هذا عنه ولكن بعد ثبوت معنى الغصب لا وجه لتخصيص بعض الصور إلا لمخصص مسوغ للرجوع إليه في صفة الرد وغيرها
قوله ويبرأ بمصيرها إلى المالك بأي وجه
أقول الذي أوجبه الشرع على الغاصب أن يرد ما غصبه إلى مالكه ردا ظاهرا بحيث يعلم المغصوب عليه أن هذه العين هي التي غصبها عليه الغاصب وأنه قد تحلل من مظلمته له بردها إليه وأما جعل الرد بأي وجه محللا للغاصب من المظلمة مسقطا للضمان عنه وإن جهل المالك مجمود غير مرضي وخروج عن طريق الصواب
قوله ويجب إلى موضع الغصب وإن بعد
أقول وجهه ظاهر ولا سيما إذا كان موضع الغصب هو الموضع المعتاد لاستقرار تلك العين المغصوبة فيه أو كان يلزم المالك مؤنة بردها إليه أو كان الرد إليه بعد الطلب من المالك فلا شك أن ذلك واجب على الغاصب وهكذا إذا طلب المالك ردها إليه إلى غير موضع الغصب وجب على الغاصب ذلك لأن التحلل من المظلمة لا يكون إلا على الوجه الذي يرضى به المالك وإن لم تكن تلك العين في الموضع الذي طلب المالك ردها إليه فلا وجه للتقييد بقوله إن كانت فيه
قوله ويهدم ويكسر ويذبح حيث له ذلك
أقول وجه هذا ظاهر لأن رد المظلمة واجب على الظالم وإن تلف عليه ما تلف وغرم بسبب الرد ما غرم ولو أجحف به كما قدمنا وأما إذا كانت العين المغصوبة قد صارت في شيء مملوك لغير الغاصب بغير اختياره كأن يزد رد الحيوان الجوهرة المغصوبة ولا يمكن خروجها منه إلا بذبحه أو يدخل في شيء مملوك للغير ولا يخرج إلا بكسره فها هنا لا وجه لإتلاف ملك غير الغاصب لرد العين المغصوبة بل الوجه المطابق لقواعد الشرع أن يضمن الغاصب لصاحب العين المغصوبة ولمالك العين الأخرى قيمتها إن رضي بذلك (3/350)
ويأخذها الغاصب أو يشتري أحد المالكين العين التي للمالك الآخر وإذا لم يمكن الفصل إلا بنقص فيهما أو في أحدهما كان مضمونا على الغاصب وأما دفع قيمة الحيلولة فلا بد من تقييد ذلك بحصول الرضا من المالك فإن لم يرضى واختار تعجيل القيمة ورضي بمصير العين للغاصب وإذا رجعت فله ذلك وإن اختار الانتظار حتى تخلص تلك العين مما وقعت فيه بوجه فله أن يطالب الغاصب بأجرة مثل تلك العين حتى تعود إليه إن كان لمثلها أجرة فهذه الوجوه الخيار فيما للمالك يختار منها ما شاء ولا حجر عليه وهكذا الكلام في العبد الذي أبق والشيء الذي تنوسخ
فصل
وإذا غيرها إلى غرض خير بينها وبين القيمة ولا أرش إلا في نحو الخصي وإن زادت به وإلى غير غرض ضمن أرش اليسير وخير في الكثير بين فيمتها صحيحة وعينها مع الأرش وفوائدها الأصلية أمانة فلا يضمن إلا ما نقله لنفسه أو جنى عليه أو لم يرد مع الإمكان
قوله وإذا غيرها المالك إلى غرض الخ
أقول الحق أن المالك مخير بعد تغيير العين من غير فرق بين أن يكون التغيير إلى غرض أو إلى غير غرض فإن شاء اختار رجوع العين إليه مع أرش النقص وإن شاء تركها للغاصب وأخذ قيمتها ولا وجه للفرق بين الكثير واليسير كما أنه لا وجه للفرق بين التغيير إلى غرض وإلى غير غرض وليس بيد المصنف ولا بيد غيره ما يخالف ما ذكرنا إلا مجرد الرجوع إلى قواعد لهم ليس عليه أثارة من علم (3/351)
قوله وفوائدها
أقول فوائد العين المغصوبة تابعة لها فكما يجب رد العين المغصوبة إلى المالك كذلك يجب رد فوائدها إليه ومن خالف في هذا فليس بيده رواية ولا دراية وأما الاستدلال بحديث الخراج بالضمان فلا يخفاك أنه وارد في غير مقبوضة بإذن الشرع فكيف يصح الحاق العين المغصوبة بها ومعلوم أن الغاصب ضامن على كل حال فكيف يستحق عوضا وهو الخراج في مقابلة ضمانه وبالجملة فهذا من وضع الدليل في غير موضعه وليس عمومه إلا بالنسبة إلى ما ورد فيه لا بالنسبة إلى ما هو ضد لذلك ولا فرق بين الفوائد الأصلية والفرعية بل الكل غصب بيد الغاصب حتى يرده إلى مالك العين التي هو نماء لها ودعوى الفرق بينهما لم يبن إلا على مجرد الخيال فيضمن الغاصب ما تلف منها ولو لم يجن عليها ولا نقلها لنفسه أو لم يتمكن من ردها ودعوى أن الأصلية أمانة دعوى مردودة فيالله العجب من مثل هذه المقالات التي يمجها السمع ويردها العقل والشرع
فصل
ولا يرجع بما غرم فيها وإن زادت به وله فصل ما ينفصل بغير ضرر وإلا خير المالك وعليه قلع الزرع وإن لم يحصد وأجره المثل وإن لم ينتفع فإن أجرا ونحوه فموقوف وأرش ما نقص ولو بمجرد زيادة من فعله كأن حفر بئرا ثم طمها إلا السعر قيل والهزال ونحوهما في الباقي
قوله فصل ولا يرجع بما غرم فيها وإن زادت به
أقول لأن يده عدوان وما فعله في العين مما يوجب زيادتها عدوان على عدوان ولا يتخلص من مظلمته ويبرأ من غصبه إلا بارجاع تلك العين إلى مالكها وإن زادت لما (3/352)
فعله فيها أضعاف أضعاف قيمتها وما للغاصب وللمطالبة بذلك بل هو مطالب مع رد العين المغصوبة برد أجرة مثلها في مدة الغصب لأنه فوت على المالك هذه المنفعة تعديا وعدوانا وجرأة على الشرع وعلى أموال العباد المعصومة وأما كون له فصل ما ينفصل بغير ضرر فإن لم يكن ذلك من نماء العين كأن يضع عليها حلية لا ضرر في فصلها فله أن يأخذ ما وضعه وأما مع الضرر فيأخذها المالك بزيادتها ولا حرج عليه ومن استبعد هذا فليتهم عقله وقصوره عن إذراك المدارك الشرعية
قوله وقطع الزرع وإن لم يحصد
أقول حديث ليس لعرق ظالم حق أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه من حديث سعيد ابن زيد وقد روى من طرق قدمنا الكلام عليها في باب الإحياء وروى عن عروة بن الزبير مرفوعا أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والدارقطني وحسن ابن حجر في بلوغ المرام إسناده ومجموع طرقه تقوم بها الحجة وهو يدل على أن ما غرسه الغاصب أو زرعه في الأرض المغصوبة فهو لمالكها وليس للغاصب من ذلك شيء وقد روى ابن رشد الإجماع على هذا فقال في النهاية وأجمع العلماء على أن من غرس نخلا أو ثمرا وبالجملة نباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقطع انتهى وهذا أعنى عدم ثبوت الحق للغاصب بوجه هو المطابق لمعنى كون يده غاصبة فإن اليد الغاصبة لا تستحق شيئا وما فعلته في الغصب فلا حق لها فيه وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن (3/353)
ماجه من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وقد روى الترمذي عن البخاري تحسينه ونقل عن البخاري تضعيفه وضعفه أيضا البيهقي وهو من طريق عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج قال أبو زرعة لم يسمع عطاء من رافع وكان موسى بن هارون يضعف هذا الحديث ويقول لم يروه عن شريك ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق فهو مع كونه مخالفا لما هو أصل الغصب من عدم رجوع الغاصب الظالم على المغصوب عليه المظلوم بما أنفقه على ما تعدى به من إيقاع الرزع غصبا وعدوانا بغير إذن الشرع يمكن الجواب عنه من وجوه
الأول ما ذكرناه فيه من المقال الذي لا ينتهض معه للاستدلال
الثاني بما حكاه ابن المنذر عن أحمد بن حنبل أنه قال إن أبا إسحق زاد في هذا الحديث لفظ بغير إذنهم وليس غيره بذكر هذا الحرف انتهى وإذا كان هذا اللفظ مزيدا لم يكن في الحديث دلالة على أن هذا الحكم يثبت للغاصب بل هو ثابت لمن زرع أرض قوم على غير وجه التعدي والعدوان فلا يبقى في الحديث إشكال ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى زرعا في أرض ظهير فأعجبه فقال ما أحسن زرع ظهير فقالوا إنه ليس لظهير لكنه لفلان قال فخذوا زرعكم وردوا عليه نفقته فدل على أن الزرع تابع للأرض فهذا قاله صلى الله عليه و سلم في أرض غير مغصوبة كما يدل عليه قولهم ولكنه لفلان ولو زرع تلك الأرض غصبا لم يقولوا إن الزرع له وإذا كان هذا حكم من زرع (3/354)
غير غاصبا ولا ظالم فحكم من زرع غاضبا ظالما مثل هذا الحكم
الوجه الثالث بما أخرجه أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير عن بعض الصحابة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم غرس أحدهما نخلا في أرض فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخلة منها قال فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم وإذا كان هذا هو حكم الشرع في النخل الذي تعظم المؤنة عليه وتكثر الغرامة فيه فأمر النبي الغاصب بالقلع وإخراج نخله مع كونه قد صار نخلا عما فكيف لا يكون الزرع مثله مع حقارة المؤونة عليه وقصر المدة فيه وليس في كون البذر من الغاصب زيادة على كون أصول الغرس منه فلا يصح أن يكون أحدهما سببا لاستحقاق الغاصب للنفقة دون الآخر فما ذكره المصنف رحمه الله من قلع الزرع وإن لم يحصد ولزوم أجرة الأرض للغاصب وإن لم ينتفع صواب وهكذا قوله إن عليه أرش ما نقص
وأما قوله فإن أجر أو نحوه فموقوف فالمعتبر إجارة المالك فإن أجاز كانت هذه الإجازة هي التي صح بها التأجير ونحوه وإن لم يجز كان ما فعله الغاصب وجوده كعدمه وأما قوله إلا نقصان السعر فوجهه أن ذلك النقصان ليس من فعل الغاصب حتى يضمنه ولا يخفاك أن ارتفاع السعر يزيد قيمة ذلك المغصوب فوق ما كانت عليه حال الغصب ومن الجائز أن يبيعها المالك وقت حصول زيادة السعر فكان في الغصب من هذه الحيثية تفويت لمنفعة للمالك متعلقة بالعين فيضمنها كما يضمن أرش النقص وصاحب اليد الظالمة الغاصب حقيق بالتشديد عليه لأنه اختار لنفسه التعدي ومخالفة ما يقتضيه الشرع ويوجبه العدل وهكذا الهزال يضمنه لأنه حصل النقص به والمغصوب في يده ولو كان بغير سبب منه إذ من الجائز أن تلك العين لو كانت باقية بيد مالكها لم تهزل (3/355)
فصل
ويملك ما اشترى بها أو بثمنها نقدين ويتصدق بالربح وما استهلكه بخلطه أو إزالة اسمه ومعظم منافعه ويطيب له بعض المراضاة ويتصدق بما خشى فساده قبلها ويملك مشتريها الجاهل غلتها ويتصدق بما تعدى قيمة الرقبة وعليه الأجرة
قوله فصل ويملك ما اشترى بها أو بثمنها نقدين ويتصدق بالربح
أقول العين المغصوبة باقية على ملك مالكها بالعصمة الشرعية ولا يخرج عن ملكه بالغصب المحرم بقطعيات الأدلة فالواجب على الغاصب إرجاعها سواء كانت عينا أو نقدا وأما الاعتلال بأن النقد لا يتعين فما أهون هذه المقالة في صدور علماء الشريعة العارفين بقواعدها فإن هذا ليس إلا مجرد رأي ليس عليه إثارة من علم فالواجب الشرعي على الغاصب أن يرد العين المغصوبة فإن تلفت أو تعذر استدراكها كما لو اختلف النقد بمثله من النقود فعلى الغاصب إرجاع قيمة العين موفرة وإرجاع مثل النقد من أعلى جنس من أجناسه ولا يطيب له ما شراه من عين أو بثمنها ولا يصير ملكا له ولم يأذن الشرع بذلك ولا سوغه وهكذا لا يطيب له الربح بل يجب عليه إرجاعله لمالكه كما قدمنا هكذا ينبغي أن يقال في مثل هذا البحث عملا لا تقتضيه القواعد الشرعية وللإمام أن يتصدق بما يخشى فساده من العين المغصوبة أو مما اشترى بثمنها أو من الربح عقوبة للغاصب والضمان عليه باق بحاله وعلى هذا يحمل ما أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني عن عاصم بن كليب أن رجلا من الأنصار أخبره قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما رجعنا استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم (3/356)
أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يلوك لقمة في فمه ثم قال أحد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها فقالت المرأة يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أطعميه الأسارى وعاصم بن كليب المذكور في الإسناد قال علي بن المديني لا يحتج به إذا انفرد وقال الإمام أحمد لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي صالح وقد أخرج له مسلم وأما جهالة الصحابي فغير قادحة ولكن لا يخفاك أن هذا الحديث ليس هو كالغصب في كل وجه فإن هذه المرأة لا تقصد الإستيلاء على مال الغير عدوانا بل وقع في ظنها أن إذن امرأة الرجل كإذنه ولما كان إذن المالك أمر لا بد منه صرفها صلى الله عليه و سلم في مصرفها
قوله وما أستهلكه بخلطه وإزالة معظم منافعه
أقول أما الخلط فقد تعذر إرجاع العين معه فيجب على الغاصب إرجاع مثلها من أعلى جنس من أجناسها كما قدمنا لأن انتصاف المظلوم من ظالمه وإرجاع حقه إليه على طريقة العدل لا يكون إلا بذلك ولا وجه لجعل ذلك موجبا لملك الغاصب لما غصبه ولا دل على ذلك شرع ولا عقل وأما إذا فعل في العين المغصوبة ما أزال اسمها ومعظم منافعها فهذا أيضا لا يوجب أن تصير تلك العين بعد تغييرها ملكا للغاصب بل المالك بالخيار إن شاء رجعت له وأخذ أرش النقص وإن شاء تركها وأخذ قيمتها موفرة ولا تطيب للغاصب بعد تسليم الأرش أو القيمة بحال من الأحوال لأنه أخذها لا بإذن الشرع ولا بإذن المالك فإن طابت نفس المالك بأن تصير للغاصب بعد تسليم القيمة أو الأرش كان ذلك هو المسوغ لا مجرد الضمان
قوله ويملك مشتريها الجاهل غلتها الخ (3/357)
أقول قد عرفناك غير مرة أن العين باقية على مالك مالكها وأن اليد الظالمة الغاصبة لا يثبت بها حق للغاصب ولا لغيره من غير فرق بين العالم والجاهل فما حصل من الغلة في يد مشتريها الجاهل كان لرب العين وهو المالك وهذا المشتري الجاهل يرجع بما غرمه للمالك على الغاصب لأنه غرم لحقه بسببه فهذا ما تقتضيه القواعد الشرعية القاضية بعصمة أملاك العباد وعدم خروجها عنهم إلا بالرضا كما يدل عليه قوله عز و جل ولا تأكلوا أموالكن بينكم بالباطل وقوله صلى الله عليه وأله وسلم لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله صلى الله عليه و سلم إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فمن زعم أن الغصب يقتضي خروج فوائد العين عن ملك مالكها إذا باعها الغاصب من جاهل لغصبها فعليه الدليل ولا دليل وما ذكره من التصدق بما تعدى قيمة الرقبة فمبني على هذا الخيال الفاسد وأما لزوم الأجرة له فإذا اختار المالك عدم أخذ فوائد العين من المشتري الجاهل وطالب بأجرة الأرض كان له ويرجع به المشتري الجاهل على الغاصب كما قدمنا وسيأتي للمصنف مثل هذا قريبا ولكنها تكررت عليه بعض المباحث في هذا الفصل والفصل الذي قبله والفصل الذي سيأتي بعده ووقع التخالف في بعضها وقد أوضحنا ما هو الحق في الجميع
فصل
وللمالك قلع الزرع وأجرته ولو مستقلا ولا يفسد إن تمكن بدونه والرجوع بالعين والأجرة على كل ممن قبض والمغرور يغرم الغار ولو جاهلا كل ما غرم فيها أو بنى عليها إلا ما اعتاض منه والقرار على الآخر إن علم مطلقا أو جنى غالبا ويبرؤن (3/358)
ببرائته لا غيره وإذا صالح غيره المالك فبمعنى الإبراء يرجع بقدر ما دفع ويبرأ من الباقي لا هم وبمعنى البيع يملك فيرجع بالعين إن بقيت وإلا فالبدل
قوله فصل وللمالك قلع الزرع وأجرته
أقول هذا صواب وقد قدمنا وجهه والدليل عليه ومعلوم أن هذا الزرع وقع في ملك الغير باليد العدوانية فلا حق للغاصب فيه وللمالك تفريغ أرضه عما فعلته فيها اليد العدوانية وإذا احتاج القلع إلى أجره رجع بها على الغاصب لأنه غرم لحقه بسببه وإذا لم يمكن القلع إلا بإفساد الزرع كان له ذلك وبعد هذا يأخذ العين المغصوبة ويأخذ أجرتها من الغاصب أو مما صيرها إليه الغاصب وقرار الضمان على الغاصب ولا فرق بين العالم والجاهل والمغرور يغرم الغار كما قال المصنف هنا وهو الحق
وأما قوله والقرار على الآخر إن علم مطلقا أو جنى غالبا فوجهه أنه مع العلم يصير كالغاصب الأول وقد صارت العين في يده فيكون قرار الضمان عليه وهكذا مع الجناية قد صار ضامنا للعين المغصوبة بالجناية سواء حكم عليه بأنه غاصب أو لم يحكم عليه بالغصب وأما إذا لم يعلم ولا جنى فهو مغرور من جهة الغاصب فيرجع عليه
قوله ويبرؤن ببراءته لا غيره
أقول إن أبرأ المالك من ضمان العين المغصوبة إبراء مطلقا برئوا جميعا وهكذا إذا أبرأ من قرار الضمان عليه لأنه هو الذي تعلق به الضمان للمالك في آخر الأمر فكأنه في هذه الصورة أبرأ من ضمان العين مطلقا لأن الخطاب على الغاصبين الآخرين فالضمان إنما هو من جهة من كان قرار الضمان عليه لا من جهة المالك فإنه لا يطلب إلا ضمان ما غصب عليه وقد أبرأ منه وعلى تقدير أن له يطالب غير من قرار الضمان عليه من الغاصبين فتلك المطالبة تنتهي آخر الأمر إلى من عليه القرار وأما ما ذكره من المصالحة (3/359)
بمعنى الإبراء بمعنى البيع فهذا آمر وقع برضاء المالك وهذا الرضا هو المناط المحلل لانتقال الأموال من مالك إلى مالك فيسقط الزائد من القيمة عنه وتصير العين ملكا له وأما كونه يبرأ من باقي القيمة وحده دون سائر الغاصبين فمبني على أن الرضا الواقع من المالك مقيد بهذا الغاصب وحده فكأنه خصه بذلك مع عزمه على طلب الباقين بما أسقطه لهذا وإلا فلا وجه لرجوع المالك عليه
فصل
وفي تالف المثلي مثله إن وجد في ناحيته وإلا فقيمته يوم الطلب وصح للغاصب تملكه وإلا فقيمته يوم الغصب ولم يصر بعد أو مع أحدهما قيميا وإلا اختار وفي القيمي قيمته يوم الغصب وإن تلف مع زيادة غير مضمونة وفي المضمونة يخير بين قيمته يوم الغصب ومكانه ويوم التلف ومكانه ويتعين الأخير لغير الغاصب وإن قل وما لا يتقوم وحده فمع أصله ويجب رد عين ما لا قيمة له لا عوض تالفه إلا مثليا لا يتسامح به أو إن تلف بعد تقومه والقول للغاصب في القيمة والعين وبينة المالك أولى
قوله فصل وفي تالف المثلي مثله الخ
أقول إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم ثم وقوع القطع والبيت منهم بأن المثلي يضمن بمثله والقيمي بقيمته هو أيضا مجرد رأي عملوا عليه وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته (3/360)
كما في قوله في حديث المصراة ردها وصاعا من تمر وهو في الصحيح كما تقدم وثبت عنه صلى الله عليه و سلم تضمين القيمي بمثله كما ثبت في الصحيح البخاري وغيره من حديث أنس قال أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه و سلم طعام بطعام وإناء بإناء وهذا اللفظ للترمذي وللبخاري في هذا الحديث ألفاظ منها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة وأخرج نحو هذا الحديث أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة أنها قالت ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه و سلم إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته فقال إناء كإناء وطعام كطعام وفي إسناده أفلت بن خليفة قال أحمد ما أرى به بأسا وحسن ابن جحر في الفتح إسناده
إذا عرفت هذا فأعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي ولكن إرجاع المثلى من أعلى أنواع الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر وأقطع لمادة النزاع
وأما قوله فقيمته يوم الغصب فوجهه أنه الوقت الذي تعلق فيه الضمان بالغاصب وقيل يوم التلف لأنه وقت وجوب الضمان والأولى أن يكون مضمونا بأوفر القيم من وقت الغصب إلى وقت التلف لأن هذه مظلمة فإذا زادت قيمة ذلك الشيء في بعض (3/361)
الأوقات فمن الجائز أنه لو كان باقيا بيد المالك لباعه بهذه الزيادة وقد قدمنا الكلام في هذا والعجب من المصنف ومن قال بمثل قوله حيث قالوا إن الرهن المقبوض بإذن مالكه مضمون على المرتهن بأوفر قيمة من القبض إلى التلف والغصب الذي هو ظلم بحت واستيلاء على جهة العدوان بغير إذن الشرع مضمون بقيمته وقت الغصب وقد أطال المصنف الكلام في هذا الفصل على القيمي والمثلي وقد عرفناك ها هنا بما يتضح لك به الصواب في جميع هذه الأطراف التي ذكرها المصنف وقد قدمنا أن الزيادة مضمونة على كل حال فلا يتم ما ذكره من التخيير وأما الجزم بأنه يتعين الأخير لغير الغاصب الأول للغاصب فليس لهذه الدعوى وجه ولا عليها أثارة من علم
قوله والقول للغاصب في قدر القيمة
أقول القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها
وأما قوله والعين فالصواب أن البينة على من سبق إلى التعيين والقول قول المنكر مع يمينه وأما كون بينة المالك أولى فوجهه أن يد الغاصب عدوانية فكانت بينته ضعيفة لضعف يده ولكن هذه العلة تقتضي أن لا يكون القول قوله في القيمة والعين كما ذكره المصنف لأن اليد العدوانية موجودة في الجميع وإذا اضعفت البينة أضعفت كون القول قوله
فصل
ويسقط عوض التالف حيث لا قيمة لحصصه لو قسم وتصير للمصالح تركة صارت لنقصانها كذلك وكذلك هو أو العين باليأس عن معرفة المالك أو انحصاره وحينئذ تعدد القيمة بتعدد المتصرف وإن بقيت العين وولاية الصرف إلى الغاصب ولا يصرف فيمن تلزمه نفقته إلا العين وفي نفسه خلاف ولا نجزيء القيمة عن العين ولا العرض عن النقد وتفتقر القيمة إلى النية لا العين وإذا غاب مالكها بقيت حتى اليأس ثم للوارث (3/362)
ثم للفقراء أو المصالح فإن عاد غرم التالف الدافع العوض إلى الفقراء لا إلى الإمام أو الحاكم فبيت المال وإن التبس منحصرا قسمت كما مر ولا يسقط بالإسلام بعد الردة ما يجامع الكفر ولا يضمن ما منع عنه مالكه بالزجر ما لم تثبت اليد ويضمن آمر الضعيف قويا فقط والقرار على المأمور
قوله فصل ويسقط عوض التالف الخ
أقول هذا كلام في غاية السقوط فإن الضمان قد وجب بالغصب وجوبا ثبت بيقين فكون مجرد قسمته بين الشركاء يصير بها نصيب كل واحد لا قيمة له يقتضي سقوط هذا الضمان المعلوم لا سقوط المالكين المتيقن بل يجب على الغاصب تسليم ذلك الشيء إليهم ويصنعون به ما أرادوا وإن بلغ في الحقارة إلى الغاية وتسامح الناس في المحقرات هي التي لا تكون مأخوذة على وجه الغصب أما المأخوذة على جهة الغصب فالتسامح بها أقل قليل وهكذا قوله وتصير للمصالح تركة صارت لنقصانها كذلك فإن هذا الحكم مجازفة عظيمة وجرأة على إخراج أموال العباد عن أملاكهم بغير برهان بل بمجرد وسوسة ناشئة عن خيالات مختلة
وأما قوله وكذلك هو أو العين باليأس عن معرفة المالك أو انحصاره فوجهه أنه إذا عرض هذا اليأس وتقرر تقررا صحيحا صار ذلك المال لا مالك له وإذا صار كذلك كان للمسلمين فيصرف في مصالحهم الذي يرجع الصرف إليها الإمام أو الحاكم
وأما قوله وحينئذ تعدد القيمة بتعدد المصرف وإن بقيت العين فلا وجه له ولا سبب يقتضيه وقد عرفناك فيما سبق ما يكشف لك عن الصواب مع تعدد الغاصبين (3/363)
قوله وولاية الصرف على الغاصب
أقول هذا من غرائب المسائل وعجائب أهل الرأي فإن الغاصب ثبت على المغصوب بغير إذن الشرع بل عنادا له وتمردا ابتداء وانتهاء فمن أين يكون له ولاية الصرف بل واجب عليه عند التوبة وعدم وجود المالك أو عدم انحصاره أن يحمل تلك المظلمة إلى الإمام بعد أن يصرح له بالتوبة ويبين له أنه قد تعذر عليه التدارك وانسدت عليه أبواب التخلص وعلى الإمام أن يصرف ذلك فيما يراه من مصالح المسلمين وأما فرق المصنف بين العين وغيرها في الصرف فيمن يلزمه نفقته فهو أعجب وأغرب وليت شعري كيف صارت هذه الخرافات معدودة من أحكام الشرع وهكذا قوله وفي نفسه خلاف فالقائل بالجواز قد جاء بما يشبه المقامرة فجعل الولاية لليد الظالمة في الصرف ثم أقر المغصوب على اليد العدوانية زاعما أن هذا شرع الله فيالله وللمسلمين وأما عدم إجزاء القيمة عن العين فوجهه أن المظلمة متعينة فليس لمن إليه الصرف كما ذكرنا لا كما ذكره المصنف أن يصرف عنها القيمة إلا أن يرى في ذلك صلاحا وهكذا الكلام في صرف العرض على النقد ولا وجه الفرق بين القيمة والعين في النية ولكن ذلك من جملة هذه المسائل التي يضحك منها تارة ويبكي منها أخرى وأما إيجاب تسليم العين إلى الوارث مع اليأس عن رجوع المالك فذلك صواب لأن ذلك غاية ما يجب من الرجوع إلى ما يوجبه الشرع ويقتضيه العدل ومع عدم الوارث ولاية الصرف إلى الإمام يصرفها فيما يرجحه من مصالح المسلمين كما قدمنا
وأما قوله فإن عاد غرم التالف الدافع العوض إلى الفقراء فوجهه أنه انكشف أن ذلك الصرف لخيال كاذب وأما إذا كان الصارف هو الإمام والحاكم فإن كان ذلك لتغرير عليهما من الغاصب بحصول اليأس الذي انكشف خلافة فالضمان على الغاصب وإلا كان الضمان عليهما من بيت المال مع عدم التغرير لأنهما أوقعا الصرف لخيال كاذب ولا يبعد أن يكون الضمان عليهما من أموالهما لم يتثبتا في الأمر كما ينبغي
وأما قوله وإن التبس منحصرا قسمت كما مر فمبني على أن كل واحد من هؤلاء (3/364)
المنحصرين يدعى ملكها أو بعضها ما لو لم يكن الأمر كذلك فلا وجه لقسمتها بين من لا يطالب بها وتصير لمصالح المسلمين كما قدمنا
قوله ولا تسقط بالإسلام بعد الردة ما يجامع وجوبه الكفر
أقول إن قام الدليل المقتضي لتخصيص ما ثبت من أن الإسلام يجب ما قبله كان المصير إلى ذلك واجبا جمعا بين الخاص والعام وإن لم يثبت الدليل المقتضي لتخصيص ما ثبت كان الوقوف على العام هو الواجب والمسألة طويلة الذيل ولها مآخذ عدة
وأما قوله ولا يضمن ما منع عنه مالكه بالزجر فجمود غير محمود فإن هذا غصب إذا خشي المالك نزول ضرر به من المتهدد له وثبوت اليد وصف طردي على على تقدير أنه أمر زائد على هذا المنع للمالك عن ملكه وأما كونه يضمن أمر الضعيف قويا فلكون الغصب لم يحصل إلا بأمره ولم يتم إلا بقوته والقرار عليه لا على المأمور فإنه لا تأثير له في ذلك (3/365)
- كتاب العتق (3/367)
فصل
يصح من كل مكلف ملك حاله لكل مملوك ولو كافرين ولا تلحق الإجازة إلا عقد ولا الخيار إلا الكتابة
قوله فصل ويصح من كل مكلف
أقول وجهه ظاهر لأن تصرف الصبي والمجنون غير نافذ وأما اعتبار قيد الملك فمعلوم لأن عتق غير المالك وجوده كعدمه وأما كونه يصح لكل مملوك فلعدم المانع مع وجود المقتضي
وأما قوله ولو كافرين فهذا مخالف لما قرروه في الأبواب التي هي قرب أنها لا تصح من الكافر ومعلوم أن المصنف هنا إنما يريد الصحة وأما ثبوت الثواب فلم يرد إلا في عتق المسلم للمسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه وكما في حديث أبي أمامة مرفوعا أيما أمريء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزيء كل عضو منه عضوا منه أخرجه الترمذي وصححه وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح وفي لفظ منه و (3/369)
أيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانا فكاكه من النار يجزيء كل عضو منهما عضوا منه وأخرج أحمد من حديث كعب بن مرة أو مرة بن كعب السلمي نحوه زاد فيه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزيء بكل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها وفي الباب أحاديث فالكافر ليس له من الأجر الحاصل بالعتق شيء إلا إذا أسلم من بعد كما في حديث أسلمت على ما أسلفت من خير وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث حكيم بن حزام وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ففيه أن الإساءة في الإسلام موجبة للمؤاخذة بأعمال الجاهلية كما أن حديث حكيم بن حزام يدل على أن الإسلام يوجب لصاحبه أن يكتب له ما عمل من أعمال الخير في الجاهلية
وأما قوله ولا تلحق الإجازة إلا عقده فقد عرفناك غير مرة أنه لا اعتبار بما فعله الفضولي وأن الحكم ثبت بإجازة المالك وأما كونه لا يلحقه الخيار فلكون المالك مفوضا في ملكه فلا وجه لإثبات الخيار له إلا في عتق الكتابة لكونها معاوضة
فصل
وله ألفاظ وأسباب فصريح لفظه ما لا يحتمل غيره كالطلاق نحويا حر وأنت مولاي أو ولدي فإن أكذبه الشرع وثبت العتق لا النسب والعقل بطلا وكنايته (3/370)
ما احتمله غيره كأطلقتك وهو حر حذرا من القادر كالوقف إلا الطلاق وكنايته وبيعك لا يجوز وأنت لله وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبريه مطلقا وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك ولهم قبله حكم الرق غالبا ومثول المالك به بنحو لطم فيؤمر وإن لم يرافع فإن تمرد فالحاكم والولاء للسيد وملك ذي الرحم المحرم لجميعه أو بعضه فيضمن لشريكه إن اختار التملك موسرا بغير إذنه وإلا سعى العبد وانقضاء حيضتي أم ولد الذمي بعد إسلامها إن لم يسلم فيهما وتسعى ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا فأسلم قبل أن يؤخذ أو بأمان لا بإذن سيده أو أسلم وهاجر لا بإذن قبل إسلام سيده وبأمان وإذن بيع ورد ثمنه
قوله فصل وله ألفاظ الخ
أقول قد عرفناك غير مرة أن اعتبار ألفاظ خاصة وجعل بعضها صريحا وبعضها كناية كلام لا يوافق التحقيق وليس المراد إلا مجرد الدلالة على ما يريده المتكلم ويدل على أنه قد رضى بما أراده من معاوضة بينه وبين غيره أو مجرد صدور شيء عنه لا عن معاوضه ولو كان ذلك الدال إشارة من قادر على النطق ولا بد في المحتمل للعتق وغيره من الألفاظ أن يريد به العتق ويكون القول قوله إذ لا يعرف إلا من جهته فلا حاجة بنا إلى إطالة الكلام على ما ذكره المصنف من الألفاظ
قوله وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبره
أقول مراده أن هذا السبب سبب نجاز العتق لأم الولد والمدبر وأما السبب الذي تعلق به العتق فهو الاستيلاد في أم الولد وإيقاع التدبير في المدبر وقد تقدم الكلام في بيع (3/371)
أم الولد مستوفى في كتاب البيع وسيأتي الكلام في جواز بيع المدبر مستوفى في باب التدبير
وأما قوله وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك فلا يخفاك أن هؤلاء الحادثين حدثوا بعد وجود سبب تعلق العتق بهما لا بعد وجود سبب نجاز العتق فالأولاد إذ ذاك أولاد من لم ينجز عتقه وينقذ تحريره فإذا مات السيد لم يكن نجاز عتقهما مقتضيا لعتق أولادهما لأنهم وجدوا قبل هذه الحالة ولم يرد ما يدل على هذا الحكم الذي ذكره المصنف بل لهم قبل الموت وبعده حكم الرق
قوله ومثول المالك به الخ
أقول إذا كانت المثلة بقطع شيء من أعضائه فقد ثبت الدليل الصحيح في العبد الذي وجب سيده مذاكيره وجدع أنفه أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه فدل هذا على أن تكفير ذلك اللطم أو الضرب يكون بالعتق وليس فيه دلالة على أن العتق حتم على السيد ولا أنه يعتق بنفس المثلة وقد قيد الضرب بما في صحيح مسلم بلفظ من ضرب غلاما له حدا لم يأته فإن كفارته أن يعتقه فأفاد هذا أن الضرب الذي كفارته العتق هو ما بلغ حدا لما ورد من أنه لا يحل الجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ومما يؤيد عدم تحتم العتق في اللطم والضرب ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث سويد من مقرن كنا بني مقرن على عهد (3/372)
رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال أعتقوها وفي رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا خادم لبني مقرن غيرها قال فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها فأفاد عدم تحتم العتق في الحال وأفاد أنه لا عذر منه عند الاستغناء ولكنه حكى النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أنه قال أجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد بشيء مما يفعله سيده من مثل هذا الأمر الخفيف يعني الضرب الخفيف واللطم قال واختلفوا فيما كثر وشنع من ضرب مبرح منهك أو حرقه بنار أو قطع عضوا له أو أفسده أو نحو ذلك فذهب مالك والأوزاعي والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك يكون له ولأولاده ويعاقبه السلطان على فعله وقال سائر العلماء لا يعتق عليه انتهى فإذا صح هذا الإجماع كان صارفا للأمر المذكور في حديث سويد بن مقرن من الوجوب إلى الندب فيكون الموجب للعتق من المثلة هو ما كان بقطع أو جدع أو تحريق وما عدا ذلك فإن شنع وأنهك فالأمر باق فيه على معناه الحقيقي ووقوع الإجماع على أنه لا يوجب العتق فلا صارف للأمر عن المعنى الحقيقي
قوله وملك ذي الرحم المحرم
قد ورد من المرفوع بلفظ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ما يشهد بعضه لبعض ويقوي بعضه بعضا وعلل ذلك بعلل لا تنافي التعاضد ولا سيما وقد صحح جماعة من الأئمة هذا اللفظ الذي ورد به الحديث فلم يبقى بعد ذلك معذرة عن العمل به (3/373)
فكان ملك ذي الرحم لرحمه أحد أسباب العتق الثابتة شرعا وما ذكره المصنف من ضمان الشريك لشريكه صحيح فإن كان معسرا أو ملكه بغير اختياره سعى العبد فقد ثبت أصل السعاية بالحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدله ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه
قوله وانقضاء حيضتي أم الولد الخ
أقول هذه المستولدة يسعها ما كان يسع من أسلم من العبيد والإماء في أيام النبؤة فإنهم كانوا يصيرون أحرارا بمجرد إسلامهم ولا يبقى لمن هم في ملكه عليهم يد ولا يخاطبون بسعاية ولا غيرها فكيف بهذه المستولدة التي حصل لها قبل إسلامها سبب من أسباب العتق فالعجب من إيجاب السعاية عليها لكافر بعد أن عصمها الله بالإسلام ذاتا ومالا وأطلقها من ريقة الرق
قوله ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا الخ
أقول وجه هذا أن أموال أهل الحرب على الإباحة من سبق إلى شيء منها ملكه فدخول العبد بغير أمان يكون به ملكا لمن سبق إليه فإذا أسلم قبل أن يؤخذ صار حرا بمجرد الإسلام لما قدمنا وأما إذا كان دخوله بأمان بإذن سيده فالأمان عصمة تمنع من أن يتملكه أحد لكنه إذا أسلم صار حرا بإسلامه وسيأتي تمام هذا البحث في كتاب السير إن شاء الله وكان على المصنف أن يجعل الإسلام سببا من أسباب العتق مطلقا (3/374)
فصل
وإذا التبس بعد تعيينه في القصد عم الأشخاص فيسعون بحسب التحويل إن لم يفرط كحر بعبد إلا في الكفارة ويصح تعليق تعيينه في الذمة ويقع حين التعيين على الأصح فإن مات قبله عم وسعوا كما مرة وإن مات أو عتق أو استولد أو باع أحدهما تعين الآخر ويتقيد بالشرط والوقف ويقع بعدهما م حالهما والمعلل كالمطلق
قوله فصل وإذا التبس بعد تعيينه الخ
هذه المسألة مبنية على محض الرأي وهو أن كل واحد قد صار محتملا لوقوع العتق عليه فثبت له بذلك حق فمن هذه الحيثية عمهم العتق جميعا ويمكن معارضة هذا الرأي برأي أنهض منه فيقال الأصل عدم وقوع العتق فيتوقف على هذا الأصل ولا يثبت للواحد حق فيه إلا بيقين ولا يقين وهو مال الغيير معصوم بعصمة الإسلام فلا يخرج عن ملكه بمجرد الإحتمال وهذا أصل متفق عليه بخلاف من وقع العتق على جزء منه بيقين فإنه قد صار بعضه حرا وذلك حيث يعتق أحد الشريكين في العبد نصه وقد دلت الأحاديث على أن الشريك المعتق إذا كان موسار غرم قيمة نصيب شريكه وإن كان معسرا فقد اختلفت الأحاديث في ذلك ففي بعضها أنه يعتق من العبد ما قد عتق وهو نصيب الشريك ويبقى نصيب الآخر رقا وفي بعضها أن العبد يسعى فإن قلت إذا كانت هذه المسألة التي ذكرها المصنف هنا مبنية على الرأي وقد عارضته برأي أنهض (3/375)
منه فهل من مخلص عن هذين الرأيين بما فيه رائحة دليل يصلح للتمسلك به قلت قد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتق اثنين وأرق أربعة كما في حديث ابن عمر عند مسلم وغيره وكما في حديث أبي زيد الأنصاري عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح فهذه القرعة فعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم في ستة أعبد قد وقع عتق المالك على كل واحد منهم ثم لما لم ينفذ إلا الثلث كان كل واحد منهم قد عتق ثلثه بيقين ثم حكم الصادق المصدوق بالقرعة فأرق من أرق وأعتق من أعتق على حسب ما اقتضاه الإقراع بينهم وهذا شرع واضح جاء به الذي جاءنا بما شرعه الله لنا وليس بيد من أنكر العمل بالقرعة إلا التشبث بالهباء وتأثير الآراء الرجال على الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وكيف لا يثبت مثل هذا الحكم فيمن هو دون هؤلاء الستة الأعبد في استحقاق العتق وهو من كان واحدا من جماعة وقع عليه العتق ثم التبس بهم فلم يعرف من هو الذي وقع عليه العتق فإن كل واحد منهم ليس له إلا مجرد احتمال أن يكون العتق واقعا عليه فإن الرجوع إلى القرعة في مثل هذا ثابت بالفحوى ومن ترك العمل بمثل هذه السنة الواضحة زاعما بأنها مخالفة للأصول فليس لهذه الأصول وجود وليست إلا مجرد قواعد لم تدل عليها رواية ولا شهدت لها دراية على أن الرجوع إلى القرعة والعمل بها قد وقع من الشارع في مواضع أخرى ومن ذلك أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ومن ذلك ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة المتنازعين في ولد الأمة المشتركة بينهم فقرره صلى الله عليه و سلم واستحسنه وقد تقدم فعرفت بهذا أن القرعة شرع ثابت واضح تنقطع به الشبه وتثبت به الحقوق وإذا تقرر لك هذا عرفت عدم صحة ما تفرع عن كلام المصنف من إيجاب السعاية وما بعدها (3/376)
قوله ويصح تعليق تعيينه في الذمة الخ
أقول وجهه أنه أوقع العتق مجملا وعلق التعيين بوقت مستقبل فلا يعرف من وقع عليه العتق على التعيين إلا بالتعيين فهذا هو معنى كونه يقع حين التعيين وإن كان الإيقاع سابقا له ولكن لا حكم لهذا الإيقاع المجمل أي لا يترتب عليه شيء من أحكام الحرية
وأما قوله فإن مات قبله عم فلا وجه له بل الحق أنه يقرع ويعتق من عينته القرعة ولا سعاية
وأما قوله وإن مات فوجهه أنه لم يبق محلا للتعيين إلا الحي وهكذا إذا أعتق أحدهما أو أستولده أو باعه فإن صدور أحد هذه الثلاثة الأمور تدل على اختياره لتعيين العتق فيمن لم يعتقه أو لم يبعه أو لم يستولده وأما كونه يتقيد بالشرط والوقت فظاهر لأن المالك محكم في ملكه ولا حجر عليه ولا يقع إلا بعد حصول الشرط أو حضور الوقت لأن ذلك هو نفاذ اللفظ وأما كون المعلل كالمطلق فظاهر لأنه لم يكن في التعليل ما يشعر بالتقييد
فصل
فمن قال اخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر بطل ببيعه أحدهما إلا الورثة وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه به من المدة أو خدمتهم قدرها ولو في غير الضيعة ومفرقة ومن مات فأولاده فقط وإن جهل قصده فبالمدة فيغرم أجره ما فوت (3/377)
وقيل بالخدمة فيعتق بهبة جميعها لا بعضها لكن يحاص في الباقي وحكم الرق باق للواهب حتى يستتم فإن مات قبله أخذ كسب حصته وإذا أعتقه منهم موسر غرم قيمته ومعسر سعى العبد والأيام للأسبوع وأكثرها لسنة وأياما لعشر وقليلة لثلاث وكثيرة لسنة وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه وأول من تلد لأول بطن وله نيته في كل لفظ احتملها بحقيقته أو مجازه
قوله فصل ومن قال أخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر الخ
أقول قد أوقع العتق مرتبا على فعل الخدمة ففي صحة بيعه منه نظر لأن هذا العبد قد صار له حكم المكاتب وسيأتي في الكتابة أن العوض يصح أن يكون مؤجلا ولا فرق بين تعليق العتق بتسليم مال أو بمنفعة لأن القصد قد تعلق في كل واحد من العتقين بعوض فالمكاتب لا يعتق إلا بتسليم مال الكتابة وهذا لا يعتق إلا بالخدمة ولا يصح أن يقال إن هذا من باب الوصية والرجوع عنها قبل الموت صحيح لأنا نقول هذا عتق معلق على حصول عوض فصار للعبد به حق وعلى تسليم أنه يقصر حكمه عن حكم الكتابة لإيقاع الكتابة في الحال فليس هذا بمنزلة دون منزلة المدبر فإنه علق عتقه بالموت وثبت له بذلك حق يمنع من بيعه إلا لفسق أو ضرورة كما سيأتي
وأما قوله لا الورثة فوجهه أن ذلك التعليق قد نفذ بموت المالك كما تنفذ الوصية بموت الموصي بناء على أن لهذا العتق حكم الوصية وفيه ما قدمنا
وأما قوله وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه من المدة فلا وجه له لأن تلك المدة إنما هي ظرف للخدمة والمقصود هو الخدمة ولكن في ذلك الزمان وذلك المكان فلا يعتق إلا بإيقاع الخدمة عشر سنين في تلك الضيعة وليس هذا من الأوصاف الطردية فإنه ربما تعلق به غرض للمعتق يوجب اعتباره إلا أن يعرف من قصده أنه لا يريد إلا (3/378)
مجرد إيقاع الخدمة قدر تلك المدة في أي مكان وأما كون نصيب من مات من الأولاد لورثته فظاهر لأنهم يستحقون كل ما كان لمورثهم من الأموال والحقوق
وأما قوله فإن جهل قصده فبالمدة فلا وجه له وكيف يجهل قصده بعد تصريحه بالخدمة في المدة المقررة في المكان المعين قصده وهو ما أفاده كلامه هذا فيجب الحمل عليه حتى يظهر من قصده ما يخالفه وهذا يغنيك عما ذكره المصنف إلى آخر البحث والأصل في هذا البحث حديث سفينة قال أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما عاش أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داود
قوله والأيام للأسبوع
أقول أفعال هو من مجموع القلة فيصدق بثلاثة أيام وتعريفه يدل على عهد ذهني أو خارجي فإن كان كذلك كان العمل على ما هو معهود للمتكلم وإن لم يكن كذلك فلا وجه لحمله على الأسبوع إلا إذا قصده المتكلم
وأما قوله أياما فظاهر أنه يصدق على ثلاثة أيام لغة والظاهر عدم الزيادة كما هو شأن جموع القلة فلا وجه لقوله وقليله لثلاث لأن هذا هو مدلول اللفظ من غير وصف له بالقلة
وأما قوله وكثيره لسنة فالظاهر أن هذا الوصف يصدق بمجرد وجود الزيادة على ثلاثة أيام الذي هو مدلول هذا الجميع فإن قصد المصنف رحمه الله ما تدل عليه لغة العرب فهو ما ذكرنا وإن كان بصدد بيان أعراف فإن ثبت للمتكلم عرف حمل كلامه عليه وإلا فلا (3/379)
قوله وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه
أقول هذا هو ظاهر هذا اللفظ العام لصدقه على كل من يصدق عليه أنه مملوك ولكن الظاهر أن القائل بهذه المقالة لا يقصد من قد حصل له سبب من أسباب عتقه
وأما قوله وأول من تلد لأول بطن فالظاهر أنه لا يتناول إلا أول من وضعته إذا كان في بطنها أكثر من واحد فإن الثاني لا يصدق عليه لفظ أول إلا أن يكون له قصد فالعمل على القصد
وأما قوله وله نيته في كل لفظ الخ فظاهر لأن النية هي التي تدور عليها الأحكام ولا بد مما ذكره المصنف من الاحتمال لأنه لو ادعى ما لا يحتمله لفظه لكان مدعيا خلاف الظاهر فلا يقبل بمجرد الدعوى
فصل
ويصح بعوض مشروط فلا يقع إلا بحصوله ومعقود لا عن صبي ونحوه فيقع بالقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض فإن تعذر العوض وهو منفعة أو غرض فقيمة العبد أو حصة ما تعذر وبتمليكه جزءا من المال إن قبل لا عينا إلا نفسه أو بعضها وبالإيصاء له بذلك أوله وللغير منحصرا أو حصته وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به قيل إن ادعاه ويصح في الصحة مجانا ولو علق بآخر جزء منها وله قبله الرجوع فعلا لا لفظا وينفذ من المريض ولو مستغرقا ومن غير المستغرق وصية ويسعى حسب الحال فيهما (3/380)
قوله فصل ويصح بعوض مشروط الخ
أقول هذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف وقد كان السلف يعتقون مماليكهم على هذه الصفة فيقول أحدهم لعبده إن فعلت كذا فأنت حر إن أدركت كذا أنت حر إن لم يفتك كذا وبالجملة سواء كان العوض مالا أو منفعة فالأصل الصحة وأما الصبي ونحوه فقد عرفت أنه لا يصح تصرفهما ولا تصرف الولي عنهما إلا لمصلحة وإذا تعذر العوض المجعول في مقابلة العتق فإن عرف من القصد أن المراد تسليمه أو ما يماثله أو قيمته كان الرجوع إلى المثل أو القيمة هو الواجب وإن لم يعرف ذلك لم يقع العتق إلا بالعتق المعين ويبطل بتعذره
قوله وبتمليكه جزءا من المال مشاعا
أقول عتقه بهذا السبب ظاهر لأنه من المال فإذا ملكه جزءا منه فقد ملكه جزءا من نفسه وبتملكه جزءا من نفسه يصير مالكا لبعضه فيسري العتق إلى البعض الآخر منه كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه وما ذكره من اعتبار القول لا بد منه لأنه لا ينتقل الملك من مالك إلى مالك إلا بوقوع التراضي منهما
وأما قوله لا عينا فلا حاجة إليه إذا كانت العين غيره لأنه لا يكون ذلك عتقا ولا يقول به قائل ولا سبق إليه فهم وأما إذا كانت العين نفسه فلا حاجة إلى ذكر ذلك أيضا لأنه إذا عتق بتمليكه نفسه أو بعضها كان ذلك ثابتا بفحوى الخطاب وهكذا يعتق بالإيصاء له بالجزء المشاع أو بتمليكه نفسه أو بعضه كما لو دبره بعد موته ولكن لا بد أن يكون السيد عالما بأن هذا التمليك أو الإيصاء يحصل به العتق للعبد أما لو لم يكن عالما بذلك فلا يعتق أصلا لما عرفناك غير مرة من أن الرضا معتبر في كل معاملة ولا رضا ممن يجهل ما يستلزمه لفظه
قوله وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به
أقول هذا لا وجه له من شرع ولا عقل ولا رواية ولا دراية بل لا بد من كمال (3/381)
المناط الشرعي وذلك بأن يشهد معه شاهد آخر أو يكمل المدعي للعتق بيمينه وكون الشريك شهد بما يضره لا يستلزم أن يقبل فيما يضر شريكه على أنه لا ضرر عليه ها هنا لأن القيمة ستلزم شريكه أو يسعى بها العبد وإلا فقد عتق من العبد ما عتق كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والحاصل أنه لا وجه لجعل هذه الشهادة بمجردها سببا من أسباب العتق وكان على المصنف أن يذكر هذا السبب والذي قبله في أسباب العتق التي تعرض لذكرها في أول هذا الكتاب
قوله وينفذ في الصحة مجانا
أقول وجهه ظاهر لأنه تصرف مالك في ملكه مع وجود المقتضى وعدم المانع وهذا من الظهور بمكان يغني عن تدوينه في المختصرات وهكذا يصح التعليق بآخر جزء من أجزاء صحته ولا وجه لصحة الرجوع لا فعلا ولا لفظا لأنه قد أوقع العتق ومجرد تعليقه لا يصلح مسوغا للرجوع عنه وليس هذا من باب الوصية حتى يقال فيه ما قيل فيما تقدم في فصل خدمة الأولاد وأما كونه ينفذ من المريض فظاهر لأن ملكه لم يخرج عنه فله أن يتصرف به كيف شاء ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه رد إلى الثلث كما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم فيمن أعتق ستة أعبد لم يكن له من المال سواهم وقد تقدم ومعلوم أن هذا العبد المعتق حال المرض إذا كان يخرج كله من الثلث أو يخرج بعضه منه صار حرا بذلك وأما على تقير أن التركة مستغرقة بالدين فذلك مانع من تصرف المالك فيها بوجه من الوجوه لأنه بمثابة الحجر له إلا أن يرضى أهل الدين بالسعاية من العبد (3/382)
فصل
ولا يتبعض غالبا فيسري وإلى الحمل لا الأم ويسعى لشريك المعتق إلا أن يعتقه موسر ضامن ومن أعتق أم حمل أوصى به ضمن قيمته يوم وضعه حيا فقط إلا للشريك في الأم فيتداخلان
قوله فصل ولا يتبعض
أقول اختلفت الأحاديث في هذا ففي بعضها في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق فهذا الحديث يدل على أن السراية إلى نصيب الشريك إنما تثبت مع وجود مال الشريك المعتق يمكن منه غرامة قيمة نصيب الشريك وإذا لم يكن له مال فلا سراية ويعتق نصيب المعتق ويبقى نصيب شريكه رقا وفي لفظ في الصحيحين وغيرهما من هذا الحديث من أعتق عبدا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا وفي الصحيحين ألفاظ مصرحة بتقييد وقوع العتق بكون الشريك موسرا وهي تفيد أنه إذا كان معسرا فلا يعتق إلا نصيب الموقع للعتق وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصة في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه فأفاد هذا الحديث أنه إذا كان الشريك الذي أوقع العتق معسرا عتق العبد كله وسعى العبد في نصيب (3/383)
الشريك الآخر فالجميع بين هذه الأحاديث الثابتة في الصحيحين وما ورد في معناها خارج الصحيحين أن الشريك الموقع للعتق إن كان موسرا ضمن قيمة نصيب الشريك من ماله وإن كان معسرا فإن كان العبد قادرا على السعاية واختار ذلك عتق جميعه وسعى وإن لم يكن قادرا على السعاية أو أبى أن يسعى فقد عتق منه ما عتق وهو نصيب الذي أعتقه ويبقى نصيب الآخر رقا وليس في هذا ما يقتضي المنع منه من شرع ولا عقل وإنما قلنا إنه يعتبر رضاء العبد بالسعاية جميعا بين حديث السعاية وبين حديث وإلا فقد عتق منه ما عتق فإذا رضي العبد ببقاء بعضه قنا ثم يجبر على خلاص نفسه بالسعاية عليه لأن ذلك أمر نفعه له فإذا اختار تركه لم يجبر عليه كما تدل عليه قواعد الشرع ولا سيما وهو يتمسك ها هنا بسنة صحيحة ثابتة وهو قوله صلى الله عليه و سلم وإلا فقد عتق منه ما عتق ومن شك في ثبوتها فشكه مدفوع مرفوع بترجيح الأئمة من الرواة لثبوتها ورفعها وقد أوضحت الكلام فيما قاله الحفاظ في زيادة وإلا فقد عتق منه ما عتق وفي زيادة ذكر الاستسعاء للعبد في شرحي للمنتقي فليرجع إليه
قوله وإلى الحمل
أقول لا دليل يدل على هذه السراية فإن كان الدليل القياس على سراية عتق الجزء المشاع إلى الباقي فليس هذا كذلك فإن هذا جزء منفصل وإن كان إيقاع العتق على الأم متصلا فاتصاله إنما هو الإيصال الكائن بين الظرف والمظروف وليس لذلك اعتبار وعلى هذا فلا حاجة إلى قوله ومن أعتق أم حمل الخ (3/384)
باب والتدبير
يصح من الثلث بلفظه كدبرتك وبتقييد العتق بالموت مطلقا مفردا لا مع غيره إن تعقب الغير قيل فوصية تبطل بالاستغراق
قوله باب والتدبير يصح من الثلث
أقول وجه هذا المدبر حر من الثلث ولكنه لم يثبت دفعه من طريق يقوم بها الحجة والحفاظ قد جزموا بأنه موقوف والموقوف لا حجة فيه ويمكن أن يقال إن التدبير لما كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية وهي في هذه الصورة نافذة من الثلث وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم الثلث والثلث كثير ويؤيد ذلك حديث الأعبد الستة المتقدم ذكره فإن النبي صلى الله عليه و سلم نفذ عتق الثلث منهم بالقرعة حيث لم يكن للمعتق مال سواهم
قوله بلفظه كدبرتك أو أنت مدبر
أقول هذا ظاهر وهكذا تقييد العتق بالموت مطلقا لأنه معنى التدبير فلا فرق بينه وبين قوله دبرتك وأما إذا قيده بموته وحصول شيء آخر معه وتأخر ذلك الآخر فجزم المصنف بأنه لا يصح ذلك لأنه قد صار ملكا للورثة بموته ولا وجه لهذا فإن (3/385)
هذا وصية بالعتق وله حكمها عند المصنف وغيره وكان عليه أن يقرر هذا ويختاره كما قرره فيما سبق وقد قدمنا ما يرشد إلى ما هو الصواب
فصل
ولا تبطله الكتابة وقتل مولاه ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة فيطيب للشريك حصته ولو موسرا فإن زالا وفسخ بحكم أو قبل التنفيذ حرم ويسري إلى من ولد بعده ويوجب الضمان فمن دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى لمن تأخر موته وله قبل الموت حكم الرق إلا في البيع
قوله فصل ولا تبطله الكتابة
أقول قد صار العبد مستحقا للحرية بالتدبير وهو عتق مقيد بالموت فليس للسيد أن يجبره على الكتابة فإن اختار ذلك فمن نفسه لأنه رضي بحمل مؤنة مال الكتابة وقد كان عنها في سعة وحينئذ يعتقه بالسبب الأسبق وقد أخرج البخاري في التاريخ عن محمد بن قيس ابن الأحنف عن أبيه عن جده أنه أعتق غلاما له عن دبر وكاتبه فأدى بعضا وبقي بعض ومات مولاه فأتوا ابن مسعود فقال ما أخذ فهو له وما بقي فلا شيء لكم
وأما قوله وقتل مولاه فوجهه ظاهر لأن القتل لا يرفع التدبير الذي وقع عليه واستحق الوفاء به والمعصية بالقتل لا تبطل ذلك كما لم تبطله سائر المعاصي والقياس على الميراث قياس مع الفارق
قوله ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة
أقول استدل القائلون بتحريم بيعه بما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث وفي إسناده عبيدة (3/386)
ابن حسان وهو منكر الحديث والحفاظ يقفونه على ابن عمر وقال الدارقطني في العلل الأصح وقفه وقال العقيلي لا يعرف إلا بعلي بن ظبيان وهو منكر الحديث وقال أبو زرعة الموقوف أصح وقال ابن القطان المرفوع ضعيف وقال البيهقي الصحيح موقوف وقد روى عن علي ونحوه موقوفا عليه وعن أبي قلابة مرسلا أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله النبي صلى الله عليه و سلم من الثلث ولا يخفاك أن مثل هذا لا ينتهض للاستدلال به على التحريم للبيع لأن المرفوع لم يصح والموقوف لا حجة فيه لكن لما كان السيد قد أوقع العتق للعبد مقيدا بموته كان هذا هو المانع من البيع لأنه قد أخرجه عن ملكه إخراجا مقيد بوقت فليس له أن ينقض ما أبرمه وأما تسويغ بيعه للفسق فليس في هذا إلا ما أخرجه الشافعي والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها باعت مدبرتها التي سحرتها وهذا لا تقوم به حجة لأنه فعل صحابي وأيضا السحر كفر فتلك المدبرة قد صارت كافرة بما فعلته من السحر وأما جواز بيعه للضرورة فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبدالله بكذا وكذا فدفعه إليه فهذا دليل على جواز البيع للحاجة ومما يدل على أن البيع لأجلها تولي النبي صلى الله عليه و سلم للبيع فإن ذلك يفيد أن المدبر للعبد قد أنهى الأمر إليه وشكا إليه حاجته إلى بيعه ولكنه شك في الجواز مع التدبير فأستفتي النبي صلى الله عليه و سلم فباعه ولولا ذلك لم يبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه و سلم ويؤيد هذا ما وقع في رواية للنسائي من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم باعه بثمانمائة (3/387)
درهم فأعطاه فقال اقض دينك وأنفق على عيالك فإن هذا يدل على أن البيع لحاجة قضاء الدين والنفقة على العيال فلا يجوز إلحاق البيع لغير حاجة بالبيع لحاجة لوجود الفارق وقد ذهب إلى عدم جواز البيع مطلقا الجمهور كما قال النووي ونقله البيهقي في المعرفة عن أكثر الفقهاء والحديث يرد عليهم
وأما قوله وتطيب للشريك حصته ولو موسرا ففيه نظر فإن تسويغ البيع للشريك المحتاج لا يستلزم تسويغه للشريك الموسر لكن لما كان عتق الشريك يسري إلى نصيب شريكه بالأدلة المتقدمة وكان ضمان السراية على الشريك إن كان موسرا وإلا سعى العبد كان الأمر هنا هكذا فلا يطيب له ما يدفعه المشتري بل يطيب له ما يغرمه الشريك أو سعى به العبد
وأما قوله فإن زالا الخ فصحيح لأن العبد المدبر قد عدم المقتضي لبيعه ووجد المانع منه
وأما قوله ويسري فصحيح لأن السابق بالتدبير قد أوقع العتق مقيدا فيضمن للشريك إن كان موسرا ويسعى العبد إن كان معسرا إذا اختار العبد ذلك على ما تقدم تقريره وهكذا من دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى العبد لمن تأخر موته لأنه عتق بموت الأول لكن ينبغي أن يقال إن الأول موتا يضمن من تركته فإن كان فقيرا سعى العبد إن اختار ذلك وإلا فلا يعتق إلا نصيب من تقدم موته ويبقى نصيب الآخر رقا حتى يموت فيعتق جمعا بين الأدلة كما تقدم وأما كون للمدبر قبل الموت حكم الرق فوجهه ظاهر لأنه لم يجعل عتقه مقيدا بالموت إلا لأجل الانتفاع به قبل الموت وأما استثناء البيع فللدليل المتقدم وهكذا سائر التصرفات (3/388)
باب الكتابة
قوله باب الكتابة
أقول ذهب الجمهور إلى أنها غير واجبة وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ونقله ابن حزم عن مسروق والضحاك وزاد القرطبي معهما عكرمة وهو قول للشافعي واختاره ابن جرير الطبري وحكاه المصنف في البحر عن عطاء وعمرو بن دينار وقال اسحق بن راهويه إنها واجبة إذا طلبها العبد
احتج القائلون بالوجوب بقوله سبحانه فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وأجاب الجمهور عن الاستدلال على الوجوب بهذه الآية بأجوبة منها ما قاله الإصطخري إن القرينة الصارفة للأمر المذكور في الآية هو الشرط المذكور في آخرها وهو قوله إن علمتم فيهم خيرا فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب ومنها ما قال غيره إن الكتابة عقد غرر فكان الأصل أن لا (3/389)
يجوز فلما وقع الإذن فيها كان أمرا بعد منع والأمر بعد المنع للإباحة ومنها ما قاله القرطبي إنه لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الأمر بالكتابة غير واجب لأن قوله خذ كسبي وأعتقني يصير بمنزلة أعتقني بلا شيء وذلك غير واجب اتفاقا وقد أجيب بأجوبة غير هذه والحق أن الآية قد دلت على وجوب الكتابة مع علم السيد بالخير في عبده وقد عمل بهذه الآية عمر بن الخطاب كما في صحيح البخاري عن موسى بن أنس أن سيرين سأل أنس بن مالك المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر فقال كاتبه فأبى فضربه بالذرة وتلى عمر فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
فصل
يشترط في المكاتب التكليف وملك في الرقبة والتصرف وفي المملوك التمييز وفيها لفظها والقبول في المجلس بالتراضي وذكر عوض له قيمة وإلا بطلت معلوم كالمهر يصح تملكه مؤجل منجم لفظا ولو عجل وإلا فسدت فيعرض للفسخ ويعتق بالأداء وتلزم القيمة
قوله يشترط في المكاتب التكليف
أقول وجه ذلك أنها عقد معاوضة والصبي والمجنون غير جائزي التصرف وهكذا يشترط كونه مالكا للرقبة لأن صحة العتق وقبض العوض غير مترتبه على صحة الملك
وأما قوله وفي المملوك التمييز فلا وجه له بل لا بد أن يكون مكلفا جائز التصرف (3/390)
وأما ما ذكره من القبول في المجلس فالتراضي لا بد منه وهو المناط في ثبوت ذلك ولا يشترط المجلس بل لو رضي أحدهما بعد مدة والآخر باق على الرضا كان ذلك معاملة صحيحة وتصرفا شرعيا وأما اشتراط ذكر عوض له قيمة فوجهه أنه لا يوجد معنى الكتابة إلا بذلك وإلا لم تكن مكاتبة وهو معنى ما ذكره المصنف من البطلان وهكذا لا بد أن يكون مال الكتابة مما يصح تملكه فإن كان لا يصح تملكه فوجوده كعدمه وحينئذ لا توجد معنى الكتابة
قوله مؤجل منجم لفظا
أقول لم يثبت شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم في هذا وهو الحجة لا ما وقع من أفعال بعض الصحابة أو أقوالهم على أنهم يختلفون في ذلك فإنه أخرج الدارقطني عن أبي سعيد المقبري قال اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم فأذهبت إليها عامة المال ثم حملت ما بقي إليها فقلت هذا مالك فاقبضيه فقالت لا والله حتى أقبضه منك شهرا بشهر وسنة بسنة فخرجت به إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال عمر ارفعه إلى بيت المال ثم بعث إليها هذا مالك في بيت المال وقد عتق أبو سعيد فإن شئت فخذي شهرا بشهر وسنة بسنة قال فأرسلت فأخذته وأخرجه أيضا البيهقي وإذا عرفت عدم وجود دليل على لزوم النتجيم فلا يتم ما ذكره المصنف من الفساد ولا ما رتبه عليه
فصل
ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه لا التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك وله ولاء من كاتبه إن عتق بعده وإلا فلسيده ويرده في الرق اختياره ولا (3/391)
وفاء عنده ولو كسوبا وعجزه لا بفعل السيد عن الوفاء للأجل بعد أمهاله كالشفعة فيطيب ما قد سلم إلا ما أخذه عن حق فلأهله ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه وإن لم يفسخ وإذا أدخل معه غيره في عقد لم يعتقا إلا جميعا ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه لا بعتقه ولو بعد الموت بأن خلف الوفاء أو أوفى عنه وله كسبه لا بيعه ومتى أسلم قسطا صار لقدره حكم الحرية فيما يتبعض من الأحكام حيا وميتا ويرد ما أخذ بالحرية إن رق ولا يستتم إن عتق ويسري كالتدبير وتوجب الضمان ويستبد به الضامن إن عجز وله قبل الوفاء حكم الحر موقوفا غالبا
قوله فصل ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه
أقول هذا يقتضيه عقد الكتابة فليس للسيد المنع منه وهكذا ليس له المنع من التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك لأنه لم يبق للسيد إلا ما جعله عليه من المال فإن وفى به كان حرا وإن عجز عنه عاد عبدا وقد وقع منه ما وقع في وقت ملكه للتصرف فلا يمنع من شيء من ذلك وإن انتهى الحال إلى دخول نقص على السيد بما فعله العبد من التبرعات فهو فعل ذلك بإذن سيده له بإيقاع به المكاتبة له ولا ينافي هذا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأدها إلا عشر (3/392)
أوقيات فهو رقيق وفي لفظ لأبي داود المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهم
وقد أثبت المصنف أن للمكاتب ولاء من كاتبه أن عتق بعده وهذا يدل على جواز تصرفاته قبل الوفاء بمال الكتابة بمثل هذا
قوله ويرده في الرق اختياره
أقول ليس ببعيد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده فإن الظاهر عد الجواز مطلقا لأنه تلاعب بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي وأما عجزه فظاهر لحديث عمرو بن شعيب المتقدم ولكونه لم يحصل بعد العجز ما هو معنى الكتابة وأما كونه يطيب ما قد سلم فوجهه أن العبد لا يملك وأما من قال إنه يملك فلا يطيب للسيد
وأما قوله ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه فهو أيضا نقض من جهة السيد لما وقع التراضي عليه فلا يحل ولا ينافي هذا حديث بريرة وإعانة عائشة لها على تسليم ما كوتبت عليه أن ذلك هو تسليم لمال الكتابة من الغير لا بيع من المكاتب للمكاتب إلى الغير لكنه ثبت في رواية في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق فأفاد هذا جواز بيع المكاتب
وأما قوله وإذا دخل المكاتب معه غيره لم يعتقا إلا جميعا فوجهه ظاهر لأنه رضي لنفسه بذلك
وأما قوله ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه إلا بعتقه فوجهه أنه لا يملكه ملكا (3/393)
مستقرا إلا بذلك
قوله ومتى سلم قسطا صار له حكم الحرية الخ
أقول استدل القائلون بهذا التبعيض لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يؤدي المكاتب بحصه ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد وبما أخرجه أحمد وأبو داود ومن حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم يؤدي المكاتب بقدر ما أدى وأخرجه البيهقي أيضا من طرق فقد أثبت الشارع للمكاتب التبعض في هذا الحكم فيلحق به غيره مما يمكن تبعضه ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم وقوله أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق فإن هذا إنما هو باعتبار أنه لا يصير حرا خالصا إلا بالوفاء وليس في حديثي التبعض إلا إثبات حكم الكتابة له قبل الوفاء لا إثبات أحكام الحر الخالص فلا معارضة بين الأحاديث
وأما قوله ويرد ما أخذ بالحرية إن رق فوجهه ظاهر لأنه انكشف بطلان ذلك المقتضى ووجود المانع ولعن كان مقتضى هذا أنه سيتم إن عتق اعتبار بالانتهاء في الموضعين ولا وجه للحكم عليه بأنه يرد إن رق مع الحكم عليه بأنه لا يستتم إن رق لأنه تغليط عليه فيما هو عليه وتخفيف فيما هو له بلا فارق من رواية ولا دراية
وأما قوله ويسري ويوجب الضمان فالكلام هنا كما قدمنا في التدبير فليرجع إليه (3/394)
وأما قوله وله قبل الوفاء حكم الحر فليس بصواب بل الحق ما قدمنا بأن له قبل الوفاء حكما بين حكمي الحر والعبد إلا في رجوعه في الرق إذا عجز فإن له في ذلك حكم العبد (3/395)
باب الولاء
إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر مسلم على حربي أسلم على يده وإلا فلبيت المال حتى يكمل وولى العتاق يثبت للمعتق ولو بعوض أو سراية أصلا على من أعتقه وجرا على من أعتقه عتيقه أو ولده ولا أخص منه ولا يباع ولا يوهب ويلغو شرطه للبائع ولا يعصب فيه ذكر أنثى ويورث ويصح بين الملل المختلفة لا التوارث حتى يتفقوا وأن يكون كل مولى لصاحبه وأن يشترك فيه والأول على الرؤوس والآخر على الحصص ومن مات فنصيبه فى الأول لشريكه وفي الآخر للوارث غالبا
قوله باب الولاء إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر
أقول استدل على إثبات التوارث بولاء الموالاة بما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته قال الترمذي لا تعرفه إلا في حديث عبدالله بن وهب ويقال ابن موهب عن تميم الداري وقد أدخل بعضهم بين عبدالله بن (3/396)
موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذؤيب وهو عندي ليس بمتصل انتهى وقال الشافعي في هذا الحديث ليس بثابت إنما يرويه عبدالعزيز بن عمر بن ابن وهب عن تميم الداري وابن موهب ليس بالمعروف عندنا ولا نعلمه لقي تميما ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك من قبل أنه مجهول ولا أعلمه متصلا وقال الخطابي ضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري وقال عبدالعزيز رواية ليس هو من أهل الحفظ والاتقان وقال البخاري في الصحيح واختلفوا في صحة هذا الخبر وقال أبو مسهر عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز ضعيف الحديث انتهى وأقول عبدالعزيز من رجال الصحيحين وقد قال يحيى بن معين إنه ثقة وعبدالله بن وهب وثقه الفسوي وقال في التقريب ثقة ولكن لم يسمع من تميم فلا يتم ما قاله الشافعي من أنه مجهول ولكن علة الحديث أن قبيصة لم يلق تميما ولا يعارض هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححاه وحسنه أبو زرعة الرازي من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرث لأن النبي صلى الله عليه و سلم أثبت أنه وارث من لا وارث له ومولى الموالاة وارث بالحديث المتقدم عنه صلى الله عليه و سلم فهو أقدم من بيت المال وتؤيد هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال والله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له ولا يعارض الحديث المذكور أيضا (3/397)
ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عائشة أن مولى للنبي صلى الله عليه و سلم خر من عذق نخلة فمات فأتي به النبي صلى الله عليه و سلم فقال له من نسيب أو رحم قالوا لا قال أعطوا ميراثه بعض أهل قريته لأن هذا منه صلى الله عليه و سلم من باب الصرف لما هو أولى به وذلك جائز وهكذا يحمل على الصرف ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث بريدة قال توفي رجل من الأزد فلم يدع وارثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادفعوه إلى أكبر خزاعة وفي إسناده جبريل بن أحمر قال النسائي منكر الحديث وقال أبو زرعة الرازي شيخ وقال يحيى بن معين كوفي ثقة وبهذا تعرف أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث وإن زعم ذلك بعض أهل العلم ولا وجه لاشتراط الذكوره لأن المرأة من جملة من يتعلق به أحكام الشرع إلا ما خصها منه دليل ولا يصلح لذلك ما في حديث تميم من قوله ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين فإن ذكر الرجل خارج مخرج الغالب كما في سائر الخطابات الشرعية وأما اشتراط الحرية والإسلام فصحيح لأن الرق والكفر من موانع الأرث
وأما قوله وإلا فلبيت المال حتى يكمل فمبني على أنه لا حق لغير المكلف في ولاء الموالاة وفيه نظر وعلى التسليم فلا وجه لانتظار حصول شرط لم يكن حاصلا في الحال سواء كان بلوغ الصبي أو حرية العبد أو إسلام الكافر (3/398)
قوله وولاء العتاق يثبت للمعتق الخ
أقول هذا ثابت بالأدلة الصحيحة المتواترة وبالإجماع الصحيح ولم يقل أحد شيء يخالف ذلك وأما دعوى العتيق إذا لم يخلف سيده وارثا يرثه فمن أعجب ما يقرع الأسماع مع كونها مخالفة للإجماع وأما الاستدلال لهذه الدعوى الداحضة بمثل حديث الولاء لحمة كلحمة النسب فقد بينه عنه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا يباع ولا يوهب فإن هذا هو المراد بالتشبيه على أنه لا ملجيء للجواب على هذا لأن المراد به أن هذه الوصلة والوسيلة بالولاء لاحقة بالنسب فيما أثبته الشرع لها ونفاه عنها فما الدليل على أن الميراث من جملة ذلك وبهذا تعرف أن الاستدلال بهذا الحديث مصادرة عن المطلوب وهكذا الاستدلال بحديث مولى القوم منهم فإنه منهم فيما أثبته له الشرع من الأحكام وأما ما روى أن رجلا مات ولو يترك وارثا إلا غلاما كان أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ميراثه للغلام أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عباس وفي إسناده عوسجة مولى ابن عباس وفيه مقال فإن هذا ظاهر في أن الغلام هو الذي أعتق وعلى تقدير الاحتمال فلا حجة في المحتمل وعلى كل حال فللصرف في عتيق من لا وارث له مدخل في ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان هو وارث من لا وارث له له نوع أخصية بصرف ميراثه أو بعضه فيه
وأما قوله ولو بعوض أو سراية فظاهر وهكذا قوله أصلا على من أعتقه الخ
وأما قوله لا يباع ولا يوهب فللحديث المتقدم وهو في الصحيح ووجه قوله ويلغو شرطه للبائع أن ذلك يستلزم رفع موجب البيع وقد ثبت أن الولاء لمن أعتق ولا يكون العتق إلا من مالك (3/399)
قوله ولا يعصب فيه ذكر أنثى
أقول ينبغي أن ينظر في دليل هذه الكلية فإنه إذا قد ثبت الأرث به كان له أحكامه ومن أحكامه أنه يعصب فيه الذكر الأنثى ولم يثبت في ذلك ما تقوم به الحجة وأما قول بعض الصحابة فلا يصلح للاحتجاج به ولا يخصص ما تقتضيه الأدلة الواردة على ما تقتضيه قواعد الميراث
أما قوله ويورث به ولا يورث فمعنى إثبات الإرث فيه ظاهر ومعنى كونه لا يورث أنه يستحقه الأعلى درجة كما لو خلف رجل ولدين وقد كان أعتق عبدا فمات أحد الولدين وخلف ولدا ثم مات العتيق فإن ميراثه لابن المعتق دون ابن ابنه الآخر وهذا لا مستند له إلا ما روى أحمد في المسند عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود أنهم قالوا الولاء للكبر ولكن الأولى الرجوع إلى ما ثبت مرفوعا فهو الحجة وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن المديني وابن عبدالبر عن عمر بن الخطاب أنه تخاصم إليه جماعة في مثل هذا فقال أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته يقول ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان
وأما قوله ويصح بين الملل المختلفة فهو مبني على ما تقدم من صحة إيقاع العتق من الكافر وقد قدمنا ما فيه وأما كونه لا توارث بهذا الولاء حتى يتفقوا في الملة فظاهر للأحاديث المصرحة بأنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين وهكذا يصح أن يكون كل (3/400)
واحد مولى للآخر كما لو أعتق الرجل عبدا لم لحق الرجل بدار الحرب فسباه عبده الذي هو عتيق له فأعتقه وهكذا يصح أن يشترك فيه الجماعة وذلك بأن يشترك في عبد جماعة فيعتقونه أو يسلم الكافر على يد جماعة ويكون ولاء العتاق على قدر الحصص وولاء الموالاة على الرؤوس لأن لكل واحد منهم حقا يساوي حق الآخر
وأما قوله ومن مات فنصيبه الخ فالظاهر استؤ ولاء العتاق وولاء الموالاة في أن نصيب كل واحد منهم لورثته لا لشريكه كما تقتضيه أدلة الميراث على العموم ولا وجه للفرق بين الولائين إلا مجرد الرجوع إلى رأي وقد قدمنا الكلام على قوله ولا يورث
تم بحمد الله الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله - كتاب الإيمان (3/401)
بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الإيمان
فصل
إنما يوجب الكفارة الحلف من مكلف مختار مسلم غير أخرس بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا يكون على ضدها كالعهد والأمانة والذمة أو بالتحريم مصرحا بذلك قصد إيقاع اللفظ ولو أعجميا أو كانيا قصده والمعنى بالكتابة أو أخلف أو أعزم أو أقسم أو أشهد أو علي يمين أو أكبر الأيمان غير مريد للطلاق على أمر مستقبل ممكن ثم حنث بالمخالفة ولو ناسيا أو مكرها له فعل ولم يرتد بينهما وتنعقد على الغير في الأصح ولا يأثم بمجرد الحنث
قوله فصل إنما يوجب الكفارة الحلف من مكلف
أقول وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون غير مخاطبين بالأحكام الشرعية وهذا منها وقد دل الدليل على ذلك كما أوضحنا غير مرة وهكذا اشتراط الاختيار (4/5)
لأن المكره مرفوع عنه الخطاب بحكم الشرع وهو أيضا مع الإكراه غير معقد لليمين وقد قال تعالى بما عقدتم الأيمان وهو أيضا غير مكتسب بقلبه وقد قال تعالى بما كسبت قلوبكم وقد رفع الله سبحانه الخطاب على من تكلم بكلمة الكفر مكرها قال إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وأيضا خطاب لمكره بيمينه االتي أكره عليها هو من تكليف ما لا يطيقه العبد وقد رفعه الله عن عباده كما في الكتاب العزيز وفي السنة الصحيحة
وأما اشتراط أن يكون مسلما فلكون الكافر غير داخل في الخطابات الواردة في ذلك بتكفير الأيمان وحفظها وإن كان آثما بالحلف الباطل فإن ذلك الإثم هو باعتبار العقاب في الدار الآخرة
وأما اشتراط أن يكون غير أخرس فوجهه أن لا يمكن منه الحلف فلا يثبت عليه حكمه
قوله بالله أو بصفة لذاته أو لفعله
أقول أما الحلف بالله فهو الثابت في الشرع ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة حتى ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وهكذا ثبت في رواية هذا الحديث عند مسلم (4/6)
وغيره بلفظ من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله وفي هذا المعنى أحاديث
وأما الحلف بالصفات فقد ثبت أنه كان أكثر حلفه صلى الله عليه و سلم أن يقول لا ومقلب القلوب وثبت عنه أنه كان كثيرا ما يحلف فيقول والذي نفسي بيده وهكذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه و سلم فقال وأيم الذي نفس محمد بيده وثبت أيضا فيهما وغيرهما أنه قال في زيد بن حارثة وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وثبت أيضا فيهما وغيرهما أنه قال وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها وثبت في الكتاب العزيز الأمر منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه و سلم بأن يحلف بالرب عز و جل فقال قل إي وربي إنه لحق قل بلى وربي لتبعثن قل بلى وربي لتأتينكم
والحاصل أن ما ورد في الإذن بالأقسام به في الكتاب والسنة فهو القسم الذي تلزم فيه الكفارة وتثبت له أحكام اليمين وقد ألحقوا بذلك سائر صفات الذات والفعل التي لا يكون الله سبحانه على ضدها
وأما قوله كالعهد والأمانة والذمة فهذه لا بد من ورود الإذن بها ولا سيما (4/7)
ورد النهي من بعضها كما في حديث بريدة عند أبي داود بإسناد رجاله ثقات قال قال الله صلى الله عليه وأله وسلم ليس منا من حلف بالأمانة وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يحلف بالأمانة فقال ألست الذي يحلف بالأمانة قال في النهاية يشبه أن تكون الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله وصفاته و الأمانه أمر من أموره فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء الله كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم انتهى ولا يخفاك أن العهد والذمة مشاركان للأمانه في هذه العلة
قوله أو بالتحريم
أقول لم يأذن الله لعباده بهذا الحلف وعاتب عليه رسوله صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك أن تبتغي مرضاة أزواجك ولا يدل قوله سبحانه قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم على أن الحلف كان بالتحريم لاحتمال الآية فإن الحالف بالله أن لا يفعل الشيء يصدق عليه أنه قد حرمه على نفسه والروايات من الأحاديث الحاكية لهذه القصة التي سبب نزول هذه الآية مختلفة (4/8)
والحاصل أن التحريم والتحليل هو إلى الله عز و جل لا إلى العبد فكل تحريم لما أحله الله يوجبه العبد على نفسه لا حكم له ولا اعتبار به ولا يصير به الحلال حراما ولا يكون يمينا لما قدمنا من الاحتمال وعلى كل تقدير فلا يجوز لأحد من العباد أن يفعل شيئا عاتب الله عليه ورسوله فإن فعل كان ذلك لغوا لا اعتداد به
قوله مصرحا بذلك
أقول الاعتبار بما يصدق عليه أنه يمين شرعية على الصفة المتقدمة فما كان من الألفاظ لا يحتمل غير اليمين فهو يمين فإن أراد خلافه أو سبقه لسانه لا يلزمه اليمين من غير فرق بين الصريح والكناية
والحاصل أن الاعتبار بالقصد في كل لفظ فلا يتم قوله قصد إيقاع اللفظ لأنه لا اعتبار بمجرد قصد إيقاع اللفظ بل الأعمال بالنيات وقد تقدم الكلام على هذا في الطلاق وفي كثير من الأبواب
قوله أو حلف أو أعزم أو أقسم
أقول أما لفظ أحلف أو أقسم فهو لا يراد بهما إلا اليمين وإن لم يحلف بالمقسم به فيكونا مع قصد الحلف يمينا وقد أخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبريها فإن الإثم على المحنث فجعل النبي صلى الله عليه و سلم قولها هذا (4/9)
يمينا وأمرها أن تبرها وأخرج أيضا أحمد وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن صفوان وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال إنه لا هجرة فانطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا هجرة فقال العباس أقسمت عليك لتبايعنه فبسط رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فقال هات أبررت عمي ولا هجرة وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر لا تقسم لما قال له لتحدثني بالذي أخطأت فسمى صريح اليمين قسما
وأما قوله أو أعزم فليس في هذا ما يفيد اليمين ولكنه كان كثير الوقوع من السلف لا سيما الأكابر منهم كانوا يقولون فيما يريدون وقوعه من غيرهم أو عدم وقوعه عزمت عليك لتفعلن كذا أو عزمت عليك لتتركن كذا وكانوا يرون أن ذلك قسما ويسارعون إلى الامتثال (4/10)
وأما قوله أو أشهد فقد سمى الله سبحانه الأيمان شهادة في آية اللعان
وأما قوله علي يمين أو أكبر الأيمان فظاهر أنه أراد بهذا اليمين
قوله على أمر مستقبل ممكن
أقول وجهه أنه لا يتحقق الحنث الموجب للكفارة إلا في الأمور المستقبلة لأن الحلف على الأمر الماضي إن كان الحالف عالما بأنه على خلاف ما حلف عليه فهي اليمين الغموس وإن كان غير عالم فهو اليمين اللغو وسيأتي أنه لا كفارة فيهما
وأما قوله ولو ناسيا أو مكرها فالظاهر أنهما لا حنث عليهما ولا تلزمهما الكفارة لرفع خطاب الشرع عنهما كما في حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وظاهر الرفع يعم الأمور الدنيوية والأمور الأخروية إلا ما خصه الدليل وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أن الله سبحانه لما حكى عن القائلين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا إلى آخر الآيات قال قد فعلت فقد ثبت بهذا الدليل الصحيح رفع الخطأ والنسيان وعدم المؤاخذة بهما وكذلك ثبت به عدم المؤاخذة بما هو خارج عن طاقة العبد فتكليف المكره هو تكليف بما لا طاقة له به (4/11)
وأما قوله ولم يرتد بينهما فوجهه أن الإسلام يجب ما قبله كما ثبت ذلك بالدليل الصحيح
قوله وتنعقد على الغير على الأصح
أقول هذا الإنعقاد يخالف ما تقدم له في قوله ممكن فإن المراد الإمكان للحالف وهو لا يتمكن من فعل غيره وقد عرفناك أن الخطاب بما لا يمكن هو من المؤاخذة للعبد بما لا طاقة له به وقد رفع الله سبحانه ذلك عن عباده
قوله ولا يأثم بمجرد الحنث
أقول ينبغي أن يقال الحنث يختلف باختلاف المحلوف عليه فإن حلف على أن يفعل ما لا يجوز فعله كان الحنث واجبا عليه وإن حلف على شيء غيره خير منه كان الحنث مندوبا كما في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق جماعة من الصحابة من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه بل ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال والله لا أحلف على شيء فأرى خيرا منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني
ولا يبعد أن يكون الحنث من هذه الصورة واجبا لقوله فليأت الذي هو خير وإن كان المحلوف على فعله مباحا فترك الحنث أفضل لأن الله سبحانه قد أمر بحفظ الأيمان ومعنى حفظها هو عدم المخالفة لما يقتضيه وإن كان المحلوف على عدم فعله (4/12)
مما يجب فعله كان الحنث واجبا وإن كان مما يجب تركه كان الحنث حراما
وبهذا تعرف أن الحنث في بعض الصور يوجب الإثم على الحانث وفي بعضها يوجب الثواب للحانث فهذه الكلية التي جاء بها المصنف غير مسلمة
فصل
ولا تلزم في اللغو وهي ما ظن صدقها فانكشف خلافه والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها ولا بالمركبة ولا بالحلف بغير الله ولا الإثم ما لم يسو في التعظيم أو تضمن كفرا أو فسقا
قوله فصل ولا يلزم من اللغو وهي ما ظن صدقها فانكشف خلافه
أقول قد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو على ثمانية أقوال ولا يخفى أن الواجب الرجوع إلى معنى اللغو لغة إذا لم يثبت له معنى في الشرع يخالف معناه اللغوي فإن ثبت فالرجوع إلى المعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي كما تقرر في الأصول
واللغو في اللغة الباطل ولكنه ثبت عن عائشة أن البخاري وغيره أنها قالت نزلت هذه الآية لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم في قول الرجل لا والله وبلى (4/13)
والله والصحابة أعرف بمعاني القرآن فالرجوع إلى أقوالهم هو الواجب وقد روي عنها وعن جماعة من الصحابة تفاسير مختلفة لمعنى اللغو ولكنهم لم يذكروا أن ما قالوه هو ما نزل به القرآن مع عدم ثبوت ذلك من وجه تقوم به الحجة على أنه قد روى أبو داود قول عائشة هذا مرفوعا بلفظ قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله وهكذا أخرجه مرفوعا ابن حبان والبيهقي وصحح الدارقطني الوقف وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو مثل قول عائشة
وقد أوضحنا الكلام في هذه المسألة في شرح المنتقى وفي التفسير فليرجع إلى ذلك
قوله والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها
أقول هذه اليمين هي التي ورد الوعيد الشديد عليها وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عمرو قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت وما اليمين الغموس قال التي يقتطع بها مال أمريء مسلم فهو فيها كاذب (4/14)
وأخرج أحمد وأبو الشيخ من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس ليس لهن كفارة وذكر منها اليمين التي يقتطع بها مالا بغير حق فصرح النبي صلى الله عليه و سلم بأن اليمين الغموس هي التي يقتطع بها مال امريء مسلم هو فيها كاذب وسماها غموسا فلم يبق بحاجة إلى البحث عن معنى الغموس لغة فإن هذا معنى شرعي قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم صرح فيه بلفظ الغموس وبين معناها ثم ذكرأنه ليس لها كفارة فأفاد بذلك عدم لزوم كفارة الحنث فيها فصح كلام المصنف بالدليل ولا يرد عليه شيء من التشكيكات التي هي دأب من لم يكن من المؤثرين للدليل على القال والقيل
قوله ولا بالمركبة
أقول اليمين لغة وشرعا لا يصدق على مثل هذه المركبة فإنه ليس فيها لفظ القسم بالله أو بصفة لذاته فلا يصدق عليها أنها يمين حتى يحتاج إلى إخراجها عن اليمين التي تجب فيها الكفارة ولا مدخل لها في مباحث اليمين فإن وجد فيها ما يفيد النذر فالكلام فيها كالكلام في النذر وسيأتي وإن لم يكن فيها ما يفيد ذلك فلا يلزم فيها شيء لا وفاء ولا كفارة ومن ادعى غير هذا فعليه الدليل والأموال معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل الحكم على شيء منها بإخراجه عن ملك مالكه إلا بنا قل شرعي تقوم به الحجة
قوله ولا بالحلف بغير الله
أقول الكفارة إنما أوجبها الله سبحانه في الأيمان الشرعية والحلف بغير الله سبحانه ليس من الأيمان الشرعية بل من الأيمان التي ورد الوعيد عليها والزجر عنها وهذا النهي خاص بالعباد فليس لأحدهم أن يحلف بغير الله كائنا ما كان ولا يجوز الإقسام بما أقسم الله به من مخلوقاته فإنه سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وله أن يقسم بما شاء كيف شاء من مخلوقاته وعلى العباد أن يمتثلوا ما شرعه لهم على لسان رسوله (4/15)
من ترك الحلف بغير الله سبحانه وهذا ظاهر واضح لا يخفى
قوله ولا الإثم ما لم يسو في التعظيم
أقول أقل ما تقتضيه الأحاديث الكثيرة في النهي عن الحلف بغير الله والوعيد الشديد عليه أن يكون الفاعل لذلك آثما لأنه أقدم على فعل محرم والإثم لازم من لوازم الحرام وأما الاستدلال على عدم الإثم بما ورد في غاية الندرة والقلة كحديث أفلح وأبيه إن صدق فمن الغرائب والمغالظ وكيف تهمل المناهي والزواجر التي وردت موردا يقرب من التواتر بمثل هذا الذي تعرض العلماء لتأويله بوجوه من وجوه التأويل التي يجب استعمالها والمصير إليها فيما خالف السنن الظاهرة المشتهرة على أنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه و آله وسلم لما نهى عن الأمة يدل على اختصاصه به وأما التسوية في التعظيم فهي موجبة للإثم الشديد لمجردها ولو كانت في غير اليمين بل ذلك نوع من أنواع الإشراك بالله سبحانه وهكذا ما تضمن كفرا أو فسقا فإنه يأثم بمجرد ذلك وقد وردت الأدلة بأن الحالف بما يقتضي الكفر يلزمه ما حلف به ويكون كما قال وورد أنه يؤمر بأن يقول لا إله إلا الله وذلك يدل على خروجه من الإسلام وهكذا إذا جاء بما يدل على ذلك من غير يمين فإنه يكون ردة (4/16)
فصل
وللمحلف على حق بماله التحليف به نيته وإلا فللحالف إن كانت واحتملها اللفظ بحقيقته أو مجازه وإلا اتبع معناه من عرفه ثم عرف بلده ثم منشئه ثم الشرع ثم اللغة ثم حقيقتها ثم مجازها فالبيع والشراء لهما وللسلم والصرف صحيحا أو فاسدا معتادا ولما تولاه مطلقا أو أجازه أو أمر به إن لم يعتد توليه
ويحنث بالعتق ونحوه فيما حلف ليبيعنه والنكاح وتوابعه لما تولاه أو أقر به مطلقا لا البناء ونحوه فكالبيع والنكاح للعقد وسره لما حضره شاهدان والتسري للحجبة والوطء وإن عزل والهبة ونحوها للإيجاب بلا عوض ولا للصدقة والنذر والكفالة لتدرك المال أو الزوجة والخبز له وللفتيت كبارا والإدام لكل ما يؤكل به الطعام غالبا إلا الماء والملح للعرف واللحم لجسد الغنم والبقر والإبل وشحم ظهورها والشحم شحم الألية والبطن والرؤوس لرؤوس الغنم وغيرها (4/17)
إلا لعرف والفاكهة لكل ثمرة تؤكل وليست قوتا ولا دواء ولا إداما والعشاء لما يعتاد تعشيه والتعشي لما بعد العصر إلا نصف الليل وهذا الشيء لأجزأه المشار إليه على أي صفة كانت إلا الدار فما بقيت فإن التبس المعين المحلوف منه بغيره لم يحنث ما بقي قدره والحرام لما يحل حال فعله والحلي للذهب والفضة ونحوها إلا خاتم الفضة ويعتبر حال الحالف والسكون للبث محصوص يعد به ساكنا ودخول الدار لتواري حائطها ولو تسلقا إلى سطحها ومع اللبس والمساكنة والخروح والدخول على الشخص والمفارقة بحسب مقتضى الحال والوفاء يعم الحوالة والإبراء ورأس الشهر لأول ليلة منه والشهر إلى آخر جزء منه والعشاء إلى ثلث الليل إلا لقربى في آخره والظهر إلى بقية تسع خمسا والكلام لما عدا الذكر المحض منه والقراءة للتلفظ والصوم ليوم والصلاة لركعتين والحج للوقوف وتركها لترك الإحرام بها والمشي إلى ناحية لوصولها والخروج والذهاب للإبتداء بنيته وإلا بإذني للتكرار (4/18)
وليس من الإيذان والدرهم لما يتعامل به من الفضة ولو زائفا ورطل من كذا لقدره منه ولو مشاعا
قوله فصل وللمحلف على حق بماله التحليف به نيته
أقول هكذا ورد الدليل فأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يمينك على ما يصدقك به صاحبك وفي لفظ لمسلم وابن ماجة من هذا الحديث اليمين على نية المستحلف ومعنى هذا الحديث ظاهر واضح وإيراد الأبحاث المتضمنة للتشكيك فيه حاصلها الرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما قوله فللحالف إن كانت إلخ فقد حكى الإجماع على ذلك القاضي عياض والنووي ويدل عليه حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتخرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلي عنه فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه ورجاله ثقات وهو من رواية إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة وعزاه المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك (4/19)
وقد أبان رسول الله صلى الله عليه و سلم لسويد أن يمينه بارة صادقة وأوضح له أن لذلك وجها إن كان مقصودا له وإن لم يكن مقصودا له فقد صح حلفه وبر في يمينه لما حصل بها من تخليص رجل من المسلمين من يد ظالمة وما ذكره من تقديم ما يدل عليه العرف فوجهه ظاهر لأن الحالف إنما يقصد في يمينه ما يتعارف به أهل بلده
والحاصل أنه يحمل كلامه على ما هو الغالب على قصده السابق إلى إرادته وإن كان ممن يعرف لغة العرب أو يعرف ما نقله الشرع عنها صار بعد ذلك النقل معنى شرعيا فإنه لا يحمل على ذلك مع وجود العرف المستقر الشائع المتقرر عند الحالف وقومه فإن كان لا عرف في ذلك الذي تكلم به كان الرجوع في مثله إلى المعنى العربي أو الشرعي إن كان الحالف ممن يعرفهما ويتكلم بهما ويقدم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ويقدم الشرعي على اللغوي وهكذا اعتبار صحيح لا بد منه ولا وجه للاعتراض عليه للقطع بأن المقاصد والإرادات هي التي يحمل عليها الكلام وكل متكلم لا يريد إلا ما هو الغالب في لسانه ولسان قومه ولو حمل كلامه على غير ذلك لكان حملا للكلام على خلاف ما هو المراد منه والمقصود به وذلك غلط أو مغالطة
وقد أطال المصنف من ذكر هذه الأمثلة الحزبية إلى آخر الفصل وذلك ينافي ما هو المقصود له من الاختصار ولا يتعلق به كثير فائدة لأن غاية ما فيه بيان ما هو السابق إلى الفهم في هذه الأمور في عرف المصنف وأهل عصره من جهته والأعراف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن كان عرف الحالف مخالفا لشيء من هذه الصور التي ذكرها المصنف كان الاعتماد على عرفه لا على ما ذكره المصنف ها هنا مع أن ذكر هذه الصور مفسدة وهي أنه يظن المقصرون أن الرجوع إليها محتم وأن حمل كلام الحالف عليها متعين وإن كان عرفه مخالفا لها وهذا ظن باطل وخيال مختل وتوهم فاسد وإن كان ما ذكره المصنف في بعض هذه الصور بيانا للمعنى اللغوي أو الشرعي فقد عرفت أنه لا يصار إلى ذلك إلا عند عدم العرف (4/20)
فصل
ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد إمكانه والمؤقت بخروج آخره متمكنا من البر والحنث ولم يبر والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا إلا في عدد منصوص وما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف وإلا مثبت المنحصر والمحلوف عليه والمعطوف بالواو فبمجموعه لا مع لا أو باو فبواحد فينحل ويصح الاستثناء متصلا غير مستغرق وبالنية دينا فقط وإن لم يلفظ بعموم المخصوص إلا من عدد منصوص ولا تكرر الكفارة بتكرر اليمين أو القسم ما لم يتعدد الجزاء ولو مخاطبا بنحو لا كلمتك
قوله فصل ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد إمكانه
أقول هذا كلام معقول المعنى واضح الوجه فإن المحلوف عليه إذا أمكن ثم تعذر بعد الإمكان فقد حصل الحنث بعدم إمكان الوفاء ولا فرق بين أن يكون واجبا (4/21)
أو حراما وأما وجوب فعل الواجب وتحريم فعل الحرام فأمره راجع إلى صفة الفعل فما كان يجب عليه فيه الفعل واجب وما كان يجب عليه فيه الترك ترك
وأما اعتبار الإمكان فوجهه أنه لو لم يتمكن بوجه من الوجوه ولا تراخى فيما يجب عليه فيه الفعل أو الترك فورا لكان التكليف به من تكليف ما لا يطاق وهو ممنوع
وما ذكره من أنه يحنث بانقضاء وقت المؤقت مع التمكن من البر والحنث فذلك صحيح لأن الحلف لما أضيف إلى الوقت كان معتبرا فلا يمكن البر بعد خروجه
قوله والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا
أقول قد تقرر أن دخول الألف واللام على الجموع يوجب هدم الجمعية ومصيرها للجنس فإذا حلف لا يلبس الثياب ولا يركب الدواب حنث بلبس ثوب واحد وركوب دابة واحدة وهكذا ولو قال لا لبس ثيابه ولا ركب دوابه فإن الإضافة تفيد مفاد اللام ولا ينبغي أن يقال في مثل هذا إن المعنى الحقيقي يشمل الجميع فلا يحنث إلا بلبس الجميع أو ركوب الجميع لأنا نقول ها هنا أمر هو قرينة قوية على عدم إرادة المعنى الحقيقي وهو ما ذكرنا من انهدام معنى الجمعية وأما المحصور بالعدد فلا شك أن الحنث أو البر لا يكون إلا بذلك العدد ولو قيل أنه يحنث بالبعض لكان معنى العدد ضائعا
وأما كونه لا يحنث فيما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف فظاهر لأن المعنى الحقيقي لا يتناول البعض وحده ولا قرينة تصرف المعنى إلى ذلك
وبقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل أمرها واضح ظاهر معلوم من علم اللغة والإعراب فلا نطيل البحث بالكلام عليه وذكر وجهه وهكذا قوله إنها لا تتكرر الكفارة بتكرر (4/22)
اليمين أو القسم فإنه مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف والقسم هو اليمين كما في كتب اللغة فكان أحد الأمرين يغني عن ذكر الآخر
فصل
والمركبة من شرط وجزاء إن تضمنت حثا أو منعا أو تصديقا أو براءة فيمين مطلقا وإلا فحيث يتقدم الشرط لا غير ولا لغو فيها وإذا تعلقت أو القسم بالدخول ونحوه فعلا أو تركا فللاستئناف لا لما في الحال لا السكون ونحوه فللاستمرار بحسب الحال ومن حلف لا طلق لم يحنث بفعل بشرط ما تقدم إيقاعه
قوله فصل والمركبة إلخ
أقول هذا التركيب لا يصدق عليه لغة ولا شرعا أنه يمين فإن أراد المتكلم به النذر كان له حكمه وإن لم يرد ذلك كان من التعليق للعتق أو الطلاق أو نحوهما بشرط نحو إن دخلت الدار فعبدي حر أو نحو ذلك و قد تقدم الكلام على مثل هذا في الطلاق والعتق وقدمنا أيضا الكلام على المركبة عند قول المصنف ولا بالمركبة ولا وجه لما ادعاه المصنف من الإجماع على أنها يمين فإن خلاف أهل العلم فيها محرر في كتب (4/23)
الخلاف وقد استوفى ذلك ابن رشد المالكي في نهايته وقد ذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بيمين ولا نذر ولا يتعلق بها حنث ولا يلزم الوفاء بها (4/24)
باب الكفارة
والكفارة تجب من رأس المال على من حنث في الصحة مسلما ولا يجزيء التعجيل وهي إما عتق يتناول كل الرقبة بلا سعي ويجزيء كل مملوك إلا الحمل والكافر وأم الولد ومكاتبا كره الفسخ فإن رضيه استرجع ما قد سلم من بيت المال أو كسوة عشرة مساكين مصرف للزكاة ما يعم البدن أو أكثر إلى الجديد أقرب ثوبا أو قميصا أو إطعامهم ولو متفرقين عونتين بإدام ولو مفترقين فإن فاتوا بعد الأولى استأنف ويضمن الممتنع أو تمليك كل منهم صاعا من أي حب أو تمر يقتات أو نصفه برا أو دقيقا وللصغير كالكبير فيهما ويقسط عليه ولا يعتبر إذن الولي إلا في التمليك ويصح الترديد في العشرة مطلقا لا دونهم وإطعام بعض وتمليك بعض كالعونتين لا الكسوة والإطعام إلا أن يجعل أحدهما قيمته تتمة الآخر فالقيمة تجزيء عنهما في الأصح إلا دون المنصوص من غيره ومن لا يملك إلا ما استثني أو بينه وبين ماله مسافة ثلاث أو كان عبدا صام ثلاثا متوالية فإن وجد أو عتق ووجد خلالها استأنف ومن وجد لإحدى كفارتين قدم غير الصوم (4/25)
قوله باب والكفارة تجب من رأس المال
أقول قد ذكر الله سبحانه في الكتاب العزيز أن هذه الكفارة هي كفارة الأيمان فأفاد ذلك أنها واجبة على من حنث في يمينه وأما التفصيل بين كونها من رأس المال أو من الثلث فمبني على ما سيأتي في الوصايا وسيأتي الكلام عليه ويؤيد وجوب الكفارة ما قدمنا من الأحاديث المشتملة على الأمر بالتكفير لقوله صلى الله عليه و سلم فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
قوله ولا يجزيء التعجيل
أقول يدل على هذا ما في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما بلفظ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفي لفظ للنسائي وأبي داود من حديث عبد الرحمن ابن سمرة إذا حلفت على يمين فكفر عن يمنيك ثم أئت الذي هو خير وفي صحيح مسلم من حديث عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير
وفي هاتين الروايتين دليل على جواز إخراج الكفارة قبل الحنث ويجمع بينهما وبين سائر الروايات المصرحة بتأخير الكفارة عن الحنث بأن الكل جائز ويعكر على هذه الرواية المصرحة بالترتيب بلفظ نعم فإنها تدل على أن تقديم الكفارة على الحنث متحتم ولا يعارضها رواية تأخير الكفارة لأنها بالواو والواو لمطلق الجمع ولا تدل على الترتيب وهذه الروايات المصرحة بتأخير الكفارة معارضة بما ذكرنا من حديث عدي بن حاتم فإنه قدم الكفارة في هذه الرواية وأخر الحنث كما قدم الحنث في (4/26)
تلك الروايات وأخر الكفارة والكل بلفظ الواو التي لمطلق الجمع فتبقى رواية الترتيب بثم خالصة عن المعارض وقد صححها ابن حجر في بلوغ المرام وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وكذلك الحاكم أخرج نحوها عن عائشة وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير
فهذه الأحاديث متعاضدة على تقديم الكفارة على الحنث قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي يعني الحنفية أن الكفارة تجزىء قبل الحنث إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال لا يجزىء إلا بعد الحنث وقال وعن مالك روايتان ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالف داود من أصحابه ابن حزم وذكر عياض أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة من الصحابة أربعة عشر صحابيا قال وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة وقد استوفيت هذا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه
قوله وهي إما عتق إلخ
أقول كان على المصنف أن يقتدي بالكتاب العزيز فيقدم ما قدمه ويؤخر ما أخره وما يظن من أن العتق أفضل فهو مجرد دعوى فإن الأفضل هو ما بدأ الله به وإن كان غيره أكثر قيمة منه وقد ثبت مشروعية الابتداء بما بدأ الله سبحانه به كما في قوله صلى الله عليه و سلم أبدأ بما بدأ الله به وهو الصحيح (4/27)
قوله ويجزيء كل مملوك
أقول هذا هو الأصل المرجوع إليه مع الإطلاق كما في الآية ومن اشترط الإيمان جعل هذه الآية المطلقة مقيدة بآية كفارة القتل والكلام في جواز هذا التقييد أو عدمه مستوفى في الأصول والظاهر أنه لا وجه للقول بالتقييد لأن ذنب كفارة القتل مغلظ وذنب كفارة اليمين مخفف ولا يقيد ما هو مخفف بما هو مغلظ فإنه اختلاف يوجب بقاء المطلق على إطلاقه ولا سيما مع اختلاف السبب فإنه بمجرده مانع من التقييد وأما استثناء الحمل فصحيح لأنه لا يصدق عليه وقت عتقه عن الكفارة أنه رقبة مملوكة
وأما استثناء الكافر فلا وجه له لأنه قد جاز تملكه فأجزأ عتقه عن الكفارة
وأما استثناء أم الولد والمكاتب فصحيح لأنهما قد صارا مستحقين للعتق بسبب آخر
قوله أو كسوة عشرة مساكين إلخ
أقول لا وجه لقوله مصرف للزكاة بل المعتبر من صدق عليه معنى المسكنة وإن منع من صرف الزكاة فيه مانع آخر كالهاشمي ودعوى أن الكفارة لا تحل لهم محتاج إلى دليل والقول بأنها من أوساخ الناس وأنه لا يحل لهاشمي ما كان كذلك منقوض بصدقه النفل فإنها من أوساخ الناس ولعله قد تقدم لنا كلام على قول المصنف ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات فيرجع إليه والمراد ما يصدق عليه أنه كسوة لغة أو شرعا فإن كان الثوب الواحد يقال له كسوة كان وحده مجزيا وإن كان لا يصدق إلا على ثوبين أو أكثر فلا بد من ذلك ولكنه قد كثر في لسان العرب وفي عبارات أهل الإسلام قولهم ثوبا كساه كساه جبة كساه قميصا فأفاد ذلك أن الثوب الواحد يكفي وأما ما روي مرفوعا أن الكسوة عباءة لكل مسكين فلم يصح من وجه تقوم به الحجة (4/28)
قوله أو إطعامهم إلخ
أقول المعتبر ما يصدق عليه مسمى الإطعام ولا شك أن من صنع طعاما لعشرة وأطعمهم إياه يصدق عليه أنه قد أطعم عشرة مساكين ويكفي في ذلك مرة واحدة ليلا أو نهارا ولا دليل على أنه يجب إطعامهم مرتين وأما كون ذلك الإطعام بإدام فلا يصح هذا الاشترط إلا على فرض أنه لا يصدق الإطعام إلا على مجموع الطعام والإدام وهو خلاف ما تدل عليه لغة العرب وعرف أهل الشرع كما يفيد ذلك واقعات كثيرة من أيام النبوة
وأما التمليك فإن ورد دليل يدل على أنه إطعام فذاك والعجب ممن قال إنه لا يجزيء إلا التمليك مع القطع بأن الإطعام يصدق على إطعامهم الطعام المصنوع صدقا مجمعا عليه لا خلاف فيه بين أهل اللغة وأهل الشرع وأما كونه الترديد في العشرة فظاهر لا يحتاج إلى النص عليه وهكذا إطعام بعض وتمليك بعض فإنه لا بأس بذلك إن صدق الإطعام على التمليك كما تقدم لا إطعام البعض وكسوة البعض فإنه غير ما أمر الله به شرعا لعباده لأن الفاعل لذلك لم يكفر بالإطعام ولا بالكسوة
وأما إجزاء القيمة فإن صدق عليه أنه إطعام فذاك وإلا فلا يجزيء
وأما إجزاء الصوم فهو المنصوص عليه في الآية فمن لم يجد وظاهر الآية أنه يجزيء الصوم للثلاث متفرقا بعد التقييد بالتتابع لكنه قد قرأ ابن مسعود متتابعات فأفاد ذلك وجوب التتابع إذا صح إسناد هذه القراءة إليه (4/29)
باب النذر
فصل
يشترط في لزومه التكليف والاختيار حال اللفظ واستمرار الإسلام إلى الحنث ولفظه صريحا كأوجبت أو تصدقت أو على أو مالي كذا أو نحوها أو كناية كالعدة والكتابة والشرط غير مقترن بصريح نافذ وفي المال المال كون مصرفه قربة أو مباحا يتملك
وإنما ينفذ من الثلث مطلقا ومقيدا يمينا أو لا مملوكا في الحال أو سببه أو في المال إن قيده بشرط فأضاف إلى ملكه وحنث بعده كما أرثه من فلان ومتى تعلق بالعين المملوكة اعتبر بقاؤها واستمرار الملك إلى الحنث ولا تدخل فروعها (4/30)
المتصلة والمنفصلة الحادثة قبل الحنث غالبا وتضمن بعده ضمان أمانة قبضت لا باختيار المالك
ولا تجزيء القيمة عن العين ويصح تعليق تعيينها في الذمة وإذا عين مصرفا تعين ولا يعتبر القبول باللفظ وتبطل بالرد والفقراء لغير ولده ومنفقه والمسجد للمشهور ثم معتاد صلاته ثم حيث شاء وفي الفعل كونه مقدورا معلوم الجنس جنسه واجب وإلا فالكفارة إلا في المندوب والمباح فلا شيء
ومتى تعذر أوصى على نحو الحج والصوم كالفرض وعن غيرهما كغسل الميت لكفارة يمين كمن التزم ترك محظور أو واجب ثم فعله أو العكس أو نذرا ولم يسم
وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا أثم للتأخير لم يجزه التقديم إلا في الصدقة ونحوها فيجزيه وفي المكان تفصيل وخلاف ومن نذر بإعتاق عبده فأعتق بر ولو بعوض أو عن كفارته (4/31)
قوله باب النذر فصل ويشترط في لزومه التكليف والاختيار الخ
أقول أما اشتراط التكليف فلكون الصغير والمجنون لا يلزمهما ما أوجبه الله على عباده فضلا عن أن يلزمهما ما أوجباه على أنفسهما وأما اشتراط الاختيار فلكون المكره قد رفع عنه قلم التكليف بالأدلة الشرعية كما قدمنا ذلك في غير موضع
وها هنا بحث ينبغي التكلم عليه وهو أن النذر قد أجمع المسلمون على صحته ووجوب الوفاء به كما حكى هذا الإجماع النووي في شرح مسلم وحكاه غيره أيضا ومدح الله في كتابه العزيز من يفي بالنذر فقال يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا وثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح من حديث عائشة أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وورد ما يدل على كراهته إذا لم يدل على تحريمه كحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن النذر وقال إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل وفي الصحيحين وغيرهما أيضا من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج الله فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني (4/32)
عليه من قبل أي يعطيني قال أبو عبيدة القاسم بن سلام النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به
وذكر المازري أن وجه النهي أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار
وذكر القاضي عياض أنه وقع الإخبار بذلك على سبيل الإعلام بأنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة وذكر ابن الأثير نحو هذا في النهاية (4/33)
وهذا التأويل الثالث هو أظهر ما قيل فالنذر في طاعة الله مشروع والوفاء به واجب يثاب عليه العبد ثواب الواجب والنذر في معصية حرام يأثم الفاعل له ويحرم عليه الوفاء وتجب عليه الكفارة كما في حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وفي إسناده مقال طويل ويعضده ما أخرجه أبو داود بإسناد حسن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ويعضده أيضا حديث عقبة بن عامر عند مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كفارة النذر كفارة اليمين
قوله واستمرار الإسلام إلى الحنث
أقول وجهه أنه قربة ولا قربة لكافر فلا يصح منه في حال كفره أن يفي بنذر نذره يتضمن القربة وأما إذا نذر بقربة في حال كفره ثم أسلم فقد قام الدليل الصحيح أنه يفي بنذره لما أخرجه ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب بإسناد رجاله (4/34)
رجال الصحيح قال نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه و سلم بعدما أسلمت فأمرني أن أفي بنذري
وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه أنه قال قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال أوف بنذرك وزاد البخاري في رواية فاعتكف ليلة
وأخرج أحمد وابن ماجة عن ميمونة بنت كردم قال كنت ردف أبي فسمعته يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبها وثن أو طاغية قال لا قال أوف بنذرك ورجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال الصحيح
وأخرجه أحمد أيضا من حديث كردم بن سفيان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله عن نذر نذره في الجاهلية فقال ألوثن أو لنصب قال لا ولكن لله قال أوف لله ما جعلت له انحر على بوانة وأوف بنذرك
وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم أو لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك وهو شاهد للحديث الأول (4/35)
وإن لم يذكر فيه أنها نذرت في الجاهلية لأن الظاهر أنها لا تنذر هذا النذر إلا في الجاهلية لا في الإسلام
قوله صريحا كأوجبت إلخ
أقول قد عرفناك غير مرة أنه لا تعويل على خصوص الألفاظ بل المعتبر ما يدل على المقصود بأي دلالة كانت والمشروط فيه يقع عند حصول شرطه ويلزم الوفاء به إن كان قربة وإلا وجبت الكفارة لما تقدم من الأدلة والوفاء بالوعد وبالنذر واجب للأدلة الدالة على أن خلف الوعد من خصال النفاق
قوله وفي المال كون مصرفه قربة
أقول وجه هذا الأدلة التي قدمناها في وجوب الوفاء بالنذر في طاعة الله ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود والطبراني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله قال في مجمع الزوائد في إسناده عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف انتهى ولكن هذا المدني لم يكن في إسناد أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المقال المشهور ولكنه لا يخرج حديثه بذلك عن كونه حسنا (4/36)
وهذا الحديث وحديث من نذر أن يطيع الله فليطعه المتقدم يدلان على أنه لا يصح أن يكون مصرف النذر مباحا ومنطوقهما أرجح ومفهوم حديث لا نذر في معصية الله وسيأتي مزيد كلام في المباح
وما قيل من أن كون الفعل قربة وصف عائد إلا الناذر لا إلى المصرف فهو مدفوع بأنها لا تتحقق القربة في فعل الناذر إلا مع ملاحظة كون الصرف في ذلك المصرف قربة فمن هذه الحيثية صح نسبة القربة إلى المصرف
قوله وإنما ينفذ من الثلث إلخ
أقول لما يدل على هذا دليل يخصه وفي القياس على الوصايا لقوله صلى الله عليه و سلم فيها الثلث والثلث كثير نظرا لأن الوصايا مضافة إلى ما بعد الموت وهذا منجز في حال الحياة فإن كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية
وقد استدل على هذا بما روي من رده صلى الله عليه و سلم لصدقة من تصدق بجميع ماله كصاحب الثوبين وصاحب البيضة الذهب وفيه نظر لأنه صلى (4/37)
الله عليه وآله وسلم علل ذلك بأن الفاعل لذلك يتكفف الناس من بعد ذلك
وهكذا لا يصح قياس هذا على من أعتق الستة الأعبد مع كونه لا يملك غيرهم فأنفذ النبي صلى الله عليه و سلم اعتق اثنين وأرق أربعة لأن ذلك الذي أعتق هؤلاء كان عليه دين فباع النبي صلى الله عليه و آله وسلم الأربعة في دينه
والظاهر أن النذر في حال الصحة نافذ من جميع المال كسائر التصرفات المالية وأما من ادعى تخصيص النذر بهذا الحكم فعليه الدليل
ويمكن الاستدلال لذلك بحديث كعب بن مالك الثابت في الصحيحين أنه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة فقال أمسك عليك بعض مالك وفي لفظ لأبي داود قلت فنصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم وفي لفظ لأبي داود أنه قال له يجزيء عنك الثلث وهكذا ما روي (4/38)
من حديث أبي لبابة عند أحمد وأبي داود
وأما ما ذكره من اشتراط كونه مملوكا أو سببه فصحيح لا يحتاج إلى ذكر وجهه وهكذا إذا نذر بما يرثه من مورثه فإنه صحيح لأنه قيد النذر بوصول ذلك إلى ملكه ولم ينذر بما لم يملك حتى يكون النذر بما لا يملك العبد الذي ورد النهي عنه
وهكذا اشتراط بقاء العين المنذور بها إلى حضور الوقت أو حصول الشرط الذي قيد النذر به فإنه لا بد من ذلك ومع التلف لا يلزمه شيء
وأما ما ذكره من أنها لا تدخل فروعها المتصلة الحادثة قبل الحنث فالظاهر في مثل هذا أنه يرجع إلى قصد الناذر فإن قصد النذر بالعين مجردة عن فروعها الحادثة لم تدخل الفروع وإن قصد أنها من جملة النذر دخلت وإن كان لا قصد له فالظاهر أن فروع العين المنذور بها لاحقة بها
قوله وتضمن العين بعده ضمان أمانة قبضت لا بإختيار المالك
أقول لا ضمان عليه في هذا إلا لجنابة أو تفريط ولا يضمن بغير ذلك ولا وجه لذلك لا من رواية ولا من رأي صحيح فإن المنذور به هو قبل النذر ملك الناذر فمع الجناية أو التفريط قد تسبب للضمان ووجب عليه العوض ومع التلف بغير هذين السببين لا سبب لتضمينه أصلا
وأما ما ذكره من كونها لا تجزيء القيمة فذلك ظاهر لأن النذر تعلق بالعين فلا وفاء إلا بإخراجها فالعدول إلى قيمتها لا يجزيء عنها إلا بدليل
وما ذكره من كون الناذر إذا عين مصرفا تعين فوجهه ظاهر لأن له أن يصرف ما (4/39)
يقرب به إلى من شاء وكيف شاء مع وجود مطلق القربة وإن كان غيرها أعلى منها
وأما كونه لا يعتبر القبول بل يكفي عدم الرد فعدم الرد قبول تام وقد عرفناك غير مرة أن اعتبار الألفاظ إما مجرد جمود أو قصور عن إدراك حقائق الأمور
قوله والفقراء لغير ولده ومنفقه
أقول المعتمد في مثل هذا العرف الشائع بين القوم الذين منهم الناذر فإن ثبت هذا العرف فهو المقدم على لغة العرب وغيرها لأن الناذر لا يقصد بكلامه إلا عرف أهل جهته فإن عرف من قصده أنه أراد المعنى اللغوي والشرعي وجب العمل بذلك وإن لم يقصد ولا وجد كان الظاهر دخول ولده ومنفقه في عموم الفقراء لأنهما من جملتهم ولا مانع من ذلك لا من شرع ولا عقل وأما دخول الناذر نفسه فعلى الخلاف في دخول المخاطب في خطاب نفسه
وهكذا الكلام في النذر على المسجد من غير تعيين فإن المعتبر ما يطلق عليه هذا الإسم في عرف الناذر وأهل بلده فإن لم يكن عرف رجع إلى مقصده فإن لم يكن له قصد فالظاهر أن مراده المسجد الذي يصلي فيه وإن كانت مساجد البلد كثيرة فصلاته في أحدها فيها وجه وتخصيص وإن كان يصلي في جميع مساجد بلده أو يصلي في بيته كان الأولى بذلك أقرب مسجد إلى بيته فإذا استوت في القرب كان الأولى ما يكثر فيه المصلون وتقام فيه الجماعات لكثرة من الناس وإلا حصص المنذر به بينها لعدم المزية الموجبة للترجيح لبعضها على بعض
قوله وفي الفعل كونه مقدورا
أقول وجه هذا الاشتراط معلوم عقلا وشرعا أما عقلا فلكون نذره بما لا يقدر عليه إذا كلف بالوفاء به كان ذلك من تكليف ما لا يطاق وأما شرعا فلكون ما لا يقدر عليه لا يملكه وقد ثبت في الصحيح أنه لا نذر فيما يملك ابن آدم كما تقدم (4/40)
وأما اشتراط أن يكون النذر معلوم الجنس فوجهه أن إيجاب ما لا يعلم جنسه لغو فهو من باب من نذر نذرا لم يسمه
قوله جنسه واجب
أقول هذا الاشتراط لم يدل عليه رواية ولا رأى صحيح والذي تقدم من الأدلة له مصرح بوجوب الوفاء بما هو طاعة وبما ابتغي به وجه الله والطاعة وابتغاء وجه الله لا تختصان بالواجب بل بما فيه قربة وهي كائنة في فعل الواجب وترك الحرام وفعل المندوب وترك المكروه ولا توجد في المباح إلا عند النافين للمباح وقد قوينا هذا القول برسالة بوجوه من المنقول والمعقول وسميناها رفع الجناح عن نافي المباح
قوله وإلا فالكفارة
أقول أما وجوب الكفارة حيث كان المنذور به غير مقدور للناذر فيدل عليه ما أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن ينذر نذرا ولم يطقه فكفارته كفارة يمين قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه
ومما يدل على عدم لزوم ما فيه مشقة من النذر ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال بينا النبي صلى الله عليه و سلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل (4/41)
عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى الله عليه آله وسلم مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه فأمره بالوفاء بما هو طاعة وهو الصوم وأمر بترك ما فيه مشقة ولا قربة فيه
ومما ورد في عدم لزوم ما فيه مشقة وأنه يكفر كفارة يمين ما أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها وفي رواية لأحمد من حديث عقبة بن عامر أنها نذرت أخته أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنه وأصل الحديث في الصحيحين بلفظ لتمش ولتركب
وأما وجوب الكفارة في غير معلوم الجنس وهو الذي لم يسم فيدل عليه ما أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين ويدل على ذلك أيضا حديث ابن عباس المتقدم قريبا بلفظ من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين
وأما وجوب الكفارة في النذر الذي جنسه غير واجب فقد قدمنا أن الطاعة وابتغاء (4/42)
وجه الله لا يختصان بالواجب بل بما فيه قربة فلا يخرج عن ذلك إلا ما ليس بقربة ولا يبتغى به وجه الله وقد قدمنا حديث ابن عباس بلفظ من نذر نذرا ولم يطقه فكفارته كفارة يمين وقد قدمنا أيضا حديث عائشة بلفظ لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كفارة النذر كفارة اليمين وإنما احتاج المصنف أن يستثني المندوب والمباح لأجل قوله جنسه واجب وقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد بالوجوب فلا احتياج إلى هذا الاستثناء بل الواجب الوفاء بما هو قربة وأما المباح فقد قدمنا الكلام عليه
قوله ومتى تعذر أوصى على نحو الحج إلخ
أقول قد استدل على هذا بما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اقضه عنها ولا دلالة له على المطلوب وهو وجوب الوصية فإنه لا وصية من أم سعد وغايته أن يقضي الولد ما علمه من نذر على والده وإن لم يوص ووهم من زعم أن هذا الحديث في الصحيحين وهما فاحشا فإنه ليس فيهما ولا في أحدهما والذي فيهما بلفظ آخر وليس في هذا اللفظ إلا في أبي داود والنسائي (4/43)
وأما وجوب الكفارة عن غيره نحو الحج والصوم كغسل الميت إذا تعذر بعد النذر فوجهه أنه إذا تعذر بلا تفريط صار غير مقدور للناذر وقد قدمنا الدليل على وجوب الكفارة بلفظ ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين
وأما وجوب الكفارة على من التزم ترك محظور أو واجب ثم فعله أو العكس فوجه ذلك فيما هو معصية ما قدمنا من حديث من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين وأما ما كان واجب الفعل أو الترك فالوفاء به واجب فإن ترك أثم ويدل على وجوب الكفارة عليه حديث عقبة بن عامر عند مسلم بلفظ كفارة النذر كفارة اليمين فإن هذا الجنس من النذر مندرج تحت هذا العموم ولا يصح لتخصيصه أو تقييده ما ورد في غيره بذكر المعصية أو عدم التسمية
قوله وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا تعين
أقول هذا صحيح لأن فعله في الزمان المخصوص قد صار قيدا له لا يحصل الوفاء إلا به فلا يجزيء التقديم وأما التأخير فالظاهر أيضا أنه لا يجزيء وتلزم الكفارة لأنه قد صار غير مقدور للناذر لفوات وقته المقيد به وهكذا الصدقة الظاهر أنها لا تجزيء في غير الوقت المعين لها وتلزم الكفارة فلا وجه لاستثناء المصنف لها وهكذا المكان يتعين فلا يجزيء من غيره وتحمل الأحاديث الواردة في جواز فعل المندوب به في غير المكان المعين كحديث أمره صلى الله عليه و سلم لمن نذر أن يصلى في بيت المقدس أن يصلى في المسجد الحرام أو في مسجده على ما فيه من مشقة زائدة على الناذر (4/44)
وقد قدمنا أمره صلى الله عليه و سلم لمن نذر الذبح ببوانة بالوفاء بذلك
وأما ما ذكره من أن من نذر بإعتاق عبده بر بإعتاقه ولو لعوض أو عن كفارة فوجهه أنه قد وقع مطلق العتق فصدق على هذا الناذر بأنه قد أعتق كما نذر إلا أن يكون له قصد أنه العتق المقيد بكونه للنذر فقط (4/45)
باب الضالة واللقطة واللقيط
إنما يلتقط مميز قيل حر أو مكاتب ما خشي قوته من موضع ذهاب جهله المالك بمجرد نية الرد وإلا ضمن للمالك أو لبيت المال ولا ضمان إن ترك ولا يلتقط لنفسه ما تردد في إباحية كما يجره السيل عما فيه ملك ولو مع مباح
قوله باب الضالة واللقطة واللقيط
قوله فصل إنما يلتقط مميز إلخ
أقول خطابات الشرع إنما تتوجه إلى المكلفين ولا تتوجه إلى غير المكلف وذلك لقوله صلى الله عليه و سلم من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل أو ليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها وإن لم يجيء صاحبها فهي مال الله يؤتيه من يشاء أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومثله حديث (4/46)
زيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن اللقطة الذهب والورق فقال اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة الحديث
والحاصل أن جميع ما ورد في الأحاديث في هذا الباب إنما يتوجه إلى من تتوجه إليه الخطابات الشرعية والصبي قبل بلوغه لا يتوجه إليه شيء من ذلك فإن وقع منه الالتقاط انتزع من يده فإن أتلفه ضمنه من ماله وخوطب بذلك وليه وأما العبد فإن التقط وأذن له سيده بذلك صح التقاطه وإن منعه من ذلك لم يجز له الالتقاط فإن فعل رفعها إلى الإمام أو الحاكم وإن أتلفها كان ذلك جناية تتعلق برقبته
وأما قوله ما خشي قوته من موضع ذهاب جهله المالك فوجهه أن اللقطة إنما تلتقط مع خشية القوت أما لو لم يخش القوت فهو متعد بالالتقاط وهكذا إذا لم يكن الموضع موضع ذهاب أو كان المالك عالما بأن اللقطة في ذلك المكان وتركها باختياره فليس لغيره أن يلتقطها ولا ينبغي أن يكون غير المالك أحرص على المال من مالكه وليس التقاطه هذا من باب التعاون على الخير ولا يتوجه إليه أوامر الشارع فالملتقط والحال وهكذا غاصب لاستيلائه على مال الغير عدوانا فيضمن ضمان الغاصب ولهذا قال المصنف وإلا ضمن للمالك أو لبيت المال
قوله ولا ضمان إن ترك
أقول استدلوا على عدم الضمان بعدم وجود دليل يدل عليه أو يدل على وجوب الالتقاط ولا يخفاك أن قوله صلى الله عليه و سلم من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل (4/47)
وليحفظ عفاصها ووكاءها وكذلك قوله اعرف عفاصها ووكاءها كما في الحديثين المتقدمين وكذلك قوله في ضالة الغنم خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب كما في الصحيحين وغيرهما تدل على أن الملتقط مأمور بالتقاط ما وجده ولا يخرج عن ذلك إلا ضالة الإبل لقول النبي صلى الله عليه و سلم ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يجدها ربها ولا ينافي هذا حديث لا يأوي الضالة إلا ضال كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى والطبراني في الكبير والضياء في المختارة من حديث جرير بن عبد الله البجلي لأن هذا في الضالة وهي خاصة بالحيوانات ويجمع بينه وبين ما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم هي لك أو لأخيك أو للذئب بحمل هذا على ضالة الإبل
وأقل أحوال هذه الأوامر أن يأثم التارك وأما أنه يضمن فلا لأن ماله معصوم بعصمة الإسلام فلا يلزمه إخراج شيء منه إلا بناقل شرعي عن هذه العصمة
وأما قوله ولا يلتقط لنفسه ما تردد في إباحته فوجهه ظاهر لأن الأصل في الأمور التي تملك التحريم ولو مع مجرد الشك والتجويز ويدل على ذلك الأدلة الكلية الواردة في تحريم ملك الغير ولا يجوز الإقدام إلا على ما علم الإنسان أنه حلال مطلق مباح لم يملكه مالك وإذا اختلط ما تردد في إباحته بما هو مباح فالحق ما ذكره المصنف بقوله ولو مع مباح لأنه إذا لم يتميز المباح صار التردد فيه كالتردد في غيره (4/48)
فصل
وهي كالوديعة إلا في جواز الوضع في المربد والإيداع بلا عذر ومطالبة الغاصب بالقيمة ويرجع بما أنفق بنيته ويجوز الحبس عمن لم يحكم له ببينته
ويحلف له على العلم ويجب التعريف بما لا يتسامح بمثله في مظان وجود المالك سنة ثم تصرف في فقير أو مصلحة بعد اليأس وإلا ضمن قيل وإن أيس بعده وبثمن ما خشي فساده إن ابتاع وإلا تصدق ويغرم المالك متى وجد لا الفقير إلا لشرط أو العين فإن ضلت فالتقطت انقطع حقه
قوله فصل وهي كالوديعة إلا في جواز الوضع في المربد
أقول هذا صحيح ووجهه أنه عاون على الخير وفعل ما أرشد إليه الشرع ولم يقصد الالتقاط لنفسه ومن كان هذا حاله فهو أمين أي أمين لا يضمن إلا لجناية أو تفريط وقد حكى المصنف في البحر الإجماع على هذا (4/49)
وما ذكره من أن له الوضع في المربد الذي كان يفعله الخلفاء لضوال المسلمين فذلك صحيح لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل فإذا وجد مخرجا من معرة الإنفاق عليها والقيام عليها بما يحتاجه من وضعها في مثل هذا المكان الذي ينفق فيه على الضوال من بيت المال كان له ذلك وكذلك له الإيداع وله مطالبة غاصبها بالقيمة لأنها قد تثبت له ولاية وله أن يرجع على صاحبها بما أنفقه عليها لأنه بالإنفاق حفظ تلك العين من التلف بالجوع والعطش ونحوهما
قوله ويجوز الحبس عمن لم يحكم به ببينته
أقوله هذا مبني على أن صاحبها لم يصفها بالأوصاف الصحيحة الموافقة بل جاء بالبينة على أنها له فيجوز للملتقط أن يحبسها حتى يحكم الحاكم بذلك لأنه إذا دفعها إليه بدون ذلك كان معرضا لنفسه لضمانها ولا يجب عليه الدخول فيما يخشى من عاقبة التضمين لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل وهذا من أعظم السبيل عليه أما إذا وصفها صاحبها بالأوصاف الصحيحة الموافقة فقد وجب دفعها إليه لقوله صلى الله عليه و سلم في حديث زيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما اعرف وكاءها وعفاصها وفيه فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه
وفي رواية لمسلم من هذا الحديث فإذا جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك وفي حديث أبي بن كعب عند مسلم وغيره بلفظ فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها
فإن قلت إذا كان يخش أن يكون هذا الواصف لها قد عرفها من مالكها وبلغه التقاطها أو أخبره مالكها بأوصافها فخشي من دفعها إليه أن يأتي مالكها فيضمنه (4/50)
إياه قلت يرفع أمره إلى الإمام أو الحاكم حتى يكون الوصف والرفع باطلاع أحدهما وليس عليه بعد ذلك ضمان لأنه فعل ما أمره به الشارع ولمالكها أن يرجع على ذلك المقرر الكاذب
قوله ويجب التعريف بما لا يتسامح بمثله في مظان وجود المالك سنة
أقول هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ولا يعارض هذا ما أخرجه البخاري من حديث أبي بن كعب وفيه وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته ثانيا فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثالثا فقال احفظ وعاءها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال سلمة بن كهيل الراوي لهذا الحديث لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا وقد جزم ابن حزم بأن الزيادة على الحول في حديث أبي بن كعب غلط قال ابن الجوزي والذي يظهر لي أن سلمة بن كهيل أخطأ فيها ثم تثبت واستمر على عام واحد ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه قال المنذري لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شريح عن عمر وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال تعرف ثلاثة أحوال عاما واحدا ثلاثة أشهر ثلاثة أيام وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر
والحق أن مدة التعريف حول فقط ثم يستمتع بها الملتقط فإن جاء صاحبها ضمنها (4/51)
له كما تقدم في الحديث الصحيح ولكن هذا فيما كان لا يتسامح بمثله أما ما كان يتسامح بمثله فقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقط الرجل ينتفع به وفي إسناده المغيرة بن زياد وفيه مقال ولكنه صدوق وشهد له ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بتمرة في الطريق فقال لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها وأما ما روي من تعريف المحقرات ثلاثة فلم يثبت من وجه تقوم به الحجة
وأما قول المصنف وتصرف في فقير أو مصلحة بعد اليأس فالسنة قد قضت بها بأن استمتاع الملتقط بها وصرفها في نفسه مقدم على صرفها في غيره فإن أراد الصرف في الغير صرف في فقير أو مصلحة
وأما ما اشتراطه من حصول اليأس فلا وجه له بل الوجه التعريف حولا كما تقدم دليله وأما إيجابه للضمان إذا لم يصرف مع اليأس فليس على ذلك أثارة من علم لأن استمتاع الملتقط بها أو صرفها فيمن هو مصرف لها لم يكن على طريق الحتم بل الأمر (4/52)
فيه للإباحة كما في نظيره وبهذا تعرف عدم صحة ما ذكره المصنف بعد هذا
وأما قوله فإن ضلت فالتقطت انقطع حقه فهذا الانقطاع مسلم إن كان بتقريط منه وإلا فلا وجه لإنقطاع حقه لحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه فقد صار هذا الملتقط الأول مخاطبا بتأدية ما التقطه حتى يؤديه إلى مالكه
فصل
واللقيط من دار الحرب عبد ومن دارنا حر أمانة هو وما في يده ينفق عليه بلا رجوع إن لم يكن له مال في الحال ويرد للواصف لا اللقطة فإن تعددوا واستووا ذكورا فابن لكل فرد ومجموعهم أب
قوله فصل واللقيط من دار الحرب عبد إلخ
أقول لما ترجم الباب بقوله باب الضالة واللقطة واللقيط أراد بهذا الفصل استيفاء ما ترجم له ولا يخفى أن دار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما ثبتت يده عليه كما سيأتي في السير سواء كان الأخذ على جهة القسر أو الختل من غير فرق بين الأشخاص والأموال والرجال والنساء والأطفال وأما إذا كان من دار الإسلام أو دخلها بأمان فهو معصوم الدم والمال فلا وجه لقوله ومن دارنا حر أمانة هو وما في يده بل لا يجوز التقاطه إذا كان حافظا لنفسه ولماله لأن إثبات اليد عليه والحال هكذا مخالف لتأمينه وأما إذا دخل دارنا بغير أمان فهو وماله غنيمة لمن سبق إليه هكذا ينبغي أن يقال وبهذا تعرف أنه لا وجه لقوله ينفق عليه بلا رجوع إلخ لأنه إما غنيمة لمن سبق إليه (4/53)
أو لا يجوز التقاطه بحال كما بينا وإذا كان غنيمة وجب إنفاقه على القائم وإن كان مؤمنا لم يجب إنفاقه على أحد
وأما قوله ويرد للواصف فمبني على جواز الالتقاط وقد عرفت ما فيه وما كان ينبغي أن يذكر المصنف مثل هذا في اللقطة لورود الأدلة بذلك كما تقدم فتركه في المحل الخليق به وذكره هنا بلا فائدة نعم إن كان اللقيط الذي كلام المصنف فيه في هذا الفصل هو المسلم الملتقط من دار الحرب والمسلم الملتقط من دار الإسلام كان لكلامه وجه ولكنه لم يقيده بهذا ويرد للواصف إذا كان لا يهتدي إلى الإعراب عن نفسه والعجب من قول المصنف لا اللقطة يعني أنها لا ترد للواصف فإن هذا دفع في وجه الأدلة ورد لما قد صح بلا خلاف
وأما قوله فإن تعددوا واستووا فإبن لكل فرد ومجموعهم أب فقد تقدم الكلام عليه في كتاب الطلاب بما يغني عن الإعادة هنا وليس هذا المقام بمقام التعرض لكيفية ثبوت النسب وكان على المصنف أن يتعرض لذكر ضالة الإبل وأنها لا تلتقط لما تقدم من الأدلة ويتعرض لذكر ضالة الغنم ونحوها وأنها تلتقط لقوله هي لك أو لأخيك أو للذئب ويتعرض أيضا لذكر ضالة مكة لما ثبت في الصحيح من النهي عن لقطة الحاج وما ثبت من قوله صلى الله عليه و سلم لا تحل لقطتها إلا لمعرف (4/54)
باب الصيد
فصل
إنما يحل من البحري ما أخذ حيا أو ميتا بسبب آدمي أو جزر الماء أو قذفه أو نضوبه فقط والأصل فيما التبس هل قذف حيا الحياة ومن غيره في غير الحرمين ما انفرد بقتله بخرق لا صدم ذو ناب يقبل التعليم أرسله مسلم مسم أو زجره وقد استرسل فانزجر ولحقه فورا وإن تعدد ما لم يتخلل إضراب ذي الناب أو هلك بقتل مسلم بمجرد ذي حد كالسهم وإن قصد به غيره ولم يشاركه كافر فيهما
والأصل في الملتبس الحظر وهو لمن أثر سهمه والمتأخر جان ويذكي ما أدرك حيا ويحلان من ملك الغير ما لم يعد له حائزا وبالآلة الغصب
قوله باب الصيد
فصل إنما يحل من البحري ما أخذ حيا أو ميتا بسبب آدمي إلخ (4/55)
أقول حديث هو الطهور ماؤه والحل ميتته قد تقدم وقد ذكرنا طرقه مستوفاة في شرح المنتقى وهو مما تقوم به الحجة وظاهره أن ميتة البحر حلال على كل حال سواء مات بسبب آدمي أو بسبب من الماء أو مات لا بسبب ويؤيده حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال أحل لنا ميتتان ودمان وأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال أخرجه أحمد وابن ماجة والشافعي والدارقطني والبيهقي وقد أعل بالوقف وقيل الموقوف أصح ولكن له طرق يقوي بعضها بعضا على أن الموقوف له حكم الرفع لأن قول الصحابي أحل لنا كالرفع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ التحليل لا يكون إلا منه
ويؤيده ما أخرجه الدارقطني عن أبي شريح من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم وذكره البخاري عن أبي شريح موقوفا وللوقف حكم الرفع في مثل هذا لما قدمنا (4/56)
ويؤيد لجميع حديث الحوت المسمى بالعنبرة التي أكلها الصحابة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كلوا رزقا أخرجه الله سبحانه لكم أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء فأكله وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر ولم يسألهم النبي صلى الله عليه و سلم بأي سبب كان موتها وترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في الأقوال
فتقرر بمجموع هذه الأدلة أن ميتة البحر حلال بأي سبب كان ولا يصلح لتخصيص هذه العمومات ما أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم عن جابر بلفظ ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه لأنه قد أعل بأن يحيى بن سليم ضعيف الحفظ وقد أعل بالوقف وهو الصواب وقد استوفينا كلام الحفاظ عليه في شرح المنتقى ومع أنه قد روي عن بعض الصحابة ما يعارض هذا الموقوف على جابر فأخرج البخاري عن أبي بكر الصديق أنه قال الطافي حلال وأخرج البخاري أيضا عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية طعامه ميتته
قوله ومن غيره في غير الحرمين ما انفرد بقتله بخرق لا صدم ذو ناب يقبل التعليم (4/57)
أقول أما الاصطياد بالكلاب المعلمة فالأحاديث الكثيرة الصحيحة قد وردت بجواز ذلك ومنها حديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين وغيرهما بلفظ وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل وفي معناه حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وغيرهما
وأما الصيد بالباز فلحديث أحمد وأبي داود والبيهقي من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك وقد أعل بتفرد مجالد بن سعيد بذكر الباز قال البيهقي تفرد بذكر الباز فيه مجالد وخالفه الحفاظ انتهى ولا يخفى أن مجالدا من رجال مسلم وأهل السنن وأما ما ذكره بعض الشراح من أن الترمذي أخرجه من طريق أخرى فلا أصل لذلك بل لم يخرجه إلا من طريق مجالد وقال بعد إخراجه هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي انتهى
والحاصل أن الله سبحانه قد قال في كتابه العزيز وما علمتم من الجوارح فما صدق عليه أنه من الجوارح فالصيد به حلال فالبازي إذا كان من جملة الجوارح لم يحتج إلى الاستدلال عليه بغير الآية وأما قوله مكلبين المراد به معلمين لما تصيدون به وليس المراد الكلاب فقط فقد ذهب إلى حل صيد جميع الجوارح جمهور العلماء وأما التعليم فهو مجمع على اشتراطه كما حكى ذلك ابن رشد في نهايته (4/58)
وأما اشتراط أن يكون الصيد في غير الحرمين فوجهه واضح وأدلته قد تقدمت في الحج وأما اشتراط أن يكون القتل بخرق لا صدم فيدل عليه اشتراط ذلك في الصيد الذي صيد بالرمي كما في حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه و سلم قال له إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابت بعرضه فلا تأكله ولكنه قد ورد في صيد الكلاب المعلمة ما يدل على أن مجرد إمساكها ذكاة كما في حديث عدي أيضا في الصحيحين وغيرهما فإن أمسك عليك فأدركته فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة فلم يشترط صلى الله عليه و سلم في أحاديث صيد الكلب إلا التعلم والتسمية وألا يأكل منه ولم يذكر اشتراط القتل أو تحريم ما قتله الكلب بالصدم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم كما تقرر في الأصول ولفظ الإمساك والقتل يصدق على ما كان بالصدم كما يصدق على ما كان بالخرق
قوله أرسله مسلم مسم
أقول أما الإرسال فهو مصرح به في الأحاديث الصحيحة بلفظ إذا أرسلت كلبك المعلم فلا بد من الإرسال وإلا كان الكلب صائدا لنفسه لا لصاحبه وهكذا اشتراط التسمية قد صرحت به الأحاديث الصحيحة ومنها بلفظ إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله
وأما اشتراط الإسلام فلم يقم على ذلك دليل تقوم به الحجة لكنه إذا لم يسم لم يحل صيده من هذه الحيثية ولعله يأتي إن شاء الله في باب الذبح مزيد كلام على هذا (4/59)
وقد قدمنا أن اشتراط التعليم مجمع عليه وأما اشتراط أن يلحقه فورا فلا دليل عليه بل المعتبر أن يعلم أنه ما أصابه الجارح الذي أرسله أو السهم الذي رمى به وفي لفظ في الصحيح إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن وفي لفظ الصحيح أيضا كله إلا أن تجده في ماء
وأما قوله ما لم يتخلل إضراب ذي الناب فالظاهر أنه لا وجه له لأن مجرد الإرسال في الابتداء بما يكفي والجارح إنما انبعث مرة أخرى بسبب ذلك الإرسال ولا يقال قد يكون انبعاثه بعد الإضراب ليمسك على نفسه لأنا نقول ذلك خلاف الظاهر فالكلب المعلم مرسل وهذا يكفي
قوله أو هلك بفتك مسلم بمجرد ذي حد
أقول أما اشتراط الإسلام فقد تقدم ما فيه وأما قوله بمجرد ذي حد فليس في الأحاديث إلا مجرد الخرق وهو يحصل بغير ذي الحد ولا يخرج من ذلك إلا ما كان مقتولا بالصدم فإنه وقيذ كما يصيبه المعراض بعرضه ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البندقة الحديد التي نرمي بها بالبارود والرصاص فإن الرصاصة يحصل بها خرق زائد على خرق السهم والرمح والسيف ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشة أو نحوها فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد أو نحوه من الآلات لم يقطعها وهي على هذه الحالة ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل (4/60)
وأما ما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة كما في رواية من حديث عدي ابن حاتم عند أحمد بلفظ ولاتأكل من البندقة إلا ما ذكيت فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين يرمي بها بعد أن تيبس وفي صحيح البخاري قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن
وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الخذف وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحددة إذا لم تخرق فإنه وقيذ لا يحل وأما إذا خرقت حل
وأما قوله وإن قصد به غيره فلا وجه له لأنه لا بد أن يكون الصائد صائدا لصيد معين مرسلا لسهمه عليه مسميا عند الرمي لكنه إذا أطلق التسمية بجعلها لصيد معين كمن يرمي إلى قطيع من الصيد فيسمى على ما أصابه السهم منها فهذا صيد حلال
وأما قوله لم يشاركه كافر فيهما فقد عرفت أنه لا دليل على تحريم صيد الكافر (4/61)
فلا يضر مشاركته للمسلم إذا وقعت منه التسمية وأما كون الأصل في الملتبس الحظر فهو يستقيم فيما إذا وجد الصيد قد قتله الجارح ولم يدر هل ما أرسله هو الذي أصابه أو غيره وهكذا إذا شك هل السهم الذي فيه هو سهمه أو سهم غيره وأما إذا شك هل أمسكه الجارح على الصائد أم أمسكه لنفسه فالأصل عدم إمساكه لنفسه بعد تعليمه وإرساله والتسمية عليه كما تقدم وهكذا إذا شك هل أكل منه أم لا فالأصل عدم أكله منه وأما إذا تيقن أنه أكل منه لم يحل صيده لما قدمنا في الحديث الصحيح من اشتراطه صلى الله عليه و سلم عدم أكل الجارح من الصيد
وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال كل مما أمسك عليك وأن أكل منه فهذا الحديث لا يعارض ما ثبت في الصحيح ولا سيما بعد تعليله صلى الله عليه و سلم بقوله فإنما أمسك على نفسه وقد قيل أنه يجمع بين الأحاديث بأن النهي محمول على ما إذا قتله كلب ونحوه وخلاه ثم عاد وأكل منه ولا وجه لهذا الجمع ولا يقوي الحديث على معارضة الأحاديث الثابتة في الصحيحين من طرق ولا سيما بعد اشتمالها على النهي عن الأكل كما في حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وغيرهما بلفظ إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل (4/62)
وأما كونه لمن أثر سهمه فظاهر لأن الاصطياد وقع به ولا حكم للآخر وأما التذكية حيا فوجه وجوب ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم بلفظ فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه فإنه يدل على وجوب التذكية لما أدركه حيا (4/63)
باب الذبح
فصل
يشترط في الذابح الإسلام فقط وفري كل من الأوداج ذبحا أو نحرا وإن بقي من كل دون ثلثه أو من القفا إن فرأها قبل الموت وبحديد أو حجر حاد أو نحوهما غالبا والتسمية إن ذكرت ولو قلت أو تقدمت بيسير وتحرك شيء من شديد المرض بعده وندب الاستقبال ولا تغني تذكية السبع ولا ذات الجنين عنه وما تعذر ذبحه لند أو وقوع في بئر فبالرمح ونحوه ولو في غير موضع الذبح
قوله باب الذبح
قوله فصل يشترط في الذابح الإسلام فقط
أقول إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عز و جل غير ذابح لغير الله وأنهر الدم وفرى الأوراج فليس في الأدلة ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة ولا يصح الاستدلال بمثل قوله عز و جل إلا ما ذكيتم لكون الخطاب فيها للمسلمين لأنا نقول الخطاب فيها لكل من يصلح للخطاب فمن زعم أن الكافر خارج من ذلك بعد أن ذبح لله وسمى فالدليل عليه (4/64)
وأما إذا ذبح الكافر لغير الله فهذه الذبيحة حرام ولو كانت من مسلم وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله عز و جل فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من المسلم حيث ذبحا جميعا لله عز و جل وسيأتي الكلام على التسمية
وإذا عرفت هذا لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح لا على من قال إنه لا يشترط فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب كالاحتجاج بأنه صلى الله عليه و سلم لم ينه عن ذبائح المنافقين فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه و سلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام عملا بما أظهروه من الإسلام وجريا على الظاهر
وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر فدعوى الإجماع غير مسلمة وعلى تقدير أن لها وجه صحة فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله أو لم يذكر اسم الله
وأما ذبيحة أهل الذمة فقد دل على حلها القرآن الكريم وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ومن قال إن اللحم لا يتناوله الطعام فقد قصر في البحث ولم ينظر في كتب اللغة ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أكل ذبائح أهل الذمة كما في أكله صلى الله عليه و سلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما والقصة أشهر من أن نحتاج إلى التنبيه عليها ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع فإن قلت قد يذبحون لغير الله أو بغير تسمية أو على غير الصفة المشروعة في الذبح قلت إن صح شيء من هذا فالكلام في ذبيحتهم كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على (4/65)
أحد هذه الوجوه وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الذمى مانعا لا في كونه أخل بشرط معتبر
قوله وفري كل من الأوداج إلخ
لم يثبت في المرفوع ما يدل على اشتراط فرى الأوداج إلا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس وأبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج وفي إسناده عمرو ابن عبد الله الصنعاني وقد تكلم فيه غير واحد والتفسير فيه مدرج كما صرح بذلك أبو داود في السنن ولكن هذا التفسير قد ثبت في كتب اللغة ما يوافقه فهو صحيح إنما الشأن في صحة الحديث وقيام الحجة به
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه و سلم قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا فهذا يدل على أن التذكية بشيء يحصل به إنهار الدم حلال وإن لم يحصل فرى الأوداج
وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث أبي العشراء عن أبيه قال قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق قال لو طعنت في فخذها لأجزأك قال (4/66)
الترمذي بعد إخراجه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث قال الخطابي وضعفوا هذا الحديث لأن رواته مجهولون وأبو العشراء لا يدرى من أبوه ولم يروه عنه غير حماد بن سلمة وقال ابن حجر في التلخيص وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه يعني أبا العشراء على الصحيح وهو لا يعرف حاله انتهى قلت حماد بن سلمة إمام لا يضر تفرده ما لم يكن في المروي عنه ما يمنع من قبوله
وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة وفي إسناده سعيد بن سلام العطار قال أحمد كذاب
والحاصل أنه قد دل الحديث الصحيح على أن المعتبر إنهار الدم فإذا طعن في الحلق واللبة حتى أنهر الدم ولم يفر الأوداج كلها كان الذبح صحيحا والذبيحة حلالا ويؤيد هذا حديث عدي بن حاتم عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة قلت يا رسول الله إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار وشقة العصا فقال صلى الله عليه و سلم أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله وأخرجه أيضا الحاكم وابن حبان ومداره على سماك بن حرب عن مري بن قطري عنه وقد أخرج معناه أحمد والطبراني والبزار عن ابن عمر بإسناد صحيح ومعلوم أن شقة العصا لا تفري كل الأوداج (4/67)
وهكذا ما روي من قصة الرجل الذي رأى لقحة في الموت فلم يجد ما ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها به في لبتها حتى أهرق فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره بأكلها وهو في سنن أبي داود والنسائي
وبهذا نعرف أنه لا وجه تقوم به الحجة على اشتراط فرى الأوداج وأنها تصح التذكية بحديدة أو حجر أو بشقة عصا أو ما أنهر الدم كائنا ما كان ما لم يكن سنا أو ظفرا
قوله والتسمية إن ذكرت إلخ
أقول وجهه ما قدمناه في الأحاديث الصحيحة من ترتيب جواز الأكل على إنهار الدم وذكر اسم الله فإن ذلك يقيد أن التسمية شرط لا تحل الذبيحة بدونها لكنه قد ورد ما يدل على أنه إذا التبس على الآكل هل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لا فإنه يسمى عليها ويأكلها كما في البخاري وغيره من حديث عائشة أن قوما قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال سموا عليه أنتم وكلوا قالت وكانوا حديثي عهد بالكفر فهذا يدل دلالة بينة على أنه إذا التبس على الآكل هل وقعت التسمية من الذابح أم لا أنه يكتفي بالتسمية منه عند الأكل
فالحاصل أن التسمية فرض على الذابح وإعادتها فرض عند الأكل على المتردد وليس في هذا الحديث ما يدل على أن التسمية سنة فقط كما قاله جماعة (4/68)
وأما قوله إن ذكرت فليس في الأدلة ما يدل على أن النسيان يسقط هذه الفريضة إلا الأحاديث العامة الواردة برفع الخطأ والنسيان وقد قدمنا لك أن النبي صلى الله عليه و سلم حكى عن الله عز و جل أنه قال عند الدعاء بقوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قد فعلت وذلك ثابت في الصحيح
وأما قوله وإن قلت أو تقدمت بيسير فأقل تسمية أن يقول بسم الله وتقدمها لا يضر إذا كانت قبل ذلك بوقت لا ينافي أن تكون مفعوله للذبح
وأما قوله وتحرك شيء من شديد المرض بعده فوجهه أنها لا تعلم الحياة إلا بذلك وإلا كانت التسمية واقعة على ميتة
قوله وندب الاستقبال
أقول ليس على هذا دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية فليس بصحيح لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع والندب حكم من أحكام الشرع فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة
قوله ولا تغني تذكية السبع
أقول هذا صحيح لأن ذلك مما لم يأذن الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وليس هذا السبع من جوارح الصيد المرسلة المعلمة حتى يكون إمساكه تذكية ولهذا يقول الله عز و جل وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وهذا دليل قرآني (4/69)
لا يحتاج إلى الاستدلال بغيره على فرض أن المانع محتاج إلى دليل وليس كذلك فإن قيامه مقام المنع يكفيه والدليل على من ادعى أن تذكية السبع تذكية محللة
قوله ولا تذكية ذات الجنين عنه
أقول حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه من حديث أبي سعيد الخدري وأما تضعيف عبد الحق له بأن في إسناده مجالدا فمدفوع بأنه لم يكن في الطريق التي أخرجه منها أبو داود والترمذي وأيضا قد أخرجه أحمد من طريق غيره وليس فيها ضعف وقد صححه مع ابن حبان ابن دقيق العيد وحسنه الترمذي وقد روى من طريق غيره من الصحابة منهم على وابن مسعود وأبو أيوب والبراء وابن عمر وابن عباس وكعب ابن مالك وقد ذكرنا في شرح المنتقى من أخرج هذه الأحاديث عن هؤلاء الصحابة فالحديث صحيح في نفسه فكيف وقد ورد من حديث سبعة من الصحابة غير أبي سعيد
وأما من قال إن قوله صلى الله عليه و سلم ذكاة أمه منصوب بنزع الخافض وأن التقدير كذكاة أمه فهذا مع كونه خلاف الرواية هو أيضا خلاف الدراية فإن الشارع إنما أراد التعريف بأن ذكاة الأم ذكاة لما في بطنها ولم يرد أنه يذكى كما تذكى الأم فإن ذلك ليس فيه كثير فائدة مع أنه قد وقع في سؤال من سأل رسول الله صلى الله (4/70)
عليه وآله وسلم ما يفيد المعنى المراد فإن لفظ الحديث عند أحمد وأبي داود قال قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكل فقال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه فإنهم لم يسألوه عن كيفية تذكيته إنما سألوه عن حل أكله أو تحريمه إذا وجدوه في بطنها فالرفع في وجه هذه السنة بما لا يسمن ولايغني من جوع خروج عن الإنصاف
قوله وما تعذر ذبحه إلخ
أقول هكذا جاءت السنة الصحيحة بذلك كما في الصحيحين وغيرهما من حديث رافع بن خديج قال كنا مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فأفعلوا به هكذا وظاهر هذا الحديث أنه إذا مات بهذه الرمية كان حلالا ولا يحتاج إلى تذكية وإليه ذهب الجمهور وقال مالك والليث وسعيد بن المسيب وربيعة إنه لا يحل الأكل لما توحش إلا بتذكية في حلقه أو لبته والحديث يرد عليهم وأيضا ما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم لو طعنت في فخذها لأجزأك (4/71)
باب الأضحية (4/72)
والأضحية تسن لكل مكلف بدنة عن عشرة وبقرة عن سبعة وشاة عن ثلاثة وإنما يجزيء الأهلي ومن الضأن الجذع فصاعدا ومن غيره الثني فصاعدا إلا الشرقاء والمثقوبة والمقابلة والمدابرة والعمياء والعجفاء وبينة العور والعرج ومسلوبة القرن والأذن والذنب والألية ويعفى عن اليسير
قوله باب الأضحية تسن لكل مكلف
أقول لا خلاف في مشروعية الأضحية وأنها قربة عظيمة وسنة مؤكدة وقد ذهب الجمهور إلى أنها غير واجبة قال ابن جزم لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ولا خلاف في كونها من شرائع الدين انتهى وذهب الأقلون إلى وجوبها واستدلوا بما أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وجد سعة فلم يضح (4/73)
فلا يقربن مصلانا وصححه الحاكم قال ابن حجر في الفتح رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره
ووجه الاستدلال به لما نهى من كان ذا سعة قربان المصلي إذا لم يضح دل على أنه قد ترك واجبا فكأنه لا فائدة في التقرب بالصلاة للعبد مع ترك هذا الواجب
واستدلوا أيضا بما في الصحيحين وغيرهما من حديث جندب بن سفيان البجلي أنه صلى الله عليه و سلم قال من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله وبما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بهم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد نحر فأمر النبي صلى الله عليه و سلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه و سلم وفي حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وسلم يوم النحر من كان ذبح قبل الصلاة فليعد والأوامر ظاهرة في الوجوب لا سيما مع الأمر بالإعادة وأجاب الجمهور بأنه هذه الأوامر مصروفة عن معناها الحقيقي وهو الوجوب لما ورد في الأحاديث أنه صلى الله عليه و سلم أمر بالتضحية ولم تؤمر بها أمته وأنها عليه فريضة ولهم تطوع ولم يصح من الأحاديث شيء وفي أسانيدها من هم في الضعف في أسفل مراتبه وهكذا لا (4/74)
القول بصرف أحاديث الأوامر عن معانيها الحقيقية أنه ضحى عن أمته وفي حديث آخر ضحى عن محمد وآل محمد لأن تضحيته صلى الله عليه و سلم قد قامت مقام التضحية منهم وذلك مزية خصه الله سبحانه بها ومما يؤيد الوجوب حديث مخنف ابن سليم عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه و سلم قال بعرفات يا أيها الناس على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة ونسخ العتيرة لا يسلتزم نسخ الأضحية ومما يدل على الوجوب قوله عز و جل فصل لربك وانحر إن كان المراد معنى النحر الحقيقي وهو نحر الأضحية لا إن (4/75)
كان المراد وضع اليد على النحر كما ورد في رواية وبهذا ويعرف أن الحق ما قاله الأقلون من كونها واجبة ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة فمن لا سعة له لا أضحية عليه
قوله بدنة عن عشرة وبقرة عن سبعة
أقول الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أن نشترك في الهدي في الإبل كل سبعة في بدنة ولكنه يمكن أن تحمل هذه الأدلة على الهدى وتخص الأضحية بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث ابن عباس قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة ويشهد له ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه و سلم قسم فعدل عشر من الغنم ببعير
قوله وشاة عن ثلاثة
أقول قد ورد إجزاء الجذع من الضأن مطلقا ومقيدا فأما المطلق فكقوله صلى الله عليه و سلم نعم الأضحية الجذع من الضأن أخرجه أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة وكقوله صلى الله عليه و سلم خير الأضحية الكبش الأقرن أخرجه داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت (4/76)
وأخرجه الترمذي وأخرج ابن ماجة نحوه من حديث أبي أمامة وأخرج أبو داود وابن ماجة من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يجوز الجذع من الضأن ضحية وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بالتضحية بالجذع من الضأن وفي الباب أحاديث
وأما المقيد فكحديث أبي أيوب الأنصاري أنه سأله عطاء بن يسار كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كان الرجل في عمد النبي صلى الله عليه و آله وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته الحديث أخرجه في الموطأ وابن ماجة والترمذي وصححه وكحديث أبي سريحة قال حملني أهلي على الجفاء بعدما علمت من السنة كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يبجلنا جيراننا أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح ويدل عليه أحاديث واردة في هذا المعنى وجميع الأحاديث المطلقة والمقيدة تدل على أن أقل ما يجزيء في الأضحية الجذع من الضأن وأنها تجزيء أهل البيت كما تجزيء الواحد وحده وقد حكى الترمذي في سننه أن الشاة تجزيء عن أهل البيت قال والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد واسحاق واحتجا بحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى (4/77)
بكبش فقال هذا عمن لم يضح من أمتي وقال بعض أهل العلم لا تجزيء الشاة إلا عن نفس واحدة وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم انتهى فعرفت بكلام الترمذي هذا عدم صحة ما زعمه النووي وابن رشد والمهدي في البحر من أن الشاة لا تجزيء إلا عن ثلاثة فالحق أنها تجزيء عن أهل البيت وإن كانوا مائة نفس
وأما قوله وإنما يجزيء الأهلي فوجهه أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بوحش ولا جوز التضحية به لأمته وهذا يكفي
وأما قوله والجذع من الضأن فصاعدا فوجهه ما قدمنا من الأدلة وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقى عتود فذكره للنبي صلى الله عليه و سلم فقال ضح به أنت والعتود من ولد المعز ما أتى عليه حول فيجاب عنه بأنه أخرج هذا الحديث البيهقي بإسناد صحيح أنه قال له صلى الله عليه و سلم ضح به أنت ولا رخصة فيها لأحد بعدك
وأما قوله ومن غيره الثنى فصاعدا فوجهه ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تذبحوا إلا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن فقيد إجزاء الجذعة بكونها من الضأن (4/78)
وعليه تدل الأحاديث المتقدمة فلا يجزيء من غيرها إلا المسن وهو الثني
قوله إلا الشرقاء والمثقوبة إلخ
أقول وقد ورد عن الشارع ما لا يجزيء فينبغي العمل على ذلك ومن ذلك ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي والنووي وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تنقي وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن وأخرج أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه والحاكم من حديث عتبة ابن عبد السلمي قال إنما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله والبخقاء التي تبخق عينها (4/79)
والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا والكسراء التي لا تنقي وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وأخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث علي قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولاخرقاء
وأما قوله ومسلوبة الذنب والألية فيرده ما أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي من حديث أبي سعيد قال اشتريت كبشا أضحي به فعوى الذئب فأخذ الألية فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فقال ضح به وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وفيه أيضا محمد بن قرظة وهو مجهول وعلى هذا فلا تقوم به حجة ولكن قد عرفناك أنه يقتصر في هذه العيوب على ما ورد عن الشارع لأن الأصل إجزاء ما جوز الشارع التضحية به ولا يخرج عن ذلك إلا ما استثناه
وأما قوله ويعفى عن اليسير فيدل عليه ما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم البين عورها والبين مرضها والبين ظلعها وقوله التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها وقوله التي ذهب قرنها من أصله (4/80)
فصل
ووقتها لمن لا تلزمه الصلاة من فجر النحر إلى آخر ثالثه ولمن تلزمه وفعل من عقيبها وإلا فمن الزوال فإن اختلف وقت الشريكين فآخرهما
قوله فصل ووقتها لمن لا تلزمه الصلاة إلخ
أقول الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين أو أحدهما وفي غيرهما قاضية بأن وقتها من بعد الصلاة وفي بعضها التقييد بصلاة الإمام كما في حديث جندب بن سفيان البجلي في الصحيحين وغيرهما بلفظ ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله وفي بعضها أنه صلى الله عليه و سلم أمر من نحر قبل أن ينحر أن يعيد بنحر آخر وهو في صحيح مسلم وغيره فالصلاة مقيدة بكونها صلاة الإمام ومقيدة أيضا بنحر النبي صلى الله عليه و سلم فلا يكون النحر إلا بعد صلاة الإمام ونحره
فمن ذبح قبل الصلاة لم تجزه وعليه الإعادة كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم النحر من كان ذبح قبل الصلاة فليعد وفي لفظ البخاري من هذا الحديث من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين (4/81)
ولا فرق في هذه الأحاديث بين من تلزمه الصلاة ومن لا تلزمه فلا ذبح قبل صلاة العيد الجامعة ولا وجه لما قاله المصنف من أن وقتها لمن لا تلزمه الصلاة من فجر النحر
وأما آخر وقت الذبح فحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كل أيام التشريق ذبح أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وله طرق ويؤيده الحديث الصحيح في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فمن زعم أنه لا يجزيء الذبح إلا يوم النحر أو أنه يجزيء بعد أيام التشريق فهذا الحديث وما يقويه يرد عليه
ووجه الرد أن النبي صلى الله عليه و سلم بين لنا أن أيام التشريق كلها ذبح فمن زعم أن غيرها وقت للذبح فعليه الدليل ولا دليل ينتهض للقول به والمراد هنا الذبح الخاص الذي يكون أضحية مجزية فدعوى أنه يجزيء الذبح عن الأضحية في غيرها غير مقبولة وفي هذه المسألة خمسة مذاهب قد استوفيتها واستوفيت ما استدل به عليها في شرح المنتقى (4/82)
فصل
وتصير أضحية بالشراء بنيتها فلا ينتفع قبل النحر بها ولا بفوائدها ويتصدق بما خشي فساده فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزمه البدل ولو أوجبها إن عين وإلا غرم قيمتها يوم التلف وإن نقصت عما يجزيء وله البيع لإبدال مثل أو أفضل ويتصدق بفضلة الثمن وما لم يشتره فبالنية حال الذبح وندب تولية وفعله في الجبانة وكونها كبشا موجوءا أقرن أملح وأن ينتفع ويتصدق ويكره البيع
قوله فصل وتصير أضحية بالشراء بنيتها
أقول ليس في مصير الأضحية أضحية بمجرد الشراء بالنية ولا في ثبوت هذه الأحكام التي ذكرها المصنف من أنه لا ينتفع بها إلى آخر ما ذكره من ذلك دليل تقوم به حجة ويجب المصير إليه والعمل به فإن كان هذا قياسا للأضحية على الهدي إن كان الباب مختلفا فلا بأس بذلك فإنه قد ورد في الهدى أن الهدى إذا خشي عليها موتا فلينحرها ولا يطعمها هو ولا أحد من أهل رفقته كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قبيصة (4/83)
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قلت كيف أصنع بما عطب من البدن قال انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحته وخل بينه وبين الناس فليأكلوه قال الترمذي حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم في هدى التطوع إلى آخر كلامه في سننه وأخرج نحوه مالك في الموطأ عن هشام ابن عروة عن أبيه
وورد في منع بيع الهدى ما أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري في التاريخ وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلاثمائة دينار فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة دينار فأبيعها وأشتري بثمنها بدنا قال لا انحرها إياها
فالحاصل أنه إن صح قياس الأضحية على الهدى فذاك وإلا فالأصل عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام ومما يدل على اختلاف البابين أنه قال في الضحايا كلوا (4/84)
وادخروا واتجروا
قوله فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزمه البدل
أقول قد قدمنا الأدلة على وجوب الأضحية فهذه التي اشتراها إذا تلفت أو تعيبت بقي الخطاب عليه في الوفاء بما هو واجب عليه إن كان قائلا بالوجوب أو بما هو سنة إن كان يرى أنها سنة فكون مجرد التلف أو التعيب مسقط للأضحية مسوغا لعدم إبدال ما تلف أو تعيب محتاج إلى دليل وكيف يصح هذا والنبي صلى الله عليه و سلم يقول لمن ذبح قبل الصلاة أن يذبح مكانها أخرى ويقول لمن نحر قبل نحره أن يعيد بنحر آخر ويقول من كان ذبح قبل الصلاة فليعد وهذه الأحاديث قد تقدمت وهي ثابتة في الصحيح فينظر ما وجه كلام المصنف فإن هذا أيضا مع كونه خلاف الدليل بخالف حكم الهدي فيكون قادحا في القياس مع أنه لا وجه لثبوت ما ذكره من أحكام الأضحية إلا مجرد قياس على الهدي كما قدمناه وأيضا مما يقدح في ذلك القياس تجويز المصنف للبيع لإبدال مثل أو أفضل مع ما تقدم في الهدى من نهيه صلى الله عليه و سلم لعمر عن البيع وأمره بأن يذبح النجيبة
وأما قوله وما لم يشتره فبالنية حال الذبح فالظاهر أنه لا فرق بين ما اشتراه وما لم يشتره إذ أنه إذا ذبحه بنية الأضحية وفى بما عليه وصار فاعلا لما شرعه الله لعباده من الضحايا (4/85)
قوله وندب توليه بنفسه
أقول وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يذبح أضحيته بيده الشريفة كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة فمن أراد القيام بحق هذه القربة المتواترة والشريعة الواضحة فليفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا مانع من شرع ولا عقل من الاستنابة والمنع من ذلك مجرد قاعدة فقهية لا يعرف لها أصل ولا يحسن
والاستدلال على المنع بنحره صلى الله عليه و سلم لهديه بيده مرفوع بأن هذا الحديث بخصوصه يدل على جواز الاستنابة فإنه صلى الله عليه و سلم استناب عليا في نحر البعض كما ذلك ظاهر مشهور ثابت في الصحيح فهو حجة على المستدل به لا له
قوله وفعله في الجبانة
أقول وجه هذا ما ثبت في الأحاديث أنه صلى الله عليه و سلم كان يذبح أضحيته في الجبانة فالاقتداء به مندوب لأنه لم يرد ما يدل على أن ذلك خاص به ولا ورد ما يدل على أن ذلك عزيمة على الأمة فكان مندوبا وفي الذبح في الجبانة فوائد منها أن يعلم بذلك الفقراء فيقصدونه ويردون عليه ولا سيما في حق الإمام فإن الناس يعلمون بذبحه للأضحية حتى يذبحوا ضحاياهم فتكون ضحايا مجزئة لما قدمنا من أنه صلى الله عليه و سلم أمر من نحر قبل أن ينحر أن يعيد نحره وما ثبت (4/86)
لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثبت للأئمة بعده
قوله وكونها كبشا موجوءا أقرن أملح
أقول وجه ذلك ما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين فذبح أحدهما عن أمته لمن شهد الله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وآل محمد
وهذا الحديث وإن كان في إسناده عيسى بن عبد الرحمن بن فروة وفيه ضعف فقد روى مثله من حديث عائشة
وروى أيضا أنه ضحى بكبشين موجوءين أقرنين من حديث عائشة عند أحمد والحاكم والبيهقي وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال خفيف وأخرج نحوه أحمد بإسناد حسن من حديث أبي رافع
وقوله في الحديث الأول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن يضحي يدل على أن ذلك هو الغالب من أحواله كما يفيد لفظ كان وبهذا يثبت حكم الندب ولا ينافيه لمخالفة في بعض الأحوال كما في حديث أبي سعيد قال ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبش أقرن فحيل أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان وهو على شرط مسلم (4/87)
فإن قلت ندبية التضحية بالكبش يدل على أنه أفضل من التضحية بالإبل والبقر مع العلم بأن التضحية بالناقة والبقرة الانتفاع بها لأهل البيت والفقراء أكثر ولهذا عدلت عشرا من الغنم أو سبعا كما تقدم
قلت ملازمته صلى الله عليه و سلم للتضحية بالكبش أو الكبشين مع وجوج الإبل في عصره وكثرتها يدل على أفضليتها في الأضحية وإن كانت مفضولة من وجه آخر
قوله وينتفع ويتصدق
أقول وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كلوا وادخروا وائتجروا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه و سلم وفي لفظ كلوا وادخروا وتصدقوا وذلك ثابت في الصحيحين وغيرهما
وقد كان صلى الله عليه و سلم أمرهم أن يدخروا ثلاثة أيام ثم يتصدقوا بما بقي ثم نسخ ذلك وبين لهم أنه إنما قصرهم على الثلاث لأجل الدافة التي دفت من محاويج العرب ومعنى قوله واتجروا أي اطلبوا الآجر بالصدقة كما بينه في الرواية الأخرى بقوله وتصدقوا وفي الباب أحاديث
وأما قوله ويكره البيع فوجهه أن البيع ليس بأكل ولا ادخار ولا اتجار وهو أيضا خلاف ما تفيده الأضحية من معنى التقرب وإذا كان قياس الضحايا على الهدايا صحيحا فقد ثبت عنه النهي عن أن يعطي الجازر من الهدايا شيئا فكيف يجوز بيع (4/88)
ما ألحق بها من الضحايا ولكن في صحة القياس ما قدمنا
فصل
والعقيقة ما تذبح في سابع المولود وهي سنة وتوابعها وفي وجوب الختان خلاف
قوله فصل والعقيقة ما تذبح في سابع المولود وهي سنة وتوابعها
أقول ذهب الجمهور إلى أنها سنة فقط وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى وجوبها استدل القائلون بالوجوب بما ورد من الأوامر كقوله صلى الله عليه و سلم مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى أخرجه البخاري وغيره من حديث سلمان بن عامر الضبي ومن أدلة الوجوب أيضا ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم وعبد الحق من حديث سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل غلام رهينة بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق (4/89)
رأسه فإن قوله كلا غلام رهينة يعقيقة يفيد أنها واجبة عليه وهذا الحديث وإن كان من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه فقد ذكر الحفاظ كالبخاري أنه سمع منه هذا الحديث بخصوصه فلا علة فيه وقال الجمهور إن الأحاديث المشتملة على ما يفيد الوجوب مصروفة عن المعنى الحقيقي لقوله صلى الله عليه و سلم من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه لا يخرج عن الحسن وإن كان في روايته عن أبيه عن جده فقال وقد روى عن أبي حنيفة أن العقيقة ليست سنة والأحاديث ترد عليه
وكراهته صلى الله عليه و سلم للاسم لا يدل على كراهة المسمى كما روى عنه من حديث عمرو بن شعيب هذا أنه قال لا أحب العقوق لأنهم قالوا له إنما نسألك عن أحدنا يولد له فقال من أحب أن ينسك الحديث وقد زعم محمد بن الحسن أن العقيقة جاهلية نسخها الإسلام وهذا مدفوع بثبوتها في الإسلام بما يقوم به الحجة وفي الأحاديث ما يدل على أن العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة كما في حديث عمرو بن شعيب المتقدم وكما في حديث عائشة عند أحمد والترمذي وصححه (4/90)
قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الغلام شاثان مكافأتان وعن الجارية شاة وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي ومثله ما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الترمذي من حديث أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العقيقة فقال نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ولا ينافى حديث سلمان بن عامر الضبي المتقدم فإن هذه الأحاديث مشتملة على زيادة يتعين قبولها وهكذا لا ينافي هذه الأحاديث ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا لما ذكرنا من أن الزيادة مرجحة على أن في رواية النسائي لحديث ابن عباس هذا بلفظ كبشين كبشين
فالحاصل أن العقيقة سنة من سنن الإسلام ولا يتم الوفاء بهذه السنة إلا بذبح شاتين عن الذكر وشاة عن الأنثى
وأما توابعها التي أشار إليها المصنف فهي ما وردت به الأدلة فمنها ما تقدم في حديث سلمان بن عامر الضبي من قوله أميطوا عنه الأذى وكذلك ما تقدم في حديث سمرة من قوله تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث بريدة الأسلمي وإسناده صحيح كما قال في التلخيص وفيه نظر فإن في إسناده على بن الحسين بن واقد وفيه مقال ولفظه كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وفي لفظ من حديث عائشة عند ابن حبان وابن السكن وصححاه بلفظ فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعلوا مكان الدم (4/91)
خلوة فتوابع العقيقة هي ما اشتملت عليه هذه الأحاديث لا ما وقع في كثير من كتب الفروع من الخرافات التي تستسمجها العقول
ومن توابع العقيقة التصدق بوزن شعر رأس الصبي من الورق كما في حديث أبي رافع عند أحمد والبيهقي مرفوعا وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال وشهد له حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عند مالك وأبي داود في المراسيل والبيهقي أن فاطمة وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بوزنه فضة
قوله وفي وجوب الختان خلاف
أقول ثبوت مشروعية الختان في هذه الملة الإسلامية أوضح من شمس النهار فما سمع السامعون منذ كان الإسلام وإلى هذه الغاية أن مسلما من المسلمين تركه أو ترخص في تركه أو تعلل بما يحصل من مزيد الألم لا سيما للصبيان الذين لم يجر عليهم قلم التكليف ولا كانوا في عداد من يخاطب بالأمور الشرعية وقد صار مثل هذا الشعار علامة للمسلم تميزه عن الكفار إذا اختلط بهم فالقول بوجوبه هو الحق والاشتغال بالكلام على ما ورد فيه والقدح في بعض طرقه اشتغال بما لا يسمن ولا يغني من جوع فثبوته معلوم بالقطع الذي لا شك فيه ولا شبهة وقد كان يؤمر بذلك أهل الإسلام ويؤمر من أسلم بأن يختتن وفي هذا كفاية مستغنية عن المزيد وقد كان يفعله أنبياء الله عليهم السلام كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال (4/92)
اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة وقد كان ثابتا في الجاهلية ثبوتا لا ينكره أحد فقرره الإسلام ولا يصح الاستدلال بحديث الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء لأن السنة تشمل الثابت من سنته صلى الله عليه و سلم وآله وسلم أعم من أن يكون واجبا أو مسنونا أو مندوبا على أن هذا الحديث في إسناده من لا يقوم به الحجة مع كونه مضطربا اضطرابا شديدا وقد ذكرت ذلك في شرح المنتقى وذكرت عدم انتهاض الأدلة على الوجوب ولكن الصواب ما هنا (4/93)
باب الأطعمة والأشربة
فصل
يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير والخيل والبغال والحمير الأهلية وما لا دم له من البري غالبا وما وقعت فيه ميتة إن أنتن بها وما استوى طرفاه من البيض وما حوته الآية إلا الميتتين والدمين ومن البحري ما يحرم شبهه في البري كالجري والمار ما هي والسلحفاة
قوله باب الأطعمة والأشربة
قوله فصل يحرم كل ذي ناب من السبع وذي مخلب من الطير
أقول هكذا جاءت السنة الصحيحة الثابتة من طريق جماعة من الصحابة بأنه يحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ولا خلاف في ثبوت ذلك (4/94)
وقيام الحجة به فلا يخرج من هذا العموم الشامل إلا ما خصصه الدليل الذي تقوم به الحجة فمن جاءنا بالخاص المقبول فبها ونعمت وجب علينا بناء العام على الخاص ومن لم يأت فهو محجوج بهذا العموم وكلامه رد عليه
ومما ينتهض لتخصيص عموم كل ذي ناب من السباع حديث عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي عمارة قال قلت لجابر الضبع أصيد هي قال نعم قلت آكلها قال نعم قلت أقاله رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم أخرجه الشافعي وأحمد وأهل السنن والبيهقي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة وأما إعلال ابن عبد البر لهذا الحديث بعبد الرحمن المذكور فوهم فإنه ثقة مشهور وثقة جماعة من الحفاظ ولم يتكلم فيه أحد وهكذا لا وجه لإعلاله بالإرسال ولم يعارض بشيء
قوله والخيل
أقول لم يأت دليل يدل على تحريمها والأصل الحل لعموم قوله عز و جل قل لا أجد فيما أوحي إلي ومع هذا فقد ورد في حل أكلها ما تقوم الحجة ببعضه فثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في لحوم الخيل وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت (4/95)
ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه وفي لفظ لأحمد فأكلناه نحن وأهل بيته
وقد أجمع الصحابة على حل الخيل ولم يخالف في ذلك أحد منهم وقد كانت الجاهلية تأكلها في الإسلام وقرر ذلك وما روى عن ابن عباس من أنه قال بكراهيتها فلم يثبت ذلك عنه من وجه صحيح وقد قال بالكراهة الحكم بن عتيبة ومالك وبعض الحنفية والحق الحل بلا كراهة
وأما الاستدلال على التحريم بقوله عز و جل والخيل والبغال والحمير لتركبوها فساقط لأن الامتنان بنعمة من النعم التي أنعم الله بها على عباده فيما خلقه من الحيوانات لا ينافي غيرهما من النعم هذا على تقدير عدم ورود الأدلة الدالة على الحل فكيف وقد وردت هذه الأدلة التي ذكرناها والبعض منها يكفي وأيضا لو نظرنا إلى الأدلة القرآنية فقط لكان قوله عز و جل قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية وقوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا يدلان بعمومهما على الحل ولا يصلح مجرد الامتنان بنعمة الركوب والزينة لتخصيص عمومهما لعدم الملازمة بين الامتنان والتحريم وأيضا الآية أعني قوله لتركبوها مكية بالاتفاق وتحليل الخيل كان بعد الهجرة فلو فرضنا أن فيها دلالة كما زعموا لكانت منسوخة بأدلة التحليل (4/96)
قوله والبغال
أقول قد ذهب الجمهور إلى تحريمها ولا بد من مخصص لها من عموم قوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما وقد أخرج أحمد والترمذي بإسناد لا بأس به من حديث جابر قال حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وأخرج أحمد من حديث خالد بن الوليد بأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أن ينادى وفيه وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وقد ضعفه جماعة من أهل الحديث ولكنه معتضد بالحديث الأول وبعموم القرآن وأخرجه أيضا أبو داود من حديثه بلفظ نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه
قوله والحمر الأهلية
أقول الأحاديث الثابتة في تحريم الحمر الأهلية متواترة فمنها في الصحيحين من حديث جابر وابن عمر وابن عباس وأنس والبراء بن عازب سلمة بن الأكوع وأبي ثعلبة الخشني وعبد الله بن أبي أوفى وهو أيضا في صحيح البخاري من حديث (4/97)
زاهر الأسلمي وهو في الترمذي من حديث أبي هريرة والعرباض بن سارية وهو أيضا عند أبي داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعند أبي داود والبيهقي من حديث المقدام بن معد يكرب فالقائل بحلها مخالف لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما قول جابر بن زيد أنه أبى تحريم الحمر الأهلية البحر ابن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية فيقال لجابر قد أبى هذا الإباء من البحر ابن عباس هذه البحار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وهو من جملة رواتها والحجة في روايته لا في رأيه ولو كان بيده رواية لم تقو على مطاولة هذه الجبال الرواسي
وأما التمسك بعموم الآية فإذا لم يصلح لتخصيصها ما ثبت في السنة تواترا لم يصلح شيء من السنة للاستدلال به للقطع بأن المتواتر منها هو أرفع درجاتها وأعلى رتبها وما استلزم الباطل المجمع على بطلانه باطل بالإجماع
وأما ماأخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر قال أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة قال أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها (4/98)
من أجل جوال القرية فلا يقوم به الحجة لما في إسناده من الضعف وفي متنه من الشذوذ هذا على تقدير عدم المعارض له فكيف وهو خلاف ما تواتر من السنة
وأما الحمر الوحشية فالإجماع على حلها ثابت وقد صادها الصحابة وأكلوها وأكلها رسول الله صلى الله عليه و سلم والأمر أواضح من أن يحتاج إلى التنبيه عليه
قوله وما لا دم له من البري
أقول قد عرفت أن القرآن قد دل على أصالة الحل فلا يخرج عنه إلا ما دل الدليل الصحيح على تحريمه وأما استدلال من استدل على تحريم الأكل بكون الحيوان مأمورا بقتله منهيا عن قتله فهذا استدلال آخر وهو أن الأمر بالقتل أو هو النهي عن القتل يقتضيان تحريم المأمور بقتله أو المنهي عن قتله ولا دليل على ذلك
وأما الاستدلال على تحريم ما تستخبثه بقوله تعالى كلوا من الطيبات وبقوله كلوا من طيبات ما رزقناكم فغاية ذلك الأمر بأكل ما طاب من دون تعرض للمنع من أكل ما لم يطب وهو المستخبث إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وهو هنا بعيد ولكن إذا ضم إلى ذلك قوله تعالى يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث أفاد المطلوب من تحريم الخبائث (4/99)
وأما قوله وما وقعت فيه ميتة إن أنتن بها فوجهه أنه قد صار مستخبثا
وأما قوله وما استوى طرفاه من البيض فلعل وجه هذا الاستقراء ولا يستوي الطرفان إلا في بيض ما يحرم بيضه ولا فائدة لهذا التنصيص على هذا الجزئي بل ما كان حراما كان بيضه حراما وكذلك جميع أجزائه وجميع ما ينفصل عنه
وأما قوله وما حوته الآية فظاهر
وأما استثناء الميتتين والدمين فوجه ذلك ما ورد من قوله صلى الله عليه و سلم أحل لكم ميتتان ودمان كما تقدم وهو يخصص عموم حرمت عليكم الميتة
قوله ومن البحري ما يحرم شبهه في البري
أقول هذه الكلية محتاجة إلى دليل فإن حيوانات البحر قد دخلت تحت قوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما وما ورد في معناه واختصت بقوله تعالى (4/100)
أحل لكم صيد البحر وقوله صلى الله عليه و سلم هو الطهور وماؤه الحل ميتته فلا وجه للقول بتحريم ما يشابه ما حرم من البري بل يقال الأصل حل كل حيوان بحري إلا ما أخرجه الدليل من هذا الأصل ومن عموم الأدلة أو كان مستخبثا لما تقدم
فصل
ولمن خشي التلف سد الرمق منها ويقدم الأخف فالأخف إلى بضعة منه وندب حبس الجلالة قبل الذبح وإلا وجب غسل المعاء كبيضة الميتة ويحرم شم المعضوب ونحوه كالقبس لا نوره ويكره التراب والطحال والضب والقنفذ والأرنب والوبر
قوله فصل ولمن خشي التلف سد الرمق منها
أقول كان يحسن من المصنف أن يقتدي بعبارة القرآن الكريم في قوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه فمجرد حصول الضرورة إلى الأكل من الميتة مسوغ لأكلها وإن لم يخش التلف ويجوز له أن يأكل منها ما يكفيه ولا يلزمه الاقتصار على مجرد سد الرمق وحكم غير الميتة من المحرمات حكمها لأن تحريمها لا يزيد على (4/101)
تحريم الميتة ولهذا وقع الاستثناء في الكتاب العزيز بقوله إلا ما اضطررتم إليه ولكنه ينبغي تقديم ميتة المأكول على غير المأكول لأن استخباث النفس لميتة المأكول دون استخباثها لميتة غير المأكول وهو معنى قول المصنف ويقدم الأخف فالأخف
وأما قوله إلى بضعة منه فلا شك أن في هذا إضرار بالنفس فإن كان دون ضرر الجوع فعل وذلك بأن يخشى إن بقي على الجوع أن ينتهي إلى الموت ولا يخشى مثل ذلك في أكل بضعة من نفسه
قوله وندب حبس الجلالة قبل الذبح
أقول قد ثبت النهي عن أكل لحمها كما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه بلفظ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكل الجلالة وألبانها وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحومها وفي الباب عن أبي هريرة في النهي عن الجلالة قال ابن حجر وإسناده قوي وثبت أيضا النهي عن شرب لبنها من حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن دقيق العيد وظاهر هذه الأحاديث (4/102)
التحريم لأنه حقيقة النهي فلا يجوز ذبحها قبل الحبس فإن فعل كان أكلها حراما لا كما قال المصنف وإلا وجب غسل المعاء كبيضة الميتة فإنه لا دليل يدل على أن هذا الغسل محلل لذلك المحرم
قوله ويحرم شم المغضوب
أقول المحرم هو أن يأتي إلى العين المغصوبة فيشتمها لا إذا فاحت رائحتها في الهواء فوصلت إلى محل الشم من الذي يقصد ذلك فإن هذا لا تحريم فيه والتكليف به تكليف بما لا يطاق وهو لم يشتم نفس المغصوب إنما كان ذلك بتموج الهواء وإيصال بعض أجزائه لتلك الرائحة إلى بعض
وأما قوله ونحوه كالقبس فقد تقدمت الأدلة الدالة على الاشتراك في النار فلا بد من مخصص يخصص هذا من عموم أدلة الاشتراك
وأما قوله لا نوره فكان على المصنف أن يجعله كالشم لأنها أعراض منفصلة من النار كانفصال أعراض الرائحة من الطيب ولا فرق بينهما إلا كون هذا العرض النوري من الأعراض المدركة بحاسة البصر ورائحة الطيب من الأعراض المدركة بحاسة الشم والحق ما عرفناك من أن ذات النار فضلا عن لهبها فضلا عن مجرد نورها مشتركة بين العباد
قوله ويكره التراب
أقول وجهه أنه مما يضر بالبدن ويؤدي إلى التلف كما ذلك معلوم بالوجدان في كلم من حبب إليه أكل نوع من أنواع التراب وحفظ النفس واجب وقد قال الله عز و جل ولا تقتلوا أنفسكم وقد ثبت في السنة أن قاتل نفسه يخلد في النار (4/103)
ولا فرق بين سبب وسبب فهذا يدل على تحريم أكل التراب وأما إنكار مجرد الكراهة لعدم صحة الأدلة الواردة في النهي عن التراب فمن ضيق الطعن
قوله والطحال
أقول ليس على هذه الكراهة أثاره من علم بل القول بها دفع لما ثبت في حديث أحل لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والسمك والجراد وقد ادعى بعض أهل العلم الإجماع على عدم الكراهة ويقدح في دعوى هذا الإجماع حكاية الترمذي في سننه عن بعض أهل العلم أنه يقول بكراهته
قوله والضب
أقول الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيح قد دلت على أنه حلال كما في قوله صلى الله عليه و سلم كلوا فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي كما في صحيح مسلم وغيره وكما في الصحيحين وغيرهما عن خالد بن الوليد أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم أحرام الضب يا رسول الله قال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر فهذا يدل دلالة بينة أنه حلال وأنه لم يترك أكله صلى الله عليه و سلم إلا لكونه ليس مما يؤكل في أرض قومه فعافه ومثل هذا لا تثبت به الكراهة (4/104)
وقد ثبت عند مسلم وغيره من حديث عمر بن الخطاب أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرمه
وأما ما روى من حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني في غائط مضبة وإنه عامة طعام أهلي فلم يجبه فقلنا عاوده فعاوده فلم يجبه ثلاثا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الثالثة فقال يا أعرابي إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض ولا أدري لعل هذا منها فلست آكلها ولا أنهي عنها فينبغي أن يحمل على أنه صلى الله عليه و سلم قال هذا قبل أن يعلم أن الله سبحانه لم يجعل لممسوخ نسلا كما في صحيح مسلم وغيره فلا يصح أن يكون هذا التردد منه صلى الله عليه و سلم في كونه مما مسخ علة في الكراهة فقد تبين في قوله أنه لا نسل لممسوخ
وأما ما روي من النهي عن أكل الضب فقد ضعف الأئمة الحفاظ هذا الحديث فهو لا يصلح للحجة على فرض انفراده عن المعارض فكيف وقد عورض بما هو أوضح من شمس النهار وأما دعوى ابن حجر أن إسناده حسن فلا يصح ذلك ردا لما علله به (4/105)
الحفاظ من العلل القادحة ولو قدرنا أنه حسن لم ينتهض لمعارضة شيء من أدلة الحل قال النووي وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله انتهى
ولو قدرنا أنه ورد شيء على الكراهة كان حمله على أن ذلك قبل أن يتبين حال الضب أن ليس بممسوخ متعينا فليس في المقام ما يصلح للاحتجاج به على الكراهبة أصلا
قوله والقنفذ
أقول هو من حشرات الأرض وقد أخرج أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما قال البيهقي وإسناده غير قوي ولكنه أخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي عيسى ابن نميلة الفزاري عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية فقال شيخ عنده سمعت (4/106)
أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن كان قال رسول الله هذا فهو كما قال قال الخطابي ليس إسناده بذاك وقال البيهقي إسناده غير قوي ورواية شيخ مجهول وقال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده ضعيف فعلى هذا لا تقوم به الحجة في تحريم القنفذ ولا في كراهته وأما إسحاق بن نميلة فقد ذكره ابن حبان في الثقات
والحاصل أن القول بكراهته فقط غير صواب لأنه إن كان الدليل على ذلك حديث أبي عيسى بن نميلة فهو يدل على التحريم وإن كان الدليل على ذلك غيره فما هو والأصل الحل بدليل الكتاب العزيز كما قدمنا الإشارة إلى ذلك ومما يدل على هذه الأصالة ما أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث سلمان الفارسي قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم عنه وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك
وأخرج البزار وقال سنده صالح والحاكم صححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا وتلا وما كان ربك نسيا (4/107)
وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وفي الباب أحاديث شاهدة لثبوت أصالة الحل في كل شيء ما لم ينقل عنه ناقل تقوم به الحجة
قوله والأرانب
أقول استدلوا على الكراهة بما أخرجه وأحمد والنسائي بإسناد رجال ثقات من حديث أبي هريرة قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأرنب فلم يأكل وأمر أصحابه بأن يأكلوا ولا دليل في هذا على الكراهة لأن إمساك النبي صلى الله عليه و سلم يمكن أن يكون لسبب من الأسباب كعدم الإلف لأكلها أو عدم انبعاث الشهية إليها
ومثل هذا الحديث من الدلالة على الحل وعدم الكراهة ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث محمد بن صفوان (4/108)
أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره بأكلهما
وكذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها وأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بوركها وفخذها فقبله قال ابن حجر في الفتح والقول بحل الأرنب هو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو بن العاص من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء واحتجوا بحديث خزيمة بن جزء قال قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب قال لا آكله ولا أحرمه قلت ولم يا رسول الله قال نبئت أنها تدمى قال ابن حجر وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة
فصل
ويحرم كل مائع وقعت فيه نجاسته لا جامد إلا ما باشرته والمسكر وإن قل إلا لعطش متلف أو إكراه والتداوي بالنجس وتمكينه غير المكلف وبيعه والانتفاع به إلا في الاستهلاك واستعمال آنية الذهب والفضة والمذهبة والمفضضة ونحوها وآلة الحرير إلا للنساء ويجوز ما عدا ذلك والتجمل بها (4/109)
قوله فصل ويحرم كل مائع وقعت فيه نجاسة لا جامد إلا ما باشرته
أقول استدلوا على هذا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وفي لفظ من هذا الحديث لأبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه و سلم عن الفأرة تقع في السمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه وفيه التفرقة بين الجامد والمائع
وأخرج أحمد وأبو داود عن حديث أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال إن كان جامدا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعا فلا تقربوه فتعين حمل رواية ميمونة على السمن الجامد ودلت الرواية الأخرى منه وكذلك حديث أبي هريرة على أنه لا يحل قربانه إذا كان مائعا وهو معنى التحريم فما قاله المصنف هو مدلول ما ذكرناه من الحديثين ولم يعارض ذلك شيء تقوم به الحجة
قوله والمسكر إن قل
أقول قد ثبت تحريم الخمر بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين أولهم وآخرهم لم يخالف في ذلك أحد منهم وثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة (4/110)
الثابتة ثبوتا متواترا أنه قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام وثبت عنه صلى الله عليه و سلم في أحاديث أنه قال ما أسكر كثيره فقليله حرام فحصل على مجموع الأدلة أن كل مسكر من أي نوع خمر وتحريم الخمر ثابت بالضرورة الدينية وأن ما سكر كثيره فقليله حرام فلا يحل نوع من أنواع المسكر قليلا كان أو كثيرا وأما النبيذ فلا دخل له في الكلام على تحريم الخمر فإن الاتفاق كائن على أنه إذا أسكر كان حراما وأن الذي وقع فيه الخلاف منه هو ما ليس بمسكر والمسألة طويلة الذيول كثيرة النقول واسعة الأطراف رحبة الأكناف وقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فمن أحب الوقوف على حقيقة الحال فليرجع إليه
وأما قوله إلا لعطش متلف فللضرورة حكمها لا سيما إذا بلغت إلى حد خشية التلف وقد أباح الله للمضطر في كتابه العزيز ما حرمه على غيره واستثنى حالة الاضطرار للمضطرين فذلك حال مخالف لغيره من الأحوال وهكذا المكره فإنه سبحانه قد رفع عنه الخطاب كما قدمنا من الأدلة
قوله والتداوي بالنجس
أقول ما حرم الله سبحانه فهو حرام في جميع أحواله ومن ادعى أنه يحل في حالة خاصة وهي حالة التداوي احتاج إلى دليل بخصوص هذا العموم وإلا فعموم الأدلة يرد عليه قوله ويدفع دعواه وهكذا النجس يحرم التلوث به وملابسته في جميع الأحوال (4/111)
فمن ادعى أنه يجوز في حالة التداوي فعليه الدليل المخصص لهذا العموم وإلا كان قوله ردا عليه
وإذا تقرر لك هذا علمت أن المدعي بجواز التداوي بالحرام والنجس هو المطالب بالدليل لا المانع من ذلك فإن مجرد قيامه مقام المنع يغنيه حتى يزحزحه الدليل فلا يطالب لشيء في قواعد المناظرة لأنه قائم مقام المنع ومتمسك بالأدلة العامة الشاملة لمحل النزاع
ومع هذا فقد ورد الدليل الدال على المنع من التداوي بالحرام فأخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداوووا ولا تتداووا بحرام وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فهو إنما يضعف في روايته عن الحجازيين لا في روايته عن الشاميين وهو هنا روى هذا الحديث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي ثقة
ويؤيده ما أخرجه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الدواء الخبيث ومعلوم أن الحرام خبيث وأن النجس خبيث
وثبت عند مسلم وأحمد وأبي داود والترمذي وصححه من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه و سلم على الخير فنهاه عنها فقال إنما أصنعها للدواء فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء
ولا يعارض هذه الأدلة إذنه صلى الله عليه و سلم للعرنين أن يشربوا من أبوال الإبل للتداوي بها فإن الخلاف في كونها نجسة أو محرمة معروف مقرر في مواطنه (4/112)
وعلى تقدير أنها نجسة أو محرمة فينبغي بناء العام على الخاص فيكون حديث العرنين مخصصا لتلك الأدلة العامة ولما ذكرناه بعدها
قوله وتمكينه غير المكلف
أقول هذا نبأ و غريب وتكليف عجيب لا يرجع إلى عقل ولا نقل ولا رواية ولا دراية ولم نسمع من أيام النبوة إلى هذه الغاية أن منكرا أنكر على من ألقى إلى الكلاب الميتة التي نحرت من دوابه ولا روي عن فرد من أفراد المسلمين أنه تورع في ذلك فأي معروف في مثل هذا وأي منكر يكون من غير بني آدم حتى يجب علينا أن نحول بينه وبينه فإنه لا خلاف أن هذه التكاليف الشرعية إنما هي على بني آدم وليس من تكليفهم أن يمنعوا من لا تكليف عليه مما لم يكلف به نعم علينا إذا رأينا سبعا قد صال على إنسان وعلى ماله أن ندفع عنه ذلك الصائل بحسب الإمكان ولكن دفعه ليس إلا الاحترام مال الآدمي ودمه كإنقاذ الغريق فما لنا والتحريم تمكينه من الميتة ونحوها
وأما قوله وبيعه فوجهه الحديث الصحيح الذي تقدم في البيع إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وهكذا قوله والانتفاع به لأن الملابسة للنجس غير جائزة على كل حال فلا بد أن يحمل قوله إلا في الاستهلاك على عدم المباشرة والتلوث وإلا فذاك حرام على كل حال
فإن قلت قد أذن صلى الله عليه و سلم كما صح عنه في الانتفاغ بإهاب شاة ميمونة التي ماتت وقال لهم هلا انتفعتم بإهابها وقالوا يا رسول الله إنها (4/113)
ميتة قال أليس في القرظ ما يطهرها فقوله أليس في القرظ ما يطهرها يعني الذبح كما في حديث أيما إهاب دبغ فقد طهر يدل على أن الإهاب كان عند سلخه من الميتة نجسا وكذلك بعد سلخه ومعالجته بالدبغ هي من المباشرة للنجس لأنه لا يطهر حتى يصير مدبوغا فقد وقعت ها هنا المباشرة للنجس والملابسة له
قلت يكون هذا خاصا بمثل هذه المنفعة فلا يجوز قربان شيء من النجس إلا ما أذن به الشرع على أنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما حرم من الميتة أكلها هكذا بصيغة الحصر وقد تقدم الكلام على نجاسة الميتة في كتاب الطهارة
قوله واستعمال آنية الذهب والفضة إلخ
أقول الأصل الحل كما يفيده قوله عز و جل هو الذي خلق لكم ما في الأرض وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فلا ينقل عن هذا الأصل المدلول عليه بعموم الكتاب العزيز إلا ما خصه دليل ولم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والتحلي بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا الناقل وعدم القول بما لا دليل عليه بما هو خلاف الدليل ولم يرد غير هذا فتحريم الاستعمال على العموم قول بلا دليل وما كان ربك نسيا
وأما الآنية المذهبة والمفضضة فإن صدق عليها بذلك التذهيب والتفضيض أنها من آنية (4/114)
الذهب والفضة حرام الأكل والشرب فيها وإن لم يصدق عليها ذلك كما هو المعلوم لم تحرم وغاية ما هنا ألا يضع فمه على الموضع الذي فيه الذهب والفضة والعجب من مجاوزة محل التخصيص إلى أبعد مكان حتى قال المصنف ونحوها وفسره بالجواهر فليت شعري ما هذا التجري على التحريم على عباد الله سبحانه بما لم يأذن الله به وقد قرن ذلك بما قرنه في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش إلى قوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ومع هذا أمتن الله سبحانه على عباده بلبس الجواهر البحرية فقال وتستخرجون منه حلية تلبسونها ومن غيره فقال تلبسها نساؤكم فهو إنما عهد إلى القرآن الكريم فقيده بكلام من قلده وهذه غفلة عظيمة لا ينجو منها إلا من رزقه الله الفهم الصحيح والإنصاف الخالص
وهكذا لا وجه لقوله وآلة الحرير إلا للنساء فإنه لم يرد على تحريم آلة الحرير على الرجال قط وإنما ورد ما ورد في لبسه وسيأتي الكلام عليه في اللباس إن شاء الله
وأما قوله والتجمل فوجهه أن ذلك مما أحله الله ولم يحرمه كما لم يحرم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب والتحلي بالذهب فالكل حلال طلق أباحه الذي خلقه لعباده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (4/115)
فصل
وندب من الولائم التسع وحضورها حيث عمت ولم تعد اليومين ولا منكر وإجابة المسلم وتقديم الأول ثم الأقرب نسبا ثم بابا وفي الأكل سننه العشر والمأثورات في الشرب وترك المكروهات فيهما
قوله فصل وندب من الولائم التسع إلخ
أقول الوليمة في لسان أهل الشرع هي خاصة بالعرس لا تتناول غيره وقد وردت الأدلة بالترغيب فيها والأمر بها وكذلك وردت الأدلة بمشروعية الإجابة إليها وقد أوضحنا ذلك في شرح المنتقى ومن زعم أنه يقال لغير العرس وليمة فعليه الدليل ولا تلازم بين مشروعية الذبح وكونه يقال له وليمة وإلا لزم في أنواع الضيافات أن يقال لها ولائم لأنه قد ورد الترغيب في ذلك على العموم وهكذا يلزم من الضحايا والهدايا ولا وجه لذلك لا من شرع ولا من لغة (4/116)
وإذا عرفت هذا فالعقيقة مثلا قد وردت الأدلة بمشروعيتها كما تقدم ولا يقال لها وليمة ولا تندرج تحت الأحاديث المصرحة بالترغيب في الوليمة والترغيب في الإجابة إليها ما ذكره المصنف لا دليل عليه ولا يثبت في مشروعيته شيء يصلح للاحتجاج به أصلا
وأما أمره صلى الله عليه و سلم بأن يصنع لآل جعفر طعام فذلك سببه اشتغالهم بما دهمهم من المصيبة عن أن يصنعوا لأنفسهم أو لمن يرد عليهم طعاما وهذا مأتم لا وليمة وترح لا فرح ومصيبة لا مسرة فجعله من الولائم من أعجب ما يسمع السامعون
قول وحضورها حيث عمت
أقول لم يرد ما يدل على مشروعية الحضور إلا في العرس فقط فدعوى مندوبية الحضور إلى هذه التسع التي ذكرها كله هو من بناء الباطل على الباطل كما عرفناك ومعلوم أن مراد المصنف حضور من دعى إليها لا حضور من لم يدع فإن ذلك تطفل فترك التقييد بهذا للعلم به وأما اشتراط كونها تعم الغني والفقير فلم يرد ما يدل على تقييد ما صح عنه صلى الله عليه و سلم من قوله من دعي إلى الوليمة فليأتها بهذا الشرط ولا تلازم بين كون طعامها شر الطعام وبين ترك حضورها فإن هذه الشرية الكائنة في الطعام إنما جاءت من جهة صاحب الوليمة وكونه دعا إليها الأغنياء دون الفقراء وأما المدعو إليها فقد اتبع السنة بالإجابة
قوله ولم تعد اليومين
أقول التقييد بالأيام ورد في الضيافة لا في الوليمة وقد قدم المصنف رحمه الله (4/117)
الكلام على الضيافة وذكر هنا الولائم وذلك يفيد أن هذه الولائم غير الضيافة عنده فتقييد أحدهما بما ورد في الآخر غير صواب ثم على تقدير أنه يصدق على هذه الولائم عنده أنها ضيافة فكان عليه أن يقول ولم يتعد الثلاث لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن شريح الخزاعي مرفوعا بلفظ والضيافة ثلاثة أيام فما كان كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل أن يثوى عنده حتى يحرجه وأما ما ورد أن الوليمة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف ومن الثالث رياء وسمعة فهو مما لا تقوم به الحجة وإن كان له طرق لا سيما مع معارضته لهذا الحديث الثابت في الصحيح
ويمكن الجمع على تسليم انتهاض الحديث بأن اليوم الثالث وإن كان من أيام الضيافة لكنه ربما يصحبه الرياء والسمعة فيكون الاقتصار على اليومين أولى وربما لا يصحبه فيكون الثلاثة الأيام أولى لقوله صلى الله عليه و سلم والضيافة ثلاثة أيام
قوله ولا منكر
أقول وجهه أن الضيافة التي شرعها الشارع من وليمة أو غيرها ليس المراد بها إلا ما كانت واقعة على وجه الشرع خالية عن معاصي الله فإن كانت على غير الصفة الشرعية فليست الضيافة ولا الوليمة التي ندب الشارع إليها وتوعد من لم يجب إليها فإنه عصى (4/118)
الله ورسوله كما صح ذلك عنه صلى الله عليه و سلم
وإذا عرفت هذا فلا حاجة إلى الاستدلال على اشتراط عدم وجود المنكر في مشروعية الحضور والإجابة ولا سيما إذا كان التبرع بالاستدلال على ذلك لا يسمن ولايغني من جوع
قوله وإجابة المسلم
أقول قد اجتمع في إجابة دعوة العرس الأمر والوعيد وكل ذلك ثابت في الصحيح أما الأمر فقوله صلى الله عليه و سلم إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها وأما الوعيد فلوصفه صلى الله عليه و سلم من لم يجب فقد عصى الله ورسوله
وأما قوله والأول فبذلك وردت السنة وكذلك تقديم الأقرب جوارا هو الأقرب بابا وأما تقديم الأقرب نسبا فلم يرد ما دل عليه على الخصوص ودعوى تقديمه على الجار مخالفة لقوله صلى الله عليه و سلم إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما إليك بابا فإن أقربهما إليك بابا أقربهما جوارا وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق فإنه لا يعارض هذا الخاص الاستدلال بمثل قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه على تقدير عموم هذه الأولوية وتناولها لما نحن بصدده هي مخصصة بهذا الحديث وهو صالح للاحتجاج به وقد عرفت أن دلالة العموم ظنية لا سيما إذا كان شمولها للمتنازع فيه بعيدا جدا كما هنا
قوله وفي الأكل سننه العشر
أقول وقد ذكر المصنف في شرحه هذه العشر وأكثرها لا دليل عليه قط وقد (4/119)
ثبت في السنة المطهرة ما يغني عن اختراع السنن بمجرد الرأي وهي إذا تتبعت كانت أكثر من عشر وفي أدلة بعضها ما يدل على وجوب فعله وهكذا آداب الشرب وتعداد جميع ذلك ها هنا يحتاج إلى بسط وليس المراد لنا في هذه التعليقة على هذا الكتاب إلا بيان ما هو صواب من مسائله أو أخطأ وكذلك الإشارة إلى دفع ما اعترض به عليه إذا كان الاعتراض على خلاف الصواب كما قدمنا الإشارة إلى ذلك في الخطبة
وأعلم أن مكروهات الأكل والشرب هي ما كانت على خلاف ما علمنا الشارع من آدابهما وقد يكون بعض هذه المكروهات كراهة حظرية وذلك فيما نهى عنه الشارع كالأكل بالشمال
والحاصل أن آداب الأكل والشرب واجبها ومندوبها ومحظورها وها هو دونها في الكراهة مع إيضاح الكلام عن كل دليل في ذلك وبيان وجه دلالته وما يستفاد منها لا يفي به إلا مؤلف مستقل (4/120)
باب اللباس
فصل
يحرم على الذكر ويمنع الصغير من لبس الحلي وما فوق ثلاث أصابع من حرير خالص لا مشوب فالنصف فصاعدا ومن المشبع صفرة وحمرة إلا الإرهاب أو ضرورة أو فراش أو جبر سن أو أنف أو حلية سيف أو طوق درع أو نحوها ومن خضب غير الشيب
قوله باب اللباس
قوله فصل ويحرم على الذكر ويمنع الصغير من لبس الحلي
أقول أما حلية الذهب فلا شك لورود الأدلة الدالة على تحريمه قليلها وكثيرها وأما حلية الفضة فالمانع يحتاج إلى الدليل لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عز و جل قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض مع ما ثبت من أن سيفه صلى الله عليه و سلم كان فيه فضة ومع قوله صلى الله عليه و سلم عليكم بالفضة فالعبوا (4/121)
بها كيف شئتم
وأما الاستدلال بأن في ذلك تشبها بالنساء فهو مصادرة على المطلوب لأن القائل بالجواز يقول إن التحلي بالفضة لا يختص بالنساء بل الرجال والنساء فيه سواء وإن كان استعمال كل واحد من النوعين لنوع خاص من حلية الفضة فلا يشبه أحدهما في ذلك النوع الخاص به لا في مطلق التحلي فلا مانع من أن يحلى الرجل سلاحه ومنطقته بالفضة
قوله وما فوق ثلاث أصابع من حرير خالص
أقول قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه جوز أربع أصابع ومنه مما زاد عليها فكان الأولى أن يقول المصنف وما فوق أربع أصابع
وأما الكلام على لبس مطلق الحرير فالأدلة الدالة على المنع منه هي أوضح من شمس النهار كما في قوله صلى الله عليه و سلم لا ينبغي هذا للمتقين وقوله من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وقوله إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة ووردت أحاديث بصريح النهي ووردت أحاديث بصريح التحريم كما في حديث إن هذين حرام على ذكور أمتي وحديث حرم لباس (4/122)
الحرير والذهب على ذكور أمتي وقد أوضحت المقام في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره فليرجع إليه حتى يقف على الحقيقة قي خالصه ومشوبه وما يباح منه وما لا يباح وقد دارت بيني وبين شيخي السيد الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكباني رحمه الله في الحرير رسائل تكاثر عددها وتزايد مددها وكان ذلك أيام قراءتي عليه
قوله والمشبع صفرة وحمرة
أقول إنما ورد النهي عن الثوب المعصفر وهو المصبوغ المعصفر وصبغ العصفر يكون أحمر على نوع خاص من أنواع الحمرة فلا يعارض هذا ما ثبت من لبسه صلى الله عليه و سلم للحلة الحمراء لإمكان الجمع بأن تلك الحلة الحمراء كانت مصبوغة بغير العصفر ولم يرد في مطلق الصفرة أو الحمرة ما يقتضي التحريم ولا في نوع خاص من ذلك وهو المشبع فأعرف هذا وقد جمعت في هذا رسالة وجوب سؤال من بعض أهل العلم
قوله إلا الإرهاب (4/123)
أقول الإرهاب للعدو إنما يكون العدد والمدد والعدة والشدة والسلاح المعد للكفاح ولهذا يقول الله عز و جل وأعدوا لها ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وأي إرهاب يحصل في صدر العدو لمن تظاهر له في الحلى والحلل فإن هذا اللابس إنما تشبه بريات الحجال وخرج من عديد الرجال وهل يقول عاقل إن ملابس النساء تؤثر شيئا من المهابة في صدر أحد من بني آدم وما أحسن قول أبي العتاهية في ابن معن بن زائدة ... فما تصنع بالسيف إذا لم يك قتالا ... فكسر حلية السيف وصغ من ذاك خلخالا ...
فإنه ها هنا أمره أن ينزع الحلية المختصة بالرجال ويجعل مكانها الحلية المختصة بالنساء لمشابهته لهن ومهانته عند الناس
والحاصل أن الترهيب على العدو هو مقصد من مقاصد الشرع ولكنه لا يكون إلا بما عرفناك لا بما أراده المصنف فإن هذا لا يجري على شرع ولا عرف ولا رواية ولا دراية وإنما هو من صنيع النساء ومن يشابههن من المترفين
قوله أو ضرورة
أقول هذه الضرورة إن كانت هي الضرورة للتداوي فقد ثبت في السنة المطهرة ما يدل على أن التفويض أفضل فلا ضرورة أيضا فلو قدرنا أن شيئا من ذلك يصلح (4/124)
للتداوي به لكان من التداوي بالحرام وقد تقدم الكلام عليه وإن كانت هذه الضرورة هي الحاجة الضرورية للبس الثوب الحرير أو الذهب أو نحوهما لمزيد برد ومخافة ضرر فقد سوغ الله سبحانه في كتابه العزيز للضرورة أكل الميتة ونحوها فقال فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقال إلا ما اضطررتم إليه
قوله أو فراش
أقول هذا دفع للسنة الصحيحة المتفق عليها من نهيه صلى الله عليه و سلم من افتراش الحرير والجلوس عليه فهذه السنة هادمة لكل رأي مخالف لها مبطلة لكل علة تنصب في مقابلتها
وأما قوله أو جبر سن أو أنف فقد وقع الإذن منه صلى الله عليه و سلم باتخاذ أنف من ذهب أنفه في بعض الحروب وهو حديث حسن وجبر السن كجبر الأنف
قوله أو حلية سيف أو طوق درع أو نحوهما
أقول إن كانت هذه الحلية لمثل هذه الآلات السلاحية من الفضة فقد قدمنا أن الأدلة دلت على جواز التحلي بها حتى قال صلى الله عليه و سلم عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم وأما التحلي بالذهب فقد دلت الأدلة على المنع (4/125)
من قليله وكثيره فمن زعم أنه يجوز التحلي بشيء منه من سيف أو درع أو نحوهما فالدليل عليه فإن نهض به وإلا كان الواجب البقاء على التحريم لأن أدلته ناقلة من الأصل الأول وهو الجواز
قوله ومن خضب غير الشيب
أقول قد تقرر أن خضب اليدين والرجلين كان من صنيع النساء وكان من يتشبه بهن من الرجال يفعل ذلك كما هو معروف وقد ثبت النهي عن التشبه بالنساء والوعيد على ذلك ولم يرد في ذلك شيء أصلا وأما خضب الشيب فقد وردت به الأدلة الصحيحة وورد ما يدل على تأكيد مشروعيته كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث أبي ذر إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم والأحاديث في الباب كثيرة وقد كانت هذه السنة مشتهرة بين السلف حتى كانوا يذكرون في ترجمة الرجل في الغالب أنه كان يخضب أو لا يخضب ولا ينافي مشروعية الخضب حديث لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وصححه الترمذي وابن حبان فإن تعليل المنع بكونه نور المسلم على عدم جواز خضبه فإن نوره بعد خضبه زائد على نوره قبل خضبه (4/126)
فصل
ويحرم على المكلف نظر الأجنبية الحرة غير الطفلة والقاعدة إلا الأربعة ومن المحرم المغلظ والبطن والظهر ولمسها ولو بحائل إلا لضرورة وعليها غض البصر كذلك والتستر ممن لا يعف ومن صبي يشتهى أو لا يشتهى ولو مملوكها ويحرم النمص والوشر والوشم والوصل بشعر غير المحرم وتشبه النساء بالرجال والعكس
قوله فصل ويحرم على المكلف نظر الأجنبية
أقول حكى المصنف في البحر عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل أنهم يجوزون النظر إلى وجه الأجنبية وهذا النقل عنهم باطل فكتبهم على اختلافها مصرحة بخلاف ذلك فإن الرواة عنهم من أهل مذاهبهم في كتبهم المعتمدة منهم من صرح بأنهم لم يتكلموا إلا على العورة في الصلاة ولم يتكلموا على النظر ومنهم من صرح بأنهم قائلون بالمنع من النظر ومنهم من صرح بأن القائلين بالمنع المتأخرون من أتباعهم ولا يخفاك أن الأدلة الدالة على تحريم النظر إلى وجه الأجنبية ثابتة في الكتاب والسنة
فمن الكتاب قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم الآية وبعده وقل للمؤمنات (4/127)
يغضضن من أبصارهن الآية وكلام المتكلمين في تفسير هذه الآية من الصحابة فمن بعدهم معروف منقول في كتب الحديث والتفسير ومن ذلك في الكتاب العزيز ما ورد في الحجاب عموما وخصوصا ومن ذلك قوله عز و جل ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وقوله والقواعد من النساء الآية فإن تخصيصهن يدل على أن حكم من عداهن بخلاف حكمهن كما سيأتي ومنها قوله يدنين عليهن من جلابيبهن ومن ذلك قوله وليضربن خمرهن على جيوبهن فقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قالت عائشة رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن بخمرهم على جيوبهن شققن مروطهم فاختمرن بها أي وقعت منهن التغطية لوجوههم وما يتصل بها ومن ذلك قوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن
وفي هذه الآيات أعظم دلالة على وجوب التستر عليهن وتحريم النظر إليهن
وأما الأحاديث الواردة على تحريم النظر فهي كثيرة جدا ومنها التحذير من النظر والتنبيه على سوء عاقبته وعظيم مفسدته والتصريح بأن النظرة الأولى عفو والثانية على الناظر ونحو ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه والتحريم على النساء في نظرهن إلى الرجال كالتحريم على الرجال في النظر إليهن لأمرهم بغض الأبصار كما أمروا بغضها (4/128)
ولحديث أفعمياوان أنتما ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت بدليل صحيح لا بمجرد قول من لا تقوم به الحجة فما ثبت في تفسير الاستثناء بقوله عز و جل إلا ما ظهر منها كان في حكم المستثنى من عمومات الكتاب والسنة ولا يصح الاستدلال على الجواز بأن المرأة تكشف وجهها في إحرامها أو حال صلاتها فإن ذلك ليس فيه شيء من الدلالة لأن المرأة قد سوغ لها الشارع كشف وجهها عند ذلك ولم يجوز للرجال النظر إليها في هذه الحالة بل هم مأمورون بغض البصر في هذه الحال وغيرها كما أنه لا يجب على الرجال أن يستروا وجوههم عند مخالطتهم للنساء بل عليهن أن لا ينظرن إليهم لأنهن مأمورات بغض أبصارهم فاعرف هذا ففيه ما يغني عن الاستدلال بما لا دلالة فيه على الجواز أو عدمه وبما هو عن الدلالة على المطلوب في أبعد مكان
قوله غير الطفلة والقاعدة إلا الأربعة
أقول أما الطفلة فظاهر لخروجها عن الخطاب وعدم أن يتصور في مثلها الإيجاب وأما القاعدة فلقوله عز و جل والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهن وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز لهن أن يضعن ثيابهن عما عدا الوجه واليدين فرفع الجناح عنهن هو عن وضع الثياب التي على الوجه والكفين فكان ذلك دليلا على جواز النظر إليهم ودليلا أيضا على أن غير القواعد يحرم النظر إليهن فهذه الآية من جملة الآيات الدالة على تحريم النظر إلى الأجنبية كما تقدم (4/129)
وأما استثناء الأربعة فقد جاءت السنة بجواز النظر من الخاطب إلى المخطوبة وأما الثلاثة الآخرون وهم الطبيب والشاهد والحاكم فقد ادعى الإجماع على ذلك ولا أدري كيف هذا النقل فإن صح فذاك مع أن نظر الثلاثة المذكورين إليها عند مندوحه وذلك بأن يأمر الشاهد أو الحاكم أو الطبيب النساء أن ينظرن إلى الموضع الذي تدعو الحاجة إلى النظر إليه ثم يصنف لهم فإن في ذلك ما يغني عن النظر المحرم مع كونه وقوفا على مقدار الحاجة وإن كان دون النظر منهم أنفسهم
قوله ومن المحرم المغلظ والبطن والظهر
أقول أما المغلظ فظاهر وهو عند المصنف من السرة إلى تحت الركبة وهذه هي عورة الجنس مع جنسه والأدلة الدالة على تحريم النظر إلى العورة من الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وأما مع اختلاف الجنس فقد تقدم تحريم النظر مطلقا وأما استثناء البطن والظهر من المحرم وأنه لا يجوز نظر ذلك منها لمحرمها فليس لذلك وجه لا من رأي ولا من رواية ولم يعولوا إلا على دعوى الإجماع ولا أدري كيف هذه الدعوى فقد حصل التساهل البالغ في نقل الإجماعات وصار من لا بحث له عن مذاهب أهل العلم يظن أن ما اتفق عليه أهل مذهبه وأهل قطره هو إجماع وهذه مفسدة عظيمة فإن الجمهور قائلون بحجية الإجماع فيأتي هذا الناقل بمجرد الدعوى بما نعم به البلوى ذاهلا عن لزوم الخطر العظيم على عباد الله من النقل الذي لم يكن على طريق التثبت والورع وأما أهل المذاهب الأربعة فقد صاروا يعدون ما اتفق عليه بينهم مجمعا عليه ولا سيما المتأخر عصره منهم كالنووي ومن فعل كفعله وليس هذا هو الإجماع الذي تكلم العلماء في حجيته فإن خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا قبل ظهور هذه المذاهب ثم كان في عصر كل واحد من الأئمة الأربعة من أكابر أهل (4/130)
العلم الناهضين بالاجتهاد من لا يأتي عليه الحصر وهكذا جاء بعد عصرهم إلى هذه الغاية وهذا يعرفه كل عارف منصف ولكن الإنصاف عقبة كئود لا يجوزها إلا من فتح الله له أبواب الحق وسهل عليه الدخول منها
وأما قوله ولمسها ولو بحائل إلا لضرورة فهذا مسلم فيما ورد الدليل بأنه عورة لا فيما هو مجرد دعوى منها
وأما قوله وعليها غض البصبر كذلك فقد قدمنا الكلام عليه في أول الفصل وقد استدل الجواز نظر النساء إلى الرجال بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه و سلم أذن لعائشة أن تنظر إلى لعب الحبشة في المسجد ويجاب عنه بأنه لا تلازم بين النظر إلى وجوههم والنظر إلى لعبهم فإن اللعب هو الحركات الصادرة منهم من تقليب حرابهم بأيديهم وحركة أبدانهم والمصير إلى هذا متحتم لإيجاب غض البصر عليهن كما نطق به الكتاب العزيز وأيضا ثبت في الصحيح عن عائشة في هذه القصة أنها قالت وأنا جارية حديثة السن فاقدروا قدر الجارية حديثة السن
وأما قوله يجب التستر ممن لا يعف فظاهر لأن ذلك منكر وإنكاره واجب وأقل أحوال الإنكار التستر
وأما قوله ومن صبي يشتهي ولو مملوكها فوجهه أن العلة التي شرع الله لها التستر وحرم بسببها النظر هي مخافة الوقوع في المعصية ومن كان يشتهي أو يشتهى فوقوعه والوقوع معه في ذلك مجوز عقلا وعادة (4/131)
وأما قوله ولو مملوكها فظاهر قوله عز و جل أو ما ملكت أيمانهن يدل على خلاف ذلك ويؤيد هذا الظاهر ما في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تلقى قال إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك فقوله إنما هو أبوك وغلامك يدل على أنه يجوز لمملوك المرأة أن ينظر إليها
قوله والنمص والوشر والوشم والوصل بشعر غير المحرم
أقول هذه الخصال الأربع قد ثبت في الصحيحين وغيرهما لعن الفاعلة الواحدة منها وذلك يدل على أنها من الكبائر ولي الباب أحاديث صحيحة وفي بعض ألفاظها في صحيح مسلم وغيره زجر رسول الله صلى الله عليه و سلم المرأة أن تصل شعرها بشيء فلا وجه لقول المصنف بشعر غير المحرم فإن علة النهي ما في ذلك من التغرير على الزوج وهو يستوي شعر المحرم وغيره بل شعر بني آدم وغيرهم ومثل هذا ما في بعض ألفاظ الحديث أيما امرأة زادت في شعرها شعرا ليس منه فإنه زور
قوله وتشبه النساء بالرجال والعكس (4/132)
أقول قد ثبت في الصحيح لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء واللعن يدل على تأكد التحريم والمراد بالمخنثين المتشبهين بالنساء من الرجال والمراد بالمترجلات المتشبهات بالرجال من النساء فمن تشبه من أي من النوعين بالنوع الآخر إما في كلامه أو في حركاته في ملبوسه فهو داخل تحت هذه اللعنة لأنه لم يخص صلى الله عليه و سلم نوعا من أنواع الشبه دون نوع
فصل
ويجب ستر المغلظ من غير من له الوطء إلا للضرورة وهي الركبة إلى تحت السرة وتجوز القبلة والعناق بين الجنسي ومقارنة الشهوة تحرم ما حل من ذلك غالبا
قوله فصل ويجب ستر المغلظ إلخ
أقول وجه ذلك ما ورد من الأدلة الدالة على تحريم كشف العورة ووجوب سترها كما في الحديث الصحيح بلفظ يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل قال فالرجل يكون خاليا قال الله أحق أن يستحيا منه من الناس (4/133)
وأما الكلام في تقديرها من الرجل والمرأة فقد تقدم مستوفى في كتاب الصلاة
قوله ويجوز القبلة والعناق بين الجنس
أقول الأصل جواز هذا كما يجوز للجنس لمس غير العورة من جنسه والعناق والتقبيل هو من جملة اللمس لغير العورة فمن زعم أن هذا اللمس الخاص غير جائز فعليه الدليل ولا يحتاج القائل بالجواز إلى الاستدلال بل يكفيه التمسك بالبراءة الأصلية والقيام في مقام المنع فإن تبرع بالاستدلال فقد خالف قواعد المناظرة وكلف نفسه ما لا يعنيها وأما إذا كان شيء من ذلك سببا لمقارنة الشهوة فهو حرام من هذه الحيثية لا من حيثية كونه تقبيلا أو معانقة بل لو قدرنا أن مجرد اللمس أو المكالمة أو النظر يؤدي إلى شيء من ذلك لكان محرما كائنا ما كان فلا وجه لتخصيص هذا المقام بالكلام على التقبيل والعناق
فإن قلت إنما خصهما بالذكر لكون مظنة مقارنة الشهوة لا توجد في الغالب إلا فيهما
قلت بل وجودها في الرشف والضم والغمز لبعض مواضع الزينة أكثر من وجودها فيهما فلا وجه للتخصيص
فصل
ولا يدخل على المحرم إلا بإذن وندب للزوج والسيد ويمنع الصغير عن مجتمع الزوجين فجرا وظهرا وعشاءا
قوله فصل ولا يدخل على المحرم إلا بإذن (4/134)
أقول كان ينبغي للمصنف أن يعنون الفصل هذا بوجوب مطلق الاستئذان الذي شرعه الله عز و جل في كتابه لعباده واستثني منه ما استثني فهو حكم من أحكام الدين وشريعة من شرائع الإسلام وقد تناساه الناس حتى كأنه لم يكن في كتاب الله كما وقع ذلك في كثير مما شرعه الله لعباده وأما الدخول على المحارم فهو نوع من الأنواع التي أوجب الله فيها الاستئذان ولا وجه لتخصيصه بالذكر وأما الاستئذان الزوج على زوجته والسيد على أمته فليس لذلك وجه و لا جاء به شرع وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يطرق أهله طروقا فسبب ذلك ما في آخر الحديث من تعليله بقوله صلى الله عليه و سلم لتمتشط المغيبة وتستحد الشعثة وليست العلة في ذلك هي مشروعية الاستئذان كما لا يخفى
وأما قوله ويمنع الصغير إلخ فوجه قول الله عز و جل ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات إلى آخر الآية (4/135)
- كتاب الدعاوى 138 (4/137)
على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين
قوله على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين
أقول كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين هو أمر معلوم ثابت في السنة ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فمن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس قال كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال شاهداك أو يمينه ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره في قصة الحضرمي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ألك بينة قال لا قال فلك يمينه ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى باليمين على المدعى عليه وفي لفظ المسلم وغيره ولكن اليمين على المدعى عليه وفي الباب أحاديث
وهذه الجملة أعنى كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين معلومة في هذه الشريعة وعليها تدور رحى الخصومات فالاشتغال بما وقع لبعض أهل الحديث من الكلام على بعض الطرق اشتغال بما عنه سعة وفي غيره مندوحة ولا يعرف خلاف في كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين إلا ما يروى عن مالك أنها لا تتوجه اليمين إلا على (4/139)
من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا وهذا قول باطل ورأي عن الدليل عاطل
فصل
والمدعي من معه أخفى الأمرين وقيل من يخلى سكوته كمدعي تأجيل دين أو فساد عقد والمدعى عليه عكسه والمدعى فيه هو الحق وقد يكون له محضا ومشوبا لآدمي إما إسقاط إو إثبات إما لعين قائمة أو في الذمة حقيقة كالدين أو حكما كما يثبت فيها بشرط
وشروطها ثبوت يد المدعي عليه على الحق حقيقة أو حكما ولا يكفي إقراره إلا بجريها عليه بعارية أو نحوها وتعيين أعواض العقود بمثل ما عينها للعقد وكذا الغصب والهبة ونحوهما (4/140)
ويكفي في النقد المتفق ونحوه إطلاق الاسم ويزيد في باقي القيمي الوصف وفي تالفه التقويم وفي الملتبس مجموعهما ولو بالشرط
ويحضر للبينة إن أمكن إلا للتحليف وما قبل كلية الجهالة كالنذر أو نوعها كالمهر كفى دعواه كذلك وشمول الدعوى للمبين عليه وكون بينته غير مركبة فيبين مدعي الشراء ونحوه أنه لنفسه ومن مالكه بينة واحدة
قوله فصل والمدعي من معه أخفى الأمرين وقيل من يخلى وسكوته
أقول المدعى من تخالف دعواه الظاهر وهو معنى قول المصنف من معه أخفى الأمرين وهذا التعريف هو الأشهر عند الفقهاء وبه قال أكثرهم وقال الأقلون إن المدعي هو من إذا سكت ترك وسكوته قال ابن حجر في الفتح والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الرد أو التلف فإن (4/141)
دعواه تخالف الظاهر مع أن القول قوله والمدعى عليه عكسه فهو ظاهر وكذلك ما ذكره بعده
قوله وشروطها ثبوت يد المدعي عليه على الحق
أقول هذا الاشتراط يستلزم أن يتقدم على الخصومة خصومة وعى هذه الدعوى دعوى أخرى فإذا ادعى مدع آخر عينا احتاج قبل هذه الدعوى إلى تقرير بثبوت يده عليها حقيقة أو حكما فإذا تقرر ذلك ادعى استحقاقها ولا بد من هذا ولا سيما على قول المصنف ولا يكفي إقراره فإن كانت هذه الدعوى الأولى مقبولة من غير شرط وهي أن يدعي عليه ثبوت يدع على الحق قبل أن يدعي استحقاقه لم يتم قول المصنف وشروطها ثبوت يد المدعي عليه الخ لأنه قد وجدت دعوى مقبولة من غير هذا الاشتراط وإن كانت هذه الدعوى غير مقبولة احتاجت دعوى ثبوت اليد إلى دعوى قبلها وتسلسل الأمر والتسلسل باطل فهذا الاشتراط باطل
فالذي ينبغي التعويل عليه قبول مطلق الدعوى من غير اشتراط فإن أجاب المدعي عليه بأن العين لم تكن في يده لا حقيقة ولا حكما كانت الدعوى صحيحة والإجابة صحيحة ويرجع إلى التحالف والنكول وإن أجاب بالإنكار للاستحقاق كان الرجوع بينهما إلى التحالف والنكول
قوله وتعيين أعواض العقود إلخ
أقول مراده أن الدعوى إذا تعلقت بشيء فلا بد من ذكر حد أو وصف أو لقب يتعين به ذلك الذي وقعت فيه الدعوى كما يشترط التعيين بمثل ذلك في العقود من بيع أو نحوه وهذا اشتراط صحيح لأن الدعوى إذا تعلقت بمجهول لم يكن لها فائدة يعتد بها ولا يترتب عليها ما يترتب على الدعوى المشتملة على التعيين من حكم الحاكم بعد قيام البينة أو اليمين لأن المجهول لا يمكن البينة فضلا عن أن يحكم به الحاكم فإن كان مراد المصنف بكلامه هذا هو ما ذكرناه فكلامه صحيح والاشتراط واقع في (4/142)
موقعه وإن كان يريد بتعيين أعواض العقود ما هو ظاهر عبارته فلا معنى له
قوله ويكفي في النقد المتفق ونحوه إطلاق الإسم
أقول هذا صحيح لأنه إذا كان متفقا انصرف الكلام إليه ولم يسبق الفهم إلى غيره وهكذا حكم ما كان غالبا فإنه ينصرف الذهن إليه وإن وجد معه غيره ولا يكفي مجرد هذا الإطلاق بل لا بد من ذكر القدر فيقول في التقدير كذا درهم أو دنانير وفي المثليات المتفقة كذا وزنا أو كذا كيلا أو كذا عددا ولا محيض من هذا وإن أهمله المصنف فإنه لو لم يذكر القدر لكانت الدعوى مجهولة لا يترتب عليها فائدة
وأما قوله ويزيد في باقي القيمي الوصف يعني مع إطلاق الاسم فوجهه أنه لا يتعين إلا بذلك وهكذا قوله وفي تالفه التقويم لأنه لا يأتي الوصف له بعد تلفه بفائدة فيجب تعيين قيمته ويمكن أن يقال إن الوصف الذي يتعين به يغني عن ذكر القيمة ويرجع في ذلك إلى تقويم العدول لذلك التالف الموصوف لأن الصفات المعينة يستفاد منها قدر قيمة الشيء
قوله ويحضر للبينة إن أمكن لا للتحليف
أقول وجهه أن الشهادة مضمونها إثبات كون هذه العين ملكا لفلان فاحتيج إلى إحضارها لأن الأوصاف لا تميز كما تميز المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة ولا سيما مع تشابه بعض الأعيان حتى لا يحصل من الأوصاف ما يميز أحدها عن الآخر كما في الحيوانات المتشابهة وقطع الأرض المتماثلة والأبنية المتقاربة وبهذا تعرف أن الأوصاف أفادت في بعض الأحوال كمعرفة قدر قيمة الشيء لا تفيد في كل الأحوال وأما اليمين فهي على رفع دعوى المدعي للعين التي قد ادعاها وعينها بما تتعين به وذلك يكفي
قوله وما قبل كلية الجهالة كالنذر إلخ (4/143)
أقول لا وجه لهذا وكون هذه الأشياء تقبل كلية الجهالة أو نوعها مجرد دعوى بل هذه الأمور تحتاج إلى ما يحتاج إليه غيرها مما يقع فيه التداعي فلا بد من تعيينه قدرا ووصفا وأما إذا تعذر التعيين من كل وجه فينبغي أن تتوقف الدعوى حتى يتبين للمدعي ما يصلح للتعيين إما بالكنه أو بالوجه
قوله وشمول الدعوى للمبين عليه
أقول الاقتصار في الدعوى على البعض لا يوجب إهمال ما شهد به الشهود من الزيادة فإن هذه الزيادة قد تثبت بالمستند الشرعي الذي جعله الله سببا لحكم الشرع كما في الكتاب والسنة فمن ادعى أن هذا السبب الشرعي للحكم لا يكون سببا إلا إذا طابق الدعوى فقد ادعى تقييد الكتاب والسنة بما ليس عليه أثارة من علم بل ليس عليه وجه من وجوه الرأي المستقيم عند من يعمل به فإذا أقام شاهدين شهدا له بألف على فلان وهو لم يدع من قبل شيئا أو أدعى بعض هذا المقدار فقد وجب الحكم له بالألف بحكم كتاب الله وسنة رسوله وإذا ادعى من شهدوا عليه بألف أنه قد سلم بعضه أو كله وبرهن على ذلك فله حكمه ولا يقدح في شهادة الشهود بالألف ولا بناقضها لاختلاف وقتي اللزوم والسقوط وهذا أمر معقول ظاهر واضح وهو الشريعة التي شرعها الله لعباده فدع عنك هذيان الرأي
قوله وكون بينته غير مركبة
أقول هذا الاشتراط لا يرجع إلى نقل ولا عقل ولا رواية ولا دراية ويا لله العجب ما المانع من قبول شهادة العدول على أطراف مما تعلقت به الخصومة مع كمال نصاب كل شهادة على كل طرف وما الموجب لاشتراط أن تكون الشهادة على مجموع تلك الأطراف شهادة واحدة وما المقتضى لهذا الإيجاب وما هو المانع من خلافه فإن لشهادة الشهود المختلفين على كل طرف من الأطراف مع كمال نصاب كل شهادة على كل طرف (4/144)
موقعا في النفس فوق موقع الشهادة الواحدة على مجموع الأطراف وهذا معلوم بالوجدان فما الوجه لإهمال ما هو أقوى وأدخل في تحصيل السبب الشرعي وليس هذا الأمر عكس قالب العمل بأحكام الله عز و جل وترجيح مرجوحها على راجحها
فصل
ومن ثبت عليه دين أو عين فادعى فيه حقا أو إسقاطا كأجل وإبراء وكونه لغير المدعي ذاكرا سبب يده لم تقبل إلا ببينة مطلقا إلا في كون الغصب والوديعة زيوفا ونحوه
قوله فصل ومن ثبت عليه دين أو عين الخ
أقول وجه هذا أن دليل الاستصحاب يقتضي بقاء هذا الثبوت وعدم ارتفاعه فلا يرفعه مجرد الدعوى لأن ذلك لا يصلح للنقل اتفاقا فلا بد من ناقل يقتضي ارتفاع ذلك الاستصحاب وهو البينة المتضمنة لكون ذلك الثبوت قد ارتفع كلا أو بعضا هذا إذا كان يدعي دعوى مقبولة وهي أن يدعي أن له في ذلك قد ثبت حقا أو قد سقط عليه بعضه وأما إذا ادعى أن ذلك الحق لغيره وإن كان له في هذه الدعوى فائدة يرجع إليه بأن يقول هذا قد ثبت فيه حق لفلان أو استأجرته منه أو استعرته أو نحو ذلك فهذه العلاقة مسوغة لهذه الدعوى من هذه الحيثية فإن نهض من ادعى له الحق فيه بالبرهان فذاك وإلا كانت الدعوى باطلة وما ترتب عليها من اليد كذلك
وأما قوله إلا في كون الغصب والوديعة زيوفا فوجهه ما تقدم من أن القول قول الغاصب والوديع في تعيين العين المغصوبة والمودعة ولكنه ينبغي تقييد هذا بأن تكون هذه (4/145)
الدعوى مخالفة لما هو ظاهر في المعاملات فإن كانت مخالفة لذلك لم تقبل والظاهر مقدم على الأصل
فصل
ولا تسمع دعوى تقدم ما يكذبها محضا وعلى ملك كان ولغير مدع في حق آدمي محضا والإقرار بفساد نكاح مع نفي غيره ويكفي مدعي الإرث دعوى موت مورثه مالكا
قوله فصل ولا تسمع دعوى تقدم ما يكذبها محضا
أقول وجه هذه الدعوى التي قد علم كذبها بما تقدمها لا يحل قبولها ولا سماعها لأن ذلك إتعاب المدعى عليه بما قد اعترف المدعي بكذبه إذا كان ذلك الذي تقدم في إكذابها لا يمكن الجمع بينه وبين الدعوى اللاحقة له بوجه صحيح
فالحاصل أن مستند إبطال هذه الدعوى هو إقرار المدعي بأنها باطلة والإقرار سبب قوي من أسباب الحكم بل هو أقوى الأسباب التي ورد بها الشرع فإذا كلفنا من وقعت عليه الدعوى بإجابتها وأدخلناه في الخصومة كان ذلك ظلما بينا وخروجا عن العدل ومخالفة وهذا ظاهر لا يخفى (4/146)
قوله وعلى ملك كان
أقول لا وجه للمنع من قبول هذه الدعوى لجواز أن تكون اليد الثابتة على ذلك الشيء يد عدوان ولا يرتفع هذا التجويز إلا بظهور الناقل عن تلك اليد القديمة إلى هذه اليد الثابتة في الحال نعم إذا أنكر ثابت اليد أن ذلك الشيء كان ملكا لمن ادعى المدعي أنه كان مالكا له لم يكن عليه إلا اليمين على نفي العلم بذلك أما إذا حصل الاتفاق أنه كان في ملك من ادعى له المدعي فلا يجوز إهمال هذه الدعوى أصلا لأن ذلك خلاف ما أمر الله سبحانه به من الحكم بالعدل والحق فلا بد من ظهور وجه النقل عن ذلك الملك الذي كان وإلا كان وقع هذه الدعوى باديء بدء من الظلم البين للمدعى
قوله ولغير مدع في حق آدمي محض
أقول قد أمر الله سبحانه بالتعاون على البر والتقوى وأوجب على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن من كان عليه حق لآدمي فعاون من له الحق بعض من له اطلاع على الحقيقة ولا سيما إذا كان من له الحق لا يطيق الدخول في الخصومات أو كان مؤثرا للسلامة على ذلك فمعلوم أن الأخذ على يد من عليه الحق حتى يرد ما عليه هو من جملة ما شرعه الله لعباده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن جملة ما حثهم عليه بقوله وتعاونوا على البر والتقوى ولاشك أن إصدار الدعوى على من عليه الحق هي أقل رتب التناكر والتعاون وإذا كان هذا من هذا القبيل فما الوجه المخصص له والموجب لبطلان قبوله وسد الأذن عن سماعه ودعوى أنه لا يقبل في حق آدمي محض وما هو المخرج لهذا النوع وهو حقوق بني آدم المحضة عن عموم ما شرعه الله لعباده فإنه من جملة ما يندرج تحت العموم بل من أهم ما يتناوله نعم إذا كان من له الحق راغبا عنه لم يقعده عن طلبه سبب من الأسباب الحاملة على الترك فليس لغيره أن يكون أحرص منه على ما هو له
قوله والإقرار بفساد نكاح إلا مع نفي غيره (4/147)
أقول التنصيص على هذه الصورة هو جمود لا أصل له ولا سبب يقتضيه ولو جاء بما يدل على عدم قبول دعوى شيء مع وجود احتمال ما يخالف تلك الدعوى لكان أقوم بمقصوده وأتم لمراده ومع هذا فليس من شرط الدعوى أن يقطع المدعي كل شيء يحتمل خلافها وليس على هذا دليل من عقل ولا نقل والأصل عدم وجود ذلك المخالف فإن تقرر وجوده كان له حكمه في معارضة الدعوى
قوله ويكفي مدعي الإرث دعوى موت مورثه مالكا
أقول هذه الدعوى هي في قوة أن هذا الشيء قد صار في يد الغير كان ملكا لمورث المدعي فلا وجه للفرق بين هذه المسألة وبين مسألة وعلى ملك كان لأن استصحاب الكون لا يقصر عن استصحاب اليد التي كانت لمورث المدعي وقد قدمنا أنه لا وجه لمنع الدعوى على ملك كان وها هنا كذلك وإنما أردنا التنبيه على أن مآل المسألتين واحد فلا وجه للمنع من إحداهما وقبول الأخرى
فصل
ولا تجب إجابة الدعوى فينصب عن الممتنع غائبا وإلا حكم عليه ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة إلا لمصلحة فيكفل عشرا في المال وشهرا في النكاح ولا يصادق مدعي الوصاية والإرسال للعين وإلا ضمنا والقرار على الأخذ إلا مصدقا لا لكونه الوارث وحده أو مرسلا للدين فيجبر الممتنع مصدقا (4/148)
ولا يثبت حق بيد
قوله فصل ولا تجب إجابة الدعوى الخ
أقول مراد المصنف أنه لا يجب على الحاكم أن يتوقف عن الحكم حتى تقع الإجابة من المدعى عليه إذ قد أمكن حصول السبب الشرعي للحكم بل يسمعه ويجب عليه العمل به وإيصال المدعي بما قضى له به الشرع وأوجبه له الحق لعدم انحصار أسباب الحكم في إقرار المدعى عليه على تقدير أنه قد يقر بما عليه ولا أرى لإيجاب هذا النصب الذي يذكرونه وجها بل الحكام أمناء الله في أرضه فإن ظهر لهم المستند الشرعي وجب عليهم الجزم بحكم الله وإيصال المدعي بما يستحقه فإن جوز الحاكم أن عند المدعي المتمرد عن الإجابة أو الغائب عن وقوف الحاكم ما يدفع ما جاء به المدعي استثبت فإن أمكن وقوفه على الحقيقة فذاك وإن لم يمكن فقد لزمه العمل بالسبب الذي يصلح للحكم ويجعل العين المحكوم بها في يد المدعي موقنة حتى يتبين ما عند المدعي عليه وسيأتي للمصنف في باب القضاء أن الحاكم يحكم على غائب مسافة قصر أو مجهول أو لا يبالي أو متغلب بعد الإعذار
قوله ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة الخ
أقول ليس هذا من العدل الذي قامت به السماوات والأرض ووجه ذلك أن الحاكم لا يعرف كون الدعوى حقا أو باطلا إلا بالبينة أو الإقرار أو اليمين فعليه أن يوقف من عليه الدعوى لسماع بينة خصمه حتى يحكم له أو عليه ولكن إذا كانت المدة التي سيحضر فيها البينة لا يتضرر بمثلها المدعى عليه أما لو كانت كذلك لم يجز له التوقيف وإذا حصلت البينة بعد تلك المدة أعذر إلى المدعى عليه فإن وصل لسماعها فذاك وإلا سمعها الحاكم وعمل بها على ما قدمنا (4/149)
وأما قوله إلا لمصلحة فلا يخفى أن المصلحة كل المصلحة هي الجزم بحكم الله وإيصال المظلوم بظلامته والأخذ على يد الظالم حتى يخرج مما عليه فإذا كان بيد المدعي ما يكون سببا للحكم له وإنصافه بما يقوله كان التوقيت مصلحة على كل حال إلا أن يتضرر به كما قدمنا قريبا
وأما قوله فيكفل عشرا في المال وشهرا في النكاح فتحديد ساقط وتقدير باطل لا يرجع إلى رواية ولا دراية وما هذا بأول هذيان والله المستعان وكان الأولى ربط ذلك بنظر الحاكم لأن الأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والخصومات ومقادير ما تجري فيه
قوله ولا يصادق مدعي الوصاية والإرسال للعين
أقول لا وجه لتخصيص العين بل لا يصادق مطلقا إلا لبرهان تقوم به الحجة لأن أملاك بني آدم لا يجوز فيها تحكيم ظنونهم على بعضهم بعضا فإن صادقه بلا برهان فقد جنى على نفسه وعرضها للضمان إذا انكشف عدم مطابقة ذلك التصديق للواقع ويرجع على من هي في يده أو من تلفت عنده سواء كان مدعي الوصاية أو الإرسال أو غيرهما ولا فرق بين دعوى الوصاية والرسالة وبين دعوى كونه الوارث وحده فالكل نمط واحد وجهة متحدة والتفريق بينهما خيال مختل وتعليل معتل كالتفريق بين العين والدين وسبحان الله ما يفعل الجمود على الرأي المبني على السراب من بناء مسائل الدين على شفى جرف هار نعم إذا حصل التصديق ممن ذلك في يده فقد شهد على نفسه بصدق الدعوى في وصاية ورسالة وميراث وجعل على نفسه حقا وإليها طريقا وأخذ بتصديقه في البداية ويعمل على ما قدمنا في النهاية
قوله ولا يثبت حق بيد
أقول أقل أحوال ثبوت اليد على الحق أن يكون مفيدا لكون الظاهر مع ثابت اليد ثم يستصحب الحال ولا ينتقل عنها إلا بناقل أرجح منه كما أن ثبوت اليد علي العين (4/150)
توجب استصحاب الحال ولا ينتقل عنه إلا بناقل أرجح منه ولا يعارض هذا أن الأصل في منافع الأعيان أن تكون تابعة للعين فإن هذا الأصل قد عورض بما هو أرجح منه وهو ما أفاده ثبوت اليد من كون الظاهر من ثبوت اليد على الحق هو استحقاق الثابت له ويؤيد هذا ما يوجد في الخارج كثيرا من الأعيان التي تتعلق بها حقوق لغير مالكها
والحاصل أن مجرد نفس الأصالة أو الظهور إنما يستفاد بهما كون القول قول المتمسك بهما والبينة على خصمه لما تقدم من أن المدعي هو من معه أخفى الأمرين فإذا عجز عن إيراد الناقل فمن نفسه أتي
فصل
ومتى كان المدعى في يد أحدهما أو مقر له ولما يحكم له بالملك المطلق فللمدعي إن بين أو حلف ردا أو نكل خصمه وإلا فلذي اليد فإن بينا فللخارج إلا لمانع فإن كان كل خارجا اعتبر الترجيح من تحقيق ونقل وغيرهما فإن لا قسم
ومتى كان في أيديهما أو مقر لهما أو لواحد منهما غير معين فلمن بين أو حلف أو نكل صاحبه دونه فإن فعلا قسم ما فيه التنازع بين متنازعيه على الرؤوس
قوله فصل ومتى كان المدعى في يد أحدهما
أقول وجهه أن الحكم المطلق مستنده الاستصحاب الناشيء عن ثبوت اليد لمن هو في يده أو في يد من مقر له وقد ارتفع هذا الاستصحاب بالبينة التي أقامها المدعي (4/151)
أو يمين الرد منه أو نكول من هو في يده عن اليمين ومعلوم أن اليمين رافعة للاستصحاب لكونها أرجع منه بلا خلاف وهكذا يمين المدعي ردا لأن من هو في يده قد رضي لنفسه بتلك اليمين وهكذا نكول من هو في يده عن اليمين لأنه بمنزلة الإقرار كما سيأتي وإذا لم يحصل أحد هذه الأمور فهو باق على ملك المحكوم له بالملك المطلق بالاستصحاب الذي يستفاد منه الظاهر ويوجب كون القول قوله
قوله فإن بينا فللخارج
أقول عللوا هذا بإن البينة الخارجة تستند إلى شيء أقوى مما تفيده بيته الداخل فإنها تستند إلى مجرد ثبوت اليد وهو لا يفيد إلا الاستصحاب ولا يخفاك أن هذا لا يتم إلا على تقدير إن الشهادة الخارجة مستندة إلي شيء هو أقوى مما يفيده بينة الداخل وحينئذ فليس المرجح لها مجرد كونها خارجة بل المرجح لها قوي مستندها فإنها لو شهدت بمستند مثل مستند بينه الداخل أو كانت بينة الداخل بمستند مساوي لبينة الخارج غير مجرد الثبوت لم يكن لهذا الترجيح وجه
وبهذا تعرف أنه لا وجه لجزم المصنف بترجيح بينة الخارج على الإطلاق وقد قلل مفسدة هذا الإطلاق قوله لا لمانع إذا حمل على مثل ما ذكرناه على ما هو مراده
وأقوى من هذه التعليل الذي عللوا به ما قيل إن الخارج هو المدعي والبينة على المدعي لا على المنكر كما ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة
ويجاب عنه بأنه قد ثبت بالأدلة المعمول بها أنها وقعت خصومة لدى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقام كل واحد من الخصمين البينة فقسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما فكون البينة على المدعي يدل على أنها عليه أصالة فإذا جاء خصمه ببينة كانت مقبولة وعلى الحاكم الرجوع إلى الترجيح فإن تساوت قسمة بينهما كما قسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم (4/152)
قوله فإن كان كل خارجا اعتبر الترجيح
أقول هذا صحيح لعدم وجود مزية لأحد الخصمين على الآخر بالنسبة إلى اليد المفيدة للظاهر ووجوه الترجيح كثيرة يعرفها من يعرف الموازنة بين الأدلة والمعادلة بين وجوه الترجيح وهو القاضي المجتهد وأما المقلد المسكين فهو عن درك راجح الأمور ومرجوحها في أبعد مسافة فإنه لا يفهم نفس الحجة فكيف يفهم أن هذه الحجة أرجح من هذه وهذا السبب للحكم أقوى من هذا السبب
وما قوله وإلا قسم فصحيح قد دل عليه ما وقع منه صلى الله عليه و سلم من قسمه ما تنوزع فيه بين متنازعية عند تعارض البيتين
وأما قوله ومتى كان المدعي في أيديهما إلخ فوجهه واضح لأستوائهما بالنسبة إلى اليد فمن بين كان له وإذا لم يكن ثم بينه كان لمن حلف دون خصمه أو نكل خصمه عن اليمين فإن بينا أو حلفا أو نكلا قسم بينهما للدليل المتقدم
فصل
والقول لمنكر النسب وتلف المضمون وغيبته وأعواض المنافع والعتق والطلاق لا الإعيان إلا بعد التصادق على عقد يصح لغير عوض ويمينه على القطع (4/153)
ويحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به حيث لا بينة والعكس في البينتين ثم بينهما ولمن في بيت غيره بما هو حامله مما مثله يحمله
قوله
فصل
والقول لمنكر النسب
أقوال وجه ذلك أن الأصل عدم ثبوت النسب وعدم التلف وعدم الغيبة وعدم العوض في المنفعة وكذلك العوض في العتق والطلاق وأما الأعيان فلما كان الغالب فيها أنه لا يسمح بها من هو مالك لها إلا بعوض كان العمل على هذا الغالب هو المتوجه لأنه يثبت به الظاهر ومن كان معه الظاهر فالقول قوله وأما بعد التصادق على عقد يصح بغير عوض مال فوجهه أن هذا التصادق قد ارتفع به ما هو الظاهر فوجب الرجوع إلى الأصل وهو عدم العوض وأما كون يمين المنكر في هذه الأمور على القطع فلا وجه لذكره ها هنا لأنه سياتي بيان ما يكون فيه اليمين على القطع وما يكون فيه على العلم
قوله ويحكم لكل ما ثابتي اليد الحكمية إلخ
أقول الحكم بالقرائن القوية قد حكى ابن القيم أنه مجمع عليه واستشهد لذلك بقضايا منها إقامة الحد بمجرد الحبل وبمجرد وجود الرائحة في الخمر وبما وقع منه صلى الله عليه و سلم من الأمر للزبير بتعذيب أحد بني الحقيق ليدل على كنز حيي بن أخطب وقد أدعى ذهابه في النفقات فقال صلى الله عليه و سلم هو أكثر من ذلك والعهد قريب ومن ذلك قصة يوسف حيث استند الحكم إلى قد القميص من قبل أو من دبر وذلك غير هذه الامور لا من نظائرها (4/154)
فهذا الحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به هو من الحكم بالقرائن وأقل الأحوال أن يكون ذلك الشيء يليق بأحدهما دون الآخر يفيد لمن يليق به ظاهرا فيكون القول قوله مع يمينه كما تقدم من ان من معه الظاهر هو المنكر ومن معه أخفى الأمرين هو المدعي وإذا وجد ما هو أقوى من القرينة التي هي كونه يليق بأحدهما دون الاخر لم يجز العمل بالقرينة ولا التعويل عليها بل الواجب الرجوع إلى ما ثبت في الشرع أنه يجوز الحكم به من البينة والتبيين والإقرار ونحوهما
وأما قوله والعكس في البينتين فمبني على ما تقدم من ترجيح البينة الخارجة وقد قد منا ما فيه
وأما قوله ثم بينهما فصواب لأن القصمة بين المتنازعين قد ثبتث بالشرع عند التعارض وعدم إماكن الترجيح
وأما قوله ولمن في بيت غيره بما هو حامله مما مثله يحمله فوجهه أن القرينة شاهدة له بأن ذلك له وأنه دخل به وأقل الأحوال أن يكون القول قوله كما قدمنا
فصل
واليمين على كل منكر يلزم بإقراره حق لآدمي غالبا ولو مشوبا أو كفا عن طلب ولا تسقط بوجود البينة في غير المجلس ويجب الحق بالنكول مطلقا إلا في الحد والنسب قيل ومع سكوته يحبس حتى يقر أو ينكر وتقبل اليمين بعد النكول والبينة بعدها ما لم يحكم فيهما ومتى ردت على المدعي أو طلب تأكيد (4/155)
بينته غير في حقه المحض بها وأمكنت لزمت ولا ترد المتممة والمؤكدة والمردودة ويمين التهمة والقسامة واللعان والقذق
قوله
فصل
واليمين على كل منكر يجب بإقراره حق لآدمي
أقول وجهه أن إيصال من له الحق بما يستحقه هو مقصد من مقاصد الشرع وباب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو ادعى مدع بدعوى يلزم خصمه بإقرار لما تضمنته الدعوى دفع ما أقربه إلى المدعي له وعجز عن البينة ولم يوجب على المدعى عليه اليمين كان ذلك منكرا عظيما وتقريرا لظلم بين وإهمالا لحقوق العباد وفتحا لأبواب التظالم وترويحا لأهل الجسارة بأن يثبوا على الأموال فلا شك ولا ريب أن هذه الشريعة المطهرة بكلياتها وجزئياتها قاضية بوجوب هذه اليمين وقد جاءت السنة في خصوصة هذه الخصوصية أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين فيكف لا تجب على المنكر الذي يلزم بإقرارة حق لآدمي ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليمين
وإذا تقرر هذا فيما هو حق لآدمي فاعلم أن حقوق الله عز و جل لاحقه بها لأن الزجز عنها وكف أيدي المتجرئين على معاصي الله تعدى حدوده هو من أعظم مقاصد الشرع ومن أكبر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قدمنا أن الاحتساب في حق بني آدم ثابت فكيف بحقوق الله التي لا يكون المطالب بها إلا قائما في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب على الحاكم أن يسمع دعوى المحتسب بالدعوى محتسب إذا صح موجب الحد بالسبب الشرعي المرضي من بينه أو إقرار فاعرف هذا فإن اشتراط تقدم الدعاوى على ما تنتهي إليه الخصومات من إقامة البينة والإقرار لا دليل (4/156)
عليه وإنما هو باعتبار الغالب أعني أن أسباب الحكم لا يكون في غالب الحالات إلا بعد إيقاع دعوى من مدع وإجابة من مجيب لا باعتبار ما هو الشرع الثابت الذي لا شك فيه ولا شبهه فإن مجرد وجود السبب المقتضي للحد يكفي ويجب على القادر على إقامة حدود الله أن يقيمه على من وجب عليه وإذا استبعد ذهنك هذا فانظر أي دعوى وقعت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم على ماعز والغامدية وإذا كان وجود السبب الشرعي مقتض للحد بمجردة فكيف لا يكون مقتضيا للحكم بعد احتساب محتسب بالدعوى
قوله أو كفا عن مطلب
أقول وجه هذا أن المدعي لما يبطل الطلب قد أدعى ما يرفع عنه خصومة ويدفع عنه معره فكانت هذه الدعوى من جملة ما يندرج تحت قوله صلى الله عليه و سلم على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وإن لم يقع مثل هذا في زمن النبوة لكنه قد اندرج تحت مطلق قول الشارع ولابد من تقييد هذا بأن لا يظهر من مدعي بطلان الدعوى أنه قاصد للعنت وتطويل ذيل الخصومة وإتعاب غريمة فإن ظهر منه ذلك لم تسمع منه هذه الدعوى
قوله ولا يقسط بوجود البينة في غير المجلس
أقول وجه أن اليمين حق للمدعي فإن طلبها وجوز انقطاع الخصومة بفعلها أو النكول عنها كان ذلك له ولا يجب عليه تركها حتى ينظر هل ثم بينة أم لا لكنه إذا اختار اليمين لم يسمع منه البينة من بعد لأن السبب الشرعي المقتضي للحكم وهو اليمين قد وقع ووجب الحكم به وعلى الحاكم عند أن يسمع طلب المدعي ليمين المنكر أن يبين له أنه إذا كان له بينة قبل يمين خصمه وأنه إذا حلف خصمه لم تقبل البينة بعد ذلك وليس هذا التلقين للخصم بل هو مما يلزم ولهذا يقول صلى الله (4/157)
عليه وآله وسلم للمدعي ألك بينه كما في صحيح مسلم وغيره وإنما قلنا إن البينة لا تقبل بعد اليمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال شاهدك أو يمينه وهو في الصحيحين وغيرهما فجعل الحكم دائرا على إحدى السببين وقد قضي باليمين وحدها وسيأتي للمصنف قريبا أنها البينة بعد اليمين وليس على ذلك دليل تقوم به الحجة
قوله ويجب الحق بالنكول
أقول الأسباب التي ورد بها الشرع الإقرار أو البينة أو اليمين فإذا حصل واحد من هذه على وجه الصحة فقد وجب به حكم الشرع ووجب عنده إلزام الخصم وأما النكول فهو إن كان من أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكن لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبه عليه وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه يأثم الفاعل له فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم
فإن قلت فإذا عجز المدعي عن البينة وامتنع خصمه عن اليمين ضاع الحق وترك العمل بما يوجبه الشرع من إيصال كل ذي حق بحقه وإنصاف المظلوم من الظالم
قلت لا يجوز تقرير الممتنع من اليمين على امتناعه فإن ذلك يؤدي إلى ضياع الحق كما ذكرت ويوجب ترك حكم الشيء وما يجب من الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة أحكام الله بل يجب على الأئمة وحكام الشرع أن يعرفوا الناكل بأن اليمين حق واجب عليه وأنه لا يجوز له الامتناع منها فإن أجاب فذاك وإن لم يجب أنزلوا به بعض ما ينزل بمن لم يقبل الحق ولم يجب إلى الشرع من الأخذ بيده وأطره (4/158)
على الحق أطرا ولو بأن يمسه سوط من العذاب فإن الحق لا يتم إلا بذلك والشرع لا يمضي إلا به وقد أوجب الله على عباده الحكم بالحق والعدل وكف يد الظالم عن المظلوم واستخراج المظلمة من يد الظالم وردها إلى المظلوم فيجب التوصل إلى ذلك بما يسوغه الشرع وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الزبير أن يعذب اليهودي حتى يقر بالمال لحيي بن أخطب ويدل على موضعه
وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا حاجة لقول المصنف إلا في الحد والنسب
وأما قوله قيل ومع سكوته يحبس حتى يقر أو ينكر فصحيح ووجهه أنه إذا لم يكن للمدعي بينة وصمم خصمه على ترك إجابه الدعوى كان تقريره على ذلك إهمالا لتنفيذ أحكام الله وسد لباب العدل وفتحا لباب الجور وتخلية بين الظالم والمظلوم فحسبه هو أقل ما يستحقه ثم إذا لم يؤثر ذلك وجب على القاضي أن ينزل به سوطا من العقوبة كما قدمنا حتى يقر أو ينكر
وأما قوله ويقبل اليمين بعد النكول فصحيح ووجهه ظاهرة لأنه امتنع من حق يجب عليه فإذا أجاب إليه وجب علينا قبوله ومجرد تلكئه عن يمين في الابتداء لا يصلح مستندا للحكم عليه كما قدمنا
وأما قوله والبينة بعدها فلا وجه له لأن السبب الشرعي قد ثبت باليمين فوجب الحكم به
وأما قوله ما لم يحكم فيهما فهو باعتبار النكول غير صحيح لا باعتبار اليمين فهو صحيح بل وإن لم يحكم فإنه لا قبول للبينة بعد اليمين أصلا ولهذا يقول صلى الله عليه و سلم للحضرمي ألك بينة قال لا فلك يمينه قال يا رسول الله الرجل فاجر لا يحلف وليس يتورع قال ليس لك منه (4/159)
إلا ذلك والحديث في صحيح مسلم وغيره وقوله ليس لك منه إلا ذلك يفيد الحصر قوله الحصر قوله ومتى ردت على المدعي
أقول لم يصح بشيء في يمين الرد قط وما روي في ذلك فلا يقوم به حجة ولا ينتهض للدلالة على المطلوب والأسباب الشرعيه لا تثبت إلا بالشرع
وأما الاستدلال بيمين الرد بقوله سبحانه أو ترد أيمان بعد أيمانهم فغلظ ظاهر فإن معنى الآية غير هذا كما هو مبين في كتب التفسير ومع هذا فالجمهور على أنها منسوخه
فإن قلت لا شك أن هذه اليمين لا تجب على المدعي إذا ردها عليه المنكر فلا يجوز إلزامه بها ولا يكون نكوله عنها نكولا يثبت به ما ثبت بالنكول ولا يحتاج إلى الاستدلال على عدم لزومها بما ورد التنصيص على الأسباب الشرعيه كقوله صلى الله عليه و سلم شاهداك أو يمينه (4/160)
وقوله على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين لأن الدليل على من ادعى أنها سبب شرعي والأصل عدم ذلك والنافي لكونها سببا يكفيه قيامه مقام المنع إنما الشأن في شيء آخر غير إلزام من ردت عليه بها وأن المنكر لما طلبت منه اليمين التي عليه شرعا ولا يندفع عنه الحق إلا بفعلها قد رضي لنفسه بان يحلف المدعي بأن هذا الأمر الذي ادعاه ثابت على المنكر وقنع بذلك وزحزح اليمين المتوجهه عليه بهذا الرد فالحكم عليه بهذه اليمين إذا حلفها المدعي ليس لكونها سببا شرعيا بل لكون المنكر قد رضي بها عوضا عن اليمين التي عليه
قلت هذا صحيح من هذه الحيثية وللإنسان أن يلزم نفسه ما شاء بما شاء فإن حلفها المدعي لزم المنكر ما أفاده وإن أبى أن يحلف فلا إكراه له ولا يكون تركه لفعلها حجة عليه مبطلة لدعواه فاعرف هذا وتأمله فإنه نفيس
قوله أو طلب تأكيد بينته غير المحققة إلخ
أقول ليس على هذه اليمين أثاره من علم بل الواجب النظر في البينة التي أقامها المدعي فإن كانت شهادة مفيدة قد صحت للحاكم وجب عليه الحكم بها ولا يكون طلب المدعى عليه لها موجبا للتوقف في الحكم ولا يحل للحاكم أن يسمع منه ذلك وأما إذا كانت البينة غير صالحة لاستناد الحكم إليها بوجه من الوجوه فعلى المدعي أن يأتي بينته صحيحه معمولا بها فإن نهض بذلك فذاك وإن عجز عنه فليس له إلا يمين المنكر لأن الشهادة التي أقامها قد تبين ليست سببا شرعيا للحكم
فإن قلت إذا عرف الحاكم من طلب الطالب ليمين التاكيد أنه يعلم أن في شهادته خللا وإن كانت في الظاهر صحيحة صالحة للسببية للحكم فكأنه يقول أنا لا أنكر عدالة الشهود ولا أدعي أنهم تعمدو الكذب ولكني أدعي أن في شهادتهم علة توجب ردها والمدعي يعلم بذلك (4/161)
قلت إذا كان الأمر هكذا لم يحل للحاكم أن يجزم بالحكم حتى يبحث عن تلك العلة التي يدعيها المنكر ويطالبه ببيانها فإن تعذر البيان من جهته فهو بهذه الدعوى قد صار مدعيا والمنكر لعلمه بخلل في الشهادة قد صار منكرا فلا يبعد أندراجهما بذلك تحت قوله صلى الله عليه و سلم ( على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين ) فيكون إيجابها على المدعي ثابتا من هذه الحيثية لا من حيثية كونها مؤكدة
قوله ( ولا ترد المتممة )
أقول أعلم أن القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي لما كانت الشهادة فيه غير كاملة وكانت اليمين غير يمين المنكر التي يجب بها الحق اختلف أهل العلم في جواز القضاء بذلك فالمانع يحتج بأن الأسباب الشرعية هي الإقرار أو الشهادة الكاملة أو اليمين من المنكر وهذه أعني شهادة الشاهد الواحد مع يمين المدعي ليست واحدا من هذه الأسباب
ويجاب عليهم بأن الأحاديث الواردة في القضاء بالشاهد واليمين قد جاوزت عشرين حديثا ومنها الصحيح ومنها الحسن ومنها ما هو دون ذلك وهذا العدد قد صار المروي عن مثله معدودا في الأحاديث المتواترة والحجة الشرعية تقوم بما هو دون ذلك فكيف بمثله فتقرر به أن الشاهد الواحد مع يمين المدعي سبب شرعي للحكم ولم يأت من أبى ذلك بشيء يعتد به
ولو قدرنا ورود صيغة تدل على انحصار الأسباب الشرعية في الإقرار والشهادة واليمين لكانت هذه الأحاديث المتواترة مخصصة لذلك المفهوم الذي أفاده الحصر وهذا ظاهر لا يخفى وقد تعرض المصنف هنا لعدم رد هذه اليمين التي يقال لها المتممة ووجهه أنها لا ثتم السببية للحكم إلا بمجموع الشاهد واليمين وإلا لم يكن سببا أصلا (4/162)
وأما قوله والمؤكدة فوجهه أن العلم بصحة الشاهدة أو عدم صحتها هو لا يكون إلا من جهة المدعي لا من جهة المنكر فلا وجه لردها عليه وهكذا يمين التهمة لأن المدعي ليس على يقين من دعواه ولذا القسامة هي مجرد تهمة وأما يمين اللعان فلا يكون لعانا ويتحقق مفهومه إلا بالحلف من كل منهما لا من أحدهما فلا يتحقق كونه لعانا ولا تثبت أحكامه وأما رد يمين القذف فلا يتعلق به فائدة لأن المدعي إذا قبل الرد وحلف لم يثبت بذلك ما هو مقصود دعوى القذف وهو الحد وقد قدمنا في أصل رد مطلق اليمين ما يغني عن التنصيص على هذه الأفراد فارجع إليه
فصل
والتحليف إنما هو بالله ويؤكد بوصف صحيح يتميز به عند الحالف ولا تكرار إلا لطلب تغليظ أو تعدد حق أو مستحق عليه أو مستحق غالبا على القطع من المدعي مطلقا ومن المنكر إلا على فعل غيره فعلى العلم وفي المشتري ونحوه تردد ولا يلزم تعليقها إلا بمحل النزاع وهي حق للمدعي فينتظر طلبه ويصح الإبراء منها ولا يسقط به الحق ولا بفعلها إن بين بعدها إلا أن يبرئه إن حلف فحلف قيل يبين أو على أن يحلف فحلف أو قبل وله الرجوع إن أبى ولا يحلف (4/163)
منكر الشهادة ولا يضمن ولو صح كتمانه ولا منكر الوثيقة ما فيها وتحلف الرفيعة والمريض في دارها
قوله فصل والتحليف إنما هو بالله
أقول اليمين التي هي سبب من أسباب الحكم هي اليمين الشرعية لا ينصرف إلى غيرها أصلا فمن ادعى أنه يجوز إلزام المنكر بغير هذه اليمين فعليه الدليل وهو لا يجد دليلا على ذلك هذا على تقدير أنه لم يرد الأمر بالحلف بالله وحده والنهي عن الحلف بغيره كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة فمن زعم أنه يجوز للمدعي أن يحلف المنكر بغير الله من طلاق أو عتاق أو نحوهما فقد أوجب على الحالف ما لم يوجبه الله عليه وأثبت السببية للحكم بما لم يثبته الشرع وذلك هو من التقول على الله بما لم يقل
وأما قوله ويؤيد بوصف صحيح إلخ فظاهر كلامه هذا أن ذلك على جهة اللزوم ولا وجه له ولا دليل عليه بل اليمين الشرعية تحصل بالإقسام بالله عز و جل أو بصفة من صفاته على الانفراد ولا يجب على من تجب عليه اليمين إلا هذا وقد أخرج ابن ماجه بإسناد رجال ثقات من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله
وأما ما ورد من تحليفه صلى الله عليه و سلم لرجل فقال له احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء كما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بإسناد رجاله (4/164)
ثقات وكذلك ما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في تحليفه لليهود أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل التوراة على موسى الحديث أخرجه أبو داود فغاية ما في ذلك أنه يجوز للإمام التغليظ ببعض الأوصاف إذا رأى في ذلك صلاحا وليس هذا محل النزاع بل محل النزاع وجوب التأكيد بالوصف
قوله ولا تكرار إلا لطلب تغليظ
أقول قد عرفناك أن اليمين الشرعية تحصل بالحلف بالله عز و جل فإذا فعل ذلك فقد فعل ما يجب عليه قبول ما يطلبه من له اليمين من التكرار ولا فرق بين أن يكون الحق الذي ادعاه المدعي واحدا أو متعددا نعم إذا كان الحق لجماعة كان لكل واحد منهم أن يحلف من عليه الحق يمينا مستقلة وهكذا إذا كان الحق على جماعة كان على كل واحد منهم يمين مستقلة ولكن ليس هذا من التكرار في شيء
قوله ويكون على القطع إلخ
أقول إن كان المحلوف عليه مما يمكن الحالف أن يقطع به جاز تحليفه على ذلك ومن هذا القبيل أن يحلف على أنه ما قتل أو غصب أو ما قال بكذا وهكذا اليمين على أنه ملكه تلقاه من مورثه أو اشتراه من بائعه ونحو ذلك وأما إذا كان لا سبيل إلى القطع وذلك بأن يحلف المنكر على نفي ملك المدعي فإنه لا سبيل إلى القطع في مثل هذا لجواز أن يكون تملكه في الأصل وأنه خرج عنه بما لا يصلح للنقل وخفى ذلك على المدعى عليه فهاهنا لا يحلف إلا على العلم ولا طريق إلى القطع وأما ما كان فعلا لغيره فلا سبيل إلى القطع على كل حال ولا يجب عليه أن يحلف إلا على العلم إذا تعلق بذلك فائدة فاعرف هذا فإن جعل اليمين على القطع تارة وعلى العلم تارة لا بد من تقييده بما ذكرناه وإلا كان الإلزام به ظلما والحلف به غير مطابق للواقع فيكون اليمين غموسا يشترك في إثمها (4/165)
الحالف والقاضي الذي ألزمه بها من غير فرق بين مدع ومنكر ومشتر ووراث
وأما قوله ولا يلزم تعليقها إلا بمحل النزاع فصحيح إذ ليس على من عليه اليمين وهو المنكر إلا أن يحلف على نفي ما يدعيه المدعي فإن طلب منه زيادة على هذا النفي المطلق لم يجب عليه ذلك
قوله وهي حق للمدعي فينظر طلبه
أقول هذا صحيح لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد جعل اليمين على المنكر فإذا لم يكن للمدعي بينة انقطع حقه بيمين المنكر وكانت من هذه الحيثية حقا له لكن إذا حصل منه التراخي عن طلبها قاصدا لعدم نفاذ الحكم عليه واستمرار سبب الخصومة كان للمنكر أن يطلب من الحاكم إراحته من الخصومة بقبض خصمه لليمين التي أوجبها عليه الشرع ثم يحكم له ببراءته من الدعوى بيمينه
وأما قوله ويصح الإبراء منها فوجهه أنها إذا كانت حقا للمدعي كان مخيرا بين استيفائها أو إسقاطها وهو معنى الإبراء
وأما قوله ولا يسقط الحق يعني بالإبراء من اليمين فوجهه أن الإبراء منها لا يكون له حكم فعلها حتى يقال ليس له إلا ذلك ولا يقبل منه البينة لأنه لم يحلف
وأما قوله ولا يفعلها فلا وجه له بل قد انقطع الطلب بفعلها وذهبت الخصومة ولا يقبل بغيرها بينة كما قدمنا تحقيق ذلك فلا وجه لقوله إلا أن يبرئه إن حلف فحلف إلخ وإنما هو مبني على أن البينة تقبل بعد اليمين كما يذهب إليه المصنف وموافقوه
قوله ولا يحلف منكر الشهادة
أقول وجهه قول الله سبحانه ولا يضار كاتب ولا شهيد فإذا أنكر الشهادة فإن كان صادقا في إنكاره فليس عليه زيادة على ذلك وهو محسن بالشهادة وما على (4/166)
المحسنين من سبيل وإن كان كاذبا فقد حق عليه ما قاله الله عز و جل ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وكفى له بذلك عقوبة
وأما قوله ولا يضمن ولو صح كتمانه فوجهه أنه غير الغاصب لذلك المسلك أو المتسهلك له فلم يتوجه عليه ضمان وإنما يتوجه على المباشر ومال هذا الشاهد معصوم بعصمة الإسلام فلا يحل الأخذ بشيء منه إلا بما ينقل عن هذه العصمة
وأما كونه ألا يضمن منكر الوثيقة ما فيها فوجهه ظاهر لأنه لم يكن بمجرد إنكارها غاصبا لما اشتملت عليه ولا مباشرا لإتلافه
وأما كونها تحلف الرفيعة والمريض في دارهما فينبغي أن يقال إنه يحلف كل منكر في داره إذا طلب ذلك سواء كان رفيعا أو وضيعا لأن اليمين الواجبة عليه ليس عليه إلا إيقاعها ولا يجب عليه أن يخرج من منزله إلى منزل المدعي أو منزل الحاكم بل المدعي هو الذي يأتي لاستيفائها (4/167)
- كتاب الإقرار (4/169)
فصل
إنما يصح من مكلف مختار لم يعلم هزله ولا كذبه عقلا أو شرعا في حق يتعلق به في الحال ويصح من الأخرس غالبا ومن الوكيل فيما وليه إلا القصاص ونحوه ودعواه غير إقرار للأصل
قوله فصل إنما يصح من مكلف
أقول أما اشتراط كونه مكلفا فوجهه أن الصبي والمجنون ممنوعان من التصرف بما لهما بالعوض ومحجوران عن ذلك فكيف يصح إقرارهما بإخراج شي من مالهما لغير عوض وأما كونه مختارا فوجهه أن إقرار المكره لا حكم له لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو حديث صالح للاحتجاج به ولا سيما بعد تأييده بقوله عز و جل ربنا ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا إلى آخر الآية وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله عز و جل قال قد فعلت كما قدمنا
وأما كونه لم يعلم هزله فوجهه أن ذلك ليس بإقرار إنما هو لقصد آخر وأما إذا لم يعلم هزله كان مؤاخذا بإقراره ودعوى كونه هازلا خلاف الظاهر وهكذا إذا علم كذبه لأن الإقرار الذي يلزم به الحق هو ما كان مطابقا للخارج وإذا لم يكن مطابقا له فليس هو الإقرار الذي تجب به الحقوق
وأما كونه في حق يتعلق به فوجهه أن الحق الذي أقر به لو كان متعلقا بغيره كان ذلك إقرارا على الغير وهو باطل (4/171)
وأما كونه يصح الإقرار من الأخرس فوجهه أنه يمكنه أن يشير إشارة يفهم عندها مراده وذلك هو معنى الإقرار لأن اللفظ لا يشترط في هذا الباب كما يشترط في غيره ويصح أن يكون الإقرار في الزنا والقذف بالإشارة كما هو الحق من أن الإشارة المفهمة تكفي فيهما ولا وجه لاشتراط تكرر الإقرار في الزنا على أنه لو كان ذلك شرط لكان تكرير الإشارة المفهمة بمنزلة تكرير الإقرار
قوله ومن الوكيل فيما وليه
أقول لا وجه لهذا فإن التوكيل في الأصل إنما هو لمطالبة الخصم أو لمدافعته ولا يدخل للإقرار على الموكل في هذا بل هو إضرار به لم يأذن له ولا جعله إليه فإن وكله وكالة مفوضة فهذا التفويض إنما ينصرف إلى ما ينفعه لا إلى ما يضره نعم إذا وكله بأن ينشيء الإقرار عنه أو يخبر به كان هذا التوكيل مقتضيا لصحة إقرار الوكيل ولا مانع من ذلك ولا وجه لاستثناء القصاص ونحوه بل يصح إقرار الوكيل بالإقرار بكل حق من مال أو قصاص أو حد إذا قد وجد المقتضى لصحة الإقرار والنفي المانع من صحته
وأما كون دعوى الوكيل غير إقرار للأصل فظاهر لأنه إنما ادعاه تعبيرا عن الموكل وخصومة من جهته فلا يلزم تسليمه إلى الموكل إذا صار إليه
فصل
ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه ولو أقر بإتلاف ومحجور إلا لبعد رفعه وعبد إلا فيما يتعلق بذمته ابتداء أو لإنكار سيده أو يضره كالقطع لا المال عند م ولا من الوصي ونحوه إلا بأنه قبض أو باع (4/172)
قوله فصل ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه
أقول لما أذن له مالكه أو وليه بالتصرف في شيء من المال فكأنه التزم بما يقع منه مما فيه نقص عليه بالإقرار أو الخسر كما رضي بما يحصل من جهته من الفوائد فمن هذه الحيثية كان إقراره صحيحا ولو أقر بإتلاف وأما المحجور فهو بالحجر قد صار مكفوفا عن التصرف فيما فيه نفع فضلا عن إخراج جزء من المال بالإقرار فلا يصح منه الإقرار ما دام محجورا وهكذا العبد لا يصح إقراره إلا بما لا ضرر فيه على سيده لأنه لم يأذن له بذلك فإن أقر بما يلزمه ولم يوافقه السيد على ذلك فهو قد أقر بما لا ضرر فيه على السيد فيكون إقراره صحيحا يطالب به العبد إذا عتق هذا حيث لم يثبت ذلك عليه إلا بإقراره أما لو ثبت عليه ببرهان غير الإقرار لم يحتج إلى موافقة السيد بل يكون له حكم الأموال التي تلزم المماليك مع الفرق بين ما هو لازم عن جناية أو عن معاملة
والحاصل أن ما لزم العبد بغير إذن سيده فهو متعلق بالعبد يطالب به إذا عتق ولو كان ذلك مما يجب فيه القصاص فإنه لا يقام عليه إلا إذا عتق إلا أن يثبت عليه ببرهان غير الإقرار كان على السيد تسليمه لاستيفاء القصاص أو تسليم الدية كما سيأتي في الجنايات إن شاء الله تعالى وهكذا الإقرار من الوصي والولي لأنه إقرار بمال الغير وليس ذلك إليهما إلا إذا أقر بما توجبه الوصاية من التصرفات كان ذلك مقبولا لأنهما مأذونان من جهة الشرع بذلك
فصل
ولا يصح لمعين إلا لمصادقته ولو بعد التكذيب ما لم يصدق ويعتبر في النسب والسبب التصادق أيضا كسكوت المقر به حيث علم وله الإنكار وعدم الواسطة (4/173)
وإلا شاركه المقر في الإرث لا النسب ويصح بالعلوق ومن المرأة قبل الزواجة وحالها وبعدها مالم يستلزم لحوق الزوج ومن الزوج ولا يلحقها إن أنكرت ولا يصح من السبى في الرحامات والبينة على مدعي توليج المقربة
قوله فصل ولا يصح لمعين إلا بمصادقته
أقول وجه هذا ظاهر فإنه لا يدخل في ملك الإنسان إلا ما يقبله ويرضى به ولا يصح إلزامه بتملك شيء وهو ينفي ملكه والمراد من المصادقة القبول وعدم الرد ولو كان التصديق بعد التكذيب لأنه قد يكذبه ثم يظهر له بعد ذلك أن الإقرار صحيح فالاعتبار بما ينتهي إليه الحال أما لو كان المقر قد صادقه في هذا التكذيب كان مبطلا لإقراره السابق فلا يؤاخذ به وهذا ظاهر لا يخفى فقد صار بالتكذيب أولا وتصديقه للمكذب ثانيا في حكم من لم يقع منه إقرار فلا وجه لمصيره لبيت المال بل يبقى في يده
قوله وفي النسب والسبب التصادق إلخ
أقول الإقرار هو أقوى الأسباب في ثبوت الحقوق والحدود والأنساب والأسباب فإذا وقع على وجه الصحة كان معمولا به إذا كان من جميع من له دخل في ذلك النسب أو السبب ولا ينافي هذا ما صح من قوله صلى الله عليه و سلم الولد للفراش فإن (4/174)
هذا الحكم إنما هو مع الاختلاف كما شهد لذلك سبب الحديث وأما مع الاتفاق وحصول الإقرار فلا رجوع إلى الفراش لأنه قد وجد ما هو أقوى منه ولا شك أن السكوت من المقربة تقرير لمضمون الإقرار فهو تصديق ولا وجه للفرق بين الإقرار بالمال والإقرار بالنسب والسبب بل مجرد القبول ولو بالسكوت يكفي في الجميع
قوله وعدم الواسطة إلخ
أقول لم يظهر لهذا الاشتراط وجه بل إذا كان الإقرار والتصادق بشيء لا يضر بالغير ولا يوجب إلزامه بما لا يلزمه فهو صحيح ثابت لا وجه لرده ولا مقتضى لعدم قبوله فيثبت النسب والإرث بذلك ويكفي في الأمرين جميعا ومن ادعى أن ثم مانعا مقبولا فعليه البيان
قوله ويصح بالعلوق
أقول وجهه أنه أقر بما يوجبه الفراش ويقتضيه حكم الشرع فكان إقرارا صحيحا شرعيا لا يقبل منه بعد ذلك ما يخالفه وهكذا إقرار المرأة بالولد الصحيح فإن أضافته إلى أب معين فلا بد من مصادقته لها فإن خالفها كان الواجب الرجوع إلى ما يقتضيه حكم الفراش وهذه المسائل ظاهرة واضحة مأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها
قوله ولا يصح من السبى في الرحامات
أقول وجه هذا أنه يتضمن الإضرار بالسيد إما بتحريم ما هو حلال قبل الإقرار أو بتقديم غيره في الميراث عليه وقد عرفت أن الإقرار لا يصح بما فيه إضرار بالغير بوجه من الوجوه وإنما يصح بما هو خاص بالمقر لا يتعداه إلى غيره كما تقدم تقريره أما لو كان ذلك الإقرار لا يضر بالسيد لا في الحال ولا في الاستقبال فهو صحيح وله حكمه في الأمور التي يوجبها النسب ولا يلحق ضررها بالغير فإذا أقر المملوك بما (4/175)
يوجب تحريم النكاح بينه وبين من أقر به يسبب القرابة المقتضية لذلك كان هذا الإقرار صحيحا ولا وجه لرده
قوله والبينة على مدعي توليج المقربه
أقول وجهه أن الظاهر صحة الإقرار فدعوى التوليج خلاف الظاهر فيكلف مدعيه البينة المفيدة لكونه واقعا توليجا وهذا إذا لم يظهر من القرائن القوية أنه لقصد التوليج فإن ظهر ذلك كان الظاهر مع المدعي وعلى المقر أن ينهض لما يصحح إقراره وإلا كان المعمول به هو ما اقتضته القرائن القوية وقد قدمنا أن العمل بالقرائن القوية مع عدم ما هو أقوى منها مجمع عليه
فصل
ويشترط في النكاح تصادقهما وارتفاع الموانع قيل وتصديق الولي وذات الزوج يوقف حتى تبين ولا حق لها قبله منهما وترث الخارج ويرثها الداخل ويصح بماض فيستصحب ولا يقران على باطل وفي الفاسد خلاف
قوله فصل ويشترط في النكاح تصادقهما وارتفاع الموانع
أقول ارتفاع الموانع شرط في كل الإقرارات من غير فرق بين النسب والمال والسبب فلا بد أن يكون الإقرار غير معارض بمانع يمنع من العمل به كما هو (4/176)
شرط كل مقتض كائنا ما كان أن يتجرد عن المانع الذي يصلح للمانعية فلا وجه لتخصيص هذه الصورة بهذا الشرط ولا يصح إقرار كل واحد من الزوجين إلا بما لا ضرر فيه على الآخر وإلا كان العمل على البينة والحكم وبهذا تعرف ما هو الوجه فيما ذكره المصنف بعد هذا وما ذكره من صحة الإقرار بنكاح ماض وأنه يستصحب فيه الحال فوجهه أن الاستصحاب يقتضي عدم ارتفاعه فلا يرتفع إلا بما يصلح للنقل عن الاستصحاب وأما كونهما لا يقران على باطل فظاهر وأما الفاسد فقد عرفناك غير مرة أنه لا واسطة بين الصحيح والباطل فإن كان باطلا فله حكمه وإن كان صحيحا فله حكمه
فصل
ومن أقر بوارث له أو ابن عم ورثه إلا مع أشهر منه فالثلث فما دون إن استحقه لو صح نسبه وبأحد عبيده فمات قبل التعيين عتقوا وسعوا للورثة حسب الحال وثبت لهم نسب واحد وميراثه ونصيبه من مال السعاية وبدين على مورثه لزمت حصته في حصته وبما ليس في يده سلمه متى صار إليه بإرث أو غيره ولا يلزمه الاستفداء ويتثنى ضمانه ولزيد ثم قال بل لعمرو سلم لزيد العين ولعمرو قيمتها م إلا مع الحكم لزيد
قوله فصل ومن أقر بوارث له أوابن عم
أقول هذا إقرار صحيح لأنه أقر بما لا يضر بالغير فيستحق ميراثه (4/177)
وأما قوله إلا مع أشهر منه فالثلث فما دون فلا وجه له لأن إقراره فيه إضرار بهذا الذي نسبه أشهر فلا يقبل ولا يصح ولا يستحق شيئا وليس هذا من باب الوصية حتى يقال إنه يعطي ذلك من باب الوصية لأن هذا الإقرار الباطل ليس هو وصية بل هو إقرار بنسب أو بثبوت ميراث وأين هذا من الوصية
قوله وبأحد عبيده فمات قبل التعيين عتقوا إلخ
أقول قد قررنا فيما سبق أن القرعة قد عمل بها رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواطن منها حديث الستة الأعبد ومنها الجماعة الذين ادعوا ابن الأمة أنه ابن لكل واحد منهم ومنها مع تعارض البينتين فأفاد ذلك أنها حكم شرعي عند عروض اللبس وعدم الاهتداء إلى حقيقة الحال وقد أوضحنا الكلام في هذا في كتاب العتق وفي كتاب النكاح وإذا عرفت هذا كان المتعين في هذا الإقرار بأحد العبيد إذا تعذر التعيين هو الإقراع بينهم فمن خرجت قرعته كان هو المستحق لما تضمنه الإقرار بلا سراية إلى غيره ولا سعاية ومن لم يسعه ما صح عن الشارع فهو المضيق على نفسه
قوله وبدين على مورثه لزمه حصته في حصته
أقول هذا صحيح لأنه أقر بشيء يعود ضرره عليه إن كان هو الوارث وحده فيجب عليه تسليم ما أقر به من التركة وإن كان معه وارث آخر لم يلزم ذلك الآخر شيء وعلى المقر حصته من الدين من حصته من التركة وهكذا من أقر بشيء في يده أنه مملوك لغير من هو مالك له في الظاهر فإن هذا الإقرار لا يصح في الحال لأنه إضرار بالغير (4/178)
ومتى صار إلى هذا المقر ودخل في ملكه وجب عليه تسليمه إلى من أقر له به بموجب إقراره السابق سواء كان حال الإقرار في يده أو لم يكن في يده فإن مجرد الإقرار يكفي ويوجب التسليم إذ لا مزيد تأثير لثبوت اليد وهكذا من أقر بأن هذا الشيء لزيد ثم أقر إقرارا آخر بأنه لعمرو فقد صار إقراره الأول لازما له فيجب عليه تسليمه لمن أقر له به ولا حكم لإقراره الآخر لأنه رجوع عن الإقرار وهو لا يصح وهو أيضا إضرار بمن أقر له أولا وذلك مانع من صحة الإقرار ولا يجب عليه تسليم شيء إلى من أقر له آخرا لأنه إقرار باطل كما عرفت ولا يحرم بالإقرار الباطل شيء ولا يثبت له حكم
فصل
وعلي ونحوه للقصاص والدين وعندي ونحوه للقذف والعين وليس لي عليه حق يتعلق بالجراحة إسقاط للقصاص فيما دون النفس إلا للأرش وما دخل في البيع تبعا دخل فيه ولا يدخل الظرف في المظروف إلا لعرف ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته أو طلبه أو نحوهما واليد في نحو هذا لي رده فلان للراد وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في الدار ونحوها خالية يبطله غالبا لا بوقت أو عوض معين فيتقيد (4/179)
قوله فصل و علي أو نحوه للقصاص والدين إلخ
أقول اعلم أن الإقرارات يجب حملها على الأعراف الغالبة لأنها المقصودة للمقر في محاوراته كلها والخروج عن ذلك نادر والنادر لا يجوز الحمل عليه ولا الحكم به لأنه خلاف ما هو الظاهر المتبادر وإذا عرفت هذا نظرت في عرف المقر وأهل محله إن كان لهم عرف في هذه الألفاظ كان العمل على ذلك سواء كان ما هو عرف لهم موافقا لما ذكره المصنف أو مخالفا له فإن لم يكن في ذلك عرف أو كان العرف مختلفا ولا غالب وجب الرجوع إلا عرف الشرع إن وجد فإن لم يوجد كان العمل على ما تقتضيه لغة العرب إن كان المقر عربيا وإن كان غير عربي كان العمل على ما تقتضيه لغته
وبهذا تعرف أنه لا وجه لما ذكره المصنف في هذه الصور لأنا لو فرضنا أن هذه المعاني التي ذكرها هي المعاني الشرعية أو المعاني اللغوية لم يجز حمل من غلب عليه عرف بلده عليها لما هو معلوم من أنه يتكلم بما يقتضيه عرفه وعرف أهل بلده فحمل إقراره على معنى غير ذلك ظلم له أو لمن أقر له أو ظلم لهما
قوله وما دخل في المبيع تبعا دخل فيه
أقول وجه هذا ظاهر لأن الإقرار بالعين يستلزم الإقرار بما لا بد لها منه في عرف المقر فلزمه ذلك وأما كونه لا يدخل الظرف في المظروف فقد أصاب بتقييده بقوله إلا لعرف وكان عليه أن يقيد ما ذكره في أول الفصل بهذا
قوله ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته إلخ
أقول وجه هذا أن الإقرار بما هو فرع لثبوت الشيء إقرار بثبوت ذلك الشيء فمن قال قد قضيتك ما كان لك علي من الدين أو قال لمن ادعى عليه عينا بعها منى أو نحو ذلك فهو بهذه الدعوى وهذا الطلب قد أقر بأن ذلك الشيء للمدعي فيجب استصحاب الحال والحكم عليه بثبوت ما أقر بثبوته حتى يأتي بما ينقل عن هذا الاستصحاب وهذا (4/180)
مسلك شرعي لا يمكن الحكم بالعدل إلا بأعماله لا بإهماله فإن ذلك جور وظلم ومن هذا القبيل قول المصنف وهذا لي رده فإن الإقرار لفلان بأنه رده إليه إقرار بفرع ثبوت يد فلان على ذلك الشيء فيستصحب الحال في ثبوت يده حتى ينقل عنها ناقل صحيح
قوله وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في الدار ونحوها خالية يبطله
أقول لا وجه لإبطال الإقرار المقيد بشرط مستقبل فإن لزوم الشيء في زمان مستقبل قد يكون لسبب حلول أجل أو وصية مقيدة بذلك أو عدة محالة على وقت مستقبل والاحتمالات في مثل هذا كثيرة وجعل الاستقبال مانعا هو مجرد دعوى لم ينتهض عليها دليل وأما بطلا الإقرار بما في الدار مع انكشافها خالية فهذا إقرار باطل وقد تقدم في أول الإقرار ما يدل على بطلان هذا الإقرار وإلزام المقر بشيء والحال هكذا إلزام له بما لا يلزمه شرعا ولا عقلا
وأما قوله لا لوقت أو عوض معين فيتقيد فوجهه ظاهر لما قدمنا في الشرط وهكذا من أقر بشيء عليه مقيدا له بأنه من قيمة كذا فإن هذا القيد قد وجب حمل إقراره عليه فلا يجوز الحكم عليه ببعض كلامه دون بعض وأما ما يقال من أن الإقرار بالشيء قد لزم وقوله إنه من قيمة كذا دعوى فهذا جمود وظلم للمقر لأن له ما يقتضيه آخر كلامه كما كان عليه ما يقتضي أول كلامه
فصل
ويصح بالمجهول جنسا وقدرا فيفسره ويحلف ولو قسرا ويصدق وارثه فإن قال مال كثير أو نحوه فهو لنصاب جنس فسر به لا دونه وغنم كثيرة (4/181)
ونحوها لعشر والجمع لثلاثة وكذا درهم وأخواته لدرهم وشيء أو عشرة لما فسر إلا فهما من أدنى مال ولي ولزيد بينهما وأرباعا له ثلاثة ومن واحد إلى عشرة لثمانية ودرهم بل درهمان للدرهمين لا مدان فلثلاثة ويكفي تفسير المستثنى من الجنس متصلا غير مستغرق والعطف المشار له للأول في الثبوت في الذمة أو في العدد ويصرف في الفقراء ما جهل أو الوارث مستحقه
قوله فصل ويصح بالمجهول جنسا إلخ
أقول وجه ذلك أنه قد لزمه بإقراره شيء مجهول الجنس أو النوع فثبت للمقر له ذلك فإن فسره بشيء فذاك وإن تعذر تفسيره لموت أو نحوه فالواجب الرجوع إلى الأعراف الغالبة فإن كانت موجودة فالرجوع إليها مقدم على كل شيء وإن لم تكن موجودة وجب الحمل على المعنى الشرعي إن وجد وإن لم يوجد فعلى المعنى اللغوي كما قدمنا تحقيق ذلك قريبا فهذه الصور التي ذكرها المصنف في هذا الفصل إن كان مراده أنها أعراف غالبة على أهل عصره أو بلده فلذلك لا يلزم غيره بل كل مقر مخاطب بالغالب من عرف قومه محمول إقراره عليه وإن أراد أنها مدلولات لغوية فذلك غير مسلم إلا في مثل قوله ولزيد بينهما نصفين وقوله ودرهم بل درهمان للدرهمين ونحو ذلك وإن أراد أنها معان شرعية فممنوع والواجب حمل ما لم يثبت فيه حقيقة شرعية على اللغة العربية إن لم يكن ثم عرف (4/182)
فالحاصل أنه إذا لم يكن ثم عرف فإن كان المقر يعرف المدلولات اللغوية كان إقراره محمولا عليها وإن كان لا يعرفها فهو مع عدم العرف والشرع كمن أقر بشيء مجهول فيحمل إلى أقل ما يصدق به في لغة العرب والرجوع إلى لغة العرب في هذه الصورة اقتضته الضرورة لوجود مطلق الإقرار وتعلق الحق بالمقر للمقر له وهذا الذي ذكرناه يغنيك عن الكلام على كل صورة من الصور التي ذكرها المصنف في هذا الفصل
وأما قوله ويصرف في الفقراء ما جهل أو الوارث مستحقه فوجهه أنه لم يبق مع الجهل طريق إلى تبين مستحقه فكان الصرف في الفقراء مخلصا من المظلمة بحسب الإمكان وكان الأولى أن يكون مصرفه المصالح كما في سائر الأموال الملتبسة
فصل
ولا يصح الرجوع عنه إلا في حقه لله يسقط بالشبهة أو ما صودق فيه غالبا ومنه نحو سقت أو قتلت أو غصبت أنا وفلان بقرة فلان ونحوه لا أكلت أنا وهو ونحوه
قوله فصل ولا يصح الرجوع عنه
أقول وجه هذا أنه قد لزمه الحق بإقراره وهو بالغ عاقل فرجوعه عن الإقرار رجوع باطل يستلزم إبطال حق على من أقر له به وذلك ظلم والظلم حرام مخالف للعدل الذي أمر الله عباده بالحكم به (4/183)
وأما قوله إلا في حق لله إلخ فلا بد من أن يكون رجوعه محتملا للصدق حتى يكون شبهة له وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه وأقر به على نفسه بما لا يصح للدفع وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحدود عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه موقعة في بعض اللبس وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها
وأما قوله أو ما صودق فيه فإن كان هذا الذي صادقه على الرجوع هو من له في الإقرار نفع أو دفع فذاك وإلا فلا حكم لهذه المصادقة ويؤخذ المقر بإقراره ولا وجه لما فرق به المصنف بين قول المقر سقت أو قتلت أو غصبت أنا وفلان وبين قوله أكلت أنا وهو ونحوه فإن الجميع إقرار على النفس ولا حكم لقوله وفلان في الفرق ولا يقتضي ذلك رواية ولا دراية (4/184)
- كتاب الشهادات (4/185)
فصل
يعتبر في الزنا وإقراره أربعة رجال أصول وفي حق الله ولو مشوبا والقصاص رجلان أصلان غالبا وفيما يتعلق بعورات النساء عدله وفيما عدا ذلك رجلان أو رجل وامرأتان أو ويمين المدعي
قوله فصل ويعتبر في الزنا وإقراره أربعة رجال أصول
أقول أما على الفعل فهو نص القرآن وإجماع السلف والخلف وأما الشهادة على الإقرار فسيأتي لنا في الحدود إن شاء الله أنه يكفي للإقرار مرة واحدة فلا وجه لإيجاب أربعة شهود على الإقرار وإنما يتوجه ذلك لو كان الإقرار أربع مرات كما هو اختيار المصنف ومن معه وأما اشتراط كونهم رجالا أصولا فوجهه الاحتياط والتحري في الحدود لما يستلزمه من الإضرار بالأبدان ولما ثبت فيها من أنها تدرأ بالشبهات ولكن هذه العلة قاصرة على إفادة المطلوب
والحاصل أنه لم يدل دليل على هذا الاشتراط ولا على اشتراط كون الشهادة في حق الله وفي القصاص من الرجال الأصول وظاهر القرآن أن الرجل والمرأتين يقومون مقام الرجلين في كل شيء فمن ادعى التخصيص فعليه البرهان ولا يصلح لذلك ما رواه ابن أبي شيبة من قول الزهري إنها مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود لأنه مع كونه مرسلا في إسناده ضعف فلا يصلح أن يكون شبهة في الحدود فضلا عن القصاص وسيأتي في فصل الادعاء ما فيه زيادة فائدة إن شاء الله (4/187)
قوله وفيما يتعلق بعورات النساء عدلة
أقول هذا إخبار لا شهادة وخبر العدل أو العدلة مقبولة فيما ورد قبوله فيه وأما كونه يصلح مستندا للحكم ففيه نظر لأن الله سبحانه شرع لنا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ومما يقوي قبول خبر العدل أو العدلة فيما يترتب عليه عمل يتعلق بالغير ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال حتى كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه ولكن ليس هنا خصومة حتى يكون مثل هذا دليلا على قبول الواحد فيها ولهذا قال الكرماني لا نزاع لأحد أنه يكفي ترجمان واحد عند الإخبار وأنه لا بد من اثنين عند الشهادة وقال ابن المنذر القياس يقتضي اشتراط العدد في الأحكام لأن كل شيء غاب عن الحاكم لا يقبل فيه إلا البينة الكاملة والواحد ليس ببينة كاملة حتى يضم إليه كمال النصاب غير أن الحديث إذا صح سقط النظر وفي الاكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى
وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكتف بزيد بن ثابت في خصومة بل في الإخبار (4/188)
عن كتاب اليهود وأما ما روى من قول الزهري مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وغيرها فهذا مع كونه مرسلا قد أخرجه ابن أبي شيبة قال حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن الزهري وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري أيضا وهو لأئمة أثبات
والحاصل أن الحاكم إذا أراد مزيد الاستثبات استكثر من العدلات حتى يغلب ظنه بصدق قولهن ولهذا روى عن الشافعي أنه لا بد من ثلاث وعن مالك والأوزاعي ثنتان
وأما قوله وفيما عدا ذلك رجلان إلخ فهو نص القرآن الكريم وهو يشتمل على كل خصومة إلا ما خص بدليل
وأما قوله أو يمين المدعي فقد قدمنا الأدلة الدالة على وجوب العمل بالشاهد واليمين عند قول المصنف ولا ترد المتممة فلا نعيده
فصل
ويجب على متحملها الأداء لكل أحد حتى يصل إلى حقه في القطعي مطلقا وفي الظني إلى حاكم محق فقط وإن بعد إلا لشرط إلا لخشية فوت فيجب وإن لم يتحمل إلا لخوف وتطيب الأجرة فيهما
قوله فصل ويجب على متحملها الأداء لكل أحد (4/189)
أقول وجه هذا قول الله عز و جل ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا فإنه يدل على وجوب تحمل الشهادة على من دعي إليها وعلى وجوب تأديتها لمن طلب تأديتها إلى الحاكم ومما يدل على الوجوب قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وأيضا قد تقرر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأدلة القطعية ووجب تأدية الشهادة من هذا القبيل لا سيما عند خشية فوت الحق وعلى هذا حمل حديث ألا أخبركم بخير الشهداء الذي تأتي شهادته قبل أن يسألها وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث زيد بن خالد الجهني ولا فرق بين أن يكون الحق قطعيا أو ظنيا لأن الشاهد عليه أن يؤدي شهادته إلى الحاكم وعلى الحاكم أن يحكم بما يصح لديه
وأما قوله إلى حاكم محق فجمود ظاهر لا وجه له ولا دليل عليه بل يجب عليه أن يؤدي الشهادة إلى من يقيم الحق ويأخذ على يد من هو لديه حتى يرده على أي صفة كان ولو كان غير قاض إذا علم الشاهد أنه يقدر على إيصال من له الحق بحقه ووجه هذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالسعي في إثباته بكل ممكن وهكذا الآية وهي قوله ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا فإن الشهود إذا دعاهم المشهود له إلى من يرجو منه إنفاذ الحق فقد وجب عليهم أن لا يأبوا من الإجابة وإلا كانوا واقعين في النهي القرآني وبهذا تعرف صحة قول المصنف وإن بعد وعدم صحة قوله إلا لشرط فإن اشتراط ما أمر الله بخلافه لا يجوز
وأما قوله وتطيب الأجرة فهذه الأجرة على واجب وقد قدمنا الكلام على ذلك في الإجارات والقول بأن الواجب مجرد التأدية لا قطع المسافة غير صواب بل (4/190)
الواجب التأدية التي ينتفع بها المشهود له وهي إذا احتاجت إلى قطع مسافة فلا يصدق على الشاهد أنه قد أدى الشهادة إلا بذلك وإلا كان داخلا في قوله ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا وفي قوله ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتاركا لما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فصل
ويشترط لفظها وحسن الأداء وإلا أعيدت وظن العدالة وإلا لم يصح وإن رضي الخصم وحضوره أو نائبه ويجوز للتهمة تحليفهم وتفريقهم إلا في شهادة زنا ولا يسألون عن سبب ملك شهدوا به
قوله فصل ويشترط لفظها
أقول المراد بالشهادة الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم إلى الحاكم بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه فإذا قال مثلا رأيت كذا وكذا أو سمعت كذا وكذا فهذه شهادة شرعية وقد أحسن المحقق ابن القيم حيث قال في فوائده ليس مع اشتراط لفظ الشهادة فيها دليل لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح انتهى وقد قدمنا لك في كثير من الأبواب أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء ولا وصل إلى الألفاظ غير مرادة لذاتها وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها فإذا حصلت التأدية للمعنى المراد فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية وهكذا قوله وحسن الأداء لا وجه له من عقل ولا نقل ولا ورد فيه شيء وليس المراد إلا انفهام المعنى المراد من كلامه وإن جاء بعبارة غير حسنة وألفاظ غير مأنوسة فليس المقام مقام بلاغة حتى يقال إنه يشترط حسن الأداء بل المقام مقام إخبار بما علمه الشاهد ولو بالرطانة واللغة المستعجمة إذا كان يفهم عنه ذلك ويصح بمجرد الإشارة المفهمة من (4/191)
القادر على النطق وبالكتابة
قوله وظن العدالة
أقول عدالة الشهود هي الشرط الذي تبنى عليه القناطر ويترتب عليه القبول وهي الشرط الذي لم يشترط الله سبحانه في كتابه غيره ولا نبه على سواه بقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم وقوله ممن ترضون من الشهداء والمراد بهذه العدالة أن يعلم الحاكم أو يخبره من له اطلاع على حال الشهود أنهم حال تأدية الشهادة قائمين بما أوجبه الله عليهم تاركين لما نهاهم عنه ليسوا ممن يجتريء على الكذب ولا كانوا ممن شمله الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند قوي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت وهو الذي ينفق عليه أهل البيت وفي الباب أحاديث مقوية لهذا الحديث قد استوفيناها في شرح المنتقى وسيأتي للمصنف في الفصل الذي بعد هذا تعداد من لا تصح شهادتهم عنده وسنتكلم على ذلك إن شاء الله
فالحاصل أن أعظم أركان العدالة تحري الصدق و عدم التسامح في الكلام والتزيد فيه فمن كان هكذا فهو الشاهد العدل ولا يحتاج بعده إلا إلى أن يكون في الحال ظاهر العدالة التي هي ملكة تمنع النفس عن اقتراف الكبائر والرذائل ولا يحتاج إلى كثرة التفتيش عن حاله بزيادة على هذا كما يقول بعض أهل الأصول إن الفسق مانع فلا بد من تحقيق عدمه بل نقول الفسق وإن كان مانعا فالأصل عدم وجوده فيبنى على هذا الأصل حتى يقوم ما ينقل عنه (4/192)
قوله وإلا لم يصح وإن رضي الخصم
أقول أما مع رضا الخصم فهذا الرضا بالشهادة يدفع كل علة ترد عليها فكأنه قد رضي بإثبات ما شهدت عليه به إذا لم يكن الرضا لقصور في فهمه وإدراكه كمن يظن أن مجرد شهادة الشهود عليه على أي صفة كانت موجبة لثبوت الحق عليه
وأما قوله وحضوره أو نائبه فهذا صحيح لأن هذه شهادة عليه يتعقبها إلزامه بما شهدوا به فقد يكون في حضوره التنبيه لهم على خلاف ما يعتقدونه لوهم عرض لهم وشبهة حصلت عليهم وأيضا له أن يجرحهم فيما شهدوا به فلا بد أن يعلم بكيفية شهادتهم عليه حتى ينفتح له باب الجرح إذا شهدوا بباطل عمدا أو سهوا
قوله ويجوز للتهمة تحليفهم
أقول هذا التحليف للشهود مضارة لهم وقد قال الله عز و جل ولا يضار كاتب ولا شهيد وليس المعتبر فيهم إلا أن يكونوا عدولا مرضيين كما نطق به الكتاب العزيز فإن كانوا كذلك لم يتعلق بهم تهمة فلا يجوز تحليفهم وإن تعلقت بهم تهمة فليسوا بعدول مرضيين فشهادتهم مردودة من هذه الحيثية
وأما الاستدلال بقوله تعالى فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما فهذه القصة منسوخة مع كونها واردة في أهل الذمة ودعوى فسح بعضها دون بعض تحكم يأباه الإنصاف
قوله وتفريقهم (4/193)
أقول أما إذا كانوا عدولا مرضيين فلا يجوز هذا التفريق لأنه يفت في أعضادهم وعضد من شهدوا له بغير سبب يوجب ذلك مع كونه لم يرد به شرع يجب اتباعه ويتعين المصير إليه وأما إذا كان حالهم عند الحاكم ملتبسا فأراد أن يختبر صدقهم واتفاقهم على ما شهدوا به فلا بأس بهذا فإنه مما يتوصل به إلى إثبات الحق ودفع الباطل وقد انتفعنا بهذا التفريق في غير قضية ولا سيما إذا كان الشهود قد جاءوا في الشهادة بلفظ واحد من غير اختلاف فإن ذلك مما يؤذن بالريبة ويدعو إلى التهمة بأنهم قد تواطئوا أن يشهدوا بذلك اللفظ وتواصوا به بينهم والغالب في شهادة الصدق أن يؤدي كل شاهد معنى ما شهد به الآخر بألفاظ يعبر بها عند التأدية سواء وافقت لفظ من شهد معه أو خالفته مع الاتفاق على المعنى
ومما يوضح الصدق من الكذب مع الريبة أن يفرقهم الحاكم ثم يسألهم عن صفات تتعلق بالزمان أو المكان أو الحال وينوع لهم ذلك فإن الشهادة الكاذبة عند ذلك تتعثر غاية التعثر ويظهر خللها ويتبين صدقها
وأما قوله إلا في شهادة زنا فلا وجه له وما عللوا به من أنهم يكونون قذفة تعليل باطل ليس عليه أثارة من علم بل ولو شهد كل واحد منهم في وقت غير الذي شهد به الآخر وإن تباعدت الأوقات كما وقع في شهادة الشهود على المغيرة فإن زيادا تأخر وشهد في وقت آخر وقد حضر ذلك أعيان الصحابة ولم ينكروه ولا قالوا إن المتأخر قاذف
قوله ولا يسألون عن سبب ملك شهدوا به
أقول وجه هذا أنهم قد أدوا ما عليهم من الشهادة على الملك بما قد علموه من ثبوت يد المشهود له على ذلك الشيء وتصرفه به تصرف المالك في ملكه فالسؤال لهم عن سبب الملك سؤال لا يجب عليهم معرفته ولا تلازم بينه وبين صحة شهادتهم (4/194)
فصل
ولا تصح من أخرس وصبي مطلقا وكافر تصريحا إلا مليا على مثله وفاسق جارحة وإن تاب إلا بعد سنة والعبرة بحال الأداء ومن له فيها نفع أودفع ضرر أو تقرير فعل أو قول ولا ذي سهو أو حقد أو كذب أو تهمة بمحاباة للرق ونحوه لا للقرابة والزوجية ونحوها ومن أعمي فيما يفتقر فيه إلى الرؤية عند الأداء
قوله فصل ولا تصح من أخرس
أقول وجه عدم الصحة عنده ما تقدم له من اشتراط اللفظ وقد قدمنا ما يدل على أن ذلك الاشتراط ليس بشيء وأن الشهادة تصح بالإشارة المفهمة من قادر على النطق فضلا عن غير قادر وأما اشتراط أن يكون الشاهد غير صبي فظاهر لأن العدالة شرط كما تقدم والصبي لا يوصف بذلك فلا يصح أن يكون شاهدا ولكنه إذا اجتمع من خبر الصبيان ما يفيد الظن القوي كان العمل بذلك من العمل بالقرائن القوية وقد قدمنا نقل الإجماع عليه
قوله وكافر تصريحا
أقول هذا مجمع عليه كما نقله المحققون من أهل المذاهب المختلفة ولم ينقل فيه خلاف ومن زعم أن في المسألة خلافا فقد أخطأ والوجه في هذا ما صرح به القرآن الكريم من اشتراط أن يكون الشهود عدولا مرضيين والكافر ليس بعدل ولا مرضي فهو مسلوب الأهلية ومظنة للتهمة (4/195)
وأما قوله عز و جل أو آخران من غيركم فليس ذلك مما نحن بصدده بل هو في شيء آخر كما بينه محققو المفسرين وأيضا الآية منسوخة فلا حكم للاستدلال بشيء مما اشتملت عليه وقد قدمنا الإشارة إلى مثل هذا
والحاصل أن الأمر أوضح من كل واضح و أجلى من كل جلي ولكن من حبب إليه المجيء بما يخالف الناس وقع في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع وهو لا يشعر
قوله إلا مليا على مثله
أقول وجه هذا أنا مأمورون بتقريرهم على شرعهم ومن التقرير على شرعهم قبول شهادة بعضهم على بعض ولو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لكان ذلك مقتضيا لإهدار كثير من القضايا التي لا توجد فيها شاهد يشهد بينهم من المسلمين لأن المتاخمة والمداخلة إنما هي فيما بينهم والمسلمون متنزهون عنهم مسكنا ومخالطة
وهذا الدليل أعنى تقريرهم على شرعهم يغني عن الاستدلال بمثل ما أخرجه ابن ماجة من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم عن بعض فإن في إسناده مقالا
قوله وفاسق جارحه (4/196)
أقول قد أغنى عن هذا ما قدمه من اشتراط العدالة فإن العدل لا يطلق على مرتكب معاصي الله عز و جل وهكذا يغني اشتراط العدالة عن ذكر الكافر والصبي وليس في التنصيص على هذه بعد اشتراط العدالة إلا التطويل الذي لا يأتي بكثير فائدة مع أن الفسق في أصل اللغة هو أشد الكفر وعليه عبارات القرآن وإن ورد في قليل مرادا به عصاة المسلمين كما في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وقد ورد في السنة ما يدل على رد شهادة من ليس بعدل كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بإسناد قوي وقد رواه أبو داود بإسنادين لا مطعن فيهما وفي لفظ لأبي داود لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية وشهد له ما أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة بلفظ لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة الحديث وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وفيه مقال وقال الترمذي لا يصح عندنا إسناده وقال أبو زرعة منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي ولكن في الباب من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب نحوه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده ضعيفان وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ويغني عن الاستدلال بها ما قدمنا من أن الواقع في هذه المعاصي ليس بعدل (4/197)
وأما قوله وإن تاب إلا بعد سنة فتوقيت لا يوافق رواية ولا دراية ومجرد وقوع التوبة وتحققها تمحو عنه ما اتصف به من سلب العدالة ويرده ويرده إلى الاتصاف بها
قوله ومن له فيها نفع
أقول وجه هذا قد صار بهذا النفع العائد إليه مظنة للتهمة عند الحاكم فإن كان بمكان من العدالة بحيث لا يؤثر فيه مثل ذلك فهو عدل مرضي فلا وجه لرد شهادته لوجود الشرط المعتبر فيه وفي حديث عمرو بن شعيب المتقدم قريبا زيادة بلفظ ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت والوجه في عدم قبول شهادته ما يتهم به بسبب ما له من المنفعة من المشهود لهم وهكذا الوجه في قوله أو دفع ضرر أو تقرير فعل أو قول فإن المانع من القبول في جميع هذه هو كونهم مظنة تهمة لما يجلبونه إلى أنفسهم من النفع أو يدفعون به عن أنفسهم من الضرر أو يقررون به قولهم أو فعلهم فإن انتفت التهمة وانتفت المظنة فلا عذر من القبول لوجود الشرط المعتبر كما قدمنا
وأما عدم قبول شهادة ذي السهو فوجهه واضح لأنه مع كثرة سهوه لا يوثق بشهادته لجواز أن يسهو عن بعض ما شهد به مما لا تتم الشهادة على وجه الصواب إلا به
وهكذا شهادة ذي الحقد لأنه قد صار بحقده على المشهود عليه مظنة تهمة توجب عدم قبوله وفي حديث عائشة المتقدم قريبا زيادة بلفظ و لا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا قرابة وفيه المقال المتقدم وروي من حديث عمر بلفظ لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم قال ابن حجر ليس له إسناد صحيح ولكن له طرق يقوي بعضها بعضا ومن ذلك ما رواه أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله (4/198)
ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث مناديا أنه لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين وروى البيهقي أيضا من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة وروى الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مثله وفي إسناده نظر وهكذا لا تقبل شهادة ذي الكذب وهو أقبح هؤلاء المعدودين حالا وأبعدهم عن العدالة التي لا شهادة بدونها
وأما قوله أو تهمة بمحاباة للرق ونحوه فيدل على ذلك ما تقدم من نفي قبول شهادة ذي الظنة ومن نفي قبول شهادة القانع
وأما قوله لا للقرابة والزوجية أو نحوهما فلا وجه للفرق بينه وبينهما قبله بل من كان من هؤلاء متهما بالمحاباة فشهادته غير مقبولة من ذوي الظنة ومن لم يكن كذلك فشهادته مقبولة من غير فرق بين رق وخادم وأجير وقريب وزوجة ونحوهم
وأما قوله ومن أعمى فيما يفتقر فيه إلى الرؤية عند الأداء فوجهه واضح لأن الأعمى لا يشهد ما لا بد فيه من الرؤية فإن فعل كان مجازفا كاذبا بخلاف الشهادة على الصوت وعلى سائر ما لا يفتقر إلى الرؤية كما سيأتي للمصنف
فصل
والجرح والتعديل خبر لا شهادة عند م بالله فيكفي عدل أو عدلة وهو عدل أو فاسق إلا بعد الحكم فيفصل بمفسق إجماعا ويعتبر عدلان قيل (4/199)
وفي تفصيل الجرح عدلان قيل ويبطله الإنكار ودعوى الإصلاح وكل فعل أو ترك محرمين في اعتقاد الفاعل التارك لا يتسامح بمثلها وقعا جرأة فجرح والجارح أولى وإن كثر المعدل
قوله فصل والجرح والتعديل خبر لا شهادة إلخ
أقول قد قدمنا أن اعتبار اللفظ في الشهادة جمود لا وجه له وقد قدمنا أن الشرط الذي لا بد منه هو أن يكون الشهود عدولا مرضيين كما نطق به القرآن الكريم فقال فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فالمعتبر في الشهادة العدالة والعدد وأما الإخبار بأن فلانا عدل أو غير عدل أو يتصف بكذا ولا يتصف بكذا فهذا من باب الرواية فلا بد أن يحصل للحاكم ظن الصدق فإن حصل بالواحد كفى ذلك وإن لم يحصل بالواحد فلا بد من الزيادة ثم العمل بما يرجحه الحاكم الذي يقوم بمثل ترجيحه الحجة في الاكتفاء بمجرد الإجمال أو الفحص عن التفصيل وإذا غلب في ظن الحاكم صدق الجارح أو المعدل عمل على ذلك ولا فرق بين أن يكون الجرح قبل الحكم أو بعده أنه إذا غلب على ظن الحاكم صدق الجرح فت في عضد الحكم السابق ولا يشترط أن يكون بمفسق إجماعا كما قال المصنف ولا يبطله الإنكار كمل قيل إذا كان مجردا وأما دعوى الإصلاح فعلى الحاكم أن يبحث عن ذلك حتى يتبين له الحال ويعمل على ما ينتهي إليه
وأما قوله وكل فعل أو ترك محرمين إلى آخر كلامه فهو كلام صحيح إذ لا يصدق مسمى الجرح إلا على ما اشتمل على هذه القيود
قوله والجارح أولى وإن كثر المعدل
أقول وجه ذلك عند المصنف ومن قال بقوله أن المعدل غاية ما يقوله إنه لم يعلم بارتكاب ما يقدح في شهادة الشاهد وعدم العلم ليس علما بالعدم بخلاف الجارح (4/200)
فإنه يشهد على ارتكاب الشاهد لما يقدح في عدالته وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي وإنما يتم هذا إذا كان الجرح مفصلا أما لو كان مجملا بأن يقول الجارح هذا الشاهد غير عدل ويقول المعدل هذا الشاهد عدل فينبغي أن يكون المرجح من الوصفين ما يكون عليه الشاهد في حال الشهادة فإن كان متصفا بما يوجب العدالة متجنبا لما يقدح فيها كان التعديل أرجح ويحمل الجرح المجمل على أن الجارح استند في جرحه إلى فعل أو ترك فعله الشاهد قبل هذه الحالة التي صار عليها ومتصفا بها وإن كان الشاهد في حال الشهادة متصفا بما ينفي العدالة كان الجرح مقدما على التعديل ويحمل قول المعدل على أنه استند في تعديله إلى ما كان عليه حال الشاهد قبل هذه الحالة التي هو عليها وقد استوفيت وجوه الترجيح في كتابي الذي سميته إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول بما لم أسبق إليه فمن رام شفاء النفس واندفاع اللبس فعليه ذلك
فصل
ويصح في غير الحد والقصاص أن يرعي عدلين ولو على كل من الأصلين لا كل فرد على فرد ويصح رجل وامرأتان ولو على مثلهم لا ذميين على مسلم ولو لذمي وإنما ينوبان عن ميت أو معذور أو غائب بريدا يقول الأصل اشهد على شهادتي أني أشهد بكذا والفرع أشهد أن فلانا أشهدني أو أمرني أن أشهد أنه شهد بكذا ويعينان الأصول ما تدارجوا ولهم تعديلهم
قوله ويصح في غير الحد والقصاص أن يرعي عدلين (4/201)
أقول لم يأت في شيء من الأدلة ما يدل على أن الشاهد يجوز له أن يشهد على شهادته شاهدا آخر بل أوجب الله سبحانه على الشهود أن يأتوا بالشهادة التي تحملوها فقال ولا يأبى الشهداء إذا مادعوا وقال ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه فلا يجوز هذا الادعاء بعدم وروده في الشرع فإن عرض للشاهد عذر يخشى معه فوته كالمرض أو عرض له سفر إلى مكان بعيد كان الإرعاء ها هنا جائزا لأنها قد اقتضته الضرورة وفي وتركه إضرار بمن له الشهادة وتفويت لحقه فوجب السعي في تلافي الأمر بحسب الإمكان وهذا غاية ما يمكن ومما يقوم مقام الإرعاء إذا لم يكن أقوى منه أن يكتب الشاهد شهادته بخطه إذا كان معروف الخط أو يكتبها بخط من يعرف خطه ويشهد على ذلك فإنها قد وردت الأدلة الصحيحة الدالة على العمل بالكتابة الصحيحة في مواضع من الكتاب والسنة وورد ما يدل على قبولها على العموم
وأما قوله في غير الحد والقصاص فوجه عدم قبول الإرعاء في الحد أنه يسقط بالشبهة وقد يمكن أن يأتي الشاهد في شهادته إذا شهد بنفسه بما يفيد الشبهة وهذا وإن كان تجويزا بعيدا جدا لكن درء الحدود بالشبهات يقتضي مثل هذا وقد قدمنا أنه لا يشترط اجتماع الشهود على الحد فغاية ما هنا أن ينتظر الشاهد حتى يزول عذره ثم يحضر للشهادة فإن تعذر حضوره وانخرم به النصاب لم يثبت الحد
وأما القصاص فلا وجه لاستثنائه بل يجوز الارعاء مع العذر أو الشهادة بالكتابة الصحيحة ولكن المصنف بنى هنا على ما قدمه في أول كتاب الشهادة من اشتراط أن يكون شهود القصاص أصولا
وأما قوله أن يرعى ولو على كل من الأصلين إلخ فصحيح إذ ليس المقصود إلا تحمل الفروع لشهادة الأصول فيكفي أن يتحمل الواحد عن الواحد أو كل واحد (4/202)
من الفرعين عن كل واحد من الأصلين ولكن مع العذر المسوغ لذلك كما قدمنا وكما سيأتي للمصنف وإنما ينوبان عن ميت أو معذور أو غائب
وأما قوله لا ذميين عن مسلم فقد أغنى عن هذا ما تقدم من عدم صحة شهادة الكافر على المسلم من غير فرق بين أصل وفرع
وأما ما ذكره من قوله اشهد على شهادتي إلخ فقد عرفناك أن اشتراط هذه الألفاظ في غالب الأبواب جمود لا دليل عليه فيكفي أن يأمره بأن يشهد على شهادته بأي لفظ كان وكذلك يكفي الفرع أن يؤدي هذه الشهادة بأي لفظ كان
وأما قوله ولهم تعديلهم فظاهر لأن الفروع لم يشهدوا بالحق وإنما شهدوا على شهادة من شهد به
فصل
ويكفي شاهد أو رعيان على أصل مع امرأتين أو يمين المدعي ولو فاسقا في كل حق لآدمي محض غالبا لا رعي مع أصل ولو أرعاهما صاحبه ومتى صحت شهادة لم تؤثر مزية الأخرى
قوله فصل ويكفي شاهد أو رعيان على أصل مع امرأتين أو يمين المدعي
أقول هذا صحيح أما كونه يكفي شاهد مع امرأتين فهو نص القرآن الكريم وأما كونه يقوم مقام الأصل رعيان فقد قدمنا الكلام عليه في الفصل الذي قبل هذا وقدمنا أيضا الأدلة الدالة على جواز الحكم بشاهد ويمين المدعي عند قول المصنف (4/203)
ولا ترد المتممة فارجع إليه وهكذا قوله ولو فاسقا فإن الدليل الصحيح قد دل على ذلك كما تقدم في قصة الحضرمي أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم لما قال له شاهداك أو يمينه يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف فقال ليس لك إلا ذلك
وأما قوله في كل حق لآدمي محض فقد قدمنا ما يعتبر من الشهادة في كل مشهود فيه فلا نعيده
قوله ومتى صحت شهادة لم تؤثر مزية الأخرى
أقول هذا سد لباب الترجيح وردم لطريق هي أوسع الطرق ساحة ومعلوم أن ارتفاع إحدى الشهادتين المتعارضتين بأي مزية من المزايا تصيرها راجحة فتكون الأخرى مرجوحة والظن لصحة الراجحة أقوى كما أنه بصحة المرجوحة أنقص وقد تبلغ إلى مرتبة لا يبقى للمرجوحة تأثير في تحصيل الظن المعتبر وليس اعتبار مجرد وجود النصاب مقتضيا إلا مع عدم المانع ووجود الشهادة الراجحة من جملة ما يصدق عليه وصف المانعية فاعرف هذا وسيأتي الكلام في تعارض البينات
فصل
واختلاف الشاهدين إما في زمان الإقرار أو الإنشاء أو مكانهما فلا يضر وأما في قدر المقربه فيصح ما اتفقا عليه لفظا ومعنى غالبا كألف مع ألف وخمسمائة (4/204)
لا ألفين وكطلقة وطلقة مع طلقة وأما في العقود ففي صفتها كالخيار ونحوه لا يكمل وفي قدر العوض لا تكمل إن جحد الأصل وإلا ثبتت بالأقل إن ادعى الأكثر وأما في مكان أو زمان أو صفة لفعل قيل أو عقد نكاح فقط أو في قول مختلف المعنى لا كحوالة وكفالة أو رسالة ووكالة بل كباع وهب أقر به أوصى عن بيع عن غصب أو في عين المدعي أو جنسه أو نوعه أو صفته أو قال قتل أو باع أو نحوهما والآخر أقر فيبطل ما خالف دعواه فيكمل المطابق وإلا بطلت
قوله فصل واختلاف الشاهدين إلخ
أقول كل اختلاف يمكن حمله على تعدد الواقعة من غير مانع فلا يضر ومن هذا الاختلاف في زمن الإقرار أو الإنشاء أو مكانهما وأما الاختلاف في قدر المقربه فهو وإن أمكن حمله على تعدد الواقعة لكنه لا يلزم إلا ما اتفقا عليه لأنه الذي تم عليه نصاب الشهادة فإن أمكن تكميل النصاب على الزيادة بأن يشهد شاهد آخر على ما شهد به من شهد بالزيادة أويحلف المدعي كان الواجب العمل بذلك لوجود النصاب المعتبر في الحكم
وأما قوله ويصح ما اتفقا عليه لفظا ومعنى فلا وجه لاعتبار الاتفاق في اللفظ ولا يتعلق به فائدة بل المعتبر الاتفاق في المعنى فقط فلا وجه لما مثل به المصنف مراعيا فيه الاتفاق لفظا ومعنى
وأما قوله وفي العقود إلخ فلا يخفاك أن الإثبات مقدم على النفس لأن الشاهد به شاهد بعلم ونا فيه غاية ما تضمنته شهادته أنه لا يعلم وعدم العلم ليس علما بالعدم (4/205)
فإن كمل المدعي شهادة المثبت بيمينه أو شهد معه شاهد آخر وجب الحكم بذلك وهكذا الكلام في الاختلاف في قدر العوض وهكذا قوله وأما في زمان أو مكان أو صفة لفعل فإنه كما قدمنا إن أمكن الحمل على تعدد الواقعة فذاك ولا يضر الاختلاف وإن لم يمكن فإنه يكون قادحا في الشهادة حتى يتبين الحال
والحاصل أن المعتبر في جميع هذا الفصل هو هذا ولا وجه للفرق بين بعض صوره دون بعض وقد طول المصنف المقال في غير طائل
فصل
ومن ادعى مالين فبين على كل منهما بينة كاملة ثبتا إن اختلفا سبا أو جنسا أو نوعا مطلقا أو صكا أو عددا ولم يتحد السبب أو مجلسا ولم يتحدا عددا وصكا ولا سببا وإلا فمال واحد ويدخل الأقل في الأكثر
قوله فصل ومن ادعى مالين فبين على كل منهما بينة كاملة ثبتا
أقول هذا صحيح ولا يحتاج إلى التنصيص عليه وشغلة الحيز به لوضوحه وظهوره فإن هذا الاختلاف بين المالين في أي هذه الصور يقتضي عدم كونهما مالا واحدا فقد وجب هنا الحمل على التعدد مع عدم الاختلاف وجب حمل البينتين على مال واحد رجوعا إلى البراءة الأصلية مع عصمة أموال المسلمين بالشرع
فصل
وإذا تعارضت البينتان وأمكن استعمالهما لزم وترجح الخارجة ثم الأولى (4/206)
ثم المؤرخة حسب الحال ثم يتهاتران ولذي اليد ثم يقسم المدعى كما مر ويحكم للمطلقة بأقرب وقت في الأصح
قوله فصل وإذا تعارضت البينتان وأمكن استعمالهما لزم الخ
أقول وهذا أيضا مما لا يحتاج إلى تحريره وشغلة الحيز به لأنهما مع إمكان الاستعمال يجب حملهما على ذلك وإنما يكون التناقض مع عدم إمكان الاستعمال وهو حيث يتحد المتعلق مع عدم إمكان تعدد الواقعة
وأما قوله وترجح الخارجة فوجهه أن صاحبها هو المدعي والبينة في الأصل عليه فكانت من هذه الحيثية أرجح وقد قدمنا ما في ذلك فلا نعيده وأما ما ذكره من ترجيح الأولى فلا بد من تقييده بكونها ترفع مضمون الأخرى كأن تشهد الشهادة الأولى بأن مالك هذه العين باعها من فلان ثم تشهد البينة الأخرى بأنه باعها من آخر مع أنه يمكن أن يكون البيع الأول قد عرض له ما يقتضي رده على بائعه بخيار من الخيارات الموجبة للرد وإن كان الأصل خلاف ذلك
وأما ما ذكره من ترجيح المؤرخة فلا أرى له وجها صحيحا لأن المطلقة يمكن أن تكون قبلها ويمكن أن تكون بعدها فينبغي أن ينظر هل يمكن تعدد الواقعة أم لا فإن لم يمكن فالقسمة كما حكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكون من قبيل قوله ثم يتهاتران وأما كونه يكون مع التهاتر لذي اليد فوجهه أنه عمل بالاستصحاب لعدم وجود الناقل الخالص عن المعارض وإن لم يكن لأحدهما عليه يد أو كان في أيديهما فالقسمة فإنها مدرك شرعي كما مر
وأما قوله ويحكم للمطلقة بأقرب وقت فهذا فيه شبهة التحكم فإنها إذا (4/207)
كانت متحملة لأقرب وقت وأبعده وأوسطه كان حملها على أحد محتملاتها حملا بلا مرجح
فصل
ومن شهد عند عادل ثم رجع عنده أو عند مثله بطلت قبل الحكم مطلقا وبعده في الحد والقصاص قبل التنفيذ وإلا فلا فيعزمون لمن غرمته الشهادة أو نقصته أو أقرت عليه معرضا للسقوط ويتأرش ويقتص منهم عامدين بعد انتقاص نصابها وحسبه قيل في الحدود حتى يبقى واحد ثم على الرؤوس وفي المال على الرؤوس مطلقا والمتممة كواحد والنسوة الست كثلاثة ولا يضمن المزكي
قوله فصل ومن شهد عند عادل ثم رجع إلخ
أقول لا وجه للتقييد بكون الشهادة عند عادل ولا يكون الرجوع عنده أو عند مثله بل المعتبر صحة الرجوع بوجه من الوجوه ومع الرجوع تبطل شهادته من غير فرق بين كونها قبل الحكم أو بعده وأي تأثير للحكم مع بطلان مستنده فإن هذا من أعجب ما يقرع سمع من يتعقل الحقائق فضلا عمن هو عالم بالأسباب الموجبة لثبوت (4/208)
أحكام الشرع ولا فرق بين الحد والقصاص وغيرهما فإن كان قد وقع التقييد فلا شك أن الحاكم مغرور من جهة الشهود وهم سبب الجناية على المشهود عليه فيغرمون لمن أصيب بشهادتهم في بدنه أو في ماله أما في البدن فظاهر لأنه قد حل به ما لم يمكن استدراكه إلا بتسليم ديته أو أرشه وأما في المال فلا يغرمون إلا إذا تعذر إرجاع ذلك المال إلى يد مالكه وتعذر الرجوع على من أتلفه بقيمته
وأما ما ذكره من الاقتصاص من الشهود فخبط لا ينبني على حقيقة وذهول عما سيأتي له في الجنايات وما ذكره بعد هذا فهو ظاهر لا يحتاج إلى الكلام عليه
فصل
ويكمل النسب بالتدريج والمبيع بما يعنيه وكذلك الحق وكان له أو في يده بما أعلمه انتقل إن كان عليه يد في الحال والإرث من الجد بتوسط الأب إن لم يتقدم موته والبيع والوصية والوقف والهبة بفعله مالكا أو ذا يد ورزمة الثياب بالجنس والعدد والطول والعرض والرقة والغلظ والوصية وكتاب حاكم إلى مثله ونحوهما بالقراءة عليهم والبيع لا الإقرار به ولا من الشفيع بتسمية الثمن أو قبضه فإن جهل قبل القبض فسخ لا بعده والقول للمشتري وقتله يقينا أو نحوه نشهد وإلا بطلت في الكل
قوله فصل ويكمل النسب بالتدريج (4/209)
أقول سيأتي له أنه يكفي في الشهادة على النسب شهرة في المحلة فإن كان هذا التكميل لا بد منه بحيث لا يحكم الحاكم بالنسب إلا به لم يكن لقوله فيما سيأتي كثير فائدة وإن كان النسب يثبت بدون هذا التكميل لم يكن لتحريره ها هنا فائدة لأنه قد ثبت أصل النسب وهو المراد وقد فرق بين الموضعين بعض المشتغلين بهذا العلم فقالوا إن كفاية الشهادة بالشهرة باعتبار ثبوت الميراث وأما ثبوت النسب فلا يتم إلا بالتدرج ولا يخفى أن هذا فرق ممن لا يفرق بين حقائق الأمور وما يتسبب عنها فإن ثبوت الميراث متسبب عن ثبوت النسب فإذا لم يثبت السبب لم يثبت المسبب وثبوت المسببات بدون ثبوت أسبابها محال
وأما قوله والمبيع بما يعينه فلا وجه له فإن الشهادة على الشيء بدون ما يعينه ليست شهادة على ذلك الشيء بل هي شهادة على ما يحتمله هو وغيره فإن جاء بما يعينه كانت شهادة عليه وإلا فليست بشهادة عليه وهكذا الشهادة على الحق لا فرق بينهما وبين الشهادة على الملك
وأما قوله وكان له أو في يده بما أعلمه انتقل فلا وجه لهذه الزيادة بل الشهادة على أنه كان له أو في يده قد اقتضت استصحاب الحال فلا ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح ومع هذا فقد تقدم للمصنف أنها لا تصح الشهادة على ملك كان
وأما قوله والإرث من الجد بتوسيط الأب فلا فائدة لهذا التكميل لأن إثبات كونه جدا قد اقتضى أن ابن ابنه يرثه ومن ادعى أن ثم مانعا من إرثه له فعليه بيان ذلك المانع
وأما قوله والبيع والوصية والوقف والهبة بفعله مالكا أو ذا يد فلا أرى لهذا التكميل وجها لأنه قد ثبت بالشهادة صدور هذه الأشياء فيحكم على من صدرت عنه حكما مطلقا بأنه فعل ذلك وإذا نوزع المحكوم له كانت خصومة أخرى يرجع فيه إلى البينة من المدعي أو اليمين من المنكر وهكذا ما ذكره بعد هذا (4/210)
والحاصل أن مثل هذه التعريفات ظلمات بعضها فوق بعض وقد جعل الله لعباده عنها سعة فإنها لا تأتي إلا بمجرد التضييق عليهم وتعسير الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها
فصل
ولا تصح على نفي إلا أن يقتضي الإثبات ويتعلق به ومن وكيل خاصم ولا بعد العزل وعلى حاكم أكذبهم ومن تسقط عنهم حقا له كمالك غير مالكهم أو ذي اليد في ولائهم ولغير مدع في حق آدمي محض وعلى القذف قبل المرافعة ومن فرع اختل أصله ولا يحكم بما اختل أهلها قبل الحكم فإن فعل نقض ولو قبل العلم غالبا ولا بما وجد في ديوانه إن لم يذكر وتصح من كل من الشريكين للآخر في المشترك فيفوز كل بما حكم له ولا يتبعض ومن المنهي عن الأداء وممن كان أنكرها غير مصرح وعلى أن ذا الوارث وحده
قوله فصل ولا تصح على نفي إلخ
أقول هذه الشهادة على النفي قد أفادت في الجملة انتفاء ذلك الشيء في علم الشاهد فإن عورض هذا النفي بالإثبات فهو أرجح منه وأقدم لأنه شهادة عن علم وإن لم يعارض هذا النفي فلا وجه للجزم بعدم صحة الشهادة عليه بدون معارض أنهض منه لأنه قد أفاد في الجملة فائدة معمولا بها مع عدم المعارض ولو لم يكن إلا كون هذه (4/211)
الشهادة عاضدة للأصل ومقوية له فإن العدم مقدم على الوجود ولا وجه لتقييد عدم الصحة بقوله إلا أن يقتضي الإثبات فإن هذه الشهادة المقتضية للإثبات هي شهادة إثبات ولا اعتبار بدخول النفي في لفظها لما عرفناك غير مرة أنه لا اعتبار بمجرد الألفاظ وأن ذلك جمود لا يليق بأهل التحقيق
قوله ولا من وكيل خاصم إلخ
أقول إن كان بهذه الخصومة قد صار متهما فقد تقدم عدم قبول شهادة المتهم بالأدلة التي ذكرنا وباشتراط القرآن الكريم أن يكون الشهود عدولا مرضيين والمتهم غير عدل ولا مرضي وإن كان هذا الوكيل بمكان من الثقة والعدالة بحيث لا تؤثر فيه الخصومة تهمة ولا عداوة فلا وجه لرد شهادته لأن نفس تولي الخصومة في حق للغير لا يصلح لكونه مانعا لعدم الدليل على ذلك ولا فرق بين أن يكون الوكيل قد عزل أم لا
قوله وعلى حاكم أكذبهم
أقول مراد المصنف أنهم شهدوا عليه بأنه قد حكم فأكذبهم وعدم صحة هذه الشهادة أوضح من الشمس بحيث لا يفتقر إلى التنصيص عليه لأن الحاكم إذا أنكر الحكم لم يبق مستند لإثبات ما اشتمل عليه أو نفيه ومع هذا فهو يمكن حمل الشهود على حالة سمعوها من الحاكم وتعقب ما يخالفها وعلى كل حال فمع إكذابهم لا يبقى لشهادتهم موضع من الصدق قط فضلا عن العمل بها
قوله ومن يسقط عنهم حقا كمالك غير مالكهم
أقول هذه الشهادة وإن أسقطت عنهم حقا للأول فقد أثبتت عليهم حقا للآخر فمن حيث إسقاطها عنهم حقا للأول كأنهم شهدوا لأنفسهم والشهادة للنفس لا تصح وهكذا الكلام على قوله أو غير ذي اليد في ولائهم
قوله ولغير مدع (4/212)
أقول قد قدمنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما عمادان من أعمدة هذا الدين ولا يتوقف وجوب ذلك على مطالبة ذي الحق لأن الاستيلاء عليه وهو في ملكه غصب ومظلمة له ظاهرة فأقل أحوال من علم بحقيقة الحال أن يخبر من له الحق بذلك أو يخبر من يقدر على إنصافه ورفع مظلمته فالرجوع إلى هذين الأصلين العظيمين يغني عن الرجوع إلى ما تعارض من حديث خير الشهداء الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد وحديث الذم للقوم الذين يشهدون ولا يستشهدون
وأما ما قيل من أن عدم صحة الشهادة لغير مدع مجمع عليه فما أكثر هذه الدعاوى على إجماع المسلمين مع تعسره بل تعذره كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول وهكذا الكلام في قوله وفي حق آدمي محض
قوله ومن فرع اختل أصله
أقول مثل هذا لا يحتاج إلى التنصيص عليه للعلم بأن شهادة الفرع إنما هي في حكم التأدية لشهادة الأصل فاختلال الأصل مستلزم لاختلال فرعه شرعا وعقلا وعادة وإذا حكم الحاكم بشهادة الفرع الذي اختل أصله فحكمه هباء وسراب بقيعة لا يحتاج فيه إلى أن يقال إنه ينقض فإنه لم ينعقد من الأصل
قوله ولا بما هو وجد في ديوانه إن لم يذكر
أقول القاضي مأمور بأن يحكم بحكم الله عز و جل ولا يكون ذلك إلا بإقرار أو شهادة أو يمين فكيف يقع في ذهن من تعرض للتصنيف أنه قد يحكم بما وجد في ديوانه مع عدم الذكر لسبب ذلك الذي وجده وأي مدخل لهذا في الأسباب الشرعية (4/213)
وكيف يظن بقاض من المسلمين أن يحكم بمثل هذا حتى يقال له ولا يحكم بما وجد في ديوانه إن لم يذكر وأي فائدة لذكر مثل هذا ومع ذلك فهو من أحكام القضاء لا من أحكام الشهادات فكان تأخيره إلى باب القضاء أولى ولكن المصنف رحمه الله قد حبب الله إليه في كثير من مباحث هذا الكتاب التطويل والتكرير فإن غالب ما ذكره في هذا الفصل قد تقدم في فصل من لا تصح شهادتهم
وأما قوله ويصح من كل من الشريكين للآخر إلخ فالوجه أنه لا مانع من هذه الصحة لا من رواية ولا من دراية لأن الشريك لم يشهد لنفسه ولا بما له نفع فيه ولا سبب يقتضي اتهامه فكان له عن ذكر مثل هذا سعة وهكذا لا حاجة لقوله ومن المنهي عن الأداء فإن من المعلوم أن نهي المشهود عليه للشاهد أن يشهد عليه لا يقول أحد ممن يعلم بل ممن يفهم أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد بعد هذا النهي حتى يحتاج إلى التنصيص على جواز شهادته
وأما كونها تصح الشهادة ممن كان أنكرها فوجهه أنه قد ينكر سهوا أو نسيانا ثم يذكر لكن إذا صرح بالإنكار وصمم عليه كان ذلك موجبا للريبة في شهادته وهكذا لا حاجة للتنصيص على صحة الشهادة بكون ذا الوارث وحده فإنه لم يقل أحد بعدم قبول هذه الشهادة حتى يحتاج إلى ذكر قبولها وليت شعري أي حامل للمصنف على ذكر هذه المسائل وشغلة الحيز بها وإتعاب الطلبة بالنظر فيها
فصل
ويكفي الشاهد في جواز الشهادة في الفعل الرؤية وفي القول الصوت معها أو ما في حكمها أو تعريف عدلين مشاهدين أو عدلتين بالاسم والنسب وفي النسب والنكاح والموت والوقف والولاء شهرة في المحلة تثمر علما أو ظنا وفي الملك التصرف والنسبة وعدم المنازع ما لم يغلب في الظن كونه للغير ويكفي (4/214)
الناسي فيما عرف جملته والتبس تفصيله الخط
قوله فصل ويكفي الشاهد في جواز الشهادة في الفعل الرؤية
أقول لما كانت الشهادة لا تكون إلا عن يقين ولا يكفي فيها ظن إن كانت المشاهدة في الشهادة على الأفعال متوقفة على الرؤية التي يحصل عندها العلم اليقين وهكذا الشهادة على الأقوال فإنه لا بد فيها من رؤية صاحب القول وسماع صوته إلا أن يكون الشاهد ممارسا لذلك القائل بحيث يعلم علما يقينا أن القول قوله ولا يمترى في ذلك لوجه فإنه لا يحتاج حينئذ إلى مشاهدة القائل
وأما قوله وتعريف عدلين إلخ فهذا مما لا بد منه إذا كان الشاهد لا يعرف المشهود عليه معرفة تميزه عن غيره وإن كان يعرفه كان ذلك مغنيا عن التعريف
قوله وفي النسب والنكاح إلخ
أقول ولا بد للشاهد بهذه الأمور من تصريحه بأن مستنده في شهادته هو مجرد الشهرة ووجه هذا أن الشهرة مستند ضعيف فإذا عورضت بما هو أقوى منها لم يبق حكم فكم من شهرة تنشأ عن مجرد كذب كاذب وهزل هازل وقد يحصل للسامع لها ظن لكثرتها فينكشف لخيال كاذب
وأما قوله وفي الملك التصرف والنسبة وعدم المنازع فهذه الثلاثة الأمور وإن كانت صالحة للشهادة لكن لا على جهة الإطلاق بل يقيد ذلك بأنه لا بد من تصريح الشاهد بأنها مستنده للقطع بأن الشهادة على أن ذلك الملك ملك لفلان علم الشاهد بأنه ورثه من أبيه أو اشتراه من فلان أو وهبه له فلان أقوى من الشهادة المستندة إلى تلك الأسباب ولهذا قال المصنف ما لم يغلب في الظن كونه للغير
قوله ويكفي الناسي فيما عرف جملته والتبس تفصيله الخط (4/215)
أقول هذا صحيح إذا كان الخط مما يصلح للعمل به كأن يكون خطا للشاهد الذي لا يحتمل عنده زيادة ولا نقصان أو كان بخط من هو معروف الخط بحيث لا يقبل الشك ولا التشكيك فإن كان هكذا فلا بأس بالرجوع في التفاصيل إليه وإن لم يكن هكذا شهد بالجملة وترك التعرض للتفصيل فإن التعرض لذلك تعرض لما هو محل شك والشهادة لا تحل على مثل ذلك (4/216)
- كتاب الوكالة (4/217)
فصل لا تصح الاستنابة في إيجاب ويمين ولعان مطلقا وقربة بدنية إلا الحج لعذر ومحظور ومنه الظهار والطلاق البدعي ولا في إثبات حد وقصاص ولا استيفائهما إلا بحضرة الأصل وفي الشهادة إلا الإرعاء ولا في نحو الإحياء وما ليس للأصل توليه بنفسه في الحال غالبا
قوله فصل لا يصح الاستنابة في إيجاب الخ
أقول عللوا ذلك بأن القربة البدنية لا تصح إلا من المتقرب وهذه دعوة مجردة فقد صح عنه صلى الله عليه و سلم من مات وعليه صوم صام عنه وليه وحديث الخثعمية حيث قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته وحديث حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة وفي الباب واقعات مشعرة بأصل الجواز فلا يمتنع من ذلك إلا ما دل عليه دليل وهو أيضا الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند عدم الدليل فإن من صح منه فعل شيء بنفسه جاز له أن يستنيب غيره إلا أن يرد ناقل ينقل عن هذا الأصل ثم المصنف ومن وافقه على المنع يقولون بجواز الاستنابة في تفريق الصدقة والزكاة مثلا وهذا التفريق هو نفس القربة لا مجرد إيقاع العزم عليه أو النذر به (4/219)
فالحاصل أن للناذر أن يستنيب من ينذر عنه وللواهب هبة لا عوض فيها أن يستنيب من يهب عنه وللمعتق أن يستنيب من يعتق عنه ونحو هذه الأمور فمن ادعى المنع من شيء من هذه الأمور فعليه الناقل عن الأصل ومما يدل على هذا الجواز دلالة واضحة بعث من ينوب في الجهاد وتجهيز من يجاهد ونحو ذلك وقد قدمنا في مواضع التنبيه على هذا
وأما قوله ويمين فالوجه ظاهر لأن الاستنابة في ذلك لا تتيسر بوجه ولا يجري في مثلها حكم وهكذا قوله ولعان لأنه نوع من الأيمان
وأما قوله وقربة بدنية إلا الحج لعذر فمبني على أن الأصل عدم جواز الاستنابة فيها وقد عرفت ما فيه
وأما قوله ومحظور فوجهه أنه لا يحل للموكل أن يفعل ذلك بنفسه فكيف يحل له أن يوكل غيره
وأما إيقاع الظهار والطلاق فليس للمنع وجه وإن كان الظهار منكرا من القول وزورا والطلاق البدعي منهيا عنه لكنه يلزمه حكمه إذا فعله بنفسه فكذلك يلزمه حكمه إذا وكل من ينوب عنه فيه وهكذا لا مانع من التوكيل في إثبات الحد والقصاص ولا من التوكيل لاستيفائها سواء حضر الأصل أو غاب وكيف لا يصح هذا وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث من يقتل المؤذين له من رؤساء الكفر في غير واقعة وذلك استيفاء حد قد وجب عليهم وحلت به دماؤهم لأنهم كانوا من اليهود وهكذا بعث عليا يقتل الذي كان يدخ ل على أمهات المؤمنين فوجده مجبوبا وكذلك بعث أنيسا فقال واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجم (4/220)
وأما المنع من الاستنابة في تأدية الشهادة إلا على طريقة الإرعاء فقد تقدم بيان الكلام فيه ولا وجه لمنع الاستنابة في الإحياء للفرق بين أن يباشر الشيء قاصدا تملكه وبين أن يباشره قاصدا أن يتملكه غيره
وأما قوله وفيما ليس للأصل توليه بنفسه فصحيح ووجهه ظاهر لأن الاستنابة متفرعة عن ثبوت تولي الأصل لذلك الشيء وإذا كان ممنوعا منه فمنع التوكيل منه ثابت بفحوى الخطاب إلا ما احترز عنه من توكيل المرأة من يزوجها فإنه قد ورد الشرع بذلك كما تقدم
فصل
وتصح فيما عدا ذلك من كل أحد لكل مميز إلا امرأة ومحرما ومسلما أصله ذمي في نكاح وكافرا أصله مسلم فيه أو في مضاربة وتصح معلقة ومشروطة ومؤقتة وبلفظها أو بلفظ الأمر أو الوصية في الحياة وتبطل بالرد ولا يعتبر القبول باللفظ
قوله فصل وتصح من كل أحد إلخ
أقول كان يغني عن هذا التكثير أن يقول المصنف يصح من كل من يجوز له تولي الشيء لمن يجوز له توليه ومع كون هذا الاختصار يغني عن هذا التطويل فهو يغني أيضا عما تقدم من قوله ومحظور ومن قوله وفيما ليس للأصل توليه بنفسه
وأما قوله وتصح معلقة فوجه ذلك عدم وجود مانع وهكذا قوله ومشروطة ومؤقتة
وأما قوله وبلفظها أو بلفظ الأمر أو الوصية في الحياة فوجهه ظاهر بل ويصح بغير ذلك مما يفيد الاستنابة كائنا ما كان ولو بإشارة من قادر على النطق (4/221)
وأما كونها تبطل بالرد فلكون الوكيل لا يجب عليه الدخول في ذلك فله عزل نفسه متى شاء وإذا انعزل فلا يعود وكيلا إلا بتراض آخر وهو معنى التجديد ولهذا لا يعتبر القبول باللفظ
فصل
ويملك بها الوكيل القابض جائز التصرف إن لم يضف كل حق في عقد البيع والإجارة والصلح بالمال فلا يتولاها الأصل إلا بإذنه وكذلك الوصي والولي غالبا لا ذو الولاية إلا لأجلها
قوله فصل ويملك بها الوكيل إلخ
أقول قد عرفناك غير مرة أن الاعتبار بالمقاصد لا بالألفاظ فإنها ليست إلا لإفادة المعنى المراد فإذا كان البائع أو المشتري وكيلا لغيره قاصدا أنه للموكل فسواء وقعت منه الإضافة لفظا أو لم تقع لأنه قائم مقام غيره لا مقام نفسه وحينئذ فلا يتعلق به شيء من الحقوق ولا يتولى شيئا منها إلا ما كان داخلا في مطلق الإذن بتولي ذلك الشيء ولا فرق بين تصرف وتصرف وعقد وعقد وليس في هذا التعلق رواية ولا دراية وأما الوصي فقد لزمه مع كونه نائبا عن ميت أن يقوم لما تضمنته الوصاية وبما يتعلق بها حتى يخلص ماله وعليه وهكذا الولي لكونه نائبا عمن لا يصح تصرفه لنفسه وأما ذو (4/222)
الولاية فعليه أن يفعل ما يتعلق بولايته ولا يجاوزه إلى غيره ولا يلزمه سواه واعلم أن ذكر الوصي والولي وذي الولاية هاهنا خارج عن مباحث الوكالات
فصل
وينقلب فضوليا بمخالفته المعتاد في الإطلاق وما عين مما يتعين عقدا أو قدرا أو أجلا أو جنسا أو نوعا أو غرضا إلا زيادة من جنس ثمن عين للمبيع أو رخص أو استنقاد إلا أن يأمره بنسيئة مفسدة وله الحط قبل القبض فيعزم ولو اشترى من يعتق عليه أو على الأصل المطلق عتق وفي الضمان تردد وما لزمه أو تلف في يده فعلى الأصل إلا ثمنا قبضه منه بعدما اشترى ولا يضمن إن جحد المشتري البيع والمبيع
قوله فصل وينقلب فضوليا بمخالفة المعتاد إلخ
أقول هذا صحيح لأن الوكيل لم يفعل ما قصده الموكل فإن المعتاد في عرفهما هو المقصود في الوكالة مع الإطلاق فالمصير إلى غيره مخالفة ظاهرة لا يلزم وكيلا ولا موكلا أما الوكيل فظاهر لأنه لم يقصد التصرف لنفسه وأما الموكل فلكونه لم يرد ما فعله الوكيل
وأما مخالفته لما عينه الموكل من هذه الأمور فالأمر فيه أوضح إلا أن يخالف عادلا إلى شيء فيه مصلحة خالصة لا يتعلق بما يخالفها غرض للموكل كما قال المصنف إلا زيادة من جنس ثمن عين للمبيع فإنه ها هنا قد فعل ما أمر به وزاد خيرا وهكذا قوله أو رخص وقد فعل ذلك من أمره النبي صلى الله عليه و سلم بأن يشتري له أضحية بدينار فاشترى كبشين بدينار وباع أحدهما بدينار ورجع إلى النبي (4/223)
صلى الله عليه و سلم بالدينار والكبش وهو عروة البارقي فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم هذا الحديث وهكذا الاستنقاد إلا أن يتعلق للموكل غرض بالنسيئة كما ذكر المصنف فعلى الوكيل مطابقة غرضه لأنه متصرف عنه وليس للوكيل حط ولا إبراء ولا هو مأذون بذلك ففعله كا لعدم وهكذا لا يصلح منه شراء من يعتق على الموكل لأنه مأمور بما فيه نفع لا بما فيه ضرر على الموكل وأما شراء الوكيل من يعتق نفسه فهو لا يعتق عليه لأن الشراء لغيره والملك ملك غيره فالعجب من الجزم بأنه يعتق والذي أوقعهم في هذا أنهم قالوا إنه يدخل في ملك الوكيل لحظة مختطفة وهذه دعوى ليس عليها أثارة من علم وقد أوقعهم ذلك فيما تقدم من قولهم إنها تتعلق به الحقوق حتى فرعوا على ذلك ما يضحك منه وهو قولهم فلا يتولاه الأصل إلا بإذنه فسبحان الله وبحمده ما يفعل الرأي بأهله بل ما تفعله المجازفة بمن لم يتورع عنها
فصل
ولا يصح تصرفه قبل العلم عكس الوصي والمباح له ولا فيما رد عليه ولو بحكم ولا يلزم الأصل زيادة المشتري والقول للأصل في نفيها وفي القدر وإذا نوى الوكيل لنفسه في مشترى ونحوه عينه الأصل فللأصل ما لم يخالفه الفرع لا المنكوح ونحوه ويشتري ما يليق بالأصل من عين له الجنس إن عين له النوع أو الثمن وإلا لم تصح ولا تكرار إلا بكلما م ومتى ويدخلها التحبيس والدور واقبض كل (4/224)
دين وغلة تتناول المستقبل عكس العتق والطلاق ويصدق في القبض والضياع
قوله فصل ولا يصح تصرفه قبل العلم
أقول كان الأولى على مقتضى ما يقرره المصنف في سائر المسائل من اعتبار الانتهاء أن يصح تصرف الوكيل قبل العلم وأما ما قيل إنه يصح تصرفه فضوليا ويلحق الإجازة فهذا لا يرد على المصنف لأن مراده أنه لا يصح تصرفه قبل العلم بالوكالة تصرف الوكلاء وأما كونه تصرف فضولي وتلحقه الإجازة فهو بحث آخر وكان ينبغي للمصنف أن لا يفرق بين الوكيل والوصي والمباح له لأنه لا وجه لاعتبار الانتهاء في البعض دون البعض فإن الوصي متصرف بالنيابة عن الميت والوكيل متصرف بالنيابة عن الحي واختلاف اللوازم في بعض الحالات لا يدل على اختلاف الملزومات من كل وجه حتى يكون للوصي ولاية دون الوكيل
وأما كونه لا يصح تصرفه فيما رد عليه فوجهه أنه لا يوكل إلا لمجرد التصرف وقد فعل وانعزل بفعله ما وليه فالتصرف فيما رد عليه يحتاج إلى إذن آخر
قوله ولا يلزم الأصل زيادة المشترى
أقول إن كان المشترى من الجنس الذي عينه الموكل للوكيل فقد حصل غرض الموكل بالقدر الذي عينه وإن كان في الزيادة مصلحة له لكنه قد يكون ثمنها أحب إليه من الزيادة على المعين فيأخذ ما عينه بقدر قيمته من الثمن المدفوع إلى الوكيل ويسترد الزيادة
وأما كون القول قول الموكل في نفي الوكالة فوجهه أن الأصل عدمها فالقول قول نافيها وهكذا يكون القول قوله في قدر ما وكله بشرائه وفي قدر ثمنه لأن نافي الزيادة منكر للإذن بها والأصل عدمها وعدم الإذن بها
قوله وإذا نوى الوكيل لنفسه فيما عينه الأصل فللأصل (4/225)
أقول هذا مبني على أن تعيين الأصل يقتضي أنه أحق به وليس ذلك بصحيح لأنه ليس بسبب من أسباب الملك ولا من أسباب كونه أحق به فإذا حصل التراضي بين البائع والوكيل بالبيع إلى الوكيل كان للوكيل ولا يلزم الوكيل امتثال أمر الموكل كما لا يلزم البائع أن يبيع من الموكل ففي جعل تعيين الأصل بهذه المنزلة التي ذكرها المصنف تسامح ولا فرق في هذا بين المنكوح وغيره ولا مستند للفرق إلا خواطر أوهام هي أضغاث أحلام
قوله ويشتري ما يليق بالأصل من عين له الجنس
أقول إذا كان الوكيل عالما بما يليق اشترى له ما يليق به في الوكالة المطلقة وليس ذلك بلازم للموكل إلا إذا وجده موافقا لغرضه وأما اشتراط تعيين النوع أو الثمن وإلا لم تصح الوكالة فليس لذلك وجه مع أنه تقدم للمصنف أنه يصح التبايع فيما علم جنسا ونصيبا
والحاصل أن هذا الاشتراط هو من الخيال الذي قدمنا لك وما المانع من أن يوكله بأن يشتري له شاة من دون تعيين نوعها ولا ثمنها فإن جاء بها موافقة لغرض الأصل فذاك وإلا كانت ردا على صاحبها
وأما قوله ولا تكرار إلا بكلما إلخ فقد قدمنا لك الكلام على هذا في الطلاق المشروط فارجع إليه وهكذا قدمنا الكلام في التحبيس والدور فلا نعيده لأن المتقضى والمانع في الموضعين لا يختلفان
وأما قوله ولقبض كل دين وغلة يتناول المستقبل فالظاهر أنه يتناول كل ما لم يقبضه الموكل من الديون والغلات عملا بما يفيده هذا العموم ومن ادعى التخصيص ببعض ما يفيده فعليه التخصيص بمخصص يحتمله كلام المتكلم وذلك كالعتق والطلاق فإن الظاهر أن الموكل لا يريد باللفظ العام إلا من يصح عتقه وطلاقه في الحال فإن كان ثم عرف للموكل يقتضي ما هو أوسع من ذلك كان العمل عليه وقد يقال إنه إنما لم يتناول (4/226)
العتق والطلاق لمن لم يكن من مماليك الموكل ولا من زوجاته في حال الوكالة لأنه لا يصح من الأصل أن يعتق من لم يكن في ملكه ولا يطلق من لم تكن قد دخلت في نكاحه وإذا لم يصح ذلك من الأصل لم يصح من الوكيل كما تقدم أنه لا يصح التوكيل فيما ليس للأصل توليه بنفسه
فصل
ويصح أن يتولى طرفي ما لا يتعلق به حقوقه مضيفا وإلا لزمه أو بطل والخصومة وإن كره الخصم أو لم يحضر الأصل وله تعديل بينة الخصم والإقرار مطلقا والقبض فيما تولى إثباته والنكول فيه كالإقرار لا الصلح والتوكيل والإبراء وتعدي الحفظ من وكيل المال إلا مفوضا في الجميع ولا ينفرد أحد الموكلين معا إلا فيما خشي قوته إن لم يشترط الإجتماع قوله فصل ويصح أن يتولى طرفي ما لا يتعلق به حقوقه
أقول قد قدمنا لك أن تعلق الحقوق بالوكيل لم يرد ما يقتضيه من رواية ولا دراية وحينئذ يصح من الوكيل أن يتولى الطرفين في كل شيء فإن كان قاصدا بذلك أنه لمن وكله كان له وإن كان قاصدا بذلك أنه لنفسه كان لنفسه ولا مانع يمنع من هذا لا من شرع ولا عقل كما قدمنا
وأما قوله والخصومة وإن كره الخصم أو لم يحضر الأصل فليس للتنصيص على مثل هذا إلا توسيع الدائرة وتطويل المسافة فإن هذا معلوم ولم يقل أحد أنه (4/227)
يشترط أن يكون الخصم راضيا بالوكيل ولا قال أحد إن خصومة الوكيل لا تصح إلا مع حضور الموكل فأي فائدة لذكر مثل هذه الأمور وما أظنه يصح عن أبي حنيفة ما روي عنه من الاشتراط فإن رأيه الذي يبني عليه كثيرا من مسائله هو أرفع قدرا من هذا
وأما كونه يصح من الوكيل تعديل بينة الخصم فظاهر لعدم المانع وأما كونه يصح منه الإقرار على الموكل فخطل من القول وزائف من الرأي فإنه إنما وكل بالخصومة والمدافعة لا بالإقرار على موكله ما لم يأذن له الموكل بذلك لا كما قالوا إنه يصح منه الإقرار ما لم يحجر وأعجب من هذا تنزيل المصنف للمنكول منه منزلة الإقرار فيالله العجب من إهدار أموال العباد بما لا تستحل به من الأسباب
وأما كون إليه القبض فيما تولى إثباته فالقبض أمر زائد على ما وكل به وهو الإثبات فلا يدخل تحته إلا لعرف أو لقرينة تفيد ذلك والعجب من المصنف حيث يصرح بمنع الوكيل من الصلح والتوكيل مع تجويزه لإقراره والحال أن الصلح فيه معارضة والتوكيل ليس فيه تفويت ملك الموكل كما يحصل تفويته بالإقرار من غير عوض وهل هذا إلا شبيه بالتشهي وتحرير مسائل الفقه كيفما اتفق وعلى ما يقود إليه الذهن ويجري به القلم
نعم لا يصح من الوكيل صلح ولا توكيل ولا إبراء لأنه لم يؤمر بذلك إلا إذا كان مفوضا تفويضا يشمل هذه الأمور شمولا ظاهرا لأن بعضها فيه إضرار بالموكل محض وهو الإبراء وبعضها فيه إضرار بالموكل دون إضراره بالإبراء وهو الصلح وبعضها مظنة لعدم صدور الخصومة على ما لا يريده الموكل وهو توكيل الوكيل ولكن الشأن في تصحيح الإقرار من الوكيل من غير شرط والظاهر أن تفويض الموكل ينصرف إلى ما فيه نفع له محض ومصلحة خالصة ولا ينصرف إلى غير ذلك ومثل هذا هو الذي يريده كل عاقل لما يفعله من التفويض (4/228)
وأما قوله ولا ينفرد أحد الموكلين إلخ فإن كان مقصد الموكل الاجتماع بقرينة حال أو مقال كان تصرف أحدهما منفردا غير صحيح ولو فيما يخشى فوته إلا أن يعرف أنه يأذن بالانفراد في مثل ذلك وإن لم يكن له مقصد بالاجتماع كان لكل واحد منهما أن يتصرف فيما أطلقه لهما أو عينه فإن اختلفا لم ينفذ تصرف أحدهما حتى يتفقا أو بأذن الموكل بما فعله أحدهما
فصل
ولا انعزال لوكيل مدافعة طلبه الخصم أو نصب بحضرته أولا وقد خاصم إلا في وجه الخصم وفي غير ذلك يعزل ولو في الغيبة ويعزل نفسه في وجه الأصل كفي كل عقد جائز من كلا الطرفين أو من أحدهما وينعزل أيضا بموت الأصل وتصرفه غير الاستعمال ونحوه وبردته مع اللحوق إلا في حق قد تعلق به ويكفي خبر الواحد وبفعله ما وليه ويلغو ما فعل بعد العزل والعلم به مطلقا وقبل العلم إلا فيما يتعلق به حقوقه أو أعاره أو أباحه أو ما في حكمهما قيل وتعود بعود عقله وتصح بالأجرة ولوكيل الخصومة ونحوها حصة ما فعل في الفاسدة ومن المقصود في الصحيحة
قوله فصل ولا انعزال لوكيل مدافعة الخ (4/229)
أقول لا تأثير لطلب الخصم ولا لنصبه في حضرته ولا لوقوع مجرد الخصومة في المنع من العزل إلا في وجه الخصم وليس على هذا أثارة من علم بل لا يصلح هذا التفريع على مجرد رأي بعقل واجتهاد يقبل وما ذكره من تعليل هذا الكلام من أن عزله يضر بالخصم ويؤدي إلى ألا تستقر خصومة فتعليل عليل وكلام قليل التحصيل فله أن يعزله متى شاء سواء كان قد خاصم أو لم يخاصم وسواء طلبه الخصم أو لم يطلبه وسواء نصب في حضرته أو في غيبته سبحان الله وبحمده ما لنا ولطلب الخصم وللنصب بحضرته وأي جدوى لتكليف عباد الله بهذه الخزعبلات
وهكذا ما ذكره من أن الوكيل لا يعزل نفسه إلا في وجه الأصل ليس له وجه بل يعزل نفسه متى شاء ويكفي توقفه عن المخاصمة باعثا للموكل على نصب وكيل آخر أو تولي الخصومة بنفسه وهذا الاستطراد بقوله كفي كل عقد إلخ مع كونه أجنبيا عن المقام لا يتعلق به كثير فائدة
قوله وينعزل بموت الأصل
أقول هذا صحيح لأن الموكل إنما جعله نائبا عنه في حياته لا بعد موته وهكذا قوله وتصرفه لأنه قد تولاه الأصل بنفسه فلم يبق للفرع معه حكم وهكذا تبطل الوكالة برده الموكل لأنه قد صار مباح الدم والمال فكيف يخاصم الوكيل عمن قد صار كذلك
وأما قوله إلا في حق تعلق به فقد قدمنا عدم تعلق الحقوق بالوكيل على كل حال
وأما قوله ويكفي خبر الواحد فالأمر في مثل هذا ظاهر فقد كفى خبر الواحد في التكاليف التي تعم بها البلوى فكيف لا يكفي في عزل وكيل عن الخصومة
وأما قوله وبفعله ما وليه فوجهه أنه قد فرغ مما أمر به وليس للتنصيص (4/230)
على مثل هذا فائدة فإن الوكالة هي خاصة بهذا الأمر الذي قد فعله فلا يحتاج إلى بيان أنه قد انعزل بفعله وأما كونه يلغو ما فعله الوكيل بعد العزل فظاهر سواء علم به أو لم يعلم لأن الاعتبار بالانتهاء ولا وجه لما استثناه من قوله إلا فيما يتعلق به حقوقه لما قدمنا وهكذا لا وجه لاستثنائه بقوله أو أعاره أو أباحه أو ما في حكمهما لأنه بالعزل قد بطل ما عمله وإذا كان قد استهلك المباح له ما وقعت فيه الإباحة واستعمل ما وقعت فيه الإعارة فلا ضمان عليهما لأنهما مغروران من جهة الوكيل ولا ضمان على الوكيل لأنه مغرور من جهة الموكل لكونه باقيا على استصحاب الوكالة وعدم ارتفاعها
وأما قوله قيل وتعود بعود عقله فلا وجه له لأن الشيء إذا ارتفع لم يعد إلا بتجديد وأما كون الوكالة تصح بالأجرة فظاهر لأنها ليست من القرب التي يقال فيها ما قيل في أجرة القائمين بالقرب وما ذكره من أنه يستحق حصة ما قد فعله فذلك صحيح ولا فرق بين الصحيحة والفاسدة على فرض صحة اتصاف بعض وكالات الخصومة بالصحة وبعضها بالفساد ولا وجه لذلك بل يستحق حصة ما فعل من الأجرة المسماة ويستحق مع عدم التسمية أجرة مثله من الوكلاء في مثل تلك الخصومة (4/231)
باب والكفالة
تجب إن طلبت ممن عليه حق لا في حد وقصاص إلا تبرعا ببدنه أو قدر المجلس في حد القذف كمن استحلف ثم ادعى بينة وتصح بالمال عينا مضمونة أو دينا وبالخصم ويكفي جزء منه مشاع أو يطلق على الكل وتبرعا ولو عن ميت معسر ولفظها تكفلت وأنا به زعيم ونحوهما وهو علي في المال وتصح معلقة ومؤقتة ومشروطة ولو بمجهول لا مؤجلة به إلا أن يتعلق به غرض كا لدياس ونحوه لا الرياح ونحوه فتصير حالة مسلسلة ومشتركة فيطلب من شاء
قوله باب والكفالة تجب إن طلبت ممن عليه حق
أقول الواجب الأصلي هو قضاء ما لزم بوجه الشرع فصاحب الحق يطالب من هو عليه بتسليمه وليس عليه أن يقبل الضمين حتما بل يجب إنصافه بالتسليم فإن تعذر لإعسار وجب الإنظار كما حكم به الله عز و جل وإذا طلب أن يمهله صاحب الحق مدة وكان الوفاء متعذرا في الحال إما لبعد ماله أو لعدم نفاقه في الحال كان (4/232)
الإمهال متوجها لأنها اقتضته الضرورة ولصاحب الحق أن يتوثق من غريمه برهن أو ضمين إن طلب ذلك وهكذا إذا كان من عليه الحق متمكنا من التسليم في الحال بلا مانع ورضي من له الحق بإمهاله مدة مع التوثق بضمين كان هذا إليه لأن مالك المال له التضييق في التسليم مع الإمكان وله التنفيس على من عليه الحق بالتأجيل هكذا ينبغي أن يقال وأما الكفالة بالوجه فلا معنى لها إلا وجوب إحضار المكفول عليه عند الحاجة إلى إحضاره وسيأتي حكمه إذا تعذر الإحضار فيصح الكفالة بوجه من عليه حد أو قصاص بهذا المعنى فيطالب الكفيل بإحضاره وسيأتي أنه لا حبس إن تعذر إحضاره
وأما قوله كمن استحلف ثم ادعى بينة فقد تقدم الكلام على هذا في قوله ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة إلخ وإنما ذكره هنا لبيان أن لصاحب الحق الذي زعم أن له بينة أن يطلب من الحالف كفيلا في المجلس حتى يأتي ببينته وليس للتنصيص على هذا كثير فائدة وقد قدمنا أنه انقطع الحق باليمين فلا تقبل البينة بعدها
قوله ويصح بالمال عينا مضمونة أو دينا
أقول أما صحتها بالمال فظاهر وأما اشتراط أن تكون العين مضمونة فينبغي أن يقال أن يكون ردها واجبا على من هي في يده وإن لم تكن مضمونة فإذا كان الرد واجبا كانت الكفالة صحيحة ويجب الرد على الكفيل كما يجب على المكفول عليه فإن تلفت كان لها حكم ما تلف من الأعيان التي لا تضمن ولاشك في صحة الضمانة بتسليم الدين وليس في ذلك نزاع
قوله وبالخصم
أقول هذه الكفالة بالوجه مما يصدق عليها معنى مطلق الكفالة ويصدق على الكفيل أنه زعيم فيلزمه ما يلزم الزعيم إذا تعذر إحضار المكفول بوجهه وهو قوله (4/233)
صلى الله عليه و سلم الزعيم غارم كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة ولا وجه لتضعيف الحديث بإسماعيل بن عياش فهو إنما يضعف في روايته عن الحجازيين وهو في روايته عن الشاميين قوي وقد روى هنا عن شامي وهو شرحبيل بن مسلم وللحديث طرق وله في النسائي طريقان من رواية غير إسماعيل بن عياش وقد صحح أحدهما ابن حبان
فكفيل الوجه إذا تعذر عليه إحضار من تكفل بوجهه لزمه ضمان ما عليه بهذا الحديث إن كان الذي عليه مما يتعلق بالمال لا إذا كان مما يتعلق بالدين فعليه السعي في تحصيله حتى يتعذر ذلك لكل وجه وسيأتي تمام الكلام في ضمين الوجه لكنك قد عرفت بهذا أن كفالة الوجه تنول إلى ضمان المال وأن الحق قول من قال بذلك للدليل المذكور
وأما قوله ويكفي ذكر جزء منه مشاع أو يطلق على الكل فظاهر
قوله وتبرعا ولو عن ميت معسر
أقول وجهه أنه أدخل نفسه فيما يخشى من عاقبته التضمين فلزمه الضمان بقوله صلى الله عليه و سلم الزعيم غارم وقد دل الدليل على صحة الكفالة عن الميت المعسر كما أخرجه البخاري وغيره من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بجنازة ليصلي عليها فقال هل على صاحبكم من دين فقالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة هما علي يا رسول الله فصلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم زاد أحمد والدارقطني والحاكم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له لما قضى دينه الآن بردت عليه جلدته وقد روي من طرق وفيها اختلاف في قدر الدين وقد تقرر بأصل الحديث صحة الضمانة
قوله ولفظها الخ (4/234)
أقول قد عرفناك أن الاعتبار بما يفيد المعنى ولو بإشارة والمرجع في المدلولات إلى الأعراف لأن المتكلم يتكلم بما يقتضيه عرفة
وأما قوله وهو علي في المال فإن كان هذا بيانا لعرف عرفه المصنف فلا حجة في أعراف قوم على قوم آخرين وإن كان بيانا للمدلول اللغوي فالظاهر عدم الفرق بين المال والبدن لأن معنى هو على في المال تسليمه وهو علي في البدن تحصيله وإحضاره ومع هذا فلا يرجع إلى المدلولات اللغوية إلا إذا لم توجد الأعراف
وأما كونها تصح مؤقتة ومشروطة فوجهه ظاهر لأن الكفيل أن يشترط لنفسه ما شاء ولا وجه للفرق بين الوقت والشرط وبين الأجل في التعليق بالمجهول بل الكل سواء سواء تعلق به غرض كالدياس ونحوه أو لم يتعلق به غرض كا لرباح ونحوه ولا يرجع مثل هذا الفرق إلى رواية ولا دراية لأن تعلق الغرض وعدمه أمر خارج عن التعليق الذي يجوز للكفيل أن يجعله لنفسه ويقيد ما يلزمه من الضمان وصاحب الحق بالخيار إن شاء رضي لذلك وقبله وإن شاء امتنع منه
وأما قوله وتصح مسلسلة فوجهه أن الكفيل قد صار عليه من الحق ما على المكفول عليه فتصح الكفالة عليه كما تصح على المكفول عليه الأول وهكذا الاشتراك في الكفالة لا مانع من صحته ولا من ثبوت الطلب للمكفول لمن شاء من الكفلاء لأن الحق متوجه على كل واحد منهم بموجب كفالته
فصل
ويحبس حتى يفي أو يغرم ولا يرجع كفيل الوجه بما غرم لكن له طلب التثبيت للتسليم ولا حبس إن تعذر قيل وأن يسترد العين إن سلم الأصل (4/235)
قوله فصل ويحبس حتى يفي أو يغرم
أقول إذا تقررت الكفالة كان للحاكم أن يقطع من ماله بقدر ما لزمه من غير حبس فإن لم يمكن الحاكم ذلك لبعد ماله أو تغلبه عليه كان له أن يحبسه أو يأمر غريمه بملازمته حتى يتخلص مما عليه ولا فرق في هذا بين كفيل الوجه إذا تعذر عليه إحضار المكفول بوجهه وبين كفيل المال كما قدمنا ولا وجه لقوله ولا يرجع كفيل الوجه بما غرم بل يرجع به لأنه غرم لحقه بسببه فيرجع كما يرجع كفيل المال
وأما قوله ولكن له طلب التثبيت للتسليم يعني كفيل الوجه فوجهه ظاهر لأنه لا يجب عليه تسليم ما لم يتقرر بحكم الشرع
وأما قوله ولا حبس فقد قدمنا أن حكمه حكم كفيل المال في الضمان والحكم عليه بالتسليم أو القطع من ماله أو الحبس أو الملازمة ووجه ذلك حديث الزعيم غارم على التقرير الذي قررناه في معناه
وأما قوله وأن يسترد العين إن سلم الأصل فهذا صواب لأنه بتسليم الأصل قد وفى بما عليه فيرجع بما سلمه سواء كان عينا أو نقدا فإن تلف رجع به على من سلمه إليه فإن أعسر رجع به على المكفول عليه لأنه غرم لحقه بسببه
فصل
وتسقط في الوجه بموته أو تسليمه نفسه حيث يمكن الاستيفاء وفيهما بسقوط ما عليه وحصول شرط سقوطها وبالإبراء أو الصلح عنها ولا يبدأ الأصل إلا في الصلح إن لم يشترط بقاؤه وباتهابه ما ضمن وله الرجوع ويصح معها طلب (4/236)
الخصم ما لم يشترط براءته فتنقلب حوالة
قوله فصل وتسقط في الوجه بموته
أقول وجه هذا أنه قد فات وتعذر الوفاء بأمر من جهة الله عز و جل لا بسبب من الكفيل ولا بسبب من المكفول عليه فلا يجب عليه ما لا يدخل تحت قدرته
وأما قوله وتسليمه نفسه فظاهر لأنه بذلك قد وفى بما كفل به وفعل ما عليه وهكذا إذا حصل شرط سقوطها لأنه قد خرج عن الكفالة بمجرد حصول هذا الشرط وهكذا الإبراء لأن ما على الكفيل في الوجه والمال قد سقط بإبرائهما وبقبول الصلح منهما ومثل هذه الأمور في غاية الوضوح ليس في التنصيص عليها كثير فائدة
وأما كونه يبرأ الأصل في الصلح إن لم يشترط بقاؤه فلا وجه لتخصيص هذه الصورة بل لا يبرأ الأصل إلا باشتراط الكفيل لبراءته وإلا كان لصاحب الحق مطالبته على القدر المصالح به وهكذا تسقط الكفالة باتهاب الكفيل لما ضمنه لأنه بهذه الهبة قد أسقط عنه الضمان وإذا كان الموهوب للكفيل باقيا عند المكفول عليه فللكفيل أن يأخذه منه لأنه قد صار في ملكه
قوله ويصح معها طلب الخصم
أقول وجه هذا أن أصل الحق عليه وإسقاطه عن الكفيل لا يستلزم إسقاطه عن المكفول عليه لا شرعا ولا عقلا ولا عادة وأما الاستدلال على عدم المطالبة للأصل بقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث السابق الآن بردت عليه جلدته (4/237)
ففرق بين الكفالة على ميت معسر قد تعذر الرجوع عليه وتعذرت عليه وجوه المكاسب وتعذر تعلق الضمان به وبين حي صحيح كاسب يتملك ويتعلق به الضمان وغيره
وأما اشتراط الكفيل براءة المكفول عليه فظاهر لأنه بريء بهذا الشرط لا أنه يبرأ من الأصل
فصل
وصحيحها أن يضمن ما قد ثبت في ذمة معلومة ولو مجهولا ولا رجوع أو سيثبت فيها وله الرجوع قبله وفاسدها أن يضمن بغير ما قد ثبت كبعين قيمي قد تلف وما سوى ذلك فباطلة كالمصادرة وضمنت ما يغرق أو يسرق ونحوهما إلا لغرض
قوله فصل وصحيحها أن يضمن بما قد ثبت في ذمة معلومة إلخ
أقول اعلم أن دخول الكفيل في الكفالة باختيار نفسه هو إلزام لنفسه بما لزم للغير على معين والتزام بما ذهب على الغير وهذا أمر يصح من المكلف الدخول فيه لأنه رضي بما يتعقبه من الضمان وللإنسان أن يخرج من ماله ما شاء فيما شاء ولا فرق بين أن يخرج شيئا من ماله تمليكا للغير أو هبة له أو نذرا عليه وبين أن يلزم نفسه ما لزم فلانا أو بما ذهب على فلان والجهالة في الحال لا تؤثر فسادا في هذه الكفالة ولا بطلانا لأن الاعتبار في مثل هذا بما ينتهي إليه الحال وهو سينتهي إلى العلم بقدره جملة أو تفصيلا (4/238)
وإذا عرفت هذا فالضمانة على المعين بالمعلوم وبالمجهول وبما قد ثبت وبما سيثبت وبما على المصادر وبما يسرق أو يغرق أو يتلف بوجه من وجوه التلف كلها متفقة في اختيار المكلف لنفسه بما يلزمه من الضمان وإلزام لها بذلك من غير إكراه ولا إجبار وله أن يتصرف في ماله بما شاء وكيف شاء من غير إضاعة ولا في أمر لا يبيحه الشرع وليس في شيء من هذه الصور إضاعة مال ولا تصرف به في غير حلال فإن التزامه بما على المصادر قربة عظيمة وتفريج كربة ودفع ظلامة وأما الضمانة بعين فيما قد تلف فمعلوم عند كل عاقل أنه لا يراد منها الضمان بعين التالف لأن ذلك لا يسوغه عقل عاقل فلا بد أن يحمل على ما يصح في العقل وهو الضمانة بمثل تلك العين أو بقيمتها ولا يصح أن تكون الكفالة لاغية في مثل هذا لأنه قد أدخل نفسه فيما أدخلها فيه والمفروض أنه كامل العقل صحيح التصرف ولا يصح الرجوع في جميع هذه الأنواع على جميع التقادير فاعرف هذا فإنه الذي ينبغي المصير إليه والتعويل عليه لقوله صلى الله عليه و سلم الزعيم غارم
فصل
ويرجع المأمور بالتسليم مطلقا أو بها في الصحيحة لا المتبرع مطلقا وفي الباطلة إلا على القابض وكذلك في الفاسدة إن سلم عما لزمه لا عن الأصل فمتبرع
قوله فصل ويرجع المأمور بالتسليم مطلقا
أقول هذا وجهه ظاهر واضح لأنه غرم لحقه بسبب أمره بالكفالة وتسليم ما اشتملت عليه ويكفي مجرد الأمر بالكفالة لأنها مستلزمة للضمان والأمر بالملزوم أمر يلازمه وأما مع عدم الأمر بل دخل فيها الكفيل تبرعا فليس له ها هنا طريق (4/239)
على المكفول عليه لأنه لم يأمره ولا غيره ولا تسبب لذلك بوجه من الوجوه حتى يقال إنه غرم لحقه بسببه ولا فرق بين الصحيحة والباطلة والفاسدة وللكفيل أن يرجع على من دفع إليه ماله إذا لم يلزم نفسه به إلزاما يجب عليه عنده الوفاء به فإن ألزم نفسه كان للمكفول له حق عليه بنفس هذا الإلزام ولا يصح رجوعه عليه لأنه جنى على نفسه (4/240)
باب الحوالة
إنما تصح بلفظها أو ما في حكمه وقبول المحال ولو غائبا واستقرار الدين على المحال عليه معلوما مساويا لدين المحال جنسا وصفة يتصرف به قبل قبضه فيبدأ الغريم ما تدارج ولا خيار إلا لإعسار أو تأجيل أو تغلب جهلها حالها
قوله باب الحوالة إنما تصح بلفظها أو ما في حكمه
أقول تصح بما يفيدها ويدل عليها ولو بإشارة من قادر على النطق كما كررنا مثل هذا في الأبواب التي اعتبروا عليها الألفاظ وقد وسع المصنف الدائرة هنا بقوله أو ما في حكمه فأصاب وهكذا لا بد من قبول المحال للحوالة لأنها نقل ما هو له من ذمة إلى ذمة فلا ينتقل عن الذمة الأولى إلى الذمة الأخرى إلا باختياره ولكنه يأثم إذا أحيل على ملي فلم يقبل لأنه خالف الأمر النبوي وهو قوله صلى الله عليه و سلم وإذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وفي لفظ لمسلم وإذا أحيل أحدكم على مليء وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب وذهبت الظاهرية إلى أنه للوجوب (4/241)
وأما قوله واستقرار الدين على المحال عليه إلخ فلا أدري لهذا الاشتراط وجها لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب لأن به يحصل الوفاء بدين المحال ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين
وأما قوله فيبرأ الغريم ما تدارج فوجهه ظاهر لأن رضا من له الدين بنقل دينه من ذمة الغريم إلى ذمة المحال عليه يوجب عدم مطالبته للغريم وهو معنى البراءة لكن هذه البراءة مقيدة بما ذكره المصنف بقوله ولا خيارا إلا لإعسار أو تأجيل أو تغلب جهلها حالها ووجه الرجوع عليه عند حصول هذه الأمور ظاهر لأن المحيل إذا أحال على معسر أو على من يعتل بالتأجيل أو يتغلب عن التسليم مع جهل المحال لهذه الأمور فقد غره بالحوالة وهو لم يرض بنقل دينه إلى ذمة المحال عليه إلا مع عدم المانع فلا حكم لذلك الرضا الواقع مع وجود المانع لأنه غرر وتدليس
فصل
ومن رد مشترى برؤية أو حكم أو رضا على بائع قد أحال بالثمن وقبض لم يرجع به إلا عليه وكذا لو استحق أو أنكر البيع بعدهما ولا يبرأ ولا يرجع محتال عليه فعلها أو امتثل تبرعا والقول للأصل في أن القابض وكيل لا محتال إن أنكر الدين وإلا فللقابض مع لفظها
قوله فصل ومن رد مشتري إلخ
أقول وجه هذا ظاهر لأن البائع هو القابض للثمن فالطريق عليه ولا فرق بين الرد بالحكم أو بالتراضي وكذا الاستحقاق وأما إنكار البيع من أصله فلا بد أن يتقوى ما يدعيه المشتري من البيع قبل أن يرجع عليه بالثمن لأن لزومه فرع ثبوت التبايع (4/242)
وأما قوله ولا يبرأ ولا يرجع محتال عليه فعلها أو امتثل تبرعا فوجه عدم الرجوع في الفعل تبرعا عدم وجود المناط الموجب للضمان وأما الامتثال تبرعا فإن لم يبلغه أمر المحيل له بالتسليم فهو كالصورة الأولى وإن بلغه وسلم امتثالا لأمره فمجرد الأمر يوجب له الرجوع وإن لم يكن في ذمته دين لأن الأمر يكفي في ذلك ويخرج به عن التبرع كما قدمنا من عدم اشتراط استقرار دين في ذمة المحال عليه
وأما قوله والقول للأصل في أن القابض وكيل لا محال فوجهه ظاهر لأن الأصل عدم ثبوت الدين وأما إذا أقر بالدين فقد صار الظاهر مع من أقر له بالدين أنه محال لا رسول ولا وكيل (4/243)
باب التفليس
والمعسر من لا يملك شيئا غير ما استثني له والمفلس من لا يفي ماله بدينه ويقبل قول من ظهرا من حاله ويحلف كلما ادعي إيساره وأمكن ويحال بينه وبين الغرماء ولا يؤجر الحر ولا يلزمه قبول الهبة ولا أخذ أرش العمد ولا المرأة التزوج ولا بمهر المثل فإن لم يظهر بين وحلف وإنما تسمعان بعد حبسه حتى غلب الظن بإفلاسه وله تحليف خصمه ما يعلمه
قوله باب التفليس والمعسر من لا يملك شيئا غير ما استثني الخ
أقول هذا الفرق بين المعسر والمفلس وجعل كل واحد منهما له مفهوم مستقل لا يرجع إلى شرع ولا لغة فإن كان المصنف بصدد بيان عرف له ولأهل عصره فلا يخاطب أحد بعرف غيره على أنه لا فائدة في بيان الأعراف ها هنا لأن المراد الحكم على من صدق عليه الإعسار والإفلاس بحكم الشرع ولا شك أن معنى المعسر لغة هو من يتعسر عليه قضاء دينه والمفلس هو من أفلس عن قضاء دينه فهما من هذه الحيثية متحدان وليس المراد من هذا الباب إلا بيان ما يجب عليهما للغير لا بيان أنهما في أنفسهما متصفان بإعسار أو إفلاس فإن ذلك لا فائدة فيه ولا جدوى له قال في الصحاح أعسر الرجل أضاق وقال من القاموس أعسر افتقر وقال في الصحاح أفلس الرجل صار مفلسا كأنما صارت دراهمه فلوسه وزيوفا قال ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها ليس معه فلس وهكذا في القاموس (4/244)
فالحاصل أن معناهما يرجع إلى شيء واحد وسيأتي الكلام على ما يستثنى لهما
قوله ويقبل قول من ظهرا من حاله
أقول وجه ذلك أنه قد صار بظهورهما من حاله معه أظهر الأمرين فيكون القول قوله مع يمينه وغريمه معه أخفى الأمرين فكان عليه البينة
وأما قوله ويحلف كلما ادعى إيساره وأمكن فوجهه أن لصاحب الدين أن يطالب بدينه في الوقت الذي يمكن فيه أن يحول حال من عليه الدين من الإعسار إلى اليسار ولا مانع من ذلك
وأما قوله ويحال بينه وبين الغرماء فوجهه ظاهر لأن مطالبته مع ظهور الإعسار ظلم يخالف ما حكم الله به من قوله سبحانه وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأما قوله ولا يؤجر الحر فوجهه ظاهر لأن الخطاب عليه بالقضاء إنما هو متوجه إلى ما يجده من المال ولا يكلف غير ذلك ومن لا مال له قد صدق عليه وصف العسرة فوجب إنظاره إلى ميسرة
وأما قوله ولا يلزم قبول الهبة فلا وجه له لأنه قد تعلق بذمته حق لمسلم فعليه أن يقبل الهبة التي جاءت بغير طلب ولا سؤال والتعليل بالمنة عليل وهكذا أخذ أرش العمد فليس له أن يسقط على من هو عليه لأن هذا باب من المكارمة واصطناع المعروف وهو مخاطب بما هو أقدم من ذلك وهو تخليص ذمته من الدين وأما ولا المرأة التزوج فالكلام فيه كما قدمنا من قوله ولا يؤجر الحر
قوله فإن لم يظهرا بين
أقول هذا صحيح ووجهه ظاهر لأنه يدعي إسقاط حق عليه وأنه متصف بصفة الإعسار والأصل عدم ذلك فعليه بيان ما هو خلاف الأصل والبينة وإن كانت (4/245)
على نفي الغناء الشرعي فهي لا تقصر عن إثبات الظاهر كما قدمنا من قوله ولا تصح على نفي
وأما الجمع له بين البينة واليمين فخلاف ما تقرر من الشريعة المطهرة فخصمه يخير بين طلبه بالبينة أو القنوع بيمينه كما قال صلى الله عليه و سلم شاهداك أو يمينه ويمكن توجيه كلام المصنف بأن غاية ما تقتضيه البينة هو أن يكون الظاهر من حالة الإعسار فصار بهذه البينة القول قوله مع يمينه كما تقدم في الدعاوي
قوله وإنما يسمعان بعد حبسه متى غلب الظن بإفلاسه
أقول هذا من أعجب ما يقرع الأسماع كيف يحبس رجل يعرض البينة على إعساره ويعرض عن بينته ويمينه ويجمع على نفسه بين المدركين الشرعيين والمستندين المرضيين ثم يقال له لا يقبل هذا منك حتى نعزرك بالحبس وينزل بك من الهوان ما ننزله باللصوص والقطاع للطريق والمنتهكين لمحارم الله فليت شعري أي شرع هذا بل أي طاغوت يسوغه ثم قوله حتى غلب الظن بإفلاسه كلام ساقط وأن غاية ما يحصل ببنيته أو يمينه أو كليهما هو غلبة الظن بإفلاسه فكأن المصنف قال لا يسمع ما يفيد غلبة الظن بإفلاسه إلا بعد غلبة الظن بإفلاسه نعم إذا كان الذي عليه الدين غنيا متبين الغنى ظاهر الحال فصمم على المطل فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمرو بن الشريد أنه صلى الله عليه و سلم وقال لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ولكن أين حال هذا من حال من يعرض البينة واليمين على فقره وينادي بذلك بأعلى صوت (4/246)
وأما قوله وله تحليف خصمه ما يعلمه معسرا فوجهه ظاهر لأنه يندفع عند ذلك معرة البينية واليمين بل معرة التعزير بالحبس إذا وقف بين يدي قاض لا يدري بالمدارك الشرعية ولا يفهم حجج الله سبحانه
فصل
والبائع أولى بما تعذر ثمنه من مبيع لم يرهنه المشتري ولا استولده ولا أخرجه عن ملكه وببعض بقي منه أو تعذر ثمنه لإفلاس تجدد أو جهل حال البيع ولا أرش لما تعيب ولا لما غرم فيه للبقاء لا للنماء فيغرم وللمشتري كل الفوائد ولو متصلة وقيمة ما لا حد له وإبقاء ماله حد بلا أجرة وكل تصرف قبل الحجر ولايفرق بين ذوي الرحم وما قد شفع فيه استحق البائع ثمنه وما لم يطلبه فأسوة الغرماء
قوله فصل والبائع أولى بما تعذر ثمنه
أقول هذا الحكم ثبت بما صح في السنة من طريق جماعة من الصحابة ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال (4/247)
من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره
وأما قوله من مبيع لم يرهنه المشترى فلا وجه له لأن المال باق بعينة في يد المفلس فكان صاحبه أحق به لأنه قد أدرك ماله بعينه كما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم والمرتهن يرجع على المفلس ويكون من جملة غرمائه في قضاء وأسوة
وأما قوله ولا استولده فوجهه أنه قد تعلق للمستولدة حق باستيلادها فهو شبيه بإخراج العبد عن الملك
وأما قوله ولا أخرجه عن ملكه فوجهه ظاهر لأنه قد صار في ملك مالك آخر دخل في ملكه قبل وجود المانع وهو الإفلاس وكما يكون أحق به فهو أحق ببعض بقي منه لأنه قد وجد عين ماله وإن نقص بعضها فإن هذا لا يخرج الباقي عن كونه عين مال مالكها ويقوم مقام إخراجه عن ملكه تفريقه فلا يكون صاحب المال أحق به بعد تفريق المفلس له قبل ظهور الإفلاس كما في صحيح مسلم والنسائي أنه صلى الله عليه و سلم قال في الرجل يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه
وأما قوله أو تعذر ثمنه أي هو أحق بالبعض الذي تعذر ثمنه فيرده ما في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينة فهو أحق به أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود مرسلا ووصله أبو داود عن أبي بكر المذكور عن أبي هريرة وضعفت هذه الطريق بأن في إسنادها إسماعيل بن عياش ولا وجه لهذا التضعيف فإن إسماعيل بن عياش إنما يضعف في (4/248)
الحجازيين لا في الشاميين وهو هنا روى عن الحارث الزبيدي وهو شامي ووصله أيضا عبد الرزاق في مصنفه وهكذا وصله ابن حبان والدارقطني من طريق أبي هريرة ولكن بلفظ حديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين وغيرهما
وأما قوله ولا أرش لما تعيب فالظاهر أنه لا وجه لإهدار هذا الأرش اللازم بحكم الشرع فيأخذ العين ويكون في الأرش من جملة الغرماء
وأما قوله ولا لما غرم فيه للبقاء لا للنماء فيغرم فوجهه أن الغرامة للبقاء واجبة على المالك ولم يحصل بها زيادة في المبيع فأما الغرامة للنماء فإن ظهر أثرها في المبيع كان له الرجوع بزيادة القيمة وإلا فلا لأن البائع وجد مبيعه ولا زيادة فيه
وأما قوله وللمشتري كل الفوائد ولو متصلة فوجه ذلك أنها فوائد ملكه الذي استحقه بعقد البيع فيستحق منها ما حدث بعد البيع إلى وقت الإفلاس ووجه قوله وقيمة مالا حد له وإبقاء ماله حد بالأجرة أن المشتري فعل ذلك في ملكه فوجب له ذلك
وأما قوله وكل تصرف قبل الحجر فوجهه أنه مالك يتصرف في ملكه كيف شاء ما لم يحجر عن التصرف بظهور الإفلاس وهكذا لا يجوز التفريق بين ذوي الأرحام المحارم لورود النهي عن ذلك للمالك الواحد وهكذا إذا اختلف المالكون لحدوث حادث مثل هذا
وأما قوله وما قد شفع فيه استحق البائع ثمنه فلا يخفاك أنه قد انتقل بالشفعة إلى ملك مالك آخر حال ثبوت ملك المشتري له فالبائع لم يجده بعينه عند المفلس بعد إفلاسه (4/249)
فلا وجه لكونه أولى بثمنه وهذا كله مع وقوع الطلب من البائع للسلعة وأما إذا لم يطلب ردها إليه فليس له إلا أسوة الغرماء كما قال المصنف وفيه نظر فإنه وجوده بعينة بعد ظهور الإفلاس يعود به إلى ملك بائعه والأصل عدم خروجه عن ملكه بعد عوده بحكم شرع ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل وغاية ما هناك أن يوقف ما هو باق بعينه حتى يطلب البائع ويعرض عليه أنه الأحق به فإن رغب عنه بعد علمه أنه أولى به كان الرغوب مبطلا لأحقيته به
فصل
ويحجر الحاكم على مديون بحال إن طلبه خصومة ولو قبل التثبيت بثلاث أو أحدهم فيكون لكلهم ولو غيبا ويتناول الزائد والمستقبل ويدخله التعميم والتخصيص فلا ينفذ منه فيما تناوله تصرف ولا إقرار إلا بإجازة الحاكم أو الغرماء أو بعد الفك ولا يدخل دين لزم بعده ولو بجناية على وديعة معه من قبله لا قبله فيدخل ويسترد له إن انكشف بعد التخصيص ولا يكفر بالصوم
قوله فصل ويحجر الحاكم على مديون بحال
أقول لما كان الدين ثابتا بذمة معلومة معينة وصاحب الدين مطالب به والغريم مماطل له مع تمكنه من القضاء من ماله كان مستحقا لما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من قوله لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته وعلى حكام الشرع القادرين على رفع الظلامات والأخذ على أيدي الظلمة أن يأخذوا لصاحب الدين دينه من ظالمه قسرا وقهرا وإذا لم يطلب من له الدين إلا مجرد الحجر على من عليه الدين كان هذا (4/250)
أقل ما يجب على حكام الشريعة وهذا الذي ذكرنا معلوم بكليات الأدلة وجزئياتها ومن ذلك أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ للمظلوم من الظالم وهي كثيرة جدا في الكتاب والسنة وهو يغني عن الاستدلال بحديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه أخرجه الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه وبحديث عبد الرحمن بن كعب قال كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوه لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فباع رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء رواه سعيد بن منصور في سننه هكذا مرسلا وأخرجه أيضا أبو داود وعبد الرزاق قال عبد الحق المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام هو حديث ثابت انتهى
ويدل على أنه يجوز حجر جميع مال المفلس وتفريقه كله بين أهل الدين ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي سعيد أن رجلا ابتاع ثمارا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابتها جانحة فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم تصدقوا عليه فتصدق الناس فلم يبلغ وفاء دينيه فقال خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك ومعلوم أنه إذا جاز تفريق مال المفلس جميعه بين أهل الدين كان جواز حجره حتى يفرق بين أهل الدين ثابتا بفحوى الخطاب وأما اشتراط أن يكون الدين حالا فوجهه أنه لا يتضيق عليه القضاء المسوغ لحبس ماله وحجره عنه إلا عند حلول الأجل (4/251)
وأما قوله أن طلبه خصومه فوجهه ظاهر لأنهم لو تركوا طلبه لكان ذلك موسعا من خناقه ومنفسا عنه
وأما قوله ولو قبل التثبيت بثلاث فإذا رأى الحاكم في ذلك صلاحا من غير تقييد بالثلاث وذلك عند قيام القرائن الدالة على صدق المدعي أو على أن المدعى عليه سيتصرف في ماله ويخرجه عن ملكه وأما كون الحجر لواحد من الغرماء يكون حجرا لجميع الغرماء فغير مسلم لأن حجر جزء من المال بقدر دين الطالب يكفي وينتظر طلب الآخرين إلا أن يرى الحاكم في ذلك صلاحا لوجه من الوجوه فلا بأس بالحجر لجميع المال عن جميع الغرماء وإذا ساغ حجر جميع المال لطلب جميع الغرماء أو لطلب بعضهم ورأى الحاكم في جميع الحجر مصلحة تناول الحجر ما زاد من المال على قدر الدين وما دخل في ملكه في المستقبل بعد الحجر لأن المفروض أنه حجر الجميع والزائد والمستقبل من جملة ما يصدق عليه أنه من مال من عليه الدين فإن أمكن تعليق الحجر بما يفي الدين أهل الدين من غير تعميم إذا كان في ماله زيادة على قدر ما عليه من الدين فهذا هو الوجه العدل وإن لم يمكن إلا بحجر الكل كان ذلك سائغا لأنه لا يمكن حفظ مال الذي عليه الدين ليقضى منه غرماؤه إلا بذلك وهو معنى قول المصنف ويدخله التعميم والتخصيص
وأما قوله فلا ينفذ فيما تناوله تصرف فهذا صحيح لأن معنى الحجر هو المنع للمالك من التصرفات به فلو نفذ له تصرف فيه لم يحصل ما هو المطلوب به ولتسارع الماطلون إلى إخراج أموالهم بأنواع الإقرارات والإنشاءات وأما إذا أجاز ذلك الغرماء فهم أهل الحق ولهم أن يأذنوا لما شاءوا وأما الحاكم فليس له أن يجيز إلا إذا عرف رضاء الغرماء بذلك لأنه لا حق له إنما هو قائم في مقام التعريف بأحكام الله عز و جل فليس له أن يفك الحجر من جهة نفسه لغير سبب يقتضي ذلك
وأما قوله أو بعد الفك فلا بد من تقييده بكونه إما بقضاء الدين الذي كان الحجر لأجله أو بإذن الغرماء بفك الحجر وأما الفك بلا سبب يقتضيه فلا حكم له وليس للحاكم أن يفعله (4/252)
وأما قوله ولا يدخل دين لزم بعده فوجهه أنه لما صار ماله محجورا وكان هذا الدين يعود على الغرماء الأولين بالنقص كان في حكم التصرف بجزء من المال المحجور الذي تناوله الحجر وهو لا يصح فهكذا لا يصح ما يؤول من التصرفات إلا إذهاب جزء من المال المحجور على تقدير بدخوله في جملة الديون التي وقع الحجر لأجلها وهكذا الوجه في قوله ولو بجنايته على وديعة معه من قبله الخ
وأما قوله ويسترد له إن انكشف بعد التخصيص فوجهه أنه من جملة أهل الدين السابق للحجر فلو لم يكن كأحدهم لكان ذلك ظلم له
وأما قوله ولا يكفر بالصوم فوجهه أنه تعلق الدين به وحجر ماله لأجل قد لا يستغرق القضاء للغرماء جميعا وقد يقع الإبراء من بعضهم فلا يصدق عليه في حال الحجر أنه لم يجد ما يجب تقديمه على الصوم حتى يجزئه الصوم
فصل
ويبيع عليه بعد تمرده ويبقى لغير الكسوب والمتفضل ثوبه ومنزله وخادمه إلا زيادة النفيس وقوت يوم له ولطفله ولزوجته وخادمه وأبويه العاجزين وللمتفضل كفايته وعوله إلى الدخل إلا منزلا أو خادما يجد غيرهما بالأجرة وينجم عليه بلا إجحاف ولا يلزمه الإيصال ومن أسبابه الصغر والرق والمرض والجنون والرهن ولا يحل به المؤجل (4/253)
قوله فصل ويبيع عليه بعد تمرده
أقول وجه هذا ما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي قبل هذا وأما قوله ويبقى لغير الكسوب والمتفضل ثوبه الخ فوجه هذا أن ما تدعو إليه الحاجة الضرورية من ملبوس ومسكن وما يحتاج إليه لوقاية البرد والحر في حكم المستثنى مما يجب فيها القضاء من ماله ولهذا لم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه و سلم أخرج معاذا من مسكنه أو عراه من ثيابه وأخرج ما يحتاج إليه من متاع المنزل الذي لا بد منه وأما استثناء الخادم فلا يتم إلا إذا كان المفلس لا يقدر على خدمة نفسه وأهله وأما استثناء زيادة النفيس فوجهه ظاهر لأنه قد تعلق به حق لآدمي وأقدم على إتلافه فصاحب الدين أحق بالزيادة التي في ذلك النفيس وليس لمن عليه الدين إلا ما لا غنى له عنه وله غنى عن الشيء النفيس بالعدول عنه إلى ما دونه مما يقوم مقامه وإن كان خاليا عن صفة النفاسة وأما كون هذه الأشياء هي المستثناة لغير الكسوب والمتفضل وهو عند المصنف من يعود عليه غلات وقف أو نحوها فلا أرى لذلك وجها بل هذه الأمور مستثناة لكل أحد واستثناؤها لغير الكسوب والمتفضل وإن كان أولى لكونه أحوج منهما لكن معلوم أن مثل معاذ وأضرابه قد ترك لهم ما تدعوا إليه الحاجة مع كونهم كاسبين بسيوفهم وأعمالهم وهكذا ينبغي أن يترك للمفلس على كل تقدير ما تدعو إليه حاجته من الطعام والإدام إلى وقت الدخل وهكذا يترك للمجاهد والمحتاج إلى المدافعة عن نفسه أو ماله سلاحه وللعالم ما يحتاج إليه من كتب التدريس والإفتاء والتصنيف وهكذا يترك لمن كان معاشه بالحرث مايحتاج إليه من الحرث من دابة وآلة حرث وهكذا يترك لمن كان كسبه بدابته بتأجيرها ونحو ذلك تلك الدابة
والوجه في استثناء هذه أن الحاجة إليها كالحاجة إلى تلك الأمور التي استثناها المصنف ولا شك أن الرجل الكسوب الساعي في وجوه الرزق وأبواب الدخل هو في حكم المستغنى عن استثناء القوت والإدام إذا كان يتحصل له من الكسب ما يقوم بذلك وإن (4/254)
كان كسبه يقصر عن الوفاء بما يحتاج إليه كان له حكم غيره في الحكم الذي تدعو الحاجة إليه
والحاصل أن تفويض مثل هذه الأمور إلى أنظار حكام العدل العارفين بالحكم بما أنزل الله هو الذي لا ينبغي غيره لاختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة
وأما قوله وينجم عليه بلا إجحاف فالذي ينبغي اعتماده هو ما فضل عن الكفاية المعتبرة إن وجد ذلك وإلا كان الحكم هو قول الله عز و جل وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
وأما قوله يلزمه الإيصال فيرده حديث علي على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث
قوله ومن أسبابه الصغر والرق والمرض والجنون والرهن
أقول أما سببية الصغر للحجر والرق والجنون فالأمر في ذلك كذلك لأن لصغير لا يتصرف عنه وليه كما تقدم والعبد لا يملك شيئا ولا يتصرف في شيء إلا بإذن مولاه والمجنون يتصرف عنه وليه لأنه لا يعقل ما فيه النفع والضرر وقلم التكليف لم يجر عليه مادام مجنونا فجعل المصنف عدم صحة تصرف هؤلاء شرعا حجرا عليهم من جهة الشرع وأما المرض فلا وجه لجعله حجرا لأن تصرفاته نافذة شرعا ما دام ثابت العقل وسيأتي الفرق بين المرض المخوف وغيره وأما الرهن فوجه كونه بمنزلة الحجر ما دام رهنا ظاهر لأن الحق قد تعلق به للمرتهن فلا يخرج عن الرهنية إلا بما تقدم في كتاب الرهن (4/255)
وأعلم أن من جملة أسباب الحجر السفه وسوء التصرف وعدم إدراك ما فيه مصلحة من مفسدة وما فيه ربح من خسر وقد قامت على ذلك الأدلة وقد استوفينا البحث في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه
وأما قوله ولا يحل به المؤجل فوجهه أن التأجيل قد صار حقا للمديون ولم يحصل بالحجر عليه ما يقتضي سقوط الحق الثابت له (4/256)
باب الصلح
إنما يصح عن الدم والمال عينا أو دينا إما بمنفعة كالإجارة أو بمال فإما عن دين ببعضه من جنسه كالإبراء ويصحان في الأول مؤجلين ومعجلين ومختلفين إلا عن نقد بدين وفي الثاني يمتنع كاليء بكاليء وإذا اختلفا جنسا أو تقديرا أو كان الأصل قيميا باقيا جاز التفاضل وإلا فلا
قوله باب الصلح إنما يصح عن الدم والمال
أقول ظاهر هذا عدم صحة الصلح عن الحقوق ولا وجه لذلك فإنها داخلة تحت عموم حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما أخرجه أبو داود والترمذي (4/257)
وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه الترمذي وهذا التصحيح من الترمذي هو مما انتقد عليه فإن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد قال الشافعي وأبو داود فيه إنه ركن من أركان الكذب واعتذر للترمذي بأنه صححه باعتبار كثرة طرقه وقد أخرجه أبو داود من غير طريقه من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي وأخرجه الحاكم من حديث أنس وأخرجه أيضا الحاكم والدارقطني من حديث عائشة وله طرق غير هذه وبعضها تقوم به الحجة في كل صلح إلا ما استثناه آخر الحديث
وبهذا الدليل يتقرر لك صحة الصلح بالمنفعة كما تصح بالمال وبالبعض كما تصلح بالكل وبالمؤجل والمعجل وتقييد الصحة في بعض هذه الصور بقيد لا بد من قيام دليل عليه فإن لم تقم عليه دليل كان كل صلح جائزا إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا
فصل
وما هو كالإبراء يقيد بالشرط وصح عن المجهول بمعلوم كعن المعلوم لا العكس ولكل فيه من الورثة المصالحة عن الميت مستقلا فيرجع بما دفع ولا تعلق به الحقوق وعكسها فيما هو كالبيع ولا يصح عن حد ونسب (4/258)
وإنكار وتحليل محرم وعكسه
قوله فصل وماهو كالإبراء يقيد بالشرط
أقول لا وجه لتخصيص هذه الصورة بجواز التقييد بالشرط بل يصح تقييد كل صلح بما شاء المتصالحان من الشروط إلا لمانع والدليل على من ادعى وجوده وتأثيره في المنع
وأما قوله ويصح عن المجهول بمعلوم إلخ قأقول المعتبر في هذا حصول التراضي الذي هو المناط الشرعي في تحليل الأموال فإذ حصل ذلك جاز على كل حال مهما أمكن الوقوف على القدر جملة أو تفصيلا لأن ما لا يوقف على قدره بوجه لا يتحقق فيه ذلك المناط ويدل على جواز الصلح بالمجهول على المعلوم ما ثبت في الصحيح أن جابر بن عبد الله كان عليه تحر ليهودي فعرض عليه ثمر بستانه فأبى فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلم اليهودي فعرض صلى الله عليه و سلم ذلك على اليهودي فأبى فمشى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال جدله فأوفى اليهودي وبقي لجابر قدر وهو سبعة عشر وسقا بعد أن أوفى اليهودي ما هو له وهو ثلاثون وسقا
وأما كون لكل وارث المصالحة فوجهه ظاهر لأن الدين قد صار متعلقا بتركة الميت ولكل واحد منهم فيها نصيب وإذا صالح الواحد منهم عن الجميع كان رجوعه على الباقين بما دفع من الصلح مما هو زائد على نصيبه ثابتا إن أجازوا ذلك ورضوا به وإلا نفذ الصلح في نصيبه
وأما كونه لا يصح الصلح عن حد فوجهه أنه صلح أحل حراما لأن إسقاط الحدود بعد ثبوتها حرام كما ثبت الوعيد على ذلك بالأدلة الصحيحة وهكذا لا يصح عن (4/259)
نسب لوروده الوعيد الشديد على من انتسب بغير نسبة أو أدخل على قوم من هو من غيرهم
قوله ولا يصح عن إنكار
أقول هذا الصلح مندرج تحت عموم الحديث المتقدم وليس فيه تحليل حرام ولا تحريم حلال فلا وجه للمنع منه وهذا القدر يكفي في دفع المنع ومع هذا فقد وقع الصلح عن إنكار من رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة الرجلين المتنازعين في المسجد حتى ارتفعت أصواتهما فأشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى صاحب الدين بأن يضع الشطر من دينه فرضي بذلك والقصة ثابتة في الصحيح وكما أن مثل هذا الصلح عن إنكار داخل في عموم الحديث المذكور هو أيضا داخل تحت قوله عز و جل والصلح خير وقوله أو إصلاح بين الناس
وأما قوله وتحليل محرم وعكسه فوجهه ظاهر لاستثنائهما في الحديث الدال على جواز الصلح بين المسلمين ولو اقتصر المصنف على هذا لكان فيه غنى عن التطويل في غير طائل (4/260)
باب الإبراء
باب والإبراء إسقاط للدين ولضمان العين وإباحة للأمانة بأبرأت أو أحللت أو هو بريء أو في حل ويتقيد بالشرط ولو مجهولا مطلقا وبعوض فيرجع لتعذره ولو عرضا وبموت البريء فيصير وصية
قوله باب والإبراء إسقاط للدين ولضمان العين
أقول مثل هذا أعني كون الإبراء إسقاط للدين لا تدعو إلى ذكره حاجة ولا يتعلق به فائدة يعتد بها فإن المراد من الإبراء أنه لم يبق لذي الدين على من هو عليه شيء مما كان عليه وهذا يكفي في تحقيق معنى الإبراء لأنه الإبراء المرتب عليه وأما مجرد الاختلاف في الاصطلاح هل يقال هذا الإبراء إسقاط أو تمليك فليس تدوين كتب الفقه لبيان الاصطلاحات المتواضع عليها بل لبيان أحكام الشرع والوضع وهكذا الكلام في الإبراء من العين فإن هذا الإبراء لمجرده يوجب مصير تلك العين ملكا لمن وقع له الإبراء عنه لما عرفناك غير مرة أن المناط الشرعي في انتقال الأملاك من مالك إلى مالك هو حصول التراضي وقد رضي المبريء عن العين بمصيرها إلى ملك من أبرأه عنها وكونها قد صارت ملكا له يستلزم أن لا يطالب بضمانها وهكذا الكلام في قوله وإباحة للأمانة فليس المراد إلا أنها تصير ملكا للمباح له يتصرف بها كيف شاء
وأما قوله أبرأت أو أحللت فقد عرفناك غير مرة أن المراد ما تحصل به الدلالة على المعنى كائنا ما كان وعلى أي صفة وقع ولو بغير لفظ من الدوال التي ليست بلفظية وأما كونه يتقيد بالشرط فوجهه واضح لأن المبريء محسن فله أن يقيد (4/261)
إحسانه هذا بما شاء من غير فرق بين الشرط المعلوم والمجهول وأما كونه يرجع لتعذره فهو الأثر المترتب على الشرط والفائدة الحاصلة منه وهذا يتقيد بالعوض الذي كان الإبراء لأجله فلم يتم إلا به ولهذا قال فيرجع لتعذره وهكذا يصح تقييده بموت المبريء فينفذ بالموت كسائر الوصايا
فصل
ويعمل بخبر العدل في إبراء الغائب لا أخذه ولا يصح مع التدليس بالفقر وحقارة الحق ولا يجب تعريف عكسهما بل صفة المسقط أو لفظ يعمه ويغني عن ذكر القيمي قيمته لا المثلي إلا قدره أو شيء قيمته كذا ولا يبرأ الميت بإبراء الورثة قبل الإتلاف ويبطل بالرد غالبا ولا يعتبر فيه القبول كالحقوق المحضة إلا في العقد
قوله فصل ويعمل بخبر العدل في إبراء الغائب
أقول إن كان المراد بتخصيص هذا الباب بالتنصيص على قبول خبر العدل أنه يجوز لمن عليه الدين أن يصدق العدل إذا أخبره بذلك فلا شك في ذلك والاعتبار بما ينتهي إليه الحال ولكن هذا التصديق لخبر العدل لا يختص بهذا الباب بل هو بما ينتهي إليه الحال ولكن هذا التصديق لخبر العدل لا يختص بهذا الباب بل هو كائن في كل باب إلا أن يمنع من ذلك شرع أو عقل وإلا كان المراد بهذا العمل بخبر العدل أنه يعمل به في سقوط ما عليه من الدين ويكون ذلك لازما لمن له الدين فهذا لا يقول به أحد بل إذا أنكر صاحب الدين أو العين خبر العدل رجع الكلام بينهما إلى الخصومة ويكمل من عليه الدين خبر هذا المخبر بخبر آخر أو بخبر امرأتين أو (4/262)
يمينه مع شاهده وقد قدمنا لك أن الشهادة على الإخبار بمضمونه ما يعلمه الشاهد وأنه لا يشترط فيها لفظ أشهد
وهكذا لا وجه لقوله لا أخذه لأن الكلام فيه على ما ذكرناه من التفصيل
وأما قوله لا يصح الإبراء مع التدليس بالفقر وحقارة الحق فالوجه في هذا أوضح من أن يبين لأن الإبراء لم يصدد عن رضا وطيبة نفس بل عن خديعة وتغرير فانكشاف ذلك يكشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي
وأما قوله ولا يجب تعريف عكسهما فلا بد أن يعلم المبريء بقدر ما أبرأ عنه جملة أو تفصيلا وذلك هو المطلوب ولا يجب على من عليه الحق بيان قدر ولا صفة وبهذا تعرف الكلام على ما ذكره المصنف هنا
وأما كونه لا يبرأ الميت بإبراء الورثة فوجهه أن الدين متعلق بالتركة لكن لا يخفى أن إبراء الورثة مشعر بالرضا بترك المطالبة وترك الرجوع على التركة وذلك موجب لسقوط الدين عن التركة فيستحقها الورثة فقد استلزم إبراؤهم سقوط الدين وعدم تعلقه بالتركة وذلك هو المطلوب وأما كونه يبطل بالرد فظاهر لأنه لا يدخل في ملك الإنسان شيء إلا باختياره
وأما قوله ولا يعتبر فيه القبول فالمراد هنا عدم الرد ولا يعتبر زيادة على ذلك (4/263)
باب الإكراه
ويجوز بإكراه القادر بالوعيد بالقتل أو قطع عضو كل محظور إلا الزنا وإيلام أدهى وسبه ولكن يضمن المال ويتأول كلمة الكفر وما لم يبق له فيه فعل فكلا فعل وبالإضرار ترك الواجب وبه تبطل أحكام العقود وكالإكراه خشية الغرق ونحوه
قوله باب الإكراه ويجوز بإكراه القادر بالوعيد الخ
أقول أما الإكراه بالوعيد بالقتل أو قطع العضد فلا شك أن تكليف المكره بالترك من تكليف ما لا يطاق وقد قال الله عز و جل ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حاكيا عن الله عز و جل انه قال قد فعلت فجواز فعل ما أكره عليه في مثل هذا قد أذن به الشرع ورفع التكليف به ولا شك أن الكفر هو الغاية التي ليس وراءها غاية في معصية الله عز و جل وقد أباح الله التكلم بكلماته مع الإكراه بقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا الآية ومن هذا القبيل رفع عن أمتي الخطأ (4/264)
والنسيان وما استكرهوا عليه وقد تقدم الكلام على طرقه وأنه يشهد بعضها لبعض فيصلح للاحتجاج به وأما الإكراه بالإضرار فقط فالظاهر أنه يجوز به فعل المحظور لأن غاية ما وقع في سبب نزول قوله عز و جل إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان هو أنهم كانوا يجعلونهم مبسوطين في حر الرمضاء ويضعون الصخرات على صدورهم وأيضا قد أباح الله أكل الميتة لمجرد الاضطرار إليها وأكلها من جملة المحظورات كما هو معلوم ومن جملة ما يدل على الجواز مع مطلق الضرر قوله عز و جل إلا أن تتقوا منهم تقاة
وأما استثناء الزنا فوجهه أنه الفاحشة الكبرى وهو أيضا لا يكون إلا بفعل المكره وداعيته ولكن هذا لا يكفي في استثنائه من المحظورات فإنه وإن كان من كبائر الذنوب فالحكم فيه لا يجاوزها
وأما استثناء إيلام الآدمي فوجهه أنه لا يدفع الضرر عن نفسه بإنزاله بغيره وأما استثناء سب الآدمي فلا وجه له بل يجوز عند الوعيد بمطلق الضرر للأدلة التي تقدم ذكرها
وأما قوله لكن يضمن المال فلا وجه له لأنه لا حكم لمباشرته مع الإكراه بل يكون الضمان على فاعل الإكراه وقد تقدم للمصنف أنه يضمن أمر الضعيف قوما فكيف يثبت الضمان مع مجرد الأمر من القوي للضعيف ولا يثبت مع وقوع الإكراه له منه فإنه أمر بإجبار قد انضم إليه الوعيد بإضرار ولا أضعف من المكره
وأما قوله ويتأول كلمة الكفر فوجهه ظاهر لأنه يخلص مما يلي به من معرة الإكراه على الكفر بالله عز و جل
وقوله وما لم يبق له فيه فعل فكلا فعل (4/265)
أقول هذا من الوضوح والجلاء بحيث لا ينبغي أن يلتبس أو يتردد فإنه في هذه الحالة قد صار كالآلة لفاعل الإكراه فتكليفه بما فعله مما لم يبق له فعل تكليف بما لا يطاق وقد رفعه الله عن عباده بنصوص كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم
قوله وبالإضرار ترك الواجب وبه تبطل أحكام العقود
أقول إذا جاز بالإضرار فعل ما حرمه الله سبحانه كما قررنا فكيف لا يجوز به ترك الواجب وكيف لا تبطل به المعاملات فإن بطلانها مما لا ينبغي أن يتردد فيه متردد أو يشك فيه شاك وقد عرفناك غير مرة أن المناط الشرعي في جميع المعاملات هو التراضي كما قال عز و جل تجارة عن تراض وأي رضا يوجد مع الإكراه وإذا لم تصح المعاملة بمجرد عدم وقوع الرضا المحقق وعدم وجود طيبة النفس الواضحة فكيف لا تبطل مع المجاوزة لهذا الحد إلى الإكراه على الفعل
وأما قوله وكالإكراه خشية الغرق ونحوه فوجهه أن خشية الغرق ونحوه يتسبب عنها خشية التلف فضلا عن خشية الضرر (4/266)
باب القضاء
يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على كل مختل شرط ويندب ويكره ويباح ما بين ذلك حسب الحال وشروطه الذكورة والتكليف والسلامة من العمى والخرس والاجتهاد في الأصح والعدالة المحققة وولاية من إمام حق أو محتسب أما عموما فيحكم أين ومتى وفيم وبين من عرض أو خصوصا فلا يتعدى ما عين ولو في سمع شهادة وإن خالف مذهبه فإن لم يكن فالصلاحية كافية م مع نصب خمسة ذوي فضل ولا عبرة بشرطهم عليه
قوله باب القضاء يجب على من لا يغني عنه غيره
أقول قد اتفق المسلمون أجمعون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكرنا غير مرة أنهما العمادان الأعظمان من أعمدة هذا الدين وأنهما واجبان على كل فرد من المسلمين وجوبا مضيقا فالقاضي القادر على الحكم بالحق والعدل وبما أنزل الله إذا امتنع من الدخول في القضاء فقد أهمل ما أوجبه الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك أعظم ما أوجبه الله على عباده وأهم ما كلفهم به هذا على تقدير أنه يغني عنه غيره أما إذا كان لا يغني عنه غيره فأي واجب أوجب عليه من الدخول وأي تكليف شرعي يعدل هذا التكليف وأي فرار مما تعبد الله به عباده يساوي هذا (4/267)
الغرار ولا سيما من خشي من له حظ من العلم يبلغ به إلى الحكم بين عباد الله بما شرعه لهم أن يثبت على هذا المنصب الشريف الذي هو مقعد من مقاعد النبوة ومنصب من مناصبها من لا يتعقل حجج الله ولا يبلغ به علمه إلى معرفتها فإنه حينئذ يتضيق عليه الوجوب ويتعين عليه الدخول وإلا كان مشاركا في الإثم لمن أجرى أحكام الله على غير مجاريها وأوقعها في غير مواقعها
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا شك في وجوب الدخول في القضاء على من لا يغنى عنه غيره ولا شك في تحريمه على من لا يصلح له إما لقصور في علمه أو في إدراكه أو في دينه لأنه تلبس بما لا يصلح له ودخل فيما ليس هو من شأنه وفي عدا هذين فهو متردد بين أحاديث الترغيب في الولايات والترهيب فيها
فمن أحاديث الترغيب ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعد لون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ومن ذلك حديث لا حسد إلا في اثنتين وفيه رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس وهو في صحيح البخاري وغيره وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر إن اجتهد فأصاب فله أجران وفي هذا الحديث فضيلة للقاضي عظيمة لأنه صلى الله عليه و سلم ردده في حكمه بين (4/268)
أجر أو أجرين وجعله مأجورا على الخطأ بل أخرج الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر هذا الحديث بلفظ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور وفي إسناد فرج بن فضالة وتابعه ابن لهيعة وهما وإن كانا ضعيفين لكن إذا انضم الضعيف إلى الضعيف قوي الحديث ويشهد له ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة وفي إسناده ضعيف
وفي الترغيب في القضاء أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى وفيما ذكرناه كفاية وقد أمر الله في كتابه بالحكم بالعدل وبالحق وبما أرى الله الحكام وقال عز و جل يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وأما أحاديث الترهيب فمنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يا أبا ذر أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وفي صحيح مسلم أيضا من حديثه قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانه وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها وهذان الحديثان مقيدان بما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي ذر إني أراك ضعيفا وبقوله إنك ضعيف ولا نزاع في أن الدخول في الولاية لمن يضعف عنها لا يحل ولهذا استثنى في الحديث الثاني بقوله إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها (4/269)
ومن أحاديث الترهيب ما أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جعل قاضيا بين النس فقد ذبح بغير سكين فهذا الحديث هو أشق ما ورد مطلقا عن التقييد من أحاديث الترهيب في الدخول في القضاء وقد أوله جماعة بما يدل على أنه من أحاديث الترغيب لا الترهيب وقد أجبت عنهم بما ذكرته في شرحي للمنتقى ولكن ها هنا جواب آخر عن هذا الحديث يوجب تأويله وهو أنا قد قدمنا حديث أنهم على منابر من نور عن يمين الرحمن وحديث أنه أحد الخصلتين اللتين لا حسد إلا فيهما وأنه متردد بين أجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ وما كان بهذه المنزلة وله هذه المزية فالدخول فيه من أعظم أسباب الفوز بالخير والأجر فيحمل حديث الذبح بغير سكين على أن الدخول في القضاء مصحوب بمانع يمنعه من النهوض به
أما الضعف كما قال صلى الله عليه و سلم لأبي ذر وأنه لا يقدر على أن يجتهد كما في الترديد بين الأجر والأجرين والجمع مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح بالإجماع وقد أمكن هنا وعلى تقدير جواز المصير إلى الترجيح فالأحاديث الثابتة في الصحيحين من طريق جماعة من الصحابة أرجح مما لم يثبت فيهما كما هو معلوم في وجوه الترجيح المذكورة في الأصول وفي علم اصطلاح أهل الحديث (4/270)
وأما حديث القضاة ثلاثة فلا شك أن القاضي إذا قضى بالجهل عامدا أو جاهلا للحق فهو مستحق لهذا الوعيد الوارد في هذا الحديث ولكن ليس محل النزاع إلا في قاض يعلم بالحق ويقضي به وقد جعله صلى الله عليه و سلم القاضي الذي في الجنة فهذا الحديث ينبغي أن يكون من أحاديث ترغيب المتأهلين للقضاء في الدخول فيه لا من ترهيبهم وهذا الحديث لفظه في سنن أبي داود وسنن ابن ماجة من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم وصححه
وأما سائر الأحاديث الواردة في الترهيب عن الدخول في القضاء فهي على ما فيها من الضعف محمولة على ما قدمنا في الجمع بين حديث فقد ذبح نفسه بغير سكين وبين أحاديث الترغيب فتبين لك بهذا أن الدخول في القضاء إما واجب مضيق وهو على من لا يغني عنه غيره أو حرام بحت وهو على من لا يفي بما هو معتبر فيه ولم يستجمع فيه ما لا بد منه ومن عدا هذين فالدخول فيه قربة كما تدل عليه الأحاديث المتقدمة وقد يكون الدخول واجبا عليه إذا وثق من نفسه بالقيام بالحق وإجراء الأمور مجاريها والوقوف على الحدود التي حدها الله للقائمين بالأمر وإن كان يغني عنه غيره وأما من كان لا يثق بنفسه بما ذكرنا فهو لم يكمل في حقه المقتضي للدخول ولا وجه لما ذكره المصنف من قسم المكروه والمباح
وأما ما ورد من النهي عن سؤال الإمارة كما في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له يا عبد الرحمن لا (4/271)
تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها فهو نهي عن سؤال الإمارة وهو غير محل النزاع لا عن قبولها من غيرسؤال فإنه رغب فيه بقوله أعنت عليها وهكذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه فإنه يدل على عدو جواز توليه من أراد العمل أو حرص عليه وأما على عدم قبوله من غير سؤال ولا طلب ولا إرادة وهذا هو الذي كلامنا فيه ومثله في الصحيحين و غيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه و سلم قال إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فإن هذا تنفير عن الحرص عليها وهو مسلم وهكذا ما ورد في هذا المعنى فإنه محمول على ما وقع فيه من التصريح منه صلى الله عليه و سلم وقد ورد أنه إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسدادنه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار عرجا وتركاه أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس والطبراني من حديث ابن الأسقع والبزار من حديث أبي هريرة وفي أسانيدها مقال لكنه يقوى بعضها بعضا ويشهد لها الحديث المتقدم (4/272)
بلفظ وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها فإن هذا المذكور في أحاديث هبوط الملائكة هو نوع من الإعانة ومن هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أنس قال قال رسول صلى الله عليه و سلم من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك يسدده
قوله وشروطه الذكورة
أقول قد وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم النساء بأنهن ناقصات عقل ودين ومن كان بهذه المنزلة لا يصلح لتولي الحكم بين عباد الله وفصل خصوماتهم بما تقتضيه الشريعة المطهرة ويوجبه العدل فليس بعد نقصان العقل والدين شيء ولا يقاس القضاء على الرواية فإنها تروي ما بلغها وتحكي ما قيل لها وأما القضاء فهو يحتاج إلى اجتهاد أصحاب الرأي وكمال الإدراك والتبصر في الأمور والتفهم لحقائقها وليست المرأة في ورد ولا صدر من ذلك
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عز و جل فدخوله فيها دخولا أوليا (4/273)
قوله والتكليف
أقول الصبي قد تقرر بالأدلة رفع قلم التكليف عنه ومن لازم القضاء أن يكلف العباد بما تقتضيه الشريعة المطهرة فكيف يصلح لذلك من لم يصلح لتكليف نفسه وكيف يقوم الظل والعود أعوج وكيف يصح اتصافه بالعدالة التي هي مع العلم رأس مال القاضي وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه و سلم من إمارة الصبيان كما أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة وتعوذ رسول الله صلى الله عليه و سلم من إمارة السفهاء كما أخرجه أحمد أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح والصبي سفيه وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل من علامات القيامة إذا وسد الأمر إلى غير أهله والصبي ليس من أهله
قوله والسلامة من العمى والخرس
أقول القاضي يحتاج إلى البصر لمشاهدة الخصوم ومعرفة أحوالهم ويحتاج إلى السمع لسماع كلامهم وما يوردونه لهم وعليهم فولاية الأعمى أو الأخرس بلاء مصبوب على الخصوم وتعذيب لهم مع عدم الركون على ما يفعلانه لهذا النقص الظاهر الواضح فهما مانعان من هذه الحيثية مع أنهما فاقدان لأعظم ما لا يتم المقتضي إلا به
قوله والاجتهاد في الأصح
أقول القاضي مأمور بأن يحكم بالعدل والحق وبما أنزل الله وبما أراه الله عز و جل كما وقع النص على هذه الأمور في الكتاب العزيز والمقلد لا يقدر على تعقل حجج الله فضلا على أن يقدر على التمييز بين العدل والجور والحق والباطل وعلى الحكم (4/274)
بما أراه الله فإنه سبحانه لم يره شيئا وفي الحديث الصحيح المتقدم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران وأين المقلد من أن يجتهد بمعنى يبلغ الجهد والطاقة في البحث عن حكم الله في الحادثة فإنه يقر على نفسه أنه إنما يطالب من قلده برأيه لا بروايته ويقر على نفسه أنه لا يطالبه بحجة ولا علم له إلا ما تلقاه عن إمامه بهذه الطريقة وعلى هذه الصفة
والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به وما عدا الحق فهو طاغوت ولو قدرنا أنه طابق الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضي النار وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار فيالله العجب كيف يولي الحكم بين الناس بالشرع الذي بعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم من هو في كلتا حالتيه من أهل النار وكفاك من شر سماعه إن الله لا يصلح عمل المفسدين إن الله لا يهدي كيد الخائنين وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالا يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة
قوله والعدالة المحققة
أقول قد قدمنا في الشهادات الكلام على العدالة وما يكفي فيها فلا نعيده هنا وإذا كانت العدالة شرطا فيمن يشهد لقضية فردة فكيف لا تكون شرطا فيمن يتولى القضاء في كل قضية ترد إليه (4/275)
والحاصل أن من لا عدالة له لا يوثق بحكمه ولا يلزم الخصوم قبوله وبهذا يبطل الغرض من نصبه مع كونه مظنة للحكم بخلاف الحق زاعما أنه الحق لغرض من الأغراض الدنيوية فإن فاقد العدالة لا يتورع من شيء
قوله وولاية من إمام حق
أقول وجه هذا أنه لم يتصدر أحد في زمن النبوة للقضاء إلا بأمره صلى الله عليه و سلم ولا تصدر أحد في أيام الخلفاء الراشدين للقضاء إلا بأمر من الخليفة وهذا أمر ظاهر لا ينبغي أن ينكر وأما التحكيم فهو باب آخر ليس من القضاء في شيء لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم وقد فتح الله باب التحكيم في كتابه العزيز وثبت في السنة المطهرة كما في جزاء الصيد وفي حكم سعد في قصة بني قريظة وغير ذلك وهكذا استمر الأمر بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين فلم يسمع بقاض إلا بولاية من سلطان زمانه إلى هذه الغاية
وأما اشتراط أن يكون الإمام حق فقد ثبت وجوب الطاعة لمن بايعه المسلمون بالأحاديث المتواترة وثبت الأمر بالصبر على جور الجائرين وظلم الظالمين مع أمرهم بما هو معروف ونهيهم عما هو منكر ومن الطاعة الواجبة أن لا يتولى أحد بولاية إلا بإذن منهم وإلا كان ذلك من المنازعة في الأمر وقد ثبت تحريم ذلك ما أقاموا الصلاة ما لم يظهر منهم كفر بواح والأحاديث الصحيحة في مثل هذا أكثر من أن تحصر وقد كان القضاة من التابعين وتابعيهم وهما القرنان اللذان هما خير القرون بعد قرن الصحابة يأخذون الولاية من الملوك المعاصرين لهم من الأموية والعباسية ثم هكذا من تولى (4/276)
القضاء من علماء الإسلام بعد عصرهم إلى الآن وهذا أمر من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان ولعله يأتي إن شاء الله في كتاب السير زيادة بيان لهذا المطلب
قوله أو محتسب
أقول من لم يبايعه المسلمون فلا ولاية له ولا يستحق أن يباشر ما يباشره الإمام كلا ولا جزءا لأن الولاية سببها البيعة وإلزام المسلمين أنفسهم بها بما يجب من الطاعة وهذا الذي قام يحتسب هو كأحد المسلمين في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولمن يصلح للقضاء أن يحتسب كاحتسابه ولا يحتاج إلا ولاية منه لأنه لا مزية له تميزه عن غيره إلا مجرد إظهار نفسه للتصدر لما يأتي إليه من أمور الدين أو يبلغه منها فالصالح للقضاء إذا أظهر نفسه كإظهاره كان مستغنيا عنه
وأما قوله إما عموما إلخ فوجهه أن النصب من الإمام إذا كان أمرا لا بد منه كما قدمنا وجب على القاضي أن يتوقف على ما يرسمه له من عموم أو خصوص
قوله وإن خالف مذهبه
أقول لا وجه لهذا ولا يحل للقاضي أن يعتمد عليه لأن الله سبحانه طلب منه أن يحكم بالحق والعدل وبما أراه الله وبما أنزل الله لا بما يراه الإمام ويأمر به فإن أمره الإمام بشيء يخالف ما يدين الله به أوضح له الحجة فإن قبلها فذاك وإن لم يقبلها فقد تخلص من معرة المخالفة لما أوجبه الله عليه ويحيل الحكم على الإمام أو على غيره من الحكام
قوله فإن لم يكن فالصلاحية كافية
أقول هذا الذي ثبتت له الصلاحية له مزيد خصوصية في القيام بالمعروف والنهي عن المنكر ومن جملة ذلك القضاء وتنفيذ الأحكام الشرعية والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم من مظلمته وكل مسلم إذا قدر على ذلك فهو مكلف به وإنما اقتصر (4/277)
على من له الصلاحية لأن مدخليته في وجوب ذلك عليه أتم وهو به أليق وقد قدمنا في قوله ومن صلح لشيء ولا إمام فعليه بلا نصب على الأصح ما يغني عن إعادته هنا
قوله مع نصب خمسة الخ
أقول لا أصل لهذا في الشريعة بل هو مجرد استحسان وهؤلاء الخمسة يكون نصبهم له بمنزلة تحكيمهم له فيما توجه عليهم من الحكومات فيجب عليهم امتثال حكمه ولا يصير ذلك حجة على غيرهم إلا إذا فعل مثلما فعلوا وقد جعل الله من فيه صلاحية في غنى عن هذا بما أوجبه عليه من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قدمنا
فصل
وعليه اتخاذ أعوان لإحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات وعدول ذوي خبرة يسألهم عن حال من جهل متكتمين والتسوية بين الخصمين إلا بين المسلم والذمي في المجلس وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة والتثبت وطلب تعديل البينة والمجهولة ثم من المنكر درأها ويمهله ما رأى والحكم والأمر بالتسليم والحبس له إن طلبت والقيد لمصلحة إلا والدا لولد ويحبس لنفقة طفله لا دينه ونفقة المحبوس من ماله ثم بيت المال ثم من خصمه قرضا وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح ثم من ذي الحق كالمقتص
وندب الحث على الصلح وترتيب الواصلين وتمييز مجلس النساء وتقديم أضعف المدعيين والبادي والتنسم واستحضار العلماء إلا لتغير حاله (4/278)
ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا والخوض معه في قضيته والحكم بعد الفتوى وحال تأذ أو دهول ولنفسه وعبده وشريكه في التصرف بل يرافع إلى غيره وكذا الإمام قيل وتعمد المسجد وله القضاء بما علم إلا في حد غير القذف أو على غائب مسافة قصر أو مجهول أو لا ينال أو متغلب بعد الإعذار ومتى حضر فليس له إلا تعريف الشهود ولا يجرح إلا بمجمع عليه والإبقاء من مال الغائب ومما ثبت له في الغيبة بالإقرار أو النكول لا البينة وتنفيذ حكم غيره والحكم بعد دعوى قامت عند غيره إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة ونسب الخصوم والحق إلى ما يتميز به وكانا باقيين وولايتهما إلا في الحد والقصاص والمنقول الموصوف وإقامة فاسق على معين حضره أو مأمونه وإيقاف المدعى حتى يتضح الأمر فيه
قوله فصل وعليه اتخاذ أعوان الخ
أقول قد عرفناك أن القضاء شعبة من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب على كل مكلف وعلى القادر أوجب لا سيما العلماء العارفين بالمدارك الشرعية والمفروض أن القاضي منهم كما قدمنا حينئذ فإذا لم يتم حكم الشرع إلا بأعوان تشتد بها وطأته على المرتكبين للمنكرات والمتساهلين في تأدية الواجبات والمتمردين عن امتثال ما يقضي به شرع الله كان اتخاذ من يحصل به التمام من الأعوان ونحوهم واجبا على القاضي وإذا لم يحصل امتثال الحق إلا بالتشديد وتغليظ الوعيد فذاك أيضا متعين على القاضي بما سيأتي في السير عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مقتضيات اتخاذ الأعوان ما ذكره المصنف من إحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات لأن ذلك يشوش ذهن الحاكم ويحول بينه وبين سماع الدعوى والإجابة على وجه الكمال والاستقصاء (4/279)
وأما قوله واتخاذ عدول يسألهم عن حال من جهل متكتمين فهذا من أحسن السياسة الشرعية وإن كان يغني عن ذلك فتح باب الجرح والتعديل لكن قد يحصل بإخبار هؤلاء للحاكم مالا يحصل بالجرح والتعديل لوثوق الحكم بهم وطمأنينة النفس إليهم زيادة على ما تطمئن بمن يأتي بهم الخصوم من شهود الجرح والتعديل وأيضا قد يعرفونه بحال الخصوم ومن هو منهم جميل الحال كثير الورع ومن هو سيء الحال متهافت على الطمع
قوله والتسوية بين الخصمين
أقول هذا أول ما يتبين به عدل الحاكم من جوره فإنه إذا لم يسو بينهما فقد وقع في طريق الجور باديء بدء وهو مأمور بالحكم بالحق وبالعدل وليس هذا منهما وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن الزبير قال قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو مختلف فيه وقد صحح هذا الحديث الحاكم وإذا كانت التسوية بينهما في نفس المجلس واجبة فما عداها من التسوية في الخطاب والجواب والتقريب والتبعيد بالأولى ومثل هذا حديث أم سلمة عند أبي يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير بلفظ ومن ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف
وأما قوله إلا بين المسلم والذمي فوجهه ما أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى (4/280)
عن إبراهيم التيمي قال عرف علي بن أبي طالب درعا له مع يهودي فقال يا يهودي درعي سقطت مني وفيه أنه رافعه إلى القاضي شريح فجلس علي بجنب شريح وقال لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تساروهم في المجلس قال أبو أحمد وهو منكر وأورده ابن الجوزي في العلل وقال لا يصح تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي من وجه آخر عن الشعبي عن علي وفي إسناده ضعيفان جدا وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط لم أجد له إسنادا يثبت وقال ابن عسكر في الكلام عن أحاديث المهذب إسناده مجهول
قوله وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة
أقول وجه هذا أن المدعي هو الطالب لحكم الشرع فلو سمع الحاكم من المدعى عليه قبل أن يسمع من المدعي لكان ذلك عكس قالب ما تقتضيه الخصومة عقلا وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء وله طرق استوفيناها في شرح المنتقى
قوله والتثبيت
أقول وجهه أنه لا يتم الحكم بالحق كما ينبغي إلا بذلك وإلا كان إيقاع الحكم على غير الوجه الذي يقتضي به العدل والحق وقد أمر الله سبحانه بالحكم بالعدل و الحق (4/281)
وبما أنزل وأيضا التثبيت هو من الاجتهاد المذكور في الحديث السابق بلفظ إذا اجتهد الحاكم لأن المراد بالاجتهاد هذا بلاغ الجهد في تتبع وجوه الحكم والنظر في مشتبهات الأدلة والموازنة بين الحجج التي لها مدخل في تلك الحادثة
قوله وطلب تعديل البينة المجهولة
أقول البينة ما لم تكن قد ثبت للحاكم ما يعتبر فيها من العدالة فليست ببينة ولا يترتب عليها حكم فإذا أتى الخصم ببينة لا يعرف الحاكم حالها فلا يقبلها حتى يأتي من جاء بما يصححها وأما طلب درئها من المنكر فليس هذا من وظيفة الحكم ولا الحاكم بل على الحاكم أن يخبر من عليه البينة بأنها قد شهدت بكذا وأنه لا قادح قد تبين له فيها فإن قال له ما يدفعها أمهله وإن لم يقل حكم عليه إلا أن يتبين له أن المشهود عليه لما يدر أن الجرح مسلك شرعي فله أن يعرفه بذلك ولا يكون تلقينا ولهذا يقول صلى الله عليه و سلم شاهداك أو يمينه ويقول ألك بينة
قوله والأمر بالتسليم
أقول هذا هو الثمرة المستفادة من التخاصم إلى الحاكم فإذا استوفى طريق الحكم أمر من عليه الحق بتسليمه إلا من هو له فإن أبي فهو آب من حق أوجبه الله عليه وأمر قضى به شرعه عليه وقد نفى الإيمان عمن لم يقنع بحكم الله عز و جل فقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فعلى الحاكم وعلى كل قادر أن يأخذ على يد هذا الذي لم يذعن لحكم الله ويأطره على الحق أطرا فإن كان لا يتخلص مما عليه إلا بالحبس (4/282)
ونحوه من أنواع التغليظ عليه فذاك واجب إذ لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الأصول
وأما إنكار كثير من الفضلاء لما يقع من الحاكم من حبس من امتنع من الخروج مما يجب عليه فهو من قصور الفهم عن إدراك المدارك الشرعية وقد بسطت القول في الحبس في شرح المنتقى فليرجع إليه
قوله إلا والد لولده
أقول لا وجه لإطلاق هذا الاستثناء فإنه وإن استقام في المال لحديث أنت ومالك لأبيك لم يستقم في سائر ما يصدق عليه أنه ظلم من الأب لابنه ليس فيه شبهة فإنه يجب على الحاكم أن يأمره بالكف عن ذلك لأن الظلم حرمه الله بين عباده ولم يستثنى والد ولا ولد فإذا لم ينزع الأب عن ذلك كان للحاكم أن يحبسه حتى يتخلص من ظلمه لولده وإن كان حق الأبوين عظيما لكنهما لا يقران على ما هو ظلم منع منه الشرع
وأما قوله ويحبس لنفقة طفله لا دينه فوجهه أنه أخل بواجب عليه وهكذا إذا أخل بما يجب عليه لولده الكبير مع تمكنه فإنه لا فرق بينه وبين الطفل
قوله ونفقة المحبوس من ماله
أقول وجه ذلك محبوس في حق قد تبين لزومه له عند الحاكم فامتنع منه فهو الجاني على نفسه فلا يخاطب أحد بنفقته حال حبسه حتى يتخلص مما عليه فإذا بقي بعد ذلك كان إنفاقه على الحابس له لأنه ظالم له وما لزمه بسبب هذا الظلم رجع به على ظالمه وإذا كان المحبوس فقيرا ولم يمتثل للحق فهو أحد المحاويج إلى بيت مال المسلمين من جهة كونه فقيرا سواء كان محبوسا أو غير محبوس لا من جهة كونه (4/283)
متمردا عن حق واجب عليه وهذا إذا كان محبوسا في غير مال عليه من حد أو قصاص أو جسارة أو نحو ذلك وأما المحبوس في المال فإذا عجز عن نفقة نفسه فهو عن القضاء أعجز وكفى له بذلك سببا لإطلاقه
وأما قوله ثم من خصمه قرضا فلا وجه له لأنه إيجاب ما لم يوجبه عليه الشرع والمفروض أنه مطالب بحق وأن المحبوس ممتنع منه ولم يظهر ما يوجب إطلاقه
قوله وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح
أقول هذا صحيح لأنه يحصل بهم إنفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له ومن المحبوس بحق لأنهما الجانبان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما
وأما قوله ثم من ذوي الحق فلا وجه له لما قدمنا قبل هذا ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه فإن الحق عليه ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعا فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة فإنه أجير كسائر الأجراء
قوله وندب الحث على الصلح
أقول ينبغي للحاكم أن يذكر القوارع والزواجر عمن قضى له بباطل أو خاصم في خصومة باطلة كما قال صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت (4/284)
له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وكما في صحيح مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر في قصة الحضرمي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما أدبر الرجل أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليقين الله وهو عنه معرض وكما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع وفي لفظ له من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله
فتعريف الغرماء بهذا قد يكون سببا لارتداع المبطل عن باطله من الأصل لأن في ترغيبه إلى الصلح باديء بدء تجرئة له على أن يأخذ البعض مما هو باطل بذريعة الصلح وقد يظن خصمه أن الحاكم إنما رغبهما إلى الصلح وسيلة بين يدي الحكم فيستفدي الحكم عليه بالكل بالبعض تخلصا من معرة الحكم بالباطل
قوله وترتيب الواصلين
أقوله هذه طريقة حسنة من طرائق العدل لأن الأحق بالوصول إلى مجلس المحاكمة هو أول الواصلين ثم من بعده وترتيبهم على خلاف هذا يخالف طريقة العدل وهكذا تمييز مجلس النساء لما في اجتماعهم مع الرجال من وسائل المنكر وذرائع الوقوع في المعصية
وأما قوله وتقديم أضعف المدعيين فلا وجه له بل الواجب عليه التسوية بين القوي والضعيف على وجه لا يطمع القوي في جوره ولا ييئس الضعيف من عدله هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض ولا يجوز تأثير الضعيف بشيء على القوي فيما يرجع إلى التسوية وإلا كان ذلك ظلما للقوي وجورا عليه (4/285)
وأما تقديم البادي من المتخاصمين على الحاضر منهم فوجهه أنه يصحب البادي من المشقة ما لا يلحق الحاضر فهذا التقديم فيه ضرب من الصلاح وللحاكم أن يفعل ما يراه أوفق لمراد الله وأرفق بأهل الخصومات وهكذا التنسم لأنه مع اجتهاده لنفسه قد يوقع الحكم حال الفتوى المقتضي لعدم التثبت أو للحكم حال الغضب ففي هذا ضرب من الصلاح وهو لا يؤاخذ إلا بما يقدر عليه ويدخل تحت طاقته
قوله واستحضار العلماء
أقول هذا الاستحضار قد يتسبب عنه تحفظ الحاكم وتحريه لما تقتضيه المسالك الشرعية وإن كان الحاكم العدل المتورع يفعل في تثبته مع الخلو ما يفعله مع الحضور ويراقب الله سبحانه في كل حالاته نعم أعظم فوائد حضور أهل العلم الذين هم أهله أن يستعين بهم في تقويمه إذا زاغ من الحق ويأذن لهم بذلك فإن هذه فائدة عظيمة وإن كان من الأئمة المجتهدين فإنه قد تتشعب طرائق الاجتهاد فيكون بعضها أوفق من بعض وأقرب إلى قطع الخصومة وطيبة نفس الخصوم والموافقة للحق
قوله ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا
أقول أما تعريف الخصم لما يجب له وعليه فهو واجب على الحاكم كما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال ألك بينة وقال فلك يمينه وقال شاهداك أو يمينه
والحاصل أن أحكام الشرع ليست بمقامرة ولا مخادعة ولا مماكرة بل هي الجادة الواضحة التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا جاحد فإذا أوضح الحاكم للخصمين أو أحدها وما يجب وما لا يجب في وجه الشرع فذلك من عهدته ومن تمام ما يتحصل به الحكم بالحق والعدل ومما أنزل الله وأما إذا كان التلقين بتنبيه أحد الخصمين على ما يدل على (4/286)
عدم إقراره بالحق واعترافه بما يجب عليه ونحو ذلك فهذا من أعظم المحرمات وليس الفاعل لهذا منزل نفسه منزلة الحكم بين الخصمين بل منزلة خصم ثالث أخرج نفسه من القضاء وأدخلها في الخصومة
قوله والخوض معه في قضيته
أقول هذا من أقبح ما يفعله حكام الجور لأن التسوية بين الخصوم واجبة عليه فالخوض مع أحد الخصمين في قضيته مخالف لما هو واجب عليه من التسوية وعلى فرض أنه ما أراد إلا التحقيق فقد وقع في أمرين محظورين أحدهما إحراج صدر الخصم الآخر والثاني إدخال نفسه في التهمة فهذان الأمران منضمان إلى ما يحرم عليه من ترك التسوية
قوله والحكم بعد الفتوى
أقول إن كان هذا الذي أفتى مظنة تهمة بتعصبه لما سبق به القول منه في فتواه كما يقع ذلك في كثير من طباع من سبق ذهنه إلى قول وتسارع فهمه إلى معنى فإنه بعد ذلك يجادل عنه ويناضل ويقوم ويقعد محاماة للناموس الطاغوتي وتقويما لصنم محبة الرفعة والغلبة والظهور فلا ينبغي تفويض أمر الحكم إليه بعد فتواه بل لا يحل تفويض شيء من أحكام الله إليه لأنه متعصب متعسف قد اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وإن لم يكن المفتي بهذه المنزلة فلا مانع من توليه للحكم لأن ورعه وعلمه يزجرانه عن مخالفة الحق لتقويم حظ النفس
قوله وحال تأذ
أقول إن كان هذا التأذي بما أصيب به يقتضى أن يقصر في البحث عن مسالك الحق وطرائق الحكم أو عن استيفاء ما يورده الخصوم من الحجج التي لهم وعليهم فهو ممنوع من هذه الحيثية لأنه مأمور بالحكم بالعدل والحق وقد حدث له ما لا يتمكن معه منهما تمكنا كاملا فيؤخر الحكم إلى وقت آخر وليس عليه أن يحكم قبل أن يتمكن من المقتضي (4/287)
للحكم أو بعد إن وجد المانع منه وهكذا إذا انتهى ما عرض له من التأذي إلى أن يقع في الغضب فيحكم وهو غضبان فإن ذلك لا يحل له كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يقضين الحاكم بين اثنين وهو غضبان ولا يصح الاستدلال للجواز بما وقع منه صلى الله عليه و سلم من الحكم للزبير في شراج الحرة بعد أن أحفظه خصمه أن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم فلا يصح إلحاق غيره به وقد قيد حديث النهي عن الحكم حال الغضب بعض أهل العلم بما إذا كان الغضب لغير الله وأجيب عنه بأنه تأويل مخالف لظاهر الحديث بدون دليل يدل على التقييد
قوله أو ذهول
أقول لا شك ولا ريب أن الذهول مانع من البحث عن مستندات الحكم لأنه في تلك الحالة قد استغرق عقله بما طرأ عليه من الأمور التي اقتضت ذهوله وليس له أن يعرض نفسه للحكم في دماء العباد وأموالهم وأعراضهم ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه لأنه لم يؤمر بالحكم كيفما اتفق وعلى أي صفة وقع بل أمر بأن يحكم بالحق والعدل وأنى له الوقوف على ذلك وهو ذاهل العقل مستغرق الفكر متشوش الفهم مبلبل البال
قوله ولنفسه الخ (4/288)
أقول وجه هذا أن الحاكم مأمور بأن يحكم بين الناس وهو إن كان من الناس فهو خارج عنهم من هذه الحيثية لأن الحكم لا يصدق عليه هذا المعنى وهو أحد الخصمين وقد قدمنا في الشهادات الأدلة الدالة على المنع من شهادة المتهم وأي تهمة أقوى من أن يحكم الحاكم لنفسه وهو وإن كان من له وازع من الورع وزاجر من الدين لا يقدم على الحكم لنفسه بالباطل لكن الحكم للغالب ولا اعتبار بالنادر وهكذا الحكم لعبده لأنه حكم لنفسه لأن ماله لسيده عند من يقول بأن العبد لا يملك وهكذا الحكم لشريك فإنه حكم لنفسه فكان يغني عن التطويل الاقتصار على قوله ولنفسه وهو يتناول الحكم لها على استيلاء والحكم لها بواسطة والحكم لها ولغيرها ولا حاجة إلى قوله بل يرافع إلى غيره لأن منعه من الحكم لنفسه يستلزم أن يكون الحاكم غيره
وأما قوله وكذلك الإمام فهو وإن كان صحيحا لكنه ينبغي أن يذكر في الأحكام المتعلقة بالأئمة وسيأتي في كتاب السير إن شاء الله
قوله قيل وتعمد المسجد
أقول قد كان يقع القضاء في مسجده صلى الله عليه و سلم منه ومن خلفائه الراشدين ولم يرد ما يدل على المنع من ذلك ولا ثبت في النهي عنه شيء وأما ما روي من النهي عن رفع الأصوات في المساجد على فرض قيام الحجة به فغاية ما هناك أنه يزجر من رفع صوته من الخصوم ويعاقب فإن القاضي إذا فعل ذلك تجنب الخصوم ما يشوش على المصلين من أصوات وغيرها وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد ثقيف المسجد وهم باقون على شركهم وأذن للحبشة بأن يلعبوا فيه بحرابهم وكانوا يتناشدون فيه الأشعار وفي هذه الأمور من التشويش على المصلين زيادة على ما يحصل من قعود خصمين أو أكثر بين يدي الحاكم في المسجد مع ما هو معلوم مع أن القضاء بالحق هو من العمل بالشريعة وتبليغها إلى العباد ونشر أحكامها (4/289)
بينهم وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى
قوله وله القضاء بما علم
أقول اعلم أن غاية ما يحصل للحاكم بشهادة الشهود أو يمين المنكر أو إقرار المقر هو مجرد الظن المختلف قوة وضعفا لأن الصدوق قد يكذب والمقر على نفسه قد يقر بالباطل لغرض ولكن هذه لما كانت أسبابا شرعية وردت في الكتاب والسنة وأجمع عليها أهل الإسلام كان للقضاء بها حقا في ظاهر الشرع وجاز للقاضي الاستناد في حكمه إلى الظن لأن هذه الأدلة الواردة في أسباب الحكم هي من جملة مخصصات الأدلة الواردة في النهي عن العمل بالظن والوعيد عليه كما قيل في أخبار الآحاد ونحوها من الظنيات ومعلوم لكل عاقل أنه إذا كان الحاكم يعلم بالقضاء ويدري بالشيء على جليته وحقيقته فهذا مستند فوق ما يحصل له من تلك الأسباب لأنه علم والحاصل بتلك الأسباب ظن ولا خلاف في أن العلم أقوى من الظن وأن الاستناد إليه مقدم على الاستناد إلى الظن بل لا يبقى للظن تأثير مع وجود العلم أصلا فالحاكم الذي حكم بما يعلمه قد حكم بالعدل والحق والقسط بلا شك ولا شبهة ولم يكن من عمله مجوزا لكون حكمه باطلا وليس ذكر تلك الأسباب إلا لبيان ما هو ممكن في الواقع من التوصل إلى معرفة الحق مع عدم القطع والبت بمطابقة الحكم للواقع ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار هكذا لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما فلا شك ولا ريب أن قضاء الحاكم بعلمه أسكن لخاطره وأقوى لقلبه وأقر لعينه من الحكم بالظن والعمل بما هو أولى هو مقبول لا يخالف فيه إلا من لا يتعقل الحقائق كما ينبغي كما تقرر في الأصول في الكلام على فحوى الخطاب (4/290)
هذا لو قدرنا أن تلك الأسباب لم يرد ما يدل على سببية غيرها ومعلوم أن التنصيص على بعض الأسباب لا ينفي سببية غيرها وأما ما قيل من أنه قد ورد ما يدل على انحصار الأسباب فيها وهو قوله صلى الله عليه و سلم وليس لك إلا ذلك بعد قوله شاهداك أو يمينه فيجاب عنه بأن هذا إنما يكون دليلا لو علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد علم بالواقع في تلك القضية وترك العمل بعلمه وعدل إلى طلب البينة واليمين ولم يثبت ذلك على أنه يرد على هذا الحصر إقرار من عليه الحق فإنه أقوى في السببية للحكم من البينة واليمين
فالحاصل أن الحاكم بعلمه حاكم بالعدل والحق والتعليل بالتهمة لا وجه له ولا التفات إليه فإنه التهمة عن الحكام العادلين العارفين بما شرعه الله المتعلقين لحجج الله سبحانه منتقية ولا يعود عليهم من ذلك غرض يصلح لجعله علة أصلا وليس محل النزاع هو الحاكم المتهم بل محل النزاع هو الحاكم الجامع لما قدمنا ذكره في شروط القضاء وهو أبعد عن الريب وأنزه من أن يزن بعيب
وأما استثناء الحدود فوجهه أنه إذا لم يحصل النصاب المعتبر فيها كان ذلك شبهة وهي تدرأ بالشبهات وأما ما استدل به على هذا الاستثناء من قوله صلى الله عليه و سلم لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها كما تقدم في قصة الملاعنة فليس فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قد علم بوقوع الفاحشة منها ولكنه استدل على ذلك بما ظهر من القرائن كما تضمنته القصة وليس ذلك من باب العلم ومع هذا فالبينة هي ما يتبين به الشيء وتظهر عنده حقيقته والعلم من الحاكم من هذه الحيثية بينة بل هو أقوى بينة ولعله يأتي في الحدود ما يزيدك بصيرة إن شاء الله (4/291)
قوله وعلى غائب الخ
أقول قد جعل الله لحكم الحاكم أسبابا معلومة يعرفها الحاكم وهي الإقرار أو البينة أو اليمين ويلحق بذلك مثل النكول والرد وقد تقدم تحقيق الكلام فيهما فالحاكم إذا قامت لديه الشهادة العادلة المرضية بثبوت الحق على الغائب أو الذي لا يعرف أين هو أو المتردد عن حضور مجلس الحكم فقد أوجب الله عليه إنصاف المحكوم له بحكم الله والقضاء بما شرعه الله ولا يتم ما أمر الله سبحانه من الحكم بالعدل والحق وبما أنزل إلا بهذا وهكذا لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بهذا ومن زعم أن غيبة الذي عليه الحق عذر للحاكم في مطل من له الحق وعدم إنصافه ورفع ظلامته فعليه الدليل وهذا إذا كان الدي عليه الحق في موضع لا يعرف فإن جواز الحكم عليه أظهر من جواز الحكم على من كان غائبا في مكان معروف وهكذا إذا كان من عليه الحق متمردا عن حضور مجلس الحاكم تاركا لما أوجبه الله عليه من الإجابة إلى شرعه فإن جواز الحكم عليه أظهر من الأمرين السابقين ولو تم للمتمردين عن الشرع تمردهم لم ينفذ الحق على غالب الناس وحينئذ تبطل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملة بين العباد ويبطل ما هو رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثل قيام البينة عند الحاكم المتصفة بثبوت الحق عليه على ما تقدم تقريره ولكن على الحاكم أن يؤذن الغائب بأنه قد توجه الحكم عليه فإن بقي له ما يدفع به عن نفسه أورده إذا كان غائبا في مكان لا يلحق مشقة زائدة بالإعذار إليه وهكذا يعذر إلى المتمرد على أنه قد ورد في الحكم على من لم يحضر إلى مجلس الشرع دليل يخصه وكتبنا على ذلك رسالة مطولة وذكرنا فيها ما ينشرح له صدر المنصف وينثلج به قلبه فمن أحب الوقوف عليها فليقف عليها
ويحتاط الحاكم حيث لم يكن الإعذار إلى الغائب أو المتمرد بالتولف على المحكوم له (4/292)
بأن لا يتصرف فيما حكم به له حتى ينظر ما يقوله الغائب بعد حضوره والمتمرد بعد رجوعه عن تمرده وكذلك مجهول المكان حتى يظهر مكانه
فإن قلت إذا كان المطالب بالحكم فليس عليه إلا اليمين بأن يكون الظاهر معه قلت ينبغي أن يحكم له بيمينه المسندة إلى الظاهر الذي معه ويؤخذ عليه أن لا يتصرف فيه لجواز أن يكون مع خصمه الغائب أو المجهول أو المتمرد ما يترجح على يمينه وينقل عن الظاهر الذي معه فهكذا ينبغي أن يقال في هذا المقام وأما منع المانعين عن الحكم على هؤلاء فهو سد لباب حكم الشرع وإهمال لما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلم بحت لمن جاء يشكو ظلامته ويعرض المستند الذي أمر الحكام بالحكم به
وأما قدر مسافة الغيبة فينبغي تفويض النظر فيه إلى الحاكم المجتهد لاختلاف الأحوال باختلاف الأشخاص والأموال ومتى حضر هو أو المجهول أو المتمرد مجلس الحاكم عرض عليه الحاكم المستند الذي حكم به عليه فإن جاء بما يخالفه ويترجح عليه عمل عليه وإلا أقنعه بما تقدم من الحكم عليه ولا وجه للاقتصار على قوله فليس إلا له تعريف الشهود لأن مستندات الحكم أكثر من ذلك
وأما قوله ولا يجرح إلا بمجمع عليه فلا وجه له بل يثبت الجرح بما يوجب سلب العدالة المعتبرة في الشهود لأنها إذا سلبت ذهب المقتضي للحكم ووجد المانع فلا أثر للحكم بعد عدم المقتضي ووجود المانع
وأما ما ذكره من الإبقاء من مال الغائب فهو صحيح مع التوثق منه بألا يخرجه عن ملكه قبل معرفة ما ينتهي إليه الحال
وأما الفرق من المصنف بين ما ثبت للغائب بالإقرار والنكول بين ما يثبت له بالبينة فوجهه أن ما ثبت له بالاعتراف أو بما هو في حكمه قد ثبت بمستند لا يحتمل النقض بخلاف ما ثبت بالبينة ولكنه يمكن أن يقال أن الإقرار ونحوه إذا رده المقر له بطل كما تبطل البينة إذا أقر بعدم صحتها فالاحتمال كائن في الجميع والتجويز يدخل الكل ولا وجه (4/293)
لما علل به بعضهم من أن الحكم بالبينة حكم الغائب ولا يجوز إجماعا لأنا نقول وهكذا الحكم بالإقرار وما هو في حكمه حكم لغائب
قوله وتنفيذ حكم غيره الخ
أقول إذا كان المتولى للحكم بمكان مكين من العلم والدين فالظاهر أن حكمه حق وعدل وما كان كذلك فتنفيذه حق وعدل ولا سيما إذا كان لا ينفذ إلا بهذا التنفيذ فإنه واجب تنجيزا لحكم الله عز و جل وقياما بحق المظلوم وأخذا له من الظالم
وأما قوله والحكم بعد دعوى قامت عند غيره فلا مانع من هذا وليس قيام الدعوى عند الغير مما يوجب أن لا يحكم فيها غيره من الحكام ولكن لا بد من أن يسمع الحاكم الآخر ما يقوله الخصمان للحديث الذي قدمناه في قوله ويسمع الدعوى أولا ثم الإجابة
وأما قوله إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة إلى آخر ما ذكره فإن كان يحصل للحاكم الأخر بهذه المكاتبة ما يحصل له بالسماع من الخصمين أغنى ذلك عن إعادة الدعوى وإلا فلا بد من إعادتها لديه ولا وجه لاستثناء الحدود والقصاص والمنقول الموصوف والتعليل الذي عللوا به لا ينتهض للمانعية
والحاصل أن العمل في هذا البحث راجع إلى مسألة العمل بالخط وقد ثبت العمل به الأدلة المتكاثرة كما بيناه في رسالة مستقلة فإذا كان خط الحاكم الأول معروفا لدى الحاكم الآخر بحيث لا يعتريه فيه شك ولا شبهة كان ذلك قائما مقام مشافهته وإلا فلا
قوله وإقامة فاسق الخ (4/294)
أقول لا ملجيء ها هنا إلى إقامة من لا يؤتمن لا سيما مع اشتراط أن يحضر معه الحاكم أو مأمونه فإن حضور أحدهما يغنى عن حضور الفاسق فإن كان للفاسق مزيد خبرة وكمال معرفة بذلك المعين وفرضنا أنه لا يوجد في العالم من له مثل حاله فللضرورة إلى إقامته حكمها
قوله وإيقاف المدعي حتى يتضح الأمر فيه
أقول هذا إذا اقتضته المصلحة جائز للحاكم فقد يكون للحاكم في ذلك نظر يعين على تبين الحق واتضاح وجهه
فصل
وحكمه في الإيقاع والظنيات ينفذ ظاهرا وباطنا لا في الوقوع ففي الظاهر فقط إن خالف الباطن ويجوز امتثال ما حكم به من حد وغيره ويحب بأمر الإمام إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل أوالباطن ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم إلا فيما يقوى به أمر الإمام كالحقوق والشعار لا فيما يخص نفسه ولا في العبادات مطلقا ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب والتقديم بالقرعة ويجيب المنكر إلى أي من في البريد ثم الخارج عنه إن عدم فيه
قوله فصل وحكمه في الإيقاع والظنيات الخ (4/295)
أقول هذا التعرض للمحكوم فيه مع التعرض للفرق بين الإيقاع والوقوع وبين القطعية والظنية كلام قليل التحصيل فإن حكم الحاكم إنما يكون بالمستندات التي ورد الشرع بها وهي ظنية فالحكم بها لا يخرج عن كونه ظنيا ولكنه ورد التعبد بالعمل بهذا الظن وقبوله ووجوب امتثاله ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فتقرر بهذا أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا فلا يحل الحرام به ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع ويجبر من امتنع منه فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له به باطل لم يحل له ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق وما أظن المصنف ومن يوافقه يخالفون في هذا وإن استلزمه كلامهم ها هنا ولعل التعرض لمثل هذا شعبة من شعب مذهب الحنفية القائلين بأن حكم الحاكم يحلل الحرام ويحرم الحلال وإن كان في نفس الأمر وفي الواقع على غير الصفة التي وقع الحكم عليها وهذه مقالة باطلة وشبهتها ضاحضة وقد دفعها الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ودفعها رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها والذي في كتبهم تخصيص ذك بما عدا الأموال ولا يختلف في هذا (4/296)
من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عز و جل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ولهذا يقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي وبهذا تعرف أن المراد بقول من قال كلا مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه
قوله ويجوز امتثال ما أمر به الخ
أقول لا وجه لهذا بل يجب امتثال ما أمر به من حد أو غيره ولهذا يقول الله عز و جل فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فالحاكم الذي سيحكم بين المشتجرين بحكم الله يثبت له مثل هذا الحكم لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي ذكره الله في هذه الآية هو الحكم بالشريعة الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والكتاب والسنة موجودان والحكم بهما متيسر لكل من يفهم كلام الله وكلام رسوله ومن هذا قول الله عز و جل إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا والمراد إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله فقوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا يدل على وجوب الامتثال لا على مجرد جوازه والمراد من الامتثال تسليمه نفسه لذلك والرضا به ولا وجه لتعليق الوجوب بأمر الإمام فإن الإمام لا يأمر إلا بما قضى به الشرع فإن خالفه أو أسقط ما أوجبه فليس بإمام بل هو ضال مضل (4/297)
قوله إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل إلخ
أقول وجه هذا ما ورد في الأدلة من أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وورد إنما الطاعة في المعروف وورد من أمر أن يطيع الله فليطعه ومن أمر أن يعصيه فلا يعصه ولكن لا وجه لاعتبار مذهب الممتثل بل المراد ما هو الحق في الواقع وفي نفس الأمر بدليل الكتاب والسنة وهذه التقييدات وردت مقيدة لطاعة أولي الأمر مع كون الأدلة قد دلت على وجوب طاعتهم كما وردت الأدلة بوجوب امتثال أحكام حكام الشرع فعلى المحكوم عليه بما يخالف ما هو الحق قطعا أو يخالف ما في الواقع وفي نفس الأمر أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الأدلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط ومن شرط عدم جواز الامتثال أن يكون للمحكوم عليه بصيرة يعرف بها الحقيقة لأن من عداه قد يظن الحق باطلا والصواب خطأ لقصور فهمه عن إدراك الحقائق
قوله ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم
أقول وجه هذا أن العمل في الخصومات على ما يحكم به الحاكم المترافع إليه إذا كان جامعا لتلك الشروط السابقة وأما العبادات وما يختلف فيه الناس من المعاملات فلهما أن يلزما الناس بالعمل بالراجح الذي دل عليه الدليل الصحيح وترك العمل بالرأي المجرد الذي لا يكون العمل به إلا عند عدم الدليل رخصه للمجتهد فقط لا يجوز تقليده فيه كما قد حققنا هذا البحث في مؤلفاتنا في غير موضع ومن ذلك ما قدمناه في مقدمة هذا الكتاب (4/298)
فإذا كان الإمام والحاكم من العلماء المجتهدين المؤثرين للدليل على القال والقيل والرواية على الرأي فلا شك أن العمل عندهما بالرأي مع وجود الدليل منكر عظيم فمن حق القيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين هما أعظم أعمدة الدين وأهم مهماته أن يأمر الناس بالعمل بالحق الذي أمر الله بالعمل به وشرعه لعباده ونهاهم عن العمل بالباطل الذي لم يأذن الله سبحانه بالعمل به ولا شرعه لعباده
فالحاصل أن من أوجب ما يجب على الإمام ومن له قدره أن يحيى ما أحياه الكتاب والسنة ويميت ما أتاه ويدعو الناس إلا ما دعاهم الله ورسوله إليه ونهاهم عما ينهاهم الله ورسوله عنه وبهذا تعرف أن عدم الإلزام في مسائل الخلاف كما يقول كثير من أهل الفروع هو شعبة من محبة التقليد الذي نشأوا عليه ودبوا ودرجوا فيه وحنين منهم إلى الإلف المألوف فليكن هذا منك على ذكر ولعله يأتي له مزيد بيان إن شاء الله عند الكلام على قوله ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه وبهذا تعرف أنه لا وجه للفرق بين ما يقوى به أمر الإمام وبين ما لا يقوى به وبين ما فيه شعار وما لا شعار فيه وبين العبادات وبين المعاملات
قوله ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب
أقول وجهه أن المدعي طلب خصمه إلى حكم الله على يد الحاكم الذي طلب الحضور إليه فوجب على خصمه أن يقول سمعنا وأطعنا وهكذا هذا الخصم إذا كان له دعوى على المدعي وطلبه إلى حاكم آخر كان الكلام فيه كالكلام المتقدم لأنه له مثلما عليه ولكن إنما تجب الإجابة بشرطين
الأول أن يكون الذي طلب إليه جامعا للشروط السابقة وإلا فهو ليس بحاكم بل متوثب على ما ليس له داخل فيما لا يحل له الدخول فيه قاعد في مقعد يجب من باب النهي عن المنكر إقامته منه (4/299)
الشرط الثاني أن لا يكون في طلب الوصول إلى الحاكم الذي طلب الوصول إليه بإضرار الخصم واتعاب له إذا كان يمكن وجود غيره بدون ذلك
وما ذكره من التقدم بالقرعة صواب مع الاختلاف وقد قدمنا أنها وردت بها الأحاديث الصحيحة فد دفع خصومات فضلا عن تقدم من تقدم من المدعيين
وأما قوله ويجيب المنكر إلى أي من في البريد إلخ فلا بد من اعتبار الشرطين اللذين ذكرناهما ها هنا
فصل
وينعزل بالجور وبظهور الارتشاء لا بالبينة عليه إلا من مدعيه فيلفو ما حكم بعده ولو حقا وبموت إمامه لا الخمسة وعزله إياه وعزله نفسه من وجه من ولاه وبقيام إمام
قوله فصل وينعزل بالجور
أقول وجه هذا الانعزال أنه قد صار بالجور غير عدل والعدالة شرط كما تقدم والشرط يؤثر عدمه في عدم الشروط وهكذا إذا وقع من الحاكم قبول الرشوة فإنه ينعزل لبطلان عدالته بصدور هذه المعصية الكبيرة منه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن عمرو وأخرجه أيضا ابن حبان (4/300)
والدار قطني والطبراني وأخرجه أيضا أحمد والحاكم من حديث ثوبان وفي إسناده كما قال ابن حجر ليث بن أبي سليم إنه تفرد به وقال البزار في مجمع الزاوائد إنه أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول انتهى
وأما قوله لا بالبينة عليه الخ فلا وجه له فإن قيام البينة عليه يفيد ثبوت ارتشائه وسواء كان ذلك على جهة الشهادة أو الإخبار وسواء كان هناك من يدعي عليه أم لا وليس الوقوف عند هذه الاعتبارات إلا مجرد تقليد لا أصل له وأما كونه يلغو ما حكم به بعده فهو ثمرة انعزاله فإن العزل حجر له عن إيقاع الحكم
قوله وبموت إمامه
أقول قد قدمنا في الوقف عند قول المصنف وتبطل تولية أصلها الإمام بموته ما يغني عن إعادته هنا فليرجع إليه
وأما قوله وبقيام إمام فمبني على بطلان الولاية بموت الإمام الأول الذي ولاه وقد قدمنا دفعه فولاية الإمام الذي ولاه باقية لا موجب لبطلانها لا من شرع ولا من عقل
وأما قوله أو محتسب فقد قدمنا الكلام عليه عند قوله وولاية من إمام حق أو محتسب
وأما قوله وعزله نفسه في وجه من ولاه فوجهه أن القاضي إذا اختار التخلي عن القضاء والخلوص من تكاليفه كان له ذلك ولكنه إذا لم يأذن له الإمام بذلك كان آثما لوجوب طاعة الأئمة وإذا كان لا يغني عنه غيره كان إثما آثما آخر من هذه الجهة لأنه (4/301)
ترك ما أخذه الله عليه من البيان للناس الذي أوجبه على الذين أوتوا الكتاب وأخذ به ميثاقهم فهو قد ترك واجبين وباء بإثمين
فصل
ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي كمخالفة الإجماع ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن إن تعذر التدارك وخطأ نفذ في الظني وما جهل كونه قطعيا وتدارك في العكس فإن تعذر غرم من بيت المال وأجرته من مال المصالح ومنصوب الخمسة منه أو ممن في ولايته ولا يأخذ من الصدقة إلا لفقره
قوله فصل ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي الخ
أقول إذا كان الحاكم الذي حكم جامعا للشروط المتقدمة فقد صار حكمه لازما للمحكوم عليه يجب عليه أن يتلقاه بالسمع والطاعة وأن لا يجد في صدره حرجا من ذلك ويسلم تسليما كما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز ولكن أهلية الحاكم ليست تعصمة ودين الله هو ما شرعه لعباده في كتابه وسنة رسوله فإن كان هذا الحاكم المتأهل قد أصاب الحق في حكمه فلا شك ولا ريب أنه لا يجوز لمسلم كائنا من كان أن يتعرض لنقض هذا الحكم بل لا يجوز لمسلم أن يترك الامتثال له فضلا عن أن يحاول نقضه ومخالفته ومعنى كونه قد أصاب في حكمه أن يوقعه موافقا لما في كتاب الله أو لما في سنة رسوله فإن لم يجد فيهما ما يقتضي ذلك عول على القياس عليهما بجامع مقبول كالنص على العلة أو عدم الفارق ووجه هذا ما في حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن للقضاء فأمره بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد (4/302)
اجتهد رأيه وهو حديث صالح للعمل به كما بيناه في غير هذا الموضع ولا يصلح لنقض حكم الحاكم المتأهل مع وجود دليل يعارض دليله إذا كان ما عمل به صالحا للاحتجاج به لأن ذلك هو فرضه عند تعارض الأدلة أما إذا تبين أن الحاكم المتأهل أخطأ في الحكم فلا يجوز إقرار حكمه بل يجب على الحاكم الآخر نقضه لما قدمنا لك أن مجرد تأهل الحاكم للقضاء ليس يعصمه ولهذا يقول الصادق المصدوق في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران فقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم حكمه مترددا بين الصواب والخطأ فليست الأهلية بعصمة عن الخطأ كما في هذا القول النبوي وذلك بأن يستند في حكمه إلى رأي والدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة موجود فإن الحكم المبني على هذا الرأي منقوض بالدليل الصحيح الذي مضروب به وجه الحاكم لأن شرع الله سبحانه واحد لا يخرج بخطأ الحاكم عن كونه شرعا والتعبد به للعباد ثابت قبل الحكم وبعده في هذا القضية التي حكم فيه الحاكم وغيرها وعلى هذا المحكوم له أو عليه وعلى غيرهما أما إذا كان القاضي المتولي للحكم غير متأهل للقضاء فحكمه باطل من أصله لأنه صادر عن غير حاكم لكنه إذا وافق الحق فقبوله واجب من حيث كونه لا حقا من حيث كونه صادرا عن غير من يصلح للقضاء لأن الحق حق في نفسه لا يخرج بحكم من ليس بمتأهل للقضاء عن كونه حقا وإن كان القاضي الذي ليس بمتأهل آثما لأنه قضى بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضيي النار كما تقدم في الحديث لأنه لا يعرف كون الحكم الذي حكم به حقا أو باطلا إذ هو لا يتعقل الحجة فضلا عن أن يحكم بها بين الناس
وإذا تقرر لك هذا عرفت أن مرجع لزوم حكم الحاكم ووجوب امتثاله وتحريم نقضه يرجع إلى كونه مطابقا للحق وعدم لزومه وجواز نقضه يرجع إلى كونه مخالفا للحق ومثل هذه الموافقة والمخالفة لا تخفى على المحققين من أهل العلم المشتغلين بأدلة (4/303)
الكتاب والسنة ولن يخلي الرب عز و جل عباده وبلاده عن وجود من يقوم بالبيان لما في الكتاب والسنة ويرشد العباد إلى ما اشتملا عليه مما عليه مما شرعه لهم وبهذا تعرف أن ما خالف الدليل القطعي أو خالف إجماع المسلمين من الأحكام كان أولى بالنقض وأحق بعدم وجوب الامتثال
وأما قوله ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة فقد قررنا لك فيما سبق أن التحكيم جار مجرى إلزام النفس بالقبول لما حكم به فلا يجوز الرجوع عنه ولا يحل لحاكم أن يتعرض لنقضه لكنه إذا وقع على خلاف الحق وخرج عن صوب الصواب فمعلوم أن من حكمه إنما حكمه أن يحكم له أو عليه بالشرع فالتزامه منصرف إلى هذا لا إلى مجرد ما حكم به على أي صفة وقع وإن خالف الشريعة الواضحة فالكلام ها هنا كالكلام في حكم الحاكم وقد عرفته
قوله ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن
أقول إذا حكم الحاكم بخلاف الحق فقد جار وبجوره تبطل ولايته كما تقدم ولا مذهب للمجتهد إلا ما بلغت إليه قدرته من النظر في الأدلة والجمع بينها أو ترجيح الراجح منها فإن حكم بغير ما يصح له اجتهادا عمدا فقد حكم بالباطل وهو يعلم بأنه باطل وكفى بهذه الجراءة والجسارة والمخالفة لما أمر الله به فإن تلف ما حكم به باطلا وتعذر الرجوع على من أتلفه ضمنه القاضي لأنه قد تسبب بسبب متعد فيه عامدا معاندا لشرع الله مضادا للحق
وأما غير المتأهل فليس حكمه بشيء إلا إذا وافق الحق لكن صحته إنما هي لكونه وافق الحق كما قدمنا وأما إذا حكم بخلاف الحق عامدا على فرض أنه قد اعتقد اعتقادا جهل أن الحق هو كذا فهذا يضمن من هذه الحيثية إذا تعذر رجوع العين المحكوم بها ورجوع قيمتها
وأما قوله وخطأ نفذ في الظنى وما جهل كونه قطعيا فالكلام في هذا هو ما (4/304)
قدمنا تحريره وتقريره فلا نعيده
قوله فإن تعذر غرم من بيت المال
أقول الحاكم معذور بالخطأ وقد قدمنا أن تأهله ليس يعصمه عن الخطأ فإذا حكم بخلاف الحق خطأ فلا ضمان عليه بل له أجر كما تقدم في الحديث الصحيح ولكنه ها هنا قد كان حكمه هذا الواقع على جهة الخطأ سببا لذهاب مال المحكوم عليه فهو مظلوم ورفع ظلامته واجب وقد تعذر الرجوع بالعين والرجوع بقيمتها على المحكوم له ولم يتعلق بالحاكم الضمان ولا يجوز تضمينه مع الخطأ فلم يبق إلا جبر ما لحقه من الخسر من بيت المال فيكون له حكم الغارم وقد تكفل رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر أيام النبوة بعد أن فتح الله على المسلمين بأن من ترك دينا أو ضياعا فهو عليه وإليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة فمال هذا المحكوم عليه بالخطأ هو دين على من استفرقه وقد تعذر الرجوع عليه فكان دينا على بيت مال المسلمين
قوله وأجرته من مال المصالح
أقول قد ثبت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم كان يجعل لمن عمل عملا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقا ومن ذلك أرزاق المصدقين والأمراء الذين يؤمرهم على البلاد وهكذا ثبت في أيام الخلفاء الراشدين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي أنهم كانوا يجعلون للولاة والقضاة ومن يعمل في الصدقات رزقا من بيت مال المسلمين وكان يفرضون للأئمة رزقا يقوم بما يحتاجون إليه مع حاجتهم إلى ذلك وعدم وجود ما (4/305)
يقوم بمؤنتهم من خالص أموالهم ولا شك أن انتصاب القاضي المفتي للفتيا قيام بمصلحة عامة فله نصيب في بيت مال المسلمين من هذه الحيثية وليس ذلك بأجرة على واجب بل ثبوت حق له في بيت مال المسلمين وقد كان الصحابة يأخذون عطاءهم من بيت المال وإن لم يلوا عملا كما هو معلوم فكيف إذا قاموا مع ذلك بما لم يقم به سائر المسلمين وقد جعل الله سبحانه العاملين على الصدقة أحد الأصناف الثمانية المستحقين لها ولا سبب لذلك إلا ما فعلوه من العمل وهكذا منصوب الخمسة بل وكل ذي ولاية دينية راجعة إلى القيام بمصالح المسلمين
وأما قوله أو ممن بلد ولايته فلا بد من حمله على أنهم يدفعون إليه من أموال الله التي بأيديهم لا أنهم يدفعون إليه من خالص أموالهم فإن ذلك لا مساغ له في الشرع
وأما كونه لا يأخذ من الصدقة إلا لفقره فقد قدمنا في الزكاة الكلام على الأصناف التي يشترط فيها الفقر والأصناف التي لا يشترط فيها الفقر فارجع إليه
وأما سائر الأموال التي هي معدودة في بيت مال المسلمين فلا يشترط بها فقر القاضي ولا غيره وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لعمر ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك بعد أن قال عمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يعطيه من هو أحوج إليه منه وقد كان الصحابة يأخذون من العطاء الألوف المؤلفة كما هو معلوم بل كان الحسنان وعبد الله بن جعفر وأمثالهم يأخذون المائة الألف وما هو أكثر منها (4/306)
- كتاب الحدود (4/307)
فصل
تجب إقامتها في غير المسجد على الإمام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه وله إسقاطها وتأخيرها لمصلحة وفي القصاص نظر ويحد العبد حيث لا إمام سيده والبينة إلى الحاكم
قوله يجب إقامتها في غير مسجد على الإمام وواليه
أقول أما كونها تقام في غير مسجد فقد ثبت في الصحيح أنهم خرجوا بماعز إلى البقيع وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وابن السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم بن حزام النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال ابن حجر ولا بأس بإسناده وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عباس قال ابن حجر وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرجه البزار من حديث جبير بن مطعم قال ابن حجر وفيه الواقدي ورواه ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى أن يجلد الحد في المسجد قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة انتهى
ولا يخفاك أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة لا سيما مع تجنبه صلى الله عليه و سلم لإقامة الحدود في المسجد ولم يثبت عنه أنه أقام حدا في المسجد قط (4/309)
وأما كونه يجب إقامة الحدود على الإمام وواليه فوجهه واضح ظاهر لأن الله سبحانه قد أمر عباده بإقامة الحدود وقال الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقال والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف الآية والتكليف في هذا وإن كان متوجها إلى جميع المسلمين ولكن الأئمة من يلي من جهتهم ومن له قدرة على تنفيذ حدود الله مع عدم وجود الإمام يدخلون في هذا التكليف دخولا أوليا ويتوجه إليهم الخطاب توجها كاملا
ومما يدل على تأكد الوجوب ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عائشة قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه و سلم فيها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز و جل ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال إنما أهلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية ومن هذا حديث من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عز و جل في أمره أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر ومن ذلك حديث ما بلغني من حد فقد وجب أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص وفي الباب أحاديث دالة على عدم جواز إسقاط الحدود وعدم جواز الشفاعة فيها وأحاديث قاضية بالترغيب في إقامتها والترهيب عن إهمالها (4/310)
قوله إن وقع سببها في زمن ومكان يليه
أقول هذا مبني على أن الحدود إلى الأئمة وأنه لا يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على هذا أثارة من علم وما استدلوا به من المروي بلفظ أربعة إلى الأئمة فلا أصل له ولا يثبت بوجه من الوجوه بل هو مروي من قول بعض السلف ولا شك أن الإمام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا
وأما أنه يقيمها إلا الأئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه فالباطل وإسقاط لما أوجبه الله من الحدود في كتابه والإسلام موجود والكتاب والسنة موجودان وأهل الصلاح والعلم موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد من المسلمين ومع هذا فلا يعدم من له ولاية من إمام أو سلطان أو متول من جهة أحدهما أو منتصب بالصلاحية في كل قطر من أقطار المسلمين وإن خلا عن ذلك بعض البادية لم تخل الحاضرة
قوله وله إسقاطها
أقول الإمام عبد من عباد الله سبحانه أنعم عليه بأن جعل يده فوق أيديهم وجعل أمره نافذا عليهم وأهم ما يجب عليه العمل بما شرعه الله لعباده وحمل الناس عليه وتنجيز ما أمر الله به ومن أعظم ما شرعه لهم وعليهم إقامة الحدود فكيف يقال إن لهذا العبد المنعم عليه أن يبطل ما أمر الله به ويهمل ما الله لعباده وأمرهم بأن يفعلوه وورد عن نبيه صلى الله عليه و سلم الوعيد الشديد على من تسبب لإسقاط الحد بشفاعة أو نحوها
فالحاصل أن الإمام والسلطان لهم الأسوة برسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان يقيم الحدود على من وجبت عليه ولم يسمع عنه أنه أهمل حدا بعد وجوبه ورفعه (4/311)
إليه وليس الاستثبات بإسقاط ولا من أسبابه وهكذا ليس درء الحد بالشبهة من ذلك ومن هذا قوله صلى الله عليه و سلم ألا تركتموه في قصة ما عز فإنه مبني على أن الحد يدرأ بالشبهة وأما ما عزا لما قال إن قومه غروه وخدعوه كان ذلك شبهة له وبهذا تعرف أنه ليس للإمام إسقاط ما أوجبه الله إلا ببرهان من الله لا من جهة نفسه فإنه لم يفوض إليه ذلك ولا من عهدته ولا مما له مدخل فيه فإن فعل فهو معاند لله ولرسوله مضاد له خارج عن طاعته تارك للقيام بما أمره به وهكذا ليس له تأخير ما قد وجب ولا التثبيط عما قد ثبت فإنه عبد مكلف مأمور منهى ليس بمعصوم ولا شارع
وأما قوله وفي القصاص نظر فهذا النظر لا وجه له بل الأمر أوضح من أن يحتاج النظر والحق لآدمي والإمام مأمور بإنصاف المظلوم وإيصاله بما ظلم به والأخذ على يد الظالم فالتأخير رجوع إلى نوع من أنواع المناسب المهلة كما هو معروف في كتب الأصول وهكذا ما تقدم من تجويز إسقاط الحد وتأخيره لمصلحة فله تأثير لذلك النوع من أنواع المناسب على ما في الكتاب والسنة وهكذا فليكن تأثير محض الرأي على الشرع الواضح
قوله ويحد العبد حيث لا إمام سيده (4/312)
أقول قد ثبت السنة الصحيحة بأن الأمة إذا زنت فليحدها سيدها كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد وأخرج مسلم في صحيحه وأحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي من حديث علي مرفوعا أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم فحد الأرقاء إلى المالكين لهم ليس إلى الأمام من ذلك شيء ولا فرق بين وجوده وعدمه ولا وجه لجعل البينة إلى الحاكم بل الأمر في ذلك إلى السيد ولهذا يقول صلى الله عليه و سلم إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فإن المراد تبين للسيد أنها زنت ولا يكون ذلك إلا بمستند صالح لإقامة الحد وقد كانت إقامة الحدود على الأرقاء من المالكين لهم شائعة في الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح لا ينكر ذلك أحد منهم
فصل
والزنا وما في حكمه إيلاج فرج في فرج حي محرم قبل أو دبر بلا شبهة ولو بهيمة فيكره أكلها ومتى ثبت بإقراره مفصلا في أربعة من مجالسه عند من إليه الحد أو بشهادة أربعة عدول أو ذميين على ذمي ولو مفترقين واتفقوا على إقراره كما مر أو على حقيقته ومكانه ووقته وكيفيته جلد المكلف المختار غالبا ولو معقولا أوقع غير مكلف صالح للوطء أو قد تاب وقدم عهده الحر البكر مائة وينصف للعبد ويححص للمكاتب ويسقط الكسر والرجل قائما والمرأة (4/313)
قاعدة مستترين بما هو بين الرقيق والغليظ بسوط أو عود بينهما وبين الحديد والعتيق خلي من العقود ويتوقى الوجه والمراق ويمهل حتى تزول شدة الحر والبرر والمرض والمرجو وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله ان احتملها وأشدها التعزير ثم حد الزنا ثم القذف ولا تغريب
قوله فصل والزنا إيلاج فرج في فرج إلخ
أقول هذا هو الزنا الشرعي الذي يجب به الحد وقد قال صلى الله عليه و سلم لمن أقر بالزنا لديه أنكتها قال نعم قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم هكذا في حديث أخرجه النسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة
وقوله أو من دبر يشمل عمل من عمل قوم لوط إذا وقع منه الإيلاج المذكور وجب عليه الحد البكر بجلد والمحصن يرجم ولكنه قد ورد ما يدل على قتل من عمل هذا العمل ومن عمل به فأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قال ابن حجر رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا وقال الترمذي إنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه (4/314)
وآله وسلم من هذا الوجه وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو قال ملعون من عمل عمل قوم لوط ولم يذكر القتل انتهى وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمر مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اقتلوا الفاعل والمفعول به انتهى وقد احتج البخاري ومسلم وغيرهما بأحاديث عمرو بن أبي عمرو
وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن ماجة والحاكم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا وفي إسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن الفضل البجلي وهو مجهول وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه وقد قتل اللوطي في زمن الخلفاء الراشدين وأجمعوا على ذلك ولا يضر اختلاف صفة القتل وذهب إلى ذلك جماعة من العلماء
قوله بلا شبهة (4/315)
أقول وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا وفي إسناده إبراهيم ابن الفضل وهو ضعيف وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد روي الدرء بالشبهات من غير هاتين الطريقتين مرفوعا وموقوفا والجميع يصلح للاحتجاج به لا سيما والأصل في الدماء ونحوها العصمة فلا تستباح مع وجود ما يدل على سقوط الحد
وأما الاستدلال بمثل قوله صلى الله عليه و سلم ولو كنت راجما أحدا بغير بينة رجمت فلانة كما في الصحيحين وغيرهما فليس فيه إلا اشتراط البينة وعدم جواز الحد بدونها كالقرائن القوية وليس هذا من درء الحد بالشبهة لأنه لم يكن قد حصل المقتضي للحد وهو البينة كما لا يخفى
قوله ولو في بهيمة فيكره أكلها
أقول إيجاب الحد على الناكح للبهيمة وجهه أنه يصدق عليه الحد الذي ذكره في أول هذا الفصل ولكنه قد ورد ما يدل على أنه يقتل كما في حديث ابن عباس عند أحمد (4/316)
وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة قال الترمذي بعد إخراجه هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد رواه سفيان الثوري عن عاصم بن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال من أتى بهيمة فلا حد عليه حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان وهو أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق انتهى ولفظ ابن ماجة في هذا الحديث عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وقع على ذات محرم فاقتلوه ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وهو من غير طريق عمرو بن أبي عمرو وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل وفيه مقال ولكنه قد وثقه أحمد
ولا يخفاك أن عصمة الدم بالإسلام لا ينقل عنها إلا ناقل تطمئن به النفس وينشرح له (4/317)
الصدر بخلاف ما تقدم فيمن عمل عمل قوم لوط فإن عمل الخلفاء الراشدين عليه وعدم الاختلاف بينهم فيه قد عضد ما ورد من القتل على فاعله ودل أبلغ دلالة على أنه شرع ثابت وأما كراهة أكل البهيمة فلم يثبت ما يدل عليه والأمر بقتلها لا ينافي جواز أكلها إذا كانت مما تؤكل
قوله ومتى ثبت بإقراره مفصلا الخ
أقول الأصل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم أنها معصومة بعصمة الإسلام كما صرحت بذلك أدلة الكتاب والسنة المتواترة فإذا ثبت في الشريعة ما يوجب ذهاب هذه العصمة بحقه كما في الحديث الصحيح أنه لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كان الواجب الوقوف على ذلك الناقل ومن جملة ما ينقل عن هذه العصمة الاعتراف بالزنا من البكر والمحصن وقد اكتفى صلى الله عليه و سلم في غير موضع بالإقرار مرة فلو كان الإقرار أربعا شرطا لا تحل تلك العصمة إلا به لم يقم صلى الله عليه و سلم حدا على من أقر مرة واحدة
وأما تثبته صلى الله عليه و سلم في أمر ماعز حتى أقر أربع مرات فقد شهدت قصته بأن النبي صلى الله عليه و سلم شك في صحة عقله وسأل قومه ومن ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قومه فقال هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا فقالوا ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كان الرابعة حفر له حفرة الحديث (4/318)
ومما يدل على أن أمر ماعز ف تكرر حضوره وإقراره لم يكن إلا للتثبيت لا لما يقتضيه الشرع من تكرر الإقرار ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن بريدة أن الغامدية قالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا الحديث واكتفى منها بالإقرار مرة واحدة فهذه امرأة محل النقص في عقلها ودينها فلو كان الإقرار أربعا لا بد منه لم يكثف منها بالإقرار ثم قولها لم تردني كما رددت ماعزا يفيد أن المألوف المعروف عندها وعند غيرها عدم اشتراط تكرر الإقرار ولو كان ذلك شرطا لم تستنكر ما وقع منه صلى الله عليه و سلم من رد ماعز
إذا تقرر لك هذا علمت أنه يكفي في عدم اشتراط تكرر الإقرار أربعا ولم يكن في يد المشترط إلا ما وقع في قصة ماعز وقد عرفت سببه فمن زعم أنه يشترط أنه لا يقام الحد إلا بعد هذا الإقرار المكرر فعليه الدليل وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا فإن تبرع بالدليل القائل بأنه يكفي الإقرار مرة واحدة فمن جملة ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأنيس واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فرتب الرجم على مطلق الاعتراف الواقع عند رسوله وفوضه في إقامة الحد عليها ومن ذلك ما ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه و سلم أمر برجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة ومن ذلك (4/319)
ما تقدم من إقرار الغامدية مرة واحدة ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنا بامرأة فجحدت فحده وتركها وهو في سنن أبي داود ومن ذلك حديث علي عند أحمد وغيره قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد وليس في ذلك أنها أقرت أربع مرات وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه و سلم السيد أن يقيم الحد على أمته إذا زنت وليس فيه أنه لا يقيم الحد عليها إلا بعد إقرارها أربع مرات
وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فهو قياس فاسد الاعتبار لمخالفته للأدلة وهو أيضا قياس مع الفارق وهو أن إقرار الإنسان على نفسه لا تبقى فيه شبهة ولا يخالج السامع عنده تهمة بخلاف قيام الشهادة عليه مع إنكاره ومن هذه الحيثية وقع الاكتفاء في الأموال بمجرد إقرار المقر مع أن الشهادة لا بد أن تكون من رجلين أو من يقوم مقامهما
وبمجموع ما ذكرناه يتضح لك أن الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد من غير فرق بين الرجم والجلد وأما إيجاب تكرر الأيمان في اللعان أربعا فوجهه أنها قائمة مقام الشهادة ولهذا سماها الله سبحانه شهادة وليست من الإقرار في شيء
قوله وشهادة أربعة عدول
أقول أما اشتراط أن يكونوا أربعة فهو نص القرآن الكريم ونص السنة المتواترة وعليه أجمع أهل الإسلام (4/320)
وأما قوله أو ذميين على ذمي فوجهه أنا مأمورون إذا ترفعوا إلينا بإجراء حكم الله عز و جل بينهم ومن حكم الله قبول شهادة بعضهم على بعض وإقامة حد الله عليهم وقد أقامه صلى الله عليه و سلم على اليهودي واليهودية كما في القصة الثابتة في الصحيحين وغيرهما وفي رواية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا بالأربعة الشهود منهم فشهدوا فرجمهما
وأما قوله ولو مفترقين فوجهه أنه لم يرد ما يدل على اشتراط الاجتماع
وأما قوله قد اتفقوا على إقراره أو على حقيقته الخ فوجهه ظاهر وهو مجمع عليه
قوله جلد المكلف المختار
أقول وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون لا يجري عليهما أحكام المكلفين كما تقدم تقريره ولهذا كرر صلى الله عليه و سلم الاستثبات في أمر ماعز وقال له أبك جنون وسأل قومه عن عقله وفي رواية أن استنكهه هل يجد به رائحة للخمر (4/321)
فأفاد ذلك أنه لا بد من كمال العقل وأن نقصانه ولو بسبب لا يجوز كالسكر يكون شبهة يدرأ بها عنه الحد ولا فرق بين أن يكون فاعلا أو مفعولا كما تقدم في الأحاديث من إقامة الحد على الرجال والنساء وعلى الفاعل والمفعول به في عمل قوم لوط وإذا كان المفعول به صالحا للوطء وجب الحد على الفاعل به وإن كان الحد ساقطا عن المفعول به لصغره فإنه لا يلزم مثلا من سقوط الحد على الصغيرة التي تصلح للوطء أن لا يقام الحد على الزاني بها المكلف لأنه قد فعل بها ما يصدق عليه الزنا وإن لم يصدق ذلك عليها
وأما قوله وإن تاب أو قدم عهده فوجهه أن الحد بعد رفعه لا يسقط بالتوبة ولا يتقادم عهده لأنه قد وجب بسببه فلا يسقط بمسقط شرعي ولا مسقط هنا
قوله الحر البكر مائة
أقول هذا هو الذي تطابقت عليه أدلة الكتاب والسنة ولم يختلف فيه المسلمون سابقهم ولا حقهم كما هو معلوم
وأما قوله وينصف للعبد فقد ورد التنصيف في القرآن الكريم للإماء قال الله عز و جل فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وإلحاق العبيد بالإماء بعدم الفارق بين النوعين ويؤيد كون حد المماليك خمسين ما أخرجه أحمد في المسند عن علي قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال فوجدتها في دمها فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بذلك فقال لي إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين وأصل الحديث في صحيح مسلم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال (4/322)
أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وروى ابن وهب عن ابن جريح عن عمرو بن دينار أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين
وأما ما روى عن ابن عباس أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله فإذا أحصن فقد أجيب عنه بأن لفظ الإحصان محتمل للإسلام والبلوغ والتزوج ويرد عليه ما قدمنا من أمر السيد أن يجلد أمته وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا خطب فقال يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن
وأما قوله ويحصص للمكاتب فقد تقدم الكلام عليه في بابه
قوله الرجل قائما والمرأة قاعدة
أقول لم يثبت ما يدل على هذا وإن كان القيام أقرب إلى أن يقع الجلد على جميع البدن وهكذا قعود المرأة هو أستر لها وأبعد من انكشاف شيء منها وأما الحفر للمرجوم فسيأتي الكلام فيه وأما كونهما مستترين بين الرقيق والغليظ فالمقصود أن المجلود يكون لابسا للثياب التي جرت عادة الناس بلبسها فلا يعدل إلى ما هو غاية في الغلظ ولا يكلف بما هو غاية في الرقة
وأما قوله بسوط أو عود بينهما الخ فقد ورد في هذه الصفة مرسلات منها عن (4/323)
زيد بن أسلم عند مالك في الموطأ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال بين هذين فأتي بسوط قد لان وركب وركب به فأمر فجلد وفي معناه مرسل آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ومرسل ثالث أخرجه ابن وهب من طريق كريب مولى ابن عباس
قوله ويتوقى الوجه والمراق
أقول أما توقى الوجه فقد ورد الأمر به على العموم فيدخل الجلد في ذلك وهذا الأمر بالتوقي للوجه ثابت في الصحيحين وغيرهما وأما توقي المراق فلم يرد في ذلك شيء بل من جملة ما ينبغي وقوع الضرب عليه إلا إذا كان يحصل بالضرب عليها زيادة تضرر وتألم
قوله ويمهل حتى تزول شدة الحر الخ
أقول إذا كانت هذه الشدة في الحر والبرد قد بلغت إلى مبلغ يكون في تأثيرها مشابهة للمرض فهي نوع من المرض وإن لم تكن هكذا فلا وجه للإمهال فإن كثيرا من البلاد يتناوبها الشدتان شدة الحر وشدة البرد في جميع أيام السنة وأما الإمهال للمرض المرجو زواله فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره قصة الأمة التي زنت فأمر عليا أن يجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشي أن تموت إن جلدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله (4/324)
وسلم أن يتركها حتى تتماثل وقد تقدم
وأما قوله وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله فوجهه قول الله عز و جل لأيوب عليه السلام وخذ بيدك ضغثا فاضرب به وقد فعل ذلك في زمن النبوة فأخرج الشافعي وأحمد وأبو داودو وابن ماجة والبيهقي من حديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال اضربوه حده فقالوا يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة ففعلوا وهو مرسل وقد رواه أبو أمامة بن سهل عن جماعة من الصحابة ولم يكن في هذا الحديث ما يدل على اشتراط مباشرة كل ذيل من ذيول العثكول فيكفي مطلق الضرب خروجا من واجب الحد ورفقا بالمحدود المبتلي بالمرض
وأما قوله إن احتمله فوجهه ظاهر لأنه إذا لم يحتمله كان ذلك عذرا في ترك الحد فإن عاش أقيم عليه
قوله وأشدها التعزير الخ
أقول الحدود على اختلاف أنواعها قد شرع الله فيها ما شرعه من جلد ورجم وقطع (4/325)
وقتل فينبغي أن يكون على الصفة الواردة من غير مخالفة فدعوى أن بعضها أشد من بعض لا دليل عليها ولا ورد ما يرشد إليها
قوله ولا تغريبت
أقول هذا رد للسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وبهذا عمل الخلفاء الراشدون فالعجب من التمسك في مقابل هذا الدليل الذي هو كشمس النهار وكالجبال الراسية بقولهم إن التغريب لم يذكر في آية الجلد فيا لله العجب فإنه إذا لم يذكر فيها فقد ذكره من بعثه الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ومثل هذا الاستدلال الفاسد استدلال من استدل بأنه لم يذكر في حديث جلد الإماء ونحوه
فصل
ومن ثبت إحصانه بإقراره أو شهادة عدلين ولو رجل وامرأتين وهو جماع في قبل في نكاح صحيح من مكلف حر مع عاقل صالح للوطء ولو صغيرا رجم المكلف بعد الجلد حتى يموت ويقدم الشهود وفي الإقرار الإمام أو مأموره فإن تعذر من (4/326)
الشهود سقط ويترك من لجأ إلى الحرم ولا يطعم حتى يخرج فإن ارتكب فيه أخرج ولا إمهال لكن تستبريء كالأمة للوطء ويترك للرضاع إلى الفصال أو آخر الحضانة إن عدم مثلها
وندب تلقين ما يسقط الحد والحفرة إلى سرة الرجل وثدي المرأة وللمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته وولده حال الفعل لا بعده فيقاد بالبكر
قوله فصل ومن ثبت إحصانه إلخ
أقول المعتبر هو ثبوت الإحصان الشرعي بطريق شرعية ولا يكون إلا لمكلف لرفع القلم عن غيره ولا بد أن تكون المنكوحة صالحة للوطء فإذا حصل هذا فقد ثبت الإحصان وأما اشتراط كونه في نكاح صحيح لا فاسد ولا باطل فلا دليل على هذا الاشتراط وقد عرفناك أن كثير من هذه الأوصاف الراجعة إلى الصحة والبطلان والفساد مجرد دعاوى مبنية على الخيالات التي هي أوهن من بيت العنكبوت فالمراد وجود ما يصدق عليه مسمى الإحصان وهو حاصل بوجود النكاح الشرعي ولا يشترط أن يكون في حال الزنا مستمرا على النكاح بل المراد وقوع النكاح ولو مضت مدة طويلة بعد المفارقة للزوجة لأنه يصدق على هذا الذي نكح في زمان من عمره أنه محصن شرعا ولهذا اكتفى النبي صلى الله عليه و سلم بمجرد سؤال ماعز عن كونه قد أحصن فعال نعم فاكتفى بذلك ولم يقل له هل تحتك حال الزنا زوجة وقد عرفت أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يترتب عليه سفك دم امرىء مسلم (4/327)
قوله رجم المكلف الخ
أقول ثبوت الرجم للزاني المحصن في هذه الشريعة ثابت بكتاب الله سبحانه وبمتواتر سنة رسوله وبإجماع المسلمين أجمعين سابقهم ولا حقهم ولم يسمع بمخالف خالف في ذلك من طوائف المسلمين إلا ما يروى عن الخوارج وهم كلاب النار وليسوا ممن يعتد بخلافهم ولا يلتفت إلى أقوالهم وقد وصفهم صلى الله عليه و سلم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وقد شد ممن عضدهم في هذا البحث المحقق الجلال كما هي عادته في تصلبه بل تصلفه معهم ومع كل نزاع المخالفين للشريعة الواضحة الظاهرة التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلى جاحد كما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق أن عمر بن الخطاب خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا إن الرجم ثابت بكتاب الله وأنه رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجموا بعده وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة العسيف الثابتة في الصحيحين والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم ذكر في القصة قوله لأنيس واغد يا أنيس على (4/328)
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فم ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه قال قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ولا يخفاك أن نسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم بلا خلاف وهب أنه لم يثبت الرجم في الكتاب فكان ماذا فقد ثبت بالسنة المتواترة التي لا يشك فيها من له أدنى اطلاع وفعله رسول الله صلى الله غير مرة وفعله الخلفاء الراشدون فيا لله العجب من الإنتصار للمبتدعين على كتاب الله سبحانه وعلى سنة رسوله وعلى جميع الأمة المحمدية ودفع الأدلة الثابتة بالضرورة الشرعية لقول قاله مخذول من مخذولي كلاب النار الذين يمرقون من الدين ولا يجاوز إيمانهم ولا عبادتهم تراقيهم والأمر لله العلي الكبير
قوله بعد جلده
أقول عدم ذكر الجلد مع الرجم في قصة ماعز لا يدل على العدم كما هو معلوم لكل عاقل وعلى تقدير أنه صلى الله عليه و سلم ترك الجلد في هذه القضية الفعلية فالمحامل لذلك كثيرة جدا ولا سيما مع ثبوت مشروعية الجمع بينهما للمحصن بالقول الذي هو أقوى دلالة وأعلى حجة كما أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهذا مقام قامه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس مبينا لهم ما نزل إليهم موضحا لهم ما شرعه (4/329)
الله لهم وقد وقع الجمع بين الجلد والرجم من الخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك أحد كما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم عن الشعبي قال كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنه حملت فجاء بها مولاها إلى علي بن أبي طالب وقال إن هذه زنت واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة إلى آخر الحديث وهو في صحيح البخاري بدون ذكر الحفر ومع هذا فالقرآن الكريم يدل على وجوب الجلد لكل زان وزانية قال الله عز و جل الزانية والزاني فاجلدوا ولم يذكر أن هذا الحكم مختص بالبكر بل ثبت في الكتاب والسنة أن على المحصن زيادة على الجلد وهي الرجم فالحق قول من يقول بالجمع بين الجلد والرجم
قوله وتقدم الشهود الخ
أقول استدلوا على ذلك بحديث الشعبي عن علي في رجم شراحة فإن فيه بعد قوله وحفر لها ثم قال يعني عليا إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رمى الناس وهذا يبعد أن يقوله على من جهة الرأي ولكن يغني عن رجم الإمام رجم من يبعثه من المسلمين كما في قصة ماعز (4/330)
وكما في قوله واغديا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولهذا قال المصنف أو مأموره
وأما قوله وإن تعذر من الشهود سقط فلا أرى هذا وجها لسقوط الحد الذي قد ثبت بما هو معتبر من الشهادة ولا يصح أن يجعل ذلك من الشبهة التي تدرأ بها الحدود
قوله ويترك من لجأ إلى الحرم الخ
أقول وجه هذا ما ثبت في الصحيح من حديث أبي شريح ولفظه في الصحيح البخاري أن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وفيه ألفاظ نحو هذا وهو يدل بعمومه على تحريم سفك الدماء فيه ولو كانت بحد ولا يصح الاستدلال بما وقع منه صلى الله عليه و سلم في تلك الساعة التي أحل الله سبحانه له الحزم فيها كما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سعد قال لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح وذلك لأن هذا وقع منه صلى الله عليه و سلم في تلك الساعة التي أحلها الله لنبيه صلى الله عليه و سلم وقد أخبرنا أن الله أذن له ولم يأذن (4/331)
لنا ومما يؤكد هذه الحرمة قول الله عز و جل ومن دخله كان آمنا فإنه إخيار في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه
وأما كونه لا يطعم حتى يخرج فوجهه أنه فار من حد أوجبه الله عليه فلا يعان على معصيته
وأما كون من ارتكب أخرج فوجهه أن قد فعل ما يخالف الحرمة وارتكب المعصية العظيمة في أكرم بلاد الله عليه وأحبها إليه ولكنه لا يقام عليه الحد حتى يفارق الحرم
وأما كونه لا إمهال في الرجم فوجهه ظاهر لأنه يراد من رجمه موته والإمهال في الجلد إنما هو لخشية الهلاك
وأما قوله لكن تستبرىء كالأمة للوطء فليس له وجه لأن الأصل عدم العلوق ومع ذلك فهو قبل أن يتبين لا حرمة له لكونه لم ينفخ فيه الروح
قوله ويترك للرضاع إلى الفصال الخ
أقول وجه هذا ما أخرجه مسلم وغيره من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنا قال أنت قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها وقد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم (4/332)
لعلى في قصة الجارية الحديثة العهد بالنفاس أتركها حتى تتماثل وفي رواية من حديث الغامدية أنها أرضعته ثم أتت به النبي صلى الله عليه و سلم حين فطمته وفي يده كسرة خبز فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين فيجمع بين هذه الرواية والرواية الأولى بأنه قال رجل لما أتت به بعد الوضع أن إليه رضاعه ولم يجبه النبي صلى الله عليه و سلم فرجعت به حتى فطمته فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين وأقيم عليها الحد وكلا الروايتين في صحيح مسلم وغيره وإذا لم يوجد من يكفل الصبي بعد الفطام كان إمهالها حتى يستغني بنفسه مما تقتضيه الضرورة
قوله وندب تلقين ما يسقط الحد
أقول هذا التلقين المشروع هو أن يقول الحاكم أو الإمام كما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه قال للسارق ما إخالك سرقت وقال للزاني لعلك غمزت لعلك قبلت كما في صحيح البخاري وغيره في قصة ماعز وما يفيد هذا المعنى فلا وجه للتشكيك فيما ذكره المصنف والرجوع إلى محصن الرأي أن الزاني إن كان مما يرجى انزجاره لقن وإلا فلا ولا وجه أيضا للاستدلال على مشروعية التلقين بمثل حديث أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم فإن هذا مخصوص بغير الحدود الواجبة (4/333)
ولو أخذ بعمومه لم يقم حد على أحد من ذوي الهيئات وهذا هو الذي نعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم على بني إسرائيل لما أسقطوا الحدود على أشرافهم وأقاموها على ضعفائهم
قوله والحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة
أقول أما ماعز فلم يحفر له بل رجم قائما كما في الحديث الحاكي لقصته وأما الغامدية فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه حفر لها إلى صدرها فهذا يقتضي مشروعيته للمرأة كما أن ترك الحفر لماعز يقتضي عدم مشروعيته للرجل ووجه الفرق ظاهر فإن المرأة كلها عورة مع الرجال الراجمين لها وكان الأولى اقتصار المصنف على قوله وناب الحفر إلى ثدي المرأة
قوله وللمرء قتل من وجد مع زوجته أو أمته الخ
أقول هذه المسألة مبنية على غير أساس غير منظور فيها إلى كتاب ولا سنة ولا قياس فإن غاية ما يجب هنا على الزوج والسيد هو إنكار المنكر والسعي مع التفريق بين العاصيين بما تبلغ إليه الطاقة فإن أبى مرتكب المنكر أن ينزع عنه كان لكل منكر للمنكر أن يدافعه ولو بالقتل إذا لم يندفع بغيره من غير فرق بين أن يكون يكون الزاني زنا بزوجة المنكر أو أمته أو سائر قرابته أو بغير هؤلاء (4/334)
والحاصل أن هذا باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لتخصيصه بمن ذكره المصنف وجه وقد وقع منه صلى الله عليه و سلم الإنكار على سعد بن عبادة لم قال له أأدعه على بطن لكاع ثم أذهب فآتي بأربعة شهداء ثم ذكر ما يفيد أنه إذا وجده كذلك قتله فقال صلى الله عليه و سلم منكرا عليه انظروا إلى ما يقول سيدكم واعتذروا له بما فيه من شدة الغيرة والحمية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والله لله أغير منه كما في صحيح مسلم وغيره وكان على المصنف أن يقول وليس للمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته حال الفعل
فصل
ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة والإكراه وباختلال الشهادة قبل التنفيذ وقد مر حكم الرجوع وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية والثلثان إن كانا من الأربعة ولا شيء على المزكى وبإقراره بعدها دون أربع وبرجوعه عن الإقرار وبقول النساء هي رتقاء أو عذراء عنها وعنهم ولا شيء بعد التنفيذ وبخرسه وإسلامه ولو بعد الردة وعلى الإمام استفصال كل المسقطات فإن قصر ضمن إن تعمد وإلا فبيت المال (4/335)
قوله فصل ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة
أقول هذا هو ما أرشد إليه الشارع من درء الحدود بالشبهات فإن الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود
وأما سقوطه بالإكراه فوجهه واضح والأدلة قائمة على رفع القلم عن المكره وعدم مؤاخذته بما أكره عليه وقد قدمنا بيان ذلك في غير موضع
وأما سقوطه باختلال الشهادة فلأنه لم يحصل المقتضي ها هنا حتى يثبت عليه الحد لأن وجود من اختل من الشهادة كعدمه فلم يثبت ما هو المناط الشرعي للحد ففي جعل هذا من جملة المسقطات تسامح
قوله وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية الخ
أقول الشهداء إذا رجعوا جميعا بعد التنفيذ فقد تسببوا لقتل من رجم سببا يوجب عليهم الضمان ولم يقتل إلا لمجموع شهادة الزنا والإحصان فكانت الدية عليهم جميعا يحملونها على عدد رؤوسهم إذا كان الشاهدان على الإحصان من جملة الشهود الأربعة على الزنا فعليهم الثلثان كما ذكره المصنف وأما كونه لا شيء على المزكي فوجهه ظاهر لأنه لم يشارك الشهود في إثبات السببين الموجبين للرجم وهما الزنا والإحصان وإنما أخبر بما يعرفه من ظاهر حال الشهود وهكذا لا خطاب على الإمام لأنه قام بتنفيذ ما كمل نصابه في الظاهر وهكذا القاضي لأنه حكم بمستند أثبته الشرع
قوله وبإقراره بعدها دون أربع
أقول جعل هذا الإقرار الذي هو مؤكد لما شهد به الشهود ومصدق له مسقطا من أغرب ما يقرع الأسماع من الأقوال الزائفة والشبهة الداحضة لأن المناط الشرعي وهو (4/336)
شهادة الأربعة باق على حاله ولم يزده الإقرار إلا تأكيدا فدعوى أنه قد بطل بالإقرار دون أربع ووجب الرجوع إلى مستند آخر وهو الإقرار ولما لم يكمل لم يجب الحد لا يناسب رواية ولا دراية ولا شرعا ولا عقلا بل حاصلها إسقاط حد من حدود الله من غير سبب ولا شبهة لا قوية ولا ضعيفة وقد عرفت ما جاء من الزجر على من أبطل حدود الله وأسقطها بعد وجوبها على ما قدمنا لك أن الحق ثبوت الحد بالإقرار مرة واحدة فلا يتم ما ذكره من قوله دون أربع
قوله وبرجوعه عن الإقرار
أقول هذا الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله ولا يصح الاستدلال على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار بما أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه ورجال إسناده ثقات عن أبي هريرة أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال هلا تركتموه لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قد يأتي بشبهة مقبولة وهكذا لا يصح الاستدلال بحديث جابر عند أبي داود والنسائي أن ماعزا صرخ بهم فقال يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه فلما أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فهلا تركتموه وجئتموني به فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما أراد رجوعه إليه الاستثبات إذا جاء بشبهة مقبولة على أنه قد روى في بعض طرق الحديث عند مسلم والنسائي وأبي وأبي داود واللفظ له من حديث أبي سعيد قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فولله ما أوسقناه ولا حفرنا (4/337)
له ولكنه قام لنا قال أبو كامل وهو الجحدري فرميناه بالعظام والمدر والخزف فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت
فدل هذا على أنه إنما فر إلى المحل الذي توجد فيه الحجارة التي تسرع في القتل
وهكذا لا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو داود عن بريدة قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما فإن رجمهما بعد الرابعة وعلى كل حال ليس هذا التحدث الواقع بينهم مما تقوم به الحجة لأنه مجرد حدس وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد وقد حصل المقتضي بالإقرار فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة
قوله وبقول النساء هي رتقاء أو عذارء
أقول وجه السقوط عنها وعنهم فوجدوها عذراء مانع من ثبوت الحق شرعا وعقلا وإذا كان الحد يدرأ لمجرد الشبهة المحتلة فكيف بمثل هذا وأما كونه لا شيء على الإمام إذا أقام قبل العلم بأنها عذراء فوجهه ظاهر لأنه عمل بمستند شرعي لكن إذا كان هذا المستند هو شهادة الشهود فيضمنون كما تقدم لأنهم تساهلوا في الشهادة
قوله وبخرسه
أقول الأخرس وإن كان النطق متعذرا منه فهو يمكنه أن يشير إلى الشبهة بعد أن يبينوا له بالإشارة أنه قد وجب عليه الحد بالمستند الشرعي نعم إذا بلغ خرسه إلى حد لا (4/338)
يفهم معه الإشارة ولا يتمكن منها وذلك بأن يكون من خرسه أعمى فإن هذا وإن كان الأصل عدم وجود الشبهة لكن احتمالها كائن وبمجرد هذا الاحتمال لا يكون حده على بصيرة ولم يكمل المقتضى الشرعي وإن كان الرجوع إلى الأصل كافيا في غير هذا الموضع لكن هذا موطن يقول فيه الشارع ادرأوا الحدود بالشبهات
وأما سقوط الحد عنه بإسلامه فهو ظاهر لأن الإسلام يجب ما قبله من الأمور التي لا تدرأ بالشبهات فكيف بما يدرأ بها
قوله وعلى الإمام استفصال كل المسقطات
أقول وجه هذا ما وقع منه صلى الله عليه و سلم من مثل قومه ما إخالك سرقت وقوله لعلك غمزت لعلك قبلت وقوله أبك جنون وإرجاعه لماعز مرة بعد مرة وسؤال قومه عنه مع ماورد عنه من درء الحدود بالشبهات فإذا قصر فقد أخل بواجب عليه وأقدم على إتلاف نفس أو الإضرار بها قبل أن يوجب ذلك الشرع فإذا ظهر بعد ذلك مسقط شرعي كان الضمان من ماله إن تعمد وإلا فمن بيت المال لأن تعمده محمول عليه وأما خطؤه فإن كان لا يجد في ماله ما يقوم بذلك كان من جملة الغارمين في صرف نصيب إليه من الزكاة ومن جملة المصالح التي يصرف إليها بيت مال المسلمين (4/339)
باب حد القذف
فصل
ومتى ثبت بشهادة عدلين أو إقراره ولو مرة قذف حر مسلم غير أخرس عفيف في الظاهر من الزنا بزنا في حال يوجب الحد مصرحا أو كانيا مطلقا أو معرضا أقر بقصده ولم تكمل البينة عددا وحلف المقذوف إن طلب جلد القاذف المكلف غالبا ولو والدا الحر ثمانين وينصف للعبد و يحصص للمكاتب كما مر ويطلب للحي نفسه ولا يورث وللميت الأقرب فالأقرب المسلم المكلف الذكر الحر قيل ثم العبد من عصبته إلا الولد أباه والعبد سيده ثم الإمام والحاكم ويتعدد بتعدد المقذوف كيا ابن الزواني ومنه النفي عن الأب ولو لمنفي بلعان إن لم يعن بالحكم كلست لفلان لا من العرب والنسية إلى غيره معينا كيا ابن الأعمى لابن السليم إلا إلى الجد والعم والخال وزوج الأم ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع أو (4/340)
شاهدان بالإقرار ويلزم من رجع من شهود الزنا قبل التنفيذ لا بعده إلا الأرش والقصاص
قوله باب حد القذف ومتى ثبت بشهادة عدلين الخ
أقول حد القذف ثابت بكتاب الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبإجماع المسلمين والاكتفاء فيه بشهادة العدلين صحيح ويكتفى فيه أيضا بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة واحد مع يمين المدعى لما عرفناك سابقا مع عدم وجود دليل ناهض يدل على اشتراط أن يكون الشهود رجالا وأنه لا يثبت هذا الحد إلا بشهادة رجلين فإنه حكم من أحكام الشرع وقد ثبت في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة أن مستندات أحكام الشرع أوسع من هذا ولم يخص من ذلك إلا شهادة الزنا فيبقى ما عداه داخلا في مطلقات الأدلة
وأما اشتراط أن يكون المقذوف حرا فلا وجه له لأن العبد والأمة قد صارا بدخولهما في الإسلام معصومي الدم والمال والعرض بما عصم به الأحرار فانتهاك الحرمة منهما بالرمي بالزنا كانتهاك الحرمة من الأحرار
وأما اشتراط الإسلام فوجهه واضح لعدم وجود العصمة
وأما اشتراط كونه غير أخرس فلا وجه له لأنه يمكنه أن يعبر عن مراده بالإشارة على فرض أنه لم يحضر ذلك من يعبر عنه ويقوم بحجته وليس من مسالك الرأي أن يجعل امتحان الله سبحانه له بالخرس موجبا لحلول محنة أخرى به وهي عدم احترام عرضه بإقامة حد الله على قاذفه (4/341)
وأما اشتراط العفة فمبني على أن المحصنات في قوله سبحانه الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات هن العفيفات وهو غير مسلم فإن من معاني الإحصان الحرية والإسلام والتزوج ثم هذا الذي ليس بعفيف داخل في العصمة الإسلامية لا يخرج عنها بمجرد ارتكابه لبعض معاصي الله سبحانه وأي دليل يدل على أنه يستحل منه ما حرمه الله بمجرد عدم عفته فإن الله سبحانه قد حرم الغيبة وشدد في أمرها وهي أن يذكر الغائب بما فيه ولم يجعل كونه مسوغا لذكره به فكيف بالقذف وقد أقام عمر بن الخطاب حد القذف على من شهد على المغيرة بالزنا مع اشتهار عدم عفته وكان ذلك بمحضر من الصحابة
وأما قوله بزنا فظاهر أنه المراد بقوله الذين يرمون المحصنات
وأما قوله في حال يوجب الحد فلا أرى لهذا الاشتراط وجه لأنه قد انتهك الحرمة بالرمي بالزنا وإن اندفع عنه حد الزنا لشبهة من الشبه
وأما قوله مصرحا مطلقا فوجهه أن التصريح لا يقبل معه دعوى قصد غيره ولا (4/342)
يلتفت إلى ذلك
وأما الكناية فلكونه يحصل بها من هتك العرض المعصوم ما يحصل بالتصريح إذا كان المراد منها مفهوم للسامع والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ وهكذا التعريض لأنه يحصل به ما يحصل بالتصريح وأما تقييد ذلك بقوله أقر بقصد فلا يشترط هذا الإقرار إلا إذا كان التعريض يحتمل عند السامع القذف وغيره أما إذا كان لا يحتمل إلا القذف فلا يشترط الإقرر
قوله ولم تكمل البينة عددا
أقول لا وجه لاعتبار مجرد العدد بل لا بد من قيام البينة عددا وصفة فإن اختلفت الصفة مع كمال العدد فوجودها كعدمها ويؤيد هذا حد الشهود على المغيرة مع كمال عددهم ونقص صفة شهادة الرابع وهو زياد بن أبيه فإنه لما لم يصرح بأنه شاهد الإيلاج بل قال رأيت استا ينبو ونفسا يعلو ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار ولا أدري ما وراء ذلك أقيم الحد على الثلاثة الشهود الذين شهدوا قبله وهم إخوته نفيع ونافع وشبل
قوله جلد القاذف ولو والدا الخ
أقول هذا الحد بهذا العدد قد نطق به القرآن الكريم وأجمع عليه المسلمون أولهم وآخرهم ولم يفرقوا بين قذف الرجل والمرأة وأن قاذف الرجل يحد كما يحد قاذف المرأة ولم يسمع عن فرد من أفراد المسلمين أنه قال لا حد على قاذف الرجل إلا ما وقع من الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع وقد كتبنا على بحثه رسالة مستقلة وتكلمنا على كل ما جاء به في هذا البحث ودفعناه بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب وإن كان فساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان لكنه ربما تشوش به ذهن من في عرفانه قصور وفي إدراكه بعض فتور (4/343)
وأما عدم سقوط الحد على الوالد إذا قذف ولده فلدخوله في عموم الأدلة وعدم ورود الدليل باستثنائه ولم يبح له الشرع استحلال ما حرمه الله من ولده
وأما التنصيف للعبد والتخصيص للمكاتب فوجهه ما تقدم في حد الزنا
قوله ويطلب للحي نفسه ولا يورث
أقول لا وجه لجعل الموت مسقطا للحد الذي قد ثبت على قاذف من مات بعد قذفه وقبل إقامة الحد عليه فإن كانت العلة في ذلك تجويز أن يعفو لو عاش فهكذا قذف الأموات فإنه يجوز أن يعفو الميت لو كان حيا وإن كانت العلة هي ما يلحق الحي بقذف الميت فهكذا ينبغي أن يقال في وارث من مات بعد القذف إذا لحقه غضاضة بالقذف ولا وجه للفرق بينهما
وأما ترتيب المطالبين من قرابة الميت على هذا الترتيب الذي ذكرناه فإن كان وجهه أن الغضاضة تلحق الأقرب لحوقا زائدا على لحوقها ممن هو أبعد منه مع تسليم لحوق مطلق الغضاضة فلا وجه لهذا الترتيت بل إذا وقع الطلب من فرد من أفراد من يلحقه الغضاضة فإن كانت يسيرة وكان بعيدا عن الميت كان ذلك سائغا لأن دفع الغضاضة مطلقا مسوغ للطلب وإن كان سبب هذا الترتيب غير هذا وكل سبب يفرضه حاملا على الطلب غير هذا لا يصح لسببه والحق أنه يجوز الاحتساب في مثل هذا وإن لم يكن ثم غضاضة على المحتسب لأن القذف من أشنع المنكرات وقد أوجب الله الحد على فاعله فالسعي في إقامته من جملة ما يندرج تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله ثم الإمام والحاكم فوجهه ما ذكرنا من كون هذا الطلب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام والحاكم هما القائمان مقام البيان للناس وحملهم على ما أوجب الله عليهم وزجرهم بحدود الله سبحانه عن الوقوع في معاصيه
وأما كونه يتعدد بتعدد المقذوف فوجهه ظاهر لأنه قد وقع القذف على كل واحد منهم فوجب له حد مستقل (4/344)
وأما قوله ومنه النفي عن الأب فوجهه أن ذلك يستلزم أن أمه زنت فكان ذلك قذفا لها وما ذكرها المصنف بعد هذا فظهوره يغني عن تدوينه
قوله ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع
أقول وجهه أنه حق للمقذوف فإذا عفا عن قاذفه كان له ذلك وأما بعد رفعه إلى الإمام أو الحاكم فقد وجب بالرفع للدليل المتقدم ويمكن أن يقال إنه لا حكم للرفع إذا وقع العفو بعده لأن هذا حق من حقوق بني آدم يسقط بإسقاطهم فليس للإمام والحاكم أن يقيم الحد بعد العفو ودعوى أن حد القذف مشوب غير مسلمة بل هو حق محض للآدمي ولا ينافي هذا ما وقع في قصة السارق لرداء صفوان وقوله صلى الله عليه و سلم لما عفا ألا كان هذا قبل أن تأتيني به للفرق الواضح بين القاذف والسارق
وأما قوله أو شاهدان بالإقرار فلا وجه لهذا إلا على القول باشتراط العفة وقد قدمنا ما فيه
وأما كونه من رجع من شهود الزنا فوجهه ظاهر لأنه برجوعه صار كاذبا في شهادته وذلك قذف وأما الرجوع بعد التنفيذ فقد تقدم حكمه وهو يغني عن تكراره هنا (4/345)
باب حد الشرب
وكذلك من ثبت منه بشهادة عدلين أو إقراره مرتيت شرب مسكر عالما غير مضطر ولا مكره وإن قل وتقام بعد الصحو فإن فعل قبله لم يعد وتكفي الشهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد
قوله باب حد الشرب وكذلك
أقول هذا الحد قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم ثبوتا متواترا لا شك فيه ولا شبهة لكن لم يقع الاتفاق على مقدار معين بل حاصل ما روى أنه صلى الله عليه و سلم جلد في الخمر بالجريد والنعال كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وفي رواية لمسلم وغيره من حديثه أنه جلد بجريدتين نحو أربعين وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث أنه صلى الله عليه و سلم أمر من كان في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال وفي البخاري أيضا من حديث السائب بن يزيد قال كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي (4/346)
إمرة أبي بكر وصدرا من إمرأة عمر فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفي البخاري أيضا وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيمن أتي به وقد شرب الخمر اضربوه قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه وفي الباب أحاديث وليس فيها أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في حد الشرب مقدار معين واختلف اجتهاد الصحابة في التقدير فكان الواجب هو مجرد الضرب بالجريد والنعال والثياب والأيدي والمرجع في ذلك إلى نظر الإمام فإذا رأى أن يجلده عددا معينا إلى حد الثمانين الجلدة فله بما وقع من الصحابة أسوة وإن رأى أن يأمر بمطلق الضرب له من غير تعيين فله برسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة وإن رأى زيادة الضرب إلى حد الثمانين على من استرسل في شربها وتخفيف الضرب إلى أربعين أو دونها على من لم يسترسل في شربها كان له ذلك اقتداء بما وقع من عمر في محضر الصحابة
فعرف بمجموع هذا أن حد الشرب ثابت مع تفويض مقداره إلى الإمام والحاكم وقد قيل إنه لم يقع الإجماع على وجوب هذا الحد كما وقع الإجماع على وجوب سائر الحدود كما حكى ابن جرير وابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا حد على شارب المسكر ولكن هذا مدفوع بمتواتر السنة وبإجماع الصحابة ومن بعدهم فلا التفات إليه ولا تعويل عليه والإجماع ثابت قبل وجود قائله وبعده (4/347)
قوله ومن ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين الخ
أقول لا وجه للاقتصار على شهادة العدلين بل يكفي في ذلك شهادة رجل وامرأتين كما حكم الله به بين عباده في الشهود وقد قدمنا التنبيه على هذا في الباب الذي قبله وهكذا يجوز للحاكم أن يحكم في هذا الحد بعلمه وقد أوضحنا ذلك فيما سبق ومثله حد القذف والسرقة ولم يخص من الحدود بكون الشهود أربعة رجالا إلا حد الزنا فيبقى ما عداه داخلا في عموم ما جعله الله مستندا لحكم الشرع وهكذا لا وجه لا شتراط أن يكون الإقرار مرتين ولم يرد بهذا دليل لا صحيح ولا عليل وليس على تعبير الإنسان عن نفسه بإقراره زيادة في سكون النفس وطمأنينة القلب وقد قدمنا أنها تكفي المرة الواحدة في الإقرار بزنا يوجب الرجم فكيف بما هو دونه ولكنها كثرة الشكوك في الحدود الناشئة عن ضعف العزائم في تنفيذ حدود الله سبحانه
وأما اشتراط أن يكون الشارب للمسكر عالما غير مضطر ولا مكره فهو أظهر من أن يحتاج إلى التنصيص عليه
قوله وإن قل
أقول قد تقرر بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه و سلم جلد من شرب الخمر وأمر بجلده ولم يسأل عن القدر الذي شربه ولا سأل عن بلوغه بالشرب إلى حد السكر فكان هذا بمجرده دليلا على أن مطلق الشرب موجب للحد ثم قد صح عنه صلى الله عليه و سلم في غير حديث أنه قال ما أسكر كثيره فقليله حرام وهذا الدليل يلحق القليل بالكثير والقطرة الواحدة بالأرطال ثم ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام وفي لفظ كل مسكر (4/348)
خمر وكل مسكر حرام فحكم صلى الله عليه و سلم في هذا باتحاد المسكرات وأنها كلها خمر فوجب الحد على شرب كل مسكر وقد أوضحت الكلام على هذا البحث في شرح المنتقى وأفردته برسالة مستقلة سميتها القول المسفر في تحريم كل مسكر ومفتر
فإن قال قائل هل العلة في حد السكر هي التحريم أو كون المشروب مسكرا فأقول كما قال الشاعر ... خذا بطن هرشى أوقفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق ...
فإن تعليل الحد بالسكر يعم أنواع المسكرات وتعليله بالتحريم يعم أنواع المحرمات من المسكرات وقد ألحق الشارع قليلها بكثيرها فلا يعتبر وقوع السكر بالفعل بل بشرب ما هو من جنس المسكرات أو أكله
قوله بعد الصحو
أقول وجه هذا أن أصل مشروعية الحد لإذاقة مرتكب موجب الحد وبال أمره ومعلوم أنه لا يذوق ذلك إلا صاحيا صحيح العقل سليم الحواس وأن وقوع الضرب عليه حال سكره لا يجد له من التألم ما يجده صاحيا لكنه لما ثبت ثبوتا لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر بإقامة الحد على من وصلوا به إليه وقد شرب ومن الجائز أن يكون في تلك الحال باقيا على سكره ومن الجائز أن يكون قد صحا كان ترك الاستفصال دليلا على أن يقام عليه الحد على الحالة التي وفد عليها وأنه لا يجب انتظار حالة الصحو (4/349)
قوله وتكفي شهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد
أقول وجه هذا أنه لا تفوح رائحة الخمر من جوف رجل إلا وقد شرب الخمر ولا يتقيأ الخمر رجل إلا وقد شربها هذا معلوم عقلا وكانت الشهادة على هذين الأمرين كالشهادة على الشرب ولكن لا بد أن يكون من يشهد على الشم والقيء ممن له خبرة متقنة برائحة الخمر ولونها مع انتقاء أن يوجد شيء من المأكولات أو المشروبات الحلال مشابهة للخمر لونا أو عرفا فإن وجد وادعاه الشارب كان ذلك شبهة يدرأ بها عنه الحد (4/350)
باب حد السارق
فصل
إنما يقطع بالسرقة من ثبتت بشهادة عدلين إو إقراره مرتين أنه سرق مكلفا مختارا عشرة دراهم فضة خالصة الدرهم ثمان وأربعون شعيرة أو ما يساويها مما هو خالص لغيره رقبة أو منفعة وله تملكه ولو جماعة ولجماعة أو لذمي أو لغريمه بقدرها وأخرجه من حرز بفعله حملا أو رميا أو جرا أو إكراها أو تدليسا وإن رده أو لم ينفذ طرفه أو دفعتين لم يتخللهما علم المالك أو كور غيره وقرب إلا من خرق ما بلغته يده أو ثابتا من منبته أو حرا وما في يده أو غصبا أو غنيمة أو من بيت مال أو ما استخرجه بخارج بنفسه كنهر وريح ودابة لم يسقها ولو حملها لكن يؤدب كالمقرب
قوله باب حد السارق (4/351)
فصل
إنما يقطع من ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين
أقول الكلام في اعتبار شهادة الرجلين في هذا الباب كالكلام الذي قدمناه في البابين الأولين فالحق أنه يثبت القطع بشهادة رجل وامرأتين لعدم وجود دليل يدل على هذا التخصيص ومع عدم وجوده يجب الرجوع إلى ما شرعه الله لعباده في الشهادات التي يجوز الحكم بها ولم يفرق بين حكم وحكم ولا بين محكوم فيه ومحكوم فيه ولا بين محكوم عليه ومحكوم عليه وهكذا لا وجه لاعتبار الإقرار مرتين بل مجرد شكوك ناشئة عن ضعف العزائم الشرعية كما قدمنا
قوله أنه سرق مكلفا مختارا
أقول أهمل قيد التكليف في باب الشرب كما أهمل قيد كونه عالما غير مضطر هنا كما أهمل هذه القيود كلها في باب القذف وكان عليه أن يجعل هذه الأبواب مستوية في القيود إذ من المعلوم أن اختلال واحد منها شبهة مسقطة للحد وقد عرفناك أن دعوى كون حد القذف مشوبا لا وجه لها
قوله عشرة دراهم فضة خالصة
أقول اعلم أن القرآن الكريم يدل على مطلق قطع يد السارق بالسرقة قال الله سبحانه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فلو لم يرد البيان من السنة لكان الواجب القطع في كل مسروق قليلا كان أو كثيرا ولكنه قد جاء البيان الشافي الكافي الوافي في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم فثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيحين وغيرهما (4/352)
من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وهذه العبارة تدل على أنه كان يعتبر هذا المقدار في المسروق كما تقرر في الأصول وفي رواية من حديثها هذا لمسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة بلفظ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا صريح في أنه لا يقطع فيما دون ذلك وقد رفعته عائشة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفي لفظ من حديثها هذا عند البخاري والنسائي وأبي داود تقطع يد السارق في ربع دينار وفي لفظ للبخاري منه تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا وفي لفظ من هذا الحديث لأحمد اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وأخرج النسائي من حديث عائشة أيضا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت ربع دينار
فهذا الحديث قد تضمن البيان للكتاب العزيز فلا تقطع الأيدي إلا في ربع دينار فصاعدا و لا ينافيه ما وقع من الاختلاف في تقدير ثمن المجن الذي قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه سارقه كما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس قال كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوم عشرة دراهم وهذه الرواية وإن كان في إسنادها مقال فقد أخرج نحوها النسائي وأخرج أبو داود (4/353)
أن ثمنه كان دينارا أو عشرة دراهم
ووجه عدم المنافاة أنه حكى الراوي قيمة المجن الذي قطع سارقه رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلى تسليم أن تكون قيمته عشرة دراهم كما قدره بعض الصحابة وقد قدره البعض الآخر دينارا وليس في حديث القطع في المجن الذي في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر إلا أنه صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فهذا المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم قيمته هذه القيمة وهي ثلاثة دراهم وربع الدينار صرفه ثلاثة دراهم ولا يعارض ذلك كون قيمة المجن قد تكون عشرة دراهم فإن المجان تختلف بزيادة القيمة ونقصانها وليس الحجة قائمة إلا فيما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد وافقت عائشة ابن عمر في تقويم المجن بثلاثة دراهم لأنها قالت كما تقدم قيمته ربع دينار وصرف الربع الدينار ثلاثة دراهم وما في الصحيحين أقدم مما في غيرهما ومع هذا فلم يرد ما يدل على أنه لا قطع فيما دون ثمن المجن إلا في تلك الرواية المتقدمة عن عائشة وليست من رواية الصحيح وعلى تقدير أنها صحيحة فهي مقيدة بما قدرتها به وهو الربع الدينار فارتفع الإشكال واتفقت الأحاديث على القطع في ربع دينار ولم يرد ما يخالف ذلك من وجه تقوم به الحجة إلا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه و سلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده فهذا الحديث إن صح تأويله بما رواه في الصحيحين وغيرهما عن الأعمش أنه قال كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم (4/354)
فذاك وظاهر قوله كانوا يرون أنه يريد الصحابة وإن لم يصح هذا التأويل فتأويل من قال إنه أراد صلى الله عليه و سلم تحقير شأن السارق وخسارة ربحه أو تأويل من قال إنه أراد التنفير عن السرقة وجعل ما لا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع وإن لم يصح هذا التأويل فاعلم أن القطع إقدام على قطع عضو معصوم بعصمة الإسلام فلا يحل إلا بما اشتباه فيه ولا احتمال فيجب الوقوف على ما ثبت من نفي القطع فيما دون الربع الدينار وفيما دون ثمن المجن ويكون ذلك كالشبهة فيما دونه وهذا المذهب الذي قررناه هو مذهب جمهور السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة أحد عشر مذهبا هذا مذهب أرجحها وقد استوفينا حججها في شرحنا للمنتقي وقد حكى ابن حجر في الفتح فيها عشرين مذهبا ولكن ما زاد على ما ذكرناه هنالك منها لا يصلح لجعله مذهبا مستقلا
قوله الدرهم ثمانية وأربعون شعيرة
أقول الاعتبار بالدرهم الإسلامي المعامل به في أيام النبوة وإن كان من غير ضريبة الإسلام إذ لا ضربة في أيام النبوة ولا في أيام خلفاء الصحابة وأول من ضرب الدرهم عبد الملك بن مروان ثم إذا التبس قدر الدرهم فهو الذي يقابل الدينار فيه اثني عشر درهما
وأما قوله أو ما يساويهما فظاهر ولهذا قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مجن وقطع في رداء صفوان
قوله ولو جماعة لجماعة
أقول لا بد أن يسرق كل واحد من الجماعة نصابا من حرز لا لو كان مجموع ما أخذوه وأخرجوه من الحرز جميعا لا تأتي حصة كل واحد منهم قدر النصاب فلا قطع (4/355)
لأن الشارع جعل مطلق النصاب شرطا في مطلق القطع والدماء معصومة فلا تراق إلا بحقها وهو سرقة النصاب من كل فرد فرد ولا وجه لقياس هذا فعلي قتل الجماعة بالواحد فإن القصاص حق لآدمي وهذا حق لله وأيضا الحد يدرأ بالشبهة بخلاف القصاص وأيضا قام الدليل العقلي والنقلي هنالك ولا يصح اعتباره هنا
وأما قوله ولجماعة فصحيح لأنه قد حصل الشرط وهو سرقة النصاب ولم يرد ما يدل على أن يكون المالك له واحدا
وأما قوله أو لذمي فوجهه شمول أدلة السارق لكل مسروق ومال الذمي محترم معصوم بالذمة
وأما قوله أو لغريم فوجهه أنه قد سرق النصاب من مال غيره فاستحق القطع وكونه له عليه دين لم يرد دليل يدل عن أنه مسقط للحد فوجب البقاء على عموم الأدلة
قوله وقد أخرجه من حرز
أقول قد استدل القائلون باشتراط الحرز بأدلة منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن التمر المعلق فقال من أصاب منه بفية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع وفي لفظ لأحمد والنسائي وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن (4/356)
وفي لفظ لهما من هذا الحديث في ذكر سرق الماشية التي تؤخذ من مراتعها فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذا من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ومنها ما أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه وصححه أيضا ابن حبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا قطع في ثمر ولا كثر ومنها ما أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليس على خائن ولا مختلس قطع وأخرج نحوه ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف وأخرج نحوه ابن ماجه أيضا والطبراني في الأوسط من حديث أنس
وهذه الأحاديث قد دل مجموعها على أنه لا قطع على من سرق من غير حرز وعلى أنه يقطع من سرق من حرز كالجرين والعطن ويقويها أن دم المسلم معصوم بعصمة الإسلام فأقل أحوال هذه الأحاديث أن يكون شبهة لا يجب معها القطع على من سرق من غير حرز ولا يعارضها حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه و سلم قطع المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتحجده كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عوانة في صحيحه وأخرجه أيضا مسلم وغيره من حديث عائشة لأنه قد وقع التصريح في رواية الصحيحين وغيرهما أنها سرقت وفي روايةل ابن ماجه والحاكم (4/357)
وصححه من حديث ابن مسعود أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج هذا الحديث أيضا أبو داود والترمذي فأفاد ذلك أنه قطعت لأجل السرق وذكر جحدها للمتاع للتعريف بها وكأنها قد كانت مشتهرة بهذا الوصف ولا مانع من أن يقع منها الأمران اجحد المتاع والسرق ولو فرضنا أنها قطعت بسبب جحدها للمتاع لكان ذلك في حكم التخصيص للأدلة القاضية باشتراط الحرز ولا معارضة بين عام وخاص
وأما حديث صفوان بن أمية الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه في قصة السارق الذي سرق رداءه من المسجد فقطعة رسول الله صلى الله عليه و سلم ففيه دليل على أن المسجد حرز لما فيه كالجرين والعطن وليس فيه ما يعارض أحاديث الحرز ومثله حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم فإن غاية ما فيه أن الصفة حرز لما سرق منها قوله بفعله حملا أو رميا إلخ (4/358)
أقول هذا صحيح لأنه يصدق على من أخرج المتاع المسروق من الحرز على أي صفة من هذه الصفات أنه قد أخذه من حرز وأخرجه عنه وهكذا لو أخذ ذلك دفعتين أو دفعات وسواء علم المالك بعد بعض الدفعات أو لم يعلم لأنه قد صدق على السارق أنه سرق نصابا من حرز وهكذا يصدق على من أخرج المال من الحرز أنه قد سرق من حرزه وإن كوره له غيره أو قربه إليه
وأما قوله إلا من خرق ما بلغته يده فلا وجه له فإن هذا الذي تناوله بيده قد سرق النصاب من حرزه
وأما أنه لا قطع على من سرق ثابتا من منبته فوجهه ما قدمنا من الأدلة المذكورة قريبا وأما قوله أو حرا وما في يده فلا وجه له لأن السارق قد سرق النصاب من حرز وكونه على يد حر وصفة طردى لا تأثير له
وأما قوله أو غصبا فوجهه أنه لا يصدق مسمى السرقة على الغصب فإن السرقة هي أخذ المال خفية والغصب أخذ المال علانية وقد علق الشارع القطع على وصف السارق وتعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية
وأما قوله أو غنيمة فوجهه أن له نصيبا منها لأن المفروض أنه من الغانمين وهكذا قوله أو بيت مال المسلمين وهو من جملتهم
وأما قوله أو ما استخرجه بخارج بنفسه إلخ فوجهه أنه لا يصدق عليه أنه أخرج المسروق من حرزه بل أخرجه الخارج بنفسه
وأما قوله لكن يؤدب كالمقرب فهذا نوع من التعزير راجع إلى نظر الإمام والحاكم (4/359)
فصل
والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج ومنه الجرن والمربد
والمراح محصنات وبيت غير ذي باب فيه مالكه والمدفن المعتاد والقبر للكفن والمسجد والكعبة لكسوتهما وآلتهما لا الكم والجوالق والخيم السماوية والأمكنة المنصوبة وما أذن للسارق بدخوله
قوله فصل والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج
أقول الحرز هو ما يحرز فيها المالك ملكه ومعلوم أنه لا يصدق عليه أنه حرز إلا إذا كان على صفة يكون بها المال المحرز فيها مفارقا لما هو موضوع على ظاهر الأرض منبوذ في جانب من جوانبها وهذا المعنى يوجد بوجود ما يحرز الناس به أموالهم من الأبينة ونحوها على كل شيء بحسبه فحرز الثمرة ما يعتاده الناس في الجرين وحرز الماشية ما يعتاده الناس في أعطان الإبل ومرابض الغنم ونحو ذلك وحرز النقد والعرض ما يعتاده الناس من جعلها في المنازل مع تغليق أبوابها أو مع بقاء أهلها فيها وهكذا المدافن حرز لما فيها والقبور حرز لما في داخلها إذا كانت قد أحرزت لما يعتاده الناس ولا سيما بعد ورود النص في قطع النباش وهكذا المسجد ونحوه لجري عادة الناس بأنه (4/360)
حرز لما يجعل فيه من فرشه وآلآته بل لما دخل فيه من غيرها كما يدل عليه حديث صفوان المتقدم
وبهذا تعرف أن المرجع الأعراف في إحراز الأموال فلا وجه لما استثناه المصنف من قوله لا الكم إلخ لأنهم إذا كانوا معتادين لإحراز الأموال في هذه الأمور كانت حرزا
وأما ما أذن للسارق بدخوله فإن كان قد ائتمنه على ما فيه أو أمره بحفطه فلا شك أنه خائن وقد تقدم أنه لا قطع على خائن وإن لم يأتمنه على ما فيه بل أذن له بمجرد الدخول كالضيف فهذا السارق قد أخذ المال خفية وأخرجه من حرزه
فصل وإنما يقطع كف اليمنى من مفصله فإن ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى غالبا ويحبس فقط إن عاد ويسقط بالمخالفة فيقتص العمد ويتأرش الخطأ وبعفو كل الخصوم أو تملكه قبل الرفع وبنقص قيمة المسروق عن عشرة وبدعواه إياه ولا يغرم بعده التالف ويسترد الباقي في يده أو في يد غيره بغير عوض ولا يقطع والد لولده وإن سفل ولا عبد لسيده وكذلك الزوجة والشريك لا عبداهما
قوله فصل وإنما يقطع كف اليد اليمنى من مفصله
أقول قول الله عز و جل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قد دل على (4/361)
قطع اليد وهي حقيقة في جمعها ثم ورد البيان من السنة بأن القطع لليد هو قطع الكف من الكوع كما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر كانوا يقطعون السارق من المفصل وأخرج البيهقي عن عمر مثله ويؤيده ما أخرجه أهل السنن عن فضالة بن عبيد أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف ولكنه حسنه الترمذي وأما كون الكف التي تقطع هي اليمنى فللبيان النبوي ولقراءة ابن مسعود والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما (4/362)
قوله فان ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى
أقول ظاهر قوله سبحانه فاقطعوا أيديهما أن القطع في السرقة للأيدي وأن اليد اليسار مقدمة على الرجل ولا وجهه للقياس على المحاربة ولم يرد ما تقوم به الحجة في تقديم قطع الرجل على اليد اليسرى ولا يصح أن يقال إنه قد روي بطرق يشهد بعضها لبعض فإن في طرقه كذابين ولا يشهد حديث الكاذب للكاذب ولا يعضده كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق فقال اقتلوه فقال يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم عاد ثانية وثالثة ورابعة فيأتون به للنبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول لهم كما قال أولا حتى أتوا به الخامسة وقد نفذت قوائمه الأربع فقال لهم اقتلوه فهذا الحديث ليس فيه إلا ذكر القطع من غير تعيين رجل (4/363)
ولا يد وما ذكر في بعض طرقه من ذكر الرجل بعد اليد فلا أصل له على أن هذا الحديث نفسه قال فيه النسائي منكر لا أعلم فيه حديثا صحيحا وقال ابن عبد البر منكر لا أصل له وقال الشافعي منسوخ لا خلاف في ذلك مع أنه قد أخرجه النسائي والحاكم من حديث الحارث بن خاطب وأبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن زيد الجهني وإذا كان المنسوخ هو مجرد القتل بعد قطع الأعضاء الأربعة فلا وجه لقول المصنف ثم يحبس فقط إن عاد وإن كان النسخ لجميع ما اشتمل عليه الحديث فلم يرد ما تقوم به الحجة في قطع الرجل اليسرى بل ولا في قطع اليد اليسرى ويكون الواجب قطع اليمنى على أي صفة كانت فإن كانت قد قطعت لسبب آخر سقط القطع هذا على تقدير أن حديث جابر هذا وما شهد له مما تقوم به الحجة وقد عرفت ما قيل في حديث جابر والمنكر لا يقوم به حجة فيكون الواجب هو قطع اليد اليمنى فقط ولا يجب قطع غيرها إذا سرق مرة أخرى لا رجل ولا يد
قوله و يسقط بالمخالفة
أقول لم يرد شي يدل علي هذا السقوط قط والعضو الذي أمر الله بقطعه باق فالخطاب متوجه إليه وعلى الذي قطع غيره القصاص أو الدية وإن كان مخطئا وما قيل مما فيه مخالفة لهذا فهو خبط لسي عليه أثارة من علم والباعث عليه حور الطبيعة ومزيد الرحمة لمن قطعت يسرى يديه أن لا تقطع معها اليمنى فيضحى بلا يدين فما لنا (4/364)
ولهذا ما أدخله في الأحكام الشرعية فإن يده اليسرة قطعت بالجناية عليها على خلاف حكم الله ويده التي أمر الله بقطعها باقية فيقطع بحكم الله سبحانه وإذا صار إلى حالة ليس له فيها يدان فعلى نفسها براقش تجنى
قوله وبعفو كل الخصوم الخ
أقول العفو قبل الرفع مندوب لما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وأخرجه أيضا الحاكم وصححه قال ابن حجر في الفتح وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح
وأخرج مالك ف الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال إن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع وقد تقدم في حديث المخزومية الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأسامة أتشفع في حد من حدود الله وفي لفظ لا أراك تشفع في حد من حدود الله وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لصفوان في السارق الذي سرق رداءه هلا كان قبل أن تأتيني به (4/365)
وأما كونه يسقط عن السارق بتملكه للمسروق قبل الرفع ففي كون كون هذا شبهة يسقط بها الحد نظر لأن السرقة الموجبة للحد قد وقعت وهو في غير ملكه فلا يؤثر تملكه له من بعد
قوله وبنقص قيمة المسروق عن عشرة
أقول إذا نقص قيمة المسروق على النصاب المعتبر على حسب ما قررناه سابقا فالحد لم يجب من الأصل حتى يقال إنه يسقط بذلك ففي العبارة تسامح وأما كونه يسقط بمجرد الدعوى أنه له وإن لم تصح الدعوى ففي كون هذه الدعوى الباطلة شبهة نظر وقد تقدم أنه لا بد أن تكون الشبهة محتملة
قوله ولا يغرم بعده التالف
أقول الوجه في هذا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه أمر السارق بضمان ما سرقه بعد قطعه وهذا يكفي في الاستدلال وأما حديث عبد الرحمن بن عوف عند النسائي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد فقد بين النسائي بعد إخراجه له أنه منقطع وقال أبو حاتم إنه منكر وقال ابن عبد البر لا تقوم به حجة
وأما كونه يسترد الباقي في يده أو يد غيره بغير عوض فوجهه أنه باق على ملك مالكه لم يتحول بالسرقة عنه فله أن يرجع بالعين على من هي في يده أو على السارق ويجب (4/366)
على السارق أن يسترجع تلك العين ولو بعوض لا كما قال المصنف وقد قام الدليل على ذلك كما أخرجه النسائي من حديث أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في السرقة إذا وجدها ربها مع غير المتهم أنه إن شاء وأخذها منه بما اشتراها وإن شاء اتبع سارقه وقضى بذلك أبو بكر وعمر وأما رد هذا الحديث لدعوى كونه مشكلا فمن أغرب ما يقرع الأسماع فالأحكام النبوية هي الحجة على العباد ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وإذا خالفها مجتهد برأيه فرأيه رد عليه مضروب به وجهه ولكن التجري على رد السنن يفعل بصاحبه مثل هذا
قوله ولا يقطع والد لولده وإن سفل
أقوله لا شك أن حديث أنت ومالك لأبيك يكون شبهة أقل أحواله وهو حديث تقوم به الحجة وقد عضده حديث كلوا من كسب أولادكم وقد قدمنا الكلام على الحديثين جميعا
وأما الولد إذا سرق مال والده فلا شبهة له وهو مشمول بالأدلة الموجبة للحد على السارق ومن قال إن في قطعه قطع رحم أمر الله بعلتها فقد أسرف في الغفلة فإنه أوجب هذا الشرع الثابت بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين وليست صلة الرحم بإسقاط ما أوجبه الله وجعله شرعا لعباده ولو كان هذا صحيحا لم يثبت على قريب لقريبه حق لا في نفس ولا مال واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله
وأما كونه لا يقطع عبد لسيده فوجهه ظاهر ولا سيما عند من يقول إن العبد لا يملك
وأما قوله وكذا الزوجة فلا وجه له إلا على ما قدمنا من الكلام على قوله وما أذن السارق بدخوله وأما الشريك لشريكه فهو في غاية الظهور إذا كان المال (4/367)
المسروق مشتركا بينهما وهكذا عبيد الشريكين لأنهم سرقوا مال سيدهم وقد أغنى عن ذكر هذا ما تقدم من قوله ولا عبد لسيده فإن كل واحد من عبدي الشريكين سرقا مالا بعضه لسيده فكان هذا البعض شبهة في الباقي
فصل
والمحارب وهو من أخاف السبيل في غير المصر لأخذ المال يعزره الإمام أو ينفيه بالطرد ما لم يكن قد أحدث وإلا قطع يده ورجله من خلاف لأخذ نصاب السرقة وضرب عنقه وصلبه للقتل وقاص وأرش للجرح فإن جمعها قتل وصلب فقط ويقبل من وصله تائبا قبل الظفر به وتسقط عنه الحدود وما قد أتلف ولو قتلا لا بعده فلا عفو ويخير في المراسل
قوله فصل والمحارب هو من أخاف السبيل الخ
أقول هذا الحد من جملة ما شرعه الله من الحدود بين عباده وجاء في كلامه بالصيغة المنادية بالعموم بأعلى صوت وأوضح دلالة فهي من هذه الحيثية شرع عام لجميع الأمة أولهم وأخرهم أسودهم وأبيضهم وكون سبب نزولها في المشركين (4/368)
الذين أخذوا لقاح رسول الله صلى الله عليه و سلم لما شكوا إليه وباء المدينة فأمرهم بالخروج إلى حيث كانت إبله ليشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فقتلوا راعيها وساقوها لا يدل على اختصاص هذا الحد بهم فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في الأصول لا يخالف فيه أحد من الأئمة الفحول على أن هؤلاء الذين كانوا سبب النزول قد كانوا تكلموا بكلمة الإسلام كما في الصحيحين وغيرهما ومجرد هذا الواقع منهم لا يكون ردة ولو سلمنا أنهم صاروا بذلك كفارا مشركين فقد أنزل الله في كتابه العزيز الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا وأين يقفو فكان هذا الحكم العام مغنيا عن إدخالهم في زمرة الإسلام فيما شرعه لهم من الأحكام فالمشرك سواء حارب أو لم يحارب مباح الدم ما دام مشركا فليس في حمل الآية على المشركين وتخصيص حد المحاربة بهم إلا التعطيل لفائدتها والمخالفة لما يقتضيه الحق ويقود إليه الإنصاف وقد أقام هذا الحد على المحاربين الصحابة فمن بعدهم إلى هذا الغاية
وأما ما أبداه الجلال رحمه الله من الفوائد والمفاسد لما اختاره من اختصاص حد المحاربة بالمشركين فتلك الفوائد واندفاع المفاسد لا يقوم رقعها بالخرق على أنها زائفة داحضة ناشئة عن الوسوسة في زحلفة أحكام الله وتبديل ما شرعه
وأما اشتراط المصنف رحمه الله أن تكون إخافة السبيل في غير المصر فلا وجه له لأن الله سبحانه شرع لنا هذا الحد فأطلقه ولم يقيده ولا ثبت لنا عن رسوله المبين (4/369)
للناس ما نزل إليهم أنه قيده بهذا القيد فمن وجدت منه المحاربة وهي إخافة السبيل بالقتل ونهب المال فهو محارب سواء كان داخل المصر أو خارجه ثم هذا المحارب الذي وقعت منه المحاربة حده هو ما ذكره الله سبحانه من التخيير بين القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل أو نفيهم من الأرض فهذا حد الله الذي شرعه لعباده في كتابه بعبارة في غاية الوضوح والبيان بحيث لا يخفى على العامة فضلا عن أهل العلم فالتوزيع لهذه العقوبات المذكورة في الآية كما ذكره المصنف تقييد لكتاب الله بلا دليل بل بمجرد القال والقيل ولا يلزمنا اجتهاد لمجتهد من الصحابة أو أكثر ما لم يكن إجماعا منهم على أن المروي عن ابن عباس في توزيع العقوبات المذكورة في الآية على الصفة التي ذكرها المصنف لم تكن في شيء من دواوين الإسلام وإنما أخرجه الشافعي من طريق إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف لا تقوم بمثله حجة كما هو معروف عند أهل الفن (4/370)
قوله ويسقط عنه الحدود الخ
أقول ظاهر التقييد بقوله عز و جل إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم أنها قيد لحد المحاربة كما يشعر به السياق فلا يجوز للإمام والسلطان وغيرهم أن يقيموا حدود المحاربة على محارب تاب قبل القدرة عليه وأما سائر الحدود فلا دليل على أنها تسقط بالتوبة ولا بالوصول إلى الإمام قبل القدرة بل هي باقية على أصلها لا يسقطها إلا بمسقط وإذا كان هذا في الحدود فكيف بالأموال التي في ذمة المحارب إلا ما كان متعلقا لما تاب عنه من المحاربة فإن ما سفكه فيها من الدماء وأتلفه من الأموال ظاهر التقييد أنه يسقط لأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فاستحق عدم المؤاخذة بحد المحاربة ولا بما يتعلق به وأما إذا كان المحارب كافرا فهو وإن كان يجري عليه هذا الحد كما يجري على المسلمين لكن إذا تاب من المحاربة مع البقاء على كفره فهي توبة مقبولة داخلة تحت عموم الآية وأما إذا أسلم فالإسلام يجب ما قبله
وأما قوله لا بعده فلا عفو فهو كلام صحيح لما عرفناك فيما سبق من دفع ما قاله المصنف أن للإمام إسقاط الحدود وتأخيرها لمصلحة فقد أصاب هنا ولم يصب هنالك
وأما قوله ويخير في المراسل فمناف لما يدل عليه قوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم إذ لم يكن في هذه الآية إلا اعتبار مجرد حصول التوبة سواء كانت مع الوصول إلى الإمام أو لمجرد المراسلة
فصل
والقتل حد الحربي والمرتد بأي وجه كفر بعد استتابة ثلاثا فأبى والمحارب (4/371)
مطلقا والديوث والساحر بعد الاستتابة لا المعترف بالتمويه وبالإمام تأديبه
قوله فصل والقتل حد الحربى
أقول هذا ثابت بالضرورة الدينية والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا ولا حاجة إلى بيان ما هو من ضروريات الدين وأجمع عليه جميع المسلمين وما قيل أن القتل لا يقال له حد لأنه المنع عن المعصية فيجاب عنه بأن في القتل للعاصي المنع التام له من معاودة المعاصي أيضا وأيضا قد قال صلى الله عليه و سلم حد الساحر ضربة بالسيف كما أخرجه الترمذي وغيره
قوله والمرتد أقول قتل المرتد عن الإسلام متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفاصيله و الأدلة الدالة عليه أكثر من أن تحصر لو لم يكن منها إلا حديث من بدل دينه فاقتلوه وهو في الصحيح وحديث لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث وهو كذلك في الصحيح ولا فرق بين المرتدين من الرجال والنساء وما ورد في النهي عن قتل النساء فذلك في نساء الكفار الباقيات على الكفر وأما النساء المسلمات إذا وقعت منهن الردة فقد فعلن بالخروج من الإسلام سببا من أسباب القتل فبين الكفارة الأصلية (4/372)
والمرأة المسلمة المرتدة عن الإسلام في الكفر فرق أوضح من كل واضح فلا يحتاج إلى الكلام على تعارض الأدلة الواردة في قتل المرتدين على العموم والأدلة الواردة في قتل النساء الكافرات على العموم بل يقر كل منهما في موضعه
وأما قوله بأي وجه كفر فقد أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحا في مسمى الردة وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم وعثرة لا تقال وهفوة لا تغتفر ولو صح هذه لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين لأن أهل المذاهب الأربعة أشعرية وما تريدية وهم يكفرون المتعزلة ومن تابعهم والمعتزلة يكفرونهم وكل ذلك نزغة من نزغات الشيطان الرجيم ونبضة من نبضات التعصب البالغ والتعسف العظيم وقد أوضحنا فهذا في مؤلفاتنا بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب
قوله بعد استتابته ثلاثا فأبى
أقول الأدلة قد دلت على أن الردة سبب من أسباب القتل وأن هذا السبب مستقل بالسببية كما في حديث من بدل دينه فاقتلوه ونحوه ولم يصح في الاستتابة والانتظار به أياما شيء من المرفوع ولا تقوم الحجة بغيره فالواجب علينا عند ارتداد المرتد أن تأمره بالرجوع إلى الإسلام والسيف على رأسه فإن أبى ضربنا عنقه حكم الله ومن أحسن من الله حكما وهذا القول هو بمثابة تقديم الدعوى لأهل الكفر إلى الإسلام فإن ذلك يحصل بمجرد قول المسلمين لهم أسلموا أو أعطوا الجزية فإن أبوا عند جواب هذه الكلمة فالسيف هو الحكم العدل والفعل الفصل
وأما قوله والمحارب فقد تقدم الكلام عليه
قوله والديوث
قول هذه معصية من أعظم المعاصي ورذيلة من أقبح الرذائل وأما أنها توجب (4/373)
سفك دم المسلم واستحلاله فلم يرد في ذلك شيء يصلح للاستدلال به ودماء المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا ينقل عن هذه العصمة إلا ناقل صحيح وليس ها هنا ناقل لا صحيح ولا حسن
أقول أنص دليل على قتل الساحر حديث جندب عند الترمذي والدارقطني والحاكم والبيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حد الساحر ضربة بالسيف وما قيل من أن في إسناده اسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف فيجاب عنه بأن وكيع بن الجراح قال هو ثقة ويؤيده عمل الصحابة واشتهار ذلك بينهم من غير نكير حتى وقع من حفصة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فإنها قتلت جارية لها سحرتها كما رواه مالك في الموطأ وعبد الرزاق وأخرج أحمد وأبو داود وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب قبل موته بشهر كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ولا يصح الاحتجاج على عدم القتل بتركة صلى الله عليه و سلم للقتل لليهودي الذي سحره فإنه إنما ترك ذلك لئلا يثير على الناس شرا ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما أن عائشة قالت له أفأخرجته أي أخرجت السحر من البئر لما وصف لها أن الساحر الذي سحره اليهودي لبيد بن الأعصم في بئر ذروان فقال لها لا أما أنا فقد عافاني الله وشفاني وخشيت أن أثور على الناس منه شرا فقد ترك صلى الله عليه و سلم إخراج السحر (4/374)
من البئر لئلا يثور على الناس الشر فبالأولى قتل ذلك الساحر ومما يؤيد القتل للساحر أن الساحر كافر كما تدل عليه الأدلة فقتله بسبب كفره مع ارتكابه لهذه العظيمة التي يفرق بها بين المرء وزوجه
وأما قوله لا المعترف بالتمويه فلا وجه له لأنه إذا كان الذي فعله سحرا فلا يرفع عنه الكفر والقتل إلا التوبة وإن لم يكن سحرا فلا وجه للاحتراز عنه
وأما كون للإمام تأديبه فنعم يؤدبه بضربة بالسيف يطير بها رأسه عن جسده وكان على المصنف أن يذكر في هذا الفصل من جملة من حده القتل الساب لله عز و جل أو لكتابه أو لرسوله أو للسنة المطهرة أو للإسلام فإن هذه كفر بواح لا يحل التثبط عن قتل من وقعت منه إلا أن يتوب توبة خالصة وهكذا الزنديق فإنه أحق أعداء الله بالقتل لأنه يتظاهر بالإسلام ويسعى في كيد الدين وزحلفة غير المتبصرين عنه وهذه وإن كانت قد دخلت تحت لفظ المرتد لأنها ردة قبيحة فقد وقع الخلاف في كون بعضها كفرا كما وقع الخلاف في الساحر فكان ينبغي أن يذكر كما ذكر
وهكذا كان ينبغي أن يذكر في هذا الفصل الزاني المحصن وإن كان قد ذكره فيما سبق لكنه أعاد ذكر المحارب هنا مع أنه قد ذكر هناك استيفاء للحصر
فصل والتعزير إلى كل ذي ولاية وهو حبس أو إسقاط عمامة أو عتل أو ضرب دون حد لكل معصية لا توجبه كأكل وشتم محرم وإتيان دبر الحليلة وغير (4/375)
فرج غيرها ومضاجعة أجنبية وامرأة على امرأة وأخذ دون العشرة وفي كل وفي كل دون جنسه وكالنرد والشطرنج والغناء والقمار والإغراء بين الحيوان ومنه حبس الدعار وزيادة هتك الحرمة وما تعلق بالآدمي فحق له وإلا فلله
قوله فصل التعزير إلى كل ذي ولاية إلخ
أقول المسلم وماله وعرضه تحت العصمة الإسلامية فلا يجوز في هذه الأمور المعصومة شيء إلا بحقه وقد دل حديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم بقول لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى أنه يجوز هذا الجلد إلى هذا المقدار عقوبة للعصاة الذين فعلوا محرما ولم يرتكبو حدا ودل أيضا حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنة الحاكم وصححه أنه يجوز الحبس بالتهمة ولما هو أولى منها وهو ثبوت الحق بيقين من غير تهمة إذا لم يتخلص عنه من هو عليه وقد أخرج الحاكم لهذا الحديث شاهدا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم حبس في تهمة ليلة ويوما (4/376)
وقد ذكرنا فيما سبق كلاما في الحبس وأحلنا على ما ذكرنا في شرح المنتقى فليرجع إليه
وأما ما ذكره من أنواع التعزير فليس إلا الضرب والحبس وقوفا على ما رود به الشرع من تخصيص تلك العصمة الإسلامية ولكنه ينبغي أن يزيد في الضرب إلى حد العشر في المنتهك للكبائر التي لا حد فيها ويقتصر فيما دونها على دون العشر وهكذا يكون الحبس فيغلظ في الممتنع من الحق الثابت عليه والمنتهك لمعاصي الله سبحانه التي لم يرد فيها حد ويخفف فيما دون ذلك كالتهمة لتجويز أن يظهر ما يدل على براءته
وأما قوله دون حد فالذي قاله المصدوق الصادق لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله فإن هذه العبارة التي جاء بها المصنف من العبارة التي عبر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فغاية ما يبلغ عليه التعزير هو عشرة أسواط وهي عشر حد الزنا وثمن حد القذف والشرب فكيف يستحل من المسلم أن يضرب مائة جلدة إلا واحدة أو ثمانين جلدة إلا واحدة مثلا وأي شرع دل على هذا أو قضى به نعم قضى بذلك شرع الوسوسة والخيال والعمل في أحكام الله على الرأي الذي هو شعبة من القيل والقال
وأما قوله لكل معصية إلى قوله وأخذ دون العشرة فهذا تمثيل صحيح ومن هذا القبيل المربي والخائن والغاصب والمتنع من تخلصه مما يجب عليه التخلص منه إلى ما لا يحصى من المعاصي
وأما قوله في كل دون جد جنسه فكان هذا يغنيه عن قوله دون حد فيما تقدم
قوله كالنرد
أقول قد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه وأخرج (4/377)
احمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم والدارقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من لعب بالنرد فقد عصى الله وسوله وأخرجه أيضا مالك في الموطأ وأخرج أيضا احمد حديثا آخر عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من لعب بالكعاب فقد عصى الله وسوله
وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف والكعاب المذكورة هنا هي فصوص النرد وأخرج أحمد أيضا عن عبد الرحمن الخطمي قال سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي قال في مجمع الزوائد فيه موسى ابن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح
فهذه الأحاديث تدل على تحريم اللعب بالنرد دلالة واضحة بينة
قوله والشطرنج
أقول لم يرد في هذا بخصوصه ما يصلح للعمل عليه والاحتجاج به إثباتا أو نفيا ولعل سبب ذلك تأخر ظهور هذه الآلة عن البعثة النبوية ولكنه ورد ورودا متكاثرا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنها مندرجة تحت قوله سبحانه وتعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس الآية وقد ذكرت ذلك في تفسيري الذي سميته فتح (4/378)
القدير فليرجع إليه ولا شك أن الشطرنج من أعظم ما ينشأ عنه العداوة وإحراج الصدور والخصومات
قوله والغناء
أقول الكلام على هذا يطول ويتشعب إلى فصول وذيول لا يتسع لها المقام وقد أوضحت الكلام واستوفيت المرام في شرحي للمنتقي فمن أراد الوقوف على حقيقة البحث والنظر في جميع الأحاديث الواردة تارة بما يقتضي التحريم وتارة بما يقتضي الكراهة وتارة بما يقتضي الإباحة فليرجع إلى ذلك ثم بعد أن حررت فيها ما حررته في ذلك الشرح أفردتها برسالة مستقله
والحاصل أن الغناء إذا لم يكن من الحرام فهو من المشتبهات والمؤمنون وقافون عن الشبهات وأما استدلال المستدلين على الجواز بما كان يقع من مناشدة الأشعار في حضرته صلى الله عليه و سلم وفي مسجده فليس ذلك من الغناء في شيء وهكذا ما كان يقع في العرسات ونحوها من رفع الصوت بالشعر مع الضرب بالدفوف فإن ذلك غير (4/379)
هذا الغناء المذكور هنا ولو سلمنا أنه نوع منه لكان ذلك مخصوصا لما ورد من المخصصات للعرسات فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن الإحالة على ما أحلنا عليه فيها ارتفاع الإشكال وجلاء الريب ووضوح الصواب
قوله والقماء
أقول يدل على تحريمه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق فإن هذه الصدقة هي كفارة لذنب القمار فأفاد ذلك أنه حرام وقد ذكرنا في تفسيرنا عند الكلام على الميسر ما يدل على أن القمار داخل في مسماه وقد قال الله عز و جل إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر
قوله والإغراء بين الحيوان
أقول إنما أجاز الله سبحانه لعباده صيد ما يصاد من الحيوانات والانتفاع بما ينتفع به من أهليها من أكل وغيره وجوز لهم قتل ما يقتل منها من الفواسق وما كان فيه إضرار بالعباد أو بأموالهم وأما الإغراء بينها فهو باب من أبواب اللعب والعبث وليس هو مما أباحه الله لأنه إيلام لحيوان بغير فائدة على غير الصفة التي أذن الله بها فهو حرام من هذه الحيثية وقد حرم الله العبث بالحيوان لغير فائدة كما أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا وهكذا حديث من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة وهو حديث مروي من طرق قد صحح الأئمة بعضها (4/380)
ووجه الاستدلال بما ذكرنا وإن كان ليس بإغراء بين الحيوان أن صلى الله عليه و سلم قد نهى عن العبث الذي لا فائدة فيه والإغراء عبث لا فائدة فيه
وأما قوله ومنه حبس الدعار فمراده أن هذا من نوع من أنواع التعزير
وهكذا قوله وزيادة هتك الحرمة وهما وإن دخلا في قوله لكل معصية ففي ذكرها نكتة تصلح لإيراد الخاص بعد العام الشامل له
وأما قوله وما تعلق بالآدمي إلخ فهو من الوضوح والجلاء بحيث يستغنى عن ذكره هنا (4/381)
- كتاب الجنايات (4/383)
إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامد على نفس أو ذي مفصل أو موضحة قدرت طولا وعرضا أو معلوم القدر مأمون التعدي في الغلب كالأنف والأذن قيل واللسان والذكر من الأصل لا فيما عدا ذلك إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه عند يحيى ويجب بالسراية إلى ما يجب فيها ويسقط بالعكس ولا يجب لفرع وعبد وكافر على ضدهم فلا يقتل أمه بأبيه ونحوه ولا أبوه أمه به ونحوه وعلى الأصل الدية والكفارة والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل
قوله فصل إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامدا
أقول وجهه أن غير المكلف لا يجب عليه القصاص بالإجماع وإن وجب ضمان أرش الجناية من ماله لكون ذلك من أحكام الوضع كما هو مقرر في موضعه ولا بد من انضمام قيد العدوان إلى قيد العمد للقطع بأنه لا يجب القصاص ولا الأرش على المدافع عن نفسه وأهله وماله لأن ذلك مما أباحه له الشرع وأذن له به
قوله على نفس
أقول القصاص في النفس عند كمال ما يعتبر فيه ثابت بالكتاب كقوله النفس بالنفس وقوله كتب عليكم القصاص وقوله ولكم في القصاص حياة (4/385)
وثابت بالسنة كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قتل له قتيل فهو بخير النطرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى الحديث ومن ذلك حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين وغيرهما لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث الحديث وهو في صحيح مسلم من حديث عائشة وقد اتفق المسلمون جميعا على ثبوت القصاص في الأنفس ولم يخالف في ذلك أحد
قوله أو ذي مفصل
أقول القصاص في الأطراف ثابت بلا خلاف وثابت في الجروح لقوله عز و جل والجروح قصاص ولما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه وفي إسناده سفيان بن (4/386)
أبي العوجاء السلمى قال أبو حاتم ليس بالمشهور
والحاصل أن القصاص ثابت في الجروح وهي تشمل ما كان ذا مفصل وما كان غير ذي مفصل إذا أمكن الوقوف على مقداره بحيث يمكن المقتص أن يقتص من الجاني بمثل الجناية الواقعة منه وسواء كانت الجناية موضحة أو دونها أو فوقها ولا وجه لقوله او موضحة
وأما قوله مأمون التعدي فالوجه في ذلك أن تلك الجراحة إذا كانت مظنة لحصول الموت بها كالجائفة والهاشمة فينبغي الانتظار حتى ينتهي حال الجنى عليه فإن انتهى إلى السلامة فليس له إلا الأرش لأن إقدامة على القصاص في مثل ذلك قد يفضي إلى زيادة على ما وقع من الجاني وهو الهلاك وقصاص إنما هو المساواة بدون زيادة وإذا انتهى حاله إلى الموت كان لوليه أن يقتل الجاني ويكون من القصاص في الأنفس لا في الجروح وقد أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح وأخرج أحمد والدارقطني أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال أقدني فقال حتى تبرأ الحديث
وأما قوله كالأنف والأذن فقد دل على هذا القرآن حكاية عن بني إسرائيل وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن وقرر ذلك شرعنا فكان شرعا لنا (4/387)
وأما قوله قيل واللسان والذكر من الأصل فلا وجه لهذا لأن في الاقتصاص فيهما مظنة الهلاك فيكون الكلام هنا كما قدمنا في الجائفة والهاشمة
وأما قوله ولا قصاص فيما عدا ذلك فقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد بالموضحة بل الدامية فما فوقها إلى الموضحة والموضحة فما فوقها إلى الهاشمة القصاص ثابت فيها جميعا مهما أمكن الوقوف على قدرها وجعل الأمن من مجاوزة المقدار ولا وجه للمنع لأن جميها من الجروح والله سبحانه يقول والجروح قصاص
قوله إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه
أقول قد أثبت القصاص في هذا الخلفاء الراشدون ولا يصح قوله من قال إنه مقتضى الكتاب والسنة فإن الذي في الكتاب وهو قوله كتب عليكم القصاص مقيد بقوله في القتلى وكذلك الآية الحاكية لما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل فإنها في تلك الأمور المذكورة فيها وكذلك قوله ولكن في القصاص حياة فإن قوله حياة يشعر بأن المراد بهذا القصاص في الأنفس وهكذا قوله والجروح قصاص فإن اللطمة والضربة ليستا من الجروح فإن أفضت إلى الجرح كان لها حكم الجروح ولكن المفروض أنه لم تفض إلى الجرح
وأما السنة فإنه لم يرد في شيء منها إثبات القصاص في اللطمة والضربة بالسوط ونحوه وقد ادعى بعض أهل العلم الإجماع على عدم ثبوت القصاص في ذلك ورده ابن القيم بأن القصاص فيها ثابت عن الخلفاء الراشدين قال فهو أولى بأن يكون إجماعا (4/388)
قوله ويجب بالسراية إلى ما يجب فيه إلخ
أقول وجه ذلك أن سراية الجناية أثر فعل الجاني فهو في حكم ما لو كانت الجناية واقعة على ذي مفصل
وأما قوله ويسقط بالعكس فوجهه أن الاعتبار بالانتهاء كما هو قاعدة المصنف ومن وافقه فالحاصل أن المصنف قد جرى في الطرد والعكس على القاعدة المقررة عنده والاعتبار هو قول راجح ولا سيما وقد دل عليه في خصوص الجنايات ما قدمنا من أنه صلى الله عليه و سلم نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح
قوله ولا يجب لفرع
أقول استدل على ذلك بما أخرجه الترمذي من حديث عمر مرفوعا بلفظ لا يقتل الوالد بالولد قال ابن حجر في التلخيص وفي إسناده الحجاج بن أرطاة قال (4/389)
وله طرق أخرى عند أحمد والأخرى عند الدارقطني والبيهقي أصح منها وفيه قصة وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات قال ورواه الترمذي من حديث سراقة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بي شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو وقيل عن سراقة وقيل بلا واسطة وهي عند أحمد وفيها أبو مسلم ا لمكي وهو ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبيد الله عن عمر وبن دينار قاله البيهقي وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء وقال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أنه لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول انتهى
ولا يخفاك أن مجموع ما ذكر يقوي بعضه بعضا فتقوم به الحجة وليس الإعلال إلا من طريق الانقطاع من بعضها وقد ثبتت الواسطة في بعض الروايات فاتصل
قوله وعبد (4/390)
أقول استدلوا بحديث عمر عند البيهقي وابن عدي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده وفي إسناده عمر ابن عيسى الأسلمي قال البخاري هو منكر الحديث واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا لا يقتل حر بعبد قال ابن حجر وفيه جويبر وغيره من المتروكين وبما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه و سلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه إنما يضعف إذا روى عن الحجازيين لا عن الشاميين وهو هنا روى عن الأوزاعي وهو شامي قال ابن حجر لكن من دونه محمد بن عبد العزيز الشامي قال أبو حاتم لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب انتهى وشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي قال أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل قتل عبده متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه و سلم مائة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ومما يشهد له أيضا حديث الرجل الذي جب مذاكير عبده فاعتقه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم (4/391)
يقتص من السيد وله طرق عند أبي داود وغيره وأخرج البيهقي عن علي أنه قال من السنة أن لا يقتل حر بعبد وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك
فهذه الأدلة الواردة في أن السيد لا يقتل بعبده وإليه ذهب الجمهور كما حكاه الترمذي وغيره وحكى المصنف في البحر الإجماع على ذلك إلا عن النخعي واستدل لمن قال إنه يقتل بما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه قال الترمذي حسن غريب وفي رواية لأبي داود والنسائي ومن خصى عبده خصيناه وهذه الزيادة صححها الحاكم ولكن في سماع الحسن من سمرة الخلاف الذي قدمنا فلا يقوم بهذا الحديث الحجة ولا سيما وقد عورض بما تقدم مع كون الحكم هو سفك دم الحر السيد بالعبد ولا شك أن له مزيد خصوصية على سائر الأحرار
وأما قتل الحر بعبد غيره فحكى في البحر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يقتل وحكاه الكشاف عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وحكى الترمذي عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض أهل العلم أنه ليس بين العبد والحر قصاص لا في النفس ولا فيما دونها قال وهو قول (4/392)
أحمد وإسحاق وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة ومالك والشافعي وقد استوفيت الكلام على حجج القولين في شرحي للمنتقى فليرجع إليه والظاهر عدم ثبوت قتل الحر بالعبد لاسيما مع تعارض الأدلة ترجيما لجانب الحظر وعملا بأصالة عصمة النفوس حتى يرد ما يدل على عدم العصمة بوجه يصلح بذلك وتقوم بن الحجة ولا سيما مع قوله سبحانه والعبد بالعبد فإنه يدل بمفهومه على أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا يرد الإلزام بأنه كما يدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد يدل على أنه لا يعقل العبد بالحر لأنا نقول قد وقع الإجماع على أنه يقتل العبد بالحر
قوله وكافر
أقول الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأهل السنن من حديث علي مرفوعا بلفظ لا يقتل مسلم بكافر من غير زيادة ولا ذو عهد في عهده وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وصححه الحاكم وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد رجاله رجال الصحيح إلى عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد وأبي داود لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده (4/393)
وإذا عرفت هذا فالأمر في الحديث واضح والمعنى صحيح وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى تارة عن قتل المسلم بالكافر ضم إليه النهي عن قتل المعاهد من غير نظر إلى القصاص به ومنه وهذا معنى صحيح تام لا يحتاج إلى تقدير وقد تقرر أن الكلام إذا صح بدون تقدير كانت الزيادة عليه عبثا
ووجه ذكر النهي عن قتل بعد ذكر النهي عن قتل المسلم بالكافر أنه ربما سمع السامعون أنه لا يقتل مسلم بكافر فيكون ذلك سببا للجرأة على قتل كل كافر معاهد وغيره فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن قتله لأنه معصوم بالذمة بخلاف الكافر الحربي فما جاء به القائلون بأنه يقتل المسلم بالذمى من التقديرات المتكلفة لم تدع إليه حاجة ولا قام عليه دليل ولا مثل هذا السراب المبنى على شقا جرف هار يصلح لقتل المسلمين بالكفار
قوله فلا يقتل أمه بأبيه الخ
أقول إنما يتم هذا لو كان الوارد في الاقتصاص من الوالد للولد يدل على أنه لا يثبت للولد على والده قصاص أصلا كأن يقول لا يقتص ولد من والده أو لا يقتص فرع من أصله ولم يرد ما يفيد هذا المفاد ولا ما يدل على هذا المعنى بل معنى ما ورد أنه لا يقتل الوالد بالولد وهذا لا يدل على أنه لا يثبت للفرع قصاص على الأصل على كل تقدير
وأما ما عللوا به من منع ثبوت القصاص للولد من والده مطلقا بأنه كان سبب وجوده فلا يكون الولد سببه إعدامه فما أبرد هذه العلة وما أقل فائدتها وليس مجرد ما يتخيله المتخيل من العلل العليلة مسوغا لبناء أحكام الشرع عليه
وأما قوله والكفارة فلا يخفاك أن الله سبحانه إنما شرع الكفارة في قتل الخطأ والمفروض هنا أن القتل وقع عمدا ولا كفارة في العمد إلا بدليل ولا دليل فلا وجه لإيجاب الكفارة ولكنها تجب الدية لأن سقوط القصاص لا يستلزم سقوطها (4/394)
وأما قوله والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل فوجهه ظاهر لأن تغير الوصف بعد صدور السبب لا يوجب تغير الموصوف حتى يحصل الانتفال عن تلك السببية الكائنة مع تلك الصفة
فصل
وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف ديته وجماعة بواحد وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت وذلك حيث مات بمجموع فعلهم مباشرة أو سراية أو بالانضمام ولو زاد فعل أحدهم فإن اختلفوا فعلى المباشر وحده إن علم وتقدمه أو التبس تقدمه فإن علم تأخره أو اتحاد الوقت لزمه القود والآخر أرش الجراحة فقط فإن جهل المباشر لزم المتقدم أرش الجراحة فقط إن علم وإلا فلا شيء عليهما إلا من باب الدعوى فإن كان القاتل أحد الجرايح فبالسراية يلزم القود والأرش في الأخرى وهو فيهما مع لبس صاحبهما وفي المباشرة كما مر وبعضهم يحول
قوله فصل وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف دينه
أقول أما قتل المرأة بالرجل فالأمر ظاهر وليس في ذاك خلاف وأما قتل الرجل بالمرأة فقد ذهب الجمهور حتى حكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا رواية عن علي وعن (4/395)
الحسن وعطاء ورواه البخاري عن أهل العلم وقد سقنا حجج المذهبين في شرحنا للمنتقى
والحاصل أن الاستدلال بالكتاب على قتل الرجل بالمرأة أو عدمه لا يخلو من إشكال يفت في عضد الاستدلال فالأولى التعويل على ما وردت به السنة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه و سلم فرض رأسه بحجرين فهذا فيه قتل الرجل بالمرأة ولو لم يكن ثابتا لم يقتل بها الذمى ولا المسلم وفي كتاب عمرو بن حزم المشتمل على تفصيل الديات والأروش للجنايات أن الرجل يقتل بالمرأة وهو كتاب كتبه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود (4/396)
والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه جماعة من الأئمة منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي
والحاصل أن هذا الحديث قد كثرت طرقه وخرجت في بعضها من مخرج الصحيح وفي بعضها من مخرج الحسن فالحجة قائمة والعمل بما دل عليه متعين ولم يأت من أعله بما يقدح فيه وعلى تقدير تضعيف بعض طرقه فقد صح البعض الآخر قال الشافعي في رسالته لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم
إذا عرفت هذا فالعجب العجب ممن يدعي أنه من أهل الإنصاف ومن العاملين بالحق المؤثرين له على الرأي كيف يدفع هذا الحديث بمجرد دعواه مخالفته لقياس أوهن من بيت العنكبوت وأخفى من السها وأبعد من كل بعيد
وأما قوله ويتوفى ورثته نصف ديته فلم يدل على هذا دليل يصلح لتقييد ما دل على أنه يقتل الرجل بالمرأة فالظاهر أنه يقتل بها كما تقتل به من غير شيء
قوله وجماعة بواحد
أقول قد علمنا من الحكمة في مشروعية القصاص بين العباد أن فيه للناس حياة كما قال عز و جل ولكم في القصاص حياة ولو كان اجتماع جماعة على قتل واحد لا يقتضي ثبوت القصاص منهم لكان هذا سببا يتذرع به إلى قتل النفوس فإن الزاجر (4/397)
الأعظم إنما هو القتل لا الدية فإن ذلك يسهل على أهل الأموال ويسهل أيضا على الفقراء لأنهم يعذرون عن الدية بسبب فقرهم فإذا كان القتيل ثبت قتله بفعلهم جميعا كما سيذكره المصنف فالاقتصاص منهم هو الذي تقتضيه الحكمة الشرعية الثابتة في كتاب الله عز و جل ولهذا شبه الله سبحانه قاتل النفس بمن قتل الناس جميعا ورحم الله عمر بن الخطاب ورضي عنه ما كان أبصره بالمسالك الشرعية وأعرفه بما فيه المصلحة الدينية العائدة على العباد بأعظم الفائدة فقد ثبت عنه أنه قتل سبعة بواحد تمالوا على قتله وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا قال البخاري في الصحيح قال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاما ما قتل غيلة فقال فيه عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به وهو في الموطأ بأطول من هذا ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف عمر في ذلك والعجب ممن يعتمد في دفع هذه المسألة ويلزم سقوط القصاص لمسألة مقدور بين قادرين وهي أهون على المتشرع من شراك نعله
وأما قوله وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت فوجهه أن كل واحد منهم كأنه مستقل بقتل ذلك ذلك القتيل ولهذا ثبت عليه القصاص فإن كانت الدية عوضا عن دم المقتول فالأمر هكذا وإن كانت عوضا عن دم القاتل فقد صار كل واحد منهم مستحقا للقتل
وأما هذه التفاصيل التي ذكرها المصنف هنا إلى آخر الفصل فكلها معقولة حسنة فلا نطيل الكلام عليها (4/398)
فصل
وما على قاتل جماعة إلا القتل ويحفظ نفسه حتى يجتمعوا لا قالع أعينهم فالقصاص وديات الباقيات وفي الأيمن الأيمن ونحو ذلك ولو زاد أحدهما أو نقص فإن تعذر فالدية ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها ولا ذكر صحيح بعنين أو خصي فإن خولف جاز الاستئناف قيل ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم ولا شيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص ولا قصاص في الفقء ويقدم قصاص الأطراف على القتل وينتظر فيها البرء ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه أثم وللآخر الدية من الجاني إلا الشريك فمن المقتص
قوله فصل وما على قاتل الجماعة إلا القتل
أقول قد تقدم حديث من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل وهو في الصحيحين وغيرهما وفي حديث آخر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذا العقل أو يعفو فإن أراد رابعة خذوا علي يديه وفي هذا دلالة على أن الخيار إلى أولياء المقتولين فإن طلبوا القصاص فليس على القاتل إلا تسليم نفسه إليهم ولا يجب عليه غير ذلك وإن طلبوا الديات وجب عليه تسليمها من ماله إن كان له مال (4/399)
ومما يؤيد هذا قوله عز و جل كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر إلى أن قال فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان والعفو هو قبول الدية فعرفت أن قول المصنف وما على قاتل جماعة إلا القتل مبني على أنهم طلبوا القصاص
قوله لا قالع أعينهم فالقصاص الخ
أقول إن اجتمعوا على طلب القصاص فليس لهم إلا قلع عينه وإن طلبوا ديات ما قلعه من الأعين كان لهم ذلك من ماله إن كان له مال وليس له أن يقول لا أعطيكم إلا بالقصاص لما قدمنا من الأدلة على أن التخيير إلى ورثة المقتول ويستفاد منه بفحوى الخطاب أن الخيار إلى المجني عليه بقلع عين أو نحوها مما يجب فيه القصاص وأيضا هو مصرح بهذا في حديث أبي شريح الخزاعي المتقدم فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث الحديث
وأما قوله وفي الأيمن الأيمن إلخ فظاهر وهو مدلول عليه من معنى القصاص وهكذا قوله ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها لأنه أخذ غير ما وجب فيه القصاص
وأما قوله ولا ذكر صحيح بعنين ففيه نظر لأنه عضو كالعضو لو كان زيادة أحدهما على الآخر بوصف من الأوصاف مسقطا للقصاص لكان تفاوت الأوصاف مسقطا للقصاص ولكان تفاوت الأوصاف كمالا ونقصا موجبا لسقوط القصاص في الأنفس واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله فالعنين قد قطع منه عضو فله أن يطالب الجاني عليه قصاصا وهكذا من بصره ضعيف له أن يطالب بالقصاص ممن بصره صحيح عملا بما أطلقته الأدلة ما لم يذهب نورها بالمرة فإنه سيأتي أنه صلى الله عليه و سلم قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء (4/400)
إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها أخرجه النسائي وغيره ويمكن إلحاق ذكر العين باليد الشلاء والعين العوراء السادة لمكانها وسيأتي الكلام في تفاوت ديات مثل هذه الأشياء وأروشها و لعلنا نتكلم هنالك إن شاء الله بما فيه مزيد إيضاح
قوله فإن خولف جاز الاستئناف
أقول كل واحد منهما قد جنة على الآخر عمدا جناية توجب القصاص فالخيار في الاقتصاص أو التعافي إليهما ولذا قال المصنف جاز الاستئناف
وأما قوله قيل ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم فلا وجه له لأن الذي أثبته الشرع للمجني عليه هو القصاص أو الأرش فليس له أن يجمع بينهما ولو جاز ذلك لما كان خاصا بهذه الجناية بل كان يلزم في كل جناية بعضها معلوم القدر مأمون التعدي أن يقتص ويأخذ أرش ما زاد
قوله ولاشيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص
أقول الوجه في هذا واضح لأن الله سبحانه شرع هذا سوغ لعباده استيفاءه فإذا أفضى إلى الموت مع الاقتصار على ما شرعه الله سبحانه لم يكن في ذلك ضمان لأنه مات بشرع وجب عليه فهو قتيل الشرع وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن علي قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسنه (4/401)
فهو رضي الله عنه أخبر عما يجده في نفسه تورعا منه وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سنه على الصفة التي ذكرناها هنالك
وأما قوله ولا قصاص في الفقء فوجهه أن المصنف قال فيما سبق معلوم القدر مأمون التعدي فإذا كان الفقء غير معلوم القدر أو غير مأمون التعدي كان ذلك عذرا في ترك القصاص لكن لا يخفاك أنه إذا ذهب بالفقء نور العين حتى لم يبق من إدراكها شيء كان داخلا تحت قوله عز و جل والعين بالعين لأن الاعتبار في كونها عينا هو بالإدراك بها فإذا ذهب ذلك لم تكن عينا
قوله ويقدم قصاص الأطراف على القتل إلخ
أقول وجه هذا أنه قد تعلق للمقتص من الأطراف حق بها سواء كان واحدا أو جماعة وتقدم الاقتصاص بالنفس عليها يبطل ما هو ثابت من القصاص فيها لأن الاقتصاص من الميت لا يقال له قصاص ولا يسقط به حق عنه كما لا يجب فيه أرش ولا قصاص فمن هذه الحيثية وجب تقديم القصاص في الأطراف على القصاص في النفس لأنه لا يفوت تقديم القصاص في الأطراف ما يجب من القصاص في النفس بخلاف العكس وأما انتظار البرء فيها فلا وجه له إلا مجرد خيال مختل وتعليل معتل فالحق أنه يقطع ما يجب القصاص فيه من الأطراف ثم يستوفي القصاص في النفس من غير انتظار أصلا ومن أورد ما روي من أمره صلى الله عليه و سلم للمجني عليه أن ينتظر البرء ثم يقتص فقد وضع الدليل في غير موضعه فإن المراد هنا الانتظار منه لبرء الجناية الواقعة عليه حتى يتبين هل يحصل فيها سراية أو لا ليكون القصاص بعد تبين ما ينتهي إليه الأمر وهذا مسلم في المجني عليه وأما في المقتص منه فهو غير ما ورد فيه الحديث لأن المفروض أن من له القصاص قد طالب به في وقت يجوز له طلبه
قوله ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه إلخ (4/402)
أقول وجه هذا أن المقتص لم يأخذ إلا ما هو حق له أوجبه الشرع فإذا كان الجاني قد جنى على اثنين أو أكثر جنايات توجب لكل واحد منهم الاقتصاص منه فسبق أحدهم بالقصاص حتى فات على غيره أن يستوفي ما يجب له من القصاص كان له أرش الجناية الواقعة عليه من مال الجاني لأنه الذي فعل ما يوجبها وليس على من استوفى ما يجب له من القصاص شيء وأما الشريك في القصاص فهو لم يستحق إلا نصيبا يخصه فإذا أقدم بعض الورثة للمقتول إلى قتل الجاني من غير أمر له من شركائه فقد استهلك حقه وحقهم فكان الضمان عليه والفرق بين المسألتين واضح ظاهر معقول
فصل
ولولي الدم إن شاهد القتل أو تواتر أو أقر له أو حكم أن يعفو ويستحق الدية وإن كره الجاني كاملة ولو بعد قطع عضو وإن يصالح ولو بفوقها وأن يقتص بضرب العنق فإن تعذر فكيف أمكن بلا تعذيب ولا إمهال إلا لوصية أو حضور غائب أو طلب ساكت أو بلوغ صغير ولا يكفي أبوه فإن فعل ضمن حصة شريكه ومتى قتل المعسر غير المستحق فللمستحق الدية إن لم يختر الوارث الاقتصاص
قوله فصل ولولي الدم إن شاهد القتل إلخ (4/403)
أقول يدل على هذا قول الله عز و جل فقد جعلنا لوليه سلطانا فإن المراد جعلنا له سلطانا على القاتل في دم المقتول إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وقد قدمنا ذكر الأدلة الدالة على أن الولي بخير النظرين وأنه إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وأوضحنا أن هذا التخيير أمر راجع إليه لكن إذا كان القاتل معترفا مسلما نفسه للقصاص فللولي الاستيفاء من غير مرافعة إلى حاكم ولا إلى إمام وأما إذا كان مخاصما منكرا للقتل أو مدعيا مرافعة أو شبهة مسوغة للدعوى فليس للولي أن يستقل بنفسه بالقصاص لأنه في هذه الحالة خصم فله حكم سائر الخصوم ولا يقطع الخصومة إلا حكم الحاكم وقد تقدم للمصنف أنه ليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم فكان ينبغي أن يقول هاهنا هكذا أو هذا إنما هو في منعه من الاقتصاص مع المنازعة والخصومة وأما طلب الدية فذلك حق لا يحتاج إلى حاكم إلا أن يدعي القاتل المدافعة فإنها توجب سقوط القصاص والدية فليس للولي أن يجبره على تسليم الدية إلا بعد المرافعة إلى الحاكم وأما العفو فلا شك أن لا الاستقلال بذلك من دون مرافعة لأنه إحسان محض وتفضل خالص إن كان عفوا شاملا للقصاص والدية وأما إذا كان خاصا بالقصاص دون الدية فلا استقلال بذلك إذا كان القاتل غير منازع في وجوبها عليه كما يجوز للولي أن يختار الدية ابتداء وأما مع المنازعة فلا بد من المرافعة كما قدمنا
وأما قوله ولو بعد قطع عضو فلا بد من اعتبار رضا الجاني بذلك وإلا كان الواجب على قاطع العضو أن يسلم نفسه للقصاص فيه أو يسلم ديته ثم يقتص من الجاني ولا وجه لما قيل إنه لا يلزمه في قطع هذا العضو شيء فإن ذلك ظلم بحت لعلة مختلة
وأما قوله وأن يصالح ولو بفوقها فهذا مقيد برضا الجاني فإن رضي بذلك فله أن يفتدي نفسه ولو بأضعاف الدية وأما إذا لم يرض فليس للولي إلا طلب الدية فقط (4/404)
ولم يخيره الشارع إلا بين الدية الشرعية والقصاص والعفو ولا سبيل له إلى طلب زيادة على الدية كما أنه لا سبيل له لو طلب أن يقتل القاتل قتلة لم يبحها الشرع أو يمثل به أو نحو ذلك
قوله وأن يقتص بضرب العنق
أقول وجه هذا أنه كان العمل به في أيام النبوة وعدم المجاوزة له إلى غيره فكان صلى الله عليه و سلم يأمر بضرب عنق من استحق القتل وكان الصحابة إذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم دعني يا رسول الله أضرب عنقه حتى قيل إن القتل بغير ضرب العنق مثلة وقد ورد النهي عنها في عدة أحاديث حتى قال عمران بن حصين ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة أخرجه أحمد والطبراني وأخرجه النسائي بإسناد رجالها ثقات عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة ويؤيد هذا ما عند مسلم وأهل السنن من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وإحسان القتل لا يحصل بغير ضرب العنق بالسيف ومع هذا فقد ورد مرفوعا من حديث جماعة من الصحابة بلفظ لا قود إلا بالسيف وهو وإن كان في طريق من طرقه مقال فقد شهد بعضها لبعض وقوى بعضها بعضا
وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه و سلم رض رأس اليهودي الذي قتل الجارية (4/405)
بين حجرين كما في الصحيحين وغيرهما فغاية ما هناك أن يكون هذا مختصا لمن وقع منه القتل على هذه الصفة فإن اليهودي رض رأس الجارية بين حجرين ففعل به النبي صلى الله عليه و سلم كما فعل بها
وأما الاستدلال بمثل قوله سبحانه وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقوله فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها وما ورد في معنى هذه الآيات فهو الاستدلال بالعام مع وجود الخاص الصالح لتخصيصه ولو سلمنا لكان ذلك دالا على أنه يفعل بالقاتل كما فعل بالمقتول إلا أن يكون في القتل مثله فلا يجوز أن يقتص منه بمثل ما فعل لأن النهي عن المثلة أخص مطلقا من هذه الآيات وأما إذا تعذر الاقتصاص بضرب العنق فكيف أمكن بلا تعذيب كما قال المصنف لأن الضرورة اقتضت بذلك وله استيفاء حقه
قوله ولا إمهال إلا لوصية إلخ
أقول الوجه في لزوم الإمهال في هذه الأمور واضح وأما الوصية فلكون التخلص مما يجب على القاتل من الحقوق واجب وقد تكون منها حقوق للغير فلا يستوفي المقتص حقه بإبطال حق غيره
وأما الإمهال لحضور غائب من جملة المستحقين للقصاص فلكونه قد يعفو أو يختار الدية وأما الإمهال لطلب ساكت فلكونه قد ينطق بما يوجب سقوط القصاص وأما الإمهال لبلوغ صبي فوجهه أنه من جملة المستحقين للقصاص فالانتظار لبلوغه واجب بإيجاب الشرع لعدم صحة اختياره قبل بلوغه وله بعد بلوغه أن يختار ما شاء ومن جملة ما يجوز له اختياره العفو أو الدية ومع كون الانتظار حقا للصغير فهو أيضا حق للقاتل لجواز أن يسقط القصاص عنه عند بلوغه (4/406)
وأما ما روي في قصة ابن ملجم فالمسألة من مطارح الاجتهاد ومسارح النظر ولم يكن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه حتى يكون له حكم الرفع
وأما قوله فلا يكفي أبوه إلخ فصواب
قوله ومتى قتل المعسر غير المستحق إلخ
أقول وجه ذلك أنه بقتله لمن كان دمه مستحقا للغير قد فوت عليه حقه الثابت شرعا فكان له مطالبته بالدية عوضا عن الدم الذي فوته عليه وأما تقييد هذا بقوله إن لم يختر الوارث الاقتصاص فمناقض لما حكم به من أن دمه قد صار مستحقا لورثة من قتله المعسر فكيف يطالب ورثة المعسر بالقصاص بدم قد صار مستحقا لغيرهم فإن قلت إذا بذلوا تسليم الدية التي كانت على مورثهم قلت إذا فعلوا ذلك كان لهم الاقتصاص لأنه لم يجب على مورثهم إلا الدية وقد سلموها فصار دمه مستحقا لهم لا لورثة القتيل الأول
فصل
ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء وشهادته به عليهم وإن أنكروا والجاني ولا تسقط الدية ما لم يصرح بها أو يعف عن دم المقتول ولا في المرض إلا من الثلث ويكون أحدهم فرعا أو نحوه ويقول المجني عليه أخطأت وإن قال له تعمدت أو ما فعلت وإن بين الورثة وبانكشافه مستحقا وبإرثه بعض (4/407)
القصاص لا بالإكراه وتهدد المقتول أولا و ! ومشاركة من يسقط عنه غالبا والإباحة والعفو من أحد القاتلين
قوله فصل ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء
أقول الوجه في هذا واضح لأنه صار بعض دمه بهذا العفو غير مستحق للغير فلا يجوز سفكه بغير حقه وإلا كان ذلك ظلما له وهذا مانع ظاهر واضح لا يحتاج إلى الاستدلال عليه وهكذا الوجه في قوله وبشهادته عليهم لأنه بالشهادة قد اعترف اعترافا مؤكدا أن المشهود عليهم من الشركاء قد عفوا وذلك يوجب سقوط حقه من القصاص لأنه يسقط بالعفو من أحد الشركاء كما تقدم
وأما قوله ولا تسقط الدية فوجهه أن العفو عن القصاص لا يستلزم العفو عن الدية وقد قدمنا الكلام على الأحاديث المتضمنة لكون الولي مخيرا بين القصاص والدية والعفو فعفوه عن القصاص لا يسقط به ما يجب له من الدية
وأما قوله ما لم يصرح بها أو يعفو عن دم المقتول فالوجه في ذلك واضح أما التصريح بها فليس بعد أن يقول عفوت عن القصاص والدية وزيادة في اقتضاء السقوط
وأما قوله أو يعفو عن دم المقتول فلكون القصاص أو الدية عوضا عنه فإذا أسقطه سقط ما هو عوض عنه وهكذا إذا قال عفوت عنه وأطلق فإن ظاهره أنه عفا عن الفعل الصادر منه فليس له بعد ذلك أن يطالب بالدية ولا بالقصاص وقوله ولا في المرض إلا من الثلث فوجهه ما سيأتي في الوصايا إن شاء الله تعالى
قوله ولا يكون أحدهم فرعا ونحوه (4/408)
أقول المراد إذا كان أحد المستحقين للقصاص لا يجب له القصاص عن القائل إما بكونه فرعا له أو بغير ذلك فإنه قد يسقط نصيبه فلم يكن من عداه من الشركاء مستحقا لسفك دمه لأنه لا يستحق إلا بعضه وإلا كان ذلك ظلما للقاتل وأخذا له بما لا يوجبه الشرع ولا يسوغه
قوله ويقول المجني عليه أخطأت
أقول لا شك أن الخطأ في الشرع لا يوجب القصاص لا في النفس ولا في الأطراف وأما عند أهل اللغة فقد قيل إنه يقال أخطأ إذا جاء بما يخالف الصواب وإن كان عمدا ويقال أخطأ إذا لم يتعمد ولكن قد عرفناك غير مرة أن الواجب الحمل على الأعراف الغالبة في مدلولات من هو من أهلها لأن كل متكلم يتكلم بعرفه في كل ما أطلقه من كلامه ولا يجوز أن نفسر كلامه بغير عرفه إلا بقرينة تقتضي ذلك فإذا كان الخطأ في عرفه لا ينافي العمد لم يسقط القصاص بقوله أخطأت وإن كان ينافي العمد سقط لأنه لم يكمل المقتضي للقصاص باعترافه وإن قال الجاني تعمدت فلا اعتبار بذلك لأن المستحق للدم قد عبر عن نفسه بما ينافي ما أقر به الجاني فلم يثبت له عليه قصاص وهكذا قول المجني عليه ما فعلت فإنه اعتراف ببراءة سراحة الجاني من الفعل فلم يثبت القصاص عليه باعتراف من هو له ولا حكم لبينة الوارثة بما يخالف ذلك لأن مورثهم قد اعترف بما يدفع الشهادة وينافيها
قوله وبانكشافه مستحقا
أقول وجهه أن القاتل استوفى حقه من المقتول فلم يتعلق به شيء وهكذا إذا ثبت أنه وارث لبعض القصاص فإنه قد استحق بعض ما يوجب القصاص عليه فلا يجوز أن يستوفي منه القصاص بعد سقوط بعضه وهذا ظاهر
وأما قوله وبالإكراه فوجهه واضح إذا بلغ الحد الذي يصير به الفعل منه كلافعل وأما لو بقي له فعل فلا يجوز كما تقدم في باب الإكراه (4/409)
وأما قوله ولا تهدد المقتول فوجهه أن لا يثبت له حكم المرافعة بمجرد هذا التهدد لأنه هذيان باللسان لا يستلزم وقوع مدلوله في الخارج
وأما قوله ولا لمشاركة من يسقط عنه فالوجه في هذا أنه تقدم ثبوت قتل الجماعة بالواحد فسقوط القصاص عن أحدهم لا يستلزم سقوطه عن المشاركين له في القتل وهذا من الوضوح بمكان يستغنى عن ذكره وقد قدمنا في تقرير قتل الجماعة بالواحد ما فيه كفاية ومثل هذا العفو عن أحد القاتلين فإنه قد صار دم كل واحد منهم مستحقا على انفراده فلا يستلزم اسقاط القصاص عن أحدهم إسقاطه عن المشاركين له
وأما قوله ولا بالإباحة فلكون هذا لا يستباح بالإباحة لكن لا بد من تقييد هذا بكون القاتل قد علم أن هذا لا يستباح بالإباحة أما لو لم يعلم فإنه ينتفي لعدم علمه قيد العدوان وهو معتبر في سقوط القصاص
فصل
ولا شيء في راقي نخلة مات بالرؤية غالبا أو بالزجر إن لم ينزجر بدونه ولا على الممسك والصابر إلا الأدب بل المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا وفي المكره خلاف والعبرة في عبد وكافر رميا فاختلف حالهما بالمسقط لا بالأنتهاء
قوله فصل ولا شيء في راقي نخلة إلخ
أقول وجه هذا أن التعدي من الراقي لكونه ملكا للغير لم يأذن له الشرع بدخوله ولا بالصعود على النابت فيه فإذا فزع برؤية المالك فسقط فهلك فهو الجاني (4/410)
على نفسه لم يحصل من المالك سبب يوجب الضمان لأنه دخل ملكه ونظره فصادف النظر من دخل إليه تعديا وهكذا له أن يزجره عن دخوله إلى ملكه وصعوده إلى شجره لأن للمالك أن يذب عن ملكه بما يدفع به المتعدي ولو فعل من الزجر ما يندفع بدونه وما المانع له من ذلك فهو زجر من يستحق الزجر وصاح على سارق ورفع صوته على من لم يمتثل لما شرعه الله وعلى من تعدى حدوده
قوله ولا على الممسك والصابر إلا الأدب
أقول كل واحد منهما قد فعل عظيما واقترف إثما كبيرا ولكن لما كان ذهاب حياته بفعل القاتل كان هو الجاني على الحقيقة ويرجع في عقوبة الممسك والصابر إلى ما يراه الإمام أو الحاكم من الحبس لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك وصححه ابن القطان
وأما المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا فلا يخفى أنهما قاتلان عمدا عدوانا ولا اعتبار باختلاف الأسباب التي كان بها ذهاب الحياة ومفارقة الروح للجسد وليسا بمسببين بل هما مباشران بالتعرية أو الحبس فإن ذلك لا فرق بينه وبين القتل بالسيف والطعن بالرمح لأن كل واحد منهما قد أفضى إلى الموت كما أفضى إليه الضرب والطعن ومن يعقل الحقائق كما ينبغي لم يخف عليه مثل هذا
قوله وفي المكره خلاف
أقول المسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز الإقدام على سفك دمه لمجرد الإكراه بل على من طلب منه ذلك أن يمتنع ولو خشي على نفسه القتل فضلا عما دونه فليس له أن يطلب حياة نفسه بموت غيره ويجعل نفس المسلم فداء لنفسه فإذا (4/411)
أقدم على قتله مع تمكنه من الكف فقد أقدم إقداما يخالف الشرع فاستحق أن يقتص منه وأما إذا لم يتمكن من الكف بوجه من الوجوه كأن يضع المكره له سيفا في يده ثم يأخذ بيده فيضرب بها عنق رجل فلا شك ولا ريب أن القصاص هاهنا على المكره له لأنه صار كالآبة له وليس على من وقع عليه الإكراه لا قود ولا دية وقد تقدم للمصنف في باب الإكراه أنه يجوز بالإكراه بقتل أو قطع عضو كل محظور إلا الزنا وإيلام الآدمي وسبه وتقدم أيضا أنه يضمن أمر الضعيف قويا وقدمنا في الموضعين ما ينبغي الرجوع إليه حتى يجري الكلام على نمط واحد
قوله والعبرة في عبد وكافر إلخ
أقول المصنف قد اعتبر في المفعول بالمسقط كما هنا وفي الفاعل بحال الفعل كما تقدم ولا مقتضى بالفرق من عقل ولا نقل فينبغي أن يكون الكلام في الموضعين متحدا ويتنزل على الخلاف في اعتبار الابتداء والانتهاء وقد ذكرنا في مواضع أن اعتبار الانتهاء أقرب من الحق وأوفق بقواعد الشرع
والخطأ ما وقع بسبب أو من غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة وإلا فعمد وإن ظن الاستحقاق غالبا وما سببه منه فهدر ومنه تعديه في الموقف فوقع عليه غير متعد فيه خطأ والعكس
قوله فصل والخطأ ما وقع بسبب
أقول لا وجه لهذا الإطلاق فإن الأسباب تختلف فما كان منها مفضيا إلى الموت (4/412)
من غير مشارك فهو مباشرة لا تسبيب ويجب على فاعله القصاص كما قدمنا في المعري والحابس وكما تقدم للمصنف في شهادة الزور في الحدود والقصاص وإن لم يكن السبب مفضيا إلى الموت بنفسه كالممسك والصابر حتى قتله غيرهما وكما سيأتي للمصنف في الفصل الذي بين فيه صور الأسباب فلا يجب على فاعل هذا السبب القصاص
وأما قوله أو من غير مكلف فالوجه فيه ظاهر وهكذا قوله أو غير قاصد للمقتول فإن عدم القصد ينافي وصف العمد ووصف العدوان
قوله أو غير قاصد للمقتول ونحوه بما مثله لا يقتل في العادة
أقول هذا قد جاء به النص فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها وفي الحديث اختلاف ولكنه قد صححه ابن حبان وابن القطان ويؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر بمثله ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في تاريخه والدارقطني
فهذه الأحاديث قد أفادت أن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا كما هو مصرح به في كل واحد منهما مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وظاهرها ولو كان القاتل متعمدا فإن مجرد كون الآلة على هذه الصفة يكفي في كون القتل خطأ وأنه لا يجب فيه إلا الدية المذكورة (4/413)
ومن الخطأ الذي هو شبه العمد ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل السلاح وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد وهذه الصورة تدل على قول المصنف أو غير قاصد للمقتول وعلى قوله أو للقتل لما مثله لا يقتل في العادة فإن ثوران الفتنة بين الناس الغالب فيها أنه لا يقصد القتل ولا شخصا معينا ولهذا قال رسول الله في غير ضغينة ولا حمل سلاح وأما إذا كانت الآلة مثلها يقتل في العادة وإن لم يكن من المحدد فإن القصاص فيها واجب كما تقدم في رض رأس اليهودي الذي رض رأس الجارية وكما أخرجه أحمد أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حمل بن مالك قال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه و سلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور وهو الحق وأدلة الكتاب والسنة المثبتة للقصاص تشمله وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير المحدد مطلقا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما ورد من طريق الكذابين والوضاعين وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه (4/414)
وآله وسلم الخطأ الذي هو شبه العمد بيانا شافيا فلنقتصر عليه ونرد ما عداه إلى ما شرعه الله لعباده من القصاص في العمد العدوان وقد أصاب المصنف باقتصاره في بيان قتل الخطأ على هذه الصور الأربع وحكمه على ما عداها بأنه عمد وهكذا أصاب في قوله وإن ظن الاستحقاق لأن العمل بالظن في سفك الدماء المعصومة لا تبطل حقا وإن كان دون القتل فضلا عن القتل
قوله وما سببه منه فهدر إلخ
أقول قد حكم في هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عمران بن حصين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك وفي الصحيحين وغيرهما من حديث يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما صاحبه فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت فانطلق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأهدر ثنيته وقال أيدع يده في فيك لتقضمها كما يقضم الفحل
فصل
والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة بشروط ستأتي كمتجاذبي حبلهما فانقطع فيضمن كلا عاقلة الآخر ولو كان أحدهما عبدا لزمت عاقلة الحر قيمته ويصير لورثتيه (4/415)
ومثلهما الغارسان والفلكان اصطدما خطأ وكحافر بئر تعديا فتضمن عاقلته الوقوع فيها لا على من تضمن جنايته أو ما وضعه من ماء أو غيره فيشتركان فإن تعدد الواقعون متجاذبين أولا متصادمين أولا عمل بمتضي ! الحال من خطأ وعمد وتحصيص وإهدار وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين فإن علم قتل إن جهل المتسلم وانتول من يده ولو طلبه وكمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا وفيما خرج حيا الدية وميتا القرة
قوله فصل والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة إلخ
أقول أراد المصنف أن يذكر هاهنا بعض صور الخطأ ويذكر كيفية الضمان فيها وسيأتي له استيفاء صور الخطأ في قوله فصل والمسبب المضمون
وأما وجه لزوم دية الخطأ على العاقل فسيأتي بيانه في الفصل الذي عقده المصنف لذلك
وقوله كمتجاذبي حبلهما إلخ وجهه أن الحبل حيث كان لهما لا يتصف أحدهما بالتعدي لأنه جذب ما يملك بعضه ولو كان الحبل لأحدهما لكان الآخر متعديا
وأما قوله ولو كان أحدهما عبدا إلخ فالظاهر أنه يلزم سيده أن يغرم لورثة الحر قدر قيمته وكغرم عاقلة الحر للسيد قدر قيمة العبد فإذا اتفقا تساقطا وهكذا الكلام في اصطدام الغارسين والفلكين خطأ
قوله وكحافر بئر تعديا إلخ (4/416)
أقول مجرد الحفر تعديا يصلح سببا للضمان إذا كان وقوع الواقع فيها لا عن تعمد منه كأن يمشي ليلا فيقع فيها أو يكون بصره ضعيفا فهذا من الأسباب التي تضمنها العاقلة
وأما قوله لا بالوقوع على من تضمن جنايته فإن كان الواقف في الحفيرة غير متعد فلا وجه لمشاركته في الضمان أصلا لأنه ورد عليه ما لم يتسبب لوقوعه ولا يطيق دفعه والعجب من الجزم بمثل هذه الأحكام بلا عقل ولا نقل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال البئر جبار وإنما أثبتنا الضمان على الحافر تعديا لتعديه فقط ولو لم يكن متعديا لم يلزمه ضمان ألبتة لهذا الحديث وبهذا تعرف أن قوله فإن تعدد الواقعون إلخ مبني على التعدي من الحافر وإلا فلا يلزمه شيء من الضمان والأولى العمل في المتجاذبين بما أخرجه أحمد والبزار والبيهقي من حديث حنش بن المعتمر عن علي أن ناسا باليمن حفروا زبية للأسد فوقع الأسد فيها فازدحم الناس فتردى فيها واحد فتعلق بواحد فجذبه وجذب الثاني ثالثا والثالث رابعا فرفع ذلك إلى علي فقال للأول ربع الدية وللثاني الثلث وللثالث النصف وللربع الجميع فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمضى قضاءه قال ابن حجر في التلخيص قال البزار لا نعلمه يروى إلا عن علي ولا نعلم له إلا هذا الطريق وحنش ضعيف انتهى قلت ليس فيه من الجرح ما يوجب عدم الاعتبار بحديثه فإن غاية ما قيل فيه ما قاله البخاري إنهم يتكلمون فيه وما قاله النسائي إنهم يتكلمون فيه وهذا لا يوجب جرحا يوجب ترك العمل (4/417)
بالحديث وتأثير الرأي عليه مع أن أبا داود وثقه وبين ابن حجر في التقريب وجه الجرح فقال صدوق له أوهام ويرسل انتهى وهذا القدح ليس بشيء فالوهم في أحاديثه قد بينه الحفاظ وكذلك الإرسال فلم يبق في بقية أحاديثه علة قادحة وأخرج الدارقطني والبيهقي عن علي بن رباح أن أعمى كان يقود بصيرا فوقع في بئر فوقع الأعمى على البصير فمات البصير فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى وفيه انقطاع
قوله وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين
أقول هذا لا شك في أنه من قتل الخطأ للجهل الحاصل لهما ولا شك أنه من القتل بالمباشرة كقتل السيف والرمح إذا علم الطبيب وجهل المسلم فيجب فيه القصاص إن اختاره الورثة
وأما قوله كمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا فلا وجه له لأن العرك مباشرة وكذلك الذي سقاها الشراب إذا كان موت الجنين بالشراب ويجب فيه بعد أن صار ذا روح الغرة إن خرج ميتا وإن خرج حيا وحصل اليقين بأن الموت بسبب العرك أو الشراب كان فيه الدية وقد وقع في حديث إيجاب الغرة في الجنين ما يدل على أنه خرج ميتا كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة (4/418)
وقد اختلفت الأحاديث في تعيين الغرة ما هي ولكن هذا الحديث أرجح من الأحاديث المخالفة له ولا سيما بعد موافقة حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الثابت في الصحيحين وغيرهما له فإنه روى المغيرة بن شعبة عن عمر أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة قضى النبي صلى الله عليه و سلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد ابن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه و سلم قضى به
فصل
والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله لخشية تلفهما لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه
قوله فصل والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيه فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله
أقول لا شك أن إنقاذ الغريق من أهم الواجبات على كل قادر على إنقاذه فإذا أخذ في إنقاذه فتعلق به حتى خشي على نفسه أن يغرق مثله فليس عليه في هذه الحالة وجوب لا شرعا ولا عقلا فيخلص نفسه منه ويدعه سواء كان قد أشرف على النجاة أم لا بل ظاهر قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أنه يجب عليه تخليص نفسه والآية هذه وإن كانت واردة على سبب خاص كما في سنن أبي داود وغيرهما (4/419)
فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول وهو الحق فالعجب من حكم المصنف على من أرسله لخشية التلف بالضمان فإن هذا لا يطابق شيئا من الشرع وإنما هو رجوع إلى مجرد رأي قد تقرر في الأذهان التي تقبل هذا وأمثاله من دون أن تزنه بميزان الشرع
وأما قوله لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه فهكذا ينبغي أن يقال وملاك الأمر في ضمان المسببات عن الأسباب هو التعدي
فصل
والمسبب المضمون جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير من حجر وماء وبئر ونار أينما بلغت وحيوان كعقرب لم ينتقل أو عقور مطلقا ومنه ظاهر الميزاب والقرار على آمر المحجور مطلقا وغيره إن جهل وإلا فعليه وجناية المائل إلى غير الملك وهي على عاقلة المالك العالم متمكن الإصلاح حسب حصته وشبكة نصبت في غير الملك ولم يزل التغرير ووضع صبي مع من لا يحفظ مثله أو في موضع خطير أو أمره بغير المعتاد أو إفزاعه وأما تأديب أو ضم غير معتاد فمباشرة مضمون قيل والمعتاد خطأ وجناية دابة طردت في حق عام أو ملك (4/420)
الغير أو فرط في حفظها حيث يجب فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا والكفارة فإن اتفقوا كفر الراكب فأما بولها وروثها وشمسها فهدر غالبا وكذلك نفحتها وكبحها ونسخها المعتادة وإلا فمضمونة هي وما تولد منها حيث يجب التحفظ
قوله فصل والمسبب المضمون إلخ
أقول ذكر في هذا الفصل صورا من جنايات الخطأ بالتسبب ليتقرر معناه في ذهن الطالب ويرتسم الفرق بين الخطأ مباشرة والخطأ تسبيبا لما في ذلك من الالتباس في بعض الصور فقال جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير
أما ملك الغير فوجه التعدي فيه واضح وأما في الحق العام فلكونه لا يجوز له ذلك إلا بإذن من له ذلك إن كانوا منحصرين أو بإذن الإمام إن كانوا غير منحصرين
وأما قوله من حجر إلخ فالظاهر لزوم الضمان فيما كان من الجنايات ناسيا من أثر فعله من غير فرق بين الانتقال وعدمه إلا إذا رجع مثلا العقرب والعقور إلى المحل الذي أخذه منه وجنى بعد ذلك فإن الجناية حينئذ ليست من أثر فعل الناقل
وهكذا قوله ومنه ظاهر الميزاب فإنه من جناية الخطأ تسبيبا لأنه إذا سقط على مارة الطريق فهو لعدم إحكامه ولا وجه للتقييد بالظاهر بل يضمن جنايتهما جميعا إذا سقط وأما إذا وقعت الجناية وهو ثابت في محله ولم يحصل التعدي بوضعه فلا ضمان من غير فرق بين الظاهر وبين ما هو ملصق بالبناء
قوله وعلى آمر المحجور إلخ (4/421)
أقول قد تقرر أن جناية الصبي والمجنون مضمونة من مالهما لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف وقد تقدم له أنه يضمن آمر الضعيف قويا من غير فرق بين المحجور وغيره ويكون قرار الضمان مع الجهل من المحجور ومن غيره على الآمر لأنه حصل منه التغرير والمغرور يغرم الغار
وأما قوله وجناية المائل إلى غير الملك إلخ فوجهه أن ترك إصلاحه مع كونه يخشى سقوطه إلى غير ملكه هو من التعدي في الأسباب وقد تقدم أنه هو الموجب للضمان ولا يتم التعدي إلا إذا كان قادرا على الإصلاح فإن كان لا يقدر عليه وأمكنه الهدم أو البيع إلى غيره ولم يفعل فهو أيضا ضامن وإن لم يتمكن بوجه من الوجوه فلا ضمان عليه
وأما قوله وهي على عاقلة المالك العالم فلا وجه لذكره هنا لأنه سيأتي الكلام له في ضمان العاقلة لما يشمل هذا أو غيره
ومن الأسباب أيضا قوله وشبكة نصبت في غير الملك إلخ وهذا وإن كان قد أفاده ما تقدم في أول هذا الفصل من قوله من حجر إلخ لكن مقصود المصنف مزيد الإيضاح بتعداد الصور كما قدمنا
وهكذا قوله ووضع صبي إلخ لظهور التعدي الذي هو المناط في ضمان فاعل السبب
وأما الإفزاع فإن كان بصوت أو نحوه من المباشرة لا من التسبيب كالتأديب والضم الذي لم تجر به عادة
ومن الأسباب جناية دابة طردت في حق عام أو في ملك الغير لأنه بهذا الطرد إلى مكان لا يجوز له التصرف فيه مستقلا بنفسه قد صار متعديا فلزمه الضمان وقد سوى المصنف بين الطرد والتفريط في الحفظ وهو صواب لكن ينبغي تقييد ذلك (4/422)
بأن يكون طردها أو التفريط في حفظها كائنا في الليل لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطأ والشافعي والدارقطني وابن حبان وصححه والحاكم والبيهقي من حديث حرام بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى نبي الله صلى الله عليه و سلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد ذكر ابن حجر الاختلاف الواقع في هذا الحديث وهو لا يقدح في الاحتجاج به لأن غايته أنه روي من طرق وذلك مما يزيده قوة فلا ضمان على أهل المواشي فيما أفسدت نهارا ويؤيد هذا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه و سلم قال العجماء جرحها جبار ويلحق بالجرح سائر ما أفسدت لعدم الفارق ويخص من ذلك ما تقدم في الحديث أن ما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها فبقي ما أفسدت في النهار داخلا تحت العموم ويخص أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن ولكنه ضعفه البيهقي فينظر في وجه التضعيف (4/423)
وهذا الحديث هو الوجه لقول المصنف فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا وأما التعرض لذكر الكفارة هنا فلا وجه له فإنه سيأتي له الكلام في ذلك مفصلا
وأما قوله فإن اتفقوا كفر الراكب فكلام لا يصح وفرق غير متضح فإنه إذا كان الركوب مؤثرا للزوم الكفارة عليه وحده كان مؤثرا للزوم أرش الجناية له لعدم الفرق ودعوى اتصافه بالمباشرة دون السائق والقائد غير معقولة بل تأثير السوق والقود في حركة الدابة أكثر من تأثير الركوب
وأما قوله فأما بولها إلخ فوجهه عدم التعدي من مالكها فلم يحصل الضمان مع كون هذه الأمور داخلة تحت عموم حديث العجماء جبار فإن المراد بالجبار الهدر كما فسره بذلك أهل اللغة
وأما نفجها وكبحها أو نخسها فإن لم يفعل إلا ما يعتاده الناس في ذلك فلا ضمان عليه لأنه فعل في ملكه ما أباحه له الشرع وإن فعل غير المعتاد كان بذلك متعديا فيلزم الضمان ولا سيما إذا كان في سبيل من سبل المسلمين وفي سوق من أسواقهم كما تقدم في الحديث
فصل
والكفارة على بالغ عاقل مسلم قتل أو نائما مسلما أو معاهدا غير جنين خطأ مباشرة أو في حكمها أن يكفر برقبة مكلفة مؤمنة سليمة ولو قبل الموت بعد الجرح فإن لم يجد أو كان عبدا فيصوم شهرين ولاء وتعدد على جماعة لا الدية
قوله فصل والكفارة على بالغ عاقل إلخ
أقول اعلم أن إيجاب الكفارة في هذا الباب وفي غيره تكفير ذنب من وجبت عليه بما فعله من الفعل المقتضي للإثم فإن كان وجوبها في القتل لهذا المعنى فكيف لزمت (4/424)
من هو قاتل خطأ لا عمد فيه ولا عدوان فإن ذلك مغفور من الأصل كما في قوله سبحانه ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حكى عن الله سبحانه أنه قال قد فعلت ومن ذلك حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقد قدمنا لك أن طرقه قد عضد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فصلح للاحتجاج به وإن كان وجوبها تعبدا لحكمة خفيت على العباد فسمعا وطاعة لما أوجبه الله على عباده وهو ظاهر قوله عز و جل وما كان لمؤمنا أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولكنه ينبغي الاقتصار على مورد النص وهو أن يكون القاتل خطأ مؤمنا والمقتول مؤمنا فإذا انتفى وصف الإيمان من أحدهما فلا كفارة وكذلك قوله عز و جل فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة وقوله سبحانه فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن الآية لتكون الكفارة واجبة حيث كان المقتول من قوم بيننا وبينهم ميثاق أو من قوم هم عدو لنا وكان المقتول مؤمنا وسقط القصاص بوجه من الوجوه ولم يجب إلا الدية
وإذا تقرر لك هذا فما هو الواجب للكفارة على كل قاتل خطأ فإن قيل إنه حديث وائلة بن الأسقع عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم قال أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في صاحب لنا قد أوجب فقال أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار فيقال هذا الحديث يدل على أن من استوجب العذاب بفعل معصية كائنة ما كانت من قتل أو غيره كان التكفير مشروعا له ومعلوم (4/425)
أن قاتل لخطأ لا إثم عليه ألبتة كما قدمنا فهو لم يستوجب العذاب فهو مؤكد للسؤال الذي ذكرناه ومؤيد له
وأما ما روي في هذا الحديث بزيادة قد استوجب النار بالقتل فهو لم يثبت عند أحد من هؤلاء الذين خرجوه من أهل الحديث وعلى فرض ثبوته فهو خاص لمن استوجب النار بالقتل وهو القاتل عمدا عدوانا إذا سقط عنه القصاص بعفو أو نحوه ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم في المعرفة من حديث خزيمة بن ثابت أنه صلى الله عليه و سلم قال القتل كفارة قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة لكنه من حديث ابن وهب عنه فكان حسنا قال ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه والأصل فيه حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة الحديث وهو في البخاري بلفظ كفارته انتهى فعرفت بهذا أن القاتل إذا قتل قصاصا لم يجب عليه كفارة وفيه دليل على أنه إذا لم يقتل قصاصا فعليه الكفارة
فحاصل ما دلت عليه الأدلة أن الكفارة تجب في قتل المؤمن للمؤمنين خطأ لا إذا كانا مسلمين غير مؤمنين أو أحدهما ويجب في الفعل من قوم بيننا وبينهم ميثاق ومن قوم هم عدو لنا والمقتول مؤمن وسقط القصاص عن القاتل بوجه من الوجوه ويجب على قاتل العمد إذا سقط عنه القصاص بوجه ولا دليل على إيجابها على كل قاتل خطأ (4/426)
لما عرفناك من أنه لا ذنب عليه سواء قتل بالتسبب أو المباشرة وإذا تبين لك هذا عرفت الكلام على ما ذكره المصنف من الشروط في هذا الفصل
وأما كون الرقبة مؤمنة فلتصريح الكتاب العزيز بذلك وأما اشتراط سلامتها من العيوب فليس في أدلة الكتاب والسنة ما يفيد ذلك وقد دلت الآية على أن من لم يجد رقبة صام وأما تعددها على الجماعة فهو الظاهر لكن في الصور الثلاث التي ذكرناها لا مطلقا والوجه في ذلك ما قدمنا في قتل الجماعة بالواحد فارجع إليه
فصل
وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته ما لم تعد دية الحر وأرشه وجنينه بحسبها وأما المقبوض فما بلغت وجناية المغصوب على الغاصب إلى قيمته ثم في رقبته وله أن يقتص منه ويضمنها وكذا لو جنى على المالك أو غيره ومثله مستأجر ومستعير فرطا
قوله فصل وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته
أقول القاتل للعبد قد أتلف مالا من مال مالك العبد وقد وقع الاتفاق على أنه يجب على من أتلف مالا لغيره أن يضمن قيمته قليلة كانت أو كثيرة فما بال متلف هذا المال أنه لا يضمن من قيمته إلا قدر دية الحر وما الوجه في هذا فإنه لا يطابق رواية ولا دراية ولا يوافق عقلا ولا نقلا ومع هذا فالمروي عن الصحابة يقتضي بأنه يضمن (4/427)
قيمته بالغة ما بلغت كما أخرجه البيهقي عن عمر وعلي أنهما قالا في الحر يقتل العبد ثمنه بالغا ما بلغ
وأما قوله وأرشه وجنينه بحسبها فالوجه فيه ظاهر فيكون أرشه مقدار أرش الجناية منسوبة من قيمته وهكذا يجب في جنينه ما يقدره العدول من القيمة لا كما قيل إنه يجب فيه نصف عشر قيمة أبيه فإنه لا دليل على ذلك وقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح إلى الزهري عن عمر أنه قال جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته قال الزهري وكان رجال سواه يقولون يقوم سلعة وإذا عرفت أن الواجب في العبد قيمته بالغة ما بلغت فلا فرق بين المغصوب وغيره
وأما كون جناية العبد المغصوب على غاصبه فوجهه أنه إذا أثبت يده عليه عدوانا وحال بينه وبين مالكه وربما كان عند مالكه لا يقدم على الغير ولا يجني فكان تسبب الغاصب لمثل هذا مقتضيا لضمانه لما جناه كما يضمن نقص العين المغصوبة إذا نقصت عنده ومعلوم أنه لو تعلقت جناية العبد برقبته وهو عند الغاصب لكان ذلك أعظم نقص يلحقها
وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا يجوز للغاصب أن يقتص من العبد المغصوب إذا جنى عليه لأنه يضمن الجناية الواقعة منه على الغير فتكون الجناية الواقعة من العبد على الغاصب هدرا وأما الجناية الواقعة من العبد المغصوب على الغير إذا كانت توجب القصاص واختار المجني عليه القصاص فله ذلك وعلى الغاصب ضمان ما نقص من العبد إذا كان القصاص فيما عدا النفس أو ضمان قيمته بالغة ما بلغت إن كان القصاص على النفس وأما المستأجر والمستعير إذا فرطا في حفظ العبد الذي استأجراه أو استعاراه فالوجه في ذلك أن الجناية منه إذا كانت بسبب تفريطهما في حفظه كان هذا السبب بمجرده مقتضيا للضمان عليهما (4/428)
فصل
وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة وفي جنينها نصف عشر قيمته وتضمن بنقلها تعديا وبازالة مانعها من الذهاب أو السبع ومانع الطير والعبد إن تلفت فورا والسفينة ووكإ السمن ولو متراخيا أو جامدا ذاب بالشمس ونحوها ولا يقتل من الحيوان إلا الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة والعقور بعد تمرد المالك وما ضر من غير ذلك
قوله فصل وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة
أقول هذا غاية ما يمكن ولا طريق غيره وأما كون في جنينها نصف عشر قيمتها فلا وجه له لا من عقل ولا من نقل بل إن خرج حيا فمات قدر العدول قيمته وإن خرج ميتا قدروه على فرض أنه خرج حيا
وأما قوله ويضمن بنقلها تعديا فوجه ذلك أنه صار بهذا النقل غاصبا فتثبت له أحكام الغصب المتقدمة ولا فرق بين النقل وإزالة المانع وبين الحيوان وغيره كالسفينة والأدهان ونحوها
قوله ولا يقتل من الحيوان إلا الحية إلخ
أقول الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قد دلت على مشروعية قتل هذه الخمس الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة وأقل أحوال الأمر بقتلها أن يكون مندوبا فكان على المصنف أن يقول ويندب أو يشرع قتل الحية إلخ وأما العقور فقتله من باب دفع الصائل وهو جائز (4/429)
ولو كان آدميا فضلا عن غيره وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بلفظ والكلب العقور ويلحق بالعقور كل ما يصول على بني آدم أو على ما يملكونه من الحيوانات والأموال كالأسد والذئب والنمر فإن قتلها كلها من باب دفع الصائل وقد شمل ذلك المصنف رحمه الله وما ضر من غير ذلك ومنه الوزغ والعناكب فإنه ورد الأمر بقتلهما على الخصوص
والحاصل أن كل ما كان ضارا للأبدان أو الأموال أو المساكن فقتله جائز كائنا ما كان ولا يخرج من ذلك إلا ما نهى الشارع عن قتله نهيا خاصا لكنه إذا تعاظم ضرره كان قتله من باب دفع الصائل
فصل
ويخير مالك عبد جنى ما لا قصاص فيه بين تسليمه للرق أوكل الأرش وفي الصقاص يسلمه ويخير المقتص فإن تفردوا سلمه أو بعضه بحصة من لم يعف إلا أم الولد ومدبر الموسر فلا يسترقان فيتعين الأرش لسقوط القصاص وهو على سيدهما إلى قيمتهما ثم في رقبته وذمتها فإن أعسر بيع وسعت في القيمة فقط ولا تتعدد بتعدد الجنايات ما لم يتخلل التسليم ويبرآن بإبراء العبد لا السيد وحده ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا ويتأرش من كسبه ويقدم ما طلب فإن اتفقت فالجناية فإن أعسر بيع لها والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه (4/430)
قوله فصل ويخير مالك عبد جنى مالا قصاص فيه إلخ
أقول قد تقرر أن الجناية من الحيوانات التي يملكها مالكها إذا كانت مضمونة على المالك كان ضمانها عليه بالغا ما بلغ والعبد من جملة ما يملكه فالمناسب لضمان جناية الملك أن تكون جناية العبد كجناية سائر الحيوانات المملوكة إلا أن يرد دليل يوجب المخالفة لهذا كان العمل عليه ولم يرد ما يخالف ذلك من المرفوع وما روي عن الصحابة مختلف ولا حجة في ذلك ويؤيد ضمان السيد لجناية عبده بالغة ما بلغت أنه يأخذ أرش جنايته من الجاني عليه بالغا ما بلغ فيكون عليه مثل ماله ولكن لما كان العبد عاقلا مكلفا كان القصاص واجبا عليه في الجناية التي يثبت فيها القصاص في النفس وما دونها إذا اختار المجني عليه أو وارثه ذلك فهكذا ينبغي أن يقال رجوعا إلى القواعد الشرعية المأخوذة من كليات الأدلة ولا مخصص لها حتى يصار إليه ويجب العمل به
قوله إلا أم الولد ومدبر الموسر إلخ
أقول الوجه في هذا أنه قد وجد تسبب عتقهما فلا يسلك بهما مسلك المماليك ولا وجه لإيجاب الأرش على سيدهما بل إذا انتهى الحال إلى العتق طولبا بأرش الجناية كما يطالب الأحرار وقد قدمنا أن الراجح اعتبار الانتهاء في العبد الكافر فليكن الكلام هنا هكذا لا سيما وقد حصل السبب الذي يخرجان به من الرق إلى الحرية فإن تضرر من له الأرش بطول المهلة كان له أن يستسعيهما بقدر أرش الجناية وليس له أن يطالب سيدهما بشيء وهذا يغنيك عما ذكره المصنف هاهنا
وأما قوله ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا فصواب أما الحر فظاهر وأما المكاتب المماثل له أو الذي قد سلم من كتابته زيادة على ما سلمه الجاني فلعدم المزية للجاني على المجني عليه
وأما كونه يتأرش من كسبه فهو الصواب وكان عليه أن يجري في المكاتب وأم (4/431)
الولد والمدبر على نمط واحد لأن كل واحد منهم قد تعلق بسبب يقتضي خروجه من الرق بعد أن يحصل ما يقتضي التنجيز في الجميع وهو موت السيد في المدبر وتنجيز عتق أم الولد من سيدها أو موته ووفاء المكاتب لما كوتب عليه مع أنه قن ما بقي عليه درهم كما تقدم فلا وجه للفرق بين هؤلاء الثلاثة بلا رواية ولا دراية وما ذكره من أنها إذا اتفقت قدم أرش الجناية فلا وجه لهذا التأثير إلا ما يظن أنه بالجناية تسبب للضمان ولكنه قد تسبب بالمكاتبة عن نفسه لضمان مال الكتابة وقد تقدم أنه يرده في الرق اختياره وعجزه عن الوفاء بمال الكتابة
وأما قوله فإن أعسر بيع لها فينبغي أن يقال إنه يقدم استسعاؤه لئلا يفوت حق مالكه الذي كاتبه ومهما أمكن الوفاء بالحقين فهو الواجب
وأما قوله والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه فهو صواب وقد اضطرب كلام المصنف في هذا الفصل فاشدد يديك على ما ذكرناه
فصل
والعبد بالعبد وأطرافهما ولو تفاضلا أو لمالك واحد لا والد بولده ويهدر مالا قصاص فيه على مالكه وغاصبه
قوله فصل والعبد بالعبد إلخ
أقول هكذا حكم الله سبحانه في كتابه العزيز وللأطراف التي يجب فيها القصاص (4/432)
حكم النفس إما بشمول الآية لها أو بالقياس على النفس وهكذا قوله لا والد بولده وأما كونه يهدر مالا قصاص فيه على مالكه فلكون العبد من جملة ماله وكون أرش جنايته على سيده كما قدمنا فلا يثبت للسيد على نفسه دين وأما قوله وغاصبه فهذا هو الصواب لما قدمنا على قول المصنف وجناية المغصوب على الغاصب
فصل
وعلى مطلق البهيمة ما جنت فورا مطلقا وعلى متولي الحفظ جناية غير الكلب ليلا والعقور مفرطا مطلقا ولو في ملكه على الداخل بإذنه وإنما يثبت عقورا بعد عقره أو حمله
قوله فصل وعلى مطلق البهيمة إلخ
أقول السنة الصحيحة كما قدمنا قد اقتضت أنه لا يضمن ما جنته على ملك الغير نهارا من غير فرق بين المالك والمتولي للحفظ وتخصيص الكلب بعدم ضمان جنايته ليلا يحتاج إلى دليل يقتضي ذلك وأما العقور من الحيوانات فالواجب على المالك حفظه عن أن يجني على الغير في كل وقت أو قتله فإذا لم يفعل ذلك فقد عرض نفسه للضمان لأنه فرط في الحفظ أو في دفع ذلك الصائل بالقتل ولكنه إذا حفظه في ملكه ثم دخل إليه داخل بغير إذنه فقد تعدى بالدخول بغير إذن فهدرت جناية العقور عليه وأما كونه يثبت عقورا بعد عقره أو حمله فوجه هذا أنه قد فعل ما يوجب الحفظ له عن الإقدام على الأبدان والأموال فتركه بعد وقوع ذلك منه تفريط ولا وجه لاعتبار المرتين بل المرة الواحدة منذرة بأخواتها موحية لقوة الظن بعوده إلى مثلها والمقام مقام يجب فيه قطع كل ذريعة معلومة أو مظنونة يتوصل بها إليه لأنه معصوم بعصمة الشرع فإما حفظه مالكه حفظ مثله بعد المرة أو قتله حتى يريح نفسه من تبعته ويريح غيره من أذاه (4/433)
باب الديات
فصل
هي مائة من الإبل بين جذع وحقة وبنت لبون وبنت مخاض أرباعا وتنوع فيما دونها ولو كسرا ومن البقر مائتان ومن الشاء ألفان ومن الذهب ألف مثقال ومن الفضة عشرة آلاف ويخير الجاني فيما بينها
قوله فصل هي مائة من الإبل إلخ
أقول قد اختلفت المذاهب في تنويع المائة من الإبل ومنهم من تمسك بشيء من المرفوع ومنهم من تمسك بما روي عن بعض الصحابة ولا يخفاك أن الحجة إنما تقوم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم يوجد في كتاب الله عز و جل والمروي في هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم مختلف فروي مائة من الإبل من غير تنويع كما أخرجه أبو داود عن عطاء بن أبي رباح عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وقد رواه أبو داود مسندا عن عطاء عن جابر ورواه عن عطاء مرسلا بدون ذكر جابر فهذا الحديث يدل على أن الدية هي مائة من الإبل من غير تنويع من كل نوع مقدار معين (4/434)
وورد ما يدل على التنويع فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون
وأخرج أحمد وأهل السنن البزار والبيهقي والدارقطني عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وفي لفظ البزار والدارقطني والبيهقي مكان قوله عشرون ابن مخاض وعشرون بنو لبون وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وقال أبو حاتم الرازي الحجاج يدلس عن الضعفاء فإذا قال حدثنا فلان فلا يرتاب به انتهى وهو هنا قد صرح بالتحديث كما في سنن ابن ماجه فإنه قال حدثنا زيد بن جبير
فهذان الحديثان قد وقع التصريح فيهما بأن هذا التنويع في دية الخطأ فيقيد بهما ما ورد من إطلاق المائة من الإبل ويكون التنويع على التخيير إما على الحديث الأول أو على الحديث الثاني فالكل سنة ولا ينافي ما في هذين الحديثين ما ورد من تغليظ دية الخطأ شبه العمد كما تقدم في حديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب يوم فتح مكة فقال ألا (4/435)
وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة والخلفة الحامل وورد بلفظ أربعون في بطونها أولادها فهذا جمع بين الأحاديث ودفع للعمل ببعضها وإهمال بعض بدون موجب ولا مرجع
وأما المصنف فقد جعلها أربعة أنواع كما ترى فخالف ما ورد في الحديثين جميعا وعمل بما أخرجه أبو داود عن عاصم بن ضمرة قال قال علي في الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض مع أنه قد روي عنه ما يخالف
وأما دية القتل عمدا إذا لم يختر الوارث القصاص فقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ من قتل عمدا سلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها فيجب المصير في تنويع دية العمد إلى هذا الحديث كما وجب المصير في تنويع الخطأ إلى الحديثين السابقين وكما وجب المصير في تعيين دية الخطأ شبه العمد إلى الحديث المتقدم (4/436)
قوله ومن البقر مائتان ومن الشاء ألفان
أقول يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال فرض النبي صلى الله عليه و سلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وفيه علتان إحداهما أن في إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو ضعيف إذا عنعن الثانية أن أبا داود رواه تارة عن عطاء عن جابر مسندا وتارة عن عطاء مرسلا ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي ولكنه قد وثقه جماعة كما قدمنا
قوله ومن الذهب ألف مثقال
أقول يدل على هذا ما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي وصححه جماعة من الأئمة منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه مرفوعا وفيه أن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث قوله ومن الفضة عشرة آلاف درهم
اقول المروي عنه صلى الله عليه و سلم أنها اثنا عشر ألف درهم كما أخرجه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى (4/437)
الله عليه وآله وسلم ديته اثني عشر ألفا قال أبو داود رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يذكر ابن عباس وأخرجه الترمذي مرفوعا مرسلا وأخرجه النسائي وابن ماجه مرفوعا قال الترمذي ولا نعلم أحدا يذكر في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمد بن مسلم انتهى ومحمد بن مسلم هذا هو الطائفي وقد أخرج البخاري له في المتابعات ومسلم في الاستشهاد ووثقه يحيى بن معين وقد أخرجه النسائي عن محمد بن ميمون عن ابن عيينة وقال فيه سمعناه مرة يقول عن ابن عباس وأخرجه الدارقطني في سننه عن أبي محمد بن صاعد عن محمد بن ميمون وقال فيه عن ابن عباس
وقد تقرر أن الرفع زيادة ولم تكن له هاهنا علة قادحة فصلح للاحتجاج به على أن مقدار الدية من الدراهم اثنا عشر ألف درهم ولا ينافي هذا هذا ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه في بعض ألفاظهم أنها كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم وأن عمر قال قد غلت الإبل ففرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألفا لأن من علم حجة على من لم يعلم وقد قدمنا أن الذي فرضها من الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنى عشر ألف درهم هو رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله ويخير الجاني فيما بينها
أقول هذا هو الحق لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرض كل نوع من أنواعها ولم يبين لنا أن هذا أصل وهذا يدل عنه وإنما كثر ذكر الإبل لأنها غالب أموال العرب (4/438)
فما شاء الجاني من الأنواع المنصوص عليها سلمه وعلى المجني عليه أو وارثه قبول ذلك لأن الشارع أوجب له نوعا من أنواع ولم يوجب له شيئا معينا
فصل
وتلزم في نفس المسلم والذمي والمجوسي والمعاهد وفي كل حاسة كاملة والعقل والقول وسلس البول والغائط وانقطاع الولد وفي الأنف واللسان والذكر من الأصل وفي كل زوج في البدن بطل نفعه بالكلية كالأنثيين والبيضتين ونحوهما غالبا وفي أحدهما النصف وفي كل جفن ربع وفي كل سن نصف عشر وهي اثنتان وثلاثون وفي كل أصبع عشر وفي مفصلها منه ثلته ! إلا الإبهام فنصفه وفيما دون حصته وفي الجائفة والآمة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة ناقة وفي الهاشمة عشر وفي الموضحة خمس وفي السمحاق ربع ولا يحكم حتى يتبين الحال فيلزم في الميت ديته وفي الحي حسب ما ذهب وإن تعدد كالمتواثبين
قوله فصل وتلزم في نفس المسلم
أقول ليس في هذا خلاف بين أهل العلم وقد دلت عليه الأدلة الكثيرة المتقدم ذكر بعضها وأما المرأة فقد وقع الإجماع إلا عمن لا يعتد به أنها نصف دية الرجل وإنما اختلفوا في أرش الجناية عليها فذهب الجمهور إلى أن ارش الجناية عليها مثل أرش الجناية على الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل ثم تستحق بعد ذلك النصف من أرش الرجل لما أخرجه النسائي والدارقطني وابن خزيمة وصححه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته ويؤيده ما أخرجه في الموطأ والبيهقي عن سعيد بن المسيب أنه سئل كم في أصبع المرأة قال عشر من الإبل فقيل له فكم في أصبعين (4/439)
قال عشرون من الإبل فقيل له فكم في ثلاث أصابع قال ثلاثون من الإبل فقيل له فكم في أربع أصابع قال عشرون من الإبل فقال له السائل حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها فقال له سعيد أعراقي أنت قال بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال هي السنة يا ابن أخي وقد حققنا الكلام عن هذا في شرحنا للمنتقي وليس المراد هنا إلا الاستدلال على أن ديتها على النصف من دية الرجل
قوله والذمي
أقول قد اختلفت مذاهب العلماء في قدر دية الذمي والحق أنها على النصف من دية المسلم من غير فرق بين ذمي وذمي لما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن ماجه وصححه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عقل الكافر نصف دية المسلم وفي لفظ من هذا الحديث عن أبي داود كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم ولم يثبت ما يخالف هذا الحديث لأن المروي عن بعض الصحابة لا تقوم به الحجة والمرفوع لم يصح وما ورد مطلقا كقوله سبحانه وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فهو مطلق مقيد بالسنة وقد أوضحنا الكلام في هذا في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه (4/440)
وأما قوله والمجوسي والمعاهد فلعله إشارة إلى الخلاف في ذلك وإلا فقد دخلا تحت الذمي لأن المجوسي ذمي والمعاهد ذمي واليهودي والنصراني ذميان وقد شمل الجميع قوله صلى الله عليه و سلم عقل الكافر نصف دية المسلم فإنه يدخل تحت هذا كل كافر إلا من كان مباح الدم وهو الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد
قوله وفي كل حاسة كاملة
أقول الحواس الخمس الظاهرة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس لم يرد ما تقوم به الحجة في أن في كل واحدة منها الدية ولكنه قال ابن حجر في التلخيص إنه وجد من حديث معاذ في السمع الدية قال وهو موجود في حديث عمرو بن حزم الذي اشار إليه وقد رواه البيهقي من طريق قتادة عن ابن المسيب عن علي انتهى
ولا ندري كيف حديث معاذ وقد روي عن البيهقي أنه قال إسناده لا يثبت مثله وأما حديث عمرو بن حزم الذي أشار إليه فقد ساقه هو أيضا في بلوغ المرام وليس فيه ذكر السمع وهكذا ساقه صاحب المنتقى ولم يذكر السمع وقد أخرج أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة عن خالد عن عوف سمعت شيخا في زمن الحاكم وهو ابن المهلب عم أبي قلابة قال رمى رجل رجلا بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى فيه بأربع ديات وهو حي فهذا غاية ما في الباب جميعه ولا (4/441)
تقوم به الحجة فينبغي الرجوع في ذلك إلى اجتهاد الإمام والحاكم العارفين بالمسالك الشرعية وفي قضاء عمر لهما أسوة إن لم تجدا ما هو أنهض من ذلك
قوله وفي العقل
أقول لم يرد في هذا ما تقوم به الحجة وقضاء الصحابي لا يثبت شرعا عاما وغاية ما فيه ما تقدم عن عمر وقد عرفت أن أموال العباد معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل إخراج شيء منها عن أملاكهم إلا ببرهان من الله سبحانه ولا حجة في ضعيف يقال إنه مرفوع فإنه ليس مجرد ذكر الرفع مما تقوم به الحجة حتى يثبت فإذا ثبت فسمعا وطاعة
وهكذا الكلام في قوله والقول وسلس البول وانقطاع الولد أما الأولان فلم يرد في ذلك شيء وأما الثالث فليس فيه إلا الأثر السابق عن عمر وليس مراد المصنف هنا إلا ذهاب هذه القوى بدون ذهاب الآلة التي هي فيها ولهذا أنه ذكرها بعد ذكر هذه
وقوله وفي الذكر من الأصل
أقول الدليل على هذا وعلى كثير مما سيأتي ما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل وصححه جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وأن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين (4/442)
الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار وهذا الحديث قد تلقته الأئمة بالقبول وقد صرح فيه بأن في الذكر الدية وهو اسم لجميعه فلا يتناول بعضه إلا مجازا وبهذا يظهر صحة قول المصنف وفي الذكر من الأصل
قوله وفي الأنف
أقول مراده في الأنف من الأصل كما قال في الذكر ويدل على ذلك ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ وإن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية ومعنى أو عن جدعة أنه قطع جميعه فلا ينافي هذا ما أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى النبي صلى الله عليه و سلم إذا قطعت ثندوة الأنف بنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق فإنه أراد بالثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه كما قال صاحب النهاية ولا ينافيه أيضا ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال عندي كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيه وفي الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل وذكره الشافعي تعليقا وأخرجه البيهقي من طريق عكرمة بن خالد عن رجل من آل عمر فإن المارن يطلق على الأنف كما يطلق على طرفه والمراد هنا الأنف جميعه قال في القاموس المارن الأنف أو طرفه أو ما لان منه وفي حديث عمرو بن شعيب عند أحمد (4/443)
وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا وإذا جدعت أرنبته نصف العقل وهكذا يحمل ما أخرجه البيهقي عن كتاب عمرو بن حزم بلفظ وفي الأنف إذا استؤصل المارن الدية كاملة
قوله وفي اللسان
أقول وجهه ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي اللسان الدية فظاهره أنه لا بد من قطعه جميعه لأنه حقيقة في ذلك ولا يتناول البعض إلا مجازا والواجب الحمل على الحقيقة وإذا قطع منه ما أبطل الكلام جميعه فقد قام ذلك مقام قطعه جميعه لأن الانتفاع به قد ذهب بذهاب الكلام
قوله وفي كل زوج من البدن إلخ
أقول يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي العينين الدية وقد ذهب إلى إيجاب الدية في الشفتين جمهور أهل العلم وهكذا إيجابها في البيضتين وقيل إنه مجمع عليه وورد في رواية من هذا الحديث وفي الأنثيين الدية والمراد بهما البيضتان كما صرح به أهل اللغة لا الجلدتان المحيطتان بالبيضتين كما زعم المصنف ولا خلاف في أن الواجب في العينين (4/444)
الدية وهكذا في الرجلين الدية كما يدل على ذلك قوله في حديث عمرو بن حزم المتقدم وفي الرجل الواحدة نصف الدية وهكذا اليدان كما يدل على ذلك من أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمرو بن حزم بلفظ في اليد خمسون وفي الرجل خمسون وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ وفي اليد إذا قطعت نصف العقل وفي الرجل نصف العقل وفي العين نصف العقل وقد قدمنا أن في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي ولكنه قد وثقه جماعة
ومما يعد زوجا في البدن الأذنان وقد روى الدارقطني والبيهقي في كتاب عمرو ابن حزم ما يفيد أن فيهما الدية واعلم أنه لم يرد في السنة ما يدل على لزوم الدية في مثل الحاجبين والثديين وإن شمل ذلك كلام المصنف حيث قال وفي كل زوج في البدن فلا يلزم فيما لم يرد به النص إلا ما يرجحه الحاكم العالم بالأدلة وكيف يستدل وهكذا لا يلزم في جفن العين ولا في الجفنين إلا ما يقدره الحاكم من الأرش لا كما قال المصنف (4/445)
قوله وفي كل سن نصف عشر الدية
أقول يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم المتلقي بالقبول بلفظ وفي السن خمس من الإبل وهكذا وقع في حديث عمرو بن شعيب المتقدم بلفظ وفي كل سن خمس من الإبل وهو في مسند أحمد وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وإسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات والخمس من الإبل هي نصف عشر الدية كما قال المصنف هاهنا وظاهر الحديثين أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والضروس لأنه يصدق على كل واحد منها أنه سن وإلى هذا ذهب الجمهور ولا يعارض ما في الحديثين الصحيحين ما وقع من اجتهاد بعض الصحابة فإنها لا تقوم بذلك حجة إذا انفرد فكيف إذا عارض المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبزار وابن حبان بإسناد رجاله رجال الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الأسنان سواء الثنية والضرس سواء فلم يبق بعد هذا وجه للمفاضلة بين الاسنان
قوله وفي كل أصبع عشر من الدية
أقول يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل والعشر من الإبل هي عشر الدية وفي لفظ من حديث ابن عباس دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع أخرجه الترمذي وصححه وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي موسى أن النبي (4/446)
صلى الله عليه و سلم قضى في الأصابع بعشر من الإبل وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ والأصابع سواء والأسنان سواء وأخرج أحمد والبخاري وأهل السنن من حديثه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام وبعض هذا يدفع اجتهاد من فاضل بين الأصابع وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة جمهور أهل العلم
وأما قوله وفي مفصلها ثلثه إلا الإبهام فنصفه فصواب لأن ذلك أحسن ما يقال وإن اختلف النفع فيها واختلف مقدارها فإن من المعلوم أن ما تحت البراجم من المفاصل أكبر منها وهكذا قوله وفيما دونه حصته فيجعل فيه بمقدار نسبته من ذلك المفصل
قوله وفي الجائفة ثلث الدية
أقول يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم المتلقي بالقبول بلفظ وفي الجائفة ثلث الدية وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى صاحب نهاية المجتهد الإجماع عليه وأخرج نحوه البزار من حديث عمر مرفوعا بإسناد ضعيف وأخرجه البيهقي من وجه آخر عنه بإسناد أضعف منه وفي حديث عمرو بن حزم ما يغني عن غيره وهكذا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المأمومة بثلث الدية كما في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي المأمومة ثلث الدية وهكذا في حديث عمرو بن شعيب بلفظ والمأمومة ثلث العقل (4/447)
قوله وفي المنقلة خمس عشرة ناقة
أقول هكذا في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي حديث عمرو بن شعيب بمثل هذا اللفظ وفي حديث عمر الذي أخرجه البزار بلفظ وفي المنقلة خمس عشرة وقد قدمنا الإشارة إلى ضعفه كما قدمنا تصحيح الحديثين اللذين قبله
قوله وفي الهاشمة عشر
أقول لم تذكر الهاشمة في حديث عمرو بن حزم ولا في حديث عمرو بن شعيب ولا في سائر الأحاديث المعمول بها وإنما روى ذلك عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي عن زيد بن ثابت موقوفا عليه قال ابن حجر في التلخيص لا يصح مرفوعا وحينئذ فينبغي الرجوع في ذلك إلى تقدير الحاكم فيجعل فيها أرش الموضحة الذي سيأتي مع زيادة أرش هشم العظم بحسب ما يقتضيه اجتهاده
قوله وفي الموضحة خمس
أقول يدل على ذلك ما في حديث عمرو بن حزم المتقدم بلفظ وفي الموضحة خمس من الإبل وأخرج أحمد وأهل السنن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المواضح خمس من الإبل ورجال إسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات وأخرج البزار من حديث عمر بلفظ وفي الموضحة خمس (4/448)
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل في الموضحة خمسا من الإبل ولم يؤقت فيما دون شيئا وهو مرسل وروى عبد الرزاق عن شيخ له عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء وهو مرسل وهكذا رواه البيهقي عن الزهري وربيعة وأبي الزناد وإسحاق بن أبي طلحة مرسلا
وبهذا تعرف أن قوله وفي السمحاق أربع لا مستند له بل مجرد اجتهاد وليس بحجة على الغير فكان ينبغي إدخال ذلك في الفصل الذي بعد هذا
وأما قوله ولا يحكم حتى يتبين الحال فصواب ويكون العمل في ذلك بالانتهاء لأنه الذي يقرر عليه مقدار الجناية فيلزم في الميت ديته وفي الحي حسبما ذهب منه
فصل
وفيما عدا ذلك حكومة وهي ما رآه الحاكم مقربا إلى ما مر كعضو زائد وسن صبي لم يثغر وفي الشعر وما انجبر وما لا نفع فيه وما ذهب جماله فقط وفي مجرد عضد وساعد وكف بلا أصابع وإلا تتبعها لا الساعد وكذلك الرجل وفي جناية الرأس والرجل ضعف ما على مثلها في غيرهما قدر في حارصة رأس الرجل خمسة مثاقيل وفي الدامية اثنا عشر ونصف وفي الباضعة عشرون وفي المتلاحمة (4/449)
ثلاثون لأن في السمحاق أربعين وفي حلمة الثدي ربع الدية وفي درور الدمعة ثلث دية العين وفي دونه الخمس وفيما كسر فانجبر ونحوه ثلث ما فيه لو لم ينجبر والغرة عبد أو أمة بخمسمائة درهم ولا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل
قوله فصل وفيما عدا ذلك حكومة إلخ
أقول قد تقرر عصمة الدماء وأنه لا يحل إراقة شيء منها بغير حقه ولا الجناية على معصوم من غير فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة ورد في الشرع تقديرها أو لم يرد فمن جنى على غيره جناية ظاهرة الأثر ولم يرد في الشرع لها تقدير كما في دون الموضحة وسائر ما أشار إليه المصنف فلا يكون عدم ورود الشرع بتقديرها مقتضيا لإهدارها وعدم لزوم أرشها بلا خلاف وإلا لزم إهدار ما هو معصوم بعصمة الشرع واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله فالجناية التي لم يرد الشرع بتقديرها لا بد من الرجوع في التقدير إلى شيء يكون على طريقة العدل التي لا حيف فيها على الجاني ولا على المجني عليه فينظر مثلا في قدر اللحم الذي ذهب بالجناية وقدر ما بقي إلى ما ورد فيه التقدير من الشرع فيلزم فيه بنسبته إلى ذلك الذي ورد فيه التقدير فإذا كان المأخوذ نصف اللحم والباقي فوق العظم نصفه كان أرشها نصف أرش الموضحة وإذا كان المأخوذ ثلثا كان أرشها ثلث أرش الموضحة ثم كذلك ويكون المرجع في هذا التقدير إلى أهل الاختبار بالجنايات فإذا أخبروا الحاكم بأن المأخوذ كذا قربه الحاكم إلى أرش ما ورد به الشرع بحسب نسبته إليه وهكذا في العضو الزائد وسن الصبي وذهاب الشعر والجمال ومالا نفع فيه وقد قدمنا ما يدل على أنه لم يثبت في الشرع تقدير ما دون الموضحة فما ذكره المصنف هنا من تقدير أرش الدامية والباضعة والسمحاق هو من هذا القبيل الذي ذكرناه فإن وافق نظر الحاكم الخبير بما ورد قرره وإلا فعل ما يترجح له فليس في ذلك حجر ولا يكون تقدير (4/450)
المتقدم حجة على المتأخر إذا كان الصواب عنده في مخالفته وهكذا الكلام في أرش الدامية والمتلاحمة والحارصة والوارمة
قوله وفي جناية الرأس والرجل ضعف ما على مثلها في غيرهما
أقول التقديرات الثابتة عن الشارع في الجنايات مطلقة غير مقيدة بكونها في الرأس ولم يرد ما يصلح للتقييد فالواجب البقاء على الإطلاق ويكون اللازم مثلا في الموضحة ما قدره الشارع من غير فرق بين أن يكون في الرأس أو في سائر البدن وهكذا غيرها من الجنايات المقدرة وهكذا تكون الحكومات فيما لم يرد فيه تقدير
وأما كون جناية المرأة على النصف من جناية الرجل فقد قدمنا عند قوله ويلزم في نفس المسلم ما ورد في أن أرشها إلى قدر الثلث كأرش الرجل وما زاد على ذلك كان أرشها على النصف من أرش الرجل وقد ورد في ذلك ما تقوم به الحجة ويصلح للاعتبار وإذا ثبت الشرع طاحت الأقيسة وبطلت الاجتهادات العاطلة عن الدليل
قوله وفي حلمة الثدي ربع الدية
أقول قد عرفناك أنه لا وجه لقول المصنف أنها تلزم الدية في كل زوج في البدن بل الواجب التوقف في ذلك على موارد النص كما بيناه سابقا وما لم يرد فيه النص كان المرجع فيه إلى حاكم الشرع فلا وجه لتقدير المصنف بقوله وفي حلمة الثدي ربع الدية
وأما قوله وفي درور الدمعة إلخ فهذا اجتهاد لا يلزم من بعده من المجتهدين الأخذ به بل كل واحد متعبد بما يؤدي إليه اجتهاده بعد إمعان النظر في التقريب إلى ما ورد به النص
وأما قوله والغرة عبد أو أمة فقد قدمنا الأدلة الواردة في ذلك (4/451)
وأما قوله ولا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل فهذا مبني على أنها لم تعلم حياته بوجه من الوجوه أما إذا علمت وجب فيه الغرة كما تقدم
فصل
ويعقل عن الحر الجاني على آدمي غير رهن خطأ لم تثبت بصلح ولا اعتراف بالفعل موضحة فصاعدا الأقرب فالأقرب الذكر الحر المكلف من عصبته الذين على ملته ثم سببه كذلك على كل واحد دون عشرة دراهم ولو فقيرا ثم في ماله ثم في بيت المال ثم المسلمون ولا شيء عليه إن كفت العاقلة وتبرأ بإبرائه قبل الحكم عليها لا العكس وعن ابن العبد والملاعنة والزنا عاقلة أمه والإمام ولي مسلم قتل ولا وارث له ولا عفو
قوله فصل ويعقل عن الحر الجاني إلخ
أقول اعلم أنه قد أجمع أهل العلم على ثبوت العقل كما حكى ذلك ابن حجر في فتح الباري وعليه دلت الأحاديث الصحيحة كما في الصحيحين وغيرهما أن امرأتين من هذيل اقتتلتا ولكل واحدة منهما زوج فبرأ الزوج والولد ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل بطن عقوله (4/452)
ثم كتب إنه لا يجل أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه وأخرج أحمد في المسند عن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في الجنين المقتول بغرة عبد أو أمة قال فورثها بعلها وبنوها وكان من امرأتيه كلتيهما ولد قال فقال أبو القاتلة المقضي عليه يا رسول الله كيف أغرم من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل فمثل ذلك بطل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا من الكهان وأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه النووي من حديث جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ الزوج والولد فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ميراثها لزوجها وولدها وأخرج الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذلي عن أبيه قال كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية وذكر نحو ما تقدم وأخرج الحاكم من حديث ابن إسحاق قال حدثني عمر بن عثمان بن محمد بن الأخنس بن شريق قال أخذت من آل عمر هذا الكتاب وفيه المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم والأنصار على ربعتهم يتعاقلون الحديث
فهذه الأحاديث وما ورد في معناها قد دلت على ثبوت العقل في الجملة ولا يعارضها مثل قوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله صلى الله عليه و سلم لا يجني جان إلا على نفسه وما ورد في معنى ذلك لأنها عمومات مخصصة (4/453)
بأحاديث العقل وليس في هذه الأحاديث التي ذكرناها ما يدل على أن الجنايات التي أثبت الشرع فيها العقل هي جنايات الخطأ بل في هذه الأحاديث ما يشعر بالعمد كما تراه ولكنه أخرج الدارقطني والبيهقي عن عمر أنه قال العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة قال ابن حجر وهو منقطع وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف قال البيهقي والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله ولا يخفاك أن مثل هذا لا يصلح لتقييد تلك الأحاديث المطلقة على تقدير أنه صحيح فكيف يصلح لذلك مع ضعفه وقد أخرج أحمد عن ابن عباس لا تحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك وأخرجه أيضا البيهقي وهذا أيضا قول صحابي لا يصلح لتقييد ما أطلقته السنة وأخرج مالك في الموطأ عن الزهري أنه قال قضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد وأخرج معناه البيهقي عن أبي الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة فإن أراد بهذه السنة سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مخالف لما تقدم في الأحاديث السابقة ولو سلمنا عدم مخالفته لها لاحتمل أن يريدوا سنة الصحابة أو الخلفاء أو عمل أهل المدينة أو نحو ذلك ولا حجة في شيء من ذلك
وأما ما أخرجه الدارقطني والطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا ففي إسناده الكذاب (4/454)
المشهور المصلوب في الزندقة محمد بن سعيد وفي إسناده أيضا الحارث بن نبهان وهو منكر الحديث وبهذا تعرف أنه لم يكن في الباب ما يصلح لتقييد ما أطلقته السنة
فإن قلت قد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء قطع اذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا يا نبي الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئا قلت ليس فيه إلا إسقاط ضمان جناية الجاني إذا كانت عاقلته فقراء فيخص بهذه الصورة وظاهر قوله إن غلاما لأناس فقراء أنه كان عبدا ويحتمل أن يكون حرا فقيرا كما كان أهله فقراء
قوله الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبته
أقول إخراج الولد من هذا العموم لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه و سلم برأ الزوج والولد ويشكل على تقييد من يعقل بكونه عصبة ما أخرجه أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وحسنه أبو زرعة من حديث المقدام بن معد يكرب أنه صلى الله عليه و سلم قال أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه وله شواهد
وأما تقدير ما يلزم العاقلة بدون عشرة دراهم فلا وجه له من رواية ولا دراية فالأولى (4/455)
الرجوع إلى ما في الأحاديث من إطلاق العقل فتغرم العاقلة الدية وتحصص بينهم وإن بلغ نصيب الواحد ألف درهم
وأما قوله ولو فقيرا فقد قدمنا حديث عمران بن حصين وهو نص في محل النزاع فلا وجه لإلزام من كان فقيرا من العاقلة ولا يقال إنه ينظر إلى ميسرة كسائر ما يلزمه من الديون لأنا نقول هذا أخص من ذاك فإنه صلى الله عليه و سلم لم يجعل على الجاني شيئا حتى تضمنه العاقلة وتحمله عنه والعلة في ذلك فقرهم فكان الفقر مسقطا
قوله ثم في ماله
أقول الأدلة قد دلت على أن هذه الدية على العاقلة كما دلت الأحاديث الكثيرة على أن الدية على القاتل فإن جعلنا العقل خاصا بالخطأ فلا معارضة بين الأحاديث وإن جعلناه على العموم فلا بد من الجمع بينها بوجه مقبول وهذا الذي ذكره المصنف من جملة ما يصلح للجمع لأنه يقتضي حمل أحاديث ضمان العاقلة على الإمكان فإن كانوا لا وجود لهم كانت الدية من مال القاتل رجوعا إلى الأصل لئلا يهدر دم امرئ مسلم وأما إذا كانوا فقراء فقد تقدم الدليل على أنهم لا يضمنون وهكذا إذا لم تف أموالهم بالعقل
قوله ثم في بيت المال
أقول يدل على هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم أنا أولى بكل مسلم فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا أو ضياعا فإلي وعلي ويدل عليه أيضا حديث المقدام بن معد يكرب المتقدم قريبا والدية هي دين ثابت في ذمة (4/456)
الجاني فإذا كان فقيرا كانت من بيت المال كما يكون قضاء دينه من بيت المال وسيأتي في القسامة إن شاء الله أنه صلى الله عليه و سلم أعان من وجبت عليه بتسليم الدية من بيت المال
وأما قوله ثم المسلمون فلا وجه له من دراية ولا رواية وأموال المسلمين تحت العصمة الشرعية فلا يحل شيء منها إلا بناقل صحيح عن تلك العصمة
وأما قوله ولا شيء عليه إن كفت العاقلة فوجهه ظاهر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب ذلك عليها
وأما كونها تبرأ ببراءته قبل الحكم عليها فوجه ذلك أن أصل الوجوب عليه
وأما قوله لا العكس فلا وجه له بل يبرأ ببراءة العاقلة كما برئت هي ببراءته
قوله ويعقل عن ابن العبد وابن الزنا عاقلة أمه
أقول الأولى أن يعقل عن ابن العبد موالي أبيه وقد عرفت أنه لم يرد ما يقيد أحاديث العقل المطلقة وأما ابن الزنا فلا قرابة له إلا من جهة أمه وقد تقدم أن الخال يعقل عمن لا وارث له سواه وهو من عصبة الأم وأرحام ابنها
قوله والإمام ولي مسلم قتل ولا وارث له ولا عفو
أقول يدل على ذلك الأدلة المتقدمة التي ذكرناها قريبا ويدل على ذلك أيضا غيرها من العمومات وهو أيضا ولي أموات المسلمين كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فله المطالبة بما يجب لهم وعليهم ولا وجه لقوله ولا عفو بل إليه العفو كما تكون إليه العقوبة لعموم ولايته إذا كان في ذلك مصلحة عائدة على المسلمين أو خصوصا (4/457)
باب القسامة
تجب في الموضحة فصاعدا إن طلبها الوارث ولو نساء ولا يستبد الطالب بالدية
قوله تجب في الموضحة فصاعدا إلخ
أقول القسامة قد ثبتت في هذه الشريعة في الجملة ولا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه دافع وقد أخذ بها الجمهور وعملوا عليها وهي شرع مستقل لا يضرها مخالفتها لبعض ما قد تقرر اعتباره على جهة العموم فإن بناء العام على الخاص واجب وقد قال قوم من السلف إنها غير ثابتة مع اعترافهم بورودها ووقوعها في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين والقائلون بأنها غير ثابتة هم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز ومن أهل البيت الناصر وعدلوا على مجرد الاستبعاد لثبوتها مع اشتمالها على أحكام تخالف (4/458)
ما هو المتقرر في غالب الأبواب
وعندي أنه لا وجه لهذا الاستبعاد ولا مقتضى للجزم بعدم ثبوتها لأن النبي صلى الله عليه و سلم أقرها على ما كانت عليه في الجاهلية كما في صحيح مسلم وغيره وكانت أول قسامة وقعت في الجاهلية القسامة التي ادعاها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم على فخذ من أفخاذ قريش والقصة مستوفاة في صحيح البخاري وغيره وفيها أن أبا طالب قال للذي اتهم بقتل الفتى من بني هاشم اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك إنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبروهم فقالوا نحلف فاقسامة المشروعة هي هذه التي قررها النبي صلى الله عليه و سلم وهي أن يدفع المتهمون بالقتل الدية أو يحلفوا ولا دية عليهم
وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة عبد الله بن سهل الذي قتلته يهود خيبر وأن النبي صلى الله عليه و سلم عرض على ورثته أنهم يحلفون ويستحقون فقالوا كيف نحلف ولم نشهد قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه و سلم من عنده فينبغي أن يكون هذا على طريق الصلح لأن القسامة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه و سلم هي قسامة أبي طالب فيحمل ما خالفها كهذه القصة على ما ينبغي أن يحمل عليه ما خالف ما هو الأصل وقد قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها ولهذا (4/459)
أسلم الدية من عنده لئلا يهدر دم المقتول
وأما الجمع للمتهمين بين الإيمان والدية فمخالف لما وقع في قسامة أبي طالب التي قررها رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس في ذلك إلا ما يروى عن عمر ولا يجوز العمل به لمخالفته لما صح عنه صلى الله عليه و سلم
وإذا عرفت ما ذكرناه من وجوب تأويل ما خالف قسامة أبي طالب فمن جملة ما خالفها في قصة عبد الله بن سهل أنه يحلف من قرابته خمسون ويستحقون فإن اليمين إنما تكون على يقين ولهذا قالوا كيف نحلف ولم نشهد وهذا يقوي ما قدمنا من قول من قال إنه تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها
فالحاصل أن القسامة ثابتة في هذه الشريعة فمن ادعاها على قوم فيقال لهم يحلف منهم خمسون فإن حلفوا فليس عليهم شيء من الدية وإن نكلوا فعليهم الدية وإن التبس الأمر كانت من بيت المال كما فعله صلى الله عليه و سلم في قصة عبد الله بن سهل وليس غير هذا ولكن في قصة أبي طالب أن الدعوى وقعت على معين فيدل ذلك على أن التعيين لا يبطل القسامة بل يتوجه على قوم ذلك المعين ما يتوجه على قوم وقعت الدعوى على واحد منهم غير المعين وعلى جماعة منهم غير المعينين
وأما قوله تجب في الموضحة فصاعدا فمبني على صحة إلحاق ما دون النفس بالنفس ولكنه يقال مقتضى قواعدهم أنه لا يقاس على ما ورد مخالفا للقياس بل يقر في موضعه وإن كان الحق ما قدمنا أن كل الشريعة المطهرة واردة على القياس المطابق للحكمة التي ينتفع بها العباد عاجلا وآجلا (4/460)
وأما قوله إن طلبها الوارث إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا شأن حقوق الآدميين لا تجب إلا بعد الطلب كما تقدم في الدعوى وقد قدمنا هنالك ما ينبغي الرجوع إليه وهكذا لا يبطل حق من لم يعف من عفا وليس في هذا تبرع
وأما كونه لا يستبعد بالدية الطالب فوجهه أنها عوض عن دم المقتول وهم يستحقونه جميعا ولا يبطل حق الساكت بسكوته
فصل
فمن قتل أو جرح أو وجد أكثره في أي موضع يختص بمحصورين غيره ولو بين قريتين استويا فيه أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر أو لم يدع الوارث على غيرهم أو معينين فله أن يختار من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل خمسين ذكورا مكلفين أحرارا وقت القتل إلا هرما أو مدنفا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله ويحبس الناكل حتى يحلف ويكرر على ما شاء إن نقصوا ويبدل من مات ولا تكرار مع وجود الخمسين ولو تراضوا وتعدد بتعدده ثم تلزم الدية عواقلهم ثم في أموالهم ثم في بيت المال فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين فالدية والقسامة على عواقلهم وإن وحد بين صفين فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته من رماة وغيرهم
قوله فصل فمن قتل أو جرح إلخ
أقول وجوده على هذه الصفة مقتض لتعلق التهمة بأهل المحل فكان ذلك سببا لثبوت القسامة وجعلوا هذا قائما مقام اللوث الذي اعتبره بعض أهل العلم (4/461)
وأما اشتراط أن يختص المحل بمحصورين فلكونها لا تصح الدعوى على من لم ينحصر كالمدن الكبار وقوله غيره يفيد أنه لو كان المحل مختصا بالمتهم كانت القسامة عليه وحده وقد قيل إن ذلك إجماع وفيه نظر فإن قسامة أبي طالب كانت على فرد معين ولم يكن ذلك قادحا في القسامة فهكذا لا يقدح فيها إذا كان القتيل موجودا في مكان يختص بالمتهم
قوله ولو بين قريتين استويا فيه
أقول وجه ذلك أن التهمة قد تعلقت بأهل القريتين جميعا مع الاستواء بينهما بالنسبة إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل وأما إذا كان موضع القتيل أقرب إلى أحدهما فالتهمة متعلقة به تعلقا أقوى من صاحب المكان الأبعد ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي سعيد قال وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فذرع ما بينهما زاد البيهقي فوجد إلى أحد الحيين أقرب بشبر فألقى ديته عليهم قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وروى الشافعي عن عمر أنه كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين قال الشافعي ليس بثابت (4/462)
إنما رواه الشعبي من الحارث الأعور وقال البيهقي روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر ومجالد غير محتج به قال وقد روي عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر قال ابن حجر لكن لم يسمعه أبو إسحاق من الحارث فقد روى علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة سمعت أبا إسحق يحدث حديث الحارث بن الأزمع يعني هذا قال فقلت يا أبا إسحق من حدثك قال حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحق إلى حديث مجالد ومجالد غير محتج به انتهى
وأما قوله أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر فالأمر كذلك
وأما قوله ما لم يدع الوارث على غيرهم فوجهه ظاهر لعدم وجود ما هو المناط وهو التهمة
وأما قوله أو معينين فقد قدمنا الكلام عليه في أول الباب
قوله فله أن يختار إلخ
أقول الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع ابن خديج وغيرهما بألفاظ ليس فيها إلا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا وفي بعضها فيحلفون وليس في هذا ما يدل على أن لمدعي القسامة أن يختار لليمين من أراد وهكذا في قسامة أبي طالب ليس فيها أنه اختار الخمسين بل طلب أيمان خمسين فالظاهر أن المتهمين يحلف منهم خمسون يعينونهم من أنفسهم وليس للمدعي إلا ذلك (4/463)
وأما اشتراط أن يكون الحالفون من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل فوجهه أن مناط القسامة التهمة ولا تهمة على من لم يحضر وقت القتل
وأما اشتراط كونهم أحرارا فوجهه أنهم يدفعون عن أنفسهم باليمين لزوم الدية ولا يلزم العبيد من ذلك شيء فلا يمين عليهم
وهكذا اشتراط كونهم ذكورا لأن التهمة لا تتعلق بالنساء وأما استثناء المريض والمدنف فوجهه أن التهمة غير متعلقة به فهو كمن لم يحضر
قوله يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله
اقول قد ثبت في صحيح البخاري في قسامة أبي طالب التي أقرها الشرع بلفظ وإن شئت حلف خمسون من قومك بأنك لم تقتله فهذا يدل على أنه لا بد أن يحلف الخمسون على أن المعين لم يقتله أو على أنهم لا يعلمون له قاتلا حيث لم يكن معينا وهذا من جملة ما ورد خاصا بالقسامة فإن اليمين على أن المعين لم يقتله وبعد وقوع الدعوى عليه لا يكون إلا باعتبار الرجوع إلى الأصل وهو عدم صدور الفعل من المدعي عليه وفيه ما فيه
قوله ويحبس الناكل حتى يحلف
أقول قد قدمنا أن إيجاب اليمين عليهم لأجل إسقاط الدية على ما قررناه من أنه لا دية عليهم بعد حلفهم فمن نكل منهم خوطب بتسليم نصيبه من الدية كما يخاطب من نكل عن اليمين في سائر الحقوق ولا وجه للحبس لأنه قد يكون فيه إكراه عن اليمين الفاجرة
قوله ويكرر على من شاء إن نقصوا
أقول قد تقرر أن أيمان القسامة خمسون فحيث لا يتم إلا بالتكرار على بعض من (4/464)
حلف كان ذلك حقا للمدعي لأنه سيترتب على كمال القسامة وهي الخمسون اليمين سقوط الدية ولكن ليس له أن يختار من تكرر عليه اليمين كما قدمنا لأنه ليس له أن يختار من يحلف بل لهم أن يعينوا من يكون التكرار عليه
وأما كونه يبدل من مات فوجهه انه لا بد من الخمسين اليمين لكن يكون البدل ممن تتعلق به التهمة لا مطلقا
وأما كونه لا تكرار مع وجود الخمسين فظاهر لأنها ألجأت الضرورة إلى التكرار فلا تكرار مع السعة
وأما كونها تتعدد القسامة بتعدد ما تجب فيه فظاهر لأنها واجبة لكل قتيل كما حكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله وتلزم الدية عواقلهم
اقول قد عرفناك ما هو الصواب في أول الباب فلا نعيده فلا يجب عليهم إذا حلفوا ولا على عواقلهم ويجب في بيت المال مع اللبس كما تقدم
وأما قوله فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين إلخ فالذي ينبغي اعتماده أن التهمة إذا تعلقت بالنساء والصغار حلف من تعلقت به التهمة من النساء وينتظر بلوغ الصغار ثم يحلفون فإن حلفوا أو حلفن فلا ديه عليهن ولا عليهم ولا على عواقلهم وإن لم يحلفوا كانت الدية عليهم وعليهن وأما العواقل فقد تقدم في فصل ضمان العاقلة ما لا يحتاج معه إلى إعادته هنا
قوله فإن وجد بين صفين إلخ
أقول قد ثبتت القسامة في وجوده بين قريتين فثبوتها في وجوده بين صفين أولى لأن التهمة أقوى والسبب أظهر فإن كان أحد الصفين أقرب من الآخر كان تعلق التهمة به أقوى إلا أن لا يكون في سلاحهم ما هو المؤثر في الجناية عليه ووجد ذلك في سلاح (4/465)
الصف الأبعد فإن التهمة تنصرف عن الأقربين إلى الأبعدين فما ذكره المصنف هاهنا صواب لأن قوله فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته تدل على أنهم إذا لم يكونوا من ذوي جراحته كانت على ذوي جراحته وإن كان صفهم بعيدا منه
فصل
فإن لم يختص أو لم ينحصروا ففي بيت المال ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة وهي خلاف القياس وتسقط عن الحاملين في تابوت ونحوه وبتعيينه الخصم قبل موته والقول للوارث في إنكار وقوعها ويحلف
قوله فصل فإن لم يختص إلخ
أقول هذا وجه من وجوه الالتباس وقد قدمنا أنها تكون معه على بيت المال وأيضا لا يهدر دم امرئ مسلم
وأما قوله ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة فوجهه ما تقدم في الشهادات من أنها لا تقبل شهادة من له فيها جلب نفع أو دفع ضرر وقد حققنا ذلك هنالك فأرجع إليه
وأما قوله وهي جارية على خلاف القياس فمرادهم عند إطلاق مثل هذا أن ما أطلقوه عليه مخالف لغالب ما ثبت في القواعد الشرعية وقد قدمنا الإشارة إلى شيء من هذا
وأما قوله ويسقط عن الحاملين إلخ فيجاب عنه بأن مثل هذا الفعل لا يستلزم انتفاء التهمة التي عللوا بها لا عقلا ولا شرعا ولا عادة فكيف يكون موجبا لسقوط القسامة عليهم
وأما قوله وبتعيينه قبل موته فقد قدمنا أن قسامة أبي طالب التي قررها (4/466)
الشرع كانت على معين عينه المقتول قبل موته
وأما قوله والقول للوارث في إنكار وقوعها فوجهه أن الأصل عدم ذلك فيكون القول قوله مع يمينه وعليه البينة أنها قد وقعت
فصل
وإنما تؤخذ الدية وما يلزم العاقلة في ثلاث سنين تقسيطا
قاله فصل وإنما تؤخذ الدية إلخ
أقول غاية ما روي في هذا ما أخرجه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين ويقويه ما حكاه الشافعي من الإجماع على ذلك وكذا ما حكاه الترمذي في جامعه وابن المنذر وقد روي التنجيم في ثلاث سنين عن جماعة من الصحابة وقد حكى الرافعي إجماع الصحابة على ذلك (4/467)
كتاب الوصايا (4/469)
فصل
إنما تصح من مكلف مختار حالها بلفظها أو لفظ الأمر لبعد الموت وإن لم يذكر وصيا
قوله فصل إنما تصح من مكلف
أقول الوصية تكليف من التكاليف الشرعية ورد الأمر بها والترغيب إلى فعلها والترهيب في تركها وهي أيضا تتضمن إخراج جزء من المال لفلان أو للقربة الفلانية أو عند فلان كذا أو يفعل الوارث كذا أو يترك كذا وهذه أمور لا تصح إلا من المكلف لا من الصغير الذي لم يبلغ التكليف وهذا يكفي في الإستدلال على اشتراط التكليف من فاعلها ولا يصلح لمعارضة هذا ما أورده ابن حجر في التلخيص أن غلاما من غسان حضرته الوفاة وله عشر سنين فأوصى لبنت عم له وارث فرفعت القصة إلى عمر فأجاز وصيته وعزاه إلى مالك من حديث عمرو بن سليم الزرقي أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له هاهنا إلا ابنة عم له فقال عمر فليوص لها الحديث ورواه أيضا من وجه آخر وفيه أن الغلام كان ابن اثنتي عشرة سنة أو عشر سنين (4/471)
وقال البيهقي علق الشافعي القول بجواز وصية الصبي وتدبيره بثبوت الخبر عن عمر لأنه منقطع وعمرو بن سليم لم يدرك عمر قال ابن حجر ذكر ابن حبان في ثقاته أنه كان يوم قتل عمر جاوز الحلم وكأنه أخذ من قوله الواقدي إنه كان حين قتل عمر راهق الإحتلام انتهى
وإنما قلنا إنه لا يعارض ما ذكرنا لأنه اجتهاد يخالف ما جرت عليه قواعد هذه الشريعة وأدلتها من اشتراط التكليف وقد أمر الله الأولياء بحفظ أموال اليتامى وقال فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وهكذا يقال فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الزهري أن عثمان أجاز وصية غلام ابن إحدى عشرة سنة
وأما اشتراط الإختيار فلعدم صحة تصرف المكره لا بوصية ولا بغيرها كما تقدم
وأما قوله بلفظها أو لفظ الأمر فقد عرفناك غير مرة أن المعتبر ما يدل على المقصود ويشعر بالمراد ولو بغير لفظ فضلا عن أن يكون لفظ معين
وأما إضافة الوصية إلى ما بعد الموت فلأجل تفرق الحال بين الوصية والوكالة
وأما قوله وإن لم يذكر وصيا فوجهه أن ذلك الذي أمره بأن يفعل بعد موته كذا قد صار وصيا بمجرد هذا الأمر كما سيأتي للمصنف في قوله ويعم وإن سمي معينا إلخ (4/472)
فصل
وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث ولا رجوع فيهما
قوله فصل وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث
أقول المال ما دام لصاحبه عين تطرف فهو ملكه وله التصرف فيه بما شاء كيف شاء لكنه لما صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير أو كبير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بعد أن قال له سعد إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال لا قال فالشطر يا رسول الله قال لا قال فالثلث قال الثلث والثلث كبير والحديث في الصحيحين وغيرهما كان ذلك دليلا على عدم جواز مجاوزة الثلث لمن له وارث لأنه علل المنع بذلك
وأما من لا وارث له فلا يدخل تحت هذا النهي ولا يصح الإستدلال على وجوب الإقتصار على الثلث بقوله صلى الله عليه و سلم إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها زيادة لكم في أعمالكم أخرجه أحمد وابن (4/473)
ماجه والبزار والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنحوه من حديث أبي أمامة وفي إسناده مقال ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق وفي إسناده متروك لأن الحديث لا تقوم به حجة كما ترى وعلى فرض قيام الحجة به فالتصدق منه تعالى عليهم بالثلث لا ينافي تصدقهم بزيادة عليه لأنه تعالى قد جعل كل مالك مفوض في ملكه فلا يخرج عن ذلك إلا ما ورد المنع منه بما لا يجوز مخالفته
وأما رده صلى الله عليه و سلم لبيضة الذهب لمن تصدق بها وكذلك رده لمن تصدق بأحد ثوبيه فالوجه في ذلك ما هو مذكور في الحديثين من أنه يقعد يستكف الناس فهذا هو الموجب لرد هذه الصدقة وقد قدمنا الكلام على نحو هذا في الهبة وفي النذر فارجع إليه
والحاصل أنه من له وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس والوقوع في المسألة (4/474)
المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة ولم يرد ما يدل على هذا الفرق الذي ذكره المصنف وكونه صلى الله عليه و سلم قال ذلك لسعد في حال مرضه فقد علله بعلة يستوي فيها المرض وغيره حيث قال إنك أن تذر ورثتك أغنياء إلخ وهذا الحديث يقيد به ما ورد في الكتاب العزيز من قوله عز و جل من بعد وصية يوصي بها أو دين ويؤيده النهي عن وصية الضرار ويؤيده أيضا حديث الرجل الذي أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق النبي صلى الله عليه و سلم اثنين وأرق أربعة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح وقد قدمنا الكلام عليه في العتق وفي آخر هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه و سلم لو شهدته قبل أن يدفن في مقابر المسلمين
قوله ولا رجوع فيها
أقول ما صدر عن طيبة نفسه بنفوذه في الحال قد حصل المناط الشرعي المقتضي لخروج الملك من مالكه إلى غيهر وأما إذا كانت نفس لا تطيب بالنفوذ ما دام حيا فلا ينفذ ذلك إلا بالموت وله الرجوع قبله لأن المناط الشرعي لم يوجد ها هنا
فصل
وتجب والإشهاد على من له مال بكل حق لآدمي أو لله مالي أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء فالثلاثة الأول من رأس المال وإن لم يوص ويقسط الناقص بينها ولا (4/475)
ترتيب والرابع من ثلث الباقي كذلك إن أوصى ويشاركه التطوع
قوله فصل تجب والإشهاد على من له مال
أقول وجه الوجوب قول الله عز و جل كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها لغيرهم ويؤيد الوجوب الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه وفي هذه العبارة ما يقتضي الإيجاب على طريق المبالغة ولم يأت من أراد دفع دلالة هذا الحديث على الوجوب بطائل وقد حققنا هذا المبحث في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه
والحاصل أن وجوب تخلص العبد من الحقوق اللازمة له لله ولعباده معلوم بأدلته فإذا لم يكن التخلص عنه في حال الحياة كان التخلص عنه بالوصية واجبا والجمهور (4/476)
وإن قالوا بأنها مندوبة فهم لا يخالفون في مثل هذا لأنهم يوافقون على وجوب التخلص من الواجبات بكل ممكن فإذا لم يمكن إلا بالوصية فهم لا ينكرون الوجوب
وأما الوصية بما يريد الإنسان أن يتقرب به من القرب فمعلوم أن ذلك إليه وراجع إلى اختياره لأنه لا يجب عليه غير ما هو واجب عليه وأصل التقربات التي لم يوجبها الشرع الندب فلا يزيد عليها ما هو متفرع عليها وهو الوصية
وأما وجوب الإشهاد فإذا علم الموصي أن وصيته لا تتم إلا بذلك كان واجبا عليه وإلا فلا وجه للوجوب
وأما قوله على من له مال فوجه ذلك أن من لا مال له قد تعذر عليه التخلص عن الواجب والتقرب بالمندوب فلا فائدة في وصيته ولهذا قال صلى الله عليه و سلم وله شيء يريد أن يوصي فيه لكن إذا علم أنه إذا أوصى حصل تخليص ما عليه من بيت المال أو من إخوانه المسلمين كان ذلك واجبا عليه لأنه نوع من التخلص وقوله لكل حق لآدمي أو لله وجهه ظاهر كما قدمنا
وأما قوله أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء فليس المراد إلا ثبوت ذلك عليه قبل موته فإذا تقرر ثبوته كان له حكم الدين فيخرج من الرأس لقوله عز و جل من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن كان ثبوته قبل موته غير متقرر كالنذر والهبة ووصايا القربة مع إضافة ذلك إلى ما بعد الموت فمخرجه من الثلث لما قدمنا ومعي وقفة في لزوم الوصية بالحج لمن مات وقد لزمه الحج وقد أوضحت ذلك في حاشيتي على الشفاء بل في كونه يقع عن الميت الموصي به نظر إذا لم يكن الذي يحج عن الميت قريبا له فكيف يقال يجب التحجيج وإن لم يوص الميت به ويخرج من رأس ماله (4/477)
فصل
ولا ينفذ في ملك تصرف غير عتق ونكاح ومعاوضة معتادة من ذي مرض مخوف أو مبارز أو مقود أو حامل في السابع وله وارث إلا بزوالها وإلا فالثلث فقط إن لم يستفرق وما أجازه وارث غير مغرور ولو مريضا أو محجورا ويصح إقرارهم ويبين مدعى التوليج
قوله فصل ولا ينفذ في ملك تصرف إلخ
أقول ما ذكره المصنف ها هنا إلى قوله فالثلث فقط صواب وجهه ما قدمنا عند قوله وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف
وأما قوله وما أجازه وارث غير مقرور إلخ فوجهه واصح لأنه بذلك أسقط حقه فزال المانع مع وجود المقتضي ولا شك في صحة الإجازة من المريض والمحجور كما يصح الإقرار لأنه مكلف وإقراره حجة عليه فكذا إجازته
وأما قوله ويبين مدعي التوليج فوجهه أن الأصل عدمه فالقول قدل نافيه والبينة على مدعيه إلا أن توجد شواهد التوليج وقرائنه وثبت بذلك الظاهر والظاهر مقدم على الأصل كما هو المعلوم بالوجدان (4/478)
فصل
ويجب امتثال ما ذكره وعرف من قصده ما لم يكن محظورا ويصح بين أهل الذمة فيما يملكون ولو لكنيسة أو بيعة وتصح للذمي ولقاتل العمد إن تأخرت وللحمل والعبد وبهما وبالرقبة دون المنفعة والفرع دون الأصل والنابت دون المنبت ومؤبدة وعكس ذلك ولذي الخدمة الفرعية والكسب وعليه النفقة والفطرة ولذي الرقبة الأصلية والجناية وهي عليه وأعواض المنافع إن استهلكه بغير القتل للحيلولة إلى موت الموصى له أو العبد ولا تسقط بالبيع وهي عيب ويصح إسقاطها
قوله فصل ويجب امتثال ما ذكره إلخ
أقول وجه هذا أن الميت إن كانت وصيته تتضمن تخليصه من شيء واجب عليه فقد فعل بالوصية ما يجب عليه وكان تنجيزها واجبا على وصيه أو على وارثه أو على سائر المسلمين إن لم يكن ثم وصي ولا وارث والإمام والحاكم أولى المسلمين بالقيام بذلك والإلزام به لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان الذي أوصى به الموصى من القرب التي ليست بواجبه عليه فقد فعل ذلك في ماله الذي أذن الله سبحانه له بالتصرف فيه كيف يشاء وإنفاذ ذلك واجب على الوصي أو على الوارث أو على الإمام والحاكم لأن في إهماله إهمالا لحق امرىء مسلم وهو منكر يجب إنكاره وما (4/479)
عرف من القصد فله حكم اللفظ إذ ليس المراد باللفظ إلا مجرد الدلالة على المعنى الذي يريده اللافظ وقد حصلت هذه الدلالة بالقصد
وأما قوله ما لم يكن محظورا فوجهه ظاهر لأن ذلك منكر وهو يجب دفعه على كل مسلم ومن دفعه ترك تنفيذه وعدم امتثال أمر الموصي بذلك
قوله ويصح بين أهل الذمة إلخ
أقول وجه ذلك أنهم مقرون على شريعتهم فليس لنا تغييره ما فعلوه ولا التعرض لإبطاله إلا أن يترافعوا إلينا ويطلبوا منا حكم الإسلام بينهم في ذلك كان علينا الحكم بينهم بحكم الإسلام كما صرح الله سبحانه به في كتابه العزيز فاحكم بينهم بما أنزل الله وهكذا تصح الوصية من المسلم للذمي لعدم وجود مانع شرعي من ذلك إذا كان الذي أوصى له به مما يجوز لنا معاملة أهل الذمة به فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في كل كبد رطبة أجر وهو أيضا يشمله الإذن العام بقوله عز و جل لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم الآية
قوله وتصح لقاتل العمد إن تأخرت
أقول لا وجه للتقييد بقوله إن تأخرت بل تصح مطلقا لأن المقتول تصرف بماله الذي أباح له الشرع التصرف فيه ولا مانع من ذلك وكونه قد عصى بالجناية لا يستلزم عدم الصحة الإحسان إليه بل الإحسان إليه قد يكون الثواب فيه أكثر من غيره لأنه من مقابلة الإساءة بالإحسان وهو منزلة عظيمة عند الله وقد ندب الله إلى ذلك بقوله ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها (4/480)
إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم أي ما يلقى هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن إلا من كان كذلك نعم إذا رجع الموصي عن الوصية بعد الجناية أو عرف من قصده ما يقتضي الرجوع عن الوصية كان ذلك مبطلا لها لعدم وجود المناط الشرعي وهوالرضا وطيبة النفس
وأما قوله وتصح للحمل والعبد إلى آخر ما ذكره المصنف فوجهه واضح والتفريع على ذلك قد عرف في مواطنه فلا حاجة إلى الكلام منا عليه هنا
فصل
وتصح بالمجهول جنسا وقدرا ويستفسر ولو قسرا وثلث المال للمنقول وغيره ولو دينا فإن كان لمعين شارك في الكل وإلا فإلى الورثة تعيينه وثلث كذا لقدره من جنسه ولو شراء ومسمى الجنس كشاة لجنسه ولو شراء والمعين لعينه إن بقيت وشيء ونحوه لما شاءوا والنصيب والسهم لمثل أقلهم ولا يتعد بالسهم السدس والرغيف لما كان ينفق فإن جهل فالأدون وأفضل أنواع البر الجهاد وأعقل الناس أزهدهم ولكذا وكذا ينصفان وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة وأعطوه ما ادعى وصية والفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر
قوله فصل وتصح بالمجهول إلخ
أقول وجه هذه الصحة أنه قد وجد المقتضي وفقد المانع وليس مجرد الجهالة (4/481)
ابتداء مما يصلح للمانعية لأنها ترتفع بالتفسير أو بالرجوع إلى أقل ما يصدق ذلك اللفظ لا يقال إن قسره على التفسير إكراه والإكراه مانع لأنا نقول هو إنما أكره على تفسير ما قاله حال اختياره وقد ثبت عليه الحق بمجرد الوصية بالمجهول فامتناعه من تفسيره كامتناع من تقرر عليه حق معلوم من تسليمه وللحاكم أن يجبر المتمرد كما تقدم
قوله وثلث المال للمنقول وغيره
أقول هذا ظاهر ما يقتضيه لفظ المال إلا أن يمنع من الجري على هذا ظاهر عرف للموصي وأهل محله فإنه مقدم على ما تقتضيه اللغة لا فرق بين المعين وغيره في استحقاق المقاسمة للورثة ولا وجه يقتضي تخصيص المعين بذلك لا من رواية ولا من دراية لأن التعيين مع ذكر لفظ الثلث مشعر أتم إشعار بأن المراد أن هذا الموصى له يأخذ ثلث هذا المعين رضي الوارث أم كره وهكذا له أن يأخذ ثلث ما قال فيه لفلان ثلث كذا ولا وجه للإنتقال إلى جنسه إلا أن يعرف ذلك من قصد الموصي وإنما يعدل إلى الجنس في مسمى الجنس كما قال المصنف ومسمى الجنس لجنسه والمعين لعينه ومن المعين قوله ثلث كذا كما لا يخفى فكلام المصنف متدافع
وأما قوله وشيء ونحوه لما شاءوا فوجهه أنه يصدق على كل ما شاءه أنه شيء إلا أن يعرف من قصد الموصي ما يخالف ذلك
قوله والنصيب والسهم لمثل أقلهم
أقول وجه هذا أنه لا يريد إلا نصيبا من أنصباء التركة أو سهما من سهامها فإن كان في ذلك عرف معلوم وجب الرجوع إليه وإلا كان المتيقن هو أقل ما يصدق عليه أنه سهم من سهام التركة ونصيب من أنصابها ولا وجه لقول المصنف ولا يتعدى بالسهم السدس فإن الوقوف على السدس تحكم محض لا يدل عليه شرع ولا عقل ولا لغة ولا وجه للفرق بين النصيب والسهم إلا أن يكون المصنف قد بنى ذلك على عرف (4/482)
قد عرفه ولكنه لا يفيد شيئا لأن الإعتبار يعرف المتكلم حال التكلم ولا يلزمه عرف غيره من أهل عصره فضلا عن عرف من عصره قبل عصره
وأما قوله والرغيف لما ينفق منه فوجهه أن المتبادر ما هو كذلك فإن كان مجهولا رجع إلى عرف أهل بلده فإن لم يكن لهم عرف أو كان العرف مختلفا فالأقل لأنه المتيقن
قوله وأفضل أنواع البر الجهاد
أقول أما أفضل أنواع البر من غير نظر إلى خصوص الوصية فقد اختلفت الأدلة في أفضل الأعمال فتارة يذكر الجهاد وتارة الصلاة لأول وقتها وتارة ذكر الله وتارة بر الوالدين وتارة الصدقة وما ورد في هذا المعنى
وينبغي الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة بأن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان مثلا قوي القلب مستعدا للجهاد فالجهاد أفضل أعماله ومن كان غير قادر على الجهاد أو يقدر عليه مع ضعف يلحقه وعدم فائدة تحصل منه فأفضل أعماله المحافظة على صلواته وأذكاره أو على بر والديه وإن كان كثير المال فأفضل أعماله الصدقة على ذوي الحاجة والحاصل أن أفضل أعمال كل رجل ما هو أكثر نفعا لغيره وأجود ثمرة وأتم فائدة
وأما الوصية إذا أوصى بجزء من ماله تصرف في أفضل أعمال البر فذلك يختلف باختلاف الأوقات فأفضل أنواع البر في سني الشدة وأيام المجاعة هو الصدقة وأفضل أنواع البر في أيام المثاغرة للكفار ومدافعتهم عن بلاد الإسلام هو الجهاد وأفضل أنواع البر في غير هاتين الحالتين هو الصرف في العلماء والمتعلمين وتحشيدهم لنشر العلم والإستكثار من التعدريس وتخريج الطلبة وترقيتهم في العلوم فإنه بذلك يحصل تكاثر العلم وتكاثر أهله فيزداد الدين جمالا والإسلام رونقا لأن حملة العلم هم نجومه الذين يستضاء بأنوارهم (4/483)
ويهتدون بهديهم
والحاصل أن العالم العارف بالموازنة بين الأعمال بين الأعمال مع اختلاف الأوقات لا يخفى عليه راجحها من مرجوحها وفاضلها من مفضولها
قوله وأعقل الناس أزهدهم
أقول إن عرف من مقصد الموصي بجزء من ماله لأعقل الناس أنه يريد أعقلهم من حيث ما يقتضيه الشرع فلا شك ولا ريب أن من رغب عن عرض الدنيا الفاني وطلب عرض الآخرة الباقي هو الذي يستحق اسم العقل الكامل والإدراك الصحيح والنظر المطابق لمراد الله سبحانه وإن عرف من مقصد الموصي لأنه يريد أعقلهم باعتبار أمر غير هذا الأمر كالتبصر بإصدار الأمور وإيرادها ومداخر الصلاح والنظر في عواقب الأمور وإصابة الرأي والفكر فيما تئول إليه مبادىء الأمور وتنتهي إليه الحوادث كان الصرف إلى من كان هو المقصود للموصى ولا حجر في ذلك فله أن جعل ما شاء من ماله حيث شاء ما لم يكن معصية لله عز و جل
قوله وبكذا وكذا نصفان
أقول هذا هو الظاهر من حيث اللغة إلا أن يخالفه عرف للموصي فهو مقدم لأنه لا يتكلم المتكلم في الغالب إلا بما يقتضيه عرفه وما يعتاده أهل بلده وهكذا قوله وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة فإنه قد حصل الثبوت على ذلك الشيء بما يصدق عليه مسمى الثبوت إلا أن يجزي عرف بخلاف ذلك
وأما قوله وأعطوه ما ادعى وصية فغير مسلم فإن هذا إقرار منه بأنه يستحق من تركته ما يدعي به وحمله على الوصية خلاف الظاهر
وأما قوله الفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر فقد قدمنا الكلام على ذلك في الوقف فليرجع إليه (4/484)
فصل
ولو قال أرض كذا للفقراء وتباع لهم فلهم الغلة قبل البيع إن لم يقصد ثمنها وثلاثة مضاعفة لستة وأضعافها ثمانية عشر ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجودة وإلا فمؤبدة كمطلق الخدمة والسكنى وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها ومن أوصى ولا يملك شيئا أو ثم تلف أو نقص فالعبرة بحال الموت فإن زاد فبالأقل
قوله فصل ومن قال أرض كذا للفقراء إلخ
أقول وجه هذا التمليك قد دل على أنها لهم من وقت التلفظ بما يدل عليه فستحقون ما حصل فيها من الغلة لأنها غلة ملكهم إلا أن يعرف من قوله وتباع لهم أن مراده أن الذي يصير إليهم هو ثمنها فقط فإن الغلة تكون قبل البيع للورثة وهو معنى قوله إن لم يقصد ثمنها واحتاج إلى هذا الإحتراز لاحتمال قوله أو تباع لهم لأمرين
قوله وثلاثة مضاعفة ستة
أقول ضعف الشيء ومضاعفته وتضعيفه أني جعل فوقه مثلاه فإن أطلق على مثله فقط فهو مجاز وليس من باب الإشتراك وإذا كان الضعف يطلق على مثلي الأصل كما عرفت فالجمع يدل على أن هذين المثلين مضاعفة ثلاث مرات فيكون ثمانية عشر لأن ذلك أقل الجموع إلا أن يظهر له قصد أو عرف يخالف ذلك فكلام المصنف رحمه الله صحيح لا إشكال فيه ولا غبار عليه
قوله ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجود
أقول وجه ذلك أن اللفظ ينصرف إلى ما هو موجود في الحال فلا يتناول غيره إلا لقرينة وأما إذا قال ذلك الشيء غير موجود فالظاهر أنه أراد ما يحصل من بعد (4/485)
ومع عدم التقييد بالمرة أو المرات يحمل على الأقل وهو ما يحصل أول مرة وليس في ذلك ما يدل على التأبيد لأن التأبيد أمر زائد على مجرد الإطلاق فلا يصار إليه إلا لقرينة
قوله وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها
أقول هذا يخالف ما تقدم للمصنف من التفصيل في قوله وما نفذ في الصحة إلخ وقوله ولا ينفذ في ملك تصرف إلخ والأولى أن يقال إن الوصية بسكنى الدار تنفذ في جميع الدار إذا لم يكن وارث على حسب ما قدرناه فيما تقدم
وأما قوله ومن أوصى لا يملك شيئا إلخ فوجهه أو وقت الموت هو وقت النفوذ فالإعتبار به وجودا أو عدما وزيادة ونقصا ولا وجه لقوله فإن زاد فبالأقل
فصل
وتبطل برد الموصى له وموته وانكشافه ميتا قبل الموصي وبقتله المصي عمدا وإن عفا وانقضاء وقت المؤقتة وبرجوعه أو المجيز في حياته عمالا يستقر إلا بموته فيعمل بناقضة الأولى
قوله فصل وتبطل برد الموصى له
أقول وجهه أنه لا يلزم الإنسان حتما إدخال شيء في ملكه بل ذلك مفوض إلى اختياره فإن رضي صار ملكا وإن رده لم يصر ملكا له وأما اعتبار القبول لفظا فلا يوافق رواية ولا دراية بل المعتبر في القبول هو القبض والتصرف وفي عدم القبول هو الرد (4/486)
وأما قوله وموته فوجهه أنه لم يوجد من قصد الموصي الإيصاء له فلم تصح الوصية وهكذا انكشافه ميتا قبل الموصي إن كانت الوصية مضافة إلى ما بعد الموت
قوله وبقتل الموصي عمدا
أقول لا وجه لإطلاق هذا فإن القتل عمدا إنما هو مبطل للميراث لا مبطل لإحسان المقتول إلى القاتل بوصية ونحوها ولا سيما إذا وقع منه العفو فإنه قد سمح بنفسه فكيف لا يسمح بجزء من ماله وقد قدمنا عند قوله ولقاتل العمد إن تأخرت ما ينبغي الرجوع إليه
وأما قوله وانقضاء وقت المؤقت فظاهر لا يحتاج إلى ذكره لأن الوصية قد انقطعت بانقطاع وقتها
وأما قوله وبرجوعه فوجهه ظاهر لأنه رجع قبل الوقت الذي تنفذ فيه الوصية ويستحقها من هي له وهو قوت الموت
وأما قوله أو المجيز في حياته فوجهه أن إسقاط حقه إنما يستقر بموت الموصي لأنه وقت النفوذ فإذا رجع قبله كان الرجوع صحيحا وإذا رجع بعده لم يصح لأنه مكلف مختار رضي لنفسه فلا يبطل ذلك الرضا بعد وقت الإستقرار وإلا استلزم هذا الرجوع عن الرضا جواز الرجوع عن سائر ما يرضى به الإنسان فلا تستقر معاملة وقد عرفناك أن الرضا هو المعتبر في جميع المعاملات
وأما قوله فيعمل بناقضة الأولى فوجهه أنه وقع نقض الأولى في الوقت الذي يجوز له فيه أن يرجع لأنه رجوع قبل وقت الإستقرار فكان العمل على ما ثبت الموصي عليه إلى وقت الإستقرار وهو موته (4/487)
فصل
وإنما يتعين وصيا من عينه الميت وقبل وهو حر مكلف عدل ولو متعددا أو إلى من قبل فيجب قبولها كفاية ويغني عن القبول الشروع وتبطل بالرد ولا تعود بالقبول بعده في الحياة إلا بتجديد ولا بعدها إن رد في وجهه ولا يرد بعد الموت من قبل بعده أو قبله إلا في وجهه وتعم وإن سمى معينا ما لم يحجر عن غيره والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي لا المشروط حضوره ولكل منهما أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إن لم يشرط الإجتماع ولا تشاجرا
قوله فصل وإنما يتعين وصيا من عينه الميت إلخ
أقول أما اشتراط القبول فلا بد منه إذ لا يلزم الإنسان الدخول في شيء حتما وأما اشتراط الحرية فلا وجه له بل العبد كالحر إذا أذن له سيده وإذا مات السيد ولم يأذن له المالك الآخر كان ذلك في حكم موت الوصي الحر حيث لم يوص فتكون الولاية للوارث أو للإمام والحاكم على ما سيأتي
وأما اشتراط التكليف فقد قدمنا في أول كتاب الوصايا وجه ذلك وأما اشتراط أن يكون عدلا فلم يرد ما يدل على اعتبار العدالة في الوصي كما لم يرد اعتبار العدالة في الوكيل والرسول والشريك ونحوهم وقد رضيه الميت لنفسه وأقامه مقامه بعد موته فوجب امتثال ذلك وإذا تصرف تصرفا يخالف الحق فسيأتي أنها تبطل وصايته (4/488)
وأما قوله ولو متعددا فليس في هذا نزاع فللموصي أن يوصي إلى الواحد والإثنين والجماعة
وأما قوله وإلى من قبل فيجب قبولها كفاية فلا وجه لهذا الإيجاب بل لكل أحد أن يمتنع من قبولها إذا لم يرد ما يدل على أنه يجب على الإنسان واجب بإيجاب إنسان آخر عليه فإذا لم يقبلها أحد كان ذلك لعدم الوصي من الأصل وسيأتي الكلام فيه
وأما كونه يغني عن القبول الشروع فوجهه ظاهر لأنه لا يشرع إلا وقد رضي
وأما كونها تبطل بالرد فوجهه أنه لا يجب على الإنسان أن يدخل نفسه في أعمال لم يوجبها عليه الشرع بل ذلك مفوض إلى اختياره
وأما قوله ولا يعود بالقبول في الحياة إلا بتجديد فوجهه أن كونه وصيا قد بطل بالرد فلا يعود وصيا إلا بتجديد الوصاية إليه من الموصي وإلا كان ذلك تصرفا في مال الغير بغير مقتض وهو ممنوع لثبوت العصمة لأموال العباد إلا بإذن من الله سبحانه أو من أربابها
وأما قوله ولا بعدها إن رد في وجهه فقد عرفناك أن الوصاية قد بطلت بالرد ولا فرق بين الرد في وجه الموصي أو في غير وجهه
وأما قوله ولا يرد بعد الموت من قبل قبله إلخ فلا وجه له لأن استمراره على ذلك لم يجب عليه بإيجاب الشرع ومجرد قبوله لا يستلزم استمراره حتى يقال إنه أوجب ذلك على نفسه فله أن يعزل نفسه متى شاء وكأنه لا وصي من الأصل فيكون لكل وارث ولاية كاملة إن وجد وإلا فللإمام والحاكم كما سيأتي
قوله وتعم وإن سمى معينا
أقول لا وجه لهذا لأن التعيين يقتضي قصر إقامته مقام نفسه على ذلك المعين فتصرفه في غيره تصرف في مال الغير بغير إذنه ولا بإذن الشرع إلا أن يفهم ذلك من قصده كان التعميم من حيث القصد لا من حيث تسمية المعين (4/489)
قوله والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي
أقول ليس ها هنا ما يقتضي أن يكون وصيا لا من لفظ ولا قصد وإثبات أحد هذه الأمور لشخص لا يستلزم إثبات ما هو زائد عليها وهو الوصاية المقتضية لما سيأتي من التصرف وغاية ما هنا أنه يكون إلى المشارف المشارفة على التصرفات الواقعة من الوصي فيشير على الموصي بما يستحسنه ويراه صوابا وهكذا الرقيب يكون مراقبا للوصي فيخبر بما وقع منه وليس إليه غير ذلك وأما المشروط علمه فغاية ما هناك أنه لا ينفذ تصرف الوصي حتى يعلم به وإذا علم نفذ وليس له حل ولا عقد ولا إمضاء ولا إبطال إلا أن يظهر من قصد الموصي زيادة على ما تدل عليه هذه الألفاظ كان الإعتبار بالقصد فإذا قصد إثبات الوصاية لكل واحد من هؤلاء كان المؤثر في ذلك هو هذا القصد لا تلك الألفاظ وأما إذا كان الأوصياء اثنين أو أكثر فالأمر كما ذكره المصنف من أن لكل واحد منهم أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إلا أن يشرط الموصي الإجتماع فهو كالحجر لكل واحد منهما أن يتصرف منفردا وهكذا إذا حصل التشاجر بينهم فإن ذلك يوجب التوقف عليهم حتى يجتمع رأيهم
فصل
وإليه تنفيذ الوصايا وقضاء الديون واستيفاؤها والوارث أولى بالمبيع بالقيمة ما لم تنقص عن الدين فبالثمن ولا عقد فيهما وينقض البالغ ما لم يأذن أو يرض وإن تراخى والصغير بعد بلوغه كذلك إن كان له وقت البيع مصلحة ومال فلا
قوله فصل وإليه وحده تنفيذ الوصايا وقضاء الديون (4/490)
أقول وجهه أنه أقامه مقام نفسه بعد موته فكان إليه تنفيذ الوصايا لأن هذا هو أعظم المقاصد التي قصدها الموصي وقضاء الديون هو من تنفيذ الوصايا بل من أهمها ومن ذلك استيفاء الديون التي للميت على الغير إذا كان لها مدخل في تنفيذ الوصايا وإلا كان أمرها إلى الوارث لأنها قد صارت ملكا له فلا يحل التصرف في ملكه وقد انقطع حق الميت عن التركة فلم يبق إلى وصية إلا ماله تعلق بوصاياه
قوله والوارث أولى بالمبيع إلخ
أقول الوجه في هذه الأولوية أن المبيع إنما هو لقصد قضاء ما على الميت أو ما يحتاج إليه في تجهيزه فإذا بذل الوارث ما يبذله المشتري كان أحق به لأن التركة انتقلت من ملك الميت إلى ملكه فلا يخرج عن ملكه مع بذل القيمة ويكون بين الورثة على التوريت وكأنه من جملة الميراث لا يحتاج إلى تجديد عقد ولكن لا وجه لقول المصنف بالأقل من القيمة أو الثمن بل هو أحق بقيمته التي سيباع بها من الغير فيسلمها موفرة حتى تبقى العين في ملكه وإذا وقع البيع من غير اطلاع الوارث كان له النقض لما وقع من البيع وأخذ المبيع بما كان قد دفعه المشتري فيه ما لم يأذن أو يرض وللوصي أو المشتري أن يطالباه بذلك فيأخذ أوي ترك وليس له أن يتراخى بعد العلم لا كما قال المصنف
وأما الصغير فإن كان له في المبيع مصلحة ومعه مال كان وليه مفرطا في ترك الطلب فله أن يطلب عند بلوغه وإن لم يكن له مصلحة ومال فليس في الإمكان أبدع مما كان وقد نفذ تصرف الولي والوصي
فصل
وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه والمختلف فيه بعد الحكم مطلقا وقبله حيث تيقنه والوارث صغير أو موافق وإلا فلا وللموافق المرافعة إلى المخالف وما (4/491)
علمه وحده قضاه سرا فإن منع أو ضمن ضمن ويعمل باجتهاده ويصح الإيصاء منه لا النصب
قوله فصل وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه إلخ
أقول وجه هذا أن الوصية من الموصي ليست بحكم على الغير يلزمه امتثاله فوصية كذلك لأنه مأمور من جهته فما كان مما لا نزاع فيه ولا خلاف ولا ضرار ولا مخالفة للشرع بوجه من الوجوه كان للوصي الإستقلال بفعله وما لم يكن كذلك لم يكن له إلا بحكم الحاكم لقطع الخلاف ودفع معرة النقض من بعد وليس كل مختلف فيه يحتاج إلى حكم الحاكم بل إذا كان مذهب الموصي والوصي هو وجوب التخلص من ذلك ولم يكن ثم منازع من وارث أو غيره كان له الإستقلال فهكذا ينبغي أن يقال وإذا كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه فإن لم يكن له ولي كان له عند بلوغه الدعوى على الوصي بماله فيه حق شرعي
وأما كون للموافق المرافعة إلى المخالف فلا بد أن يكون على بصيرة بأن عند المخالف الصواب وبيده الحق وإن فعل ذلك كان الواجب علينا الأخذ على يده ومنعه من ذلك
وأما قوله وما علمه وحده قضاه سرا فوجهه أنه على بصيرة وقد أمره الوصي بالنيابة وأقامه مقامه فكان عليه أن يقضي ديونه الثابتة عليه بالشرع وأثبتها وأحقها بالقضاء ما كان الوصي يعلم به ويتيقنه وإذا نوزع رافع إلى الحاكم ليقطع عنه اللجج
ولا وجه لقوله فإن منع أو ضمن ضمن بل ليس لأحد من الورثة منعه ولا تضمينه فيما هو معلوم لديه ومتيقن عنده وغاية ما يستحقه المخاصم له هو المرافعة إلى الحاكم فيحكم في ذلك بوجه الشرع ويقطع ما عرض بينهم من الخصومة
قوله ويعمل باجتهاده
أقول إذا عرف للموصي قصد كان العمل عليه ووجب على الوصي امتثاله لأن (4/492)
التنجيز والتقييد هو عائد إلى أمره للوصي بالنيابة فليس له أن يفعل غير ما رسمه له الموصي إلا أن يأمره بما لا يحل فليس له الإمتثال كما تقدم ومع التباس الأمر عليه ووقوع الخلاف في الحادثة ترافع إلى حاكم الشرع فما قضى به عمل عليه وقد قدمنا ما يغني عن التكرار ها هنا
وأما قوله ويصح الإيصاء منه فوجهه أنه قد ثبت له التصرف فيما أقامه الموصي فيه مقامه فله أني جعله إلى الغير في حال حياته ويكون له بمنزلة الوكيل وله أيضا أن يوصي به بعد موته إلى وصيه وليس في الشرع ما يمنع من هذا فالأصل الجواز وبهذا تعرف أن له أن ينصب معه من يعينه على التنفيذ لأن الأمر قد صار إليه والتنفيذ قد تعين عليه وليس بهذا بأس ولا عنه مانع من رواية ولا دراية
فصل
ويضمن بالتعدي والتراخي تفريطا حتى تلف المال فإن بقي أخرج الصغير متى بلغ وعمل باجتهاد الوصي وبمخالفته ما عين من مصرف ونحوه ولو خالف مذهبه قيل إلا في وقت صرف أو في مصرف واجب أو شراء رقبتين بألف لعتق والمذكور واحدة به وبكونه أجيرا مشتركا وإنما يستحقها إن شرطها أو اعتادها أو عمل للورثة فقط وهي من رأس المال مطلقا ومقدمة على ما هو منه (4/493)
قوله فصل ويضمن بالتعدي
أقول التعدي سبب مستقل للضمان لأنه أمر بأمر فليس له أن يتعداه ولا يخالفه فإن فعل فقد اختار لنفسه ضمان ما تلف بسبب تعديه وهكذا إذا تراخى تفريطا لا لسبب من الأسباب فإن تراخيه تساهل منه ومخالفة لأمر الموصي يوجب عليه الضمان لأن التنجيز قد صار واجبا عليه وإن أراد الخلوص من الوصايا فعل قبل أن يفرط بالتراخي فيتلف مال الغير بسببه
وأما قوله فإن فعل أخرج الصغير متى بلغ فالذي ينبغي في هذا أن يقال قد بطلت وصايته بتعديه أو تفريطه فإن لم يتلف المال كان الأمر إلى الوارث كما سيأتي أن لكل وارث ولاية كاملة مع عدم الوصي فإن كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه وإلا ناب عنه الإمام أو الحاكم ولا وجه لانتظار لبلوغه ولا العمل باجتهاد الوصي وهكذا يضمن الوصي بمخالفة ما عين الموصي إذا تسبب عن ذلك تلف شيء من المال لأنه مأمور بأمر فمخالفته له سبب لضمانه
وأما قوله وبكونه أجيرا مشتركا فوجهه أنه قد صار بالأجرة أجيرا مع كونه وصيا فيضمن ضمان الأجير وقد قدمنا الكلام على ما صرح به المصنف من تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك وإثبات أحكام لكل واحد منهما فليرجع إليه
وأما كونه لا يستحق الأجرة إلا مع الشرط أو الإعتبار فذلك ظاهر أما مع الشرط فلكون الموصي قد رضي بذلك فكان عليه القدر المشروط من الأجرة وأما مع الإعتياد فلكون معاملته محمولة على ما جرت به عادته ولكن إذا لم يعلم بذلك الوصي لم يجب عليه ولا على وارثه دفع ما يعتاده من الأجرة بل يدفع إليه أجرة المثل
وأما قوله أو عمل للورثة فلا وجه له بل لا بد من الشرط عليهم أو الإعتياد للأجرة في مثل ذلك وإلا فالأصل عندهم في المنافع عدم العوض فكان عليهم هنا أن لا يجعلوا مجرد العمل للورثة سببا لاستحقاق الأجرة (4/494)
وأما دعوى أن أجرة الوصي من رأس المال ومقدمة على ما هو منه فكلام لم يربط بدليل ولا اقتضاه رأي صحيح وغاية ما هناك أن تكون أجرته من مخرج ما يباشر إخراجه وتنفيذه فما كان من الرأس كانت أجرته فيه من الرأس وما كان من الثلث كانت أجرته فيه من الثلث تنزيلا له منزلة المستحقين لشيء من التركة من دين لهم أو صرف إليهم
فصل
فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة في التنفيذ وفي القضاء والإقتضاء من جنس الواجب فقط ولا يستبد أحد بما قبض ولو قدر حصته ويملك ما شرى به ويرجعون عليه لا على أي الغريمين فإن لم يكونوا فالإمام ونحوه
قوله فصل فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة
أقول القرابة لها زيادة اختصاص والورثة لهم أيضا مزيد خصوصية على سائر القرابة الذين لا يرثون ويدل على هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجه وابن سعد وعبد بن حميد وابن نافع والباوردي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة بإسناد رجاله ثقات عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال فأعطها فإنها محقة
وأما تقييد القضاء والإقتضاء والتنفيذ بكونه من جنس الواجب فوجهه ظاهر لأن في العدول عن الجنس مخالفة لقصد الموصي وقد يكون فيه مخالفة لغرض سائر الورثة (4/495)
وأما كونه لا يستبد أحد من الورثة بما قبض فوجهه واضح لأنه مشترك بين جميعهم ولا وجه لقوله ويملك ما شرى به ولكنه بنى على عدم تعين النقد فيملك ويغرم لهم مثله والظاهر أن لهم المطالبة بإرجاع عين النقد الذي قبضه لأنه فيما عدا نصيبه غاصب وقد قدمنا في الغصب ما قدمنا
وأما قوله فإن لم يكونوا فالإمام والحاكم فوجهه شمول ولايتهما بمثل هذا فإن تنفيذ وصايا الموصي بما يجب عليه التخلص عنه وبما يتقرب به من القرب حق عليهما لأن إهمال ذلك منكر والقيام به أمر بمعروف وهما أحق الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فصل
وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب ولو لوارث ومن المعدم بأن يبره الإخوان
قوله فصل وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب
أقول التقرب إلى الله عز و جل بطاعاته مشروع لعباده في كل وقت وإليه وقع الترغيب بالآيات والأحاديث الكثيرة وحالة الوصية من جملة الأوقات التي تدخل تحت تلك الأدلة ولا سيما والموصى أحوج ما كان إلى التقرب بالبر والإحسان ومثل هذا لا يحتاج إلى الإستدلال عليه بمثل قوله إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم الحديث المتقدم
وأما اشتراط أن يكون ماله غير مستغرق بالدين فوجهه أن قضاء ما يجب قضاؤه أهم من التقرب بما لا يجب وألزم وأحق (4/496)
وأما التقييد بالثلث فإن كان له وارث فهو صحيح وإن لم يكن له وارث فله أن يجاوزه كما قدمنا تحقيقه
قوله ولو لوارث
أقول إن كان الدليل على جواز الوصية للوارث هو ما ورد في القرآن من الوصية للوالدين والأقربين فقد وقع الإتفاق على أنه منسوخ غير ثابت الحكم والقول بأنه نسخ الوجوب وبقي الندب غير مسلم ولو سلمنا لكان ما ورد عنه صلى الله عليه و سلم من أنه لا وصية لوارث رافعا لهذا الندب ودافعا له فإنه قد ثبت ذلك من طرق منها ما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لغامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي من حديث أبي أمامة قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم بقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فقد تقرر عند الأئمة الحفاظ أنه قوي إذا روى عن الشاميين وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد صرح في روايته بالتحديث فلم يبق للحديث علة يعل بها ومنها ما (4/497)
أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة وقد حسنه ابن حجر في التلخيص وقال في الفتح رجاله ثقات قال لكنه معلول فقد قيل أن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وأخرج نحوه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا قال إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع انتهى وقد تقرر أن المرفوع زيادة غير منافية والعمل بها واجب فلا علة حينئذ للحديث ومنها ما أخرجه الدارقطني أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة وفي إسناده مقال وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وإسناده ضعيف وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد حكى ابن حجر عن الشافعي أنه قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عام الفتح لا وصية لوارث ويؤثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى
ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر فلم يبق ما يوجب الإشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب وهو ينسخ الكتاب العزيز إذا تأخر فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها (4/498)
وقد قدمنا لك أن الإتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريق أو بالحديث وأيضا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقا في القرآن لقوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين وما ورد في السنة كالحديث الذي تقدم من قوله ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه وهكذا يقيد قوله صلى الله عليه و سلم إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم وهكذا سائرها ورد في مشروعية الوصية مطلقا فلم يبق في المقام ما يقتضي التوقف عن إبطال الوصية للوارث وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وكتبنا فيه أبحاثا مطولة في جوابات أسئلة
قوله ومن المعدم بأن يبره الإخوان
أقول وجه هذا أن ذلك قد يكون منشطا لهم إلى صلته بالدعاء وغيره وأيضا إذا قد وقعت منه الوصية لحقه ما وصل به لأن الوصية سعي فيدخل تحت قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقد وردت الأدلة الكثيرة بأنه يلحق الإنسان أنواع من القرب وإن لم يوص وقد ذكرنا هذه الأنواع التي وردت بها الأدلة في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه - كتاب السير (4/499)
كتاب السير (4/501)
فصل
ويجب على المسلمين شرعا نصب إمام مكلف ذكر حر علوي فاطمي ولو عتيقا لا مدعي سليم الحواس والأطراف مجتهد عدل سخي بوضع الحقوق في مواضعها مدبر أكثر رأيه الإصابة مقدام حيث يجوز السلامة لم يتقدمه مجاب وطريقها الدعوة ولا يصح إمامان
قوله فصل يجب على المسلمين نصب إمام
أقول قد أطال أهل العلم الكلام على هذه المسألة في الأصول والفروع واختلفوا في وجوب نصب الإمام هل هو قطعي أو ظني وهل هو شرعي فقط أو شرعي وعقلي وجاءوا بحجج ساقطة وأدلة خارجة عن محل النزاع والحاصل أنهم أطالوا في غير طائل ويغني عن هذا كله أن هذه الإمامة قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الإرشاد إليها والإشارة إلى منصبها كما في قوله الأئمة من قريش وثبت كتابا وسنة الأمر بطاعة الأئمة ثم أرشد صلى الله عليه و سلم الإستينان بسنة الخلفاء (4/503)
الراشدين فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين وهو حديث صحيح وكذلك قوله الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم يكون ملكا عضوضا
ووقعت منه الإشارة إلى من سيقوم بعده ثم إن الصحابة لما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم قدموا أمر الإمامة ومبايعة الإمام على كل شيء حتى إنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه صلى الله عليه و سلم ثم لما مات أبو بكر عهد إلى عمر ثم عهد عمر إلى النفر المعروفين ثم لما قتل عثمان بايعوا عليا وبعده الحسن ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة حيث كان السلطان واحدا وأمر الأمة مجتمعا ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الإختلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هذه الغاية فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم وتأمين سبلهم وإنصاف مظلومهم من ظالمه وأمرهم بما أمرهم الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه ونشر السنن وإماتة البدع وإقامة حدود الله فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية ودع عنك ما وقع في المسألة من الخبط والخلط والدعاوي الطويلة العريضة التي لا مستند لها إلا مجرد القيل والقال أو الإتكال على الخيال الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
ثم من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة وبذل البيعة لهم ما أخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه من حديث الحارث الأشعري بلفظ (4/504)
من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية ورواه الحاكم من حديث ابن عمر ومن حديث معاوية ورواه البزار من حديث ابن عباس
وأما اشتراط أن يكون مكلفا فوجهه واضح لأن الصغير لا يصلح لتدبير أمور المسلمين بل لم يصلح لتدبير أمر نفسه فكيف يصلح لتدبير أمر غيره
وأما كونه ذكرا فوجهه أن النساء ناقصات عقل ودين كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن كان كذلك لا يصلح لتدبير أمر الأمة ولهذا قال صلى الله عليه و سلم فيما ثبت عنه في الصحيح لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
قوله حر
أقول أما الإمارة والسلطنة فلا مانع من ذلك ولا ورد في الشرع ما يدفعه بل ورد ما يقويه ويؤيده كما في الأحاديث الصحيحة المصرحة بطاعة السلطان كان عبدا حبشيا وقد أمر صلى الله عليه و سلم مولاه زيد بن حارثة وكذلك ولده أسامة بن زيد على أكابر المهاجرين والأنصار كما ذلك معروف في كتب الحديث والسير وأما الإمامة فقد بين النبي صلى الله عليه و سلم منصبها وصرح بما يصلح لها كما سيأتي
قوله علوي فاطمي (4/505)
أقول العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش وأعلاها شرفا وبيتا ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن الأئمة من قريش وهي كثيرة جدا وإن لم تكن في الصحيحين بل عددها في كل مرتبة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم زيادة على عدد المتواتر والمتواتر قطعي ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق أن الناس تبع لقريش في الشر والخير وقد بين هذا الخير والشر بقوله صلى الله عليه و سلم قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة كما في حديث عمرو بن العاص عند الترمذي والنسائي وكما في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما بلفظ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان وهو مروي من طريق غيره في الصحيح أيضا
فهذه الألفاظ تدل على أن المراد الإمامة الإسلامية وأما أمر الجاهلية فقد انقرض ومن جملة ما يدل على هذا أحاديث الأئمة من قريش كما ذكرنا ومن جملة ما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم ملك بعد ذلك وهو حديث حسن ومعنى الخلافة معنى الإمامة في عرف الشرع وهؤلاء الذين نص النبي صلى الله عليه و سلم على خلافتهم هم الخلفاء الأربعة وليس المراد بالإمامة هنا هو المعنى اللغوي الشامل لكل من يأتم به الناس ويتبعونه على أي صفة كان بل المراد الإمامة الشرعية ومن هذا قول أبي بكر يوم السقيفة محتجا على الأنصار إن (4/506)
العرب لا تعرف هذا الأمر لغير هذا الحي من قريش وقد حكى القاضي عياض والنووي الإجماع على أن الخلافة مختصة بقريش لا تجوز في غيرهم
قوله سليم الحواس والأطراف
أقول وجهه أن المقصود بالولاية العامة هو تدبير أمور الناس على العموم والخصوص وإجراء الأمور مجاريها ووضعها مواضعها وهذا لا يتيسر ممن في حواسه خلل لأنها تقتضي نقص التدبير إما مطلقا أو بالنسبة إلى تلك الحاسة
وأما سلامة الأطراف فلا وجه لاشتراطها فإن الأعرج والأشل لا ينقص من تدبيره شيء ويقوم بما يقوم به من ليس كذلك ومعلوم أنه لا يراد من مثل الإمام السباق على الأقدام ولا ضرب الصولجان ولا حمل الأثقال
قوله مجتهد
أقول المقصود من نصب الأئمة هو تنفيذ أحكام الله عز و جل وجهاد أعداء الإسلام وحفظ البيضة الإسلامية ودفع من أرادها بمكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وتأمين السبل وأخذ الحقوق الواجبة على اما اقتضاه الشرع ووضعها في مواضعها الشرعية فمن بايعه المسلمون وقام بهذه الأمور فقد تحمل أعباء الإمامة فإن انضم له إلى هذه الإمامة كونه إماما في العلم مجتهدا مطلقا في مسائله فلا شك ولا ريب أنه أنهض من الإمام الذي لم يبلغ رتبة الإجتهاد لأنه يورد الأمور ويصدرها عن علو ولكن لا دليل على أنه لا يولي الأمر إلا من كان بهذه المنزلة من الكمال وفي هذه الغاية القصوى من محاسن الخصال وليس النزاع في الأكمل ولا في الأفضل بل المراد فيمن يصلح لتولي هذا المنصب ومن قام بتلك الأمور ونهض بها فهو المراد من الإمامة والمراد بالإمام وعليه (4/507)
أن ينتخب من العلماء المبرزين المجتهدين المحققين من يشاوره في الأمور ويجريها على ما ورد به الشرع ويجعل الخصومات إلى أهل هذه الطبقة فما حكموا به كان عليه إنفاذه وما أمروا به فعله ومعرفة أهل هذه الطبقة لا يخفى على العقلاء الذين لا نصيب لهم في العلم فإنه لا بد أن يرفع الله لهم من الصيت والشهرة ما يعرف به الناس أنهم الطبقة العالية من جنس أهل العلم وليس للإمام إذا لم يكن مجتهدا أن يستبد بما يتعلق بأمور الدين ولا يدخل نفسه في فصل الخصومات والحكم بين الناس فيما ينوبهم لأن ذلك لا يكون إلا من مجتهد كما قدمنا من القضاء
والحاصل أنه لا دليل في المقام يوجب علينا اشتراط اجتهاد الأئمة حتى يجب المصير إليه ولا إجماع حتى يكوت التعويل عليه وليس في المقام إلا مجرد المجادلة بمباحث راجعة إلى الرأي البحت كما يعرف ذلك من يعرفه وما أهون مثلها على المحققين من علماء الدين المتقيدين بالدليل المحكمين للشرع
قوله عدل
أقول العدالة ملاك الأمور وعليها تدور الدوائر ولا ينهض بتلك الأمور التي ذكرنا أنها المقصودة من الإمامة إلا العدل الذي تجري أفعاله وأقواله وتدبيراته على مراضي الرب سبحانه فإن من لا عدالة له لا يؤمن على نفسه فضلا عن أن يؤمن على عباد الله ويوثق به في تدبير دينهم ودنياهم ومعلوم أن وازع الدين وعزيمة الورع لا تتم أمور الدين والدنيا إلا بها ومن لم يكن كذلك خبط في الضلالة وخلط في الجهالة واتبع شهوات نفسه وآثرها على مراضي الله ومراضي عباده لأنه مع عدم تلبسه بالعدالة وخلوه من صفات الورع لا يبالي بزواجر الكتاب والسنة ولا يبالي أيضا بالناس لأنه قد صار متوليا عليهم نافذ الأمر والنهي فيهم فليس لأهل الحل والعقد أن يبايعوا من لم يكن عدلا إذا قد اشتهر بذلك إلا أن يتوب ويتعذر عليهم العدول إلى غيره فعليهم أن يأخذوا عليه بأعمال العادلين والسلوك في مسالك المتقين ثم إذا لم يثبت على (4/508)
ذلك كان عليهم أمره بما هو معروف ونهيه عما هو منكر ولا يجوز لهم أن يطيعوه في معصية الله ولا يجوز لهم أيضا الخروج عليه ومحاكمته إلى السيف فإن الأحاديث المتواترة قد دلت على ذلك دلالة أوضح من شمس النهار ومن له اطلاع على ما جاءت به السنة المطهرة انشره صدره لهذا فإذا به يجتمع شمل الأحاديث الواردة في الطاعة مع ما يشهد لها من الآيات القرآنية وشمل الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشمل الأدلة الواردة في أنه لا طاعة في معصية الله وهي كثيرة جدا لا تيسع لها إلا مولف بسيط
قوله سخي بوضع الحقوق في مواضعها
أقول قد عرفناك أن هذا من مقاصد الإمامة ومن الأمور التي تراد بها ومثل هذا أن لا يأخذها إلا من مواضعها الشرعية ولا فائدة للتنصيص على جزئيات ما توحيه العدالة وتقتضيه فإنه إذا أخذ الشيء من غير موضعه كان ظالما والظالم ليس بعدل وإذا شح عن وضعه في موضعه كان أيضا ظالما لمن هو له والظالم ليس بعدل
قوله مدبر أكثر رأيه الإصابة
أقول وجهه أن من لم يكن أكثر رأيه الإصابة هو في عداد الحمقى الذين لا يصلحون لتدبير أنفسهم فضلا عن تدبير سائر المسلمين
والحاصل أنه إذا كان عاقلا متأنيا في الأمور متجنبا للعجل والحرد ومباشرة الأمور حال الغضب كان غالب تدبيره الإصابة ولا سيما إذا اقتدى بكتاب الله وسنة رسوله في المشاورة لأهل الرأي فإن الله سبحانه قد ندب إلى ذلك رسوله المعصوم فكيف لا يقتدي به غيره ويمتثل أمر الله سبحانه وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم شاور الصحابة حين بلغه إقبال أبي سفيان وقد أطبق العقلاء (4/509)
حسن الإستشارة في الأمور ومعلوم أن اجتماع الرأي من رجلين أحزم من رأي الواحد نفسه فكيف إذا طابق على ذلك الرأي جماعة كما قال القائل ... ورأيان أحزم من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض ...
وما أحسن قول القائل في المشورة ... إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أونصيحة حازم ... ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم ...
قوله مقدام حيث تجوز السلامة
أقول لا بد أن يكون مع الإمام من قوة القلب وشدة البأس ما يحمله على مناجزة الأعداء ومثاغرة الخارجين على الإسلام فإن كان من الجبن بمكان يمنعه عن ذلك فقد أصيب بسبب هذه الغريزة التي يبغضها الله بفقدان أعظم المقاصد من إمامته لأنه يتنكب عن مواطن القتال ويضعف عن مصابرة النزال فيسري جبنه إلى غيره وتعم بذلك البلوى ويتسلط على المسلمين الأعداء ومع هذا فقد يحمله جبنه وضعف قلبه على عدم إقامة الحدود والقصاص والتنكيل بمن سعى في الأرض فسادا وضرب أعناق من أوجب الشرع ذلك عليه وإن كانوا عددا جما فمن كان معروفا بهذه الغريزة لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يبايعوه وإذا ابتلوا بمبايعته فلا يجوز لهم أن يتابعوه في فشله وجبنه بل يقيمونه يوقومون معه فإن قعوده عن الحرب في الوقت الذي تحق فيه الحرب يفضي بالمسلمين إلى الضرر العظيم في أبدانهم وأموالهم وحرمهم
قوله لم يتقدمه مجاب
أقول وجه هذا أنه إذا قد تقدمه من أجابه الناس وبايعوه فالثاني باغ خارج على الإمام (4/510)
وقد قدمنا أنها قد تواترت الأحاديث في النهي عن الخروج على الأئمة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أو يتركوا الصلاة فإذا لم يظهر من الإمام الأول أحد الأمرين لم يجز الخروج عليه وإن بلغ في الظلم أي مبلغ لكنه يجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الإستطاعة وتجب طاعته إلا في معصية الله سبحانه وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم الأمر بقتل الإمام الآخر الذي جاء ينازع الإمام الأول وكفى بهذا زاجرا وواعظا
قوله وطريقها الدعوة
أقول طريقها أن يجتمع جماعة من أهل الحل والعقد فيعقدون له البيعة ويقبل ذلك سواء تقدم منه الطلب لذلك أم لا لكنه إذا تقدم منه الطلب فقد وقع النهي الثابت عنه صلى الله عليه و سلم عن طلب الإمارة فإذا بويع بعد هذا الطلب انعقدت ولايته وإن أثم بالطلب هكذا ينبغي أن يقال على مقتضى ما تدل عليه السنة المطهرة ومن طريقها أيضا أن يعهد الخليفة الأول إلى الخليفة الآخر كما وقع من أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة ومن طرقها أيضا أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتوالون عليه ويبايعونه كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه
والحاصل أن المعتبر هو وقع البيعة له من أهل الحل والعقد فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة ويثبت به الولاية وتحرم معه المخالفة وقد قامت على ذلك الأدلة (4/511)
وثبتت به الحجة
أقول إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك
وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وف يالقطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدرى من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمين وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها (4/512)
فصل
وعلى من تواترت له دعوته دون كماله أن ينهض فيبحثه عما يعرفه وغيره عما لا يعرفه وبعد الصحة تجب طاعته ونصيحته أو بيعته إن طلبها وتسقط عدالة من أباها ونصيبه من الفيء ويؤدب من يثبط عنه أو ينفى ومن عاداه فبقلبه مخطىء وبلسانه فاسق وبيده محارب وله نصيبه من الفيء إن نصر
والجهاد فرض كفاية ويخرج له ولكل واجب أو مندوب غالبا وإن كره الوالدان ما لم يتضررا
قوله فصل وعلى من تواترت له دعوته إلخ
أقول قد أغنى الله عن هذا النهوض وتجشم السفر وقطع المغاوز ببيعة من بايع الإمام من أهل الحل والعقد فإنها قد ثبتت إمامته بذلك ووجبت على المسلمين طاعته وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين فإن هذا الإشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم ولكن التحكم في مسائل الدين وإيقاعها على ما يطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا
وإذا تقرر لك ما ذكرناه فهذا الذي قد بايعه أهل الحل والعقد قد وجبت على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه طاعته بالأدلة المتواترة ووجبت عليهم نصيحته كما صرحت به أحاديث النصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم
وأما قوله وبيعته فقد عرفناك أنها السبب الذي ثبتت به الولاية ووجبت عنده (4/513)
الطاعة ولكن على كل مسلم في ذلك القطر أن يقبل إمامته بعد وقوع البيعة له ويطيعه في الطاعة ويعصيه في المعصية ولا ينازعه ولا ينصر من ينازعه فإن لم يفعل هكذا فقد خالف ما تواتر من الأدلة وصار باغيا ذاهب العدالة مخالفا لما شرعه الله ووصى به عباده في كتابه من طاعة أولي الأمر ومخالفا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من إيجاب الطاعة وتحريم المخالفة كما عرفناك
وأما كونه يسقط نصيبه من الفيء فلم يرد ما يرد على هذا لأنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم
وأما قوله ويؤدب من يثبط عنه فالواجب دفعه عن هذا التثبيط فإن كف وإلا كان مستحقا لتغليظ العقوبة والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره لأنه مرتكب لمحرم عظيم وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء وتهتك عندها الحرم وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية
وأما قوله ومن عاداه إلخ فلا يخفاك أن الممنوع منه إنما هو المعصية له وترك الطاعة في غير المعصية والخروج عليه لما تواتر من الأحاديث كما عرفت ومن مقدمات الخروج عليه ما تقدم ذكره من التثبيط وتهييج الشر وإذكاء ناره وفتح أبوابه
وأما كون له نصيبه من الفيء إن نصر فالظاهر أنه لا يسقط نصيبه وإن أثم بمجرد عدم النصرة وترك الطاعة كما تقدم
قوله والجهاد فرض كفاية (4/514)
أقول الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ها هنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عيني على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع رسوله الله صلى الله عليه و سلم فقال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما وعاتبهم لما تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله إلى آخر الآية وعلى استنفار الإمام يحمل قوله سبحانه انفروا خفافا وثقالا ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عز و جل وما كان المؤمنون لينفروا كافة فتحمل هذه الآية على أنه قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ
وأما قوله ولكل واجب فوجه ذكره ها هنا استيفاء ما يجب الخروج له أو يندب وإن كره الولدان ما لم يتضررا ولا يخفاك أن الواجبات مختلفة فمنها ما لا (4/515)
يتم القيام به إلا بالخروج إليه كالجهاد والحج والهجرة ونحو ذلك وكل واحد من هذه وجوب الخورج له مقيد بقيود مشروطة بشروط هي مقررة في مواطنها وأما ضم الخروج للمندوبات إلى الخروج إلى الواجبات مع كراهة الأبوين فغير صواب لأن تجنب ما يكرهانه واجب فكيف يخرج للمندوب مع كراهتهما لخروجه وكيف يجوز ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ثبت عنه في صحيح البخاري وغيره من حديث عبدالله بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فاستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديثه أيضا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه و سلم من اليمن فقال هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال أذنا لك قال لا قال ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما وأخرج أحمد والبيهقي والنسائي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجيئتك أستشيرك فقال هل لك من أم قال نعم فقال الزمها فإن الجنة عند رجليها
وإذا كان هذا في الجهاد الذي هو سنام الدين وأساسه فما بالك بما عداه من الواجبات (4/516)
فضلا عن المندوبات وقد ذهب الجمهور إلى وجوب استئذان الوالدين للجهاد وجزموا بتحريمه إذا منعا منه أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية
فصل
وإليه وحده إقامة الحدود والجمع ونصب الحكام وتنفيذ الأحكام وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب ونصب ولاة المصالح والأيتام وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم وأخذ الحقوق كرها وله الإستعانة من خالص المال بما هو فاضل عن كفاية السنة حيث لا بيت مال ولا تمكن من شيء يستحقه أو استعجال الحقوق أو قرض يجد قضاءه في المستقبل وخشي استئصال قطر من أقطارالمسلمين والإستعانة بالكفار والفساق حيث معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين قتلا أو بسببهما والحرب قائمة وإلا حبس الباغي وقيد وأن يعاقب بأخذ المال وإفساده وعليه القيام بما إليه أمره وتسهيل الحجاب إلا في وقت أهله وخاصة أمره وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم واستشارتهم وتهد الضعفاء والمصالح ولا يتنحى ما وجد ناصرا إلا لأنهض منه وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها ولو فاسقا وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام غالبا والبغاة إلى الطاعة وندب أن يكرره عليهم ثلاثا وتنشر فيها الصحف وترتب الصفوف
قوله فصل وإليه وحده إقامة الحدود
أقول لا شك أنه الأولى بذلك من غيره لعموم ولايته ولما كان عليه الأمر في أيام النبوة وأيام الخلفاء الراشدين وأما كونها إليه وحده لا يجوز لغيره إقامتها فغير مسلم وقد قدمنا في الحدود ما فيه كفاية وكذلك قدمنا في القضاء ما يغني عن الإعادة هنا
وأما تنفيذ الأحكام فإن كان القاضي قادرا على إنفاذ ما حكم به فذلك إليه وإلا كان على الإمام بل وعلى كل قادر تنفيذ ما حكم به إذا كان جاريا على الحق موافقا للصواب (4/517)
لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهكذا إلزام من عليه حق الخروج منه هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام أولى الناس بذلك ولكنه إذا تقاعد لم يسقط الوجوب على غيره من أهل القدرة على الإلزام
قوله والحمل على الواجب
أقول أدلة الكتاب والسنة الكثيرة المتواترة قد دلت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم وهذا هو أعظم أعمدة الدين وأقوى أساساته وأرفع مقاماته ولا شك أن الحمل على فعل الواجب يدخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا قام بذلك الإمام فهو رأس الأمة وصاحب الولاية العامة وكان قيامه مسقطا للوجوب على غيره وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق على كل مكلف يقدر على ذلك والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصيته في هذا لأنهم رءوس الناس والمميزون بينهم بعلو القدر ورفعة الشأن وقد جاء الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع بما هو سراب بقيعة وتعرض للكلام على ما كان له عنه مندوحة فإنه وقع في خلاف إجماع المسلمين وضرورة الدين
وأما قوله ونصب ولاة المصالح والأيتام فمثل هذا يكون إلى الحاكم كما يكون إلى الإمام بل يكون إلى كل صالح له من المسلمين ولم يرد ما يوجب اختصاصه بالإمام لا من دراية ولا رواية
قوله وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم
أقول أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله رسله وأنزل كتبه ومازال رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا لهذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شئونه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها (4/518)
المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم
وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل سائر المسلمين ولا شك أن ذلك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهدوا بالمعصية وقد قال الله عز و جل فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده المصنف لذلك
وأما قوله وأخذ الحقوق كرها فوجهه ظاهر واضح بل يجب عليه مقاتلتهم إذا لم يسلموها كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (4/519)
إلخ وقد دخل أخذ الحقوق كرها تحت ما تقدم من قوله وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب لأنها أهم الحقوق الواجبة ومنعها ظلم لمن جعلهم الله مصرفا لها من الثمانية الأصناف
قوله والإستعانة من خالص المال إلخ
أقول وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع وجود بيت مال المسلمين وعدم التمكن من الإقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه ومن الإستعداد له للجهاد كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء ويعين بفاضل ماله الخالص ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الإقتران ويقضيه من بيت مال المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس لأن أموالهم خاصة بهم وبيت المال مشتركا بينهم فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين كما قدمنا
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن هذه الإستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة لجهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين أو جهاد من أبي من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة فاعرف هذا فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك وأعطاهم نصيبهم من الحطام ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض والأمر لله العلي الكبير (4/520)
قوله والإستعانة بالكفار والفساق
أقول أما الإستعانة بالفساق فلا مانع منها لأنهم من جملة المسلمين ولم يرد ما يدل على أنه لا يستعان إلا بمن كان مؤمنا صحيح الإيمان غير ملابس للمعاصي وقد استعان النبي صلى الله عليه و سلم بالمنافقين في كثير من حروبه وهم في الظاهر أشر من فساق المسلمين وفي البطان أضر من المعلنين بالشرك ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار
وأما الإستعانة بالكفار فلا تجوز على قتال المسلمين لأنه من تعاضد الكفر والإسلام على الإسلام وقبح ذلك معلوم ودفعه بأدلة الشرع لا يخفى وأما الإستعانة بالكفار على الكفار فقد وقع ذلك منه صلى الله عليه و سلم في غير موطن ووقع منه الرد لمن أراد إعانته من المشركين على قتال المشركين وقال لهم إنه لا يستعين بمشرك ويمكن الجمع بأن الجواز مع الحاجة ورجاء النفع والرد مع عدمهما أو أحدهما فيكون ذلك مفوضا إلى نظر الإمام (4/521)
وأما قوله حيث معه مسلمون إلخ فوجهه أنه صلى الله عليه و سلم ما استعان بأحد من المشركين أو المنافقين إلا ومعه طائفة من خلص المسلمين
قوله وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين
أقول أما الكفار فدماؤهم على الأصل الإباحة كما في آية السيف فكيف إذا نصبوا الحرب فظفر المسلمون بأسير أو جاسوس منهم فإنه يجوز للإمام قتلهما كما قتل صلى الله عليه و سلم من قتل من أسرى بدر وكما فعل في بني قريظة وحكما قال الله عز و جل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض وله المن أو الفداء كما قال الله عز و جل فإما منا بعد وإما فداء فعرضت بهذا أنه لا وجه لقوله قتلا أو بسببهما فإنه لم يرد في الشرع ما يدل على هذا الإشتراط في حق الكفار أبدا وأما البغاة فدماؤهم معصومة بعصمة الإسلام لا يجوز قتلهم إلا دفاعا إذا صالوا على المسلمين وبغوا عليهم ولم يرد في الشريعة ما يدل على قتل أسيرهم ولا قتل جاسوسهم سواء كانت الحرب قائمة أم لا بل ورد ما يدل على أنه لا يقتل أسير البغاة كما سيأتي في الفصل الذي أفرده المصنف لذكر أحكام البغاة فإن كان الأسير أو الجاسوس من البغاة قد قتلا قتلا يوجب عليهما القصاص كان قتلهما قصاصا وهو باب آخر غير باب البغي
وأما قوله أو بسببهما فلا وجه له لأن التسبب للقتل لا يوجب القصاص كما تقدم في الجنايات (4/522)
والحاصل أن هذه المسألة مبنية على غير أساس من طرفيها جميعا والصواب ما ذكرناه فاعرفه
وأما قوله وإلا حبس الباغي وقيد فهذا إن رآه الإمام صلاحا كان ذلك جائزا لأنه قد استحق ببغيه ما يستحقه العصاة من التعزير ولو لم يكن إلا كفه عن البغي بحبسه حتى يصلح ويتوب
قوله وأن يعاقب بأخذ المال أو فساده
أقول قد تقرر بالأدلة الثابتة في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة عصمة مال المسلم وتحريم أكله بالباطل وأنه لا يحل بطيبة من نفسه وأن أصل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم الحرمة فالواجب العمل على هذا الأصل والثبوت عليه وعدم الخروج عنه إلا بدليل ناهض يصلح للنقل فما ورد على وجه الصحة مما فيه العقوبة بأخذ المال أو إفساده كان مقصورا على محله لا يتعداه كما هو شأن ما ورد على خلاف القياس فضلا عن خلاف ما هو قطعي من قطعيات الشريعة هذا على فرض أنها لم تنسخ العقوبة بالمال وأنها ثابتة في تلك المواضع التي كان ورودها فيها وأما إذا كانت منسوخة فقد انقطع عرق مفسدتها وانهدمت ذريعتها وبطل حكمها وأراحنا الله من الإشتغال بها فإن هذه المسألة صارت ذريعة يتوصل بها إلى نهب أموال الرعايا ويصولون بها على من أنكر عليهم وقد تكررت مني الأبحاث فيها وأفردتها برسالة مستقلة فاشدد يديك على ما ذكرناه ولا تقبل إلا حجة صحيحة ثابتة عمن تقوم به الحجة فإنه لا يحجة فيما ورد عن بعض الصحابة ولا يجوز العمل به فيما لم يرد فيه دليل فكيف والدليل القطعي قائم بعصمة مال المسلم
قوله وعليه القيام بما أمره إليه
أقول لما فرغ المصنف رحمه الله من ذكر ما هو للإعلام من الرعية ذكر ما هو عليه ومن جملة ذلك القيام بما أمره إليه وقد تقدم ذكره مفصلا لأن ذلك هو الغرض (4/523)
المقصود من نصبه إماما
وأما قوله وتسهيل الحجاب فوجهه أنها لما كانت حوائج المسلمين متعلقة به وهم محتاجون إليه لدفع ما ينوبهم ورفع ما نزل بهم كان احتجابه إضرارا بهم وإهمالا لحوائجهم وهذا خلاف ما هو المقصود من إمامته والمطلوب من زعماته فلو لم يرد في النهي عن الإحتجاب شيء لكان هذا كافيا فكيف وقد وردت الأدلة المصرحة بأشد الوعيد عليه إذا احتجب عنهم كما في حديث أبي مريم الأزدي عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتج دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والحاكم من حديث عمرو بن مرة الجهني وهذا الوعيد عن الإحتجاب لا يختص بالإمام بل يعم كل من ولي شيئا من أمور المسلمين ولا يجب عليه استغراق الأوقات لأنه يحتاج إلى النظر في أمور المسلمين خاليا وتدبير ما يتعلق بهم ومفاوضة وقت طعامه وشرابه ونومه وما يمس حاجته إليه وقد أشار المصنف إلى بعض هذا بقوله إلا في وقت حاجته وخاصة أمره
قوله وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم
أقول قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجالس أكابر الصحابة ويشاورهم في أموره ويأذن لهم في أوقات لا يأذن لغيرهم فيها كما هو معروف بل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلط نفسه بكثير من الصحابة ويجلس إلى أصل الصفة وهم فقراء المسلمين الذي لا أهل لهم ولا مسكن والأمر في هذا معلوم وفي تقريب أهل الفضل فوائد جليلة فيها أن الإمام يجري الأمور على ما عندهم من النظر فيما فيه (4/524)
صلاة المسلمين فإن فضلهم يقتضي ذلك وأما تعظيمهم فهو أيضا من حق المسلم على المسلم ومن تنزيل الناس منازلهم كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأما استشارتهم فقد قدمنا الكلام على ذلك عند قوله أكثر رأيه الإصابة
قوله وتعهد الضعفاء
أقول هذا من أهم الواجبات على الأئمة وأعظم معين عليه تسهيل الحجاب والبحث عن أحوالهم بثقات يرفعون حوائج المحتاجين إليه ويوصلون أغراضهم إلى مقامه وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدور بالليل لمثل هذا المقصد فيأتي منازل الضعفاء والمحتاجين ويسألهم عن حالهم
قوله ولا يتنحى إلا لأنهض منه
أقول الأنهضية هي باعتبار ما هو معظم المقصود من نصب الأئمة ومن ذلك حياطة المسلمين ودفع عدوهم والأخذ على يد ظالمهم وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم وتفريق بيت مالهم فيهم على ما أوجبه الشرع فمن كان ناهضا بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة وينتفع الناس بولايته ويشملهم الأمن والدعة ويطيب عيشهم ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علما منع أو أوسع عبادة أو أعظم ورعا فإنه إذا كان غير ناهض بهذه الأمور فلا يعود على المسلمين من علمه وعبادته وورعه فائدة ولا ينفعهم كونه مريدا للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه
قوله وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها
أقول صلاح أمير السرية أن يكون عارفا بقيادة الجيش بصيرا بترتيب المحاربين في مواطن الحرب ثابت القدم عند ملاحمة القتال قوي القلب واسع الصدر حسن التدبير خبيرا بالكيفية التي يكون بها رجاء انتصار الجيش يقدم إذا وجد الإقدام (4/525)
مغنما يحجم إذا رأى الإحجام حزما وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبعث سرية قليلة ولا كثيرة إلا وجعل عليها أميرا كما هو معلوم من كتب الحديث والسير
وأما قوله ولو فاسقا فإن اقتضت ذلك الضرورة ودفعت إليه الحاجة فلا بأس ويأخذ عليه الإمام ما يخشى على الجيش من جهة فسقه ويأخذ على الجيش أن لا يطيعوه في معصية الله وفي الصحيحين وغيرهما من حديث علي قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له وييطعوا فأغضبوه في شيء فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكروا ذلك له فقال لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف
قوله وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام
أقول كان على المصنف أن يزيد على هذا فيذكر أنهم إذا أبوا دعاهم إلى الجزية والأحاديث الواردة في توصيته صلى الله عليه و سلم لأمراء الجيش أن يقدموا الدعوة على الحرب كثيرة جدا حتى أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم والطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال ما قاتل رسول الله صلى الله عليه و سلم قوما قط إلا دعاهم وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث فروة ابن مسيك قال قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم قال نعم فلما وليت دعاني فقال لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام (4/526)
وإذا رأى الإمام في ترك الدعوة صلاحا فعل فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من طريق نافع لما كتب إليه ابن عون يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار رسول الله صلى الله عليه و سلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ثم قال نافع حدثني به عبدالله بن عمر وكان في ذلك الجيش وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبدالله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم وفي الصحيحين وغيرهما من حديث الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم وقد جمع بين هذه الأحاديث وما ورد في معناها بأنه يجب تقديم الدعوة لمن لم يبلغهم الدعوة ولا يجب إن كانت قد بلغتهم ولكنها تستحب فقط قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم
وهكذا تقديم الإمام دعاء البغاة عليه إلى الرجوع إلى طاعته لأنهم بغوا بسبب الخروج من طاعته فإن لم يرجعوا إلى الطاعة التي أوجبها الشرع للأئمة فقد بغوا وقد قال الله عز و جل فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله
وأما كون الدعاء يندب أن يكون عليهم ثلاثا فلا دليل على ذلك وإن كان التكرير أبلغ في المعذرة وأدخل في الإنذار
قوله وتنشر فيها الصحف (4/527)
أقول هذه بدعة لم يرد بها الشرع ولكنه إذا رأى الإمام أن في ذلك مزيد تأثير من بغي وارعواء من فارق الحق فلا بأس به لأنها قد ترتبت عليه مصلحة
وأما ما ذكره من ترتيب الصفوف فذلك أمر يرجع إلى الممارسين للحرب العارفين بما فيه رجاء الغلب وتمام النصرة فإن كان ترتيب المجاهدين صفوفا هو الذي يقتضيه التدبير أمر الإمام بذلك وإن كان الأنفع جعلهم كراديس أو تفريقهم في الجوانب أو خروج بعضهم إلى القتال ووقوف البعض الآخر ردءا له فعل ذلك
فصل
فإن أبوا وجب الحر بإن ظن الغلب فيفسق من فر إلا متحيزا إلى فئة ردءا أو منعة وإن بعدت أو لخشية الإستئصال أو نقص عام للإسلام
ولا يقتل فان ومتخل وأعمى ومقعد وصبي وامرأة وعبد إلا مقاتلا أو ذا رأي أو متقي به للضرورة لا بمسلم إلا لخشية الإستئصال وفيه الدية والكفارة ولا يقتل ذو رحم رحمه إلا مدافعة عن نفسه أو غيره أو لئلا يحقد من قتله
قوله فصل فإن أبوا وجب الحرب إن ظن الغلب
أقول هذا هو الذي ثبت في الأدلة الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يأمر أمراء الجيش بالدعوة إلى الإسلام أو الجزية فإن أبوا قاتلوهم وأما (4/528)
تقييد ذلك بظن الغلب فلم يرد ما يدل عليه بل يجب القتال مع تجويز أن يكونوا غالبين أو مغلوبين والحرب سجال
ومن ظن ممن يلاقي الحروب بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
وأما إذا علموا بالقرائن القوية أن الكفار غالبون لهم مستظهرون عليهم فعليهم أن يتنكبوا عن قتالهم ويستكثروا من المجاهدين ويستصرخوا أهل الإسلام وقد استدل على ذلك بقوله عز و جل ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وهي تقتضي ذلك بعموم لفظها وإن كان السبب خاصا فإن سبب نزولها أن الأنصار لما قاموا على زرائعهم وإصلاح أموالهم وتركوا الجهاد أنزل الله في شأنهم هذه الآية كما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه والحاكم أيضا وقد تقرر في الأصول أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب فقد ألقى بيده إلى التهلكة
قوله فيفسق من فر إلخ
أقول قد ثبت أن الفرار من موبقات الذنوب كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اجتنبوا السبع الموبقات ثم عد منهن الفرار التولي يوم الزحف وقد قال الله عز و جل ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو (4/529)
متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله وناهيك بمعصية يبوء صاحبها بغضب الله عليه ولكن لا بد أن يكونوا كما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت الآية الآن خفف الله عنكم الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين فإذا كان المسلمون مثل نصف المشركين حرم عليهم الفرار وإلا كان جائزا وقد استثنى الله سبحانه المتحرف للقتال والمتحيز إلى فئة فليس هذا من الفرار المحرم والفئة تكون ردءا وتكون منعة كما قال المصنف ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للطائفة التي فرت إليه أنا فئتكم كما في حديث ابن عمر عند أحمد وأبي ماجة وابن ماجه والترمذي وحسنه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال معروف
وأما قوله أو لخشية الإستئصال أو نقص عام فوجهه أن المصابرة والإقدام على القتال مع أحد الأمرين يعود على المسلمين بالوهن والضعف وقد وقع الفرار في أيام النبوة في غير موطن وعذرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث كانوا قد خشوا مثل ذلك بل سمى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجوع خالد بن الوليد واستخراجهم من ملاحمة المشركين فتحا والقصة معروفة في كتب السير والحديث (4/530)
وكان ذلك بعد أن قتل أمير الجيش وهو زيد بن حارثة ثم الأمير الذي بعده وهو عبد الله بن رواحة ثم أخذ الراية خالد ورجع بالمسلمين
قوله ولا يقتل فان الخ
أقول وجهه ما أخرجه أبو داود من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة وفي إسناده خالد بن الفرز وفيه مقال وأخرج أحمد من حديث ابن عباس بلفظ ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع وفي إسناده إبارهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف ووثقه أحمد وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النساء والصبيان وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح بن ربيع عنه صلى الله عليه و سلم لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا وأخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ابن كعب بن مالك عن عمه قال نهى رسول الله (4/531)
صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان وأخرج أحمد أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث الأسود بن سريع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقتلوا الذرية في الحرب وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة بلفظ اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جرير نحوه أيضا
فهذه الأحاديث قد دلت على المنع من قتل الشيخ الفاني والمتخلي للعبادة والنساء والصبيان والعسيف وهو الأجير ولا بد أن يكون الشيخ فانيا لا إذا بقي له قوة بحيث يقدر على القتال فإنه يقتل وإن لم يقاتل كما يدل عليه حديث سمرة المذكور ولكن هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة وقد مر غير مرة أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وأيضا في إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال مشهور والأولى أن يقال إن وصف الشيخ بكونه فانيا مقيد بما أطلق فيه ذكر الشيخ فيحمل المطلق على المقيد ولا يحرم إلا قتل الشيخ الفاني ولم يرد ما يدل على عدم جواز قتل الأعمى والمقعد إلا أنهما بمنزلة الشيخ في عدم القدرة على القتال فيجوز إلحاقهما به
وأما العبد فلم يرد ما يدل على عدم جواز قتله وقد كان المسلمون يقتلون من قاتل من المشركين من أحرارهم وعبيدهم وقد يكون للعبد مزيد تأثير في القتال على الأحرار كما كان من وحشي يوم أحد ولا يصح قياسه على العسيف لأن العسيف لايقاتل وإنما هو لحفظ المتاع والدواب وإن قاتل جاز قتله ولهذا قال المصنف إلا مقاتلا فمن قاتل من هؤلاء جاز قتله (4/532)
وأما جواز قتل ذي الرأي فلم يرد ما يدل عليه بعد اتصافه بوصف ما يوجب عدم جواز قتله من كونه شيخا أو متخليا للعبادة أو امرأة إلا أن يقال إن لحوق الضرر بالمسلمين بما يصدر عنه من الرأي فقد يكون أشد من مقاتلة المقاتل ولكن هذا رأي مجرد والتخصيص للأدلة بمجرد الرأي لا يصح عند المنصفين
قوله أو متقى به للضرورة
أقول الوجه في قتل الترس ما يلحق المسلمين من الضرر بتركه فإن الكفار لو جعلوا من لا يبيح الشرع قتله منهم تروسا لهم ليحصنوا أنفسهم من سهام المسلمين ورماحهم وكان يخشى من مخالطتهم للمسلمين بالقتال أن يكثر القتل في المسلمين أو يغلبوا جاز قتل الترس دفعا للمفسدة العظيمة بمفسدة دونها بمراحل وأدلة الشريعة الكلية تقتضي هذا وأما إذا كان الترس مسلما وخشي استئصال المسلمين لمخالطة الكفار لهم بالقتال وملاحمتهم لهم فلا شك أن قتل واحد أو جماعة أهون من استئصال جيش المسلمين وإدخال الوهن على كل مسلم في الأقطار الإسلامية فهذا أهون من دفع المفسدة الكبيرة بمفسدة صغيرة وفي الشر خيار ولكن لا يكتفى في ذلك بمجرد الظنون الكاذبة والخيالات المختلة فإن خطر قتل المسلم عظيم بل لا بد أن يكون خشية الاستئصال مما تتفق عليه عقول أهل الرأي والتجارب
وأما لزوم الدية فوجهه واضح لأن المقتول مسلم لا يهدر دمه وهكذا لزوم الكفارة على ما قد مر تحقيقه في موطنه
قوله ولا يقتل ذو رحم رحمه
أقول الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة قد دلت دلالة أوضح من الشمس على قتل المشركين ولم يثبت في المنع من قتل ذي الرحم لرحمه ما تثبت به الحجة قط حتى يصلح لتخصيص الأدلة الصحيحة ومع هذا فهو معارض بمثله فيجب الرجوع إلى ما ثبت في القرآن والسنة فاعرف هذا فليس ها هنا ما يوجب التخصيص ولا التقييد (4/533)
فصل
ويحرق ويغرق ويخنق أن تعذر السيف وخلوا عمن لا يقتل وإلا فلا إلا للضرورة ويستعين بالعبيد للضرورة ولا ضمان عليه لا غيرهم من الأموال فيضمن وترد النساء مع الغنية
قوله فصل ويحرق إلخ
أقول قد أمر الله بقتل المشركين ولم يعين لنا الصفة التي يكون عليها ولا أخذ علينا أن لا نفعل إلا كذا دون كذا فلا مانع من قتلهم بكل سبب للقتل من رمي أو طعن أو تغريق أو هدم أو دفع من شاهق أو نحو ذلك ولم يرد المنع إلا من التحريق فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعث فقال إن وجدتم فلانا لرجلين فأحرقوهما بالنار ثم قال حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما فهذا الحديث قد دل على منع التحريق على كل حال فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال بعد الأمر بإحراق رجلين مشركين قد بالغا في الأذى لرسول الله صلى الله عليه و سلم واستحقا القتل ثم علل ذلك بهذه العلة التي تفيد أنه لا يجوز التحريق بالنار لأحد من عباد الله سواء كان مشركا أو غير مشرك وإن بلغ (4/534)
في العصيان والتمرد على الله أي مبلغ فما وقع من بعض الصحابة محمول على أنه لم يبلغه الدليل
وبما ذكرناه تعرف أنه لا وجه لقول المصنف إن تعذر السيف ومن جملة ما لا يجوز أن يكون القتل به المثلة لثبوت النهي عنها في الأحاديث الكثيرة فيكون ذلك مخصصا لأدلة قتل المشركين على كل حال وبكل سبب من أسباب القتل وأما حديث إذا قتلتم فأحسنوا القتلة فالمراد بالإحسان ترك التعذيب وتعجيل ما يحصل به الموت وليس ذلك مختصا بقتل السيف
وأما قوله وخلوا عمن لا يقتل فوجهه ما تقدم من النهي عن قتلهم فإذا لم تدع الضرورة إلى ما يعم من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله كان الواجب اجتناب قتل من لا يجوز قتله وترك السبب الذي لا يمكن فيه تخصيص من يجوز قتله ومن لا يجوز كالرمي بالمنجنيق والمدافع وما يشابه ذلك وقد قدمنا ما يدل على جواز تبييت الكفار وهو سبب يعم من يجوز قتله و من لا يجوز قتله وبهذا تعرف صحة قول المصنف من التقييد بقوله إلا للضرو
قوله ويستعين بالعبيد للضرورة
أقول إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم وجب على المالكين لهم أن يأذنوا لهم بذلك ولا يجوز لهم أن يمتنعوا من الإذن فإن العبيد من جملة أموال المسلمين وقد تقدم في الاستعانة من خالص المال ما تقدم وليس للإمام أن يستعين بهم من غير إذن المالكين لهم وعلى هذا يحمل رد من رده رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم
وأما قوله ولا ضمان عليه فظاهر وقوله لا غيرهم من الأموال فقد أغنى (4/535)
عنه ما تقدم في الاستعانة بخالص المال بتلك الشروط
قوله وترد النساء مع الغنية
أقول أخرج البخاري وغيره من حديث الربيع بنت معوذ قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وأخرج مسلم وغيره من حديث أم عطية الأنصارية قالت غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمني وأخرج مسلم أيضا وغيره عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى
فهذه الأحاديث تدل على جواز خروجهن مع الغزاة لا سيما إذا كان لهن حاجة في ذلك ولا ينافي هذا ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة أنها قالت قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور فإنه إنما يدل على أن أفصل الجهاد الحج المبرور وهو غير محل النزاع
فصل
ويغنم من الكفار نفوسهم إلا المكلف من مرتد ولو أنثى وعربي ذكر غير كتابي فالإسلام أو السيف وأموالهم ولا يستبد غانم بما غنم ولو طليعة أو سرية بقوة (4/536)
ردئهم إلا بشرط الإمام أو تنفليهم فلا يعتق الرحم ونحوه ومن وطيء ردها وعقرها وولدها ولا حد عليه ولا نسب وللإمام قيل ولو غائبا الصفي وهو شيء واحد ثم يقسم الباقي بعد التخميس والتنفيل بين ذكرو مكلفين أحرار مسلمين قاتلوا وكانوا ردءا ولم يفروا قبل إحرازها للراجل سهم ولذي الفرس لا غيرها سهمان إن حضر بها ولو قاتل راجلا ومن مات أو أسر أو ارتد بعد الإحراز فلورثته ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم ولا يطهر بالاستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم ومن وجد ما كان له فهو أولى به بلا شيء قبل القسمة وبعدها بالقيمة إلا العبد الآبق
قوله فصل ويغنم من الكفار نفوسهم
أقول هذا معلوم من أدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم وأما استثناء المرتد فوجهه قوله صلى الله عليه و سلم من يدل دينه فاقتلوه وقوله لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث والحديثان صحيحان مشهوران وإنما لم يجز استرقاقه لأنه لما خرج من دين الإسلام كان علينا إرجاعه إليه أو قتله ولهذا يقول الله عز و جل ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فإذا ابتغى أن يبقى على الكفر الذي خرج عليه بعد أسره ويصير عبدا لمن أسره لم يقبل منه ذلك
قوله وعربي ذكر غير كتابي (4/537)
أقول الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرفاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك به فقط في تخصيص أسراء العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين وقد سبى صلى الله عليه و سلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم وبالغ صلى الله عليه و سلم فقال من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل وقال لأهل مكة اذهبوا فأنتم الطلقاء
والحاصل أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم خيبر لو كان الاسترقاق على العرب جائزا لكان اليوم وإنما هو أسر فلم يصح هذا من وجه بل في إسناده من هو غاية في الضعف
وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر الوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث (4/538)
الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها ولهذا قيد المصنف العربي بكون ذكرا ولا وجه لقوله غير كتابي لأنه إذا كان استرقاق العربي الذي ليس بكتابي غير جائز عنده فكيف يجوز استرقاق من له مزية مع كونه عربيا لا توجد في سائر من ليس بكتابي من العرب وهو كونه متبعا شريعة مقتديا بنبيه فإنه أولى بالاحترام من عابد الوثن
قوله وأموالهم
أقول ليس في هذا خلاف وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بذلك
وأما قوله ولا يستبد غانم بما غنم فوجهه أن الغنيمة جعلها الله للغانمين وفوض قسمتها إلى نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعده إلى أئمة المسلمين فاستبداد أحد القائمين بما غنمه خلاف ما شرعه الله لعباده وخيانة المسلمين وغلول للغنيمة وكل ذلك قبيح قد دلت الأدلة على منعه وتحريمه وإثم صاحبه ويخرج من ذلك ما ورد الترخيص فيه كما في حديث ابن عمر عند البخاري وغيره قال كنا نصيب فيمغازينا العسل و العنب فناكله ولا نرفعه و ما أخرجه مسلم و غيره من حديث عبد الله بن المغفل قال أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمه فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم متبسما وفي الباب أحاديث (4/539)
وإذا عرفت هذا أن ما غنمه الجيش مشترك بينهم جميعا من غير فرق بين أن يكونوا هم الغانمين له بأنفسهم أو غنمته طليعتهم أو سريتهم التي لم تغنم تلك الغنيمة إلا بقوة الجيش الذي أرسلها أما لو لم يكن الأمر كذلك فإن الطليعة والسرية تصير كالجيش المستقل وتستحق ما انفردت به
قوله إلا بشرط الإمام
أقول وجهه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه وفي الحديث قصة وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين من قتل رجلا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وأخرج مسلم وغيره أن عوف بن مالك قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل قال بلى وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في قصة قتله للرجل صاحب الجمل الأحمر من قتل الرجل قالوا سلمة بن الأكوع قال له سلبه أجمع وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح لكونه الذي قتله وقد ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق سلب من قتله سواء كان أمير الجيش قال قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أم لا وذهب من عداهم أنه لايستحقه القاتل إلا أن (4/540)
يشرط الإمام له ذلك ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أن الأمر كان مشتهرا عند الصحابة في حياته صلى الله عليه و سلم أن السلب للقاتل وإن لم يقل الإمام ذلك كما في حديث عوف بن مالك المذكور
قوله أو تنفيله
أقول وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث حبيب بن مسلمة وصححه ابن حبان وابن الجارود والحاكم وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل في البدأة والربع وفي الرجعة الثلث وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله لا نفل إلا بعد الخمس وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله واجب وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سرية قبل نجد فخرجت فيها فبلغت سهماننا أثنى عشر بعيرا ونفلنا صلى الله عليه و سلم بعيرا بعيرا وفي الباب أحاديث كثيرة (4/541)
وأما قوله فلا يعتق الرحم فوجهه أن ملك الغانم في الغنيمة غير مستقر حتى يتعين له سهمه فيها وذو الرحم إنما يعتق على رحمه إذا ملكه ملكا مستقرا لا سيما مع تجويز أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء من الغنيمة على جهة التنفيل أو يرضخ لمن حضر من غير القائمين
وأما كون من وطىء المسبية وجب عليه ردها وعقرها وولدها فوجهه أنه وطىء ما لم يستقر ملكه عليه لا في كله ولا في بعضه وأما كونه لا يحد فوجهه أن مجرد كون له نصيب في الغنيمة في الجملة شبهة والحدود تدرأ بالشبهات
قوله وللإمام قيل ولو غائبا الصفي
أقول وجهه ما أخرجه أبو داود والنسائي ورجاله رجال الصحيح عن يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم من النبي صلى الله عليه و سلم ومهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله فقلنا من كتب لك هذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت وكانت صفية من الصفي ولكنه يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك قال صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه و سلم وله طرق في الصحيحين وما فيهما مرجح على ما هو خارج عنهما كما هو معلوم (4/542)
ومما يدل على ثبوت الصفي للأئمة ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر وأخرج أبو داود والنسائي عن عامر الشعبي مرسلا قال كان للنبي صلى الله عليه و سلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس وأخرج أبو داود بإسناد رجاله ثقات عن ابن عون قال سألت محمد بن سيرين عن سهم النبي صلى الله عليه و سلم والصفي قال كان يضرب له سهم مع المسلمين وإن لم يشهد والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء وهو مرسل ومجموع ما ذكرنا يدل على ثبوت الصفي للإمام بعد أن يضرب له بسهم حضر أو غاب
قوله بعد التخميس والتنفيل
أقول أما كون القسمة تكون بعد التخميس فذلك بنص القرآن قال الله سبحانه واعلموا أنما غنمتم فأن لله خمسه الآية ولا خلاف في ذلك وأما كون القسمة تكون بعد التنفيل فوجه ذلك ما قدمنا ذكره قريبا
وأما قوله بين ذكور فوجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجعل لمن كان يحضر من النساء سهما كسهم الرجال كما في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن
وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه (4/543)
أن النبي صلى الله عليه و سلم أسهم لها ولمن معها من النساء كما أسهم للرجال عند فتح خيبر فحشرج هذا مجهول وفي بقية إسناده ضعيف فلا تقوم به حجة فضلا عن أن يعارض ما في الصحيح وقد حمل ذلك على الرضخ
قوله مكلفين
أقول وجه اشتراط كونهم مكلفين أن الغنيمة جعلها الله للمقاتلين من الرجال وليس الصبيان ممن يقاتل ولهذا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يأذن في الغزو إلا لمن قد صار مكلفا كما في كتب الحديث والسير ولا تقوم الحجة بما أخرجه الترمذي عن الأوزاعي قال أسهم النبي صلى الله عليه و سلم للصبيان بخيبر لا سيما مع إرساله ومخالفته للأحاديث الصحيحة وقد حمل هذا الإسهام على الرضح
قوله أحرارا
أقول وجهه أن العبيد ليسوا من أهل الغزو وكما تقدم وإنما يستحق الغنيمة الغانمون لها وقد أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم قال إنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث ابن عباس أيضا قال كان (4/544)
النبي صلى الله عليه و سلم يعطي المرأة والعبد والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش وهذا محمول على الرضخ ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عمير مولى آبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره وأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع
قوله قاتلوا أو كانوا ردءا
أقول وجهه ما قدمنا لك من أن الغنيمة إنما هي لمن غنمها من الغزاة والردء له حكم الجيش المقاتل لأنه يزيدهم قوة ورغبة في القتال ويزيد العدو ضعفا وفشلا ورهبة للإقدام على من قابلهم من جيش المسلمين وما ورد من إعطائه صلى الله عليه و سلم لمن حضر عند القسمة ولم يكن مقاتلا ولا ردءا فهو محمول على الرضخ لا على الإسهام لهم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى أنه قدم هو وجعفر بن أبي طالب ومن كان معهم في السفينة التي رجعوا فيها من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وانه كان قدومهم عليه صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتينا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم
وأما قوله إن لم يفروا قبل إحرازها فوجهه أن هؤلاء مع الفرار لم يكن لهم أثر في تحصيل الغنيمة بل ما حصل بسبب فرارهم من الوهن الداخل على الغزاة المقاتلين أكثر مما حصل من التقوية بحضورهم قبل إحراز الغنيمة (4/545)
قوله للراجل سهم ولذي الفرس لا غير سهمان
أقول الحق ما ذهب إليه الجمهور من أنه يعطي الفارس مع فرسه ثلاثة أسهم والراجل سهما واحدا وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة ولم يرد دليل صحيح ولا حسن يدل على ما قاله المصنف من أن لذي الفرس مع فرسه سهمين فقط وغاية ما استدل به المصنف ومن قال بقوله حديث مجمع بن جارية الأنصاري قال قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أخرجه أحمد وأبو داود وقد صرح الحفاظ بضعف إسناد هذا الحديث مع توهيم راويه حيث قال فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس ومع هذا فهو يمكن تأويل قوله فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أنه أعطى الفارس سهم فرسه وذلك سهمان وله سهم ثالث مع سائر الرجال ويدل على أن هذا هو المراد أن ابن أبي شيبة روى هذا الحديث في مصنفه بهذا الإسناد فقال للفرس وأخرجه أيضا أحمد عن أبي أسامة وابن نمير معا بلفظ أسهم للفرس
والحاصل أنه يجب على كل حال تأويل ذلك اللفظ المذكور في حديث مجمع بن جارية لأن الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه و سلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه (4/546)
وأما قوله إن حضر الوقعة بها ولو قاتل راجلا فوجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم أسهم لكل فارس وفرسه ثلاثة أسهم ولم يسأل هل قاتل عليها أم لا وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم
وأما قوله ومن مات إلخ فلا حاجة إلى ذكره لأن ما صار إلى الميت يورث عنه من غير فرق بين الغنائم وغيرها
قوله ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم
أقول لا دليل على مشروعية هذا الرضخ إلا ما تقدم في النساء والصبيان والعبيد وأما ممن عداهم فيجوز للإمام أن يخصص بعض من له قدم في الإسلام بشيء من الغنيمة كما في حديث أبي موسى المتقدم قريبا وأما ما يروى بلفظ الغنيمة لمن شهد الوقعة فلم يصح رفعه فلا تقوم به حجة
والحاصل أن الغنيمة قد صارت مستحقة للغانمين فإيجاب شيء فيها لغيرهم بل ندبه يحتاج إلى دليل بل لا يجوز أن يقال إن الرضح مباح لأنه تصرف في ملك الغير بغير أمره ولايجوز قياس غير النبي صلى الله عليه و سلم عليه لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم
قوله ولا يطهر باستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم
أقول وجه هذا ما أخرجه احمد وأبود اود من حديث جابر بن عبد الله قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولايعيب ذلك عليهم فالمصنف رحمه الله لما اعتقد نجاسة رطوبة الكفار (4/547)
ووقف على مثل هذا الحديث ظن أن الاستيلاء بمجرده يوجب الطهارة وليس الأمر كذلك وقد تقدم أنه لا وجه للقول بنجاسة الرطوبة وكذلك ما ينجس بالتذكية لا نفس المذكي فقد تقدم الكلام عليه في الذبائح
فإن قلت حديث أبي ثعلبة الثابت في الصحيحين وغيرهما قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل من آنيتهم قال إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها يدل على وجوب غسلها قلت قد ثبت في رواية أحمد وأبي داود أنه قال في السؤال وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فالأمر بالغسل هو لهذا لا لمجرد الرطوبة وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه توضأ في مزادة مشركة كما تقدم وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر وأجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة
قوله ومن وجد ما كان له إلخ
أقول لم يثبت ما يدل على أنه يخرج من ملكه حتى يقال هو أولى به قبل القسمة وبعدها بالقيمة بل هو باق على ملك مالكه وأخذه منه على غير ما أذن به الشرع لا يترتب عليه حكم الملك أصلا فيأخذه قبل القسمة وبعدها ولا يلزمه شيء ويرجع من قد صار في نصيبه بالقسمة على الغنيمة فيعطى منها بقدر ما استحق ولا فرق بين العبد وغيره وقد ثبت في الصحيح أن المشركين أخذوا ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم العضباء فأخذتها امرأة من الأنصار كانت في أسرهم ورجعت لرسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت في الصحيح أنه ذهب فرس لابن عمر فأخذه المشركون فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبق عبد له فلحق (4/548)
بأرض الروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه و سلم وهذه التكاليف إنما وقع المصنف فيها لما سيأتي من أنهم يملكون علينا وأن دار الحرب دار إباحة وسيأتي الكلام على ذلك
فصل
وما تعذر حمله أحرق والحيوان بعد الذبح ويقتل من كان يجوز قتله والسلاح يدفن أو يكسر ولا يملكون علينا ما لم يدخل دارهم قهرا ولا البغاة وغير ذي الشوكة من الكفار مطلقا
قوله فصل وما تعذر حمله أحرق
أقول قد ثبت الإحراق والقطع في نخل بني النضير كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قطع نخل بني النضير وحرق ونزل في ذلك قوله عز و جل ما قطعتم من لينة أو تركتموها الآية وثبت في الصحيحين وغيرهما أن جرير بن عبد الله حرق ذا الخلصة بالنار فبرك صلى الله عليه و سلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قرية يقال لها ابنى فقال ائتها صباحا ثم حرق وفي إسناده ضعيف وقد ذهب الجمهور (4/549)
إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور وليس معهم على المنع دليل ولا يصح التمسك بما في الموطأ عن أبي بكر أنه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه فإن قول الصحابي لا تقوم به الحجة منفردا فكيف إذا خالف ما صح عن الشارع وقد تقدم في قوله ويحرق ويغرق ويخنق قيام الدليل على عدم جواز إحراق من استحق القتل من كافر وغيره وهكذا الحيوان لا يجوز تحريقه إلا بعد الذبح لورود النهي عن التعذيب بالنار وعن تعذيب خلق الله
وأما قوله ويقتل من يجوز قتله فذلك ثابت بأدلة الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين
وأما قوله والسلاح يدفن أو يكسر فإذا تعذر حمله عن بلاد العدو كان على الإمام أن يأمر المسلمين بإتلافه ونحوه من آلات الحرب بأي سبب من الأسباب المقتضية للتلف
قوله ويملكون علينا ما لم ندخل دارهم قهرا
أقول التعرض لمثل هذا من فضول العلم التي لا تدعو إليها حاجة فإن كون الكافر يملك ما أخذه على المسلم ويخرج بذلك عن ملك المسلم لم يرد في كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع وإنما قال ما لم يدخل دارهم لأنه سيأتي أن دار الحرب دار إباحة فعلى هذا أنهم لا يملكون علينا إلا ما أخذوه ولم يجوزوه إلى دار الحرب وهذا من عجائب الأحكام وغرائب التفريع
وأما الاستدلال بما روى من قوله صلى الله عليه و سلم هل ترك لنا عقيل من رباع فليس فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم صرح بأنه قد ملكها وغاية ما هنالك (4/550)
أنه صلى الله عليه و سلم ترك المطالبة للمشتري لها من عقيل ولا سيما وقد صاروا مسلمين عند أن قال صلى الله عليه و سلم هذه المقالة
وأما قوله ولا البغاة وغير ذي الشوكة فظاهر ويجب أن يجعل الكفار وأرباب الشوكة مثل هؤلاء لا يملكون علينا
فصل
ودار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما ثبتت يده عليه ولنا شراؤه ولو والدا من ولد إلا حرا قد أسلم ولو ارتد ولا قصاص فيها مطلقا ولا تأرش إلا بين المسلمين وأمانهم لمسلم أمان لهم منه فلا يغنم عليهم ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان ولا يف بمحظور شرطه من لبث أو غيره وله استرجاع العبد الآبق ولغير المستأمن أخذ ما ظفر به ولا خمس عليه
قوله فصل ودار الحرب دار إباحة إلخ
أقول وجه هذا أن الله سبحانه أمرنا بقتال أهل الشرك وأباح لنا دماءهم وأموالهم ونساءهم فكانوا من هذه الحيثية على أصل الإباحة سواء وجدناهم في دارهم أو في غير دارهم وينبغي تقييد هذا الإطلاق بأن المسلم وماله إذا كان فيهما فعصمة دمه وماله باقية لا يجوز لأحد من المسلمين أن يخالف تلك العصمة لأن كون دار الحرب دار إباحة هي من تلك الحيثية التي ذكرناها لا مطلقا وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله إلا حرا قد أسلم (4/551)
وأما جواز شراء ما أخذ من دار الحرب ممن هو في يده فذلك ظاهر لأن الآخذ له قد ملكه فإن كان الآخذ مسلما لم يصح قوله ولو والدا من ولد لأن المسلم مخاطب بأحكام الإسلام ومن جملتها عتق رحمه عليه وإن كان كافرا فلا بأس بشراء رحمه منه لأنه وإن كان مخاطبا بالشرعيات فذلك باعتبار إثمه على تركها وأما صحتها منه في حال كفره فلا لأن الإسلام شرط
وأما قوله ولو ارتد فوجهه ما تقدم من أن المرتد لا يسترق بل يطالب بالإسلام فإن فعل وإلا قتل
قوله ولا قصاص فيها مطلقا
أقول هذا لا وجه له لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها فما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيال المبني على الهباء فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه وهو مفوض إلى اختياره وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه صلى الله عليه و سلم من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش
قوله وأمانهم لمسلم أمان لهم منه
أقول لا ملازمة بين الأمانين لا شرعا ولا عقلا ولا عادة فيجوز للمسلم الداخل (4/552)
دارالحرب بأمان أهلها أن يأخذ ما قدر عليه من أموالهم ويسفك ما تمكن منه من دمائهم فلا يتم قوله فلا يغنم عليهم ولا قوله ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان
وأما قوله ولا يف بمحظور إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا الأمان هو في حكم المصالحة في قدر موته ولا يجوز الدخول في الصلح الذي يحل حراما أو يحرم حلالا كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأيضا المحظور محظور بحكم الشرع فيكف يجوز شرطه للكفار فضلا عن إن يجوز الوفاء به لهم
وأما قوله وله استرجاع العبد الآبق فقد قدمنا أنه يجوز له أن يأخذ من أموالهم ما قدر عليه فجواز أخذ عبد المسلم الذي أبق منه ثابت بفحوى الخطاب
وأما قوله ولغير المستأمن ما فظر به فقد أغنى عنه ما تقدم من أنه يغنم من الكفار نفوسهم وأموالهم وما تقدم في أول هذا الفصل من قوله ودار الحرب دار إباحة
وأما قوله ولا خمس عليه فلا يخفاك أنه إذا صدق على ما أخذه أنه غنيمة فقد دخل تحت قوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فلا بد من دليل يخصص هذه الصورة ولا دليل
فصل
ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم إلا طفله لا في دارهم فطفله وماله المنقول إلا ما عند حربي غيره وأم ولد المسلم فيردها بالفداء ولو بقي دينا والمدبر بالفداء ويعتقان بموت الأول والمكاتب بالوفاء للآخر ولأوهم للأول (4/553)
قوله فصل ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم إلخ
أقول الإسلام عصمة لمال الرجل ولأولاده الذين لم يبلغوا فمن زعم أنه يحل شيء من مال من أسلم لكون المال في دار الحرب لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يدل على النقل من عصمة الإسلام ولا دليل وقد قدمنا الإشارة إلى هذا في الكلام على دار الحرب
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا حاجة إلى الاستدلال على هذا بما لا تقوم به الحجة فإن الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الكفار إذا تكلموا بكلمة الإسلام عصموا بها دماءهم وأموالهم يغني عن غيرها ومن غرائب الرأي المبني على غير صواب الفرق بين إسلام الكفار في دارنا وبين إسلامهم في دارهم وبين المال المنقول وغير المنقول فإن هذا ليس عليه أثارة من علم ويرد هذا الفرق ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه و سلم رد على بني سليم أرضهم وقال إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله وأخرج سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعيد فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار وفي الباب أحاديث
وكما أنه لا وجه لهذا كله لا وجه لقوله إلا ماله عند حربي فإن الإسلام يحصن جميع أمواله سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب وسواء كانت عند مسلم أو عند حربي
وأما قوله وأم ولد المسلم فيردها بالفداء فقد قدمنا لك أن مال المسلم يعود إليه على أي صفة كان ومماليكه الذين لم ينجز عتقهم من جملة أمواله فتخصيص أم الولد والمدبر والمكاتب بالذكر من عجائب الرأي المبني على الخيال وإيجاب الفداء على (4/554)
السيد ليس هو إلا بمجرد المحافظة على ما تقدم من أن الكفار يملكون علينا وقد عرفت ما فيه
وإذا تقرر لك هذا فلا حاجة لنا إلى الكلام على ما ذكره من التفصيل في العتق
فصل
والباغي من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم أو منع منه أو منعه واجبا أو قام بما أمره إليه وله منعه وحكمهم جميع ما مر إلا أنهم لا يسبون ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم إلا ذا فئة أو لخشية العود كلكل مبغي عليه ولا يغنم من أموالهم إلا الإمام ما أجلبوا به من مال وآله حرب ولو مستعارا لذلك إلا غصبا ولا يجوز ما عدا ذلك لكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم حتى يستوفي الحقوق ولا ينقض له ما وصفوه من أموالهم في قربة أو مباح مطلقا أو محظور وقد تلف وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال لله معهم لنفسه مستحقا أو ليصرف
قوله فصل والباغي من يظهر أنه محق إلخ
أقول قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا فقال الله عز و جل وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي وثبت في ا لصحيح أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية (4/555)
فالباغي هو من خرج من طاعة الإمام التى أوجبها الله على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه فإن بغت إحداهما الآية وليس القعود عن نصرة المحق من الورع بعد قول الله عز و جل فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
والحاصل أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريقا مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله وقد قدمنا في أول كتاب السير هذا أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
وأما قوله أو منع منه فوجهه أن المأمور إذا لم يدفع إلى الإمام ما يجب دفعه إليه فهو باغ من هذه الحيثية وهكذا إذا لم يطعه في واجب أوجبه الله عليه للإمام من جهاد أو ولاية بالحق أو نصيحة وهكذا إذا قام بما أمره إلى الإمام فإنه أقعد نفسه في المقعد الذي لا يصلح له إلا من ثبتت له الإمامة بمبايعة المسلمين فيكون من هذه الحيثية باغيا (4/556)
قوله وحكمهم جميع ما مر
أقول هذه الإحالة غير حسنة فإنه إذا لم يغنم من أهل البغي نفوسهم ولا أموالهم ولا يجوز فيهم الأحكام التي سيتذكرها كان غالب أحكامهم المخالفة لما مر في أحكام الكفار فلم يكن لهذه الكلية وجه لأنه لم يبق تحتها بعد الاستثناء إلا النادر من الأحكام
وأما قوله إلا أنهم لا يسبون فهذا معلوم لا يخالف فيه أحد من المسلمين أجمعين
وأما قوله ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم فقد أخرج الحاكم وصححه البيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لابن مسعود يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم وفي إسناده كوثر بن حكيم وهو ضعيف قال البيهقي هذا الحديث ضعيف انتهى ولكنه يقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ نادى منادي علي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن قال ابن حجر قد صح عن علي من طرق وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأخرج أيضا عن أبي فاختة أن عليا أتي بأسير يوم صفين فقال لا (4/557)
تقتلني صبرا فقال لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ثم خلى سبيله وفي الباب آثار كثيرة عن علي لأنه ابتلي بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم
قوله إلا ذا فئة أو لخشية العود
أقول ظاهر الحديث المتقدم قريبا والآثار عن علي أنه لا يتبع مدبرهم ولم يثبت التقييد بأن لا يكون ذا فئة أو يخشى عوده فالواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة وإن كان الباغي هاربا إلى فئة أو خشي عوده وتخصيص الدليل بمجرد الرأي غير مقبول على أنه لا يحتاج إلى الاستدلال على عدم جواز قتل الهارب من البغاة بما ذكرناه بل يكفي في ذلك العصمة الإسلامية الثابتة بمثل قوله صلى الله عليه و سلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها والباغي مسلم معصوم الدم والمال وإنما جاز قتاله ما دام باغيا مقاتلا لقوله عز و جل فإن بغت إحداهما عن الأخرى فقاتلوا التي تبغي فلا يجوز قتال الباغي ولا مقاتلته إلا حال الحرب لا بعد الهرب رجوعا إلى العصمة الإسلامية
قوله كلكل مبغي عليه
أقول ليس معنى البغي مختصا بنوع منه دون نوع أو بطائفة دون طائفة بل يشمل كل من حصل منه البغي سواء كان البغي منه على الإمام أو على طائفة من المسلمين أو على فرد من أفرادهم فإن ذلك يندرج تحت قوله عز و جل فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله
قوله ولا يغنم من أموالهم الخ (4/558)
أ
أقول البغاة مسلمون فاموالهم من غير فرق بين ما حضروا به معهم في القتال وما لم يحضروا به معصومة بالعصمة الإسلامية فمن ادعى أن شيئا منها قد خرج عن العصمة الإسلامية فعليه الدليل على أنه قد تقدم عن أبي أمامة أنه قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريحهم ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأما ما روي عن علي أنه قال يوم الجمل وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم فقد قال البيهقي إنه منقطع قال والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا انتهى وأخرج البيهقي أيضا عن علي أنه كان لا يأخذ سلبا وبهذا تعرف أنه لا فرق بين ما أجلبوا به وما لم يجلبوا به وبين آلة الحرب وغيرها وبين المغصوب و غيره
قوله ولكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم الخ
أقول هذا صواب لأنهم أخذوا هذه الأموال من غير حلها فجاز للإمام أن يأخذها منهم أو مثلها لأنه مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وهذا منه ولا فرق بين أن يكون الذي أخذوه من أموال بني آدم أو من الأموال التي لبيت مال المسلمين لأن الكل مظلمة ومن استشكل مثل هذا وأورد في تأييد بحثه فيه ما لا يسمن ولا يغني من جوع فلم يصب
قوله ولا ينقض له ما وضعوه من أموالهم إلخ
أقول قد قدمنا أن تضمينهم لما أخذوه ظلما وعدوانا حق ولكن ما تقربوا به من أملاكهم وأخرجوه عنهم قد وقع موقعه فليس للإمام أن ينقضه ويجعله عوضا عما أتلفوه لأن ذلك قد خرج عن أملاكهم وصار لمصرفه فلا يحل نقضه بحال وهكذا ما أخرجوه عن أملاكهم في مباح أو محظور لأن الذي أخرجوه لم يبق لهم فيه (4/559)
ملك وصار ملكا لمن قد صار في يده والخطاب عليهم في الضمان إنما هو في أملاكهم الباقية تحت أيديهم
واما قوله وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال الله معهم لنفسه فلا وجه له بل يأخذه ويرده إلى بيت مال المسلمين ليصرفه الإمام في مصارفه وليس له أن يصرف في نفسه مع وجوده وإن كان مستحقا
فصل
ومن أرسل أو أمنه قبل نهي الإمام مكلف مسلم متمنع منهم دون سنة ولو بإشارة أو تعال لم يجز خرمه فإن اختل قيد رد مأمنه غالبا ويحرم للغدر ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب إلا بأفضل والبينة على المؤمن بعد الفتح إلا الإمام فالقول له
قوله فصل ومن أرسل إلخ
أقول وجهه أن تأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتا معلوما فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصل إليه الرسل من الكفار فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهرة وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم متعرض
والحاصل أنه لو قال قائل إن تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع لم يكن ذلك بعيدا وقد كان أيضا معلوما ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان ولهذا أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما قاله لرسولي مسيلمة أخرجه أحمد وأبو داود فقوله لولا أن الرسل لا تقتل فيه التصريح بأن (4/560)
شأن الرسل أنهم لا يقتلون في الإسلام وقبله ومثل هذا ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه و سلم قال لرسولي مسيلمة لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وفيه ابن مسعود قال فمضت السنة أن الرسل لا تقتل
وقوله أو أمته قبل نهي الإمام مكلف مسلم
أقول الأدلة في هذا كثيرة جدا فمن ذلك حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ومن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ يد المسلمين على من عداهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا وأخرجه أيضا مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وهو أيضا متفق عليه من حديث (4/561)
علي بأطول من هذا وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد دخل في قوله أدناهم العبد والمرأة والصبي لكنه حكى ابن المنذر الإجماع على أن أمان الصبي غير جائز فكان هذا الإجماع مخرجا له من الدخول تحت ذلك اللفظ وأما المرأة فقال ابن المنذر أيضا أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين وأخرج أبو داود والنسائي عن عائشة قالت إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم هانىء وأنها أجارت رجلا يقال له فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء
وأما العبد فهو داخل أيضا في قوله يسعى بذمتهم أدناهم وقد أجاز أمانة الجمهور وقال أبو حنيفة إن قاتل جاز أمانة وإلا فلا وأما اشتراط الإسلام فلكون الأدلة إنما دلت على المان الصادر من المسلمين أو أحدهم وهكذا اشتراط أن يكون ممتنع منهم لأنه لو كان تحت حكمهم لم يجز أمانة لأنه في حكم أن المكره ولا بد في صحة الأمان من الاختيار
قوله دون سنة (4/562)
أقول لا دليل على هذا التوقيف بل المتعين الرجوع إلى ما في الأدلة من الإطلاق وقد جاءت بتصحيح الأمان ولم يقيد بوقت لكن يجوز للمسلمين أذا كان الأمان الواقع من أحدهم مطلقا أن يوقتوه وإن كان لمدة طويلة أن يجعلوه للمدة التي تقتضيها المصلحة فإن رضي من وقع له التأمين بذلك وإلا رد إلى مأمنه
وأما قوله ولو بإشارة أو تعال فظاهر لأن المراد الإشعار بالتأمين بكل شيء يحصل به الشعور
وأما قوله لم يجز خرمه فليس في هذا خلاف بين أهل الإسلام بل هو من ضروريات الدين وقد تكرر الأمر بالوفاء به والنهي عن عدم الوفاء به في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة وصح الذم للغادر والوعيد له في غير حديث
وأما قوله فإن اختل قيد رد مأمنه فوجهه أن الأمان لم يصح والذي قد وقع الأمان له قد اعتقد صحته ولولا ذلك لم يأت إلينا فوجب على المسلمين إرجاعه إلى مأمنه ولا يحل لهم استحلال شيء من دمه أو ماله ولو كان التأمين له بعد نهي الإمام عن التأمين إذا كان من وقع له التأمين جاهلا للنهي
وأما قوله ويحرم للغدر فقد أغنى عنه قوله لم يجز خرمه والوجه في هذا التحريم هو ما قدمنا
وأما قوله ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب فوجه ذلك أنه يعود بها إلى دار الحرب فتكون قوة للكافرين على المسلمين إلا بأفضل فلا بأس لأن المصلحة في مثل ذلك كائنة وأما بما كان مماثلا له فالظاهر أنه لا بأس بذلك لأنها قد اندفعت المفسدة
قوله والبينة على المؤمن
أقول أي على الذي وقع له التأمين ووجه ذلك أن الأصل عدم الأمان فالقول قول المنكر والبينة على المدعي ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الفتح أو بعده إلا أن يظهر (4/563)
من القرائن ما يثبت به الظاهر لمن وقع له التأمين فإن الظاهر مقدم على الأصل فيكون القول قوله كما تقدم
وأما قوله إلا الإمام فالقول له فوجهه أن له أن ينشيء الأمان متى شاء فيكون القول قوله في تأمين من قد أمنه على كل حال
فصل
وللإمام عقد الصلح لمصلحة مدة معلومة فيفي بما وضع ولو على رد من جاءنا مسلما ذكرا تخلية لا مباشرة أو بذل رهائن او أمال منا أو منهم ولا يرتهن مسلم وتملك رهائن الكفار بالنكث ويرد ما أخذ السارق وجاهل الصلح وبدي من قتل فيه ويؤذن في دارنا أنه إن تعدى السنة منع الخروج وصار ذميا فإن تعداها جاهلا خير الإمام
قوله فصل ويجوز للإمام عقد الصلح لمصلحة إلخ
أقول وجه هذا أن الله سبحانه قال في كتباه وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (4/564)
فدل ذلك على جواز المصالحة إذا طلبها الكفار وجنحوا إليها وقيل لا يحوز ذلك لقوله سبحانه فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ولا يخفاك أنه لا معارضة بين الآيتين فإن الآية الأولى دلت على أن الكفار إذا جنحوا للسلم جنحنا لها والآية الأخرى دلت على عدم جواز الدعاء من المسلمين إلى السلم فالجمع بينهما بأنه يجوز عقد الصلح إذا طلب ذلك الكفار ولا يجوز طلبه من المسلمين إذا كانوا واثقين بالنصر وقد أوضحنا الكلام على الآيتين في تفسيرنا فليرجع إليه وقيل لا يجوز المصالحة أصلا وأن ما ورد في جوازها منسوخ بقوله اقتلوا المشركين ونحوها ولا وجه لدعوى النسخ وأيضا الجمع ممكن بأنهم يقتلون ويقاتلون ما لم يجنحوا إلى السلم
وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقا أو مربدا لكان ذلك مبطلا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين و ليس في ذلك مخالفة لعقدة صلى الله عليهو آله و سلم للصلح الوقع مع قريش عشر سنين فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إذا اقتضت ذلك المصلحة
وأما قوله فيفي بما وضع فهذا معلوم لا خلاف فيه والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى أكثر من أن تحصر
قوله ولو على رد من جاءنا مسلما
أقول وجهه ما وقع منه صلى الله عليه و سلم في صلح الحديبية مع قريش (4/565)
فإنهم شرطوا عليه أن يرد من جاء منهم مسلما فوفى لهم بذلك ووصل إليه بعد عقد الصلح وهو في الحديبية أبو جندل وأبو بصير فردهما كما هو في الصحيح وثبت أيضا في هذا الحديث أنهم أجازوا للنبي صلى الله عليه و سلم أبا جندل فلم يرده إليهم وثبت في هذا الحديث أنه صلى الله عليه و سلم لم يرد غليهم النساء لقوله عز و جل إذا جاءكم المؤمنات إلى آخر الآية وهكذا لم يرد إليهم العبيد كما أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح من حديث علي قال خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال هم عتقاء الله عز و جل فقوله صلى الله عليه و سلم هم عتقاء الله يدل على أنهم يصيرون حرارا بفرارهم إلى المسلمين وهكذا لم يرد صلى الله عليه و سلم من هرب إليه من عبيد المشركين يوم الطائف ومنهم أبو بكرة كما في صحيح البخاري ومسند أحمد وغيرهما
وأما قوله تخلية لا مباشرة فوجهه ظاهر لأن في المباشرة إعانة على منكر سوغته الضرورة فيجب التوقف على مجرد التخلية
واعلم أن إرجاع من فر من المشركين إلى المسلمين وأراد الدخول في الإسلام فيه من المخالفة لما تقتضيه الشريعة وتوجبه العزة الإسلامية ما لا يخفى فلا يجوز ذلك إلا عند (4/566)
أن يغلب على ظن الإمام أنه إذا لم يفعل ذلك وقع بالمسلمين من ضرر الكفار ما هو أعظم من ذلك واشد إضعافا للشوكة الإسلامية قواها الله سبحانه
وأما قوله أو على بذل رهائن أو مال إلخ فإذا رأى الإمام في ذلك صلاحا فعله
وأما قوله ويرد ما أخذه السارق إلخ فهذا ظاهر لأن مقتضى الصلح أن لا يقع شيء من ذلك
وأما قوله ويؤذن من في دارنا إلخ فلا وجه للتوقيف بالسنة بل يجوز للإمام أن يصالحه على ما يرى فيه صلاحا وإن طالت المدة وغذا انقضت المدة رد إلى مأمنه وإذا تعدى المدة عامدا كان الإمام مخيرا في شأنه إذا تعداها جاهلا فإن جهله عذر له فيرد إلى مأمنه هكذا ينبغي أن يقال
فصل
ويجوز فك أسراهم بأسرانا ط لا بالمال ورد الجسد مجانا ويكره حمل الرؤوس وتحرم المثلة قيل ورد الأسير حربيا
قوله فصل ويجوز فك أسراهم بأسرانا
أقول قد قال الله عز و جل فإما منا بعد وإما فداء والفداء أعم من أن يكون بالمال أو بفك الأسرى منهم بالأسرى منا فإن ذلك كله فداء وقد وقع منه (4/567)
صلى الله عليه و سلم فك أسير من بني عقيل بأسيرين من أصحابه كانا عند ثقيف كما في صحيح مسلم وغيره
وأما قوله لا بالمال فهذا مدفوع بما وقع منه صلى الله عليه و سلم في يوم بدر من أخذا لفداء من أسراء المشركين وهو أيضا مدفوع بالقرآن فإما منا بعد وإما فداء ولا يعارضه قوله عز و جل وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض فإن غاية ما في هذه الآية تقديم الإثخان على الفداء وليس فيها أنه لا يجوز الفداء
وأما قوله ويجوز رد الجسد مجانا فلا وجه للتقييد بقوله مجانا لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس
قوله ويكره حمل الرؤوس
أقول إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها ولا يتوقف جواز هذا على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك وقد وقع في حمل الرؤوس في أيام الصحابة وأما ما روي من حملها في أيام النبوة فلم يثبت شيء من ذلك
قوله وتحرم المثلة
أقول الأحاديث في النهي عنها كثيرة جدا وقد قدمنا طرفا من ذلك وقد كان (4/568)