- السِّهَامُ الرَّائِشَة في الذبِّ عَن سن ِّ زواج أُمِّ المؤمِنينِ عَائِشَـ - رضي الله عنه - ــــة -
كثر الجدل مؤخراً عن مصداقية عمر السيدة عائشة رضي الله عنها حين زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم. فتصدّر لهذه الدعوة الواهية المفتقرة للأدلة بعض بني علمان وبعض منافقي هذه الأمة. ثم تابعهم بعض العوام لجهلهم وحسن ظنهّم بمن سمعوا منه، والله المستعان. فرأيت أن أجمع شبههم في بحث جامع يفنّد دعاويهم بما يثلج صدر العامي بإزالة غمامة الشبه من على قلبه.
فإليك أهدي هذا البحث، يا من ثار قلبه غيرة على أمه - أم المؤمنين - وعلى تاريخ أمته، أمة الإسلام.
كتبه الفقير لرحمة ربه،
أيمن بن خالد الشافعي
الشبهة الأولى
لا يخفى على الجميع أنّ المخالف أنكر أصلاً متفقٌ على صحته، لذا فإثبات خلاف المتعارف عليه أمر يقع على عاتق المخالف لإثبات دعواه، كما يزعم، بأنّ زواج الفتاة في سنّ التاسعة أمرٌ لم تعرفه العرب من قبل! لكنّنا، سنثبت الأصل فقط من باب التوضيح لإزالة هذه الشبهة من قلوب العامة، لا من باب التوضيح للمخالف!
أولاً: اعلم، رحمك الله ، أنّ المخالف اخطأ من جهتين. أما الأولى، فهي حين بنى ظنّه على أصل العمر، بينما كان الأجدر به أن يعلم أنّ مسألة البناء بعد الزواج مبنية على أساس البلوغ، حيث يعتبر سن التاسعة هو سنّ البلوغ للمرأة، الذي على أثره تعطى الفتاة حكم المرأة. وقد علمنا أنّ عائشة رضي الله عنها بلغت في سنّ التاسعة، لذا كان البناء عند ذلك السن ولم يكن قبله، وهذا أمر مجمع عليه عند العلماء والعامة.
أما خطأه من الجهة الثانية حين ظنّ غرابة تزويج المرأة البالغة في ذلك السن وأنّ ذلك مما لم تعرفه العرب. إن كان الأمر كما يدعي مخالفنا فليأتنا بدليل واحد ولو ضعيف أنّ هناك من أنكر زواج المرأة في ذلك السن! فقد تداول الخبر منذ أكثر من 1400 عام ومع ذلك لم نجد(1/1)
أحداً من المسلمين أو حتى المشركين من انتقد ذلك! مع العلم أنّ لو كان الأمر كما يدّعي المخالف لفرح أعداء الله بذلك واستعملوه لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم حينها!
ثانياً: أسوق للقارئ الأدلة التي تثبت أنّ العرب عرفت هذا الأمر وأقرت به، وإن كان ما سبق يكفي لإثبات صحة الأمر.
يكفينا دليلاً وعلماً أنّه لم ينكر أحد هذا الزواج في مثل هذا العمر وهذا دليل على اعتبار مثل هذا الزواج عند العرب، ولو لم يكن لنا إلا ذلك لكفى! لكننا سنقتبس ما يدل على اعتبار هذا السن في الزواج عند العرب، فقد نُقل عن الشافعي قوله: "رأيت باليمن بنات تسع يحضن كثيراً" (1) كما نقل عنه قوله: "رأيت بصنعاء جدة بنت إحدى وعشرين سنة ، حاضت ابنة تسع وولدت ابنة عشر" (2) . كما نقل ابن الجوزي روايات مشابهة مثبتة للأمر عن عباد بن عباد المهلبي الذي قال: "أدركت فينا – يعني المهالبة – امرأة صارت جدة وهي بنت ثمان عشرة سنة، ولدت لتسع سنين ابنة فولدت ابنتها لتسع سنين ابنة فولدت ابنتها لتسع سنين ابنة فصارت هي جدة وهي ابنة ثماني عشر سنة" (3)
الشبهة الثانية
لا أعجب إلا من شبهة قائمة على ظن بلا تحقيق إاستنتاج قائم على إنكار ما لا يعرف! فإثبات المسألة نقلت عن الكثير من الصحابة وبطرق أخرى كثيرة صحيحة، وإليكم أضرب بعض الأمثلة للذكر لا للحصر:
جاء حديث إثبات عمر عائشة رضي الله عنها عند الزواج أنها كانت بنت ست وأنها عند البناء بها كان عمرها تسع سنين من طريق:
? الأسود عن عائشة كما في صحيح مسلم (4) .
? يحيى بن أبي حاطب عن عائشة كما في سنن أبي داود (5) .
? أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنهم (6) .
? أبو عبيدة عن عائشة كما في سنن النسائي (7) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 10\91
(2) سنن البيهقي الكبرى: 1د319
(3) التحقيق في أحاديث الخلاف: 2\267
(4) صحيح مسلم: 1422
(5) سنن أبي داوود: 4937
(6) سنن النسائي 3379
(7) سنن النسائي: 3257(1/2)
? وجاء الحديث من طريق عبدالله بن مسعود كما في سنن أبن ماجه (1) .
? كما جاء الحديث من طريق يزيد بن جابر عن أبيه كما في المستدرك (2) .
? وجاء الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (3) .
? ومن طريق القاسم بن محمد عن عائشة (4) .
? ومن حديث ابن أبي مليكة كما في المعجم الكبير (5) .
يتضح الأن بشكل لا غبار عليه أنّ دعوى المخالف لا أساس لها من الصحة فالحديث، كما ترى، روي عن جمّ غفير وكثير من الصحابة وبطرق لا يوجد فيها هشام بن عروة أو أبيه.
هذا يكفي لإثبات صحة ما قلنا، كما أنه دليل على خطأ وجهل المخالف، وتنبيه للقارئ بأن لا يغتر بكلام ظاهره كلام أهل علم بينما فحواه أجوف فارغ من أي معنى، ويكفي هذه الأقلام والأبواق أنها تخالف ما هو معلوم بالضرورة بالتواتر. فأدلتهم وإستدلالاتهم لا تعدوا أن تكون ظناً لا يغني عن الحق شيئاً.
الشبهة الثالثة
إعلم، رحمك الله، أنّ مثل هذه الدعاوى من الوهن ما يجعلها دعوى بلا دليل فلا يحتج بها لأنها حجة على المخالف أصلاً، وصياغة المخالف لشبهته مضللة ومبهمة ، وإليك تبيان ذلك:
__________
(1) سنن ابن ماجة: 1951
(2) مستدرك الحاكم: 6714
(3) المعجم الكبير: 40
(4) المعجم الكبير: 52
(5) المعجم الكبير: 62(1/3)
أولاً: هشام بن عروة ثقة فقيه (1) متفق على توثيقه فقد وثقه: البخاري ومسلم وأبو حاتم وأحمد بن حنبل والعجلي وابن شيبة وابن حجر والذهبي وابن سعد وغيرهم الكثير (2) . لكنّ العلماء أثبتوا أن ما رواه هشام في العراق مضطرب وسبب هذا الإضطراب كما ذكر علي بن المديني حين قال: "ما حدث في بغداد أفسده البغداديون" (3) وهذا دليل أنّ علة الإضطراب ليس من جهته وإنما من جهة من روى عنه من البغداديين وهذا الحكم لا يعمم، فقد ثبت أنّ الحديث رواه ابن أبي الزناد ( وهو مختلف عليه فمن العلماء من وثقه ومنهم من ضعفه والحكم عليه يكون بتمحيص رواياته فالحكم على رواياته ليس مطردا، لذا فقد تكون روايته من طريق صحيحة ومن طريق أخر ضعيفة، وهذا هو منهج المتقدمين المتبع في سبر الرجال ورواياتهم كل رواية على حدة) عن هشام بن عروة وهو أثبت الناس في هشام بن عروة كما ذكر ابن معين، وعليه فروايته عن هشام صحيحة.
ثانياً: ما نقده بعض العلماء على هشام بن عروة هو لتدليسه في بعض الأحيان لأهل العراق بالرغم أنّه ثقة متفق على إمامته كما ذكرنا. وسبب نقمة بعض العلماء على تدليسه هناك،
__________
(1) تقريب التهذيب وتهذيب التهذيب: ترجمة رقم 7582
(2) أنظر تهذيب الكمال للمزي أيضاً تحت ترجمته
(3) أنظر تهذيب التهذيب لإبن حجر، تهذيب الكمال للمزي، سير أعلام النبلاء للذهبي تحت ترجمة هشام بن عروة(1/4)
في ما يخصنا في هذا الموضع، هو ما ذكره ابن شيبة في أنّ هشام كان يسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه منه فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه . كما ذكر ابن خراش أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق ، قدم الكوفة ثلاث مرات ، قدمة كان يقول : حدثنى أبى ، قال سمعت عائشة ، و قدم الثانية فكان يقول : أخبرنى أبى عن عائشة ، و قدم الثالثة فكان يقول : أبى عن عائشة". وما نقلنا هنا دليل وحجة لنا لا علينا، فهذا دليل أنّ العلماء تبينوا أماكن التدليس
ونقدوا ما ثبت فيه تدليسه، وهم مع كل ذلك لم يردوا حديثه في عمر عائشة رضي الله عنها بالرغم مما سبق لعلمهم صحة الحديث في هذه الرواية وأنها خالية من التدليس وقد ثبت للعلماء سماع هشام هذا الحديث من أبيه فلا وجه للقول بتدليسه في هذا الموضع.
ثالثاً: تدليسه في هذا الموضوع غير مؤثر ولا يطعن في روايته لأهل العراق، مع العلم أنّ روايته في عمر عائشة رضي الله عنها قبلها من له أشد الشروط في الصحيح، وهما بخاري ومسلم، فتنبه!.
الشبهة الرابعة
لا يخفى على من قرأ نص الحديث الذي احتج به المخالف أنه شوه حقيقة الأمر، فضلل من قرأ كليماته، وذلك لأنّ عائشة رضي الله عنها لم تقل ما تقوّل به المخالف. وإليك نص الحديث ثم نبين وجه الخطأ الذي وقع به المخالف: عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ قَالَ إِنِّى عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ ، وَإِنِّى لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (1)
التنبيه الأول: لم تصرح عائشة رضي الله عنها أنها شهدت نزول السورة كاملة، بل جلّ ما قالته - كما هو واضح - أنها شهدت آية منها. بل لا يوجد نص صريح أنّها نزلت قبل تسع سنين من الهجرة
__________
(1) صحيح البخاري: حديث رقم 4993(1/5)
التنبيه الثاني: آيات السور تتنزل تدريجياً على فترات متقطعة من الزمن، لذا لا يستطيع أحد الجزم بالفترة التي نزلت فيها آيات السورة كاملة أو الفترة التي نزلت فيها الآية التي شهدتها أم المؤمنين. ذكر مقاتل أن جميع آيات السورة نزلت في مكة ما عدا ثلاث آيات، وإن كان الجمهور على أها كلها نزلت في مكة! وعلى هذا يثبت خطأ من ظنّ أنها شهدت السورة كاملة وهي في ذلك السن!
الشبهة الخامسة
إنّ تمعن كلام المخالف يدل على سوء فهم وخلط للمسائل، وهذا واضح عندما يعتقد الشخص شيئاً فيفسر ما يقرأ ويأول ما يقع عليه من أدلة لتصب في ما يرى ويعتقد! فقد كان الأجدر بالمخالف النظر ثم الإستدلال حتى لا يقع في مثل هذه المطبات العلمية الشنيعة.
أولاً: اعلم، رحمك الله، أنّ ما أشار إليه المخالف قد ورد في الصحيحين من طريق نافع حين قال: حَدَّثَنِى ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهْوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَلَمْ يُجِزْنِى ، ثُمَّ عَرَضَنِى يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِى . قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهْوَ خَلِيفَةٌ ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ ، فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ . وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ " (1) .
__________
(1) صحيح البخاري: حديث رقم 2664، صحيح مسلم: حديث رقم 4994(1/6)
لكنّ هذا الحديث لم يفهم منه ما تأوله المخالف، بل احتج به العلماء لتحديد سنّ البلوغ للرجل لا المرأة، حيث اعتبروا سنّ بلوغ الرجل هو خمسة عشر سنة بناءً عليه بينما حددوا أنّ سنّ بلوغ المرأة هو التاسعة. وهذا ظاهر في تبويب البخاري لهذا الحديث بـ((باب بلوغ الصبيان وشهادتهم)) والنووي بـ((باب بيان سن البلوغ)). ثم قال: "وهو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين ويجري عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغير ذلك" (1) . وقال في موضع أخر: "هذا دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم قالوا: باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفاً" (2) فيتضح أنّ في باب سنّ البلوغ حديثان: حديث سنّ زواج عائشة رضي الله عنها وعليه حدّد العلماء سنّ بلوغ المرأة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما والذي بنى العلماء عليه سنّ بلوغ الرجل.
ثانياً: لا يوجد في الحديث ما يدلّ على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يختار الرجال أو النساء بناءً على أعمارهم! لذا تجد في الحديث أنّ من صرّح بسنّ ابن عمر رضي الله عنهما هو ابن عمر نفسه. وهو مع هذا لم يقل بأنّ اختياره أو رفضه كان لعمره في ذلكم الحين.
ثالثاً: نقل الحافظ ابن حجر في فتحه تأويل بعض المالكية لهذه الحادثة فقال: "وأجاب بعض المالكية بأنها واقعة عين فلا عموم لها، ويحتمل أن يكون صادف أنه كان عند ذلك السن قد احتلم فلذلك أجازه" (3) ولعل هذا التأويل له ما يعضطده من الصحيح، فقد ثبت في الصحيح مشاركة حديثي السن من الغلمان. فعن أنس - رضى الله عنه – أنه قال:
__________
(1) شرح صحيح مسلم: 12\13
(2) المصدر السابق
(3) أنظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري(1/7)
أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهْوَ غُلاَمٌ ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّى ، فَإِنْ يَكُنْ فِى الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ ، وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ « وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِىَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّهُ فِى جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ » (1)
والغلام: هو الطارُّ الشارب كما ذكر ابن عباد في المحيط وهو إسم يطلق على الطفل من حين ولادته لحين بلوغه الحلم كما ذكر الثعالبي في فقه اللغة. كما ورد في الصحيح عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنِّى لَفِى الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتُّ ، فَإِذَا عَنْ يَمِينِى وَعَنْ يَسَارِى فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ ، فَكَأَنِّى لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا ، إِذْ قَالَ لِى أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ يَا عَمِّ أَرِنِى أَبَا جَهْلٍ . فَقُلْتُ يَا ابْنَ أَخِى ، وَمَا تَصْنَعُ بِهِ قَالَ عَاهَدْتُ اللَّهَ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ . فَقَالَ لِى الآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ قَالَ فَمَا سَرَّنِى أَنِّى بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا ، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرَبَاهُ ، وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ" (2)
__________
(1) صحيح البخاري: حديث رقم 3982
(2) صحيح البخاري: حديث رقم 3988(1/8)
إذا علم ذلك، تبين لنا أنّ سن الخامسة عشر هو خاص في الرجال وأنه اشترط لأنه سنّ البلوغ لا لخاصية العمر نفسه! وعليه فقبول أو رفض المرافقين للجيش متعلق بالبلوغ من جهة والقدرة من جهة أخرى، فالتمريض ومداواة الجرحى أمر هين لمن بلغت الحلم، وكيف لا وذلك دأب النساء في ذلك الزمن، ويكفي النظر في حال نسائنا في العهد الماضي وما كانوا يتحملونه من أعمال وجهد لا تستطيع على فعله اليوم الكثير من النساء! كما أنّ المخالف مطالب بالدليل على أنّ سن الخامسة عشر خاص في النساء أيضاَ، فالبينة على من ادعى!
الشبهة السادسة
بنى المخالف حجته على أساسين؛ أولاهما فرق العمر بين عائشة واسماء و ثانيهما الروايات التي ذكرت عمر اسماء رضي الله عنها. لذا فإننا سنرد على كل نقطة بشكل منفصل بشئ من التفصيل:
التنبيه الأول: يلاحظ أنّ المؤرخين الذين نقلوا فرق العمر بين اسماء وعائشة رضي الله عنهما، إنما كان من كلام عبدالرحمن بن أبي الزناد وهو من أتباع التابعين وابن أبي الزناد لم يرى اسماء أو عاصرها ، وكذلك الأمر في شيوخه ،لذا يحكم على الرواية بأنها معضلة ومرسلة وهذا النوع من أنواع الضعيف الذي لا يحتج به. كما أنّ ابن أبي الزناد اختلف عليه، فهو وإن وثقه البعض فمن ضعفه أكثر . وقد علمنا أنه يجب سبر ما يروي لنعلم صحة روايته، ونحن إن فعلنا ذلك لوجدنا أنّ تبعات ما ذكر تخالف الصحيح من جهة وروايته لا يحتج بها في مثل هذا الموضع لضعفها من جهة أخرى فتأمل.
كما أننا إن افترضنا صحة ما نقل عن ابن أبي الزناد، لا بد للمخالف من قبول تعليق العلماء الذي تعقبوا هذا الخبر الذي أدرجوه في كتبهم، فقد قال الإمام الذهبي: " قال ابن أبي الزناد: كانت أكبر من عائشة بعشر سنين. قلت ( الذهبي): فعمرها على هذا إحدى وتسعون سنة." (1)
__________
(1) تاريخ الإسلام : 5 \ 354(1/9)
التنبيه الثاني: من المضحك المبكي أنّ عمر اسماء بنت أبي بكر لم يرد إلا من طريق هشام بن عروة ، الذي رد المخالف رواياته المروية عن أهل العراق، وهو الحاصل في هذا الخبر أيضاً!! فتراه هنا يقبل
الخبر لأنه يوافق هواه ويرفض ما يخالفه من رواياته متحججاً بضعفه وهو عن الضعف بعيد! لكن لنفترض أنّ خبر عمرها حين وفاتها بلغ المائة عام بسند صحيح، فليس في ذلك دليل أو إشارة على عمر عائشة رضي الله عنها لا من قريب أو من بعيد، خصوصاً بعد تبين شدة ضعف الرواية التي تذكر فرق العمر بين أسماء وعائشة – رضي الله عنهما – وعليهلم تقبل الرواية ولم يعتبر بها.
الشبهة السابعة
تتوالى أخطاء المخالف بشكل متكرر مما يبّين ضعف حجته وقلة زاده في العلم، وإلا لعلم بنفسه قبل غيره أنّ هذه الشبهة لهي أوهن من بيت العنكبوت. وإليك أسوق نص الطبري في تاريخه: "حدث على بن محمد عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة - ووافقه على ذلك الواقدي الكلبي - قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي فولدت له عبد الله أسماء. وتزوج أيضًا في الجاهلية أم رومان بنت عامر بن عمير بن ذهل بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - وقال بعضهم: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذنية بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - فولدت له عبد الرحمن وعائشة فكل هؤلاء الأربعة من أولاده ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية." (1)
أولاً: القصة مروية بسند مبهم ومنقطع انقطاعاً تنقطع به الأعناق، فلا أدري كيف للمخالف أن يستدل بمثل هذه الرواية. بل الأعجب أن يقبل مثل هذه الروايات الواهية ويرفض ما ثبت صحته بالدليل القاطع!
__________
(1) تاريخ الطبري: 2 \ 351(1/10)
ثانياً: الظاهر من آخر عبارة الطبري أنه كان يعنى زوجاته لا الفترة التي ولد فيها أبناء أبو بكر، والأمر إن كان صحيحاً على ظن المخالف، فالجواب عليه تم شرحه وتفصيله في ردنا على الشبهة العاشرة، فتنظر.
الشبهة الثامنة
إعتمد المخالف على نقطة أساسية واحدة فقط في حجته الواهية؛ إلا هي معرفة السنة التي أسلم فيها عمر بن الخطاب. وإليك تفصيل الرد على هذه الشبهة الواهية:
أولاً: إسلام عمر كان بعد خروج من خرج إلى الحبشة كما ذكر ابن اسحاق فقال "وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (1) ." وعلمنا أنّ عدد من هاجر إلى الحبشة كانوا يزيدون عن الثمانين كما ذكر ابن هشام، لذا فإن إسلامه جاء متأخراً عن هؤلاء وبالأخص عائشة.
ثانياً: ذكر ابن هشام عن عبدالله بن عمر أنّه كان في السادسة حين أسلم أباه؛ عمر بن الخطاب. وعليه نستطيع بدقة تحديد سنة إسلام عمر بناءً على عمر ابنه. فإذا علمنا أنه كان في السادسة حين أسلم أباه وكان عمره في غزوة أحد – التي وقعت في السنة الثالثة أو الرابعة بعد الهجرة - أربع عشرة سنة، وعلمنا أيضاً أنّ الدعوة في مكة امتدت طوال ثلاث عشرة سنة. إن ربطنا الأحدات والتواريخ لتبين لما أنّ إسلام عمر كان في السنة التاسعة للهجرة. والجدول التالي يوضح العملية بشكل مبسط:
جدول توضيحي لبيان الأحداث التاريخية
عام
الهجرة
الشبهة التاسعة
يبدو أنّ مخالفنا قد خلط في فهمه للغة العربية، لذا عارض ونقد ما لم يستقم من معاني لم يحط بها علماً، حيث جاء خلطه وسوء فهمه من قِبل عدم إحاطته باللغة وأسرارها.إنّ حجة المخالف قائمة على فهم معنى البكر والجارية وإستعمالهما عند العرب فحصر وحجّر واسعاً.
__________
(1) السيرة النبوية لإبن كثير 2 \ 32 ، سيرة ابن هشام 2 \ 193(1/11)
تعارف العرب على أنّ البكر لفظ يطلق على المولود الأول لأبوين بشكل عام، وإذا أطلق اللفظ على مولود أنثى أضاف معنىً أخر هو البكارة والعذرية، كما ذكر صاحب المحيط في اللغة وصاحب لسان العرب (1) . وعليه يعلم أنّ لفظ البكر متعلق بوصف حال لا تحديد عمر على خلاف لفظ الجارية والتي تطلق على الأنثى صغيرة السن أو اليافعة. إذا علم ذلك إتضح لنا أنّ سؤال أم سلمى للرسول صلى الله عليه وسلم إن كان يريد بكراً أو ثيباً هو متعلق إن كان يريد أن يتزوج امرأة لم تتزوج من قبل أم امرأة سبق لها الزواج، وهذا واضح في سؤالها عندما ذكرت البكر وضدها.
أما حجة المخالف أنه لا يطلق لفظ البكر إلا على امرأة، قلنا هذا فهم عجيب لا دليل عليه وإنما هو قصر واضح في فهم اللغة. فمعنى البكر، كما تبين معنا، لا يختص بعمر معين أصلاً، فالفتاة التي لم تبلع سن الحلم هي جارية وبكر أيضاً ولا تعارض أو مشاحة في اجتماع الصفتين فتأمل!
الشبهة العاشرة
__________
(1) أنظر المحيط في اللغة: 2\ 49 و لسان العرب : 4 \ 67 وتاج العروس تحت باب بكر(1/12)
خلط المخالف الحابل في النابل، فشوه النقل عن ابن حجر وناقض نفسه في نقله. فابن حجر لم يذكر ذلك من قوله بل نقلاً عن غيره ولم يجزم بأي شئ، بل صرّح في بداية الجملة بقوله: " فاختلف في سنة مولدها" ثم ذكر رواية الواقدي عن أبو جعفر الباقر عن العباس أنّ فاطمة ولدت والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن 35 سنة وهذا سند منقطع بين الباقر والعباس كما ترى. ثم نقل ابن حجر رواية تضادها عن أبو عمر عن عبيد الله الهاشمي أنها ولدت والنبي صلى الله عليه وسلم ابن 41 سنة قبيل البعثة بقليل وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين. فالمخالف جمع القولين المتعارضين وهذا لا يستقيم، فهو إن قبل رواية الهاشمي أنّ فاطمة أسن من عائشة بخمس سنين فهو ملزم بقبول عبارته التي في نفس السطر بأنها ولدت والنبي ابن 41 سنة! كما أنّ إنقطاع السند ظاهر في الروايتين أصلاً.
لقد تبين بالدليل القاطع أنّ المخالف وكل من قبل هذه الشبهة، إما قبلها لجهل وقلة علم أو لهوى نفس وقلة دين أو منافق يريد هدم الدين قصداً. فالشبهات التي جمعناها في هذا البحث وفندناها متناقضة وواهية لا تقوم بها حجة. فكل أدلة المخالف إما أخبارُ منقطعة وشاذة أو اقتباسات لا يمكن إثباتها وإنما جمعت من أقوال متعارضة بحيث ينتقي المخالف من كل قول ما يدعم مذهبه ثم يجمعها وكأنها قول واحد مثبت! والله المستعان
أقوال المؤرخين الذين استدل بهم المخالف
أعجب ما رأيت خلال بحثي هذه المسألة، أنّ المؤرخين الذين إستدل المخالف بنقولاتهم قد أثبتوا أنّ عمر عائشة عند الزواج كان ستة سنوات وتسعة أعوام عند البناء !(1/13)
فها هو ابن هشام يصرح صراحة بذلك في كتابه المشهور: سيرة ابن هشام (1) والمزي يصرح بذلك أيضاً في تهذيب الكمال (2) وابن حجر صرّح بذلك أيضاً في تهذيب التهذيب (3) والزركلي قال بذلك في الأعلام أيضاً (4) والطبري ذكر ذلك صراحة عند حديثه عن زواج عاشئة من الرسول صلى الله عليه وسلم في تاريخة الكبير. (5) فهل من مدكّر؟
كما ترى فجميع المؤرخين وأهل الحديث والفقهاء مجمعون على عمر أمنا عاشئة رضي الله عنها عند زواجها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم لا ينقلون قولاً يمكن أن يخالف ذلك في الباب الخاص في زواجه منها. وما نقله المخالف إلا مقتطفات من روابات شاذة بلا سند أو واهية السند ذكرها المؤرخون في أبواب أخرى لا علاقة لها بالأمر. ولو كان ما ذهب إليه المخالف صحيحاً، لذكر العلماء هذه المسألة عند حديثهم عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها فتنبه. فالمسألة ليست بخلافية أصلاً حتى يبحث فيها ولا يعقل أن يعمى بصر وبصيرة العلماء والمؤرخون وحتى الكفار ما يقارب 1430 سنة وينتبه إليها عامي لا يعرف في لغة القرآن إلا النزر اليسير، إن علمها، ولا يعلم في أصول الدين شيئاً، وإن برع في شئ فإنه يكون في التزوير وخلط الحقائق بالأكاذيب والتلبيس على الناس والتحدث كالناصح للغنم في زي الذئب المتربص بضحيته! وحسبي الله ونعم الوكيل.
نصيحة ختامية
__________
(1) أنظر سيرة ابن هشام: باب زواجه بعائشة في الجزء الثاني
(2) تهذيب الكمال: 35 \ 227
(3) تهذيب التهذيب 12 \ 436 ، وعيون الأثر 2 \ 395
(4) الأعلام: 3 \ 240
(5) أنظر تاريخ الطبري: الجزء الثاني، باب ذكر الخبر عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم(1/14)
ذكرنا في هذا البحث من الأدلة ما يثبت خطأ وتزوير المخالف وسوء فهمه للمسألة وإنّ الصواب والحقيقة تؤكد أنّ عمرها عند الزواج كان ستاً أو سبعاً وأنّ عمرها عند البناء كان تسع سنوات وأنّ هذا أمر مجمع عليه عند العلماء عامة والمؤرخون خاصة، وخصوصاً الذيا استدل المخالف ببعض أخبارهم المذكورة في كتبهم، وهو إجماع مستند إلى أدلة صحيحة وظاهرة لا تخفى على أحد.
من المهم أن يعرف القارئ أنّ المخالف اعتمد على كتب التاريخ الني نفسها تذكر خلاف ما يحاول أن يثبت في عمر عائشة رضي الله عنها عند زواجها. لذلك عمد المخالف إلى انتقاء ما يدعم مذهبه ولم يذكر ما خالفه بالرغم أنّ ما استند إليه وأوله شديد الوهن والضعف، لذا تراه ترك اليقين والصحيح للظن والضعيف، مما يجعلنا نشكك في نواياه ودوافعه من هذا العمل! نعوذ بالله من حبال الشيطان وشبهاته.
فالنصح النصح لعامة المسلمين، فنحن نعيش زمن فتن هلك بسببها من لم يحتاط لدينه وحصنها بالعلم والتقوى والرجوع لأهل العلم الثقات. فلا بد للعاقا أن يقبل خبراً لا يعلم به أحد أو معلومة لم يقل بها أحد من العلماء المتقدمين والمتأخرين. فالأحرى بالمسلم أن لا يصغي لأبواق الضلال والجهلة والمتكلمة وإن كانوا من بني جلدتنا، فأعداء الإسلام علموا أنه لا سبيل لهم علينا فبدأوا يحاربوننا من خلال أنفسنا. نسأل الله العفو والسلامة
ختاماً، اسأل الله العلي القدير أن يثبتنا على القول والعمل الصالح وأن يحصن قلوبنا من الشبهات والأفات، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، إنه على كل شئ قدير وبالإجابة قدير.
وكتب الفقير لرحمة ربه ، الراجي عفوه ومغفرته
أيمن بن خالد الشافعي: اليوم الواحد والعشرون من صفر من عام 1430 هـ.(1/15)